cubex

cubex17 أغسطس، 20120

اضغط هنا لتحميل نسخة بي دي إف من التقرير
مركز الدراسات المستقلة
سلسلة (قضية وتحليل)
الإصدار (67)
19 يناير 2006
وولفغانغ كاسبر
بروفيسور فخري للاقتصاد في جامعة نيو ساوث ويلز، وزميل أقدم في مركز الدراسات المستقلة.
الكاتب يقدم شكره إلى زوجته ريجين وإلى سو وينديباك لما واجهتاه من مشقة في التعامل مع مسودة سابقة لهذا البحث، كما يقدم شكره أيضا إلى هيلين هيوز ومانفريد شتريت لما أبدياه من الكثير من الاقتراحات المفيدة.
الكاتب مسؤول عن البحث وما يرد فيه بشكل كامل.

ملخص
* (الفساد آفة تهدد الاستقرار الاجتماعي والنمو الاقتصادي، كما إن إساءة استخدام السلطة السياسية للمنفعة الشخصية مجحف تماما بحق الشرفاء أو الفقراء). جاء ذلك في مبادرة جديدة لمنظمة الأمم المتحدة تحت عنوان (الاتحاد ضد الفساد)، والتي أصبحت قيد التطبيق في ديسمبر 2005.
* يقدم التقرير المنشور مؤخرا تحت عنوان (مؤشر تمييز الفساد) تقديرات ذات مصداقية لمستويات الفساد في 250 دولة. وهو يكشف اختلافات هائلة ما بين الدول في هذا المجال، حيث نجد ميلا أكبر للفساد في الدول الفقيرة بالمقارنة مع الدول المتقدمة الثرية. كما إن بعض الدول تمتلك معايير للنزاهة الحكومية تطورت مع مرور الوقت (بما في ذلك أستراليا ونيوزيلندا التي تأتي في مقدمة قائمة النزاهة)، بينما تراجعت دول أخرى عن مواقعها السابقة (كالولايات المتحدة الأمريكية واليابان والدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي)، كما يشيع الكسب غير المشروع في معظم دول العالم الثالث والكثير من الدول الشيوعية سابقا، ونجد أن الفساد يخترق كل مفاصل الدول المجاورة لأستراليا (بما فيها اندونيسيا وبابوا نيو غينيا).
* الفساد يترسخ أكثر في الدول التي تعاني من الحماية غير الكافية لحقوق الملكية، والإفراط في تنظيم الأسواق، والدور الضعيف للقانون.
* الغنى بالموارد الطبيعية (النفط والغاز خصوصا) يعزز الفساد مما يؤدي إلى غياب الاستقرار السياسي، وربما يؤدي أيضا إلى الفشل الحكومي. وهذا من الأمور التي تقلق الغرب باعتباره سيظل معتمدا على استيراد المواد الأولية خلال المدة القادمة. كما يبين مؤشر تمييز الفساد أن التدخل العسكري الغربي لم يؤد، ومع الأسف، إلى إنشاء حكومات نزيهة في أفغانستان وتيمور الشرقية والعراق، وإنما أدى إلى العكس من ذلك.
* تميل المعونات الأجنبية إلى تعزيز الفساد. وهنالك محاولات تبذل لتحسين مصداقية المعونات الأجنبية، وهذه المحاولات مكلفة ولكنها تنتشر شيئا فشيئا، وذلك لأن تقديم المعونات إلى الأنظمة اللصوصية أدى، ببساطة، إلى الحط من أهمية المؤسسات الضرورية للنمو الاقتصادي، وإلى تقوية النخب الفاسدة.
* إن الطبقة الحاكمة من أصحاب الامتيازات تعتمد دائما على المشاعر الوطنية وعلى الاشتراكية للدفاع عن امتيازاتها ومحاربة الانفتاح والشفافية. واليوم تستمد الدعم من معارضي العولمة.
* كان الفساد مقبولا خلال مدة طويلة باعتباره أمرا مقضيا لا بد من التسليم به، ولكن الانتشار الحالي للأفكار الليبرالية، الغربية أصلا، أدى إلى تغيير هذا الموقف في الكثير من أنحاء العالم. ونجد اليوم تفاؤلا جديدا بإمكانية معالجة الكسب غير المشروع بين الطبقات الوسطى التي تظهر في الكثير من الدول؛ حيث تبين أن هذا الطريق هو الأمثل لتعزيز النمو الاقتصادي في دول يائسة من أمثال سنغافورا واستونيا، وبالتالي: للقضاء على الفقر

الفساد والعدل والازدهار

إذا أصيب (الأحسن) بالفساد، تحول إلى (الأسوأ). مثلا لاتيني
كلما كثرت القوانين، كثر معها اللصوص وقطاع الطرق. لاو تزي (القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد)

إن العبارات السابقة ترينا أن الفساد (إساءة استخدام السلطة السياسية لمكاسب شخصية) كان ولا يزال سببا في الإضرار بالناس العاديين شرقا وغربا منذ أمد سحيق. ولقد كان هنالك تقليد من القبول القدَري بأن “تزييت أيدي” المسؤولين ضروري لتحريك عجلات الحكومة، وكان القليل من (الكسب غير المشروع) تعبيرا عن حسن النية تجاه المسؤولين منخفضي الدخل أو شكلا مشروعا من أشكال التنافس. أضف إلى ذلك أن معظم الأديان سلّمت بوجود الفساد، ونجد ذلك مثلا في العديد من فقرات التلمود والكتاب المقدس، حيث نقرأ في سفر التكوين (6، 12): “ونظر الرب إلى الأرض فإذا هي قد فسدت؛ إذ كان كل بشر من لحم ودم قد أفسد طريقه على الأرض”.
أما في عصرنا هذا فتتعاظم النظرة إلى الفساد باعتباره انتهاكا للفكرة القائلة بأن البشر يولدون جميعا وهم متساوون في حق السعي إلى السعادة بكافة السبل المشروعة المتاحة لهم. لقد حازت هذه الفكرة الفردانية على القبول الشعبي أساسا إبان عصر التنوير في الغرب، وكان لها آثار في تحديد الدور الذي يلعبه الحاكم والمحكوم. ونجد لهذه الفكرة نصا صريحا وواضحا، على سبيل المثال، في إعلان بنسلفانيا للحقوق (1776)، وهو بيان رائد جاء فيه: “الشعب مصدر السلطات؛ ولهذا فإن جميع المسؤولين الحكوميين، سواء أكانوا تابعين للسلطة التشريعية أو التنفيذية، يعتبرون أمناء وخدما للشعب، ويتحملون المسؤولية أمامه في كل حين”. وبتعبير آخر، فإن المواطنين هم المشرفون، أما المسؤولون الحكوميون فليسوا إلا وكلاء للمواطنين يفترض فيهم العمل بنزاهة. وقد بدأت هذه الروحية بالانتشار في أنحاء العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها كانت طموحا أكثر من كونها واقعا عمليا.
لقد خاض فلاسفة القرن الثامن عشر، من أمثال آدم سميث، صراعا كبيرا في عصرهم عندما اعتبروا الفساد أمرا سيئا من الناحية الأخلاقية، واليوم نجد تعاليمهم وهي تنتشر في أنحاء العالم لتعزز تفاؤلا جديدا بإمكانية القضاء على الكسب غير المشروع. وقد قامت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) بحثّ الحكومات الأعضاء فيها على اعتبار تقديم الرشى إلى المسؤولين الأجانب والشركات الأجنبية جنحة جنائية. وفي نهاية العام 2005 أصبحت بنود معاهدة الأمم المتحدة ضد الفساد قيد التطبيق، والتي تهدف إلى وضع معوقات أكثر أمام عمليات غسيل الأموال وتسهيل استعادة الأموال المسروقة. ولكننا إذا نظرنا إلى السجل التاريخي لمعاهدات الأمم المتحدة فلا يمكننا أن نتيقن من تبني الدول الفقيرة للمعايير الممتازة لهذه المعاهدة. وقد احتج المصدرون من دول منظمة (OECD) أحيانا بأن ذلك يضعهم في الجهة الخاسرة عند التنافس مع جهات محلية فاسدة، ولكن بعض دول منظمة (OECD) أصبحت تعتبر التعامل الفاسد لمواطنيها جنحة يعاقب عليها القانون، وذلك لأنها لاحظت بأن الفساد يؤدي إلى امتيازات غير عادلة تحوزها النخب والصناعات ذات النفوذ، مما يعود بالخسارة المجحفة بحق باقي المواطنين كافة. كما يعد الفساد عقبة بوجه التنافس الأصيل عبر السعر والنوعية، وهكذا تمتد آثاره إلى النمو الاقتصادي.
إن من يتسامح مع الفساد، ومن يدعو إليه، ينتقص من أهمية المؤسسات التي تعتبر شرطا أساسيا للنمو الاقتصادي، وذلك يؤدي إلى إدامة الفقر والظلم والبؤس. كما إن المتنافسين الذين يعتمدون على الفساد في الارتقاء بأعمالهم إنما يرتكبون خيانة بحق الشروط الأساسية لاقتصاد السوق، وذلك لأن التقسيم الحديث للعمل يعتمد على استثمار ما يعرفه الناس، وليس على من يدفع الرشوة الأكبر. والثروة تتكون على أساس المعرفة التكنولوجية والتجارية وعلى تواصلها الفعال مع إشارات السوق التي توجه التخصص الفعال والابتكار؛ وإذا أردنا لذلك أن يحدث، فيجب حينها أن تؤسس الأسواق على قاعدة الثقة بين الغرباء، والفساد يستهدف هذه النقطة بسمومه، فيجعل القرارات تتخذ على أساس (من يعرفه المرء) وليس (أفضل ما يعرفه المرء)، وفي قطاع الأعمال يؤدي الفساد إلى فرض ضوابط مرهقة تجعل الأسواق تبث إشارات بنشاط أقل كفاءة.
إن التجربة التنموية خلال نصف قرن تظهر لنا أن النمو الاقتصادي الضعيف لا ينتج عن نقص الثروات الطبيعية أو رأس المال أو غير ذلك من الموارد. وإنما تشترك كافة الاقتصادات التي فشلت في تحقيق النمو بأنها تمتلك قواعد ضعيفة لتنسيق الحياة الاجتماعية والاقتصادية (المؤسسات)، والتي تقف عائقا بوجه الادخار والاستثمار واستكشاف الموارد وغيرها من الجهود الريادية لتحريك القوى الإنتاجية. وينقل عن عميد الاقتصاد التنموي، الراحل لورد بيتر باور، أنه قال بوضوح: “الأداء الاقتصادي يعتمد على العوامل الشخصية والثقافية والسياسية، وعلى مواهب الناس ومواقفهم ومحفزاتهم والمؤسسات الاجتماعية والسياسية”. وتتأتى هذه الأهمية العالية للمؤسسات من أن عملية النمو تتطلب تنسيق جهود العديد من الأشخاص ذوي المعارف الخاصة، والذين يتحملون تكاليف التعامل ويتجشمون عناء المخاطرة في استكشاف طرق جديدة أفضل لأداء المهام. ولا حاجة هنا للتأكيد على أن النمو الاقتصادي قد أدى إلى التخلص من العديد من الأمراض التقليدية التي ابتليت بها الإنسانية طويلا: كنسبة الوفيات الكبيرة لدى الأطفال، والأعمال الشاقة، وتكرار المجاعات، والأوبئة، وانتشار القذارة، والجهل، والإحساس الدائم بالضيق والضجر، والشيخوخة المبكرة وقصر العمر.
إن ما يهم بالنسبة للنمو الاقتصادي ليس نوعية المؤسسات فحسب، وإنما مستوى الفعالية والإنصاف في تطبيقها وفرضها. فمن القواعد ما يُفرض من ضمن المجتمع: حيث يتعرض الغشاش، مثلا، إلى تحاشي الناس له تلقائيا وخسارته سمعته، والكاذب يتعرض للتوبيخ، وهكذا دواليك؛ ومن القواعد ما يُصمم ويُفرض بواسطة فعل سياسي من قمة الهرم: حيث تقوم الحكومة بإصدار تشريعات تحمي الأنفس والملكية الخاصة، وتشكل منظومة قضائية وقوة شرطة لفرض هذه القواعد؛ وعندما تؤدي بعض النشاطات إلى التسبب بالأذى للآخرين، فإنها تصبح خاضعة للترخيص الحكومي، وهكذا دواليك. إن هذه الوكالات تحصل على سلطات احتكارية لممارسة الإجبار الشرعي، ومن الضروري لتحقيق العدل والازدهار أن تُطبّق هذه السلطات دون ترهيب أو ترغيب، ودون أن يعمد وكلاء الحكومة إلى استغلال هذه السلطات لتحقيق منافع شخصية.
إن المجتمعات التي تحقق التنسيق غالبا بواسطة قواعد داخلية في المجتمع وعبر الفرض التلقائي، وبالتالي فهي لا تعتمد إلا بشكل محدود على القواعد الخارجية للحكومة، هي مجتمعات تميل إلى إبداء فعالية أكبر في تحقيق النمو الاقتصادي وتكافؤ الفرص، وذلك بالمقارنة مع مجتمعات تحكمها قبضة قوية وتخضع إلى قواعد إيعازية متعددة. ويصح هذا بالأخص عندما يستسلم وكلاء الحكومة إلى الإغراء البشري المشترك بالانتهازية التي تبحث عن المنفعة الذاتية فيقعون في فخ الفساد؛ ففي المحصلة، يتمتع وكلاء الحكومة دائما بالقدرة على استغلال نقص معرفة الناس بجميع التفاصيل والظروف المتعلقة بالشؤون التي يقومون عليها، ويقدمون على تعزيز مصالحهم الخاصة على حساب عامة الناس (وهذا هو الفساد).
ما أن يترسخ الفساد حتى تتغلغل تأثيراته وتتعمق جذوره؛ ومن أمثلة ذلك: المزاد العلني أو السري للعمولات والتعيينات في وظائف التعليم المدرسي أو الشرطة؛ ولقد شاهدت بنفسي في اندونيسيا كيف أن الآباء يشترون الوظائف لأبنائهم وبناتهم بعد أن يكملوا تعليمهم، وغالبا ما يكون ذلك بتضحيات مالية كبيرة، فما أن يتم الحصول على الوظيفة فإنها تكون “ملكا” لمن نجح في الفوز بها دون الحاجة إلى أن يضمن الاحتفاظ بها عبر الاستمرار في أداء العمل. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي على العائلة أن تستعيد “استثمارها” عبر بيع التفضيل في التعامل أو عبر جمع “المستحقات”، والتي تعد من عوائد الاستثمار في هذه الوظيفة. أما الدعوة إلى الترقية الوظيفية عبر الاختبارات والجدارة في الأداء فينظر إليها باعتبارها مبادرة لحرمان المسؤولين من عوائد شرعية ناتجة عن “استثمارات” سابقة. إن هذه الإصلاحات لا يمكن فرضها من الخارج، وإنما يجب التعامل معها عبر مصلحين محليين.
من الحقائق المعروفة أن الفساد الرسمي يرتبط بعلاقة متبادلة مع الحرية الاقتصادية، أي: أن العلاقة ما بين مستوى الموثوقية في صيانة المؤسسات لحقوق الملكية الخاصة وحرية استخدامها، وبين مستوى الاستقلالية والموثوقية في دور القانون في البلاد. إن إصدار الضوابط المرهقة المعقدة، والتي تلقي بتأثيراتها على الدخل الخاص والثروة بشكل دائم، يعتبر من أسباب تغلغل الكسب غير المشروع. وفي الحقيقة، لا يمكن الحيلولة دون الخروج باستنتاج مفاده أن بعض الضوابط تفرض أساسا لتمكين أرباب السلطة من الحصول على الرشى. وفي آراء الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، أمارتيا سين، والذي يحق في اعتباره حدوث التنمية الاقتصادية في الدول الفقيرة نوعا من أنواع التحرير، نجد أنه يرى أن إلغاء الضوابط من جانب واحد في الدول النامية يبرر ما ينتج عنه من انحسار للفساد، وذلك بغض النظر عما إذا كان يؤدي إلى فوائد أخرى. كما إن الحكومة النزيهة تساهم أيضا في رفع مستوى الثقة ما بين الناس.
خلال حقبة طويلة من القرن العشرين لم يكن هنالك فهم في صفوف المفكرين وجهات التخطيط للدور المحوري للمؤسسات كما عرّفه آدم سميث. ولم يكن يتبع المدرسة الاقتصادية النمساوية المؤسساتية غير أقلية من الاقتصاديين من أمثال بيتر باور. ولكن المقاربة التطورية المؤسساتية بدأت في ثمانينيات القرن العشرين باتخاذ موطئ قدم لها وكان لها أثر كبير على التخطيط والإصلاح. ومؤخرا نجد أن حتى بعض المنظمات العالمية قد بدأت في الاهتمام جديا بالمؤسسات وتطبيقها بنزاهة، ولهذا ركزت نسخة العام 2005 من تقرير صندوق النقد الدولي المعنون (المشهد الاقتصادي الدولي) على “بناء المؤسسات” (الفصل الثالث) بما نصه: “ارتفاع النمو يعتمد على… حقوق ملكية أمتن، وفساد أقل، وأداء حكومي أفضل”. وهذا ينبغي أن يكون له تأثيرات مهمة على السياسة، ومن أمثلة ذلك: كيف يمكن للمعونات الأجنبية أن تصل إلى مستحقيها بوجود مؤسسات ضعيفة؟
ولا مانع من التذكير هنا بنقطة أساسية، وهي: إن اختلاف مواقف الناس من الفساد والحرية الاقتصادية ينشأ من فجوة أساسية تفصل ما بين وجهات النظر؛ فوجهة النظر الغربية التي تعتبر الأفراد مالكين ومصالحهم ذات أهمية عليا في الأداء الحكومي إنما تتعارض مع وجهة نظر النخب السياسية في معظم المجتمعات التقليدية غير الغربية. فهذه النخب تعتبر نفسها هي المالكة وأن “شعوبها” موارد متاحة للاستغلال في سبيل تعزيز السلطة والثروة. أما الآن فالعولمة تنشر وجهة النظر الفردانية، وشعوب العالم توجه هجماتها إلى المصالح الأنانية للنخب القوية باعتبارها فسادا، كما أن صوتها لا يتعرض للاضطهاد كما كان يحدث في السابق.
قياس الفساد ومقارنته
يستطيع العلماء دائما أن يتعلموا الكثير، وأن يقدموا نصائح أفضل، عندما تكون الظاهرة التي ينظرون لها قابلة للتكميم؛ وينطبق ذلك على العلاقة التي تربط ما بين النمو الاقتصادي والحرية الاقتصادية والفساد.
إن قياس إجمالي الدخل الوطني والناتج الوطني (GDP/GNP) يمكن تأسيسه على منهجية متينة ومعايير مقبولة تم التوافق عليها في المنظمات الدولية عبر عقود طويلة. كما إن المقارنة بين دول العالم بحسب دخل الفرد تستند إلى أسعار الصرف أو تقديرات القوة الشرائية، مما يعكس الواقع بشكل أكثر مصداقية في معظم الحالات. ولا شك في أن هنالك هامشا من الخطأ يعتري البيانات الدولية، ولكن ذلك لا يمنع من تمتعها بالمتانة والقبول الواسع.
أما تحديد مستوى المؤسسات التي تستند إليها الحرية الاقتصادية فهي مهمة أصعب من ناحية القياس والمقارنة على المستوى الدولي، وذلك لأنه لا يمكن الحيلولة دون تضمنها لتقييمات ذاتية واعتمادها على نماذج صغيرة. وفي ثمانينيات القرن العشرين توصل عدد أكبر من الاقتصاديين إلى إدراك الأهمية العظيمة لمؤسسات الحرية الاقتصادية، مما أدى إلى البدء بعدة جهود لتقدير مستوى حقوق الملكية والأداء الحكومي، وحرية العمل، وأسواق رأس المال والمنتجات ومدى انفتاحها على التنافس العالمي. ومنذ العام 1986، قام مركز فريزر (Fraser Institute) الكندي بتنسيق جهد عالمي ضخم لتطوير منهجية متفق عليها وجمع المعلومات اللازمة حول معايير الحرية الاقتصادية. وقد لاقت البيانات المجموعة قبولا واسعا وقدمت أفكارا قيمة تدعم السوق الحر والخيار الشخصي. وإلى جانب ذلك، كان هنالك جهد مشابه يقوم به مركز هيريتيج (Heritage Foundation) الأمريكي بالتعاون مع صحيفة وول ستريت جورنال، وعلى الرغم من اختلاف المنهجية المتبعة فإن النتائج التي تمخضت عنهما هاتان الدراستان تروي القصة نفسها: الحرية الاقتصادية تلائم النمو والمستوى المعيشي المرتفع.
إن درجة الفساد في فرض القواعد لم تتلق الاهتمام نفسه خلال مدة طويلة؛ ثم ملئت هذه الفجوة خلال العقد الماضي بواسطة مشروع للتقدير السنوي لمستويات التعامل غير النزيه في مجال السياسة والإدارة، وهو ما أطلق عليه: مؤشر تمييز الفساد (Corruption Perceptions Index: CorrPI). ويتم احتساب هذا المؤشر في جامعة باسو الألمانية تحت إشراف البروفيسور يوهان غراف لامبسدورف، وذلك بالتعاون مع منظمة الشفافية الدولية، وهي مركز أبحاث يقوم سنويا بنشر (تقرير الفساد العالمي). وهذا المؤشر، جنبا إلى جنب مع التحليلات ودراسات الحالات الواردة في (تقرير الفساد العالمي)، يهدف إلى تقوية عزيمة شريحة الناخبين وما لها من وكلاء على المستوى السياسي والقضائي والتنفيذي على محاربة الفساد.
أصبح هذا المؤشر يتضمن في العام 2005 بيانات 159 دولة، وذلك على الرغم من أنه يعتمد على قاعدة بيانية أكثر اختلافا من ناحية البيانات الرئيسية؛ ففي عدد كبير من الدول، يرجع المؤشر إلى بيانات تعود إلى ثمانينيات القرن العشرين، ولهذا يمكننا تقفي أثر بعض التوجهات بعيدة المدى بفضل هذه البيانات، على أن لا ننسى حدوث بعض التغيرات في شمول المعلومات ونوعيتها عبر الزمن.
حالات الفساد حول العالم
إن تقرير مؤشر تمييز الفساد للعام 2005 الذي نشر في أكتوبر الماضي يوفر لجهات التخطيط العديد من الأفكار المفيدة؛ إذ يقدم لها مادة كمية تدعم الاعتبارات التي وردت في مقدمة التقرير.
وفي الشكل المدرج أدناه (يرد في نهاية الدراسة) يورد التقرير تقديرات المؤشر للعام 2005 بالمقارنة مع متوسطات المدة (1980-1985). وبالإضافة إلى ذلك يحتوي الشكل على تقديرات بعض الدول للعام 2005 ممن لا تتوفر حولها أية بيانات على المدى البعيد. إن المرتبة العالية في الشكل تعكس تطبيق أفضل معايير النزاهة في الإدارة الحكومية، والعكس بالعكس. كما ينبغي النظر إلى المقارنات الزمنية للفساد بشكل تقريبي بسبب تغيرات المنهجية المتبعة وطبيعتها الذاتية. وعلى الرغم من جميع ذلك، فإن المعلومات الواردة تفيدنا بما يلي:
* الانطباع الأهم الذي يتركه التقرير يتمثل في أن الدول الثرية المتقدمة تحرز مرتبة أعلى عموما في هذا المؤشر بالمقارنة مع الدول الأقل تقدما. ولا يمكن إرجاع سبب ذلك أبدا إلى العلاقة ما بين معدلات الدخل ومعدلات الفساد، ولكن يبدو من المقبول الاعتقاد بوجود تفاعل غير مباشر في ما بينهما: حيث تفتقر الدول عندما يشيع الفساد بين حاكميها، والمستوى المعيشي البائس يؤدي إلى الفساد.
* ومع ذلك، فقد تغيرت معايير النزاهة في الإدارة الحكومية كثيرا خلال العقود القليلة الماضية في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء. ومنها ما تحسن منذ أوائل الثمانينيات، ومنها ما لا يزال منحدرا (في معدلات الفساد). وهكذا، يتبين من الشكل أن الفساد ظل يرتفع في الدول ذات الإدارة الحكومية الجيدة نسبيا (المدرجة على يسار الشكل) من أمثال الولايات المتحدة وفرنسا واليابان وجنوب أفريقيا وماليزيا، وذلك بالإضافة إلى دول تعرف تقليديا بأنها أكثر فسادا بكثير (المدرجة على يمين الشكل) من أمثال الصين وروسيا وتركيا وكينيا. أما الدول الأخرى فقد تمكنت من تحسين معدلاتها من أمثال أستراليا ونيوزيلندا وفنلندا وتشيلي وهنغاريا واندونيسيا.
* كانت أستراليا تعتبر من أقل الدول فسادا (المرتبة الثامنة في العام 2005)، وقد تحسن أداؤها منذ أوائل الثمانينات الماضية. كما إن نيوزيلندا تحسن أداؤها بشكل أكبر في العام 2005 (تحتل المرتبة الثانية بعد فنلندا) ولا يزال أداؤها يتطور بمرور الوقت.
* تحسن بشكل عام أداء الدول الانغلوساكسونية ودول شمال أوروبا (لا تظهر جميعها في الشكل) التي تحتل مرتبة متقدمة أصلا، وذلك باستثناء الولايات المتحدة.
* يبدو أن هنالك بعض الدول الأوروبية التي تنجرف باتجاه مشكلات جدية، كفرنسا وألمانيا، حيث عانت مطولا من الركود الاقتصادي والاستياء السياسي، وظلت تراوح مكانها في مراتب متوسطة على سلم معدلات الفساد.
* مشروع الاتحاد الأوروبي لربط ثقافات الحكم مع معايير النزاهة شديدة الاختلاف يواجه فجوات واسعة، وأحيانا: متوسعة، في مستوى الإدارة الحكومية. إن المعايير المتفاوتة للفساد تعسر مسعى الاتحاد الأوروبي نحو تساوي الدخل؛ فهذا المسعى ربما يحتاج إلى تحويل مبالغ مالية كبيرة ومستمرة من الدول الغنية المتمتعة بمستوى منخفض من الفساد إلى دول فقيرة يسودها الفساد. إن تفاوت مستويات الفساد بين الدول، واختلاف سرعة مستلمي التمويل في استغلال قواعد الاتحاد الأوروبي من قبل مختلف الدول، قد أدى فعلا إلى لعب دور كبير في الرفض الشعبي المتزايد للحركة المتنامية في توسع الاتحاد الأوروبي وتقارب دوله.
* يلاحظ الانخفاض الشديد في معايير النزاهة لدى الدول التي حكمتها الشيوعية؛ فمنذ انهيار الشيوعية وهذه الدول تتصارع مع الفساد المستشري بدرجات مختلفة: ففي هنغاريا مثال ناجح يلفت الانتباه، كما إن استونيا وسلوفينيا وليتوانيا تتبوأ مراتب ضمن الدول المتقدمة الأقل فسادا؛ أما معايير النزاهة في روسيا وبولندا والتشيك فقد تدهورت على نحو سيئ. وربما يعكس هذا، جزئيا على الأقل، شفافية أكبر في الجهاز الحكومي؛ ولكن، حتى وإن اعتبرنا جزءا من التدهور ناتجا عن تنامي الإدراك لهذه المشكلة، تدل هذه الحالات على أن المنظومات الإجبارية المركزية لا تزال حية ترزق، أو أن الفراغ الذي تركه غياب التخطيط المركزي لم تملأه المؤسسات وآليات الفرض التي تدعم قيام اقتصاد سوق فعال ومجتمع حر. وقد يتبين أن بناء النظام الفعال أكثر صعوبة من إلغاء تأميم الملكية وسياسة الضوابط الشاملة.
* تعاني الدول النامية عموما من معدلات عالية للفساد، باستثناء عدد من الأمثلة المميزة كالدول الثرية من أمثال سنغافورا وهونغ كونغ وتايوان. كما إن كوريا الجنوبية التي كانت تعد يوما من أكثر دول العالم فسادا أصبحت اليوم تتجه بوضوح نحو مرتبة عليا في مؤشر تمييز الفساد وتعتبر ذلك هدفا من أهداف سياساتها.
الفساد والتخلف التنموي
إن ما يزال سائدا في الإدارة الحكومية في العالم الثالث من معايير متدنية للنزاهة يقدم تفسيرا لاستعصاء القضاء على الفقر؛ حيث لا يبدو أن هذا العالم قد تفهم على نحو واسع أخلاقيات التحكم بالفساد التي كان كتاب التنوير الأوروبي يشددون عليها في القرن الثامن عشر. ويرى فرانسيس فوكوياما في تقديمه لنسخة العام الماضي من (تقرير الفساد العالمي) أن الممارسات الفاسدة لا تزال متغلغلة بعمق في أوصال الثقافة والتقاليد المحلية، بل إنها تشكل جوهر المنظومة السياسية، وأن من شأن الإصلاحات أن تؤدي إلى تهديد مصالح النخب التي تتمتع بالمال والسلطة، كما يلاحظ بأن “حتى المؤسسات ذات التصميم الأفضل لن تتمكن من الوقوف بوجه الفساد إذا كانت الأعراف الاجتماعية تتقبل تعاطي الرشوة، أو إذا كانت نخب البلاد تعتبر السياسة حلبة للإثراء”. ويضيف فوكوياما أنه حتى عندما يأتي طرف متنور أجنبي ليشير إلى الحاجة الملحة لمحاربة الفساد فإن جهوده ستتوقف على يد السياسيين المحليين في نهاية المطاف؛ وهي نقطة إذا تم الاكتفاء بها فستؤدي إلى الاستنتاج بأن الفقر في عصر العولمة ينتج عن قرار مسبق؛ ولكن مما يؤسف له أن هذا القرار تتخذه النخب السياسية ومن يحابيها في السلطة، وهكذا يستمر الفقر مخيما على الجماهير المسحوقة!
لقد ظهر في بعض الدول الفقيرة قادة سياسيون منحوا أولوية كبرى للنمو الاقتصادي الإجمالي ووضعوا نصب أعينهم أن تحقيق الازدهار للجميع يمثل مصدرا للشرعية والقوة، واستمدوا الإلهام أحيانا من تحديات وصراعات عالمية، كما حصل في شرق آسيا التي هيمن عليها شبح الصين الشيوعية، ومن اهتمام أصيل بانتشال الناس من الفقر. وأدت الرغبة في تحقيق النمو الاقتصادي إلى تحفيز جهات التخطيط على البدء بتطبيق قواعد اقتصاد حر منفتح وعلى الاستثمار في التعليم، ومع ظهور طبقة وسطى ثابتة ماديا أصبحت الحرية السياسية ينظر إليها باعتبارها مرغوبة بشدة وبدأت الأجيال الغنية حديثا بالوقوف في وجه الفساد التقليدي. ومع تنامي الاقتصاد واتساع القاعدة الضريبية، أصبحت الحكومات قادرة على توفير رواتب أفضل لجهات الخدمة المدنية، وهذا أدى أيضا إلى المساعدة في الحد من الفساد، ولم يقتصر ذلك على سنغافورا وهونغ كونغ وتايوان وكوريا، حيث امتد نوعا ما إلى تشيلي وموريشيوس وبوتسوانا، وهي دول تتحرك بالتدريج من العالم الثالث إلى العالم الأول. وقد بدأت هذه العملية غالبا بسبب إجراءات قام بها حاكمون مستبدون من أمثال: لي كوان يو في سنغافورا، وبارك تشونغ هي في كوريا، وأوغستو بينوشيت في تشيلي، وأدت هذه الإجراءات إلى نمو اقتصادي مستدام، أي: التحسن التدريجي للمؤسسات السياسية والاقتصادية والمدنية وتطبيقها دون فساد. وكما حصل سابقا في التاريخ الأوروبي، فإن الإصلاحات الاقتصادية التي بادر بها الحاكمون المستبدون أدت إلى نتائج جانبية بعيدة المدى في مجال الحرية السياسية.
إن التحدي الكبير الذي نواجهه حاليا يتمثل في إقناع النخب التقليدية والحديثة في الدول النامية الأخرى بأن النمو الاقتصادي لا يتطلب الإصلاح المؤسساتي فحسب (صياغة القواعد التي تعزز الحرية الاقتصادية)، وإنما يحتاج أيضا إلى حملة حاسمة على الفساد (التطبيق الشفاف المنصف لهذه القواعد). وليس هذا بالأمر الهين لأن الانطلاق بالنمو الاقتصادي يؤدي غالبا إلى ظهور فرص جديدة للتعاملات الفاسدة، كما تتكاثر البيروقراطية وتخلق ضوابط جديدة توفر إغراءات أكثر بكثير. أضف إلى ذلك أن الرشى تصبح أكثر تكلفة؛ فبينما كان الثمن التقليدي لخدمات الموظف الرسمي يتمثل في جهاز راديو أو ما يقترب من ثمنه، أصبح هذا الموظف يطالب بعطلة في لندن أو بفيلا في سيدني. وفي هذه الجبهة الحاسمة، يقوم (تقرير الفساد العالمي) و(مؤشر تمييز الفساد) بتجهيز الأجيال الشابة من محاربي الفساد في الاقتصادات الانتقالية بما يلزم من أفكار ومعايير قيمة.
إن أفريقيا تعاني من مستوى مرتفع من الفساد في الإدارة الحكومية، وقد كان التخلف التنموي الأفريقي في هذا العام محل تركيز جهود جبارة متجددة لبذل المزيد من المساعدات الرسمية وإطفاء الديون المستحقة. وليس من المفاجئ أن نجد الحكومات التي تشربت الفساد في الاقتصادات الراكدة لا تبدي ميلا قويا إلى دفع ديونها، كما إن الدول الأفريقية الفقيرة المثقلة بالديون، بالإضافة إلى فيتنام وبورما، لا تكف عن إحراز المراتب الأسوأ في سلم الفساد، وعندما يقوم دافع الضرائب في الدول الغنية بإعفاء الدول الفقيرة من الديون أو فوائد الديون التي يقدمها البنك الدولي وغيره من الوكالات الرسمية فإن ذلك يؤدي إلى “ضرر معنوي” ويشكل دعوة إلى التصرف بشكل غير مسؤول، كما يشجع على تفاقم الفساد وترسيخه، وعلى الاستدانة مجددا لدعم المستوى المعيشي المبذر للنخب، وذلك في ظل أنظمة تحرم مواطنيها من الحرية الاقتصادية غالبا.
إن الاقتصادات ذات المنظومات السياسية والقضائية والإدارية الفاسدة تبقى دون شك قادرة على التنافس العالمي في أسواق التصدير وفي اجتذاب رأس المال المتحرك عالميا والمعرفة العملية والاستثمارات. وعندما يتم تحصيل الرشى فإن رأس المال المتحرك عالميا والاستثمارات تبقى هنالك ما دامت عوامل الإنتاج المحلية، بما فيها الإدارة الحكومية، تتحمل تكاليف الفساد. والفساد يعني أن العمال وأصحاب الأراضي المحليين ينبغي عليهم أن يتقبلوا أجورا أقل مما قد يحصلون عليه في غياب الفساد، وهكذا تظل الأجور المحلية منخفضة، وعلى الرغم من أن الأجور تميل إلى الارتفاع في المصانع المتوجهة للتصدير بالمقارنة مع الصناعة المحلية، فإن مناهضي العولمة قادرون مع ذلك على طرح أمثلة عن أجور منخفضة وراكدة، وهكذا يمكن تشويه سمعة الشركات العالمية والعولمة، وتبقى، بالإضافة لذلك، المحصلة الضريبية الرسمية منخفضة، مما يؤدي إلى تقليص الخدمات الحكومية إلى الحد الأدنى وعدم إنشاء البنى التحتية؛ كما إن الموظفين الحكوميين يتلقون أجورا منخفضة، مما يؤدي إلى التشجيع على الفساد. إن الجانب الحقيقي (الفساد) لا يمكن ملاحظته بسهولة، ومن الأسلم سياسيا في جميع الأحوال أن توجه سهام اللوم إلى الأجانب والرأسماليين.
من المعتقد بأن معدلات الفساد في الصين والهند قد تفاقمت بشدة منذ أوائل الثمانينات الماضية (الشكل)، ولكنها تحسنت شيئا ما بعد الانفتاح المتنامي لاقتصاد كلا البلدين. ويعتقد بأن الصين شهدت صعودا في ممارسات الفساد منذ بداية الإصلاحات الاقتصادية في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، ولكن ذلك قد يكون انعكاسا لتحسن الشفافية ولإدراك الشعب الصيني بأن الفساد شر يمكن محاربته. ومع ذلك، فإن العمال وجباة الضرائب في كلا البلدين سيتمكنون من تحصيل حصة أكبر من الدخل بسبب جهودهم في حال تفعيل الضوابط الفعالة في مكافحة الفساد وفرضها بشكل منسجم ومقنع. وإذا لم يتم تخفيف عبء الفساد فمن المرجح أن يؤدي ذلك إلى اتهامات متبادلة بين السياسيين، وإبطاء النمو، وصراعات اجتماعية مع تزايد النفوذ الذي تكتسبه الطبقة الوسطى في كلا البلدين.
وترتفع مستويات الفساد في الدول المحيطة بأستراليا أيضا؛ إذ يضع مؤشر تمييز الفساد علامة اهتمام عاجل بالوضع في اندونيسيا وتيمور الشرقية وبابوا نيو غينيا والفيليبين ولاوس وسريلانكا وتايلاند وساموا وفيجي (الشكل). أما في أفريقيا فقد تشربت بالفساد إلى مستوى شديد، مما قد يؤدي إلى فشل الدولة، وهي ظاهرة أصبحت في يومنا هذا تتصدر اهتمام العالم، ولهذا فإن من يتبرعون بالمعونات يحاولون التأكيد على مراعاة شروطهم قبل تقديم المعونات للدول الفاشلة، ولكن دون جدوى. إن الأنظمة الفاسدة تفشل شعبها فيضطر إلى التحول إلى مصدر للهجرة الجماعية غير الشرعية بمعدلات لا يمكن للديمقراطيات الغربية أن تتحملها دون الإضرار بمواطنيها الأصليين؛ بل إن الشباب الفقير المحبط يتحول إلى جنود لدى الإرهاب والإجرام والاضطرابات السياسية الداخلية، وهذا ما نشاهد في أفريقيا مرورا بالشرق الأوسط وصولا إلى جزر سليمان في المحيط الهادئ.
كما تتصاعد إشارة تحذير سياسية أخرى من بيانات الفساد في الدول الغنية بالنفط والغاز، حيث تعاني السعودية وإيران والجزائر وليبيا وروسيا وأذربيجان واندونيسيا ونيجيريا من مستويات مفرطة للفساد (الشكل)، ويبدو من البيانات السنوية للفساد أن معايير النزاهة انحدرت في الأعوام القليلة الماضية. وفي فنزويلا، وهي من المصدرين الرئيسيين للنفط، ارتفع معدل الفساد بشكل ملحوظ في ظل نظام الرئيس تشافيز. وفي ماليزيا، وهي دولة ذات أداء أفضل في مكافحة الفساد، يبدو أنها سمحت لمعايير النزاهة بالانحدار في حقبة رئيس الوزراء مهاتير محمد. ومن الواضح أن الثروة النفطية والغازية تسمح للنخب الحاكمة بالتدخل أكثر في الاقتصاد وبالاستحواذ على حصة هائلة مما تحصل عليه البلاد من مردود هذه الموارد. كما إن معظم الدول الأولى في تصدير النفط والغاز لم تقم بتوزيع الدخل والثروة على نحو متساو، بل على العكس، وهذا يشير إلى وجود بذور اضطرابات اجتماعية وسياسية في المستقبل، مما يؤدي إلى إعاقة الإمدادات في مجال الطاقة. ومع ذلك، وكما تشير التجارب المؤسفة مع قادة هذه الأنظمة كآل سعود وماليزيا مهاتير وإيران آيات الله وفنزويلا تشافيز، فليس بإمكان الغرب أن يفعل إلا القليل بشكل مباشر لخفض مستوى الفساد في الأنظمة الغنية بالموارد.
إن بوسع القادة العنيدين هؤلاء أن يحصلوا بسهولة على الدعم الفكري والسياسي للبقاء على مواقفهم عبر المسرحيات التقليدية للسلطة الوطنية ومعارضة النظرة الغربية للانفتاح والأداء الحكومي الشفاف. لكن مقاومة ضغوط التنافس العالمي تضر بمجمل السكان ومن لا يتصل بدائرة المحسوبية، ومن المؤسف أن نجد بعض جماعات الضغط الداعية لإطفاء الديون والمعونات الرسمية والتجارة “العادلة” (وليست الحرة)، من أمثال منظمة أوكسفام (Oxfam) الخيرية البريطانية، وهي ترسل إشارات إلى هؤلاء القادة بأنهم قادرون على الاستمرار في نهجهم.
وهنالك ملاحظة أخرى أبرزتها بيانات الفساد للعام (2005)، وهي أن التدخل العسكري الغربي، كما حصل في أفغانستان وتيمور الشرقية والعراق (الشكل)، من الواضح أنه لا يؤدي إلى معايير مقبولة للنزاهة. والدليل الذي تطرحه جهود مكافحة الفساد وتحقيق النمو والقضاء على الفقر وإنجاز الاستقرار الاجتماعي نستنتج منه أن التدخل العسكري يتبعه بسهولة فشل اقتصادي واضطراب اجتماعي. كما إن الوكالات المكلفة بالتدخل تقع بسهولة في شرك ثقافات الفساد للدول الفاشلة، والحكومات العسكرية متشبعة بثقافة القيادة والسيطرة الهرمية، وتميل إلى الارتياب من التنافس غير المركزي والحرية الاقتصادية، وتفضل اللجوء السريع إلى النهج التدخلي، مما يؤدي إلى أضرار جانبية غير مقصودة تتمثل في تقوية الأسباب نفسها التي ينتج عنها ركود الاقتصاد واضطرابه.
يجب أن لا يكون هنالك في المستقبل أية محاولة للتدخل في الأنظمة الفاشلة دون وجود خطط واضحة حول كيفية تحرير المؤسسات الاقتصادية وضمان معايير غير فاسدة للإدارة الحكومية، وهي مهمة أصعب بكثير من تقديم الديون والسلع الرأسمالية أو بناء الكليات التكنولوجية، كما إنها أهم بكثير؛ فالدول الفاشلة تفتقر في الغالب إلى الخبرة والمهارات لتشغيل الإدارات والأجهزة القضائية غير الفاسدة، ولهذا يجب أن لا تكون هنالك محاولة لتطبيق سوى الشكل الأبسط والأكثر تواضعا من الإدارة الحكومية، ولكن مما يؤسف له أن موظفي منظمة الأمم المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي ومعظم هيئات الإغاثة يميلون إلى الدفع باتجاه بنى إدارية طموحة لدول العالم الثالث، ولكن هذه البنى تتداعى تاليا بسبب الافتقار إلى كفاءات محلية متمكنة من الإدارة الحكومية عموما، والإدارة الحكومية النزيهة خصوصا، فالإدارات التي تطمح إلى الكمال محكوم عليها بالفشل دون شك، ومثال ذلك ما تم تطبيقه في بابوا نيو غينيا بعد استقلالها، وما حاولوا تطبيقه في تيمور الشرقية.
مؤازرة الفساد في الدول الفقيرة
هل ينبغي في المستقبل استثناء الأنظمة الفاسدة جميعها من المعونات الأجنبية؟ إن تقرير (كرم الألفية) الصادر حديثا يشير إلى زيادات كبيرة في المعونات الغربية الرسمية التي تتلقاها الدول الأفقر، والتي تكون الأكثر فسادا في الغالب. فالدول الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء، والتي تستلم حاليا 80 مليار دولار سنويا كمعونات أجنبية، يتوقع أنها ستستلم 125 مليار دولار سنويا بحلول العام 2010، ولكن التريليون من الدولارات التي تدفقت إلى هذه الدول خلال نصف قرن مضى لم يكد يستفد منها أحد من الأفريقيين، بل إن معدلات الدخل قد انخفضت باستثناء القليل من الدول، وهنالك الكثير من الحالات الموثقة التي أدت فيها المعونات الغزيرة إلى خسارة هائلة، بينما تم التغاضي عن حلول أكثر بساطة وأقل تكلفة؛ ومن الأمثلة النموذجية على ذلك: الخدمات الطبية العامة في الدول الأشد فقرا، حيث ينفق مبلغ (50,000-60,000 دولار) على إنقاذ كل طفل، بينما تشير الدراسات إلى إمكانية تحقيق ذلك بإنفاق (10 دولارات) فقط، وهذا الفشل يمكن تفسيره بوجود الفساد في منظمات الإغاثة وفي الحكومات الأفريقية، وينجم عن ذلك أن الدخل يعاد توزيعه من الفقراء إلى النخب المهووسة بالسرقة، مما يؤدي إلى دوران حلقة (الفساد-الفقر). ولذلك فإن المعونات الأجنبية قد تتسبب بالضرر بدلا من النفع، وهذا ما عبر عنه بيتر باور بعبارة بليغة حين قال: “إن إعطاء الأموال للحاكم بسبب فقر رعاياه إنما يصب مباشرة في صالح سياسات الإفقار”، ويصل إلى نتيجة مفادها أن “من الواضح أن تقديم المعونات التنموية ليس ضروريا لإنقاذ المجتمعات الفقيرة من حلقة الفقر المتوحشة، بل إنه يؤدي بدلا من ذلك إلى إبقائهم في هذه الحالة”.
إن الحكومات التي تشكل المعونات الأجنبية جزءا كبيرا من ميزانياتها، كما هو الحال في دول جنوب الصحراء الأفريقية وجنوب المحيط الهادي، لا تحتاج إلى أن تبذل جهدا كبيرا في سبيل تحصيل العائدات الوطنية المحتملة من تعزيز النمو، ولا تهتم بطموحات المواطن العادي؛ فالمعونات تخلق بيئة لا تناسب المنادين بالديمقراطية.
إن أداء الدول الفقيرة المثقلة بالديون في أفريقيا يتناقض مع تجربة دول شرق آسيا، حيث لا تكاد المعونات الأجنبية المقدمة تساوي شيئا، وهنا تنبغي الإشارة إلى أن المواطن الذي يدفع الضرائب في الكثير من دول شرق آسيا ذات النمو السريع أصبح الآن يمتلك قدرا جيدا من السيطرة الديمقراطية.
لا شك في أن القائمين على إعداد مؤشر تمييز الفساد قد تساءلوا عما إذا كان يجب إيقاف المعونات الأجنبية للأنظمة الفاسدة، وكانت إجابتهم بأنه لا يمكن التخلي عن الدول الأشد فقرا، وأنه إذا ثبت بأن هذه الدولة أو تلك مصابة بالفساد، فإن ذلك ينبغي أن يكون إشارة للجهات المتبرعة بضرورة الاستثمار في مقاربات منهجية لمحاربة الفساد، وأن هذه الجهات يجب أن تهتم خصوصا بإشارات التحذير وتتأكد من القيام بالعمليات المناسبة للسيطرة على الوضع. وهي مهمة شاقة لجهات التبرع، ولا تحظى بالشعبية لدى مستلمي المعونات، كما جاء بوضوح في خطاب مايكل سومير (رئيس وزراء بابوا نيو غينيا) للأستراليين مؤخرا خلال مقابلة تلفزيونية. وهكذا يسهل استحضار الانتقادات التي تحذر من الاستعمار الجديد وتنادي بالخصوصية الثقافية، أما حين يتحدثون عن موثوقيتهم الكبيرة فلن يتطرقوا إلى هذه الخصوصية.
إن وكالات المعونات متعددة الأطراف لا تقدم لدافع الضرائب الذي يمولها دلائل ذات مصداقية متينة؛ وهي في الغالب تحسب “نجاحها” بمقدار ما تحصل عليه من ملايين الدولارات. وقد اشتكى جيفري ساكس (المستشار الاقتصادي للأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة كوفي عنان)، والذي كان يدعو إلى زيادات كبيرة في المعونات الأجنبية، من أن جزءا كبيرا جدا من المعونات المقدمة قد ذهب إلى جيوب المستشارين الأجانب. لكن الموثوقية تتضمن مراقبة إنفاق المعونات لضمان استخدامها بفعالية، وهذا يتطلب حتما الاستعانة المكثفة بخبراء أجانب في فرق عمل مشتركة من المسؤولين في الدول التي تقدم المعونات والدول التي تستلمها. وهذه العمليات المشتركة من شأنها أن تشكل مدارس للإدارة الفعالة الأمينة، فالهيئة التي أدارت عملية تقديم المعونات الأسترالية (بخبرات أسترالية) إلى ضحايا التسونامي في اندونيسيا تقدم نموذجا جديرا بالدراسة، وحتى بالاقتداء.
جوقة التهليل للفساد
إن القضاء على الفساد يعتبر أمرا حيويا لتحقيق الازدهار والاستقرار على الرغم من أنه لا يزال يفتقر إلى الشعبية، وعلى الرغم من تزايد الدلائل التي تشير إلى أن الكسب غير المشروع سرطان يمكن علاجه، وأن القرارات التجارية بنقل رأس المال والاستثمارات مبنية على تحليلات للواقع السياسي الخطر، وأن العديد من شباب العالم الثالث مهتاجون بحماس ضد السرقة، فإن ذلك لا يمنع من البعد عن تحقيق الانتصار في معركة الأفكار. وستدافع الطبقة المتنعمة بالامتيازات عن مواقعها وامتيازاتها المحصنة، وستحتج على انفتاح التجارة والاستثمار والأفكار، وستلهج ألسنتها بشجب العولمة. وما دامت المعركة مستمرة بين الفردانية والجماعية فإن جوقة التهليل للفساد ذات المصالح الشخصية يمكنها الاعتماد على أساس فكري؛ فالفاسدون قادرون على إخفاء تعاملاتهم بشكل طبيعي خلف دوافع نبيلة مزعومة حينما لا يكون هنالك إلا قلة من ذوي الثقافة العالية، ومع إخضاعهم لوسائل الإعلام لن تكون الحياة السياسية شفافة، وسيسهل عليهم الحصول على الأموال بسبب الثروة القادمة من الموارد الطبيعية أو المعونات الأجنبية الغزيرة. وعندما يواجه القادة باتهامات الفساد فإنهم يلجؤون إلى افتعال الشعور بالإهانة وتوجيه اللوم إلى جهات أجنبية: من استثمارات وإعلاميين ومراكز أبحاث؛ ففي الدول التي تتصف بغياب الحرية ومحدودية المستوى التعليمي يسهل على النخب الحاكمة أن تتفادى الانتقادات وتستمر في مقاومتها لدعوات التغيير.
إن المقارنات الدولية، كمؤشر تمييز الفساد، تقدم دليلا قيما وتجهز القادة السياسيين الشرفاء على الصعيد المحلي والخارجي بسلاح قوي في حلبة الصراع ضد سرطان الفساد.اضغط هنا لتحميل نسخة بي دي إف من التقرير

cubex14 مايو، 20120

الانسجام
لاو تزو
اقضِ على الحاكم، وتخلص من تعاليمه، وسيكون الناس أفضل حالا بكثير.
من دون قانون أو إجبار سيعيش الناس في انسجام.
كل الأشياء تحتوي الين واليانغ، وهي تحقق الانسجام من خلال تفاعلها مع بعضها البعض.
كلما ازدادت المحظورات أصبح الناس أكثر فقرا.
كلما ازدادت القوانين ازداد اللصوص وقطاع الطرق.
لذلك قال أحد الحكام: ما دمت لا أفعل شيئا فسيتغير الناس من تلقاء أنفسهم، وما دمت أحب الهدوء فسيمضي الناس باستقامة من تلقاء أنفسهم، وما دمت لا أتبع غير طريق الخمول فسيشيع الثراء بين الناس من تلقاء أنفسهم.
يجوع الناس لأن من يحكمهم يأخذ الكثير جدا من محصولهم كضريبة؛ وهذا هو السبب الوحيد للمجاعات. كما إن الناس يصعب تنظيمهم لأن من يحكمهم يتدخل في شؤونهم؛ وهذا هو السبب الوحيد لهذه الصعوبة.

cubex14 مايو، 20120

المثقف والاشتراكية
(1)
في كافة الدول الديمقراطية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا، تجد اعتقادا قويا سائدا مفاده أن للمثقف تأثيرا على السياسة لا يمكن إنكاره. وهو اعتقاد لا شك في صحته إذا كان يتعلق باقتدار المثقف على جعل آرائه في قضايا الساعة تؤثر في الميدان السياسي إلى المدى الذي تستطيع فيه أن تقود صوت الناخب إلى جهة تختلف عما ترتئيه الآراء السائدة لدى الجماهير، لكن النظر بعين تهتم بتاريخ هذه الظاهرة في العصور الغابرة التي استغرقت آجالا تتجاوز عمر عصرنا الحالي، يصل بنا إلى الاستنتاج بأن المثقفين ربما لم يتمتعوا أبدا بمثل هذا التأثير الكبير الذي نلاحظه في أيامنا هذه في الدول الديمقراطية، وهي القوة التي يمتلكونها بفعل قدرتهم على تشكيل الرأي العام.
على ضوء أحداث التاريخ المعاصر يبدو من المثير للفضول نوعا ما أن لا نجد حتى الآن اعترافا عاما بوجود هذه القوة الحاسمة في أيدي مجموعة من المحترفين بالتداول الثانوي بالأفكار؛ والتطور السياسي للعالم الغربي خلال مئة عام مضت يرسم لنا أوضح صورة عن واقع الحال؛ فالاشتراكية لم تكن في بدايتها حركة في صفوف الطبقة العاملة في أي مكان أو زمان؛ إذ لا تقدم بأي شكل من الأشكال علاجا واضحا لأي مفسدة واضحة تجاوبا مع حاجة ملحة تقتضيها مصالح تلك الطبقة، وإنما هي بنية شيّدتها أفكار استمدها المنظرون من توجهات محددة للفكر المجرد الذي ظل لمدة طويلة منحصرا باهتمام المثقف فحسب، وتطلبت هذه البنية جهودا مديدة من المثقفين قبل أن تقتنع الطبقات العاملة بتبنيها كبرنامج عمل.
في جميع الدول التي اتبعت المسار الاشتراكي، كانت هنالك مرحلة تسبق بسنوات عديدة مرحلة التطورات التي جعلت الاشتراكية عاملا حاسما في العملية السياسية، وهي مرحلة هيمنت فيها القيم الاشتراكية العليا على تفكير أكثر المثقفين نشاطا؛ ويمكن القول بأن ألمانيا وصلت إلى هذه المرحلة في نهاية القرن التاسع عشر، ووصلت بريطانيا وفرنسا إليها إبان الحرب العالمية الأولى تقريبا. ويمكن للمتتبع العادي أن يرى في المشهد الحالي للولايات المتحدة وكأنها قد وصلت إلى هذه المرحلة بعد الحرب العالمية الثانية وأن جاذبية النظام الاقتصادي الذي يخضع للتخطيط والتوجيه تتمتع في الوقت الراهن بقوة في صفوف المثقفين الأمريكيين تضاهي في شدتها أقصى ما وصلت إليه بين أقرانهم الألمان أو الانجليز. إن الخبرة تقول بأن بلوغ هذه المرحلة يعني أن الزمن لوحده هو الذي يفصلها عن مرحلة تحول الآراء التي يعتقد بها سياسيو اليوم إلى قوة سياسية مهيمنة غدا.
إن طابع العملية التي يجري وفقها تأثير المثقف على سياسة الغد يتصف، لذلك، بأنه أكثر من مصلحة أكاديمية، فسواء أكان ذلك يتعلق بمجرد رغبتنا لتوقع حدوث تأثير ما في مجرى الأحداث، أو محاولة إيقاع هذا التأثير، فإنه يعد عاملا ذا أهمية تتجاوز بكثير المستوى الذي يتبوؤه ضمن الفهم المعهود؛ فما يبدو للمراقب المعاصر في وقتنا هذا كمعركة بين المصالح المتضاربة ليس في حقيقته إلا أمرا يتقرر في العادة قبل أمد بعيد من انحصار صراع الأفكار في دوائر ضيقة. ومع ذلك فإن تناقضا شديدا يكمن في موقف أحزاب اليسار بشكل عام، والتي قامت فعلا ببذل أقصى جهودها لنشر اعتقاد مفاده بأنها كانت القوة البشرية الداعمة للمصالح المادية المعارضة التي فرضت رأيها في القضايا السياسية، ولكن الواقع يشهد بأن هذه الأحزاب نفسها عملت بصورة منتظمة وناجحة وكأنها تفهم المكانة الجوهرية للمثقف. وسواء أكان ذلك ناتجا عن تخطيط مسبق أم عن انسياق مع وطأة الظروف المحيطة، فقد استطاعت تلك الأحزاب دائما أن توجه جهدها الرئيسي في اتجاه الحصول على دعم هذه «النخبة»، بينما عملت المجموعات الأكثر محافظية، وبالانتظام نفسه دون إحراز نجاح مماثل، وفق منظور أكثر سذاجة عن الديمقراطية الجماهيرية، وحاولت، بشكل مباشر عادة ودون جدوى، أن تصل إلى الناخب كفرد وتحاول إقناعه بطروحاتها.
(2)
بالرغم مما سبق، فإن مصطلح «المثقف» لا يقدم بشكل مباشر صورة حقيقية للفئة الواسعة التي نشير إليها بهذا المصطلح، كما إن حقيقة عدم توفر مصطلح أفضل للإشارة إلى ما دعوناه «التداول الثانوي بالأفكار» لا ترقى أبدا لمنزلة أسباب عدم القدرة على فهم سلطة المثقف بشكل أفضل. وحتى من يستخدم مصطلح «المثقف» بشكل خاطئ فإنه يميل إلى الامتناع عن استخدامه للإشارة إلى من يؤدي دون شك الوظيفة النمطية «للمثقف»، أي: المفكر الأصلي أو العالم أو الخبير بحقل خاص من حقول الفكر؛ فالمثقف النمطي لا ينبغي عليه أن يكون أيا منهما: فلا حاجة لامتلاكه معرفة خاصة بأي حقل معين، كما لا حاجة لأن يكون ذكيا بشكل خاص، وذلك كي يؤدي دوره كوسيط في عملية نشر الأفكار؛ فما يؤهله لوظيفته هو المدى الواسع من الموضوعات التي يمكنه الحديث أو الكتابة عنها مباشرة، بالإضافة إلى موقع أو عادات يصبح من خلالها قادرا على الإلمام بأفكار جديدة قبل أولئك الذين يقدم لهم نفسه.
قبل أن نتمكن من سرد كافة المهن والنشاطات التي تندرج ضمن هذا التصنيف، فمن الصعب أن ندرك ضخامته، وكيف يتوسع مداه باستمرار في المجتمع الحديث، وكيف أصبحنا جميعنا معتمدين عليه. إن هذا التصنيف لا يتكون فحسب من محامين أو معلمين أو رجال دين أو محاضرين أو إعلاميين أو محللين إخباريين أو روائيين أو رسامي كاريكاتير أو فنانين، فكل منهم قادر على أن يبرع في تقنية نقل الأفكار ولكنه في العادة من الهواة عندما يتعلق الأمر بماهية المادة المنقولة. كما إن هذا التصنيف يتضمن الكثير من المحترفين والتقنيين، كالعلماء والأطباء، والذين يصبحون من خلال تعاملهم اليومي مع الكلمة المكتوبة حملة لأفكار جديدة خارج حقولهم الخاصة بهم، والذين تصغي لهم معظم الآذان بفضل معارفهم الخبيرة بحقول اختصاصهم. إن الإنسان العادي في وقتنا هذا يكاد لا يعلم إلا القليل عن الأحداث أو الأفكار من أوساط أخرى غير هذه الفئة؛ وبهذا نكاد نكون جميعا وفق هذا الاعتبار أناسا عاديين عندما يتعلق الأمر بما هو خارج اختصاصات عملنا، ونعتمد في استحصال المعلومات والإرشادات على من يجعل وظيفته مواكبة آخر مستجدات الآراء. وبهذا المعنى يكون المثقف هو الذي يقرر أي الآراء التي ينبغي أن تصلنا، وأي الحقائق التي تكون مهمة بما يكفي ليتم إخبارنا بها، وبأي شكل ومن أية زاوية يجب عرضها؛ أما العلم بنتائج عمل الخبير أو المفكر الأصلي الذي أنتج الأفكار فهو خيار يعتمد أساسا على قرار هذا الشخص.
ربما لا يكون الفرد العادي ملما تماما بالحد الذي يمكن لهذه الفئة أن تصل إليه في الترويج لسمعة شخص ما على المستوى الشعبي، حتى إن كان هذا الشخص عالما أو خبيرا؛ وهو يقع حتما فريسة لآثار آرائها في موضوعات ليس لها إلا صلة ضئيلة بفوائد الإنجازات الحقيقية. ومن المهم في هذا المجال خصوصا أن نشير إلى أن كل عالم من العلماء قادر على أن يعدد في حقل اختصاصه عدة أسماء لأشخاص حازوا على سمعة شعبية كعلماء عظام دون أن يكونوا جديرين بها إلا في أعين المثقفين الذين أنزلوهم هذه المنزلة أساسا بسبب امتلاكهم لما اعتبروه آراء سياسية «تقدمية»؛ ورغم ذلك فإنني سأقدم مثالا واحدا عن سمعة علمية مزيفة حازها لأسباب سياسية عالم ذو ميول أكثر محافظية. إن عملية (صناعة السمعة) هذه التي يقوم بها المثقف ذات أهمية خاصة في المجالات التي لا تكون فيها نتائج دراسات الخبراء مخصصة للاستخدام من قبل خبراء آخرين، وإنما تعتمد على القرار السياسي الشعبي على المدى الأوسع. وليس هنالك من صورة أوضح لهذه الظاهرة من الموقف الذي اتخذه خبراء الاقتصاد أمام نمو معتقدات بعينها كالاشتراكية أو الحمائية؛ إذ ربما لم تظهر أبدا في السابق أغلبية من الاقتصاديين، والذين يعترف بهم زملاؤهم كاقتصاديين، تؤيد الاشتراكية (أو الحمائية وفق هذا الاعتبار) كما يحصل الآن، كما يمكن القول بثقة تامة أيضا أننا لم نشهد من قبل أبدا مثل هذه النسبة الكبيرة أيضا من الطلاب الذين يعارضون الاشتراكية (أو الحمائية) كقرار واع. ويتبوأ هذا الأمر أهمية كبرى في يومنا هذا لأن من المحتمل جدا أن تكون مصالح المخططات الاشتراكية قد انتبهت إلى أن الرغبة في الإصلاح تقود المرء إلى أن يتخذ الاقتصاد مادة للاختصاص. ومع ذلك فإن ما يسود اليوم من آراء ليس من نتاج الخبراء، وإنما أنتجته أقلية ليست ذات قدم ثابتة في هذا الاختصاص، ولكن المثقفين تبنوا آراءها وعملوا على نشرها.
إن التأثير الكبير الذي يمتلكه المثقف في كافة أرجاء المجتمع المعاصر يتلقى قوة إضافية بفضل الأهمية المتنامية «للتنظيم». ومن الاعتقادات الشائعة، وربما الباطلة، أن زيادة التنظيم تؤدي إلى زيادة تأثير الخبير أو المختص؛ إذ قد يكون هذا الاعتقاد صحيحا إذا كان المدير أو من يقوم على عملية التنظيم من الخبراء (في حال وجوده أصلا)، ولكنه لا يكاد يصح عن الخبراء في أي مجال معين من مجالات المعرفة. فضلا عن ذلك، فإن زيادة التنظيم تؤدي إلى زيادة تأثير الشخص الذي يفترض بمستواه المعرفي العام أن يؤهله لتقدير رأي الخبير، والتحكيم بين الخبراء في المجالات المختلفة. لكن النقطة المهمة هاهنا تتمثل في أن العالم الذي يصبح رئيسا للجامعة، أو مسؤولا عن إدارة معهد أو مؤسسة، أو ناشطا في الترويج لمنظمة ذات هدف خاص، تجده يتوقف حينها سريعا عن كونه عالما أو خبيرا ليصبح (مثقفا) بالمعنى الذي أوردناه: شخصا يحكم على الأمور كلها لا من منطلق مزايا محددة، وإنما بحسب الطبيعة النمطية للمثقف، أي بالاعتماد أساسا على مجموعة محددة من الأفكار العامة الرائجة في وقتها. إن عدد أمثال هذه المؤسسات التي تنتج هؤلاء المثقفين وتزيد من عددهم وقوتهم في تكاثر مستمر؛ إذ يكاد يكون جميع «الخبراء» بمجرد تقنية الحصول على المعلومات، وذلك بحسب الموضوع التي تتعلق به هذه المعلومات، هم من المثقفين، لا من الخبراء.
بحسب المفهوم الذي طرحناه للمثقف في بحثنا هذا، يكون (المثقف) في حقيقته ظاهرة جديدة تماما في مجرى التاريخ؛ فعلى الرغم من أنك لا تجد أحدا يأسف على الأيام التي كان فيها التعليم حكرا على الطبقات الغنية، فإن هنالك أمرين يعرضهما لنا الواقع ويحتلان أهمية لفهم دور المثقف، وهما: أن الطبقات الغنية لم تعد الأفضل من الناحية التعليمية، وأن العدد الكبير ممن يدينون بمواقعهم للتعليم العام لا يمتلكون خبرة تشغيل النظام الاقتصادي التي تتأتى من خلال إدارة الملكية. فالبروفيسور شومبيتر، والذي خصص فصلا جليا من كتابه (الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية) لمناقشة بعض أوجه قضيتنا مدار البحث، لم يخرج عن الإنصاف عندما شدد على الفارق الذي يميز المثقف النمطي عن باقي الناس الذين يمتلكون أيضا قوة الكلمة المسموعة والمكتوبة، وهو غياب المسؤولية المباشرة عن الشؤون العملية وما يتلو ذلك من غياب (التداول الأولي للمعرفة). لكن من المستبعد هنا أن نصل إلى تناول قضية تطور هذه الطبقة ومناقشة الادعاء الذي تقدم به أحد منظريها مؤخرا ومفاده أن هذه الطبقة كانت الوحيدة التي لم تتعمد تأثر آرائها بمصالحها الاقتصادية. وإنما سيكون من النقاط المهمة التي نحللها في مثل هذا البحث: تقصي المدى الذي بلغه نمو هذه الطبقة كنتيجة للمحفز المصطنع الذي وفرته قوانين حماية الملكية الأدبية.(1)
1.قد يكون من المثير للاهتمام أن نكتشف المدى الذي تصل إليه الآراء الجادة الناقدة للمنافع التي يعود بها هذا القانون على المجتمع، أو الإفصاح عن الشكوك في المصلحة العامة من وجود طبقة تعتاش من تأليف الكتب، وذلك في حجم الفرص المتاحة لها في مجال التعبير عنها في مجتمع يهيمن على قنوات التعبير فيه أناس لهم مصلحة شخصية في الوضع القائم.(الكاتب)
(3)
ليس من المفاجئ أن نرى الازدراء الذي يشعر به العالم الحقيقي أو الخبير الحقيقي أو من يتداول مع شؤون الحياة بواقعية إزاء المثقف، وعدم استعدادهم للاعتراف بسلطته، واستياءهم عند اكتشافها؛ فكل واحد منهم ينظر إلى المثقف في معظم الأحيان على أنه الشخص الذي لا يفهم أي شيء لوحده على نحو جيد، ولا يبدي علامات الحكمة الخاصة عندما يقدر الأمور التي يفهمونها. ولكن الحط من سلطة المثقفين على هذا الأساس يعد خطأ قاتلا؛ فحتى وإن كانت معارفهم سطحية وذكاؤهم محدودا في الغالب، فإن هذا لا يغير شيئا من حقيقة مفادها أن تقديرهم للأمور هو الذي يهيمن بشكل رئيسي على تحديد الرؤى التي سيتصرف المجتمع على أساسها بعد أمد غير بعيد. وليس من المبالغة القول بأنه ما أن يتحول الجزء الأكثر نشاطا من المثقفين إلى اعتناق مجموعة من المعتقدات فإن العملية التي يتم من خلالها قبول هذه المعتقدات على المستوى العام لا تكاد تلقى أي مقاومة وتمضي في سيرها بشكل آلي. إن هؤلاء المثقفين هم الأعضاء التي طورها المجتمع الحديث لنشر المعرفة والأفكار، ومعتقداتهم وآراؤهم هي التي تعمل كجهاز تصفية يجب أن تمر عليه كافة المفاهيم الجديدة قبل أن تجد طريقها إلى الجماهير.
إن من طبيعة وظيفة المثقف أنه يجب عليه استخدام معارفه ومعتقداته الخاصة في أداء مهمته اليومية. إنه يحتل موقعه لأنه يمتلك المعرفة التي لا يمتلكها رئيسه في العمل، أو لأنه يتوجب عليه التعامل يوميا مع هذه المعرفة، ولهذا يمكن لنشاطاته أن تنقاد للتوجيه إلى مدى محدود فقط. ولمجرد أن المثقفين في الغالب منصفون فكريا، فمما لا شك فيه أنهم سوف يتبعون ما تمليه عليهم معتقداتهم متى ما حصلوا على الصلاحيات اللازمة وأنهم سوف يحرفون كل ما يقع في أيديهم بما يتماشى مع هذه المعتقدات. وحتى وإن كان اتجاه السياسة المتبعة في قبضة مجموعة ذات ميول مختلفة، فإن تنفيذ هذه السياسة سوف يقع عموما في أيدي المثقفين، وفي كثير من الأحوال تتحدد النتيجة النهائية للعمل بحسب القرارات المتعلقة بتفاصيله. إننا نكاد نجد هذه الظاهرة بادية للعيان في كافة مجالات المجتمع المعاصر؛ حيث ترى صحفا يملكها «الرأسماليون»، وجامعات تديرها مجالس «رجعية»، وأجهزة إعلامية تمتلكها دول محافظية، وقد عرف عنها تأثيرها على الرأي العام باتجاه الاشتراكية، وذلك لأن الاشتراكية هي المبدأ الذي يعتقده العاملون في هذه المؤسسات. لقد حدثت هذه الظاهرة على الرغم من محاولات إدارات هذه المؤسسات أن تتحكم بالآراء وتفرض المبادئ المتشددة، وربما كانت هذه الممارسات سببا في حدوث الظاهرة أصلا.
إن الجماهير لوحدها ليست المتأثر الوحيد أبدا بعملية (التصفية) تلك التي تجري وفق معتقدات فئة تميل مبدئيا إلى آراء محددة؛ فالخبير لا يقل عنها اعتمادا على المثقفين في ما يقع خارج حقل اختصاصه ونادرا ما يكون أقل تأثرا باختياراتهم، وينتج عن هذا أنك ترى اليوم في معظم أرجاء العالم الغربي أشد معارضي الاشتراكية وهم يستمدون معارفهم من مصادر اشتراكية في معظم المجالات التي لا يمتلكون فيها معلومات أصيلة. إن العديد من المبادئ العامة للفكر الاشتراكي لا تبدو بالوضوح الفوري ذاته عندما تكون على صورة مقترحات عملية، ونتيجة لذلك تجد العديد ممن يرون في أنفسهم معارضين صلبين للاشتراكية وقد تحولوا في الواقع إلى مروجين لأفكارها. ومن منا لم يصادف شخصا عمليا يشجب الاشتراكية في ميدان عمله باعتبارها «العفن الفتاك»، وعندما يتجاوز هذا الميدان تجده يثرثر عنها دون توقف كأي صحفي يساري؟!
لا يمكنك أن تجد ميدانا تحس فيه بقوة هيمنة تأثير المثقفين الاشتراكيين كما حصل في التلاقي ما بين الحضارات القومية المختلفة خلال السنوات المئة الماضية. وقد نخرج عن مجال بحثنا إذا رغبنا بتقصي أسباب وأهمية الحقيقة التي تطرح نفسها بقوة ومفادها أن المثقفين يكادون يطرحون في العالم الحديث الأسلوب الوحيد للتعامل مع المجتمع الدولي. إن هذا الأمر يفسر المشهد الغريب الذي يبدو فيه الغرب «الرأسمالي» وهو يقدم الدعم المادي والمعنوي لوحده تقريبا إلى الحركات الايديولوجية في دول شرق أوروبا والتي تهدف إلى تدمير الحضارة الغربية، وكذلك تجد في الوقت نفسه عموم الغربيين يستمدون معلوماتهم عن أحداث أوروبا الوسطى والشرقية بعد أن تتعرض حتما لتأثير الانحياز إلى الاشتراكية؛ وهنالك أمثلة معاصرة واضحة عن هذا الميل في العديد من الأنشطة «التثقيفية» للقوات الأمريكية في ألمانيا.
(4)
بعد ما أوردناه تتبين لنا الأهمية القصوى للحصول على فهم جيد للأسباب التي يبدو أنها تقف خلف ميل هذا العدد الكبير من المثقفين إلى الاشتراكية. وأول نقطة يلاحظها بوضوح أولئك الذين لا يتشاركون الميل الاشتراكي تتمثل في أن هؤلاء المثقفين لم يتحركوا نحو الاشتراكية بسبب مصالح أنانية أو نوايا شريرة، بل تندرج معظم دوافعهم في خانة المعتقدات المخلصة والنوايا الخيّرة التي تحدد آراءهم. وفي الحقيقة، من الضروري الاعتراف بشكل مجمل بأن المثقف النمطي في هذه الأيام يميل أكثر إلى أن يكون اشتراكيا كلما كانت تقوده النوايا الطيبة والذكاء، وإذا ناقشنا القضية من مستوى نقاش المثقف المجرد فإنه سيكون قادرا في العموم على صياغة حجج تخدم طروحاته بما يتفوق على مثيلاتها لدى أغلبية معارضيه الذين ينتمون إلى الطبقة نفسها (المثقفين). وإذا استمرت تخطئتنا لهذا المثقف، فينبغي علينا أن نعترف بأن هنالك خطأ جوهريا ربما أدى إلى توجيه أشخاص أذكياء ذوي نوايا حسنة وفي مواقع مهمة اجتماعيا إلى نشر أفكار تبدو لنا كخطر يتهدد حضارتنا.(2) ولا يمكن لأي شيء أن يكون أكثر أهمية من محاولة فهم مصدر هذا الخطأ كي نكون قادرين على مواجهته، ولكن الذين يُعتبرون ممثلي النظام القائم ويعتقدون بأنهم يستوعبون مخاطر الاشتراكية تجدهم دائما بعيدين جدا عن حيازة هذا الفهم؛ وإنما يميلون إلى اعتبار المثقفين الاشتراكيين مجرد حفنة خبيثة من المتشددين ذوي الاطلاع الكبير دون تقدير حجم نفوذهم، ويتجهون إلى دفعهم أكثر في صفوف معارضة النظام القائم بسبب موقفهم هذا.
2.ولهذا السبب رأى البروفيسور شومبيتر في عرضه لكتابي (الطريق إلى العبودية) أن أهمية هذا الطرح هي التي دفعتني إلى أن أكاد لا أعزو لمن يعارضني غير (أخطاء المثقفين)، دون أن يكون ذلك ناتجا عن تأدبا مني تجاه هذه الأخطاء.(الكاتب)
إذا أردنا استيعاب هذا الانحياز الخاص بين جزء كبير من المثقفين ينبغي علينا أن نمتلك فهما واضحا لنقطتين اثنتين: الأولى هي أنهم يحكمون على كل القضايا التخصصية بشكل عام من منطلق منحصر بأفكار عامة ذات صبغة محددة، والثاني أن الأخطاء النمطية لكل عصر كثيرا ما تكون مشتقة من بعض الأفكار الأصيلة الجديدة التي تكتشف فيه، بالإضافة إلى تطبيقات خاطئة لتعميمات جديدة أثبتت قيمتها في مجالات أخرى. إن الاستنتاج الذي ينبغي أن نصل إليه بعد الاستيعاب الكامل لهذه القضايا يتمثل في أن تفنيد مثل هذه الأخطاء كثيرا ما يتطلب تقدما فكريا أكبر، وغالبا ما يكون هذا التقدم في نقاط شديدة التجريد وتبدو كثيرة البعد عن الشؤون العملية.
ربما تتمثل أهم المميزات الشخصية للمثقف في أنه يحكم على الأفكار الجديدة لا من خلال قيم محددة وإنما من خلال مدى استعداد هذه القيم للتلاؤم مع مقاسات مفاهيمه العامة، وذلك ضمن صورة للعالم الذي يعتبره حديثا أو متقدما. إن قوة أفكار الخير والشر تنمو لديه من خلال تأثيرها عليه وعلى ما يختاره من آراء في قضايا محددة وذلك بالتناسب مع ما بها من تعميم وتجريد وغموض. وبما أنه يعلم القليل عن كل قضية على حدة، فإن معاييره في التعامل معها سوف تنسجم مع آرائه الأخرى وملاءمتها للانضمام إلى صورة متكاملة عن العالم. ولكن هذا الاختيار الذي يرتئيه من بين مجموعة من الأفكار الجديدة التي تواجهه في كل لحظة من لحظات الحياة يخلق مناخا نمطيا من الآراء، أو ما يدعى بـ(الرؤية الشاملة) في كل حقبة زمنية، والتي تؤدي إلى توفير الأجواء التي تشجع على استقبال أفكار بعينها دون غيرها مما يجعل المثقف مستعدا لقبول استنتاج بعينه ورفض آخر دون أن يكون على فهم حقيقي للقضية المطروحة.
بالنظر إلى بعض الاعتبارات يكون المثقف في الواقع أقرب إلى الفيلسوف من أي اختصاص آخر، كما إن الفيلسوف يتبوأ منزلة الأمير بين المثقفين بأكثر من وجه، وعلى الرغم من أن تأثيره أبعد عن الشؤون الحياتية من المثقف العادي، وبالتالي فهو أبطأ منه وأصعب في العثور عليه وتمييزه من بين الآخرين، فإنهما يتشابهان على المدى البعيد وربما يكون تأثير الفيلسوف حينها أشد من تأثير المثقف. إنهما يخوضان الرحلة ذاتها، وإن كان أحدهما يستخدم منهجية بحثية أدق تجاه الحصول على التقييم المصطنع نفسه حول آراء معينة ما دام ذلك يتلاءم مع منظومة فكرية عامة، وليس قيما محددة يعتنقها، وذلك ضمن السعي نفسه نحو (رؤية شاملة) متماسكة تشكل لكليهما قاعدة أساسية لقبول الأفكار أو رفضها. ولهذا السبب تجد أن الفيلسوف قد يمتلك تأثيرا أكبر على المثقفين بالمقارنة مع أي عالم أو مختص آخر، وهو يقوم أكثر من أي شخص آخر بتحديد النمط الذي يمارس المثقفون من خلاله وظيفة الرقابة. ولا يمكن للتأثير الشعبي للمختص في أحد مجالات العلوم أن يبدأ بمنافسة تأثير الفيلسوف إلا حينما يتوقف هذا المختص عن كونه مختصا ويبدأ بالتفلسف حول تقدم مادة تخصصه، وفي العادة لا يكون ذلك إلا عندما يلتف حوله المثقفون لأسباب ليس لها إلا علاقة ضئيلة بمكانته العلمية.
إن «مناخ الآراء» في أية حقبة زمنية هو بالضرورة، بحسب ما سبق، مجموعة من التصورات المسبقة التي يستخدمها المثقف في تقييم أهمية الحقائق والآراء الجديدة. وهذه (التصورات المسبقة) هي في الأساس تطبيقات لما يبدو له من أهم جوانب الإنجازات العلمية، وهو الانتقال إلى مجالات أخرى تطال أعمال المختصين التي تركت فيه انطباعا خاصا. ويمكننا هنا أن نورد قائمة طويلة بالممارسات والعبارات الشائعة التي هيمنت على تفكير المثقفين طيلة جيلين أو ثلاثة؛ ويدخل في هذه القائمة: «المقاربة التاريخية»، ونظرية التطور، ونظرية الحتمية في القرن التاسع عشر، والإيمان بالتأثير المهيمن للبيئة مقابل تأثير الوراثة، ونظرية النسبية، والإيمان بقوة اللاوعي… كل واحد من هذه المفاهيم العامة أصبح حينها معيارا تقارن به الإبداعات الجديدة في مختلف المجالات. ويبدو هنا أن هذه الأفكار كلما كانت أقل تحديدا أو دقة (أو أقل فهما) زاد تأثيرها، وفي بعض الأحيان تجد تأثيرا كبيرا ينبع عن مجرد انطباع غامض، وبهذه الطريقة تأثرت عملية التطور السياسي تأثرا فادحا بفعل أفكار من أمثال: أن التحكم القصدي أو التنظيم الواعي يمكنه أن يتفوق في الشؤون الاجتماعية على نتائج العمليات التلقائية التي لا يوجهها العقل البشري، أو أن أي نظام يتأسس على خطة مرسومة مسبقا يجب أن يكون أفضل من أي نظام ينتج عن موازنة القوى المتضادة.
ليس هنالك إلا اختلاف شكلي في دور المثقف عندما يتعلق الأمر بعملية تطوير أفكار اجتماعية أكثر اكتمالا؛ فهنا تعبر ميولهم الخاصة بهم عن نفسها في التشدق بعبارات إلهائية، وعقلنة طموحات معينة تنشأ من التصرفات البشرية الطبيعية وإيصالها إلى حالة متطرفة. وبما أن الديمقراطية أمر جيد، فكلما أمكن الدفع بعجلة المبدأ الديمقراطي كلما كان ذلك أفضل في نظرهم. إن أقوى هذه الأفكار العامة التي طبعت التطورات السياسية المعاصرة بطابعها الخاص هي دون شك فكرة السعي إلى المساواة المادية، وهي فكرة تتميز بأنها ليست من المعتقدات الأخلاقية التي نمت تلقائيا بعد تطبيقها أولا على العلاقات التي تربط أفرادا بعينهم، ولكنها بنية فكرية نشأت من مفاهيم مجردة ويشوبها الغموض من ناحيتي معناها وأمثلة تطبيقها في حالات خاصة؛ ومع ذلك تجدها اليوم وقد فعلت فعلها بقوة على أساس أنها مبدأ تم اختياره من بين عدة مناهج بديلة في السياسة الاجتماعية، لتمارس ضغطا مستمرا تجاه ترتيب الشؤون الاجتماعية على نحو لا يمتلك أحد رؤية واضحة له. وإذا كان هنالك إجراء يبدي علامات تحقيق قدر أكبر من المساواة فهذا يعني أنه يتبوأ منزلة التوصية الأولى التي لا يكاد يلقى لغيرها أي بال. وبما أن كل القضايا أصبح ينظر إليها من هذا الجانب من قبل القائمين على توجيه الرأي العام، تمكنت فكرة المساواة من تحديد مسار التغيير الاجتماعي، حتى أنها بلغت من القوة في ذلك حدا تجاوز ما خطط له الداعون إليها.
إن القيم الأخلاقية ليست وحدها في التصرف وفق هذا المسلك؛ إذ نجد أحيانا أن مواقف المثقفين تجاه مشاكل النظام الاجتماعي تتولد من الاكتشافات العلمية الجديدة لوحدها، وفي هذا الحال يكون للآراء الخاطئة في قضايا وأوقات معينة ما يبدو أنه المكانة المرموقة للإنجازات العلمية الأخيرة التي سبقتها. وليس من المدهش في حد ذاته أن نجد إنجازا علميا أصيلا قد تحول بهذه الطريقة إلى مصدر يتولد منه خطأ جديد. وإذا لم تتولد استنتاجات خاطئة من تعميمات جديدة فعندها تكون حقائق نهائية لا تحتاج لأي مراجعة أبدا. وعلى الرغم من أن القاعدة تقول بأن أمثال هذه التعميمات الجديدة سوف تكتفي بتقاسم العواقب الخاطئة التي يمكن أن تتولد منها مع الآراء التي كان يعتقد بها سابقا، وهكذا فإنها لا تؤدي إلى خطأ جديد، فمن المحتمل بشدة أن تقوم النظرية الجديدة، وبنفس الطريقة التي تتضح فيها قيمتها بما تقدمه من استنتاجات جديدة مقبولة، بإنتاج استنتاجات منطقية أخرى تؤدي الإنجازات العلمية التالية إلى كشف بطلانها، ولكن هذا الحال سيكشف عن وجود معتقد خاطئ يظهر مترافقا مع المكانة المرموقة للمعرفة العلمية الأخيرة التي تدعمه، حتى وإن كان المجال التخصصي الذي يستند إليه هذا المعتقد متناقضا معه، فهو يظهر كرأي ليس له مثيل في توافقه مع روح العصر إذا خضع لتقييم محكمة المثقفين والأفكار التي تتحكم بتفكيرهم. وهكذا فإن الخبراء الذين سيفوزون بالشعبية بين الناس والتأثير الواسع عليهم لن يكونوا ممن يحوز على اعتراف أقرانهم بمكانتهم هذه، وإنما سيظلون دائما من الذين ينعتهم الخبراء بصفات من قبيل: غريبي الأطوار أو الهواة أو المزيفين، ولكنهم سيصبحون في أعين الناس أفضل الخبراء في مجالاتهم.
يمكن أن يكون هنالك بشكل خاص قليل من الشك حول ما إذا كانت الطريقة التي تعلم الإنسان استخدامها خلال السنوات المئة الماضية لتنظيم قوى الطبيعة قد أسهمت بشكل كبير في نشوء اعتقاد مفاده أن مثل هذه السيطرة في مجال القوى الاجتماعية يمكنها أن تؤدي إلى إدخال تحسينات مشابهة على حياة الإنسان؛ وإذا أضفنا إلى ذلك تطبيق تقنيات الهندسة، فسيكون من المفترض وفق هذا الطرح أن يؤدي توجيه كافة أوجه النشاط البشري وفق خطة متماسكة واحدة إلى تحقيق النجاح في المجتمع بمثل ما يكون عليه النجاح الذي يحققه ما لا يحصى من المشاريع الهندسية، وهو استنتاج شديد الخداع يستدرج أولئك الذين تبهرهم إنجازات العلوم الطبيعية. هنا يجب علينا أن نعترف بأمرين اثنين: أن مواجهة الافتراض القوي الذي يدعم هذا الاستنتاج تحتاج إلى حجج متينة، وأن هذه الحجج لم يتم التعبير عنها حتى اليوم بما يكفي، إذ لا يمكن الاكتفاء بالإشارة إلى عيوب طرح معين بالاستناد على هذا النوع من المحاججة العقلية، فالحجة لن تخسر قوتها حتى يكون هنالك عرض حاسم للأسباب التي تجعل ما شهد الواقع بنجاحه المؤزر في إنتاج الإنجازات أمرا يتطلب وضع حدود لنفعه في كثير من المجالات، ويفرز ضررا واقعا إذا ما تعدى هذه الحدود. إن هذه مهمة لم تُنجَز حتى الآن بالشكل الكافي، وسيكون من اللازم إنجازها قبل أن تخمد الحركة الحالية المناوئة للاشتراكية.
إن ما طرحته لا يمثل دون شك غير مثال واحد من أمثلة كثيرة عن الحاجة إلى تقدم فكري إذا ما رغبنا في دحض الأفكار الضارة التي تبرز في يومنا هذا، وهي تبين لنا أن البداية المثلى لمهمتنا تكمن في مناقشة قضايا شديدة التجريد. ولا يكفي لمن تهمه شؤون الساعة أن يكون واثقا، وذلك بفضل معرفته الصميمية بمجال معين، بأن الزمن كفيل بإثبات عدم جدوى نظريات الاشتراكية المشتقة من أفكار أكثر تعميما؛ فقد يكون محقا تماما في ذلك، ولكن مقاومته سوف تطغى عليها التحديات وستحدث كافة العواقب السيئة التي تنبأ بحدوثها إذا لم يكن مدعوما بحجج متينة لدحض (الأفكار الأم)، وما دام المثقف قادرا على هزيمة الحجج العامة، فإن أمتن الاعتراضات التي يواجهها في قضية معينة لن تجد من يلقي لها أي بال.
(5)
إن ما طرحناه في ما سبق لا يستوفي كافة مناحي القضية موضوع البحث؛ فالقوى التي تؤثر على عملية تحشيد الناس للانضمام إلى صفوف المثقفين تعمل على النحو ذاته في توضيح سبب ميل هذا العدد الكبير من البارزين فيهم إلى الاشتراكية. ولا شك في أن هنالك الكثير من الاختلاف في الرأي بين المثقفين بالقدر ذاته الذي يوجد في الفئات الأخرى من الناس، ولكن يبدو من الصواب أن نقول إجمالا بأن أكثر المثقفين نشاطا وذكاء وأصالة هم الأكثر ميلا إلى الاشتراكية، أما أعداؤها فيغلب عليهم انتماؤهم إلى منزلة أدنى، وهذا يصح بالأخص خلال المراحل الأولى من تغلغل الأفكار الاشتراكية، أما في ما بعد فعلى الرغم من أن المرء خارج حلقات المثقفين قد يحتاج إلى الشجاعة ليجهر بمعتقداته الاشتراكية، فإن التأثير الضاغط لآراء المثقفين المؤيدة للاشتراكية يصل في الغالب إلى حد من الشدة يجعل المرء بحاجة إلى قدر أكبر من القوة والاستقلالية ليعارض هذه الآراء ولا ينضم إلى ما يعتبره زملاؤه آراء حديثة. وعلى سبيل المثال، لا يمكن لأحد من الملمين بالعدد الكبير من الكليات في الجامعات (بهذا الاعتبار ربما ينبغي علينا أن نصنف الأساتذة الجامعيين كمثقفين لا كخبراء) أن يتجاهل حقيقة مفادها أن أكثر الأساتذة ذكاء ونجاحا في يومنا هذا هم من الاشتراكيين، أما من يعتنقون آراء سياسية أكثر محافظية فيغلب عليهم تواضع المستوى؛ وهذه الظاهرة تكفي لوحدها في قيادة الجيل الشاب إلى معسكر الاشتراكية.
لا شك في أن الإرادة الاشتراكية لا ترى في هذا إلا دليلا على أنه كلما زاد الإنسان ذكاء في يومنا هذا كلما ازداد ارتباطه بالاشتراكية، ولكن هذا الطرح لا يرقى إلى أن يقدم قاعدة راسخة أو شرحا ممكنا؛ فالسبب الرئيسي الذي يكمن خلف هذه الظاهرة قد يتمثل في وجود العديد من الطرق المتاحة للوصول إلى النفوذ والسلطة أمام الشخص القادر استثنائيا على تقبل النظام الاجتماعي الراهن، أما المتذمر والساخط فتمثل له مكانة المثقف الطريق الأمثل للوصول إلى النفوذ والقوة اللذين يساهمان في تحقيق أهدافه العليا. وعلاوة على ذلك: فإن من يكون أكثر محافظية ويتمتع بقدرات متميزة يقوم على الأعم باختيار عمل فكري (وما يستتبع ذلك من تضحية بالعوائد المادية) لمجرد ما به من متعة في حد ذاته، ومن شأن ذلك أن يجعل منه عالما خبيرا وليس مثقفا (بالمعنى الخاص لهذه الكلمة)؛ أما ذوو العقول المتشددة فيغلب عليهم تبوؤهم لمنزلة المثقف باعتبارها وسيلة لا غاية، وطريقا يوصلهم إلى النفوذ الواسع نفسه الذي يتمتع به المثقف المحترف. وهنا قد تكون الحقيقة كما يلي: ليس أغلب الأذكياء هم من الاشتراكيين على الأعم، وإنما توجد نسبة كبيرة من الاشتراكيين ضمن الأذكياء ممن يحشدون جهودهم لمسعى فكري يمنحهم في المجتمع الحديث نفوذا ذا تأثير حاسم على الراي العام.(3)
3.يتصل بهذا الشأن ظاهرة مألوفة أخرى: فليس من المعقول أن نصدق بندرة وجود قدرة فكرية ممتازة لإنتاج أعمال أصيلة لدى غير اليهود مقارنة باليهود؛ بينما لا يوجد شك في أن اليهود يشكلون في كل مكان نسبة لا تضاهى من المثقفين بحسب المعنى الذي أوردناه، أي في منزلة المفسر المحترف للأفكار، وقد يكون ذلك من مواهبهم المميزة، وبالأخص في الدول التي تضع عراقيل تمييزية تمنع مساهمتهم في المجالات الأخرى؛ ومن المرجح أن نسبتهم الكبيرة في صفوف المثقفين ساهمت أكثر من أي سبب آخر في استعدادهم أكثر من غيرهم لتقبل الأفكار الاشتراكية.(الكاتب)
إن اتخاذ القرار بالانضمام إلى المثقفين يرتبط ارتباطا وثيقا بالمصلحة الغالبة التي يظهرونها إزاء الأفكار العامة والمجردة؛ فالأفكار التي تدور حول إمكانية إعادة بناء المجتمع بشكل كامل تقدم للمثقف غذاء يستهويه أكثر من الاعتبارات العملية قصيرة المدى التي يحملها أولئك الذين يسعون إلى تحسين النظام القائم بصورة تدريجية. وبالأخص، تدين الاشتراكية بالفضل في اجتذابها للشباب إلى طابعها الحالم، ومجرد شجاعتها في الانغماس في الفكر الطوباوي يكون بهذا الاعتبار مصدر قوة للاشتراكية تفتقر إليه الليبرالية التقليدية، وهو اختلاف يصب في مصلحة الاشتراكية، وذلك ليس لأن التفكر في المبادئ العامة يوفر فرصة يسرح فيها خيال أولئك الذين لا تنشغل أذهانهم بكثير من معارف الحياة المعاصرة فحسب، وإنما يعود ذلك أيضا إلى أن هذا التفكر يرضي رغبة مشروعة بفهم الأساس العقلاني لأي نظام اجتماعي ويفتح مجالا لممارسة هذه الغريزة البناءة التي لم تدع لها الليبرالية إلا متنفسا ضيقا بعد أن حققت انتصاراتها الكبيرة. وهذه النزعة تجعل المثقف غير عابئ بالتفاصيل التقنية أو الصعوبات العملية، فما يجذبه هو الصورة الكبيرة والاستيعاب الزائف للنظام الاجتماعي ككل وفق ما تعده به المنظومات المخطط لها مسبقا.
إن الحقيقة القائلة بأن أذواق المثقفين أكثر تقبلا لطروحات الاشتراكيين أدت إلى ضرر فتاك على نفوذ الأفكار الليبرالية؛ فعندما ظهر بأن المطالب الأساسية للبرامج الليبرالية قد تمت تلبيتها، توجه المفكرون الليبراليون إلى معالجة مشكلات تفصيلية ونزعوا إلى إهمال تطوير الفلسفة العامة لليبرالية، والتي توقفت بسبب ذلك عن أن تكون قضية حية تقدم مجالا للتنظير العام، وهكذا ظل الاشتراكيون طيلة أكثر من نصف قرن وهم يقدمون لوحدهم ما يشبه برنامجا واضحا للتطور الاجتماعي، وصورة لمجتمع المستقبل الذي يهدفون إليه، ومجموعة من المبادئ العامة التي تقود القرار في مسائل معينة. ولو صح زعمي فإن ما تعانيه مثلهم العليا من تناقضات جوهرية، وفشل أي محاولة لتطبيقها على أرض الواقع في الخروج بنتيجة لا تختلف عن توقعاتهم، لا يغير من حقيقة مفادها أن برنامجهم للتغيير هو البرنامج الوحيد الذي أثر بحق على تطور المؤسسات الاجتماعية. فبما أنهم كانوا من قدم الفلسفة العامة الواضحة الوحيدة للسياسة الاجتماعية التي تعتنقها جماعة كبيرة، والمنظومة أو النظرية الوحيدة التي تسلط الضوء على مشكلات جديدة وتفتح آفاقا جديدة، تمكنوا من النجاح في إلهام مخيلة المثقفين.
إن التقدم الحقيقي للمجتمع خلال تلك الحقبة لم يتقرر على أساس معركة بين القيم العليا المتضاربة، وإنما بالتضاد بين واقع معاش ومثل أعلى يسعى إلى مجتمع مستقبلي احتمالي لا يقدمه للناس غير الاشتراكيين، ولم يكن هنالك إلا القليل جدا من البرامج الأخرى التي قدمت نفسها كبدائل فريدة من نوعها، ذلك أن معظمها لم يكن غير تسويات أو خلائط متناقضة تجمع بين النظام الراهن وأشد حالات الاشتراكية تطرفا. ولم يكن يلزم لإظهار أي طرح اشتراكي بمظهر معقول أمام تلك العقول «الحصيفة» المقتنعة بطبعها بأن الحقيقة يجب أن تكون دائما في الوسط بين الطرفين، غير النصح باتباع طرح أكثر تطرفا. وبدا كما لو أن هنالك جهة واحدة يمكن المضي فيها، وسؤالا واحدا قابلا للطرح، وهو: ما هي سرعة هذه الحركة وإلى أين يمكنها أن تتمادى؟
(6)
يمكن توضيح أهمية ما يمنحه الطابع الاستشرافي للاشتراكية من جاذبية خاصة لها في نظر المثقفين إذا تمكنا من الاستغراق أكثر في مقارنة موقع المنظر الاشتراكي مع ندّه الذي يكون ليبراليا وفق المعنى القديم لمصطلح الليبرالية. وتفيدنا هذه المقارنة أيضا بالحصول على ما يمكن من الدروس التي يحصل عليها من يقوم بتقييم كاف للقوى الفكرية التي تدمر أسس أي مجتمع حر.
وثمة تناقض كبير في أن نرى أحد المعوقات التي تحرم المفكر الليبرالي من النفوذ الشعبي وهو يتصل اتصالا وثيقا مع حقيقة مفادها أن بعده عن الاشتراكية يعطيه فرصة أكبر للتأثير المباشر على قرارات السياسة الراهنة، وبالتالي فهو لا يكون منجذبا فحسب نحو الاستشراف بعيد المدى الذي يمثل مصدر قوة الاشتراكيين، وإنما لا يتشجع لسلوك هذا الدرب الذي يؤدي في العادة إلى تقليص مجال النفع المباشر الذي يمكنه القيام به. إن القوة التي يمتلكها للتأثير على القرارات العملية تتعلق بموقعه ضمن ممثلي النظام القائم، وهذا الموقع يتعرض للخطر إذا كرس جهده للاستشرافات التي تجتذب المثقفين ويمكنه من خلالها أن يتسبب بتطورات في مدد زمنية طويلة. ولكي يستطيع التأثير على القوى الموجودة يجب عليه أن يكون «عمليا» و»عقلانيا» و»واقعيا»؛ فما دام منخرطا بالقضايا الراهنة يمنحه ذلك النفوذ والنجاح المادي والشعبية مع الذين الذي يتشاطرون معه نظرته العامة نوعا ما؛ لكن هؤلاء ليس لديهم إلا القليل من الاحترام للاستشرافات حول المبادئ العامة التي تشكل المناخ الفكري؛ وفي الواقع، إذا أقدم المفكر على الانخراط بجدية في الاستشرافات بعيدة المدى فسيجعله ذلك ميالا إلى اكتساب صيت «فقدان متانة الرؤية» أو أنه شبه اشتراكي، وذلك لأنه غير عازم على ربط النظام الراهن بالمنظومة الحرة التي يسعى إليها.(4)
4.أكثر الأمثلة الراهنة وضوحا عن مثل هذه الإدانة لكتاب ليبرالي نوعا ما بوصمه بالاشتراكية يمكن العثور عليها في بعض التعليقات التي طالت كتاب (السياسة الاقتصادية في مجتمع حر) الذي صدر عام 1948 للكاتب الراحل هنري سيمون. إذ قد لا يتفق القارئ مع الكتاب بالمجمل وربما يعتبر بعض اقتراحاته لا تتوافق مع المجتمع الحر، ولكنه لا بد أن يعترف بأنه من أهم المساهمات الحديثة في موضوعنا وأنه الكتاب الذي نحتاجه تماما لبدء النقاش حول القضايا الرئيسية. وحتى هؤلاء الذي يختلفون بقوة مع بعض طروحاته يجب عليهم أن يستقبلوه كمساهمة تطرح المشكلات المركزية في وقتنا الراهن بوضوح وشجاعة.(الكاتب)
وإذا استمرت جهود المفكر في اتجاه الاستشرافات العامة بالرغم من كل ما أسلفناه، فسيكتشف عاجلا وجود مخاطرة في الارتباط الوثيق جدا بمن يبدو عليهم أنهم يتشاطرون معتقداته، مما يلقيه سريعا في هاوية الانعزال. وفي الواقع لا يمكن أن يوجد الكثير من المهمات التي لا تلاقي التقدير المناسب كما يحصل مع المهمة الضرورية التي تتمثل في تهيئة الأساس الفلسفي الذي يجب أن يبنى عليه تطور أي مجتمع حر. وبما أن من يضع على عاتقه تنفيذ هذه المهمة يتوجب عليه أن يتقبل كثيرا من جوانب الإطار العام للنظام القائم، فإنه سيبدو بذلك أمام الكثيرين من المثقفين الأكثر ميلا إلى الاستشراف وكأنه مجرد تبريري جبان يلتمس الأعذار لبقاء الأمور كما هي؛ وسيتعرض في الوقت نفسه للطرد من القائمين على الأمور لاعتباره منظّرا غير عملي؛ فهو ليس ثوريا بما يكفي لإرضاء أذواق من يفهمون العالم على أساس أن «الأفكار المختلفة يمكنها أن تتعايش بسلام»، ولأنه ثوري جدا في أعين من لا يرون سوى «الصراع العنيف للأشياء في الحيز الواحد». فإذا استغل الدعم الذي يمكنه الحصول عليه من القائمين على الأمور فسيجعله ذلك دون مصداقية أمام الذين يعتمد عليهم لنشر أفكاره؛ وفي الوقت نفسه سيحتاج إلى الحذر الشدبد كي يتفادى كل ما يجعله مثالا للغلو أو المبالغة. وبينما لا يوجد بين المنظرين الاشتراكيين من تسبب بفقدان مصداقيته بين زملائه ولو تفوه بأتفه الطروحات، فإن الليبرالي (من النمط القديم) سيتعرض للعار والبوار إذا قدم اقتراحا غير قابل للتطبيق. ولكنه إذا امتنع عن هذه المحظورات فسيظل أمام المثقفين في منزلة من لا يمتلك ما يكفي من القدرة على الاستشراف أو المغامرة، وسينظرون إلى ما يقترحه من تغيير أو تحسين للبنية الاجتماعية على أنها محدودة بالمقارنة مع ما يمكن أن يتولد عن مخيلتهم الأقل قيودا.
إن البرنامج الليبرالي ليس له أن يتمتع بجاذبية الاختراع الجديد ما لم يكن، على الأقل، ضمن مجتمع توفرت فيه المتطلبات الأساسية للحرية وأصبحت فيه التحسينات الإضافية أمرا يبعث على الاهتمام بنقاط لها قدر مشابه من التفاصيل. إن إدراك قيمة هذه التحسينات التي يجب أن يقدمها هذا البرنامج يتطلب معرفة بآليات عمل المجتمع القائم أكثر مما يمتلكه المثقف العادي. كما إن مناقشة هذه التحسينات ينبغي أن تجري في مستوى أكثر واقعية مما هو موجود في البرامج الأكثر ثورية، مما ينتج خليطا لا يجذب المثقف إلا قليلا ويميل إلى استحضار عناصر يشعر تجاهها بالضدية المباشرة. إن أكثر الناس اطلاعا على آليات عمل المجتمع الراهن يكون مهتما في العادة بالمحافظة على مزايا معينة للمجتمع ربما لا يمكن الدفاع عنها ضمن إطار المبادئ العامة؛ فبخلاف من يسعى إلى نظام مستقبلي جديد تماما ويرجع إلى المنظّر بشكل طبيعي طلبا للتوجيه، يفكر من يعتقد بالنظام القائم عادة بأنه يفهم هذا النظام على نحو أفضل بكثير من أي منظّر، ويميل بالتالي إلى رفض ما يعتبره تنظيريا أو غير مألوف بحسب رأيه.
إن صعوبة العثور على دعم أصيل وموضوعي لسياسة منهجية للحرية ليست بالأمر الجديد. فقد كتب اللورد اكتون منذ أمد بعيد فقرة تذكرني دائما بالكيفية التي تم بها استقبال أحد الكتب التي ألفتها، حيث قال:
لقد كان أصدقاء الحرية المخلصون من الأمور النادرة في جميع العصور، وما حققَتْه الحرية من انتصارات كان بفضل أقليات انتصرت بتضافر جهودها مع عناصر مساعدة اختلفت أهدافها عن أهدافهم؛ وهذا التضافر، وهو خطير دائما، كانت له نتائج مدمرة أحيانا، وذلك من خلال منح الأعداء أرضية عادلة يمارسون عليها معارضتهم…(5)
5.اللورد اكتون: تاريخ الحرية (لندن، 1922).
وفي عصر أحدث اشتكى بالطريقة ذاتها أحد الاقتصاديين الأمريكيين المرموقين من أن المهمة الأساسية لمن يؤمن بالمبادئ الأساسية للنظام الرأسمالي كثيرا ما تتمثل في الدفاع عن هذا النظام ضد الرأسماليين؛ وهذه حقيقة كان يعلمها الاقتصاديون الليبراليون العظام من آدم سميث حتى وقتنا هذا.
إن العقبة الأكثر خطرا التي تفصل الشخص العملي الذي يحمل راية الحرية في قلبه بأصالة عن هذه القوى التي تقوم في مجال الأفكار بتقرير مسار التطور تتمثل في ما يحمله من ارتياب عميق تجاه الاستشراف التنظيري وميله إلى التشدد؛ وهذا، أكثر من غيره، يخلق حاجزا لا يمكن اختراقه بينه وبين المثقف الذي يكرس نفسه للهدف ذاته، ويكون العون الذي يقدمه أمرا لا يستغنى عنه إذا كان يؤمل للمسعى أن ينتصر. وبالرغم من أن هذا الميل قد يكون طبيعيا عند من يدافع عن نظام ما لأنه أثبت رجاحته بالممارسة، وعند من يبدو لهم تبريره الفكري غير ممكن ماديا، فإنه عنصر فتاك يكبح استمرارية النظام لأنه يجرده من الدعم الذي يحتاجه. إن التشدد بكافة أنواعه، وأي تظاهر بأن أي منظومة أفكار هي نهائية وينبغي قبولها بالمجمل، هو الرأي الذي يتعارض حتما مع كل المثقفين مهما كانت آراؤهم حول القضايا المطروحة. إن أي نظام يقيّم الناس من خلال إتمامهم عملية التلاؤم مع مجموعة ثابتة من الآراء، ومن خلال «متانة» موقفهم أو مدى إمكانية الاعتماد عليهم للتمسك بكافة نقاط الرؤى التي يوافق عليها، يجرد نفسه من الدعم الذي لا يمكن أن تتخلى عنه أي مجموعة من الأفكار إذا أرادت استمرار تأثيرها في المجتمع الحديث. إن إمكانية انتقاد الرؤى المقبولة، واستكشاف آفاق جديدة، وتجربة مفاهيم جديدة، تخلق جوا لا يمكن للمثقف أن يتنفس بدونه؛ وإذا كان المسعى لا تتوفر فيه مثل هذه الصفات فلا يمكنه أن يحصل على دعم المثقف ويبوء بالخسران في أي مجتمع يعتمد على خدماته كما هو حال مجتمعاتنا.
(7)
ربما يكون من طبيعة المجتمع الحر كما نعرفه أنه يحمل قوى تدميره بنفسه، ذلك أن الحرية ما أن تتحقق حتى يتوقف الإحساس بقيمتها حتما، وأن نمو الأفكار التي تشكل جوهر المجتمع الحر يحمل معه انهدام الأسس التي يعتمد عليها. ويكاد لا يكون هنالك شك في أن بعض الدول من أمثال الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت فيها قيمة الحرية ذات جاذبية أقل في أذهان الشباب بالمقارنة مع الدول التي تعلمت معنى خسارة الحرية. ومن جهة أخرى، هنالك مؤشرات كثيرة في ألمانيا وغيرها على أن الشباب الذي لم يعرف العيش ضمن مجتمع حر يرى مهمة بناء المجتمع الحر ذات متعة وإبهار كما في أي مخطط اشتراكي ظهر خلال السنوات المئة الماضية. وهنالك حقيقة غير طبيعية لاحظها الكثير ممن زاروا ألمانيا، حيث أن الحديث مع الطلبة الألمان حول مبادئ المجتمع الحر تثير قدرا أكبر من الاستجابة والحماس بالمقارنة مع ما يأمل المرء أن يلاقيه في أي دولة أخرى من الدول الديمقراطية الغربية. وكذلك يمكننا أن نلاحظ في بريطانيا ظهور حالة من الاهتمام في صفوف الشباب بمبادئ الليبرالية الحقيقية، وهو ما لم يكن موجودا قبل سنوات قليلة.
هل يعني هذا بأن الشعور بقيمة الحرية لا يكون إلا حين فقدانها، وأن كل دول العالم ينبغي أن تعايش مرحلة مظلمة في ظل الشمولية الاشتراكية قبل أن تتمكن قوى الحرية من امتلاك القوة مرة أخرى؟ ربما يكون ذلك صحيحا، ولكنني آمل أن لا يتوجب علينا ذلك. ولكن ما دام هؤلاء الذين يمتلكون ناصية القرار الشعبي خلال مدد زمنية طويلة مستمرين في انجذابهم إلى المثل العليا للاشتراكية، فإن ذلك المسار سيتكرر. أما إذا أردنا أن لا تتطور الأمور كذلك، فينبغي علينا أن نقدم برنامجا ليبراليا جديدا يجذب خيال الناس. يجب علينا أن نجعل عملية بناء المجتمع الحر مرة أخرى مغامرة فكرية وتصرفا شجاعا. إن ما ينقصنا هو يوتوبيا ليبرالية: برنامج لا يبدو كمجرد دفاع عن بقاء الأمور كما هي ولا كنوع مخفف من الاشتراكية، وإنما كتشدد ليبرالي حقيقي لا يحتوي نقاط ضعف البنى الكبرى (بما فيها النقابات)، وليس عمليا بإفراط، ولا يحصر جهوده في ما يعتبر اليوم ممكنا من الناحية السياسية. إننا بحاجة إلى قادة ذوي فكر واستعداد لمقاومة إغراءات السلطة والنفوذ، وعازمين على العمل في سبيل مثل عليا مهما تضاءلت إمكانية تحقيقها في أولى مراحلها. إن هؤلاء القادة ينبغي أن يتحلوا بالالتزام بالمبادئ والنضال في سبيل تحقيقها بشكل كامل مهما كان ذلك بعيد المنال، أما التسويات العملية فهي مهمة ينبغي أن يتركوها إلى السياسيين. إن التجارة الحرة وحرية اقتناص الفرص هي قيم عليا ربما لا تزال حية في أذهان الكثيرين، ولكن مجرد «قدر معقول من حرية التجارة» أو مجرد «تخفيف القيود» ليس من الأمور المقبولة فكريا كما إنها قد لا تؤدي إلى إثارة أية حماسة.
إن الدرس الأساسي الذي يجب على الليبرالي الحقيقي أن يتعلمه من نجاح الاشتراكيين يتمثل في أن شجاعتهم في أن يكونوا طوباويين هي التي منحتهم دعم المثقفين، وتمكنوا بالتالي من التأثير على الرأي العام اليومي فأصبح من الممكن إنجاز ما كان يعتبر في الأمس القريب أمرا بعيدا تماما عن إمكانية الإنجاز. أما من حصروا اهتمامهم مع ما بدا ممكنا إنجازه في الحالة الراهنة للرأي العام فقد دأبوا على اكتشاف أن حتى هذا المجال يصبح سريعا من المستحيلات السياسية نتيجة لتغيرات الرأي العام الذي لم يقوموا بأي شيء لتوجيهه. إننا ما لم نجعل من الأسس الفلسفية للمجتمع الحر مسألة فكرية أكثر إلحاحا، وتطبيقها مهمة تتحدى عبقرية وخيال أمهر العقول فحينها ستبدو آفاق الحرية مظلمة، أما إذا تمكنا من استرجاع إيماننا بقوة الأفكار التي كانت علامة الليبرالية في أفضل مراحلها، فحينها لن نخسر المعركة. إن عملية الإحياء الفكري لليبرالية تجري الآن في عدد من أنحاء العالم، فهل ستكتمل في الوقت المناسب؟

seen_and_unseen_cover-320x320.png
cubex19 فبراير، 20121

كتاب "ما يرى وما لايرى" الذي ترجمه مشروع منبر الحرية كتبه فريدريك باستيا في عام 1850. أهمية الكتاب نابعة من أسلوب باستيا البسيط والعميق حيث يبدأ الكتاب بمثل النافذة المكسورة. ومضمون المثال أن طفلا يكسر نافذة رجلٍ ما بالصدفة. وفي مواساتهم للضحية يركز الجيران على أن عمل الطفل غير المُرضي سيوفر عملاً لصانع الزجاج على الأقل. وفي النهاية، “ما الذي سيعملهُ صانع الزجاج إن لم تنكسر النوافذ أبدا؟”

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018