السوق الحر

temp27 مارس، 20120

موري ن. روثبارد: أكاديمي وكاتب لعب دورا هاما في إعادة إحياء المدرسة النمساوية في الاقتصاد وإعادة ولادة الأفكار الليبرتارية والليبرالية الكلاسيكية خلال القرن العشرين.

السوق الحر مصطلح يلخص مجموعة مرتبة من التبادلات التي تحدث في المجتمع. وكل تبادل يتم النهوض بأعبائه باعتباره اتفاقية طوعية ما بين شخصين أو بين مجموعات من الناس يمثلهم الوكلاء. وهذان الفردان (أو الوكيلان) يتبادلان نوعين من السلع الاقتصادية: المادية واللامادية. وهكذا، فعندما أشتري صحيفة من بائع الصحف مقابل خمسين سنتا، فهذا يعني أنني وبائع الصحف تبادلنا سلعتين: فقد تخليت عن خمسين سنتا، وتخلى هو عن الصحيفة. أو لنفرض أنني أعمل لدى شركة، فهذا يعني أنني أتبادل خدمات العمل التي تعود لي بطريقة متفق عليها بين الطرفين، وذلك مقابل راتب مالي، وهنا يمثل الشركة مسؤول (وكيل) يملك سلطة التوظيف.

إن كلا الطرفين ينهض بأعباء التبادل لأن كلا منهما يتوقع جني الربح من ذلك. كذلك، فإن كلا منهما سيعيد التبادل في المرة القادمة (أو يرفض ذلك) لأن توقعاته أثبتت صوابها (أو خطأها) في الماضي القريب. والتجارة، أو التبادل، إنما تجري لأن كلا الطرفين يستفيد منها، ولو كانا لا يتوقعان جني الأرباح منها لما اتفقا على التبادل أساسا.

هذا الاستدلال البسيط ينقض الحجة المضادة للتجارة الحرة والتي نجد نموذجا عنها في الفترة “الميركنتيلية” التي سادت في أوروبا من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر، وقد وردت تفصيلات كلاسيكية لها في كتابات الكاتب الفرنسي الشهير مونتين (ق16). حيث رأى الميركنتيليون أنه في أية تجارة لا يمكن إلا لطرف واحد أن يربح وذلك على حساب الطرف الآخر، وأنه في أية تعامل تجاري هنالك رابح وخاسر: “مستغِل” و”مستغَل”. هنا يمكننا أن نلاحظ فورا المغالطة في هذا الرأي الذي لا يزال شعبيا حتى يومنا هذا: فالعزم على التجارة، وحتى التحمس لها، يعني انتفاع كلا الطرفين، وإذا استخدمنا مصطلحات نظرية اللعبة الحديثة، فإن التجارة هي وضع من النوع (رابح-رابح)، وهي لعبة ذات “محصلة إيجابية” وليست لعبة ذات “محصلة صفرية” أو “محصلة سلبية”.

كيف يمكن لكلا الطرفين أن يكسبا من تبادل ما؟ إن كلا منهما يقيّم السلعتين أو الخدمتين بشكل مختلف، وهذه الاختلافات تمهد الطريق لحدوث التبادل. فأنا، على سبيل المثال، أملك في جيبي مالا ولكنني لا أملك جريدة، أما بائع الصحف فلديه الكثير من الصحف ولكنه يتوق للحصول على المال، وهكذا فإننا نعقد صفقة عندما يجد أحدنا الآخر. وهنالك عاملان يحددان شروط أية اتفاقية: بكم يقيّم كل مشارك كل سلعة داخلة في الاتفاقية، ومهارات المساومة عند كل من المشاركين. فكم من السنتات ينبغي تبادلها مقابل صحيفة واحدة إنما يعتمد على كافة المشاركين في سوق الصحف، وشروط التبادل هذه، وهي تدعى “الأسعار” (هنا يكون سعر الصحيفة مقدرا بالمال)، يتم تحديدها بشكل نهائي من خلال عدد الصحف المتاحة في السوق مع مدى التفضيل لدى البائع في تقييم هذه السلع؛ وباختصار: يتم تحديدها عبر تفاعل (العرض) مع (الطلب).

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار (عرض) سلعة ما، فإن أي زيادة في قيمتها في أذهان المشترين سوف تزيد من (الطلب) عليها، وستتطلب مالا أكثر للحصول عليها، وسيزداد سعرها. ويحصل عكس ذلك إذا انخفضت قيمة السلعة، وبالتالي انخفض الطلب عليها. ومن جهة أخرى مع الأخذ بعين الاعتبار تقييم المشتري أو طلبه تجاه سلعة ما، فإذا حصلت زيادة (العرض) فإن كل وحدة من المعروض (رغيف خبز مثلا) ستنخفض قيمتها، وبالتالي: سعرها؛ والعكس يحدث عند انخفاض (العرض) لهذه السلعة.

إذن، فالسوق ليس مجرد مجموعة مرتبة من التبادلات، وإنما هو شبكة معقدة جدا من التبادلات المتفاعلة. لقد كانت التبادلات في المجتمعات البدائية تجري إما عن طريق المقايضة أو التبادل المباشر، حيث يتبادل شخصان سلعتين لهما نفع مباشر (خيول مقابل أبقار، مثلا)؛ ولكن مع تطور المجتمع ظهرت عملية متدرجة من النفع المتبادل وخلقت وضعا يختار فيه السوق سلعة أو اثنتين من السلع القيّمة ذات الفائدة الواسعة لتكون وسيطا في التبادل غير المباشر. وحينها تصبح هذه السلعة المالية، وغالبا ما تكون ذهبا أو فضة، مطلوبة لا لذاتها فحسب، وإنما للمساهمة في إعادة تبادل سلعة مرغوبة أخرى. فمن الأسهل بكثير أن لا تدفع لعمال إنتاج الفولاذ أجورهم على شكل أسلاك من الفولاذ، وإنما على هيئة نقود يمكن للعامل أن يستخدمها في شراء ما يشاء. كما إن هذا العامل مستعد لقبول النقود لأنه يعلم بحكم تجربته وفطنته أن المجتمع بأكمله سيتقبل منه هذه النقود عندما يدفعها. واستخدام النقود هو الذي جعل من الممكن ظهور هذه الشبكة الحديثة التي لا تنتهي من التبادلات، والتي تدعى السوق. إن كل شخص يعمل ضمن اختصاص أو فرع من فروع العمل لينتج ما يتقنه، وعملية الإنتاج هذه تبدأ مع الموارد الطبيعية، ثم تنتقل إلى الأشكال المختلفة للآلات والسلع الإنتاجية، ثم تباع السلع الناتجة في النهاية إلى المستهلك. وفي كل مرحلة من مراحل الإنتاج، من الموارد الطبيعية إلى السلع الاستهلاكية، يتم تبادل النقود بطوعية مقابل سلع إنتاجية وخدمات عمل ومواد خام. وفي كل خطوة من خطوات هذا الطريق يتم تحديد شروط التبادلات (النقود) عبر التفاعلات الطوعية ما بين أولي (العرض) وأولي (الطلب). وهو سوق “حر” لأن الخيارات، في كل خطوة، يتم اختيارها بحرية وطوعية.

إن السوق الحر ومنظومة السعر الحر تجعلان البضائع من أنحاء الأرض جميعها متاحة للمستهلك. كما إن السوق الحر يوفر أقصى مجال ممكن لعمل المستثمر الريادي الذي يخاطر برأسماله لتخصيص الموارد على النحو الذي يرضي الرغبات المستقبلية لجماهير المستهلكين على أفضل نحو ممكن. وحينها يمكن للادخار والاستثمار أن يطور السلع الإنتاجية ويزيد من الإنتاجية وأجور العمال، مما يؤدي إلى تحسين مستوى معيشتهم. ويضاف إلى ذلك أن السوق التنافسي يكافئ ويحفز الابتكار التكنولوجي الذي يسمح للمبتكر بالحصول على الدعم الأولي لتلبية احتياجات المستهلك بطرائق جديدة خلاقة. وهذا لا يؤدي إلى تشجيع الاستثمار فحسب، وإنما يؤدي إلى أمر أهم أيضا، وهو أن منظومة السعر ومحفزات (الربح والخسارة) في السوق من شأنها أن تقود عملية استثمار رأس المال وإنتاجه إلى الطريق المناسب. وشبكة التبادلات المعقدة يمكنها أن تنظم عمل جميع الأسواق و”تصفّيها” فلا يكون هنالك بعد هذا أي عجز أو فائض مفاجئ أو غير متوقع أو غير مفهوم في أية مرحلة من مراحل الإنتاج.

لكن التبادلات ليست حرة بالضرورة، فالكثير منها إجباري، وحينما يهددك اللص بقوله “نقودك أو حياتك” فإن ما تدفعه له ناتج عن الإجبار وليس طوعيا، وينتفع اللص على حسابك. إن اللصوصية، وليست الأسواق الحرة، هي من يتبع النموذج الميركنتيلي: فاللص ينتفع على حساب من يتعرض للإجبار. والاستغلال لا يحدث في السوق الحر، وإنما يحدث حينما يقوم المجبِر باستغلال الضحية. وعلى المدى البعيد، فإن الإجبار لعبة ذات (محصلة سلبية) تؤدي إلى انخفاض الإنتاج والادخار والاستثمار، ونضوب رأس المال، وهبوط الإنتاجية ومستوى المعيشة للجميع، وربما تصل هذه التأثيرات إلى المجبِرين أنفسهم.

إن الحكومة، في أي مجتمع من المجتمعات، هي منظومة الإجبار الوحيدة التي تتمتع بالشرعية؛ فالضرائب تبادل بالإجبار، وكلما كان عبء الضرائب باهظا على الإنتاج، أصبح النمو الاقتصادي مهددا أكثر بخطر التداعي والانهيار. وهنالك أشكال أخرى للإجبار الحكومي (كالتحكم بالأسعار أو القيود المفروضة على دخول منافسين جدد إلى السوق) تؤدي إلى إعاقة وعرقلة تبادلات السوق، بينما نجد أشكالا أخرى تؤدي إلى تعزيز التبادل الطوعي (كحظر بعض ممارسات الغش، وفرض تنفيذ العقود).

تمثل الاشتراكية نهاية المطاف في الإجبار الحكومي. ففي ظل التخطيط المركزي الاشتراكي تفتقر هيئات التخطيط الاشتراكية إلى منظومة أسعار للأرض أو السلع الإنتاجية، حتى أن اشتراكيين من أمثال روبرت هيلبرونر يعترفون بأن هيئات التخطيط الاشتراكية عاجزة لذلك عن حساب الأسعار أو التكاليف أو عن استثمار رأس المال بما يمكن شبكة الإنتاج المعقدة من التنظيم والتصفية. ولنا في التجربة السوفييتية، حيث لا يجد المحصول الوفير من القمح طريقا إلى المستهلك، مثال مفيد عن استحالة عمل الاقتصاد الحديث المعقد في ظل غياب السوق الحر، إذ لا يوجد هنالك أي محفز أو سبيل إلى حساب الأسعار والتكاليف التي تتطلبها شاحنات نقل القمح، أو التي تتطلبها الطواحين لاستلام القمح وطحنه، والحال لا يختلف عبر عدد كبير من المراحل التي يتطلبها الوصول إلى المستهلك النهائي في موسكو أو غيرها، وهكذا يكاد يضيع الاستثمار في القمح هباء منثورا.

وفي الواقع، ليست (اشتراكية السوق) غير تناقض في المصطلحات، وما يدور من نقاش حولها يتجاهل في الأغلب جانبا حاسما من مفهوم السوق؛ فعندما يتم تبادل سلعتين بشكل فعلي، فإن ما يتم تبادله في الواقع هو حقوق ملكية هذه السلع، فعندما أشتري صحيفة بخمسين سنتا فإن هذا يعني أنني أتبادل مع البائع حقوق ملكية: فأنا أتنازل عن ملكية الخمسين سنتا وأمنحها لبائع الصحف، وهو يتنازل عن ملكية الصحيفة ويمنحها لي. وهذه العملية نفسها تحدث عند شراء منزل، في ما عدا أن الأمر غير رسمي في حالة الصحيفة بشكل أكبر بكثير، ويمكن الاستغناء عن العمليات المعقدة من سندات وتوثيق للعقود ووكلاء ومحامين وسماسرة رهون وغير ذلك، ولكن الطبيعة الاقتصادية للتبادل تظل هي نفسها في كلتا الحالتين.

إن هذا يعني بأن الطريق إلى ظهور السوق الحر وازدهاره يتمثل في وجود مجتمع تتمتع فيه حقوق الملكية الخاصة بالاحترام والدفاع والحماية. أما الطريق إلى الاشتراكية فيتمثل في ملكية الدولة لوسائل الإنتاج والأرض والسلع الإنتاجية. وهكذا، فلا يمكن أن يظهر السوق في أرض أو سلع إنتاجية لا هوية لها. وهنا يفشل المنتقدون في ملاحظة أن منظومة السوق الحرة توفر لكل شخص حق الملكية في شخصه أو عمله، وإمكانية التعاقد الحر بما يقدمه من خدمات. والعبودية تنتهك حق الملكية الأساسي للعبد في جسده وشخصه، وهو حق يشكل أساسا لأي حق ملكية في الأشياء المادية غير البشرية. ناهيك عن أن كافة الحقوق هي حقوق بشرية، سواء أكانت حق الغير في حرية التعبير أم حقوق ملكية فرد ما في منزله الخاص به.

هنالك تهمة شائعة توجه إلى مجتمع السوق الحر، وهي أنه يقيم “قانون الغاب”، ويشجع على “التكالب”، وأنه يستعيض عن التعاون البشري بالتنافس، وأنه يعلي من مقام النجاح المادي دون القيم الروحية أو الفلسفة أو نشاطات الترفيه. ولكن الحقيقة على العكس من ذلك، فلا شك في أن الغابة تمثل مجتمعا يسوده الإجبار واللصوصية والتطفل، وتتعرض فيه الحياة ومستوى المعيشة إلى التدمير؛ أما التنافس السلمي بين المنتجين في السوق فهو عملية تعاونية بالكامل يستفيد منها الجميع وترفع من مستوى معيشتهم (بالمقارنة مع ما عليه الحال في مجتمع يفتقر إلى الحرية). كما إن النجاح المادي الحتمي للمجتمعات الحرة يحقق الثراء العام الذي يسمح لنا بالتمتع بكم هائل من الترفيه بالمقارنة مع المجتمعات الأخرى، وبالسعي إلى أمور روحية. والدول الإجبارية التي يغيب فيها نشاط السوق أو يخفت، وبالأخص في ظل الشيوعية، هي التي لا تقتصر فيها مطحنة الحياة اليومية على إفقار الناس ماديا، وإنما تتعدى ذلك إلى استباحة أرواحهم أيضا.

حول الكاتب

موري ن. روثبارد (ت 1995): كان أستاذا مميزا للاقتصاد (كرسي س. ج. هول) في جامعة نيفادا في ولاية لاس فيغاس الأمريكية، كما كان الاقتصادي الأبرز في (المدرسة النمساوية) للاقتصاد خلال النصف الأخير من القرن العشرين.

مراجع للاطلاع[…]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018