الحكومة مؤسسة تتبوأ مركز السلطة الحصرية «لفرض» قوانين محددة للأداء الاجتماعي في منطقة جغرافية معينة.
هل يحتاج البشر إلى مثل هذه المؤسسة؟ ولماذا؟ بما أن عقل الإنسان هو أداته الرئيسية للبقاء ووسيلته لاستحصال المعلومات من أجل توجيه تصرفاته فقد بات الشرط الرئيسي لوجوده متمثلا في حرية التفكير والتصرف وفقا لتقييماته العقلانية. وهذا لا يعني أن الإنسان يجب أن يعيش لوحده وأن أي جزيرة مهجورة هي البيئة المثلى التي تلائم حاجاته. إذ يمكن للبشر أن يحصلوا على فوائد جمة من التعامل مع بعضهم البعض، والبيئة الاجتماعية هي الطريق الأفضل للنجاح في البقاء، «ولكن ضمن شروط بعينها فحسب».
«إن المنفعتين العظيمتين التي يمكن أن نكسبهما من الوجود الاجتماعي هما: المعرفة والتجارة. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع نشر وتوسيع مخزونه المعرفي من جيل إلى آخر، ومقدار المعرفة المتوفرة مسبقا للإنسان أكبر من مما يستطيع البدء في استحصاله خلال دورة حياته الخاصة به، وكل إنسان يحصل على فوائد لا حصر لها من المعرفة التي اكتشفها غيره. والفائدة العظيمة الثانية هي تقسيم العمل، والذي يمكّن الإنسان من تكريس جهوده في مجال محدد من مجالات العمل والتجارة مع غيره من المتخصصين في مجالات أخرى. إن هذا النوع من التعاون يمكّن كل المشتركين فيه من الحصول على قدر أكبر من المعرفة والمهارات والعائد الإنتاجي المتولد عن جهدهم وذلك بالمقارنة مع ما يمكنهم إنجازه لو توجب على كل واحد منهم أن ينتج كل ما يحتاجه في جزيرة مهجورة أو مزرعة يرعاها شخص واحد.
ولكن هذه المنافع ذاتها توضح وتحدد وتعرّف نمط الناس الذين تكون لهم قيمة ضمن بعضهم البعض، وكذلك نمط هذا المجتمع، وهم: الناس العقلانيون المنتجون المستقلون في مجتمع عقلاني منتج حر». (أخلاقيات الموضوعاني، فضيلة الأثرة).
أما المجتمع الذي يسلب من الفرد نتاج جهده، أو يقوم باستعباده، أو يحاول الحد من حرية عقله، أو يجبره على التصرف بخلاف ما تمليه عليه تقييماته العقلية الخاصة، أي: المجتمع الذي يشعل صراعا ما بين قوانينه وبين متطلبات الطبيعة البشرية، ليس مجتمعا بصريح العبارة، وإنما هو عصابة تجمعها قوانين إجرامية ضمن إطار مؤسساتي. إن مجتمعا كهذا يدمر كل قيم التعايش البشري، ولا يمكن إيجاد مبرر لتصرفاته، ولا يمثل مصدرا للمنفعة، وإنما الخطر الأكبر على بقاء الإنسان. والحياة على جزيرة مهجورة أكثر أمانا من العيش في روسيا السوفييتية أو ألمانيا النازية ولا يمكن المقارنة مع أفضليتها عليهما.
إذا أراد البشر أن يعيشوا سوية ضمن مجتمع مسالم ومنتج وعقلاني وأن يتعاملوا مع بعضهم البعض لتحقيق منفعة متبادلة، فعليهم حينها أن يقبلوا المبدأ الاجتماعي الأساسي الذي لا يمكن من دونه أن يوجد أي مجتمع أخلاقي أو متحضر، وهو: مبدأ الحقوق الفردية. والاعتراف بالحقوق الفردية يعني الاعتراف والقبول بالشروط التي تتطلبها طبيعة الإنسان لتحقيق البقاء على نحو ملائم. ولا يمكن انتهاك حقوق الإنسان إلا باستخدام القوة المادية؛ فبهذه القوة وحدها يمكن لإنسان أن يحرم إنسانا آخر من حياته، أو يقوم باستعباده، أو سلبه، أو منعه من السعي إلى تحقيق أهدافه الخاصة به، أو إجباره على التصرف بما ينافي تقييمه العقلي الخاص به. إن الشرط الأساسي في أي مجتمع متحضر يتمثل في الحيلولة دون تدخل القوة المادية في شؤون العلاقات الاجتماعية، ومن هنا يتأسس مبدأ ينص على أن من يرغب في التعاون مع الآخرين فعليه أن يقوم بذلك باستخدام (المنطق) فحسب، وذلك من خلال: النقاش، والإقناع، والاتفاق الطوعي غير المفروض.
تتمثل النتيجة الحتمية لحق الإنسان بالحياة بحقه في الدفاع عن النفس، ففي أي مجتمع متحضر لا يمكن للقوة أن تستخدم إلا في الرد على من استخدمها أولا وضده حصرا. وكل الأسباب التي تجعل البدء باستخدام القوة المادية أمرا شريرا، تجعل الاستخدام الانتقامي للقوة الانتقامية واجبا أخلاقيا. وإذا أعلن مجتمع «مسالم» عن شجبه للاستخدام الانتقامي للقوة، فسيضع نفسه بلا حول ولا قوة تحت رحمة أول سفاح يقرر التخلي عن أخلاقه، وهكذا ينتهي هذا المجتمع إلى تحقيق العكس من نيته: فعوضا عن إنهاء الشر سيقوم بتشجيعه ومكافأته.
إذا لم يقدم المجتمع حماية منظمة ضد القوة، فهذا سيجبر كل مواطن على البدء بالتسلح وتحويل منزله إلى قلعة وإطلاق النار على أي غريب يقترب من بابه، أو سيدفعه ذلك إلى الالتحاق بعصابة حماية تتكون من مواطنين آخرين للقتال ضد عصابات أخرى أنشئت للغاية نفسها؛ وينتج عن هذا تدهور المجتمع إلى هاوية فوضى حكم العصابات (أي: الحكم بواسطة القوة الهمجية)، والانغماس في آتون حرب قبلية مستمرة يخوضها برابرة من عصور ما قبل التاريخ.
إن استخدام القوة المادية، وإن كانت لأغراض انتقامية، لا يمكن أن يترك بحسب مشيئة المواطن لوحده؛ فالتعايش السلمي يصبح مستحيلا إذا توجب على المرء أن يعيش تحت تهديد مستمر بالقوة التي يمكن أن تطاله من أحد جيرانه في أية لحظة، وسواء أكانت نوايا جيرانه طيبة أم شريرة، وسواء أكان تقييمهم للأمور عقلانيا أم لا، وسواء أكانت تحرّكهم دوافع العدالة أم الجهل أم الحقد أم الكراهية، فإن استخدام القوة ضد أي شخص يجب أن لا يترك كقرار اعتباطي يتخذه شخص آخر. وعلى سبيل المثال: تخيل معي ماذا سيحدث لو فقد أحدهم محفظته، واعتقد بأنه قد تعرض للسرقة، فاقتحم كل بيوت الحي الذي يسكن فيه للبحث عنها، وأطلق النار على أول من نظر إليه بتجهم، معتبرا تلك النظرة دليلا على التهمة!
يتطلب الاستخدام الانتقامي للقوة قوانين (موضوعية) لتحديد ماهية الدليل لإثبات ارتكاب الجريمة و(إثبات) هوية من ارتكبها، بالإضافة إلى قوانين (موضوعية) لتحديد العقوبات وإجراءات تطبيقها؛ وإذا حاول الناس إقامة محاكمات للجرائم دون وجود قوانين كهذه فسيتحول الأمر إلى محكمة غوغاء، وعندما يترك المجتمع الاستخدام الانتقامي للقوة في يد المواطنين العاديين فسيتدهور حينها ليقع تحت سيطرة حكم الغوغاء وقانونهم ويعاني من سلسلة لا تنتهي من حالات الثأر الشخصي الدموية.
إذا تم إبعاد القوة المادية عن نطاق العلاقات الاجتماعية، فسيحتاج الناس عندها إلى مؤسسة تناط بها مسؤولية حماية حقوقهم وفق لائحة (موضوعية) من القوانين. وهذه هي مهمة الحكومة (الحقيقية)، وهي مهمتها الأساسية، والمبرر الأخلاقي الوحيد لوجودها، والسبب الذي يحتاج الناس من أجله إلى الحكومة. (فالحكومة هي الوسيلة التي يمكن من خلالها وضع الاستخدام الانتقامي للقوة المادية تحت السيطرة الموضوعية، أي: تحت قوانين محددة موضوعيا).
إن الاختلاف الجوهري ما بين التصرف الشخصي والتصرف الحكومي، والذي يتم تجاهله والتغاضي عنه حاليا، يتمثل في حقيقة مفادها أن الحكومة تحتفظ بحق حصري في الاستخدام المشروع للقوة المادية. ومن الواجب أن يكون للحكومة هذه الحصرية لأنها هي الوكيل المنوط به مسؤولية كبح استخدام القوة ومكافحته، ولهذا السبب ذاته ينبغي أن تكون تصرفاتها دقيقة التعريف والتحديد والتقييد، ولا مجال أبدا للسماح بالأهواء والنزوات في أدائها؛ إذ يجب أن تكون روبوتا لا روح فيه ولا دوافع غير ما تمليه عليه القوانين، وإذ ا أراد المجتمع أن يعيش حرا فيجب أن يسيطر على الحكومة.
يتمتع الفرد في النظام الاجتماعي السليم بحرية قانونية للتصرف كما يشاء (ما دام لا ينتهك حقوق الآخرين)، بينما يتقيد المسؤول الحكومي بما يمليه القانون في كافة الإجراءات الرسمية. وللفرد العادي أن يفعل أي شيء باستثناء ما (يحظره) القانون، بينما لا يفعل المسؤول الحكومي أي شيء إلا ما (يسمح) به القانون. إن هذا هو الوسيلة التي يمكن بها إخضاع «الجبروت» تحت سلطة «الحق»، وهو المفهوم الأمريكي عن «حكومة القوانين لا الناس».
إن طبيعة القوانين الملائمة للمجتمع الحر ومصدر شرعية حكومته يجب أن يشتقا كلاهما من طبيعة وهدف حكومة هذا المجتمع، وقد أشار إعلان الاستقلال إلى المبدأ الأساسي لهذين العنصرين بالقول: «لتأمين هذه الحقوق [الفردية]، يتم إنشاء الحكومات ضمن الناس، وتستمد سلطاتها المشروعة من موافقة المحكوم…»؛ وبما أن حماية الحقوق الفردية هي الهدف المناسب الوحيد للحكومة، فهي ذاتها العنصر الوحيد الذي يدور حوله التشريع، فكل القوانين ينبغي أن تكون على أساس الحقوق الفردية وتهدف إلى حمايتها. ويجب أن تكون كل القوانين موضوعية (ومبررة موضوعيا): إذ ينبغي على الناس أن يعلموا بوضوح، وقبل أي تصرف، ما يحظره القانون (ولماذا)، وماذا يعتبر جريمة وماهية العقوبة في حال ارتكابها.
تشكل «موافقة المحكوم» أساس سلطة الحكومة، وهذا يعني أن الحكومة ليست (الحاكم)، وإنما الخادم أو (الوكيل) للمواطنين، أي: أن هذه الحكومة لا تملك من الحقوق غير التي «يفوضها» لها المواطنون لغرض معين. وليس هنالك غير مبدأ أساسي وحيد يجب على المواطن أن يوافق عليه إذا أراد العيش في مجتمع حر ومتحضر: وهو مبدأ رفض استخدام القوة المادية وتفويض حقه في الدفاع المادي عن النفس إلى الحكومة وذلك بهدف تنفيذ هذا الدفاع بطريقة منظمة وموضوعية وبحسب القانون؛ أي: أن عليه، بعبارة أخرى، أن يتقبل (الفصل بين القوة والنزوات)، مهما تكن هذه النزوات، ومنها نزواته الشخصية.
ولكن، كيف نستفيد مما سبق في فض النزاعات بين المتخاصمين؟
لا يمكن، في المجتمع الحر، أن يُجبر الناس على التعامل مع بعضهم البعض، فهم لا يفعلون ذلك إلا في إطار الاتفاق الإرادي، وإذا تضمن التعامل عنصر الوقت فسيكون هذا (الاتفاق) عبارة عن (عقد). وإذا تعرض العقد للخرق بقرار اعتباطي من أحد المتعاقدين، فقد ينشأ عن ذلك ضرر مالي مدمر للمتعاقد الآخر، ولن يكون للضحية من تعويض إلا في الحجز على أملاك المذنب كتعويض لما أصابه؛ ولكننا نلاحظ هنا مرة أخرى أن استخدام القوة لا يمكن أن يترك لقرار الأفراد العاديين، وهذا يقودنا إلى واحدة من أهم وظائف الحكومة وأكثرها تعقيدا، وهي وظيفة (الحَكَم) الذي يبت في المنازعات بين الناس وفق قوانين موضوعية. إن المجرمين أقلية قليلة في أي مجتمع متحضر، ولكن حماية العقود وفرضها عبر محاكم القانون المدني تعتبر الحاجة الأكثر إلحاحا في أي مجتمع مسالم؛ فمن دونها لا يمكن لأي حضارة أن تتطور أو تستمر.
إن الإنسان عاجز عن البقاء بالطريقة التي تتبعها الحيوانات عبر التصرف في إطار اللحظة الراهنة؛ وإنما يجب عليه أن يخطط لأهدافه وينجزها خلال مدة زمنية معينة، وعليه أن يحسب تصرفاته ويرسم الخطط لمدة زمنية تمتد بطول عمره، وكلما كان عقله أذكى ومعارفه أكبر طال مدى تخطيطه. وكلما كانت الحضارة أكثر رفعة وتعقيدا استطال أمد الفعاليات التي تحتاجها، وهذا يؤدي إلى توسع مدى المواثيق العقدية بين الناس، وازدياد إلحاح حاجتهم إلى حماية سلامة هذه التوافقات. وحتى مجتمع المقايضة البدائي لا يمكنه أن يواصل فعالياته إذا اتفق شخصان على مقايضة كمية من البطاطا بسلة من البيض، وعندما استلم أحدهما البيض رفض تسليم البطاطا؛ فتخيل معي ماذا سيعني هذا التصرف الذي توجهه النزوات ضمن مجتمع صناعي يقوم فيه المرء بتسليم بضائع بمليون دولار مقابل اعتماد مالي، أو التعاقد لبناء منشآت تتكلف ملايين الدولارات، أو توقيع عقود إيجار تمتد إلى تسعة وتسعين عاما.
يتضمن انتهاك العقد من جانب واحد استخداما غير مباشر للقوة المادية: فهو يتكون في جوهره من شخص يستلم أغراضا مادية (بضاعة أو خدمات) من شخص آخر، ثم يرفض تسديد ثمنها، وهكذا يقوم بحيازتها عبر القوة (الحيازة المادية المجردة)، وليس عبر حقه فيها، أي أنه يحتفظ بها دون موافقة مالكها. وكذلك يتضمن الغش استخداما غير مباشر للقوة: فهو يتضمن الحصول على أغراض مادية دون موافقة مالكها بعد خداعه بادعاءات ووعود مزيفة. وكذلك الابتزاز: فهو يتضمن الحصول على أغراض مادية دون أن تكون مقابل أغراض أخرى، وإنما التهديد باستخدام القوة أو العنف أو بإلحاق الضرر.
من الواضح أن بعض هذه الأفعال إجرامية؛ وبعضها الآخر، كانتهاك العقد من جانب واحد، ربما لا ينتج عن دوافع إجرامية وإنما عن الاستهتار واللامنطقية. وهنالك أيضا قضايا معقدة قد يدعي فيها كل من الطرفين أن الحق في جانبه، ولكن مهما تكن هذه القضايا فإنها جميعها يجب أن تخضع لقوانين محددة موضوعيا وأن يوجد لها حل من خلال حكَم محايد يقوم بتطبيقها، أي: من خلال قاضٍ (وهيئة محلفين عندما يكون ذلك مناسبا).
لاحظ معي المبدأ الأساسي الذي يدور عليه محور العدل في تلك القضايا جميعها: وهو مبدأ مفاده أن المرء لا يمكنه الحصول على أي قيمة مادية من الآخرين دون موافقة المالك، وهذا يستدعي أن من حق المرء أن لا يترك تحت رحمة قرار من طرف واحد، أي: ما يقوم به الآخرون من خيارات اعتباطية أو غير عقلانية أو نزوات. وهكذا هو الغرض المقبول من الحكومة في جوهرها: تمكين الناس من الوجود الاجتماعي من خلال حماية المصالح ومكافحة الشرور التي يمكن أن يتسبب بها الإنسان لأخيه الإنسان.
إن الوظائف المناسبة للحكومة تتوزع في ثلاث فئات واسعة، وكلها تتعلق بقضايا القوة المادية وحماية حقوق الإنسان:
1.الشرطة: لحماية الناس من المجرمين.
2.القوات المسلحة: لحماية الناس من الغزاة الأجانب.
3.محاكم القانون: لفض المنازعات ما بين الناس وفقا لقوانين موضوعية.
وتنبثق عن هذه الفئات الثلاث العديد من القضايا والنتائج الثانوية التي يكون تطبيقها على أرض الواقع بصياغتها على هيئة تشريع معين أمرا فائق التعقيد. ويندرج ذلك ضمن مجال خاص من العلوم، وهو (فلسفة القانون). فالعديد من الأخطاء والخلافات قد تحدث أثناء التطبيق، ولكن الضروري هو تطبيق المبدأ، أي: المبدأ الذي يرى أن الهدف من القانون والحكومة يكمن في حماية الحقوق الفردية. أما اليوم فقد غاب هذا المبدأ في غياهب النسيان والتجاهل والتجنب؛ وكانت نتيجة ذلك الحالة التي نعيشها على امتداد العالم: من تراجع البشرية إلى حالة انعدام القانون في ظلة سلطة طاغية غير شرعية، إلى الهمجية البدائية التي يمارسها حكم وحشي.
وفي معارضة ساذجة لهذا التوجه يطرح البعض سؤالا عما إذا كان مفهوم الحكومة لدينا يجعلها شريرة بطبعها، وما إذا كانت الفوضى هي النظام الاجتماعي الأمثل. إن الفوضى، كمفهوم سياسي، هي تجريد ساذج متذبذب: فلجميع الأسباب التي ذكرناها في ما سبق، يقع المجتمع الذي ليست له حكومة منظمة تحت رحمة أول الواصلين من المجرمين ليدخلها في فوضى حرب بين العصابات. ولكن إمكانية حدوث أعمال غير أخلاقية ليست هي الاعتراض الوحيد على الفوضى: فحتى إذا كان جميع أفراد المجتمع عقلانيين تماما ومعصومين أخلاقيا فلا يمكنهم أن يمارسوا نشاطاتهم في حالة الفوضى: حيث تبرز الحاجة إلى تأسيس حكومة بسبب الحاجة إلى قوانين (موضوعية) وحكَم يفصل في المنازعات النزيهة.
لقد شهدنا مؤخرا ظهور أحد تجليات النظرية الفوضوية، وقد بدأ يستميل بعض المؤيدين الشباب للحرية، وهو السخافة الغريبة المدعوة «الحكومات المتنافسة»، وإذا ما قبلنا الطرح الأساسي للدولانيين الحديثين، والذين لا يفرقون بين وظائف الحكومة ووظائف الصناعة، وبين القوة والإنتاج، ومن يدعو إلى ملكية الحكومة لقطاع الأعمال، فإن مؤيدي «الحكومات المتنافسة» ليسوا إلا الوجه الآخر للعملة، حيث يرون بأن الأثر المفيد للتنافس في قطاع الأعمال يستدعي تطبيقه في مجال الحكومة، وعوضا عن حكومة وحيدة حصرية يجب أن يكون هنالك عدد من الحكومات المختلفة في الرقعة الجغرافية ذاتها تتنافس على الإخلاص للمواطنين، ويبقى كل مواطن حرا في «التسوق» والتعامل مع الحكومة التي يختارها. وهنا يجب أن لا ننسى أن الضبط باستخدام القوة هو الخدمة الوحيدة التي ينبغي على الحكومة أن تقدمها، وهنا يطرح السؤال التالي: كيف يتم تطبيق المنافسة في مجال (الضبط باستخدام القوة)؟
لا يمكن أن نصم هذه النظرية بتناقض المصطلحات، وذلك لأنه من الواضح خلوها من فهم لمصطلحات «التنافس» و»الحكومة»؛ كما لا يمكن أن ندعوها تجريدا متذبذبا، وذلك لخلوها من أي صلة أو إشارة إلى الواقع ولا يمكن تحويلها إلى واقع بأي حال من الأحوال. ويمكن إثبات ذلك بعرض الصورة التالية: لنفترض أن زيد، وهو زبون لدى الحكومة (أ)، يشك بأن جاره عمرو، وهو زبون لدى الحكومة (ب)، قد سطا على منزله، عندها تتجه فرقة من الشرطة (أ) إلى منزل عمرو وهناك تلاقيها فرقة من الشرطة (ب) لا تقبل بصحة ما ورد في شكوى زيد ولا تعترف بسلطة الحكومة (أ)؛ فمالذي سيحدث بعدها؟ لك أن تحزر ذلك.
لقد مر مفهوم «الحكومة» بتطورات عبر تاريخ طويل ومعقد، ويمكنك أن تجد ومضات عن وظائف الحكومة المناسبة في كل مجتمع منظم تقريبا، متجسدا في ظاهرة الاعتراف بوجود اختلاف خفي (وإن كان لا يوجد في معظم الأحيان) بين الحكومة وعصابات السرقة، أي: هالة الاحترام والسلطة الأخلاقية الممنوحة للحكومة باعتبارها حارس «القانون والنظام»، وهي حقيقة مفادها أن حتى أكثر أشكال الحكومة شرا أثبت أنه ضروري للحفاظ على شيء من النظام ومظهر للعدالة، حتى ولو كان ذلك عبر الروتين والتقاليد، والادعاء بوجود مبرر أخلاقي لسلطتها قد يكون منشؤه روحيا أو اجتماعيا. وذلك مطابق تماما لما حدث عندما لجأت الملكية في فرنسا إلى استخدام «الحق الإلهي للملوك»، وكذلك ما فعله طواغيت الاتحاد السوفييتي عندما أنفقوا ثروات هائلة على الدعاية الإعلامية التي تبرر حكمهم في أعين المحكومين المستعبدين.
لم يقم الإنسان عبر التاريخ باستيعاب الوظائف المناسبة للحكومة إلا في وقت قريب جدا: فلم تمض إلا مئتان من السنوات على عصر الآباء المؤسسين للثورة الأمريكية، وهم الذين لم يقوموا بتحديد طبيعة المجتمع الحر وحاجاته فحسب، وإنما صمموا الوسائل التي تترجم ذلك إلى واقع ملموس أيضا. إن المجتمع الحر، شأنه في ذلك شأن أي منتج بشري، لا يمكن تحقيقه بوسائل عشوائية، أو بالاكتفاء بالأماني و»النوايا الحسنة» للقادة. إذ ينبغي وجود نظام قضائي معقد يقوم على مبادئ نافذة (موضوعيا) لإنشاء مجتمع حر و(الحفاظ على حريته)، وهو نظام لا يستند إلى دوافع أي مسؤول أو شخصيته الأخلاقية أو نواياه، ولا يدع فرصة أو ثغرة قانونية تساعد على ظهور الاستبداد.
إن نظام (التوازنات) الأمريكي كان إنجازا رائع بحق، وعلى الرغم من وجود تناقضات معينة في الدستور تركت ثغرات تسمح بنمو الدولانية، فإن استثنائية الإنجاز كانت تتمثل في مفهوم الدستور كوسيلة للحد من سلطة الحكومة وتقييدها. وعندما تتعاون الجهود في يومنا هذا على طمس هذه النقطة، فلا يمكن أن نقول لمن يعمل على ذلك غير أن الدستور يحدد ماهية الحكومة، لا الفرد، أي أنه لا يصف كيفية أداء الأفراد، وإنما أداء الحكومة؛ وأنه ليس ميثاقا لسلطة الحكومة، وإنما لحماية المواطن من الحكومة.
لاحظ معي الآن إلى أي مدى وصل الانقلاب في الرؤية السائدة عن الحكومة؛ فعوضا عن أن تكون حامية لحقوق الفرد، تتحول إلى أخطر من ينتهكها؛ وبدلا من أن تحرس الحرية، تجدها تؤسس للعبودية؛ وعوضا عن حماية الفرد ممن يوجه ضده قوة مادية، تراها هي التي تستعمل القوة المادية والإجبار كما تشاء وفي أية قضية من القضايا؛ وبدلا من أن تؤدي دورها كأداة (للموضوعية) في العلاقات البشرية، هاهي تنشئ عهدا فتاكا سريا من الشك والخوف عبر قوانين غير موضوعية يُترك تفسيرها لقرارات اعتباطية تتخذها شريحة عشوائية من الموظفين؛ وعوضا عن حماية الناس من أن تطالهم النزوات بأضرارها، تقوم الحكومة بادعاء سلطة النزوة غير المحدودة؛ ولذلك فإننا نتجه بسرعة إلى مرحلة الانقلاب النهائي: المرحلة التي تكون فيها الحكومة (حرة) لتفعل ما تحب وتشتهي، بينما لا يتصرف المواطن أي تصرف إلا بعد الحصول على (رخصة)؛ وهي مرحلة شكلت العهود الأكثر ظلاما في تاريخ البشر، مرحلة الحكم بالقوة الهمجية.
لقد لوحظ دائما بأن البشرية لم تصل حتى يومنا هذا إلى درجة من التقدم الأخلاقي تضاهي ما حققته في سلم التطور المادي. وقد درجت العادة أن يتبع هذه الملاحظة استنتاج متشائم حول طبيعة الإنسان. ولا شك في أن الحالة الأخلاقية للبشر متدنية إلى حد مشين، ولكن إذا أخذ القارئ بعين الاعتبار الانقلابات الأخلاقية المتوحشة لدى الحكومة (والتي أصبحت ممكنة من خلال السلوكيات الإيثارية الجماعية)، والتي توجب على الإنسان أن يعيش تحت وطأتها في معظم مراحل التاريخ، فسيبدأ بالتعجب من كيفية تدبر الناس لأمر الاحتفاظ ولو بأقل القليل من الحضارة، ومما بقي فيهم من عزة النفس الجبارة التي أبقتهم يسيرون منتصبي الظهر وعلى قدمين اثنتين، لا أربع.
إن ذلك سوف يجعلنا أكثر قدرة على النظر بوضوح إلى طبيعة المبادئ السياسية التي يجب القبول بها والدفاع عنها كجزء من معركة الإنسان في سبيل النهضة الفكرية.
من كتاب (فضيلة الأثرة) للكاتبة الأمريكية آين راند
ديسمبر 1963