إذا أراد المرء أن يناصر مجتمعا حرا فعليه أن يدرك بأن هذا المجتمع يرتكز على أساس لا غنى عنه، وهو مبدأ الحقوق الفردية. وإذا أراد المرء أن يساند الحقوق الفردية فعليه أن يدرك بأن الرأسمالية هي النظام الوحيد الذي يمكنه مساندتها وحمايتها. وإذا أراد المرء أن يعرف مدى العلاقة بين الحرية والأهداف الحالية للمثقفين، فيمكنه أن يعتمد على حقيقة مفادها أن مفهوم الحقوق الفردية يتعرض للتهرب والتشويه والتضليل ونادرا ما تتم مناقشته في أوساط من يدعون «بالمحافظيين» بشكل خاص.
إن «الحقوق» مفهوم أخلاقي يقدم انتقالا منطقيا من المبادئ التي توجه تصرفات المرء إلى المبادئ التي توجه علاقته مع الآخرين، وهو مفهوم يحافظ على الأخلاقيات الفردية ويحميها في سياق اجتماعي، وهو الصلة ما بين المنظومة الأخلاقية للفرد والمنظومة القانونية للمجتمع، وما بين الأخلاق والسياسة، وبعبارة موجزة: الحقوق الفردية هي وسيلة إخضاع المجتمع إلى قانون أخلاقي.
يتأسس كل نظام سياسي على منظومة أخلاقية معينة، وقد سيطرت على تاريخ البشرية منظومة أخلاقية متنوعة الأشكال ولكنها تعتمد في جوهرها على قاعدة (الإيثار والجماعة) التي أخضعت الفرد إلى سلطة عليا، سواء أكانت روحية أم اجتماعية، ونتج عن ذلك أن معظم الأنظمة السياسية كانت مجرد أشكال متنوعة للطغيان الدولاني نفسه، ولا تختلف عن بعضها البعض إلا بالشدة، لا بالمبدأ الأساسي؛ واستمرت هذه الأنظمة عبر الزمن ولم تكن لتتوقف لولا حالات استثنائية مرت بها بفعل التقاليد والفوضى والصراعات الدموية والانهيار من حين لآخر. وكانت الأخلاق في هذه الأنظمة منظومة قابلة للتطبيق على مستوى الفرد، لا المجتمع؛ حيث وُضع المجتمع (خارج) القانون الأخلاقي باعتباره رمزا أو مصدرا أو مفسرا حصريا له، وتم تلقين الناس بأن واجب الإخلاص والتضحية بالنفس للمجتمع هو الهدف الأسمى للأخلاق خلال وجود الإنسان في هذه الدنيا.
وبما أن «المجتمع» ليس كيانا حقيقيا، وإنما هو عدد من الأفراد؛ فقد أدى ذلك في الواقع إلى أن يكون قادة المجتمع مستثنين من القانون الأخلاقي؛ وبما أنهم لا يخضعون لغير العادات والتقاليد فقد تمتعوا بسلطة كاملة فرضت الطاعة العمياء ضمن مبدأ ضمني مفاده: «الصالح هو ما يصلح للمجتمع (أو القبيلة، العرق، الأمة)، وما أوامر الحاكم إلا صوت المجتمع على أرض الواقع». ويصح هذا في كافة الأنظمة الدولانية، وضمن كافة أشكال الأخلاقيات (الإيثارية الجماعية) سواء أكانت روحية أم اجتماعية، وهما جانبان يتلخص الأول منهما في مقولة «الحق الإلهي للملوك»، ويتلخص الثاني في مقولة «صوت الشعب هو صوت الرب»، ومن أمثلة ذلك: الدولة الدينية في مصر القديمة حيث يعتبر الفرعون تجسيدا للرب، والحكم غير المحدود للأغلبية في أثينا القديمة، ودولة الرعاية التي حكمها الأباطرة في روما، ومحاكم التفتيش في منتصف العصور الوسطى، والملكية المطلقة في فرنسا، ودولة الرعاية في بروسيا إبان حكم بسمارك، وغرف الغاز في ألمانيا النازية، ومجازر الاتحاد السوفييتي. إن كافة هذه الأنظمة السياسية كانت تعبيرا عن الأخلاقيات (الإيثارية الجماعية)، وتجمع بينها صفة مميزة تتمثل في حقيقة مفادها أولوية المجتمع على القانون الأخلاقي ككيان يستهويه الطغيان والسيادة والنزوات، وبالتالي فهذه الأنظمة جميعها تعتبر، من الناحية السياسية، أشكالا متنوعة لمجتمع واحد عديم الأخلاق.
لقد كان (إخضاع المجتمع إلى قانون أخلاقي) أهم إنجاز ثوري قامت به الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث مثّل مبدأ الحقوق الفردية للإنسان امتداد يد الأخلاق لتطال النظام الاجتماعي. ومن خلال الحد من سلطة الدولة، وحماية الإنسان من همجية قوة الجماعة، وإخضاع «الجبروت» إلى «الحق»، أصبحت الولايات المتحدة أول مجتمع أخلاقي في التاريخ.
اعتبرت الأنظمة السابقة جميعها الإنسان بمثابة وسيلة يمكن التضحية بها لتنفيذ غايات الآخرين، والمجتمع الذي هو غاية بحد ذاته؛ أما الولايات المتحدة فقد اعتبرت الإنسان غاية بحد ذاته، والمجتمع كوسيلة لتحقيق تعايش الأفراد بشكل مسالم ومنظم وطوعي. وكل الأنظمة السابقة اعتبرت حياة المرء ملكا للمجتمع وأن المجتمع يمكنه التصرف بها بالطريقة التي يشاء، وأن أية حرية يتمتع بها ما هي إلا منّة من المجتمع يسمح بها حين يشاء، ويبطلها حين يشاء؛ أما الولايات المتحدة فاعتبرت حياة المرء ملكا له كحق من حقوقه (بمعنى المبدأ الأخلاقي والطبيعة البشرية)، وأن حق المرء ملكية فردية، وبهذا لا يكون للمجتمع أية حقوق، وأن الهدف الأخلاقي الوحيد للحكومة يتمثل في حماية الحقوق الفردية.
إن «الحق» مبدأ أخلاقي يعرّف ويصادق على حرية تصرف المرء ضمن السياق الاجتماعي. وهنالك حق أساسي (وحيد) فحسب (وكل ما عداه نتائج له)، وهو حق الإنسان في الحياة. إن الحياة عملية تتم فيها فعاليات للدعم والإنتاج على مستوى الذات، وهذا يعني: حرية اتخاذ كافة التصرفات اللازمة التي تقتضيها طبيعة الكائن العاقل لتوفير ما يلزم حياته الخاصة به من دعم وتطوير وإنجاز ومتعة. (وكذلك هو معنى الحق بالحياة والحرية والسعي إلى السعادة). ويرتبط مفهوم «الحق» ارتباطا مباشرا بتصرفات الإنسان، وبالأخص: حرية التصرف؛ وهي تعني التحرر من استخدام القوة للحث أو الإجبار أو التدخل ضد الآخرين؛ ومن هنا يكون الحق، بالنسبة لجميع الأفراد، إقرارا أخلاقيا للشخص (الموجب)، أي: حريته في التصرف وفق تقييمه الخاص، ومن أجل أهدافه الخاصة، وباستخدام خياره الخاص (الطوعي ودون إكراه). أما بالنسبة للمحيطين بهذا الشخص، فإن حقوقه لا تلزمهم بأية التزامات ما عدا (السالبة) منها، أي: الامتناع عن انتهاك حقوقه.
ويعتبر حق الحياة مصدر الحقوق جميعها، وحق الملكية هو التطبيق الوحيد لها جميعا؛ ومن دون حقوق الملكية لا يمكن للحقوق الأخرى أن تكون ممكنة؛ وبما أن الإنسان يجب عليه أن يستمر بحياته اعتمادا على جهده الخاص، فإن من لا يملك حق ملكية نتاج جهده يفتقر إلى وسيلة الاستمرار في الحياة، والإنسان الذي ينتج بينما يتصرف الآخرون بإنتاجه، هو عبد ولا ريب.
إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن حق الملكية هو حق اتخاذ التصرفات، فهو كأي حق آخر: ليسا حقا (بشيء)، وإنما هو حق بالتصرف وبنتائج إنتاج أو اكتساب ذلك (الشيء)، وهو ليس ضمانة للمرء بأنه (سوف) يكتسب ملكية ما، وإنما مجرد ضمانة بأنه سوف يمتلكها إذا اكتسبها؛ فهو حق اكتساب الأمور المادية، والاحتفاظ بها، واستعمالها، والتصرف بها.
إن مفهوم الحقوق الفردية حديث جدا في مسيرة التاريخ البشري إلى درجة نلاحظ معها أن معظم الناس لم يستوعبوها بشكل كامل إلى يومنا هذا؛ فبحسب النظريتين الأخلاقيتين الروحية والاجتماعية يشدد البعض على أن الحقوق هبة من الرب، ويشدد آخرون على أنها هبة من المجتمع؛ ولكن الحقيقة تقول بأن مصدر الحقوق ينبثق من الطبيعة البشرية.
لقد نص إعلان الاستقلال على أن الناس «منحهم خالقهم حقوقا ثابتة لا يمكن فصلها عنهم»؛ وسواء آمن المرء بأن الإنسان صنيعة الخالق أم الطبيعة، فإن قضية أصل الإنسان لا تغير من حقيقة أنه كيان ذو نوع خاص (كائن عقلاني) وأنه عاجز عن التصرف بنجاح إذا تعرض للإجبار، وأن الحقوق شرط ضروري لنمط البقاء الخاص به.
«إن مصدر حقوق الإنسان لا ينبع من قانون يأتي من السماء أو من قبة الكونغرس الأمريكي، وإنما من قانون الهوية؛ حيث (س = س) دائما، والإنسان هو الإنسان دائما؛ والحقوق شروط للوجود تقتضيها الطبيعة البشرية لتحقيق بقاء الإنسان بشكل مناسب؛ فحينما يتعين على الإنسان أن يعيش على كوكب الأرض، فمن (حقه) أن يستعمل عقله، ومن (حقه) أن يتصرف بحسب تقييمه الحر، ومن (حقه) أن يعمل لصالح قيَمه العليا وأن يحتفظ بنتاج عمله. ومن تكون الحياة على الأرض هدفا له، يكون من (حقه) أن يعيش باعتباره كائنا عقلانيا: فالطبيعة تحظر عليه أن لا يكون عقلانيا.» (أطلس يستريح)
إن انتهاك حقوق الإنسان يعني إجباره على التصرف بعكس ما يرتئيه تقييمه الخاص، أو مصادرة قيمه العليا؛ ولفعل ذلك توجد طريقة أساسية واحدة: استخدام القوة المادية. وهنالك عنصران اثنان يمكن استخدامهما لانتهاك حقوق الإنسان: المجرمون والحكومة. وقد تمثل الإنجاز الأعظم للولايات المتحدة في رسم حد فاصل يميز بين هذين العنصرين، وهو منع العنصر الثاني من أن يصبح نسخة مشروعة لنشاطات العنصر الأول. وقد وضع إعلان الاستقلال مبدأً مفاده أنه «لحماية هذه الحقوق تم تأسيس الحكومات بين الناس»، وقد قدم هذا النص التبرير المقبول الوحيد لوجود الحكومة وحدد الهدف الوحيد الذي يلائمها: وهو حماية حقوق الإنسان من خلال حمايته من العنف المادي. وهكذا تم تغيير وظيفة الحكومة من دور الحاكم إلى دور الخادم؛ حيث تم وضعها لحماية المرء من المجرمين، وتمت كتابة الدستور لحماية الإنسان من الحكومة، كما إن (وثيقة الحقوق) لم تكن موجهة ضد المواطن الفرد، وإنما ضد الحكومة كإعلان صريح بأن حقوق الفرد تتقدم على أية قوة شعبية أو اجتماعية أخرى.
نتج عن ذلك نمط اجتماعي متحضر اقتربت أمريكا من تحقيقه خلال حقبة زمنية قاربت قرنا ونصف القرن. والمجتمع المتحضر هو مجتمع يُحظر فيه على القوة المادية أن تتدخل في العلاقات البشرية، وتلعب فيه الحكومة دور الشرطي الذي يستعمل القوة للرد (فقط) وضد من بدأ باستخدامها (فقط)؛ وهذا هو المعنى الأساسي الذي كان في نية الفلسفة السياسية الأمريكية، مضمَّنا في مبدأ الحقوق الفردية، ولكن لم تتم صياغته بشكل صريح، ولم يتم القبول به تماما، ولم يمارَس على نحو متكامل.
لقد عانت أمريكا من تناقض داخلي يتمثل في الأخلاقيات (الإيثارية الجماعية)؛ فالإيثار يتضارب مع الحرية والرأسمالية والحقوق الفردية؛ إذ لا يمكن الجمع بين السعي إلى السعادة وبين الحالة المعنوية لحيوان تضحوي. لقد كان مبدأ الحقوق الفردية هو الذي تمخض عن المجتمع الحر، كما إن تدمير الحقوق الفردية هو الذي أدى إلى تدمير الحرية.
إن الاستبداد الجماعي لا يجرؤ على استعباد البلاد من خلال مصادرة قيمها على نحو صريح ومباشر؛ إنما يقوم بذلك عبر عملية فساد داخلي، كما يحدث على الصعيد المادي من خلال تبذير ثروة البلاد عبر التسبب بتضخم العملة، حيث نشاهد اليوم عملية التضخم وهي تطبق في مجال الحقوق، وهي عملية يتبعها نمو كبير في «الحقوق» الصادرة حديثا إلى حد لا يتمكن فيه الناس من ملاحظة حقيقة ما وقع، وهو أن مفهوم الحقوق قد تعرض إلى الانعكاس؛ وكما أن الأوراق المالية المزورة تسيء إلى قيمة الأوراق المالية الحقيقية، فإن «حقوق (اطبع وانشر)» تتناقض مع الحقوق الأصيلة. وهنالك حقيقة مثيرة للفضول ينبغي أخذها بعين الاعتبار، وهي أن العالم لم يشهد أبدا مثل هذا النمو السريع لظاهرتين متناقضتين، وهما: «الحقوق» الجديدة المزعومة، ومعسكرات العمل الإجباري.
تمثلت أشد حالات التناقض في تحول مفهوم الحقوق من ميدان السياسة إلى ميدان الاقتصاد، وقد لخص (إعلان المبادئ) الذي أصدره الحزب الديمقراطي عام 1960 هذا التحول بجرأة وصراحة، حيث جاء فيه أن الإدارة الرئاسية الديمقراطية «سوف تؤكد مجددا على وثيقة الحقوق الاقتصادية التي كتبها فرانكلين روزفلت في ضمير الأمة قبل 16 عاما». وينبغي الانتباه هنا إلى معنى مفهوم «الحقوق» عندما تقرأ القائمة التالية التي جاءت في الإعلان:
1.الحق بوظيفة مفيدة وذات عائد مالي جيد في مصانع أو متاجر أو حقول أو مناجم الأمة.
2.الحق بتقاضي أجر كافٍ يفي بحاجات الغذاء واللباس والتسلية.
3.الحق لكل مزارع بتربية وبيع منتجاته بسعر يوفر معيشة كريمة له ولأسرته.
4.حق كل أرباب الأعمال، مهما كان حجم هذه الأعمال، بالتجارة في مناخ يتحرر فيه من المنافسة غير العادلة والهيمنة الناتجة عن الاحتكارات الداخلية والخارجية.
5.حق كل عائلة بمنزل مناسب.
6.الحق برعاية صحية مناسبة وتوفير فرصة تحقيق مستوى صحي جيد والتمتع به.
7.الحق بمستوى كاف من الحماية ضد المخاوف الاقتصادية التي سادت في عصور الماضي، والمرض، والحوادث، والبطالة.
8.الحق بمستوى جيد من التعليم.
يمكننا إضافة سؤال توضيحي وحيد في نهاية كل من البنود التي وردت أعلاه، وهو: (على حساب من؟)؛ فالوظائف والغذاء والتسلية (!) والمنازل والرعاية الصحية والتعليم وغيرها ليست من نتاج الطبيعة؛ وإنما هي قيم مادية يوفرها الإنسان كما يوفر البضائع والخدمات، (فمن) سيوفرها؟ وإذا كانت (حقوق) البعض تخولهم الحصول على منتجات عمل الآخرين، فهذا يعني أن هؤلاء (الآخرين) مجردون من الحقوق ومجبرون على العمل كعبيد.
إن أي «حق» يزعمه إنسان ما ويقتضي انتهاك حقوق إنسان آخر ليس حقا، ولا يمكن أن يكون حقا؛ فليس للإنسان أن يمتلك حقا يفرض على إنسان آخر التزاما لم يختره، أو واجبا دون عائد، أو خدمة غير طوعية. ولا يمكن أن يكون هنالك ما يشبه «حق الاستعباد»؛ فالحق لا يتضمن التطبيق المادي للحق من قبل الآخرين، وإنما يقف عند حدود الحرية باكتساب هذا التطبيق عبر الجهد الشخصي. وفي هذا السياق ينبغي أن نلاحظ الدقة الفكرية عند الآباء المؤسسين للولايات المتحدة عندما تكلموا عن حق «السعي إلى السعادة»، (وليس) الحق بالسعادة؛ وهذا يعني أن للإنسان حق اتخاذ الإجراءات التي يراها ضرورية لتحقيق سعادته، وهذا (لا) يعني أن الآخرين يجب عليهم أن يجعلوه سعيدا.
إن حق الحياة يعني أن من حق الإنسان أن يوفر احتياجات حياته من خلال عمله (على المستوى الاقتصادي وبمقدار ما يمكن أن تصل إليه قدراته)، وهذا (لا) يعني أن الآخرين يجب عليهم أن يزودوه بالممتلكات. كما إن حق حرية التعبير يعني أن من حق الإنسان التعبير عن أفكاره دون أن يتهدده خطر تعرضه للاضطهاد أو التدخل أو العقاب من الحكومة، وهذا (لا) يعني أن الآخرين يجب عليهم أن يزودوه بقاعة محاضرات أو محطة إذاعية أو مطبعة للتعبير عن أفكاره. إن أي التزام يتضمن مشاركة أكثر من شخص يقتضي الموافقة (الطوعية) من جانب كل المشاركين، وكل واحد منهم له (الحق) بصياغة خياره الشخصي، ولكن لا أحد منهم له الحق في فرض قراره على الآخرين.
ليس هنالك شيء يمكن أن يدعى «حق الوظيفة»، وإنما هنالك حق التجارة الحرة، أي: حق الإنسان بالحصول على وظيفة إذا قرر شخص آخر أن يوظفه. وليس هنالك «حق المنزل»، وإنما هنالك حق التجارة الحرة، أي: حق بناء منزل أو شرائه. وليس هنالك حقوق بأجر «عادل» أو سعر «عادل» إذا لم يقرر أحد أن يدفع هذا السعر أو يوظف هذا الشخص أو يشتري تلك السلعة. وليس هنالك «حقوق المستهلك» في الحليب أو الأحذية أو الأفلام أو العصير إذا لم يقرر المنتجون تصنيعها (وهنالك فحسب حق التصنيع لمن يريد ذلك). وليس هنالك حقوق لفئات خاصة، من أمثال «حقوق الفلاحين أو العمال أو أرباب الأعمال أو الموظفين أو من يوظفهم أو المسنين أو الشباب أو الأجنّة»، وإنما هنالك فقط «حقوق الإنسان»: الحقوق التي يمتلكها كل فرد و(جميع) البشر كأفراد.
إن حقوق الملكية وحق التجارة الحرة هي «الحقوق الاقتصادية» الوحيدة للإنسان (وهي حقوق سياسية في حقيقتها)، ولهذا لا يمكن أن يوجد ما يسمى «وثيقة الحقوق (الاقتصادية)»، ولاحظ معي هنا أن مؤيدي هذه الوثيقة الجديدة كادوا ينتهون من تدمير النسخة القديمة. ولا بد للمرء أن يتذكر هنا أن الحقوق مبادئ أخلاقية تعرّف وتحمي حرية الإنسان بالتصرف، ولكنها لا تفرض أية التزامات على الآخرين. فالمواطنون كأفراد لا يمثل أي واحد منهم تهديدا لحقوق الآخر أو حريته، ومن يلجأ منهم إلى القوة المادية وينتهك حقوق الآخرين فهو مجرم، والآخرون يملكون حماية قانونية ضده.
لا يشكل المجرمون إلا أقلية ضئيلة في أي عصر أو بلد، وما أحدثوه من أذى للبشرية يكاد لا يقارن بالأهوال والمجازر والحروب والاضطهاد والمصادرة والمجاعات والاستعباد والتدمير الشامل الذي ارتكبته حكومات البشرية؛ فمن طبيعة الحكومة أنها تشكل أخطر تهديد تواجهه حقوق الإنسان: فهي تمتلك تصريحا قانونيا حصريا باستخدام القوة المادية ضد ضحية منزوعة السلاح بشكل قانوني. وعندما لا تكون هذه الحكومة محدودة أو مقيدة بالحقوق الفردية فإنها تتحول إلى أشد أعداء الإنسان فتكا؛ ولهذا جاءت (وثيقة الحقوق) لا لتحمي من التصرفات (الفردية)، وإنما من التصرفات الحكومية.
لنلاحظ الآن العملية التي يتم من خلالها تدمير هذه الحماية؛ حيث تتضمن هذه العملية أن تعزى إلى المواطن الفرد تلك الانتهاكات التي يحظر الدستور على الحكومة ارتكابها (والتي لا يملك الفرد سلطة ارتكابها)، مما يحرر الحكومة من كل الضوابط. وهذا التحول يبدو شيئا فشيئا بأوضح صوره في ميدان حرية التعبير. فطيلة سنين وأنصار الجماعية يروجون لرأي مفاده أن رفض الفرد لتمويل من يعارضه يعد انتهاكا لحق هذا المعارض في حرية التعبير وعملا «رقابيا»؛ فالرقابة في رأيهم هي ما يحدث حينما ترفض إحدى الصحف توظيف أو نشر كتابات من تتعارض أفكارهم مع سياسة الصحيفة جملة وتفصيلا؛ أو حينما يرفض رجال الأعمال نشر إعلاناتهم في مجلات تشن عليهم حملات الانتقاد والإهانة وتشويه السمعة؛ أو حينما تعارض جهة راعية لبرنامج تلفزيوني أن يتضمن هذا البرنامج تصرفات غاضبة كما حدث عندما وجهت الدعوة إلى ألجار هيس ليشنع على نائب الرئيس السابق ريتشارد نيكسون. أضف إلى ذلك ما جاء على لسان رئيس اللجنة الفيدرالية للاتصالات نيوتن ميناو الذي أعلن ذات مرة: «هنالك رقابة بواسطة جهات التصنيف، والمعلنين، وشبكات البث، ومن يتبع لها ممن يرفضون البرامج المقدمة إلى مناطقهم». وهذا هو السيد ميناو نفسه الذي هدد بإبطال رخصة أي محطة لا تستجيب لما يرتئيه من برامج، وهو نفسه الذي زعم بأن هذا التهديد ليس من الرقابة في شيء.
لنناقش المعاني المضمنة في مثل التوجه؛ فالرقابة مصطلح لا يصح إلا على التصرفات الحكومية، فليس هنالك من تصرف فردي يمكن أن يندرج تحت هذا المصطلح، وليس من فرد أو وكالة يمكنها أن تخرس شخصا أو توقف مطبوعة، وإنما هذا ما تفعله الحكومات. إن حرية التعبير للفرد تتضمن حقه في أن لا يتفق مع معارضيه وأن لا يصغي إليهم وأن لا يقدم لهم التمويل، ولكن بعض الطروحات من أمثال «وثيقة الحقوق الاقتصادية» لا ترى للفرد حقا في استخدام وسائله المادية الخاصة على ضوء توجيه معتقداته الخاصة، وإنما ينبغي عليه وفقها أن يسلم ماله دون تمييز إلى أي خطيب أو مروج، فهم يملكون «الحق» في ممتلكاته.
هذا يعني أن توفير الأدوات المادية للتعبير عن الأفكار يحرم الإنسان من حق إيقاف أية فكرة؛ أي: أن الناشر يتوجب عليه نشر الكتب التي يعتبرها عديمة القيمة أو مزيفة أو شريرة، وأن من يرعى برنامجا تلفزيونيا ينبغي عليه أن يقدم المال للمعلقين الذين يختارون الإساءة إلى معتقداته، وأن مالك الصحيفة يجب عليه أن يسلم صفحات مقالات الرأي إلى أي شاب طائش يرغي ويزبد غضبا على «استعباد الصحافة». إن هذا يعني أن مجموعة من الناس تمتلك «الحق» برخصة غير محدودة، بينما يُضيَّق على الآخرين بطريقة غير مسؤولة لا يرتجى منها أي صلاح.
ولكن ما دام من الواضح استحالة توفير وظيفة أو ميكروفون أو عمود في صحيفة لكل من يطلب؛ فمن ذا الذي سيقرر عملية «توزيع الحقوق الاقتصادية» ويختار المستفيدين عندما يتم إبطال حق المالك بتقرير مصير ممتلكاته؟ حسنا، لقد أجاب السيد ميناو على هذا السؤال بوضوح كاف.
أما من يظن مخطئا بأن ما ذكرناه ينطبق على المالكين الكبار فحسب، فعليه أن يدرك بأن نظرية «الحقوق الاقتصادية» تتضمن «حق» كل كاتب مسرحي هاوٍ أو كل شاعر متطرف أو كل ملحن لا يعزف إلا الضجيج أو كل رسام دون هدف (وله تأثير سياسي) في الحصول على الدعم المالي الذي لم يتمكن من الحصول عليه عبر العروض الفنية. وإلا فما هو المغزى من مشروع ينفق أموال الضرائب للإنفاق على الفن؟
وبينما يثور الضجيج حول «الحقوق الاقتصادية» تجد تراخيا تجاه مفهوم الحقوق السياسية؛ حيث أصبح في طي النسيان أن حق حرية التعبير يعني حرية الإنسان في الدفاع عن آرائه وتحمل مسؤولية ما ينتج عنها تجاه الآخرين من خلاف ومعارضة وانعدام شعبية وقلة دعم. وتتمثل الوظيفة السياسية «لحق التعبير عن الرأي» في حماية المنشقين والأقليات التي لا تحظى بالشعبية من الاضطهاد العنيف، و(ليس) ضمان حصولها على الدعم والمنافع والمنح مقابل شعبية لم تكسبها.
لقد جاء في (وثيقة الحقوق): «يجب على الكونغرس أن لا يسن أي قانون… يحد من حرية التعبير، أو حرية الصحافة…»، فهو لا يطالب المواطنين بتوفير الميكروفون لمن ينادي بدمارهم، أو المفتاح للص الذي يسعى إلى سرقة خزائنهم، أو السكين للقاتل الذي يروم قطع رقابهم؛ لكن هذا هو حال أكثر القضايا إلحاحا في وقتنا الحاضر: إذ تتواجه الحقوق (السياسية) مع «الحقوق (الاقتصادية)» في معركة لا تنتهي بالتعادل، حيث يجب على أحدهما أن يدمر الآخر. وفي الحقيقة، ليس هنالك ما يسمى «الحقوق الاقتصادية»، أو «الحقوق الجماعية»، أو «حقوق المصلحة العامة»؛ حتى أن مصطلح «الحقوق الفردية» يعاني من زيادة الألفاظ، إذ ليس هنالك نوع آخر من الحقوق، وليس هنالك غير الفرد كي يدعي عائديتها؛ ومن يدافع عن سياسة (عدم التدخل الحكومي في الاقتصاد) الرأسمالية، إنما هو المدافع الوحيد عن حقوق الإنسان.
آين راند
الفصل الأول من كتاب (الرأسمالية.. المثل الأعلى المجهول)
أبريل 1963
One comment
دارين
2 أبريل، 2012 at 4:01 ص
الموقع حقيقي تحفه لكم مني اجمل تحيه