اضغط هنا لتحميل نسخة بي دي إف من التقرير
مركز الدراسات المستقلة
سلسلة (قضية وتحليل)
الإصدار (67)
19 يناير 2006
وولفغانغ كاسبر
بروفيسور فخري للاقتصاد في جامعة نيو ساوث ويلز، وزميل أقدم في مركز الدراسات المستقلة.
الكاتب يقدم شكره إلى زوجته ريجين وإلى سو وينديباك لما واجهتاه من مشقة في التعامل مع مسودة سابقة لهذا البحث، كما يقدم شكره أيضا إلى هيلين هيوز ومانفريد شتريت لما أبدياه من الكثير من الاقتراحات المفيدة.
الكاتب مسؤول عن البحث وما يرد فيه بشكل كامل.
ملخص
* (الفساد آفة تهدد الاستقرار الاجتماعي والنمو الاقتصادي، كما إن إساءة استخدام السلطة السياسية للمنفعة الشخصية مجحف تماما بحق الشرفاء أو الفقراء). جاء ذلك في مبادرة جديدة لمنظمة الأمم المتحدة تحت عنوان (الاتحاد ضد الفساد)، والتي أصبحت قيد التطبيق في ديسمبر 2005.
* يقدم التقرير المنشور مؤخرا تحت عنوان (مؤشر تمييز الفساد) تقديرات ذات مصداقية لمستويات الفساد في 250 دولة. وهو يكشف اختلافات هائلة ما بين الدول في هذا المجال، حيث نجد ميلا أكبر للفساد في الدول الفقيرة بالمقارنة مع الدول المتقدمة الثرية. كما إن بعض الدول تمتلك معايير للنزاهة الحكومية تطورت مع مرور الوقت (بما في ذلك أستراليا ونيوزيلندا التي تأتي في مقدمة قائمة النزاهة)، بينما تراجعت دول أخرى عن مواقعها السابقة (كالولايات المتحدة الأمريكية واليابان والدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي)، كما يشيع الكسب غير المشروع في معظم دول العالم الثالث والكثير من الدول الشيوعية سابقا، ونجد أن الفساد يخترق كل مفاصل الدول المجاورة لأستراليا (بما فيها اندونيسيا وبابوا نيو غينيا).
* الفساد يترسخ أكثر في الدول التي تعاني من الحماية غير الكافية لحقوق الملكية، والإفراط في تنظيم الأسواق، والدور الضعيف للقانون.
* الغنى بالموارد الطبيعية (النفط والغاز خصوصا) يعزز الفساد مما يؤدي إلى غياب الاستقرار السياسي، وربما يؤدي أيضا إلى الفشل الحكومي. وهذا من الأمور التي تقلق الغرب باعتباره سيظل معتمدا على استيراد المواد الأولية خلال المدة القادمة. كما يبين مؤشر تمييز الفساد أن التدخل العسكري الغربي لم يؤد، ومع الأسف، إلى إنشاء حكومات نزيهة في أفغانستان وتيمور الشرقية والعراق، وإنما أدى إلى العكس من ذلك.
* تميل المعونات الأجنبية إلى تعزيز الفساد. وهنالك محاولات تبذل لتحسين مصداقية المعونات الأجنبية، وهذه المحاولات مكلفة ولكنها تنتشر شيئا فشيئا، وذلك لأن تقديم المعونات إلى الأنظمة اللصوصية أدى، ببساطة، إلى الحط من أهمية المؤسسات الضرورية للنمو الاقتصادي، وإلى تقوية النخب الفاسدة.
* إن الطبقة الحاكمة من أصحاب الامتيازات تعتمد دائما على المشاعر الوطنية وعلى الاشتراكية للدفاع عن امتيازاتها ومحاربة الانفتاح والشفافية. واليوم تستمد الدعم من معارضي العولمة.
* كان الفساد مقبولا خلال مدة طويلة باعتباره أمرا مقضيا لا بد من التسليم به، ولكن الانتشار الحالي للأفكار الليبرالية، الغربية أصلا، أدى إلى تغيير هذا الموقف في الكثير من أنحاء العالم. ونجد اليوم تفاؤلا جديدا بإمكانية معالجة الكسب غير المشروع بين الطبقات الوسطى التي تظهر في الكثير من الدول؛ حيث تبين أن هذا الطريق هو الأمثل لتعزيز النمو الاقتصادي في دول يائسة من أمثال سنغافورا واستونيا، وبالتالي: للقضاء على الفقر
الفساد والعدل والازدهار
إذا أصيب (الأحسن) بالفساد، تحول إلى (الأسوأ). مثلا لاتيني
كلما كثرت القوانين، كثر معها اللصوص وقطاع الطرق. لاو تزي (القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد)
إن العبارات السابقة ترينا أن الفساد (إساءة استخدام السلطة السياسية لمكاسب شخصية) كان ولا يزال سببا في الإضرار بالناس العاديين شرقا وغربا منذ أمد سحيق. ولقد كان هنالك تقليد من القبول القدَري بأن “تزييت أيدي” المسؤولين ضروري لتحريك عجلات الحكومة، وكان القليل من (الكسب غير المشروع) تعبيرا عن حسن النية تجاه المسؤولين منخفضي الدخل أو شكلا مشروعا من أشكال التنافس. أضف إلى ذلك أن معظم الأديان سلّمت بوجود الفساد، ونجد ذلك مثلا في العديد من فقرات التلمود والكتاب المقدس، حيث نقرأ في سفر التكوين (6، 12): “ونظر الرب إلى الأرض فإذا هي قد فسدت؛ إذ كان كل بشر من لحم ودم قد أفسد طريقه على الأرض”.
أما في عصرنا هذا فتتعاظم النظرة إلى الفساد باعتباره انتهاكا للفكرة القائلة بأن البشر يولدون جميعا وهم متساوون في حق السعي إلى السعادة بكافة السبل المشروعة المتاحة لهم. لقد حازت هذه الفكرة الفردانية على القبول الشعبي أساسا إبان عصر التنوير في الغرب، وكان لها آثار في تحديد الدور الذي يلعبه الحاكم والمحكوم. ونجد لهذه الفكرة نصا صريحا وواضحا، على سبيل المثال، في إعلان بنسلفانيا للحقوق (1776)، وهو بيان رائد جاء فيه: “الشعب مصدر السلطات؛ ولهذا فإن جميع المسؤولين الحكوميين، سواء أكانوا تابعين للسلطة التشريعية أو التنفيذية، يعتبرون أمناء وخدما للشعب، ويتحملون المسؤولية أمامه في كل حين”. وبتعبير آخر، فإن المواطنين هم المشرفون، أما المسؤولون الحكوميون فليسوا إلا وكلاء للمواطنين يفترض فيهم العمل بنزاهة. وقد بدأت هذه الروحية بالانتشار في أنحاء العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها كانت طموحا أكثر من كونها واقعا عمليا.
لقد خاض فلاسفة القرن الثامن عشر، من أمثال آدم سميث، صراعا كبيرا في عصرهم عندما اعتبروا الفساد أمرا سيئا من الناحية الأخلاقية، واليوم نجد تعاليمهم وهي تنتشر في أنحاء العالم لتعزز تفاؤلا جديدا بإمكانية القضاء على الكسب غير المشروع. وقد قامت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) بحثّ الحكومات الأعضاء فيها على اعتبار تقديم الرشى إلى المسؤولين الأجانب والشركات الأجنبية جنحة جنائية. وفي نهاية العام 2005 أصبحت بنود معاهدة الأمم المتحدة ضد الفساد قيد التطبيق، والتي تهدف إلى وضع معوقات أكثر أمام عمليات غسيل الأموال وتسهيل استعادة الأموال المسروقة. ولكننا إذا نظرنا إلى السجل التاريخي لمعاهدات الأمم المتحدة فلا يمكننا أن نتيقن من تبني الدول الفقيرة للمعايير الممتازة لهذه المعاهدة. وقد احتج المصدرون من دول منظمة (OECD) أحيانا بأن ذلك يضعهم في الجهة الخاسرة عند التنافس مع جهات محلية فاسدة، ولكن بعض دول منظمة (OECD) أصبحت تعتبر التعامل الفاسد لمواطنيها جنحة يعاقب عليها القانون، وذلك لأنها لاحظت بأن الفساد يؤدي إلى امتيازات غير عادلة تحوزها النخب والصناعات ذات النفوذ، مما يعود بالخسارة المجحفة بحق باقي المواطنين كافة. كما يعد الفساد عقبة بوجه التنافس الأصيل عبر السعر والنوعية، وهكذا تمتد آثاره إلى النمو الاقتصادي.
إن من يتسامح مع الفساد، ومن يدعو إليه، ينتقص من أهمية المؤسسات التي تعتبر شرطا أساسيا للنمو الاقتصادي، وذلك يؤدي إلى إدامة الفقر والظلم والبؤس. كما إن المتنافسين الذين يعتمدون على الفساد في الارتقاء بأعمالهم إنما يرتكبون خيانة بحق الشروط الأساسية لاقتصاد السوق، وذلك لأن التقسيم الحديث للعمل يعتمد على استثمار ما يعرفه الناس، وليس على من يدفع الرشوة الأكبر. والثروة تتكون على أساس المعرفة التكنولوجية والتجارية وعلى تواصلها الفعال مع إشارات السوق التي توجه التخصص الفعال والابتكار؛ وإذا أردنا لذلك أن يحدث، فيجب حينها أن تؤسس الأسواق على قاعدة الثقة بين الغرباء، والفساد يستهدف هذه النقطة بسمومه، فيجعل القرارات تتخذ على أساس (من يعرفه المرء) وليس (أفضل ما يعرفه المرء)، وفي قطاع الأعمال يؤدي الفساد إلى فرض ضوابط مرهقة تجعل الأسواق تبث إشارات بنشاط أقل كفاءة.
إن التجربة التنموية خلال نصف قرن تظهر لنا أن النمو الاقتصادي الضعيف لا ينتج عن نقص الثروات الطبيعية أو رأس المال أو غير ذلك من الموارد. وإنما تشترك كافة الاقتصادات التي فشلت في تحقيق النمو بأنها تمتلك قواعد ضعيفة لتنسيق الحياة الاجتماعية والاقتصادية (المؤسسات)، والتي تقف عائقا بوجه الادخار والاستثمار واستكشاف الموارد وغيرها من الجهود الريادية لتحريك القوى الإنتاجية. وينقل عن عميد الاقتصاد التنموي، الراحل لورد بيتر باور، أنه قال بوضوح: “الأداء الاقتصادي يعتمد على العوامل الشخصية والثقافية والسياسية، وعلى مواهب الناس ومواقفهم ومحفزاتهم والمؤسسات الاجتماعية والسياسية”. وتتأتى هذه الأهمية العالية للمؤسسات من أن عملية النمو تتطلب تنسيق جهود العديد من الأشخاص ذوي المعارف الخاصة، والذين يتحملون تكاليف التعامل ويتجشمون عناء المخاطرة في استكشاف طرق جديدة أفضل لأداء المهام. ولا حاجة هنا للتأكيد على أن النمو الاقتصادي قد أدى إلى التخلص من العديد من الأمراض التقليدية التي ابتليت بها الإنسانية طويلا: كنسبة الوفيات الكبيرة لدى الأطفال، والأعمال الشاقة، وتكرار المجاعات، والأوبئة، وانتشار القذارة، والجهل، والإحساس الدائم بالضيق والضجر، والشيخوخة المبكرة وقصر العمر.
إن ما يهم بالنسبة للنمو الاقتصادي ليس نوعية المؤسسات فحسب، وإنما مستوى الفعالية والإنصاف في تطبيقها وفرضها. فمن القواعد ما يُفرض من ضمن المجتمع: حيث يتعرض الغشاش، مثلا، إلى تحاشي الناس له تلقائيا وخسارته سمعته، والكاذب يتعرض للتوبيخ، وهكذا دواليك؛ ومن القواعد ما يُصمم ويُفرض بواسطة فعل سياسي من قمة الهرم: حيث تقوم الحكومة بإصدار تشريعات تحمي الأنفس والملكية الخاصة، وتشكل منظومة قضائية وقوة شرطة لفرض هذه القواعد؛ وعندما تؤدي بعض النشاطات إلى التسبب بالأذى للآخرين، فإنها تصبح خاضعة للترخيص الحكومي، وهكذا دواليك. إن هذه الوكالات تحصل على سلطات احتكارية لممارسة الإجبار الشرعي، ومن الضروري لتحقيق العدل والازدهار أن تُطبّق هذه السلطات دون ترهيب أو ترغيب، ودون أن يعمد وكلاء الحكومة إلى استغلال هذه السلطات لتحقيق منافع شخصية.
إن المجتمعات التي تحقق التنسيق غالبا بواسطة قواعد داخلية في المجتمع وعبر الفرض التلقائي، وبالتالي فهي لا تعتمد إلا بشكل محدود على القواعد الخارجية للحكومة، هي مجتمعات تميل إلى إبداء فعالية أكبر في تحقيق النمو الاقتصادي وتكافؤ الفرص، وذلك بالمقارنة مع مجتمعات تحكمها قبضة قوية وتخضع إلى قواعد إيعازية متعددة. ويصح هذا بالأخص عندما يستسلم وكلاء الحكومة إلى الإغراء البشري المشترك بالانتهازية التي تبحث عن المنفعة الذاتية فيقعون في فخ الفساد؛ ففي المحصلة، يتمتع وكلاء الحكومة دائما بالقدرة على استغلال نقص معرفة الناس بجميع التفاصيل والظروف المتعلقة بالشؤون التي يقومون عليها، ويقدمون على تعزيز مصالحهم الخاصة على حساب عامة الناس (وهذا هو الفساد).
ما أن يترسخ الفساد حتى تتغلغل تأثيراته وتتعمق جذوره؛ ومن أمثلة ذلك: المزاد العلني أو السري للعمولات والتعيينات في وظائف التعليم المدرسي أو الشرطة؛ ولقد شاهدت بنفسي في اندونيسيا كيف أن الآباء يشترون الوظائف لأبنائهم وبناتهم بعد أن يكملوا تعليمهم، وغالبا ما يكون ذلك بتضحيات مالية كبيرة، فما أن يتم الحصول على الوظيفة فإنها تكون “ملكا” لمن نجح في الفوز بها دون الحاجة إلى أن يضمن الاحتفاظ بها عبر الاستمرار في أداء العمل. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي على العائلة أن تستعيد “استثمارها” عبر بيع التفضيل في التعامل أو عبر جمع “المستحقات”، والتي تعد من عوائد الاستثمار في هذه الوظيفة. أما الدعوة إلى الترقية الوظيفية عبر الاختبارات والجدارة في الأداء فينظر إليها باعتبارها مبادرة لحرمان المسؤولين من عوائد شرعية ناتجة عن “استثمارات” سابقة. إن هذه الإصلاحات لا يمكن فرضها من الخارج، وإنما يجب التعامل معها عبر مصلحين محليين.
من الحقائق المعروفة أن الفساد الرسمي يرتبط بعلاقة متبادلة مع الحرية الاقتصادية، أي: أن العلاقة ما بين مستوى الموثوقية في صيانة المؤسسات لحقوق الملكية الخاصة وحرية استخدامها، وبين مستوى الاستقلالية والموثوقية في دور القانون في البلاد. إن إصدار الضوابط المرهقة المعقدة، والتي تلقي بتأثيراتها على الدخل الخاص والثروة بشكل دائم، يعتبر من أسباب تغلغل الكسب غير المشروع. وفي الحقيقة، لا يمكن الحيلولة دون الخروج باستنتاج مفاده أن بعض الضوابط تفرض أساسا لتمكين أرباب السلطة من الحصول على الرشى. وفي آراء الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، أمارتيا سين، والذي يحق في اعتباره حدوث التنمية الاقتصادية في الدول الفقيرة نوعا من أنواع التحرير، نجد أنه يرى أن إلغاء الضوابط من جانب واحد في الدول النامية يبرر ما ينتج عنه من انحسار للفساد، وذلك بغض النظر عما إذا كان يؤدي إلى فوائد أخرى. كما إن الحكومة النزيهة تساهم أيضا في رفع مستوى الثقة ما بين الناس.
خلال حقبة طويلة من القرن العشرين لم يكن هنالك فهم في صفوف المفكرين وجهات التخطيط للدور المحوري للمؤسسات كما عرّفه آدم سميث. ولم يكن يتبع المدرسة الاقتصادية النمساوية المؤسساتية غير أقلية من الاقتصاديين من أمثال بيتر باور. ولكن المقاربة التطورية المؤسساتية بدأت في ثمانينيات القرن العشرين باتخاذ موطئ قدم لها وكان لها أثر كبير على التخطيط والإصلاح. ومؤخرا نجد أن حتى بعض المنظمات العالمية قد بدأت في الاهتمام جديا بالمؤسسات وتطبيقها بنزاهة، ولهذا ركزت نسخة العام 2005 من تقرير صندوق النقد الدولي المعنون (المشهد الاقتصادي الدولي) على “بناء المؤسسات” (الفصل الثالث) بما نصه: “ارتفاع النمو يعتمد على… حقوق ملكية أمتن، وفساد أقل، وأداء حكومي أفضل”. وهذا ينبغي أن يكون له تأثيرات مهمة على السياسة، ومن أمثلة ذلك: كيف يمكن للمعونات الأجنبية أن تصل إلى مستحقيها بوجود مؤسسات ضعيفة؟
ولا مانع من التذكير هنا بنقطة أساسية، وهي: إن اختلاف مواقف الناس من الفساد والحرية الاقتصادية ينشأ من فجوة أساسية تفصل ما بين وجهات النظر؛ فوجهة النظر الغربية التي تعتبر الأفراد مالكين ومصالحهم ذات أهمية عليا في الأداء الحكومي إنما تتعارض مع وجهة نظر النخب السياسية في معظم المجتمعات التقليدية غير الغربية. فهذه النخب تعتبر نفسها هي المالكة وأن “شعوبها” موارد متاحة للاستغلال في سبيل تعزيز السلطة والثروة. أما الآن فالعولمة تنشر وجهة النظر الفردانية، وشعوب العالم توجه هجماتها إلى المصالح الأنانية للنخب القوية باعتبارها فسادا، كما أن صوتها لا يتعرض للاضطهاد كما كان يحدث في السابق.
قياس الفساد ومقارنته
يستطيع العلماء دائما أن يتعلموا الكثير، وأن يقدموا نصائح أفضل، عندما تكون الظاهرة التي ينظرون لها قابلة للتكميم؛ وينطبق ذلك على العلاقة التي تربط ما بين النمو الاقتصادي والحرية الاقتصادية والفساد.
إن قياس إجمالي الدخل الوطني والناتج الوطني (GDP/GNP) يمكن تأسيسه على منهجية متينة ومعايير مقبولة تم التوافق عليها في المنظمات الدولية عبر عقود طويلة. كما إن المقارنة بين دول العالم بحسب دخل الفرد تستند إلى أسعار الصرف أو تقديرات القوة الشرائية، مما يعكس الواقع بشكل أكثر مصداقية في معظم الحالات. ولا شك في أن هنالك هامشا من الخطأ يعتري البيانات الدولية، ولكن ذلك لا يمنع من تمتعها بالمتانة والقبول الواسع.
أما تحديد مستوى المؤسسات التي تستند إليها الحرية الاقتصادية فهي مهمة أصعب من ناحية القياس والمقارنة على المستوى الدولي، وذلك لأنه لا يمكن الحيلولة دون تضمنها لتقييمات ذاتية واعتمادها على نماذج صغيرة. وفي ثمانينيات القرن العشرين توصل عدد أكبر من الاقتصاديين إلى إدراك الأهمية العظيمة لمؤسسات الحرية الاقتصادية، مما أدى إلى البدء بعدة جهود لتقدير مستوى حقوق الملكية والأداء الحكومي، وحرية العمل، وأسواق رأس المال والمنتجات ومدى انفتاحها على التنافس العالمي. ومنذ العام 1986، قام مركز فريزر (Fraser Institute) الكندي بتنسيق جهد عالمي ضخم لتطوير منهجية متفق عليها وجمع المعلومات اللازمة حول معايير الحرية الاقتصادية. وقد لاقت البيانات المجموعة قبولا واسعا وقدمت أفكارا قيمة تدعم السوق الحر والخيار الشخصي. وإلى جانب ذلك، كان هنالك جهد مشابه يقوم به مركز هيريتيج (Heritage Foundation) الأمريكي بالتعاون مع صحيفة وول ستريت جورنال، وعلى الرغم من اختلاف المنهجية المتبعة فإن النتائج التي تمخضت عنهما هاتان الدراستان تروي القصة نفسها: الحرية الاقتصادية تلائم النمو والمستوى المعيشي المرتفع.
إن درجة الفساد في فرض القواعد لم تتلق الاهتمام نفسه خلال مدة طويلة؛ ثم ملئت هذه الفجوة خلال العقد الماضي بواسطة مشروع للتقدير السنوي لمستويات التعامل غير النزيه في مجال السياسة والإدارة، وهو ما أطلق عليه: مؤشر تمييز الفساد (Corruption Perceptions Index: CorrPI). ويتم احتساب هذا المؤشر في جامعة باسو الألمانية تحت إشراف البروفيسور يوهان غراف لامبسدورف، وذلك بالتعاون مع منظمة الشفافية الدولية، وهي مركز أبحاث يقوم سنويا بنشر (تقرير الفساد العالمي). وهذا المؤشر، جنبا إلى جنب مع التحليلات ودراسات الحالات الواردة في (تقرير الفساد العالمي)، يهدف إلى تقوية عزيمة شريحة الناخبين وما لها من وكلاء على المستوى السياسي والقضائي والتنفيذي على محاربة الفساد.
أصبح هذا المؤشر يتضمن في العام 2005 بيانات 159 دولة، وذلك على الرغم من أنه يعتمد على قاعدة بيانية أكثر اختلافا من ناحية البيانات الرئيسية؛ ففي عدد كبير من الدول، يرجع المؤشر إلى بيانات تعود إلى ثمانينيات القرن العشرين، ولهذا يمكننا تقفي أثر بعض التوجهات بعيدة المدى بفضل هذه البيانات، على أن لا ننسى حدوث بعض التغيرات في شمول المعلومات ونوعيتها عبر الزمن.
حالات الفساد حول العالم
إن تقرير مؤشر تمييز الفساد للعام 2005 الذي نشر في أكتوبر الماضي يوفر لجهات التخطيط العديد من الأفكار المفيدة؛ إذ يقدم لها مادة كمية تدعم الاعتبارات التي وردت في مقدمة التقرير.
وفي الشكل المدرج أدناه (يرد في نهاية الدراسة) يورد التقرير تقديرات المؤشر للعام 2005 بالمقارنة مع متوسطات المدة (1980-1985). وبالإضافة إلى ذلك يحتوي الشكل على تقديرات بعض الدول للعام 2005 ممن لا تتوفر حولها أية بيانات على المدى البعيد. إن المرتبة العالية في الشكل تعكس تطبيق أفضل معايير النزاهة في الإدارة الحكومية، والعكس بالعكس. كما ينبغي النظر إلى المقارنات الزمنية للفساد بشكل تقريبي بسبب تغيرات المنهجية المتبعة وطبيعتها الذاتية. وعلى الرغم من جميع ذلك، فإن المعلومات الواردة تفيدنا بما يلي:
* الانطباع الأهم الذي يتركه التقرير يتمثل في أن الدول الثرية المتقدمة تحرز مرتبة أعلى عموما في هذا المؤشر بالمقارنة مع الدول الأقل تقدما. ولا يمكن إرجاع سبب ذلك أبدا إلى العلاقة ما بين معدلات الدخل ومعدلات الفساد، ولكن يبدو من المقبول الاعتقاد بوجود تفاعل غير مباشر في ما بينهما: حيث تفتقر الدول عندما يشيع الفساد بين حاكميها، والمستوى المعيشي البائس يؤدي إلى الفساد.
* ومع ذلك، فقد تغيرت معايير النزاهة في الإدارة الحكومية كثيرا خلال العقود القليلة الماضية في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء. ومنها ما تحسن منذ أوائل الثمانينيات، ومنها ما لا يزال منحدرا (في معدلات الفساد). وهكذا، يتبين من الشكل أن الفساد ظل يرتفع في الدول ذات الإدارة الحكومية الجيدة نسبيا (المدرجة على يسار الشكل) من أمثال الولايات المتحدة وفرنسا واليابان وجنوب أفريقيا وماليزيا، وذلك بالإضافة إلى دول تعرف تقليديا بأنها أكثر فسادا بكثير (المدرجة على يمين الشكل) من أمثال الصين وروسيا وتركيا وكينيا. أما الدول الأخرى فقد تمكنت من تحسين معدلاتها من أمثال أستراليا ونيوزيلندا وفنلندا وتشيلي وهنغاريا واندونيسيا.
* كانت أستراليا تعتبر من أقل الدول فسادا (المرتبة الثامنة في العام 2005)، وقد تحسن أداؤها منذ أوائل الثمانينات الماضية. كما إن نيوزيلندا تحسن أداؤها بشكل أكبر في العام 2005 (تحتل المرتبة الثانية بعد فنلندا) ولا يزال أداؤها يتطور بمرور الوقت.
* تحسن بشكل عام أداء الدول الانغلوساكسونية ودول شمال أوروبا (لا تظهر جميعها في الشكل) التي تحتل مرتبة متقدمة أصلا، وذلك باستثناء الولايات المتحدة.
* يبدو أن هنالك بعض الدول الأوروبية التي تنجرف باتجاه مشكلات جدية، كفرنسا وألمانيا، حيث عانت مطولا من الركود الاقتصادي والاستياء السياسي، وظلت تراوح مكانها في مراتب متوسطة على سلم معدلات الفساد.
* مشروع الاتحاد الأوروبي لربط ثقافات الحكم مع معايير النزاهة شديدة الاختلاف يواجه فجوات واسعة، وأحيانا: متوسعة، في مستوى الإدارة الحكومية. إن المعايير المتفاوتة للفساد تعسر مسعى الاتحاد الأوروبي نحو تساوي الدخل؛ فهذا المسعى ربما يحتاج إلى تحويل مبالغ مالية كبيرة ومستمرة من الدول الغنية المتمتعة بمستوى منخفض من الفساد إلى دول فقيرة يسودها الفساد. إن تفاوت مستويات الفساد بين الدول، واختلاف سرعة مستلمي التمويل في استغلال قواعد الاتحاد الأوروبي من قبل مختلف الدول، قد أدى فعلا إلى لعب دور كبير في الرفض الشعبي المتزايد للحركة المتنامية في توسع الاتحاد الأوروبي وتقارب دوله.
* يلاحظ الانخفاض الشديد في معايير النزاهة لدى الدول التي حكمتها الشيوعية؛ فمنذ انهيار الشيوعية وهذه الدول تتصارع مع الفساد المستشري بدرجات مختلفة: ففي هنغاريا مثال ناجح يلفت الانتباه، كما إن استونيا وسلوفينيا وليتوانيا تتبوأ مراتب ضمن الدول المتقدمة الأقل فسادا؛ أما معايير النزاهة في روسيا وبولندا والتشيك فقد تدهورت على نحو سيئ. وربما يعكس هذا، جزئيا على الأقل، شفافية أكبر في الجهاز الحكومي؛ ولكن، حتى وإن اعتبرنا جزءا من التدهور ناتجا عن تنامي الإدراك لهذه المشكلة، تدل هذه الحالات على أن المنظومات الإجبارية المركزية لا تزال حية ترزق، أو أن الفراغ الذي تركه غياب التخطيط المركزي لم تملأه المؤسسات وآليات الفرض التي تدعم قيام اقتصاد سوق فعال ومجتمع حر. وقد يتبين أن بناء النظام الفعال أكثر صعوبة من إلغاء تأميم الملكية وسياسة الضوابط الشاملة.
* تعاني الدول النامية عموما من معدلات عالية للفساد، باستثناء عدد من الأمثلة المميزة كالدول الثرية من أمثال سنغافورا وهونغ كونغ وتايوان. كما إن كوريا الجنوبية التي كانت تعد يوما من أكثر دول العالم فسادا أصبحت اليوم تتجه بوضوح نحو مرتبة عليا في مؤشر تمييز الفساد وتعتبر ذلك هدفا من أهداف سياساتها.
الفساد والتخلف التنموي
إن ما يزال سائدا في الإدارة الحكومية في العالم الثالث من معايير متدنية للنزاهة يقدم تفسيرا لاستعصاء القضاء على الفقر؛ حيث لا يبدو أن هذا العالم قد تفهم على نحو واسع أخلاقيات التحكم بالفساد التي كان كتاب التنوير الأوروبي يشددون عليها في القرن الثامن عشر. ويرى فرانسيس فوكوياما في تقديمه لنسخة العام الماضي من (تقرير الفساد العالمي) أن الممارسات الفاسدة لا تزال متغلغلة بعمق في أوصال الثقافة والتقاليد المحلية، بل إنها تشكل جوهر المنظومة السياسية، وأن من شأن الإصلاحات أن تؤدي إلى تهديد مصالح النخب التي تتمتع بالمال والسلطة، كما يلاحظ بأن “حتى المؤسسات ذات التصميم الأفضل لن تتمكن من الوقوف بوجه الفساد إذا كانت الأعراف الاجتماعية تتقبل تعاطي الرشوة، أو إذا كانت نخب البلاد تعتبر السياسة حلبة للإثراء”. ويضيف فوكوياما أنه حتى عندما يأتي طرف متنور أجنبي ليشير إلى الحاجة الملحة لمحاربة الفساد فإن جهوده ستتوقف على يد السياسيين المحليين في نهاية المطاف؛ وهي نقطة إذا تم الاكتفاء بها فستؤدي إلى الاستنتاج بأن الفقر في عصر العولمة ينتج عن قرار مسبق؛ ولكن مما يؤسف له أن هذا القرار تتخذه النخب السياسية ومن يحابيها في السلطة، وهكذا يستمر الفقر مخيما على الجماهير المسحوقة!
لقد ظهر في بعض الدول الفقيرة قادة سياسيون منحوا أولوية كبرى للنمو الاقتصادي الإجمالي ووضعوا نصب أعينهم أن تحقيق الازدهار للجميع يمثل مصدرا للشرعية والقوة، واستمدوا الإلهام أحيانا من تحديات وصراعات عالمية، كما حصل في شرق آسيا التي هيمن عليها شبح الصين الشيوعية، ومن اهتمام أصيل بانتشال الناس من الفقر. وأدت الرغبة في تحقيق النمو الاقتصادي إلى تحفيز جهات التخطيط على البدء بتطبيق قواعد اقتصاد حر منفتح وعلى الاستثمار في التعليم، ومع ظهور طبقة وسطى ثابتة ماديا أصبحت الحرية السياسية ينظر إليها باعتبارها مرغوبة بشدة وبدأت الأجيال الغنية حديثا بالوقوف في وجه الفساد التقليدي. ومع تنامي الاقتصاد واتساع القاعدة الضريبية، أصبحت الحكومات قادرة على توفير رواتب أفضل لجهات الخدمة المدنية، وهذا أدى أيضا إلى المساعدة في الحد من الفساد، ولم يقتصر ذلك على سنغافورا وهونغ كونغ وتايوان وكوريا، حيث امتد نوعا ما إلى تشيلي وموريشيوس وبوتسوانا، وهي دول تتحرك بالتدريج من العالم الثالث إلى العالم الأول. وقد بدأت هذه العملية غالبا بسبب إجراءات قام بها حاكمون مستبدون من أمثال: لي كوان يو في سنغافورا، وبارك تشونغ هي في كوريا، وأوغستو بينوشيت في تشيلي، وأدت هذه الإجراءات إلى نمو اقتصادي مستدام، أي: التحسن التدريجي للمؤسسات السياسية والاقتصادية والمدنية وتطبيقها دون فساد. وكما حصل سابقا في التاريخ الأوروبي، فإن الإصلاحات الاقتصادية التي بادر بها الحاكمون المستبدون أدت إلى نتائج جانبية بعيدة المدى في مجال الحرية السياسية.
إن التحدي الكبير الذي نواجهه حاليا يتمثل في إقناع النخب التقليدية والحديثة في الدول النامية الأخرى بأن النمو الاقتصادي لا يتطلب الإصلاح المؤسساتي فحسب (صياغة القواعد التي تعزز الحرية الاقتصادية)، وإنما يحتاج أيضا إلى حملة حاسمة على الفساد (التطبيق الشفاف المنصف لهذه القواعد). وليس هذا بالأمر الهين لأن الانطلاق بالنمو الاقتصادي يؤدي غالبا إلى ظهور فرص جديدة للتعاملات الفاسدة، كما تتكاثر البيروقراطية وتخلق ضوابط جديدة توفر إغراءات أكثر بكثير. أضف إلى ذلك أن الرشى تصبح أكثر تكلفة؛ فبينما كان الثمن التقليدي لخدمات الموظف الرسمي يتمثل في جهاز راديو أو ما يقترب من ثمنه، أصبح هذا الموظف يطالب بعطلة في لندن أو بفيلا في سيدني. وفي هذه الجبهة الحاسمة، يقوم (تقرير الفساد العالمي) و(مؤشر تمييز الفساد) بتجهيز الأجيال الشابة من محاربي الفساد في الاقتصادات الانتقالية بما يلزم من أفكار ومعايير قيمة.
إن أفريقيا تعاني من مستوى مرتفع من الفساد في الإدارة الحكومية، وقد كان التخلف التنموي الأفريقي في هذا العام محل تركيز جهود جبارة متجددة لبذل المزيد من المساعدات الرسمية وإطفاء الديون المستحقة. وليس من المفاجئ أن نجد الحكومات التي تشربت الفساد في الاقتصادات الراكدة لا تبدي ميلا قويا إلى دفع ديونها، كما إن الدول الأفريقية الفقيرة المثقلة بالديون، بالإضافة إلى فيتنام وبورما، لا تكف عن إحراز المراتب الأسوأ في سلم الفساد، وعندما يقوم دافع الضرائب في الدول الغنية بإعفاء الدول الفقيرة من الديون أو فوائد الديون التي يقدمها البنك الدولي وغيره من الوكالات الرسمية فإن ذلك يؤدي إلى “ضرر معنوي” ويشكل دعوة إلى التصرف بشكل غير مسؤول، كما يشجع على تفاقم الفساد وترسيخه، وعلى الاستدانة مجددا لدعم المستوى المعيشي المبذر للنخب، وذلك في ظل أنظمة تحرم مواطنيها من الحرية الاقتصادية غالبا.
إن الاقتصادات ذات المنظومات السياسية والقضائية والإدارية الفاسدة تبقى دون شك قادرة على التنافس العالمي في أسواق التصدير وفي اجتذاب رأس المال المتحرك عالميا والمعرفة العملية والاستثمارات. وعندما يتم تحصيل الرشى فإن رأس المال المتحرك عالميا والاستثمارات تبقى هنالك ما دامت عوامل الإنتاج المحلية، بما فيها الإدارة الحكومية، تتحمل تكاليف الفساد. والفساد يعني أن العمال وأصحاب الأراضي المحليين ينبغي عليهم أن يتقبلوا أجورا أقل مما قد يحصلون عليه في غياب الفساد، وهكذا تظل الأجور المحلية منخفضة، وعلى الرغم من أن الأجور تميل إلى الارتفاع في المصانع المتوجهة للتصدير بالمقارنة مع الصناعة المحلية، فإن مناهضي العولمة قادرون مع ذلك على طرح أمثلة عن أجور منخفضة وراكدة، وهكذا يمكن تشويه سمعة الشركات العالمية والعولمة، وتبقى، بالإضافة لذلك، المحصلة الضريبية الرسمية منخفضة، مما يؤدي إلى تقليص الخدمات الحكومية إلى الحد الأدنى وعدم إنشاء البنى التحتية؛ كما إن الموظفين الحكوميين يتلقون أجورا منخفضة، مما يؤدي إلى التشجيع على الفساد. إن الجانب الحقيقي (الفساد) لا يمكن ملاحظته بسهولة، ومن الأسلم سياسيا في جميع الأحوال أن توجه سهام اللوم إلى الأجانب والرأسماليين.
من المعتقد بأن معدلات الفساد في الصين والهند قد تفاقمت بشدة منذ أوائل الثمانينات الماضية (الشكل)، ولكنها تحسنت شيئا ما بعد الانفتاح المتنامي لاقتصاد كلا البلدين. ويعتقد بأن الصين شهدت صعودا في ممارسات الفساد منذ بداية الإصلاحات الاقتصادية في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، ولكن ذلك قد يكون انعكاسا لتحسن الشفافية ولإدراك الشعب الصيني بأن الفساد شر يمكن محاربته. ومع ذلك، فإن العمال وجباة الضرائب في كلا البلدين سيتمكنون من تحصيل حصة أكبر من الدخل بسبب جهودهم في حال تفعيل الضوابط الفعالة في مكافحة الفساد وفرضها بشكل منسجم ومقنع. وإذا لم يتم تخفيف عبء الفساد فمن المرجح أن يؤدي ذلك إلى اتهامات متبادلة بين السياسيين، وإبطاء النمو، وصراعات اجتماعية مع تزايد النفوذ الذي تكتسبه الطبقة الوسطى في كلا البلدين.
وترتفع مستويات الفساد في الدول المحيطة بأستراليا أيضا؛ إذ يضع مؤشر تمييز الفساد علامة اهتمام عاجل بالوضع في اندونيسيا وتيمور الشرقية وبابوا نيو غينيا والفيليبين ولاوس وسريلانكا وتايلاند وساموا وفيجي (الشكل). أما في أفريقيا فقد تشربت بالفساد إلى مستوى شديد، مما قد يؤدي إلى فشل الدولة، وهي ظاهرة أصبحت في يومنا هذا تتصدر اهتمام العالم، ولهذا فإن من يتبرعون بالمعونات يحاولون التأكيد على مراعاة شروطهم قبل تقديم المعونات للدول الفاشلة، ولكن دون جدوى. إن الأنظمة الفاسدة تفشل شعبها فيضطر إلى التحول إلى مصدر للهجرة الجماعية غير الشرعية بمعدلات لا يمكن للديمقراطيات الغربية أن تتحملها دون الإضرار بمواطنيها الأصليين؛ بل إن الشباب الفقير المحبط يتحول إلى جنود لدى الإرهاب والإجرام والاضطرابات السياسية الداخلية، وهذا ما نشاهد في أفريقيا مرورا بالشرق الأوسط وصولا إلى جزر سليمان في المحيط الهادئ.
كما تتصاعد إشارة تحذير سياسية أخرى من بيانات الفساد في الدول الغنية بالنفط والغاز، حيث تعاني السعودية وإيران والجزائر وليبيا وروسيا وأذربيجان واندونيسيا ونيجيريا من مستويات مفرطة للفساد (الشكل)، ويبدو من البيانات السنوية للفساد أن معايير النزاهة انحدرت في الأعوام القليلة الماضية. وفي فنزويلا، وهي من المصدرين الرئيسيين للنفط، ارتفع معدل الفساد بشكل ملحوظ في ظل نظام الرئيس تشافيز. وفي ماليزيا، وهي دولة ذات أداء أفضل في مكافحة الفساد، يبدو أنها سمحت لمعايير النزاهة بالانحدار في حقبة رئيس الوزراء مهاتير محمد. ومن الواضح أن الثروة النفطية والغازية تسمح للنخب الحاكمة بالتدخل أكثر في الاقتصاد وبالاستحواذ على حصة هائلة مما تحصل عليه البلاد من مردود هذه الموارد. كما إن معظم الدول الأولى في تصدير النفط والغاز لم تقم بتوزيع الدخل والثروة على نحو متساو، بل على العكس، وهذا يشير إلى وجود بذور اضطرابات اجتماعية وسياسية في المستقبل، مما يؤدي إلى إعاقة الإمدادات في مجال الطاقة. ومع ذلك، وكما تشير التجارب المؤسفة مع قادة هذه الأنظمة كآل سعود وماليزيا مهاتير وإيران آيات الله وفنزويلا تشافيز، فليس بإمكان الغرب أن يفعل إلا القليل بشكل مباشر لخفض مستوى الفساد في الأنظمة الغنية بالموارد.
إن بوسع القادة العنيدين هؤلاء أن يحصلوا بسهولة على الدعم الفكري والسياسي للبقاء على مواقفهم عبر المسرحيات التقليدية للسلطة الوطنية ومعارضة النظرة الغربية للانفتاح والأداء الحكومي الشفاف. لكن مقاومة ضغوط التنافس العالمي تضر بمجمل السكان ومن لا يتصل بدائرة المحسوبية، ومن المؤسف أن نجد بعض جماعات الضغط الداعية لإطفاء الديون والمعونات الرسمية والتجارة “العادلة” (وليست الحرة)، من أمثال منظمة أوكسفام (Oxfam) الخيرية البريطانية، وهي ترسل إشارات إلى هؤلاء القادة بأنهم قادرون على الاستمرار في نهجهم.
وهنالك ملاحظة أخرى أبرزتها بيانات الفساد للعام (2005)، وهي أن التدخل العسكري الغربي، كما حصل في أفغانستان وتيمور الشرقية والعراق (الشكل)، من الواضح أنه لا يؤدي إلى معايير مقبولة للنزاهة. والدليل الذي تطرحه جهود مكافحة الفساد وتحقيق النمو والقضاء على الفقر وإنجاز الاستقرار الاجتماعي نستنتج منه أن التدخل العسكري يتبعه بسهولة فشل اقتصادي واضطراب اجتماعي. كما إن الوكالات المكلفة بالتدخل تقع بسهولة في شرك ثقافات الفساد للدول الفاشلة، والحكومات العسكرية متشبعة بثقافة القيادة والسيطرة الهرمية، وتميل إلى الارتياب من التنافس غير المركزي والحرية الاقتصادية، وتفضل اللجوء السريع إلى النهج التدخلي، مما يؤدي إلى أضرار جانبية غير مقصودة تتمثل في تقوية الأسباب نفسها التي ينتج عنها ركود الاقتصاد واضطرابه.
يجب أن لا يكون هنالك في المستقبل أية محاولة للتدخل في الأنظمة الفاشلة دون وجود خطط واضحة حول كيفية تحرير المؤسسات الاقتصادية وضمان معايير غير فاسدة للإدارة الحكومية، وهي مهمة أصعب بكثير من تقديم الديون والسلع الرأسمالية أو بناء الكليات التكنولوجية، كما إنها أهم بكثير؛ فالدول الفاشلة تفتقر في الغالب إلى الخبرة والمهارات لتشغيل الإدارات والأجهزة القضائية غير الفاسدة، ولهذا يجب أن لا تكون هنالك محاولة لتطبيق سوى الشكل الأبسط والأكثر تواضعا من الإدارة الحكومية، ولكن مما يؤسف له أن موظفي منظمة الأمم المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي ومعظم هيئات الإغاثة يميلون إلى الدفع باتجاه بنى إدارية طموحة لدول العالم الثالث، ولكن هذه البنى تتداعى تاليا بسبب الافتقار إلى كفاءات محلية متمكنة من الإدارة الحكومية عموما، والإدارة الحكومية النزيهة خصوصا، فالإدارات التي تطمح إلى الكمال محكوم عليها بالفشل دون شك، ومثال ذلك ما تم تطبيقه في بابوا نيو غينيا بعد استقلالها، وما حاولوا تطبيقه في تيمور الشرقية.
مؤازرة الفساد في الدول الفقيرة
هل ينبغي في المستقبل استثناء الأنظمة الفاسدة جميعها من المعونات الأجنبية؟ إن تقرير (كرم الألفية) الصادر حديثا يشير إلى زيادات كبيرة في المعونات الغربية الرسمية التي تتلقاها الدول الأفقر، والتي تكون الأكثر فسادا في الغالب. فالدول الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء، والتي تستلم حاليا 80 مليار دولار سنويا كمعونات أجنبية، يتوقع أنها ستستلم 125 مليار دولار سنويا بحلول العام 2010، ولكن التريليون من الدولارات التي تدفقت إلى هذه الدول خلال نصف قرن مضى لم يكد يستفد منها أحد من الأفريقيين، بل إن معدلات الدخل قد انخفضت باستثناء القليل من الدول، وهنالك الكثير من الحالات الموثقة التي أدت فيها المعونات الغزيرة إلى خسارة هائلة، بينما تم التغاضي عن حلول أكثر بساطة وأقل تكلفة؛ ومن الأمثلة النموذجية على ذلك: الخدمات الطبية العامة في الدول الأشد فقرا، حيث ينفق مبلغ (50,000-60,000 دولار) على إنقاذ كل طفل، بينما تشير الدراسات إلى إمكانية تحقيق ذلك بإنفاق (10 دولارات) فقط، وهذا الفشل يمكن تفسيره بوجود الفساد في منظمات الإغاثة وفي الحكومات الأفريقية، وينجم عن ذلك أن الدخل يعاد توزيعه من الفقراء إلى النخب المهووسة بالسرقة، مما يؤدي إلى دوران حلقة (الفساد-الفقر). ولذلك فإن المعونات الأجنبية قد تتسبب بالضرر بدلا من النفع، وهذا ما عبر عنه بيتر باور بعبارة بليغة حين قال: “إن إعطاء الأموال للحاكم بسبب فقر رعاياه إنما يصب مباشرة في صالح سياسات الإفقار”، ويصل إلى نتيجة مفادها أن “من الواضح أن تقديم المعونات التنموية ليس ضروريا لإنقاذ المجتمعات الفقيرة من حلقة الفقر المتوحشة، بل إنه يؤدي بدلا من ذلك إلى إبقائهم في هذه الحالة”.
إن الحكومات التي تشكل المعونات الأجنبية جزءا كبيرا من ميزانياتها، كما هو الحال في دول جنوب الصحراء الأفريقية وجنوب المحيط الهادي، لا تحتاج إلى أن تبذل جهدا كبيرا في سبيل تحصيل العائدات الوطنية المحتملة من تعزيز النمو، ولا تهتم بطموحات المواطن العادي؛ فالمعونات تخلق بيئة لا تناسب المنادين بالديمقراطية.
إن أداء الدول الفقيرة المثقلة بالديون في أفريقيا يتناقض مع تجربة دول شرق آسيا، حيث لا تكاد المعونات الأجنبية المقدمة تساوي شيئا، وهنا تنبغي الإشارة إلى أن المواطن الذي يدفع الضرائب في الكثير من دول شرق آسيا ذات النمو السريع أصبح الآن يمتلك قدرا جيدا من السيطرة الديمقراطية.
لا شك في أن القائمين على إعداد مؤشر تمييز الفساد قد تساءلوا عما إذا كان يجب إيقاف المعونات الأجنبية للأنظمة الفاسدة، وكانت إجابتهم بأنه لا يمكن التخلي عن الدول الأشد فقرا، وأنه إذا ثبت بأن هذه الدولة أو تلك مصابة بالفساد، فإن ذلك ينبغي أن يكون إشارة للجهات المتبرعة بضرورة الاستثمار في مقاربات منهجية لمحاربة الفساد، وأن هذه الجهات يجب أن تهتم خصوصا بإشارات التحذير وتتأكد من القيام بالعمليات المناسبة للسيطرة على الوضع. وهي مهمة شاقة لجهات التبرع، ولا تحظى بالشعبية لدى مستلمي المعونات، كما جاء بوضوح في خطاب مايكل سومير (رئيس وزراء بابوا نيو غينيا) للأستراليين مؤخرا خلال مقابلة تلفزيونية. وهكذا يسهل استحضار الانتقادات التي تحذر من الاستعمار الجديد وتنادي بالخصوصية الثقافية، أما حين يتحدثون عن موثوقيتهم الكبيرة فلن يتطرقوا إلى هذه الخصوصية.
إن وكالات المعونات متعددة الأطراف لا تقدم لدافع الضرائب الذي يمولها دلائل ذات مصداقية متينة؛ وهي في الغالب تحسب “نجاحها” بمقدار ما تحصل عليه من ملايين الدولارات. وقد اشتكى جيفري ساكس (المستشار الاقتصادي للأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة كوفي عنان)، والذي كان يدعو إلى زيادات كبيرة في المعونات الأجنبية، من أن جزءا كبيرا جدا من المعونات المقدمة قد ذهب إلى جيوب المستشارين الأجانب. لكن الموثوقية تتضمن مراقبة إنفاق المعونات لضمان استخدامها بفعالية، وهذا يتطلب حتما الاستعانة المكثفة بخبراء أجانب في فرق عمل مشتركة من المسؤولين في الدول التي تقدم المعونات والدول التي تستلمها. وهذه العمليات المشتركة من شأنها أن تشكل مدارس للإدارة الفعالة الأمينة، فالهيئة التي أدارت عملية تقديم المعونات الأسترالية (بخبرات أسترالية) إلى ضحايا التسونامي في اندونيسيا تقدم نموذجا جديرا بالدراسة، وحتى بالاقتداء.
جوقة التهليل للفساد
إن القضاء على الفساد يعتبر أمرا حيويا لتحقيق الازدهار والاستقرار على الرغم من أنه لا يزال يفتقر إلى الشعبية، وعلى الرغم من تزايد الدلائل التي تشير إلى أن الكسب غير المشروع سرطان يمكن علاجه، وأن القرارات التجارية بنقل رأس المال والاستثمارات مبنية على تحليلات للواقع السياسي الخطر، وأن العديد من شباب العالم الثالث مهتاجون بحماس ضد السرقة، فإن ذلك لا يمنع من البعد عن تحقيق الانتصار في معركة الأفكار. وستدافع الطبقة المتنعمة بالامتيازات عن مواقعها وامتيازاتها المحصنة، وستحتج على انفتاح التجارة والاستثمار والأفكار، وستلهج ألسنتها بشجب العولمة. وما دامت المعركة مستمرة بين الفردانية والجماعية فإن جوقة التهليل للفساد ذات المصالح الشخصية يمكنها الاعتماد على أساس فكري؛ فالفاسدون قادرون على إخفاء تعاملاتهم بشكل طبيعي خلف دوافع نبيلة مزعومة حينما لا يكون هنالك إلا قلة من ذوي الثقافة العالية، ومع إخضاعهم لوسائل الإعلام لن تكون الحياة السياسية شفافة، وسيسهل عليهم الحصول على الأموال بسبب الثروة القادمة من الموارد الطبيعية أو المعونات الأجنبية الغزيرة. وعندما يواجه القادة باتهامات الفساد فإنهم يلجؤون إلى افتعال الشعور بالإهانة وتوجيه اللوم إلى جهات أجنبية: من استثمارات وإعلاميين ومراكز أبحاث؛ ففي الدول التي تتصف بغياب الحرية ومحدودية المستوى التعليمي يسهل على النخب الحاكمة أن تتفادى الانتقادات وتستمر في مقاومتها لدعوات التغيير.
إن المقارنات الدولية، كمؤشر تمييز الفساد، تقدم دليلا قيما وتجهز القادة السياسيين الشرفاء على الصعيد المحلي والخارجي بسلاح قوي في حلبة الصراع ضد سرطان الفساد.اضغط هنا لتحميل نسخة بي دي إف من التقرير