peshwazarabic

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

معهد كيتو، 2006 – إنني أفكر في فقرة في الكتاب الذي ألفه لودفيغ فون ميزس بعنوان: “الفعل البشري،” والذي يقول فيها أن اقتصاد السوق ليس بحاجة إلى مدافعين أو مروجين. ويمكن إيجاد أفضل حجة لاقتصاد السوق في النقش الموجود على ضريح السير كريستوفر فرين، المهندس الذي قام ببناء كاتدرائية القديس بول، وتم دفنه فيها: “إذا كنت تبحث عن نصب تذكاري، أنظر حولك.” أنظروا إلى ما قام ببنائه. أنظروا إلى رؤيته. إنكم تقفون فيها في هذه اللحظة. وهذا، باعتقادي الشخصي، هو افضل دفاع يأمل اقتصاد السوق بالحصول عليه—أن ينظر الناس حولهم، ويتأملوا بالأشياء المدهشة والفرص التي منحها المغامرون من رجال الأعمال والشركات إلى العالم خلال المائتي سنة الماضية. أنظروا فقط إلى الصحة، والثروة، والتقنيات، والفرص، والطعام الموجود في أطباقكم. هل كان من الممكن أن يكون ذلك متاحاً لأي ملك أو ملكة قبل مائتي عام؟
والحقيقة المدهشة هي أن الرياديين، من رجال أعمال مغامرين ومستثمرين، حوّلوا وسائل الترف التي لا يستطيع حتى الملوك تحمل نفقاتها، إلى سلع يومية متدنية السعر توجد في متجركم المحلي. وهذا هو أفضل دفاع عن الرأسمالية.
في غضون فترة قصيرة جداً، مرّ العالم بتغيير جذري. وهذا بالضبط ما يدور حوله كتابي الأخير: “عندما خلق الإنسان العالم.” والأمر المشوق هو أن التاريخ أثبت لنا أن الحرية تنجح. إذ أنه خلال ألف عام من الحكم المَلَكي المطلق، والإقطاعية والعبودية، ازداد معدل دخل الفرد بنحو 50 في المائة. وفي خلال 180 عاماً منذ عام 1820، ازداد معدل دخل الفرد بنحو 1000 (ألف) في المائة. وخلال المائة سنة الماضية، خلقنا ثروة أكبر، وقللنا من الفقر، وزدنا متوسط العمر المتوقع اكثر من المائة ألف عام الماضية. وحدث ذلك لأن أشخاصاً مثلكم—رجال أعمال مغامرين، ومفكرين، ومبدعين، ومبتكرين—كان لديهم أفكار جديدة، وقطعوا مسافات جغرافية، والأهم من ذلك، مسافات ذهنية لابتكار أشياء جديدة، والذين كانوا على يقين من أن التقاليد القديمة، التي كان من الممكن أن تقف عائقاً أمام الابتكارات الجديدة، لم توقفهم لفترة طويلة.
لهذا السبب لدينا كل هذه الثروة. ولهذا السبب يملك إبني—الذي سيولد في شهر كانون الثاني—فرصة للوصول إلى سن التقاعد أكبر من الفرصة التي ملكها الأطفال في كافة العصور السابقة لدى احتفالهم بعيد ميلادهم لأول مرة.
إنتشار عالمي
خلال العقود القليلة الماضية من العولمة، عندما انتشرت الفرص الجديدة، والتقنيات، ووسائل الاتصال والإنتاج في شتى أرجاء العالم، شهدنا ظاهرة مدهشة: البلدان النامية تنمو بشكل أسرع من البلدان الأغنى على كوكبنا. لقد استغرقنا الأمر نحو 40 عاماً لمضاعفة معدل دخلنا في الدول المتقدمة. إنما يستغرق الأمر نحو 10 إلى 15 عاماً اليوم، بالنسبة للصين، والهند، وبنغلادش، وفييتنام للقيام بالأمر ذاته. بإمكان هذه البلدان استغلال الأفكار والتقنيات التي استغرقت منا عدة أجيال لتطويرها مباشرة. ولهذا السبب انخفض الفقر في العالم إلى النصف خلال العشرين عاماً الماضية.
في كل دقيقة أتحدث خلالها، يذهب نحو 13 طفلاً من العمل الشاق والعرق أثناء العمل في المزارع أو المصانع إلى المدارس من أجل التعليم، وللحصول على حياة أفضل فيما بعد، ولتعزيز فرصهم. وفي كل دقيقة أتحدث خلالها، يزداد معدل العمر المتوقع بنحو 15 ثانية بسبب الزيادة في الثروة والتقنيات الطبية الجديدة. كل ذلك يعتمد على المستثمرين ورجال الأعمال. إن الريادي هو مستكشف يتنقل بين مناطق غير محددة، ويفتتح طرقاً جديدة سوف نعبرها عما قريب.
لم يتولد أي شيء “من البداية.” ولا حتى الموارد الطبيعية هي طبيعية بأي معنى منطقي—وهو أمر أدركته العديد من الحكومات عندما قامت بتأميم مصادر النفط والغاز، حيث أخفقت في الإدراك بأننا نحتاج أيضاً إلى روح المغامرة—القدرة على رؤية طريقة استغلال مصدر ما، وكيفية الاستثمار فيه بطريقة إيجابية للتأكد من استخدامه بطريقة فعالة. لقد نمت دول الأوبك بنحو 4 في المائة سنوياً بسبب مواردها النفطية حتى عام 1973، عندما قامت معظمها بتأميم صناعاتها النفطية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت تلك الدول أفقر بنحو واحد في المائة سنوياً.
قبل خمسين عاماً مضت، فكر سائق شاحنة من كارولاينا الشمالية يدعى مالكوم مكلين أنه لا بد وان تكون هنالك طريقة اكثر كفاءة لنقل السلع والقطع إلى شتى أرجاء العالم. في ذلك الوقت، كان الأشخاص يقودون شاحناتهم إلى الميناء. وتنتظر الباخرة هناك لمدة أسبوع أو أكثر في انتظار أن تقوم القوى العاملة النقابية بتحميل كل قطعة من الشحنة على حدة وببطء وثبات على الباخرة. ويحدث العكس عند وجهة الباخرة. فكر مكلين قائلاً: “ماذا لو استخدمت صناديق بدون عجلات، ووضعت جميع السلع في الصناديق، وحملتها في الشاحنات، وقدت الشاحنات إلى الميناء ثم وضعت الصناديق المغلقة على الباخرة؟” وفي غضون ليلة واحدة، ابتكر مكلين طريقة النقل بالحاويات العصرية. فخفض بذلك تكلفة إرسال البضائع والقطع عبر المحيطات بنحو 97 في المائة. من المحتمل أن يكون لدينا نوع معين من الكمبيوتر، بقطع من جميع القارات الرئيسية على الكوكب، وجميع الملابس التي نلبسها، والطعام الموجود في أطباقنا، بسبب رجل واحد وأحلامه، وثقافة لم تحاول إعاقته، ولكنها بدلاً من ذلك شجعت أحلامه ورؤاه. وأصبحت البلدان النامية في شتى أرجاء العالم تستفيد من المواهب الموجودة لديها وعملها الشاق—لإنتاج ما تستطيع إنتاجه بأفضل حال، ووضعه في حاويات، وإرساله إلى أماكن أخرى.
لكن التقنية لا تكفي. إذ أننا نحتاج أيضاً إلى الحرية للخروج بتقنيات جديدة. وما لم تتنحى الحكومات عن الطريق، وتسمح للرياديين المغامرين إنجاز أعمالهم، فلن يحدث شيء من هذا القبيل.
نحن نعلم أنه توجد أماكن لا تستخدم فيها التقنيات المعاصرة بسبب التنظيمات، والفساد والتدخل الحكومي. إذا أرسلت حمولة شاحنة من الفاكهة من جنوب إفريقيا إلى زيمبابوي، فإنها ستكلفك وقتاً كثيراً، ودفع الرشاوى والرسوم إلى الحكومة، وضرائب أكثر مما يكلفك إرسال نفس الحمولة من الفاكهة من جنوب إفريقيا إلى الولايات المتحدة!
أبطالنـــــا

يوجد كتاب كلاسيكي ألّفه جوزيف كامبيل، وهو كتاب حول التاريخ الثقافي بعنوان: “البطل ذو ألف وجه،” ويروي سيرة الأبطال في الثقافات المختلفة. ولأن كامبيل طاف أرجاء العالم بقراءة الكتب من القارات الأخرى، أستطاع أن يدرك أن هنالك أبطالاً في جميع الثقافات، وفي جميع الكتب، وفي جميع العصور. نحن بحاجة إلى الأبطال، لأنهم يقولون شيئاً ما عن ماهية قيمنا، وما هو جيد، وما هو رائع، وما هو سيئ، وما الذي يجب أن نناضل من أجله، وما الذي يجب أن نحاول تجنبه. لقد رأى نمطاً مشتركاً. وفكر أنه في معظم الثقافات وفي معظم العصور، فإن الأعمال ذاتها هي التي ينظر إليها على أنها بطولية.
يحدث أمر عظيم، ويضطر بطلنا للذهاب في رحلة لمحاربة الأعداء رغم كل شيء، دون أن يعرف ماذا يجب عليه أن يفعل، ومتى، وكيف. ولكن أثناء مسيرته، يكوّن أصدقاء يساعدونه في مسيرته هذه، ويمدونه بالمعرفة والإلهام للقيام بالأمر الصواب.
فكروا في هذه الرحلة البطولية مرة أخرى، وفكروا في الأشخاص الذين تكلمت عنهم للتو—أشخاص مثلكم، ومفكرين، ومبتكرين، ورجال أعمال. فما الذي يتيح شراء المعدات والسلع من الطرف الآخر من العالم؟ يواجه الرياديون التقاليد القديمة، والعوائق السياسية، والضرائب، والتنظيمات، ولكن لديهم أيضاً أصدقاء—أشخاص لديهم إمكانية الوصول إلى رأس المال، والمعرفة، وإلى أعمال تجارية أخرى.
وإذا كانوا محظوظين، فإن الرياديين ينجحون في مغامراتهم اليومية. وإذا لم يكونوا محظوظين، فإنهم يتعلمون أمراً جديداً، ويعملون على تحسينه في المرة المقبلة، ويجلبون إلى المجتمع شيئاً جديداً يغير حياة الأفراد إلى الأبد.
هذه هي الملحمة البطولية. إن الريادي المغامر هو بطل عالمنا. لسنا بحاجة في الحقيقة إلى شخصيات خيالية من الأفلام مثل فرودس [من فيلم سيد الخواتم]، أو لوك سكايوولكر [من فيلم حرب النجوم] أو “بافي” قاتلة مصاصي الدماء. لدينا أمثال مالكوم مكلين الحقيقيين في هذا العالم. ولكن كما تعرفون جميعكم، ليس هذا ما تعتقده الثقافة الشعبية إزاء الرأسماليين ورجال الأعمال المغامرين في وقتنا هذا. فإذا ذهبت لمشاهدة فيلم عادي من إنتاج هوليوود، فإن البطل هو شخص مختلف تماماً.
فالعاِلم والرأسمالي هما العدو في معظم أعمال هوليوود. إن هذا الأمر يشكل مفارقة إلى حد ما، لأنه لم يكن بإمكاننا أن نتملك تقنية إنتاج الأفلام لو لم يكن هنالك علماء، ولن تكون لدينا صناعة أفلام لو لم يكن هنالك رأسماليين. ولكن يتم تقديهم كأشرار. إذ إن بعض المناهضين للعولمة والمعارضين لمبدأ التجارة الحرة هم الآن مستشارون يتلقون أجراً جيداً وأعضاء في مجالس إدارة الشركات الكبيرة، يقولون لها إن ما تفعله هو في الواقع أمر سيء، وينبغي عليها القبول باتباع استراتيجيات “المسؤولية الاجتماعية.” ومن وجهة نظرهم، تعني المسؤولية الاجتماعية للشركات أن ما أنجزوه لغاية الآن لا يعتبر اجتماعياً. ولا يكفي ابتكار السلع، والخدمات، والتقنيات التي تزيد من طول العمر المتوقع، وتنقذ حياة أطفالنا! كلا، يجب عليهم أن يفعلوا شيئاً آخر. إذ بعد أن تتحقق الأرباح، ينبغي إعادة “شيء منها” إلى المجتمع. إعادة شيء منها إلى المجتمع؟ كما لو أن رجال الأعمال والرأسماليين سرقوا شيئاً يخص المجتمع وعليهم إعادته!
إن الأرباح ليست أمراً ينبغي علينا الاعتذار بشأنه. إنها دليل بأن الرأسمالي أعطى إلى المجتمع شيء عزيزاً أكثر من الثروة المادية التي أعطاها المجتمع إلى رجل الأعمال.
ويجب أن أؤكد أنه يجب ألا يكون رجال الأعمال شاكرين مطلقاً لمجتمع فرض عليهم تراخيص للعمل، والحلم، والابتكار والإبداع. وأعتقد شخصياً انه يجب علينا، وعلى المجتمع، أن نكون شاكرين للمغامرين ورجال الأعمال لما أنجزوه. فالرياديون المغامرون هم أبطال عالمنا—وهم رغم المخاطر، والعمل الشاق، والعدائية من جانب المجتمع، والشعور بالحسد من جانب الجيران وتنظيمات الدولة، يستمرون في الإبداع، والإنتاج والتجارة. وبدونهم لن يكون هناك أي شيء.
إن السحر حيّ
اعتقد ماكس فيبر، عالم الاجتماع الألماني، أن العالم المعاصر شهد تفسيراً كان مسبباً لمشكلة كبيرة. أنه لم يعد هنالك سحر في العالم بوجود العلم الذي يفسر كل شيء—الحياة، والطبيعة والأمراض.
عذراً كبيراً!!! لا يوجد سحر؟ إن هذا لأمر سخيف. أنا جئت طائراً إلى هنا [الولايات المتحدة]. في عام 1901، سمعنا عبارة من معلّق يتمتع بالبصيرة قال إن ذلك مستحيل. لا يمكننا الطيران، ولن يكون بمقدورنا القيام بأمر كهذا لقرابة الخمسين عاماً المقبلة على الأقل. كان هذا المعلق ويلبر رايت، أحد الأخوين رايت اللذين بعد عامين فقط قاما بأول رحلة طيران، لأنه أراد الاستكشاف. لقد قام بهذه المجازفة وجعل كل شيء يحدث. إن هذا هو السحر بعينه.
يمتلك كمبيوتري قدرة على الحساب أكبر من القدرة التي كانت موجودة لدى معظم البلدان قبل 40 عاماً. وتتحول أفكاري إلى أرقام تتكون من العددين واحد وصفر يتم بثها عبر أنسجة ضوئية، وكوابل ضوئية من الزجاج، رفيعة بحجم الشعرة، وتصل إلى الطرف الآخر من العالم بعد ذلك خلال عُشرٍ من الثانية. وبكبسة على فأرة الكمبيوتر، بإمكاني أن أطلب إي نوع من المعرفة الموجودة في أي مكان من العالم.
وتوجد فوقنا أقمار صناعية توجه تحركنا. ويوجد تحتنا رجال آليون يستخرجون المعادن من الصخر. سافرنا إلى الفضاء الخارجي وقرأنا الشيفرة الوراثية الموجودة في أجسامنا. لقد تغلبنا على الجوع والمرض. لذا فإنني سأقول لكم: إننا نعيش في عالم مسحور، في عالم سحري، وهو اكثر سحراً رغم ذلك لأن المبدعين والمبتكرين جعلوه كذلك.
توجد رؤى. ويوجد ذكاء، وعبقرية، وعمل شاق في كل سلعة، وفي كل خدمة وفي كل تقنية نستخدمها كل يوم. ونحن بالكاد بدأنا. فلدينا عدد من العلماء أحياء اليوم أكبر من العدد الذي كان موجوداً في كل العصور السابقة مجتمعة.
إنني أتصور ما الذي يستطيع الأفراد الأحرار والمبدعون فعله بوجود الانجازات الجديدة في مجال التقنية متناهية الصغر، والتقنية الحيوية والرجال الآليين. إنني متأكد من أن ذلك سيدهش آباءنا السابقين. فلو أخذ الأشخاص الأمور مسلماً بها، فذلك لأن حياتنا اليومية أصبحت رائعة.
إرادة الحرية

أنتم تعرفون الحكمة القديمة القائلة: “من أشبع عطشه يدير ظهره للبئر.” حسناً، لهذا السبب نجتمع ونتشارك في وجبة الغذاء. ولهذا السبب نعمل، ولهذا السبب نناضل—لتذكير الناس بإرادة الحرية والفردية، ولضمان عدم جفاف هذه البئر، ولتذكيرهم بالأسباب التي من أجلها يعيشون فترة أطول، ولديهم حياة اكثر ثراء عن ذي قبل، في بلدان أكثر حرية عن ذي قبل.
من العادة في نهاية أية كلمة أن أقول شكراً، للإشارة بأنها انتهت. أفعل ذلك عندما أتحدث إلى مناهضي العولمة والماركسيين وغيرهم. ولكن في هذه المرة، إنني أعني ذلك حقاً. يجب أن أقول شكراً لأنكم خلقتم هذا العالم الرائع، وشكراً جزيلاً لدعمكم للأفكار التي جعلت ذلك ممكناً.
رسالة كيتو، شتاء 2007، المجلد 5، العدد 1.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 28 حزيران 2007.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

كيف يمكن أن تتم ترجمة العلوم الإيجابية واليقينية (المعبر عنها بالكامل بالتعبير “يكون”) إلى التعبير عنها بـ”يجب أن” ضمن إطار المفهوم الاقتصادي؟ في الجزء الأول من هذه السلسلة، قمنا بجذب الانتباه إلى بعض التناقضات الظاهرية التي تحيط بالمشورة الاقتصادية. وقمنا، على وجه الخصوص، بجذب انتباه مربك ومحير إلى المناصرة والدفاع الانفعالي العاطفي الذي دافع به لودفيغ فون ميزس عن ترتيبات وأنظمة السوق الحر، وهو نفس لودفيغ فون ميزس الذي أصر على موقف (“حرية القيمة”) فيرتفرايهايتالأكثر تجريديا وحيادية والذي يجب أن يتم القيام به من جانب كافة علماء الاجتماع. وفي هذه المقالة، الحالية، سنقوم، كخطوة باتجاه توضيح هذه التناقضات الظاهرية والاحجيات المربكة، بمناقشة طبيعة فرضيات علم الاقتصاد المركزية الإيجابية تماما. كما أننا سنجد بان أي إدراك كامل حريص للأسلوب الذي يسهم بموجبه علم الاقتصاد في وجود سلسلات السبب والمسبب (أي وجود سبب لكل ما يتم تسببه) في المجال الاقتصادي سيكون بمقدوره أن يساعدنا على أن نرى كيف يمكن للمعرفة التي تتعلق بهذه السلسلات أن تغذي وتديم طرقا محددة جدا خاصة بتقديم مشورة وإرشاد لصانعي سياسات اقتصادية. فالتعبيرات التي تصف سلسلات السبب والمسبب تتم بالتعبير “يكون”، إلا أن هذا التعبير، كما سوف نرى، بمقدوره، وفق إحساس محدد بعناية، أن يستحدث ويولد التعبير “يجب أن” الذي تتكون منه أية مشورة اقتصادية.
السبب والمسبب في مجال الشؤون الاقتصادية
تأسس علم الاقتصاد كفرع من فروع المعرفة في القرن الثامن عشر، عندما أقر علماء الاقتصاد الكلاسيكيون بان هناك سلسلات سبب ومسبب منتظمة موجودة في أية ظاهرة اقتصادية، (تماما كوجودها في أية ظاهرة فيزيائية طبيعية). وبالرغم من التقدم اللاحق الذي تحقق في وضع الفرضيات الاقتصادية الذي عمل بشكل جذري على تغيير الطريق التي بموجبها يستطيع علماء الاقتصاد أن يفهموا السبب والمسبب الاقتصادية، فان علماء الاقتصاد الكلاسيكيين هم الذين قاموا بتأسيس علم الاقتصاد في هذا الحقل العلمي من المعرفة من خلال تأسيس فكرة سلسلات السبب والمسبب النظامية.
إن الفهم والإدراك الفعليين لهذا الحقل العلمي من المعرفة الاقتصادية (أو “الاقتصاد السياسي” حسبما تمت تسميته من قبل علماء الاقتصاد الكلاسيكيين في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر) يحمل في طياته مضامين ثورية خاصة بالسياسة العامة. وكما أكده ميزس مرات ومرات، فان اكتشاف الأصول النظامية في الظاهرة الاقتصادية يعني أن رجل الدولة السياسي المهتم بالسياسة العامة لم يعد باستطاعته التعامل مع الاقتصاد على كونه معجونا طريا له الحرية في قولبته وفق أي شكل مهما كان نوعه ظنا منه بأنه الأفضل بالنسبة للمجتمع. فكل تصرف سياسي وكل تقييد تشريعي (أي قانون يفرض على نشاط اقتصادي) وكل إعانة مالية عامة، يجب، في الوقت الحالي، أن يتم الإقرار بأنها سوف تكون متبوعة بتداعيات محددة. وقبل أن يتم البدء في أية تعرفة جمركية وقبل أن يتم منح أي حق احتكاري وقبل أن تتم طباعة أية نقود وقبل أن يتم فرض أي نوع من الرقابة على الأسعار، يجب على أولئك الذين يعتبرون كمسؤولين عن سياسة الدولة أن يسألوا أنفسهم عما إذا كانوا قد اخذوا بعين الاعتبار كافة التداعيات التي من المرجح أن تتبع هذه الأفعال وتنجم عنها. وكما اثبت علماء الاقتصاد الكلاسيكيين، يوجد هناك “قوانين” اقتصادية يجب مراعاتها وأخذها بعين الاعتبار إذا كان من المطلوب تجنب حدوث كارثة اقتصادية.
ولكن، كيف يمكن أن تتواجد مثل هذه “القوانين”؟ فمما لا ريب فيه، سوف تقوم أية استحالة يتم إدراكها بالبديهة باعتراض سبيل أية “قوانين” قد يتم تخيلها لحيلولة دون تواجدها، وهو الأمر الأول المطلوب كي يتم فهم وملاحظة أية أصول نظامية وعلاقات سببية أو وظيفية في أية ظاهرة فيزيائية طبيعية. ولكن، فان توقع وجود مثل هذه الأصول النظامية والعلاقات السببية والوظيفية في أية ظاهرة اقتصادية (والتي تمثل محصلة قرارات وأفعال يتم اتخاذها وإجراؤها بشكل مستقل من قبل الملايين الذين ينتخبون بشكل حر ممثلين فرديين)، سوف يبدو على أنه إدراك حدسي مضاد بشكل فاضح. وعلى ما يظهر، فانه لا مفر من ضمان قيام الممثلين الذين ينتخبون بشكل حر “بإطاعة” الأصول النظامية التي يقر العلم بأنها حاسمة وقاطعة.
إن هذه الصعوبة الادراكية الحدسية هي السبب الأساسي الذي يكمن في حيرة وارتباك كل من واضعي النظريات الاقتصادية والفلاسفة على مدار القرنين الماضيين وفي جدالهم حول ذات الإمكانية المتاحة في علم الاقتصاد وحول صفتها المعرفية النظرية. وقد تم تزويد السلسلة الحالية من المقالات (وبشكل خاص هذه المقالة) بالمعلومات بفضل البصائر النافذة وإطار العمل الفلسفي الذي تم تحديده بالاشتراك مع مدرسة العلوم الاقتصادية النمساوية وعلى وجه الخصوص مع فكر ممثليها، رواد القرن العشرين وهما ميزس وفريدرك هايك.
وضمن إطار العمل الفلسفي هذا، سوف ينصب الاهتمام على غايات وأغراض الكائنات البشرية وعلى الطريقة التي يتم بها إجراء تعديل على توقعات ومعرفة هذه الكائنات البشرية بشكل منهجي منظم من خلال خبرة وتجربة اقتصادية. فالتجربة الاقتصادية المتغيرة تعمل على تغيير الشروط التي بموجبها يجد أولئك الممثلون الفرديون أنفسهم قادرين بالفعل على القيام بالاختيار، وهي أيضا تلك التجربة التي ستقوم بتعليم الممثلين أينما يقومون بارتكاب خطأ التفاؤل المفرط أو التشاؤم المفرط في حكمهم على الشروط التي بموجبها يكون الآخرون على استعداد للمقايضة معهم وان تلك التجربة هي التي أيضا ستعمل على تغيير الممثلين الفرديين تبعا للفرص المستقبلية المتاحة التي لم تعد لغاية الآن موجودة أو التي لم تتم ملاحظتها لغاية هذا الوقت. وضمن هذا الإطار التحليلي، تستطيع أية نظرية اقتصادية أن تقدم أفكارا يتم بموجبها فهم كيف تقوم التغيرات ذات المنشأ الخارجي التي تطرأ على موجودات المصادر المتاحة وعلى المعرفة الفنية والافضليات لدى المستهلكين بإجراء تغيير منظم على ظاهرة السوق والذي، بالتالي، يعمل على تحديد مسار الإنتاج وأنماط تخصيص وتوزيع المصادر. ولكي يتم توضيح هذا النهج نحو التفكير الاستنتاجي دعونا نأخذ على سبيل الفرض “الأصول النظامية” ذات القاعدة الأكبر في اقتصاد السوق ألا وهي “قانون” العرض والطلب.
“قانون” العرض والطلب
هذا الفهم الأساسي لأسعار السوق يقوم بتعريف وتحديد طبيعة واتجاه القوى التي تعمل داخل السوق بالنسبة لكل مادة منتجة وكل مصدر. وينظر هذا الفهم إلى السوق، بالنسبة لأية مادة منتج معين، ولتكن إحدى المنتجات الخاصة بالاستهلاك البشري (كالحليب أو الخدمات التي يقدمها مغني أوبرا على سبيل المثال) أو بالنسبة لأي مصدر (كالمزرعة التي تقوم بزراعة المحاصيل أو الخدمات التي يقدمها مدرس هندسي لتدريب مهندسين على سبيل المثال)، وكأنه سوق في حالة تعديل وتحول متواصل تجري بفعل خبرة وتجربة سوقية وفق نمط منهجي منظم. وقد يتم، في أي وقت معين، عرض “الكثير جدا” أو “القليل جدا” من أية مادة (سلعة أو خدمة) معينة للبيع (أو يتم السعي لشرائها). (ومعنى “الكثير جدا” المعروض من أية مادة للبيع أن هناك الكثير منها معروضا للبيع بشكل يزيد عن السعي للشراء. أما “القليل جدا” المعروض من أية مادة للبيع فيعني أن السعي لشراء تلك المادة، وفق الأسعار المتداولة، سيكون اكثر مما يرغب ببيعه البائعون.) و”قانون” العرض والطلب يقوم بتركيز الاهتمام على وجود قوى سوق عفوية تلقائية تنزع إلى “تصحيح” اختلالات التوازن هذه.
وحيثما يتم عرض “الكثير جدا” من أية مادة (سلعة أو خدمة) للبيع، فان الأسعار الهابطة (الخاصة بتلك المادة المعنية) تنزع إلى تشجيع بعض البائعين (“الحديين” الذين يرفضون البيع إذا هبط الثمن عن حد معين) على خفض الإنتاج لمثل تلك المادة والى تشجيع مشترين محتملين على السعي نحو طلب كميات إضافية بغرض شرائها. وحيثما يتم عرض “القليل جدا” من أية مادة (سلعة أو خدمة) للبيع، فان الأسعار الصاعدة الخاصة بتلك المادة المعنية تنزع إلى تشجيع بائعين محتملين على زيادة إنتاج تلك المادة (وبالتالي الكميات التي ستعرض للبيع) والى تثبيط بعض المشترين (“الحديين” الذين يرفضون الشراء إذا ارتفع الثمن عن حد معين) عن مواصلة الشراء. فإذا كانت عملية الضبط والتوافق هذه في سوق معينة مسموحا لها أن تستمر بشكل غير محدود (أي إذا بقيت تكاليف وتقنيات الإنتاج الخاصة بالمادة المعنية من ناحية، وافضليات المستهلكين، من ناحية أخرى، ثابتة لا تتغير بشكل غير محدود في حين تستمر عمليات الضبط والتوافق في السوق)، فان السوق الخاص بتلك المادة يمكن التصور على كونه سيحوز على “التوازن”. فتوازن السوق سيؤدي إلى حالة تصورية بحيث لا يتم بها عرض “الكثير جدا” ولا“القليل جدا” للبيع من تلك المادة المعنية. وفي مثل هذه الحالة التصورية من التوازن، سوف لن يكون هناك أي نطاق خاص بقوى السوق يعمل على حفزها على الحركة، كما انه في مثل هذه الحالة التصورية من التوازن فان الأسعار والكميات المعروضة للبيع والتي يتم السعي لشرائها سوف تكون بمثل ذلك التوازن نظرا لعدم وجود ميول حافزة لأي منهما لكي تتغير.
وعلى النقيض لما تعلمه العديد من طلبة علم الاقتصاد كي يعتقدوا به، فان “قانون” العرض والطلب لا يقر (عندما يتم فهمه بالشكل المناسب) بان كل سوق سوف يكون متوازنا أو على وشك التوازن في كل لحظة. كما انه لا يقر (بشكل اقل اعتراضا على ما ورد أعلاه) بان الأسواق تنزع بسرعة إلى تحقيق التوازن. والأصح هو أن “القانون” يقر بان ذلك، ولدرجة أن لا يكون السوق في أية لحظة معينة متوازنا، سيقوم بنفسه بحفز قوى تدفع السوق بطريقة مهيمنة باتجاه التوازن.
ومع ذلك، يجب أن يتم الفهم والتأكيد على أن التبديل المتواصل الذي يطرأ على المتغيرات المعنية ذات المنشأ الخارجي (على سبيل المثال تكاليف الإنتاج وتوفر المصادر وأنماط الافضليات لدى المستهلكين) ستقوم بشكل لا يمكن تجنبه تقريبا بضمان أن تكون وضعية التوازن، بالنسبة لأي سوق وفي أية لحظة معينة، مختلفة عما كانت عليه تلك الوضعية في أية لحظة سابقة. وبناء على ذلك، فان قوى السوق التي يتم إطلاقها وتحريرها بواسطة ظروف إخلال التوازن في إحدى اللحظات سوف لن تضمن بكل تأكيد تقريبا أن يتم إحراز التوازن في أية لحظة لاحقة.
وبالرغم من كل ذلك، فان من المعقول والمنطقي أن نشير إلى أن اختلالات التوازن الإجمالية الإضافية التي تتواجد في السوق في أية لحظة معينة سوف تنزع، وفقا لـ”قانون” العرض والطلب، إلى أن يتم تصحيحها. “فالإفراط في العرض” سوف يقوم بالضغط على الأسعار كي تهبط ويثبط همة البائعين الحديين من القيام ببعض الإنتاج ويشجع على القيام بمشتريات إضافية، وبالتالي سوف ينزع نحو التخلص من إخلال التوازن. أما “النقص” فسيعمل في الاتجاه المعكوس، إلا انه سيكون حميدا على قدر المساواة. والآن دعونا نتفحص لماذا يمكن أن يتم وصف التخلص من هذه “الاختلالات في التوازن” على كونه “حميدا”. ففي المقالة الختامية من هذه السلسلة، سوف يكون هذا التحليل مساعدا لنا على فهم الحس الواعي الذي يمكن بموجبه لأية نظرية اقتصادية، وفق أسلوب موضوعي علميا، أن تقوم بنشر وترويج مشورة سياسة اقتصادية سليمة.
اختلال السوق – لمَ يتم التأسف عليه؟
دعونا ندرس حالة “الإنتاج المفرط” في سوق معينة (على أن يتم اعتبار مثل ذلك السوق وكأنه سوق معزول ومنعزل عن الأسواق الأخرى). ولسبب يعود إلى سوء في الحسابات أو لأي خطأ آخر، عملت القرارات التي اتخذها المنتجون في السوق على المغالاة في تقدير شغف المشترين بالشراء. والكميات التي عرضت للبيع والأسعار المتوقعة منها التي قام بطلبها بائعون محتملون لم يقابلها قرارات والتي سيقوم باتخاذها مشترون محتملون (وبالتالي تلك الأسعار التي بموجبها سيتوقع المشترون المحتملون أن يكونوا قادرين على الشراء والتي بموجبها أيضا سيكون لديهم الرغبة في الشراء). إن هذا الاختلال في التوازن سيتطابق مع قرارات تم اتخاذها بحيث ثبت في النهاية على أنها قرارات مخيبة للآمال ومع قرارات تم اتخاذها انتهت إلى انه قد تم التأسف عليها. هناك بعض البائعين المحتملين (الذين قد يقوموا بطريقة مغايرة بتقديم عروض للبيع وفق أسعار منخفضة، لكنهم قد يكونوا قد صمدوا وقدموا بشكل خاطئ أسعارا مرتفعة) قد يفشلوا وتخيب آمالهم من حيث عدم تمكن خططهم للبيع وفق أسعار مرتفعة من التنفيذ الناجح. وقد يشعر أيضا هؤلاء البائعون بالأسف والندم على رفضهم العرض بالبيع وفق أسعار منخفضة أو انهم قد يشعرون بالأسف على قراراتهم التي اتخذوها بشكل مسبق من ناحية الإنتاج. فإخفاق القرارات التي يتخذها بعض البائعين المحتملين لنقل الحركة مع قرارات متوافقة يتخذها المشترون المحتملون يكشف عن “خطأ” هذه القرارات كلها والذي هو مصدر خيبة الأمل والأسف.
هناك نمط من القرارات والذي يكون مختلفا واكثر دقة، يتخذه كل من مشترين محتملين وبائعين محتملين قد يسمح لهم بالوصول إلى تنفيذ خططهم بشكل اكثر نجاحا مما يخطر على البال فعلا. وعند قيام اثنين من المشاركين في السوق بالدخول في مبادلة طوعية لمنفعة مشتركة بينهما (كأن تكون على سبيل المثال وفق سعر منخفض) فان إخفاقهم في إنجاز ذلك (بسبب عائد إلى ارتكاب “خطأ” ما) سوف يبدو، على الأقل من الوهلة الأولى، بأنه سوء حظ لا لبس فيه بالنسبة لكل واحد منهما. وعلى ما يظهر، منذ الوهلة الأولى، بان لا أحد منهما سوف يكسب أي شيء من خلال حقيقة كونهما لم يقوما باتخاذ الخطوات الكامنة نحو تحقيق المنفعة المشتركة.
وبناء على ذلك، إذا كنا على صواب في هذا الحكم، فان عملية السوق التي تقوم حسب “قانون” العرض والطلب الخاص بنا بحفز ميول ونزعات السوق المتواصلة باتجاه تصحيح مثل تلك الاختلالات في التوازن، سوف تبدو بأنها حميدة لأنها تنزع إلى اكتشاف وتصحيح قرارات السوق “الخاطئة” وهي تلك القرارات التي تعمل على إحباط استغلال المبادلات المربحة المشتركة المحتملة.
وبالرغم من أننا كنا حريصين على التعبير الصريح عن هذا الحكم (أو الرأي) المساند والمؤيد بطريقة صارمة (من ناحية نتيجة “قانون” العرض والطلب) وفق شروط أولية، فإننا سنجد بان ذلك الحكم هو في الحقيقة قد صمد بشكل نشط وقوي اكثر مما قمنا بافتراضه. وكما سوف نرى في المقالة الختامية من هذه السلسلة، فان ذلك الحكم سوف ينزع إلى الصمود حتى عندما نقوم بإهمال الافتراضات المحددة التي وردت في هذا القسم من المقالة. هناك مفهوم أو إحساس محدد والذي بموجبه تؤدي نظرية العرض والطلب “الإيجابية” بشكل يتعذر تجنبه إلى فهم صفتها الحميدة من الناحية الاجتماعية (بمعنى تلميحاتها ومضامينها “المعيارية”). وقمنا هنا، فعلا، بإلقاء نظرة سريعة على الأساس الخاص بالمشورة الاقتصادية ذات القاعدة العلمية، إلا أن المقالة الحالية لم تقم بعد بإكمال شرحها وعرضها للعمل الإيجابي لـ”قانون” العرض والطلب. وقبل أن نمضي قدما بشكل ابعد من ذلك، فان علينا أن نكشف بطريقة اكثر حذرا تماماكيف يقوم هذا “القانون” بتحقيق سحره، أي ميله نحو تصحيح اختلال توازن السوق. وسوف نجد بان المناقشة المعيارية في هذا القسم من المقالة يمكنها أن تساعدنا على فهم العمل “الإيجابي” لعملية السوق المنافسة.
كيف يعمل السوق
إن اختلال توازن السوق، كما رأينا، يعكس ويعبر عن قرارات تم اتخاذها بشكل خاطئ. فالذين شاركوا في السوق قد تم تركهم وهم خائبو الآمال مع بضائعهم غير المباعة. فلو أنهم كانوا يعرفون ذلك بشكل مسبق لكانوا قد أنتجوا عدد وحدات اقل من هذا النوع من البضائع وحتى انهم لكانوا قد تحولوا إلى خطوط إنتاج بضاعة تختلف عما لديهم أو لكانوا قد سعدوا بالبيع وفق أسعار أقل (فالسبب الوحيد الذي جعلهم يخفقون في القيام بذلك هو انهم قد اقتنعوا بشكل خاطئ بان لديهم القدرة على الحصول على أسعار أعلى).
علينا أن نلاحظ بان هذا المفهوم المتعلق باختلال توازن السوق يشير، في الواقع، إلى وجود نوعينمميزين من الأخطاء. النوع الأول من الأخطاء الذي ارتكبه المشاركون في السوق، حسب رأينا، هو انه ببساطة لم يتم استغلال والاستفادة من فرص تبادل مربحة مشتركة (وبنفس هذه الطريقة عندما تكون أسعار السوق “مرتفعة جدا”، محدثة بذلك عروضا خاصة بالبيع والتي يتم رفضها، ويعني ذلك، على الأرجح، بان المبيعات المربحة المشتركة كان من الممكن أن تتم، من حيث المبدأ، لو تم البيع وفق أسعار اقل.) أما النوع الثاني من الأخطاء فيعني بان بعض المشاركين في السوق قد انقادوا إلى الاعتقاد(بشكل خاطئ تماما) بان فرص التبادل المربح المشترك موجودة فعلا (والتي هي غير موجودة). وهكذا، فقد اخفق النوع الأول من هذين النوعين من الأخطاء في التعرف على فرص كانت قائمة، أما النوع الثاني من الأخطاء فهو الذي قام “برؤية” فرص كانت في حقيقة الأمر فرصا غير موجودة. وقد يصف المرء النوع الأول من الأخطاء على أنه أحد الأشياء التشاؤمية غير الملائمة (أي الإخفاق في رؤية فرص تحدق فعلا في وجه المرء)، في حين يتم وصف النوع الثاني من الأخطاء على أنه أحد الأشياء المفرطة في التفاؤل غير الملائم وغير المبرر. ويمكن لهذا التبصر النافذ أن يساعدنا على فهم عملية ضبط السوق وعمل “قانون” العرض والطلب.
والآن دعونا ننظر إلى أخطاء التفاؤلية المفرطة. ففي أي مكان تحدث به مثل هذه الأخطاء، سوف يتم الاكتشاف (وبالتالي يتم التصحيح بشكل افتراضي) بان أخطاء التفاؤلية المفرطة هذه هي في الغالب حتمية ليس من الممكن تجنبها. فخبرة المرء في السوق سوف تكشف عن الموقع الذي كان هو نفسه فيه مفرطا في التفاؤل وسوف تكشف عن أن الفرص التي كان من المتوقع أن يقوم ذلك المرء بمواجهتها بشكل مفرط في التفاؤل هي ببساطة فرص لم تحدث. ومثل هذه الخبرة في مطاردة وتتبع الفرص سوف تنزع، وبشكل حتمي تقريبا، إلى أن تكبح جماح توقعات وحدس السوق المفرطة في التفاؤل. وستقوم مثل هذه الخبرة بـ”تعليمنا” أين وكيف تكون مثل تلك التوقعات الأكثر واقعية في وضعية منظمة. وحيثما يكون البائعون المفترضون المفرطون في التفاؤل يرفضون، على سبيل المثال، أن يبيعوا وفق أسعار منخفضة (واثقين تماما، لكنه بشكل خاطئ، وهم يتوقعون بان يتم البيع بأسعار مرتفعة)، فان تجربتهم وخبرتهم المخيبة للآمال في السوق تنزع إلى تعليمهم بان يقوموا بخفض الأسعار المطلوبة).
ولكن النوع الثاني من الأخطاء (والذي يعبر عن التشاؤمية غير الملائمة) سوف لا يبدو بأنه قادر على القيام بتصحيح “تلقائي” وفق أية طريقة مماثلة. فالفرصة (الخاصة بتبادل نافع بشكل مشترك) التي لا تتم رؤيتها في الوقت الحاضر من قبل الأطراف المعنية (والتي بناء على ذلك لا يتم استغلالها) قد لا تتم رؤيتها أيضا يوم غد (حتى وان كانت ما تزال موجودة غدا). والآن دعونا نأخذ مثالا على ذلك. إذا كانت الأسعار المختلفة الخاصة “بنفس” المادة (السلعة أو الخدمة) كانت قد سادت في أنحاء مختلفة في “نفس” السوق، فان ذلك سوف يكون أحد الاحتمالات التي قد يتم بموجبه حدوث تواجد لفرص مبادلة نافعة مشتركة إلا أنها قد تمت إضاعتها. وبالرغم من كل ذلك، ففي أي سوق يقوم به مشترون بالشراء وفق أسعار مرتفعة في حين يكون هناك بعض البائعين الذين يبيعون وفق أسعار منخفضة، سوف يكون لدينا وضعا بحيث يكون هؤلاء البائعون والمشترون وقد استفادوا تماما من التبادل مع بعضهم البعض وفق أحد الأسعار الأقل من تلك الأسعار المرتفعة والتي بموجبها قام المشترون بالشراء، إلا أنها أعلى من تلك الأسعار المنخفضة التي بموجبها كان البائعون يبيعون بها. ومن الواضح بان هؤلاء المشاركين في السوق كانوا مجرد جاهلين على غير دراية بما يجري في مكان آخر في نفس السوق. ولكن على ما يظهر، لا يوجد هناك أسلوب واضح يتم به استبدال مثل ذلك الجهل وعدم الدراية بطريقة عفوية تلقائية بمعلومات ممتازة عن السوق. كما انه على ما يبدو، لا يوجد هناك طريقة واضحة والتي من خلالها قد ينزع السوق إلى استبدال أسعار سوق متباعدة بشكل كبير بأسعار اقل تباعدا.
ومن هنا، تعتبر عملية السوق العفوية التلقائية بأنها عملية تتوقف على اليقظة الريادية بخصوص إحدى النزعات الأكثر أهمية (والمعترف بها على نطاق واسع) في سوق حر ومنافس: وهي أن الأسعار الخاصة بنفس المادة (السلعة أو الخدمة) سوف تتحرك فعلا باتجاه سعر منفرد في جميع أنحاء السوق.
اليقظة الريادية

أحد العناصر الأقل وضوحا لكنه برغم ذلك من اكثر العناصر قوة والعاملة في الأسواق هو عنصر اليقظة الريادية، أي نزوع الكائنات البشرية إلى ملاحظة الشيء الذي يكون من مصلحتها أن تلاحظه. فالمشترون الذين يقومون بالشراء بدفع أسعار عالية بغير ضرورة لذلك فانهم سوف ينزعون بالفعل، عاجلا أم آجلا، إلى اكتشاف أين يمكنهم الحصول على سلع مشابهة وفق أسعار اقل إلى حد كبير. والبائعون الذين يقومون بالبيع بأسعار مخفضة بغير ضرورة لذلك فانهم سوف ينزعون بالفعل إلى اكتشاف أين يمكنهم إيجاد مشترين راغبين في دفع أسعار عالية. إضافة لذلك، سوف يكتشف الرياديون، عاجلا أم آجلا، بأنهم قادرون على كسب ربح صاف بمجرد شرائهم وفق أسعار مخفضة والبيع وفق أسعار مرتفعة. إننا نشعر بأننا فعلا مقتنعون بان الأسعار المتباعدة بشكل كبير في نفس السوق والتي تخص منتجا معينا أو مصدرا معينا سوف تفتح الطريق وفق هذا الأسلوب أمام قوى منافسة تنزع إلى دفع هذه الأسعار المتباعدة للتوجه للاقتراب نحو بعضها البعض. وبهذا الشكل، وكنتيجة لليقظة الريادية فان الأخطاء الناجمة عن التشاؤم غير الملائم سوف تنزع إلى التصحيح.
وهكذا، فان “قانون” العرض والطلب يقوم بشرح وتفسير سلسلات السببية الاقتصادية مصحوبا بكل بعد من البعدين المتميزين التاليين: البعد الأول، وهو كما رأيناه في البداية، يعمل باتجاه تصحيح اختلالات توازن السوق لمواد (سلع أو خدمات) معينة. والبعد الثاني يعمل بهدف تصحيح مثل تلك الاختلالات في التوازن بنفس الوقت الذي يقوم به بتصحيح ظاهرة الأسعار المتباعدة لكل مادة من مثل تلك المواد. وتعمل قوى العرض والطلب على تصحيح القرارات “الخاطئة” التي تكون متفائلة بشكل غير ملائم، بنفس الوقت الذي تعمل به على تصحيح القرارات “الخاطئة” التي تكون مفرطة في التشاؤم.
نطاق تحليلنا الواسع

لقد كانت مناقشتنا، لغاية هذه النقطة، بسيطة كل البساطة في كل من افتراضاتها وموادها الرئيسية. ولقد قمنا بالحديث عن السوق الخاصة “بمادة (سلعة أو خدمة) معينة” في حين قمنا بالافتراض بان هذا السوق هو سوق معزول ومنعزل عن كافة الأسواق الأخرى. وعندما يقوم أحد ما بتوسيع وجهة نظر تحليلية لشخص ما كي تشتمل على الأسواق الخاصة بمنتجات ومصادر لا تعد ولا تحصى التي قد يتم شراؤها وبيعها ولكي تشتمل أيضا ليس فقط على مجرد قرارات شراء وبيع بل أيضا على قرارات تتعلق بالأشياء التي يتوجب إنتاجها وبكيفية إنتاج هذه الأشياء، فانه قد يبدو، في الوقت الحالي، بأننا في عالم من تعقيدات عقل متردد، يكون لتحليلاتنا البسيطة غير المعقدة ارتباطا ضئيلا به. إلا أن ذلك ليس هو الحال. فالبصائر النافذة التي وردت في الأقسام السابقة من هذه المقالة لها فعلا ارتباط مباشر حتى بالنسبة للأسواق المتشابكة الأكثر تعقيدا.
لننظر على سبيل المثال إلى سوق يتم به إنتاج مادة (سلعة أو خدمة) معينة ولتكن مادة المنتج “ج” من خلال دمج المدخل “أ” مع المدخل “ب” طبقا لبعض الوصفات الإنتاجية. ولنتصور بان يكون مثل ذلك الإنتاج عالي الربح. ولدى دمج المدخل “أ” مع المدخل “ب” فان تكاليف هذا الدمج، بحسب مستوى مخرجات معينة، ستكون اقل إلى حد كبير من الإيرادات التي سيتم تحصيلها من بيع المنتج “ج” في سوق السلع الاستهلاكية. مثل هذا الاحتمال أو التصور قد يبدو بأنه، إلى حد ما، معقد (في حال مقارنته مع الاحتمالات التي تم بحثها قبل ذلك). ولكن، يجب علينا أن نلاحظ بان مثل هذا الاحتمال هو من بين الاحتمالات التي يقوم المشترون بموجبها بدفع أسعار أعلى مما هو ضروري وأن البائعين يبيعون بأسعار اقل مما هو ضروري، تماما كما هو الحال لدى سوق سلعة أو خدمة منفردة والتي تم بحثها في القسم السابق من هذه المقالة. وبناء عليه، فان أولئك الذين يبيعون المدخلين “أ” و”ب” بأسعار يكون مجموعهما اقل من السعر الذي يتم دفعه للمنتج “ج”، قد يكونوا، من حيث المبدأ، أنتجوا المنتج “ج” وباعوه بسعر أعلى (بما أن المدخلين “أ” و”ب” هما المطلوبان فقط لإنتاج المنتج “ج”). فربحية هذا الخط من الإنتاج ستنتج عن تباعد (مخفي) في الأسعار “التي تخص نفس مادة المنتج” في نفس السوق (أي أنها ناتجة عن ظروف يمكن في ظلها شراء كل شيء يلزم لإنتاج المنتج “ج” بسعر اقل من سعر السوق بالنسبة للمنتج “ج”). وهكذا، من الممكن لنا أن نتوقع (ما لم نفترض وجود تحكم احتكاري يسيطر على الوصول إلى مصدري المدخلين “أ” و”ب”) بان تنزع مثل هذه الربحية إلى جذب انتباه ويقظة ريادية منافسة، وهو الشيء الذي سوف ينزع إلى إزالة ربحية هذا الخط من الإنتاج (بفعل الضغط على سعر المنتج “ج” ومجموع سعري المدخلين “أ” و”ب” معا كي يقتربا من بعضهما بشكل وثيق).
وبالرغم من كون هذا الموقع ليس هو بالمكان الملائم للتحليل بهذا الشكل، إلا أن أي تحليل مشابه يتم القيام به سيكون بإمكانه أن يثبت بان هناك ارتباطا واسعا بين البحث الذي أجريناه من قبل حول “قانون” العرض والطلب وبين الجوانب الرئيسية، على اقل تقدير، لاحتمالات السوق المعقدة.
السبب والمسبب في الشؤون الاقتصادية
لقد عمل البحث الذي قمنا به على إيضاح الطريقة التي تقوم بموجبها النظرية الاقتصادية البسيطة بتعليل وجود سلسلات سبب ومسبب محددة ومنتظمة في مجال الشؤون الاقتصادية. وبالفعل، هناك طرق محددة موجودة يتم وفقها اتخاذ قرارات اقتصادية في أية فترة واحدة تنزع إلى أن تأخذ بالاعتبار المنتظم تلك القرارات الأخرى التي يتم اتخاذها في نفس السوق. وبهذه الطريقة، تقوم أية قرارات يتم إصدارها بصياغة وقولبة بعضها البعض وفق أسلوب منهجي منتظم. كما أننا رأينا كيف يمكن لذلك الأسلوب، والذي بموجبه تنزع مثل تلك “القولبة” إلى البروز، أن يبدو وكأنه، للوهلة الأولى على اقل تقدير، يستحق بان يدعى باسم “الحميد”. ومثل هذا التحليل البسيط سوف يساعدنا على أن نفهم، من حيث المبدأ، كيف يمكن للنظرية الاقتصادية أن تؤدي إلى صدور أحكام وآراء تتعلق “بجودة وصلاح” مبادرات سياسة عامة معينة من خلال التداعيات والتبعات الواعدة لمثل تلك المبادرات.
والآن، نحن على استعداد أن نقوم، في المقالة الأخيرة من هذه السلسلة، بمعالجة المسألة التي تم عرضها في بداية المقالة الأولى، وهي: هل يمكن أن تتم ترجمة الفهم الاقتصادي الإيجابي اليقيني إلىمشورة اقتصادية موضوعية ومشروعة علميا؟
مجلة فريمان، أيلول 2006.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 15 حزيران 2007.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

خلال العقدين الأخيرين لقي الأداء الاقتصادي الصيني الملفت للنظر إشادة يستحقها باعتباره معجزة اقتصادية. أود في هذا المقال أن أعرض بإيجاز لمصادر هذه المعجزة وبيان المشاكل الجدية التي لا زالت الصين تواجهها بسبب الضغوط المالية المستمرة الناجمة عن مؤسسات اقتصادية حكومية لم تستفد من الإصلاحات وتعمل دون كفاءة، وتقديم حل محتمل على أساس استخدام كفء لموارد الصين المزدهرة من العملات الأجنبية.
معجزة الصين الاقتصادية

مصادر المعجزة الاقتصادية الصينية معروفة جيداً، فقد أدى ارتفاع معدل المداخيل في الأرياف مع تبني نظام المسؤولية الأسرية (التحول عن المزارع الجماعية) والإضافة الناجمة عن التحول الديمغرافي وانخفاض نسبة الإعالة (نسبة الأطفال والمسنين إلى العاملين) إلى زيادة ملحوظة في معدلات الادخار. وكان هناك نتيجة بارزة غير مقصودة ترتبت على إنهاء العمل بنظام المزارع الجماعية وهي انطلاق الازدهار في المشاريع الصغيرة غير الزراعية في الريف والتي بدأت بموعظة دينغ زيوبينغ القائلة بأن من الفضيلة أن يكون المرء غنياً. فاعتنق مسؤولو الحزب المحليون هذه المقولة وأصبحوا مدراء ومشرفين على مشاريع المدن والقرى.
مع ارتفاع المداخيل من المزارع تمت تلبية الطلب المكبوت على السلع المنزلية والصناعية من قبل مؤسسات مشاريع المدن والقرى التي كان قد تم البدء بإدارتها باعتبارها مشاريع رأسمالية ربحية رغم أنها كانت مملوكة بنظام جماعي. لقد وفرت هذه المشاريع للسلطات المحلية “عائدات إضافية لموازناتها” وأتاحت للمسؤولين فرصاً مشروعة ليصبحوا أثرياء.
على عكس المشاريع الاقتصادية الحكومية، لم تكن مشاريع المدن والقرى مثقلة بأي مسؤوليات دعم اجتماعي وكانت لها الحرية في توظيف أو تسريح من تشاء من العمالة المحلية الوافرة. ومع إنشاء دينغ للمناطق الاقتصادية الخاصة على الحواف الجنوبية للصين في أوائل ثمانينات القرن الماضي أصبحت مشاريع المدن والقرى—ثم الشركات الخاصة المملوكة للأفراد فيما بعد—هي رأس الرمح في رأسماليةٍ ديكنزية.
هذه المشاريع غير الحكومية أدخلت الصين إلى مركز عمليات السلع الصناعية في العالم. تحقق النجاح بفضل العمالة الرخيصة في الريف الصيني بالتضافر مع التكنولوجيا الأجنبية، وبالاعتماد على التمويل الذاتي من الادخارات الأسرية وأرباح المشاريع إضافة لرأس المال الوارد من الجاليات الصينية في الخارج وجنسيات متعددة كثيرة، والمشاركة في منافسات محلية شرسة شجعتها السلطات البلدية المحلية.[1]هذا التصنيع العمالي المكثف أخذ ينتشر الآن إلى الداخل بمحاذاة اليانغ تزي (الإيكونوميست 2004: 13).
ارتفع عدد العاملين في مشاريع المدن والقرى من 28 مليوناً عام 1978 إلى 60 مليوناً عام 1996، وكان هناك نمو كبير في المشاريع المملوكة للأفراد، حيث ارتفع عدد هذه المشاريع من لا شيء عام 1978 إلى 4 ملايين مشروع عام 1984 و23 مليوناً عام 1996 وباستخدام 76 مليون عاملاً. هذه المشاريع شكلت المحرك لحركة التصنيع العمالي المدهشة في الصين. ويقدر آنغوس ماديسون (1998) أن القيمة المضافة الحقيقية في هذا القطاع الصغير الجديد بحوالي 22% سنوياً خلال الفترة بين عامي 1978-1994.
هذه التحولات على هامش إلغاء المزارع الجماعية صادفت دعماً من الإنشاءات المكثفة في البنية التحتية من قبل الدولة، كما لاقت صناعات التصدير القائمة على الكثافة العمالية مزيداً من الدعم بسبب الإصلاحات التسعيرية الداخلية وعن طريق أكبر عملية تحرير أحادية للتجارة الخارجية في التاريخ. معظم الأسعار النسبية في الصين هذه الأيام (وعلى عكس الهند) تواكب إلى حد كبير الأسعار العالمية. تفجرت الصادرات الاقتصادية ونمت ثمانية أضعاف بين عامي 1978 و1995. بحلول عام 1993 كانت الصين ثالث بلد تجاري في العالم وذلك عندما زادت قيمة تجارتها عن 200 بليون دولار—وهو ما يعادل ضعف التجارة الكلية للهند عام 2002. وتعادل حصة الصين من التجارة العالمية ستة أضعاف حصة الهند (لاردي 2003).
يعتمد التصنيع الموجه للتصدير في القطاع الخاص على تركيب أجزاء مستوردة باستخدام رأسمال وتكنولوجيا محلية وأجنبية وعمالة محلية رخيصة. نما القطاع الخاص بسرعة كبيرة بحيث أن حصته في القيمة المضافة في قطاع الأعمال غير الزراعية قد بلغ حوالي 60% (انظر جدول 1) في حين أن حصة هذا القطاع من الإنتاج الصناعي تزيد الآن عن 70% مقارنة مع القطاع الراكد للدولة الذي تراجعت حصته من حوالي 80% عام 1978 إلى حوالي 28% عام 1998 (لاردي 2002: 15). أدى هذا التحول إلى نمو مدهش في الاقتصاد الصيني خلال العقدين الأخيرين: 9%-10% سنوياً وفقاً للتقديرات الرسمية و7%-8% وفقاً لتقديرات مستقلة. ولكن القطاع الحكومي لا يزال يسيطر على أكثر من 70% من جميع الموجودات الثابتة و80% من مجمل رأس المال العامل في الصناعة.

سمح هذا النمو المحفز عمالياً، والذي قام إلى حد كبير على أساس الاستثمار الخاص، بتحول أعداد كبيرة من العمال منخفضي الأجور من القطاعين الزراعي والحكومي المتراجع على السواء ومَكَّن الصين من النمو بـ”السير على ساقين”—أي الإبقاء على حركة ساق المشاريع المملوكة للدولة وفي الوقت نفسه التوسع في القطاع غير الحكومي، وبذلك تجنبت هذه الاستراتيجية الخسارة في الإنتاج والعمالة والفوضى الاجتماعية المصاحبة التي اتسمت بها الاقتصادات المتحولة الأخرى عند انتقالها من مرحلة التخطيط إلى مرحلة السوق.[2] بيد أن هذه الاستراتيجية تواجه الآن بعض العوائق الجدية والتي إذا لم تجر معالجتها قد تؤدي إلى تآكل المعجزة الصينية. المشاكل جميعها تتصل بالمشاريع المملوكة للدولة التي تتسم بعدم الكفاءة وعدم القابلية للإصلاح.
عوائق التنمية المستقبلية في الصين
في الوقت الذي كان فيه القطاع غير الحكومي ينمو، تعهدت الصين بإجراء إصلاح تدريجي على مشاريعها الصناعية المملوكة للدولة. معظم هذه المشاريع كانت قد أقيمت، كما في الهند، بموجب استراتيجية التصنيع الثقيل غير القابلة للاستمرار. بقيت المؤسسات المملوكة للدولة عاملة في فترة الإصلاح لتجنب الخسارة في الإنتاج والتشغيل حتى يصبح القطاع غير الحكومي النشط كبيراً بما فيه الكفاية لاستيعاب العمالة التي ستنجم عن إغلاق تلك المؤسسات.
في الفترة السابقة للإصلاح (قبل عام 1978) لم توفر استراتيجية التنمية الصينية سوى فرص تشغيل محدودة في مناطق المدن، مما جعل الحكومة توظف عدة عمال للقيام بنفس العمل وكانت النتيجة ترهلاً عمالياً كبيراً في المؤسسات المملوكة للدولة. وحيث أن هؤلاء العمال الصناعيين كانوا يتلقون أجوراً ضئيلة لتغطية نفقاتهم المعيشية اليومية فقد كان على الحكومة أن تغطي أيضاً النفقات المتعلقة بتقاعدهم وتأمينهم الصحي وسكنهم والنفقات الاجتماعية الأخرى من عائدات إنتاج المؤسسات المملوكة للدولة والتي كانت مخصصة لتحويلها إلى الدولة. ولم تكن المؤسسات المملوكة للدولة في فترة الإصلاح مسؤولة فقط عن الرواتب بل أيضاً عن هذه المنافع “الاجتماعية” التي فرضت “أعباء اجتماعية” على تلك المؤسسات لم تكن مفروضة على نظيرتها من المؤسسات غير الحكومية. وقد ازدادت هذه الأعباء في فترة الإصلاح عندما نمت الأجور والمنافع التي تدفعها المؤسسات المملوكة للدولة بنسبة 16% سنوياً بين عامي 1978 و1996 بينما كان إنتاجها ينمو بنسبة 7.6% سنوياً (راجع لين 2004).
تفاقم العبء الاجتماعي للمؤسسات المملوكة للدولة بما يطلق عليه جوستن لين “العبء الاستراتيجي” الناجم عن عدم الربحية المتزايدة لهذه المشاريع الرأسمالية المكثفة في اقتصاد يعتمد بصورة متزايدة على السوق المفتوح كما تبين من افتقارها لمواكبة المزايا النسبية للصين. وهكذا، فبالرغم من التحسن الذي طرأ على الممارسات الإدارية في المؤسسات المملوكة للدولة في إنتاجيتها متعددة العوامل (راجع لي 1997) وفي معدلات عائداتها المالية (انظر جدول 2) فإن معظم المؤسسات المملوكة للدولة لا تدر أرباحاً.[3] ويقدر لين (2004) بأنه حتى بعد الدعم الضمني الكبير بقروض منخفضة الفائدة وأوجه الدعم الحكومي الأخرى فإن ما يزيد على 40% من المؤسسات المملوكة للدولة تعمل حالياً بخسارة.

تحركت الحكومة الصينية بحذر في معالجة مشكلة المؤسسات المملوكة للدولة بسبب قلقها من الأزمات الاجتماعية التي قد تنتج عن إغلاق هذه المؤسسات بالجملة. بين عامي 1995 و2002 تراجعت الوظائف في القطاع الحكومي من 109 مليون إلى 70 مليون بسبب إغلاق معظم المؤسسات المملوكة للدولة التي لا تدر أرباحاً.[4] أما البقية فقد استمرت بسبب الدعم من خلال النظام المصرفي. ما تلا ذلك من إفساد للنظام المالي والاستخدام غير الكفء للادخارات المحلية الهائلة يطرح مشاكل جدية على الاقتصاد الصيني في المستقبل.[5]
يمكن إيضاح العبء الذي تلقيه المؤسسات المملوكة للدولة على أداء الاقتصاد الصيني بصورة أفضل بمضاهاة معدلات الادخار في الهند والصين وبالنمو الاقتصادي الذي أنتجته هذه الادخارات. معدلات الادخاء في الصين البالغة حوالي 40% تعادل تقريباً ضعف معدلها في الهند، ولكن معدل النمو في الصين لا يزيد سوى بنسبة 2%-3% عن معدله في الهند مما يعني نسب زيادة في معدلات الإنتاج الرأسمالي قيمتها 5.3 للصين و3.8 للهند.[6] السبب في ذلك هو أن حوالي 90% من الادخارات الأسرية في الصين تودع في المصارف المملوكة للدولة التي توجهها بأسعار مدعومة لمؤسسات مملوكة للدولة منخفضة العائدات وخاسرة غالباً. القطاع الخاص الكفء مكتظ بشكل لا يسمح له بالوصول إلى معظم الادخارات الصينية، ولذلك ينخفض النمو الإجمالي نتيجة للعائدات المنخفضة من القطاع الحكومي. هذا الدعم المتواصل للمؤسسات المملوكة للدولة لمواجهة الأعباء الاجتماعية التي تفرضها استراتيجية التنمية السابقة القائمة على تشجيع الصناعة الثقيلة عن طريق التخطيط أخذ يؤدي لمشاكل جدية في الإدارة الاقتصادية وقصور في التخصيص للاستثمارات.
إن التزام الصين باستراتيجية تنموية عفا عليها الزمن—لا تتماشى مع الميزة النسبية لعمالة وافرة وبلدٍ نامٍ يفتقر لرأس المال—قد أدى إلى كبتٍ مالي بحيث أصبح يتعين على الحكومة احتكار جمع وتخصيص المدخرات في الاقتصاد وبمصاحبة ضوابط استيراد مشددة (راجع لين 2003، لال [1983] 2002). هذه الاستراتيجية تسمح بخفض مصطنع للأسعار النسبية لرأس المال النادر للاقتصاد لجعل الاستثمارات ذات الرأسمال المكثف قابلة للبقاء. من هنا فإن حوالي 90% من الادخارات الأسرية في الصين اليوم لا تزال مودعة في مصارف تملكها الدولة، وسبب ذلك في جانب منه هو عدم وجود أدوات ادخار بديلة. من الواضح أنه لا يتم تشجيع بدائل مثل الاستثمار في أسهم شركات غير حكومية سريعة النمو لأن من شأن ذلك التحول عن توجيه الأموال عن شركات مملوكة للدولة مفضلة سياسياً. الحقيقة أن معظم ودائع البنوك يجري تسليفها (بصورة مباشرة أو غير مباشرة) لشركات مملوكة للدولة بينما يأتي معظم الاستثمار في القطاع غير الحكومي إما بتمويل ذاتي أو بالاعتماد على رأس المال الأجنبي.[7] ومع وجود عدد قليل فقط من مشاريع النمو المملوكة للقطاع الخاص على استعدادٍ، أو يُسمح لها بإصدار أسهم فإن الأسهم التي يجري تداولها في أسواق المال المحلية هي بشكل رئيسي أسهم لشركات مملوكة للدولة التي لا تجتذب، بسبب عدم شفافية ممارساتها المحاسبية والقناعة العامة بعدم قابليتها للاستمرار، الأسر لاستثمار مدخراتها في هذه الأسهم. من هنا فإن أسواق الأسهم المحلية تقليدية وهشة. كما أن معظم ما يفترض أنه استثمارات خاصة ضخمة لها هيكلية ملكية جامدة في أحسن الأحوال وتكون على الأرجح تحت سيطرة الدولة (راجع الإيكونوميست 2005: 60). الاستثمارات الخاصة الحقيقية، وهي المنحدرة من مشاريع المدن والقرى، لا تدرج أسهمها في سوق الأسهم المحلية وتعتمد بصورة أكبر في احتياجاتها الرأسمالية على التمويل الذاتي والاستثمار المباشر فيها من قبل المغتربين الصينيين (انظر الجدولين 3 و4).

يشكل الافتقار لآليات ادخار مناسبة والعائد المتدني من المدخرات الأسرية في المصارف المملوكة للدولة تهديداً مستقبلياً لإدامة معدل الادخار المرتفع في الصين، خصوصاً عند الأخذ بالحسبان الانخفاض الطبيعي للمدخرات بسبب الارتفاع المتوقع لنسبة الإعالة مع ازدياد المعدل العمري للسكان اعتباراً من حوالي عام 2010. ولكن المصارف المملوكة للدولة لا تستطيع الترويج لمزيد من الادخار عن طريق رفع نسبة الفائدة على الودائع لأن ذلك سيؤدي إلى رفع معدلات إقراضها للمشاريع الخاسرة المملوكة للدولة والتي ستزداد خسارتها مما يدفع المصارف لزيادة قروضها من جديد لتغطية هذه الخسائر وبالتالي زيادة القروض غير العاملة في الجهاز المصرفي.

إن صعوبات الاقتصاد الجزئي هذه، في استخدام معدلات الفوائد لحفز الادخار ومن أجل غربلة واستخدام الاستثمارات، تزداد تعقيداً بما يترتب على الاقتصاد الكلي من كبت مالي. ونظراً لأن سعر الفائدة لا يمكن استخدامه كأداة لإدارة الطلب الكلي فهناك حاجة لإجراءات إدارية قاسية، مع ما يصاحبها من قصور متأصل وفعالية محددة (في ضوء التمويل الذاتي لمعظم الاستثمارات الخاصة) لتهدئة الاقتصاد. إضافة لذلك، وفي ضوء هشاشة النظام المصرفي فلا يمكن أن يجري فتح تام لحساب رأس المال في ميزان المدفوعات متبوعاً بالانتقال لنظام أسعار صرف كامل المرونة لأن ذلك قد يؤدي إلى أزمة مالية خطيرة.
لا أعتقد، خلافاً لمراقبين عديدين، بأن النمو الصيني بقيادة الصادرات قد اعتمد على إدامة سعر صرف مخفض لأن معظم الصادرات الصناعية الصينية هي سلع مصنعة ليس فيها سوى قيمة مضافة محلية صغيرة،[8] والتغييرات في أسعار الصرف لا يتوقع أن يكون لها تأثير ملحوظ على أرباحها. تبعاً لذلك فإن سعر صرف مرنا لن يؤثر على ظاهرة النمو المرتفع في الصين بقيادة الصادرات، بل إنه سيتيح بالأحرى استخداماً أكثر كفاءة للمدخرات الوطنية الصينية ويقاوم الضغوط المتزايدة لإعادة تقييم اليوان من قبل مؤسسات المضاربة وكبار الشركاء التجاريين للصين وهي الضغوط التي تراجعت ولكن لم تختف بفعل الإجراءات الأخيرة لتعويم مسيطر عليه لليوان مقابل سلة من العملات وبفعل إعادة تقييم متواضعة تم اتخاذها.
تكمن خلف كل هذه المخاطر المحتملة التي تواجه الاقتصاد الصيني حالياً الأعباء الاجتماعية والسياسية التي تفرضها الاستثمارات المملوكة للدولة بسبب استراتيجية التنمية السابقة في الصين. الجواب يجب أن يكون بإزالة هذه الأعباء بحيث يمكن خصخصة الاستثمارات المملوكة للدولة والقابلة للاستدامة وإفساح المجال لها للازدهار في اقتصاد سوق عالمي متكامل أو إغلاق تلك الاستثمارات دون التسبب في أزمات محلية. لحسن الحظ، تستطيع الصين القيام بذلك بفضل الاحتياطيات الصينية المتجمعة من العملات الأجنبية.
استخدام احتياطيات العملات الأجنبية للمساعدة في إنهاء الكبت المالي

يبدو أن الحكومة الصينية تستخدم احتياطياتها من العملات الأجنبية للتعامل مع مشكلة الاستثمارات المملوكة للدولة ولكن بطريقة تجعلها على الأرجح كثيرة التلف. الصين تستخدم هذه الاحتياطيات كجزء من استراتيجيتها لتحويل أفضل شركاتها المملوكة للدولة إلى “شركات عالمية منافسة متعددة الجنسية” وبصورة رئيسية تلك العاملة في قطاع الموارد الطبيعية إضافة لأخرى تعمل في بعض مجالات السلع الاستهلاكية والصناعات التكنولوجية المتطورة حيث تأمل أن تصبح هذه علامات تجارية عالمية. إلا أن الإقبال الكبير مؤخراً من قبل الشركات المملوكة للدولة في الصين على امتلاك شركات أجنبية كبيرة يبدو ذا قيمة اقتصادية مشكوك بها. معظم الموارد الطبيعية مثل النفط وخام الحديد أصبحت الآن سلع دولية تجري المتاجرة بها بكميات كبيرة. التكلفة المكافئة الفعلية للاستخدام المحلي لهذه الموارد تبقى السعر العالمي المتذبذب الذي يتقرر على أساس العرض والطلب عالمياً. ليس من المنطق في شيء الافتراض بأن مجرد امتلاك منجم لخام الحديد أو حقول نفط في الخارج فإن كلفة استخدام هذه الموارد داخل البلد ستكون أقل من السعر العالمي الذي يمكن استيرادها بموجبه. إضافة لذلك فإن امتلاك موجودات أجنبية لا يضمن أن ملكية كهذه ستعطي مزيداً من الأمان باستمرار التزود بالموارد أكثر مما تؤمنه العقود الآجلة لتلك الموارد في الأسواق العالمية—ما لم يهدف الصينيون إلى تدعيم حقوق ملكيتهم في تلك الموجودات الأجنبية بالقوة العسكرية ضد أي محاولة لاستملاكها من قبل النخبة المحلية الوطنية الفاسدة. كما أن من المستبعد أن يكون عائد الأرباح من هذه الاستثمارات المملوكة للدولة أعلى في حالة تشغيلها في الخارج بدلاً من داخل البلاد وذلك للسبب المعروف جيداً المتعلق بالحوافز وقيود الميزانيات في الاستثمارات العامة.[9]
كما أن من المشكوك فيه أيضاً أنه سيكون بوسع الصين إنشاء شركات عالمية المستوى في إنتاج السلع الاستهلاكية والصناعات التكنولوجية المتطورة انطلاقاً من الشركات المملوكة للدولة.[10] المشكلة تظل في أن الشركات المملوكة للدولة (مهما جرى تمويه مدى سيطرة الدولة عليها) تحمل بين جوانحها دوماً المشاكل المعروفة جيداً من إدارة متصلبة وعدم كفاءة ينشئان عن قيود الموازنة. لقد ثبت من خلال التجربة على نطاق العالم أن الحل الوحيد للشركات المملوكة للدولة هو الخصخصة. استخدام احتياطيات العملة الأجنبية لتمكين هذه الشركات المملوكة للدولة من امتلاك شركات أجنبية هو بمثابة تبديد عملة جيدة للحصول على عملة رديئة. وأحد الخيارات الأفضل لهذه الاحتياطيات هو استخدامها لإتمام عملية خصخصة ما تبقى من الشركات المملوكة للدولة دون التسبب في أزمات اجتماعية.
تبلغ احتياطيات الصين من العملة الأجنبية الآن 875 بليون دولار وهي تعني في اقتصاد يبلغ حجمه 2 تريليون دولار تقريباً أنها تعادل حوالي 44% من الناتج المحلي الإجمالي في الصين. هذه الاحتياطيات محفوظة حالياً بنسبة كبيرة على شكل سندات خزانة أمريكية. بصرف النظر عن سخافة قيام بلدٍ نامٍ فقير نسبياً في رأس المال بهذه التحويلات الضخمة من رؤوس الأموال دون مقابل إلى بلد ثري برؤوس الأموال، فإن الصين لا بد وأنها قد شهدت خسارة في القيمة الحقيقية لهذه الأصول، حيث أن الدولار الأمريكي منذ أن وصل إلى أعلى سعر له عام 2002 قد انخفض بعد ذلك بما يزيد على 30% بمعايير التبادل التجاري إزاء العملات الرئيسية وفي وقت كان فيه مؤشر سيتي غروب لعائدات سندات الخزينة هو نسبة متواضعة بلغت 2.3%. ومن المحتمل أن يكون العائد على استثمارات الاحتياطيات الصينية من العملات الأجنبية (بمعايير التبادل التجاري) سالباً خلال السنوات القليلة الماضية. جزء صغير من هذه الاحتياطيات تم وضعه في استثمارات صينية أجنبية في الخارج (2.9 بليون دولار عام 2003 ولكن الرقم قد ازداد على الأرجح الآن في ضوء سعي الصين الحثيث مؤخراً لامتلاك أصول مصادر طبيعية أجنبية)، إلا أن هذه الاستثمارات لن تحقق على الأرجح عائدات أكبر.
هناك طريقة أفضل بكثير لاستخدام احتياطيات الصين من العملات الأجنبية. ليس هناك حاجة سوى لجزء صغير منها—لنقل 100 مليون دولار—لمقاومة أي هجمات مضاربة على اليوان ولإدامة المؤشر المتحرك المختار إلى سلة العملات تحت التعويم المسيطر عليه من قبل الصين. مبلغ الـ775 بليون دولار الباقية، إضافة إلى ما يتجمع من احتياطيات أخرى مستقبلاً، يمكن وضعها في صندوق إعادة بناء اجتماعي تحت إشراف بنك الشعب الصيني—البنك المركزي. يكن إدارة هذا الصندوق مثل العديد من صناديق التقاعد العامة التي تشرف عليها لجان تقرر التوزيع القطاعي العريض لموجودات الصندوق والعائدات المستهدفة (مع المحافظة على قيمة رأس المال) والتي تتوقع من مدراء الصندوق تجاوزها.
تبلغ قيمة صندوق التقاعد في البنك الدولي، على سبيل المثال، 10 بلايين دولار، والتخصيص المقرر من قبل إدارة البنك هو: حصص الولايات المتحدة 19%، وحصص خارج الولايات المتحدة 16%، وصناديق متاجرة لغاية 12%، وحصص خاصة لغاية 12%، وعقارات لغاية 8% وأوراق مالية ثابتة الدخل 40%. في عام 2003 بلغت عائدات الصندوق 18.4% وكان معدله على امتداد 10 سنوات هو 8% تقريباً. ليس هناك سبب يحول دون تحقيق صندوق إعادة البناء الاجتماعي لنتائج كهذه طالما كانت الإدارة اليومية للصندوق تتم من قبل فريق مختار من جميع أنحاء العالم وتحميله المسؤولية أمام بنك الشعب الصيني. تبعاً لذلك سيكون من المتوقع أن يحقق الصندوق عائدات تبلغ 62 بليون دولار من موجوداته المقترحة البالغة 775 بليون دولار. ولكن حتى لو كنا متشائمين وافترضنا أنه سيحقق معدل عائدات على المدى الطويل بنسبة 5% سنوياً (مع المحافظة على قيمة رأس المال) فإن هذه النسبة ستبلغ 39 بليون دولار سنوياً على الأقل، وسيتمكن الصندوق بالتالي من تحقيق أرباح تبلغ 2%-3% من الناتج المحلي الإجمالي الصيني كدخل له كل سنة.
ينبغي استخدام هذا الدخل السنوي من صندوق إعادة البناء الاجتماعي مبدئياً لتخفيف الأعباء الاجتماعية الحالية الناجمة عن دعم المؤسسات المملوكة للدولة. بعد ذلك يمكن التعامل مع هذا الدخل كاستثمارات تجارية عادية يمكن خصخصتها إذا تبينت نجاعتها أو إغلاقها في حالة العكس. من شأن هذا الإصلاح أن يضع حداً للدعم المقدم من النظام المصرفي الذي جعله هشاً وإتاحة المجال لإجراء حسابات شفافة للمؤسسات المملوكة للدولة التي يتم خصخصتها والمدرجة في أسواق الأوراق المالية ويتيح المجال للمصارف بالقيام بوظائفها التوسطية الرئيسية المتمثلة في التشغيل الكفؤ للادخارات المحلية وتحويلها إلى مشاريع استثمارية تدر دخلاً مرتفعاً، والسماح للصين بتعويم اليوان. بمرور الوقت ستختفي مشكلة الاستثمارات المملوكة للدولة وقد يصبح الدخل المتأتي من استثمارات صندوق إعادة البناء الاجتماعي أساساً لنظام تقاعدي كامل التمويل للصينيين الذين تتزايد معدلات أعمارهم.[11]
الخلاصة
يتبين لنا أن صندوق إعادة البناء الاجتماعي يوفر وسيلة للصين للانتقال كلياً من التخطيط إلى السوق عن طريق إزالة أسباب الهشاشة في نظامها المالي، وفي نفس الوقت إزالة أي خطر من حدوث أزمات اجتماعية قد تنجم عن التخلص من الأعباء الاجتماعية الحالية المرتبطة بدعم الشركات المملوكة للدولة أو من الحاجة في المستقبل لتوفير مخصصات تقاعدية لسكان معمرين.
مجلة كيتو، المجلد 26، العدد 2 (ربيع/صيف 2006).
ملاحظات:

[1] جزء كبير من الاستثمار الأجنبي في الصين يتكون من رأسمال خاص صيني أعيد تدويره عن طريق هونغ كونغ. أهمية هونغ كونغ لنمو المشاريع غير الحكومية في الصين تكمن في كفاءة أسواقها المالية ونظامها القانوني.
[2] كانت مهمة نقل الصين من مرحلة التخطيط إلى مرحلة السوق أسهل بكثير منها في الاقتصادات الاشتراكية المتحولة الأخرى في روسيا وشرق أوروبا نظراً لاختلاف الظروف الأساسية بينها. كانت روسيا ودول أوروبا الشرقية تستخدم حوالي 90% من عمالتها في مؤسسات صناعية مملوكة للدولة بينما كانت معظم القوة العاملة في الصين (80%) تعمل في الزراعة. وكان السبيل الوحيد لروسيا وأوروبا الشرقية للوصول إلى اقتصاد السوق هو “انفجار كبير” لتفكيك المؤسسات المملوكة للدولة والذي نجم عنه خسارة مؤقتة في الإنتاج والتشغيل. نقيضاً لذلك فإن الصين، باستبدالها نظام الوحدات الجماعية الريفية بنظام المسؤولية الأسرية فقد أصبح الجميع يدير مزارع مملوكة عائلياً وبملكية خاصة ما عدا التسمية. هذا “الانفجار الكبير” الزراعي الصيني أدى إلى زيادة الإنتاج ووفر للصين فسحة من الزمن لإدخال إصلاح تجريدي على المشاريع الصناعية غير الكفؤة المملوكة للدولة.
[3] يفيد تقرير لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (2005: 3) أن الأرقام الواردة في معدل عائدات المؤسسات المملوكة للدولة والمبينة في جدول (2) أعلاه تعود لعدد قليل من الشركات: “ما يزيد على 35% من جميع الشركات المملوكة للدولة لا تدر أرباحاً وواحدة من كل ست منها خاسرة.”
[4] يفيد تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (2005: 3) بأنه “قد تم في تسعينات القرن الماضي تحويل المؤسسات المملوكة للدولة إلى تعاونيات ذات هيكلية اقتصادية قانونية رسمية وكثير منها تم إدراجها في الأسواق المالية التي تم إنشاؤها في أوائل تسعينات القرن الماضي. منذ عام 1998 تم بنجاح تطبيق سياسة إغلاق المؤسسات الصغيرة وإعادة هيكلة المؤسسات الكبيرة حيث تراجع عدد الاستثمارات الصناعية المملوكة للدولة بأكثر من النصف خلال الخمس سنوات التالية. وتم تعديل عقود العمل بحيث أصبحت أكثر مرونة مما أدى إلى خفض عدد الوظائف في القطاع الصناعي بما يزيد على 14 مليون وظيفة في الفترة المنتهية في عام 2003. وقد ساعد على إنجاح هذه العملية إطلاق برامج بطالة ودعم اجتماعي نقلت عبء تعويض العمال الفائضين عن الحاجة من المؤسسات إلى الدولة.”
[5] لاحظت نشرة خدمة أبحاث الكونغرس (2005: 10) في تقريرها للكونغرس حول الحالة الاقتصادية الصينية بأن “ما يزيد على 50% من القروض الحالية من المصارف المملوكة للدولة تخصص لمؤسسات مملوكة للدولة رغم أن من المستبعد تسديد جزء كبير من هذه القروض.”
[6] هذه الأرقام مستمدة من ماديسون (2003: 174-184) الذي حدد نسبة النمو في الناتج المحلي الإجمالي عام 1990 بالأسعار الحقيقية بنسبة 7.5% سنوياً في الصين و6.1% في الهند خلال الفترة من 1991-2001، ومعدل استثمار بنسبة 40% للصين و23.3% للهند في عام 1999.
[7] وجد هوانغ (2003) أن رأس المال الصيني في الخارج كان وسيلة هامة ساعدت الاستثمارات غير الحكومية في التغلب على التشوهات في أسواق رأس المال الصينية. نقيضاً لذلك، فإن الاستثمارات المباشرة من الجنسيات المتعددة قد ذهبت بصورة رئيسية إلى شركات مملوكة للدولة، وكثير من رؤوس الأموال هذه أسيء تخصيصها. الجنسيات المتعددة يحتفظون بملكية التكنولوجيا كلها تقريباً، كما أنهم يشكلون المنفذ التسويقي لمعظم الصادرات الصناعية من الاستثمارات غير المملوكة للدولة التي أصبحت مراكز إعداد وتأهيل للشركات متعددة الجنسيات.
[8] تقدر هذه بحوالي 20% من قيمة الإنتاج.
[9] تقع الهند أيضاً في خطأ مماثل حيث تستخدم احتياطياتها الضخمة من العملات الأجنبية للقيام بجولة تسوق عالمية لموجودات المصادر الطبيعية الأجنبية.
[10] لاحظت الإيكونوميست (2005: 61) أنه لدى النظر إلى الوراء ومراجعة النتاج الأول للشركات الريادية المحتملة قبل عقد من الزمن فإن معظمها قد انهار. هناك على سبيل المثال “شركة دي لونغ، وهي شركة مختلطة تتعامل في الخدمات الغذائية والمالية نالت ثناءً باعتبارها شركة ذكية اشترت علامات تجارية أجنبية بأسعار زهيدة وخفضت النفقات بنقل المصانع إلى الصين—حتى جاءت السنة الماضية فانهارت وهي مثقلة بالديون.”
[11] تبلغ نسبة من يغطيهم نظام التقاعد من السكان في سن العمل حوالي 14% فقط، وقد أنشأت إصلاحات عام 1997 نظاماً ذا طبقتين يتم صرف مبلغ ثابت بموجب الطبقة الأولى منه ومبلغ نسبي بموجب الطبقة الثانية يستند إلى مساهمة العامل. يمكن لهذه الطبقة الثانية أن تصبح الأساس لإيجاد حسابات شخصية كاملة التمويل مع استثمار المساهمات في أسواق المال المحلية والعالمية. كما أن الصين قد التزمت أيضاً باستخدام جزء من عائدات بيع الاستثمارات المملوكة للدولة للمساعدة في تمويل الحسابات الفردية (منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية 2005: 1).
© معهد كيتو، منبر الحرية، 14 حزيران 2007.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

قبل خمسة عشر عاما، كان لدى مؤيدي الضريبة الثابتة العديد من النظريات الداعمة والقليل جدا من البيانات الحازمة. لقد دافع ميلتون فريدمان عن الضرائب الثابتة، ولكن المؤسسة السياسية تجاهلت هذه الجهود إلى حد بعيد. لقد كان لدى هونغ كونغ ضريبة ثابتة، ولكن النقاد رأوا أنها كانت حالة خاصة إلى حد ما. وكذلك الحال بالنسبة إلى إقليمي جيرسي وغيرنسي التابعين إلى بريطانيا والتي كان لديهما أنظمة ضريبة الثابتة، ولكن العالم الخارجي لا يدري عن هذه النظم وما يزال يجهلها إلى حد كبير.
لقد تغير العالم. اليوم، وبسبب المنافسة الضريبية، هناك 16 دولة تتمتع بأحد أشكال الضريبة الثابتة؛ وهناك دولتان على وشك الانضمام إلى هذه المجموعة. وباستثناء آيسلندا وموريشيوس، فإن جميع الدول التي فرضت ضريبة ثابتة جديدة هي جمهوريات سوفييتية سابقة أو دول تابعة للكتلة السوفييتية السابقة. ويعتبر هذا دلالة على المنافسة الضريبية في المنطقة، ويبين أن أولئك الذين عانوا في ظل الشيوعية هم أقل عرضة لحرب الكلام الطبقية حول “فرض الضريبة على الأغنياء.”

ستكون قائمة الدول التي تفرض ضريبة ثابتة أطول، وهناك ثلاث دول تسعى حاليا نحو الإصلاح الضريبي. وتبدو التوقعات واحتمالات النجاح جيدة في كل من ألبانيا وتيمور الشرقية (حيث يلعب صندوق النقد الدولي دورا في ذلك، على الرغم من أن البيروقراطية الدولية تدفع نحو معدل ضريبي أعلى، كما هو متوقع)، في حين يبدو الوضع أكثر صعوبة في الجمهورية التشيكية لأن الحكومة لا تملك أغلبية مطلقة في البرلمان. هذه النتائج تناقض ما جاء في دراسة أجراها صندوق النقد الدولي في العام الماضي والتي خلصت إلى: “بالنظر إلى المستقبل، فالمسألة لا تكمن في معرفة ما إذا كانت ستقوم دول أخرى بتبني الضريبة الثابتة، بل تدور حول ما إذا كانت الدول التي فعلت هذا ستتحرك بعيدا عنه.”
ولكن الأمر لا يقتصر على إسراع الدول في الانضمام إلى مجموعة الضريبة الثابتة، بل لم تقم أي دولة اعتمدت نظام الضريبة الثابتة بالعودة إلى النظام القديم ذي المعدلات التمييزية. حتى في سلوفاكيا، حيث جاء إلى السلطة حكومة اشتراكية/قومية في العام الماضي، فلقد تمت المحافظة على نظام الضريبة الثابتة. ويدرك السياسيون المعادون للسوق أنه ليس من الحكمة أن “يتم ذبح الوزة التي تضع بيضا من الذهب.”
ولا يقتصر الأمر فقط على تبني المزيد من الدول للضريبة الثابتة، ولكنها تتنافس الآن من أجل خفض معدلات الضريبة. إن معدل الضريبة في إستونيا قد انخفض بالفعل إلى 22%، وسوف ينخفض إلى 20% في عام 2009. ومع ذلك، قد ينخفض معدل الضريبة في وقت أقرب مما هو متوقع وبقيمة أكبر. فلقد تعهدت الحكومة المنتخبة في وقت سابق من هذا العام بأن تقوم على خفض المعدل إلى 18%، كما ويرغب حزب رئيس الوزراء بوصول المعدل نهائيا إلى 12%. هذا، وانخفض معدل الضريبة في ليتوانيا من 33% إلى 27%، وسينخفض إلى 24% العام المقبل. من المقرر أن ينخفض معدل الضريبة في مقدونيا إلى 10% في العام القادم، كما سينخفض المعدل في مونتينيغرو إلى 9% في 2010، وبذلك يكون هذا أدنى معدل ضريبة ثابتة في العالم (على الرغم من أنه يمكن القول إن لأماكن مثل جزر كيمان وبرمودا وجزر البهاما معدلات ضرائب ثابتة تبلغ صفرا).
ومن الجدير ملاحظة أن العديد من الضرائب الثابتة في العالم غير متسقة تماما مع النموذج المجرد الذي تم وضعه. حيث يوجد لدى دول مثل روسيا وليتوانيا فروقا كبيرة بين معدلات الضرائب على دخل الأفراد والشركات (وحتى في هونغ كونغ يوجد فجوة صغيرة). أما في صربيا، فتنطبق الضريبة الثابتة على دخل العمال فقط. وتحتفظ معظم الدول، إن لم يكن جميعها، ببعض الازدواج الضريبي على الدخل الذي يتم ادخاره واستثماره (رغم وصول كل من إستونيا وسلوفاكيا وهونغ كونغ إلى نظام مثالي)، ولا يبدو أن أيا من الدول تصرح الإنفاق الفوري لنفقات الاستثمار.
ولكن مهما كانت عيوب أي نظام خاص بدولة ما، فلقد جلبت ثورة الضريبة الثابتة معها العديد من الإنجازات ذات المغزى:
 حوافز أقوى نحو سلوك إنتاجي: وبشكل عام، تعني معدلات الضريبة الثابتة دائما معدل ضريبة أدنى على العمل والادخار والاستثمار والمخاطرة والأعمال.
 تشجيع تراكم رأس المال: وكما لوحظ، فإن القليل من الأنظمة الضريبية الموحدة، إن وجدت، تصل إلى الهدف الذي يدور حول إلغاء جميع الضرائب التمييزية على الدخل الذي يتم ادخاره واستثماره. ولكن، قام معظمها بخفض العقوبة الضريبية على رأس المال.
 تسوية العبء الضريبي: لقد قامت بعض الدول (مثل سلوفاكيا وإستونيا وهونغ كونغ) بعمل أفضل من غيرها، ولكن معظم أنظمة الضريبة الثابتة تتضمن خفضا في الأفضليات الخاصة التي تشوه قرارات السوق وتسبب عدم الكفاءة الاقتصادية.
يبين تنامي مجتمع دول الضريبة الثابتة أنه من الممكن التغلب على اعتراضات حرب الطبقات. ومن المحتمل أن تكون العولمة هي العامل الكبير وراء ذلك منذ أن أدرك السياسيون، وبشكل متزايد، أن أنظمة الضريبة التأديبية تؤدي إلى تدفق الوظائف والاستثمارات على الأمم التي لديها قوانين وأنظمة ضريبية أفضل. وهذا يدل على أن الضريبة الثابتة ستنتشر حول العالم.
هذا السيناريو يبعث على السرور، ولكن لا تزال هناك عقبات كبيرة. وأهم هذه العقبات هو البيروقراطية الدولية التي تشكل عائقا أمام الإصلاح الضريبي، لأنها غالبا ما تعطي مشورة سيئة ولأنها تسعى تحديدا إلى إحباط المنافسة الضريبية. فعلى سبيل المثال، يوجد لدى منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية “مشروع الممارسات الضريبية الضارة” (والذي كان يسمى أصلا، وبشكل غير حكيم، “المنافسة الضريبية الضارة”) يسعى إلى إعاقة تدفق العمالة ورأس المال من الدول ذات الضرائب المرتفعة إلى تلك ذات الضرائب المنخفضة. وتدرك المنظمة أهمية هذه المسألة بالنسبة لمؤيدي التدخل الحكومي: في تقرير للمنظمة صدر في عام 1998، لاحظت أن المنافسة الضريبية “قد تعيق تطبيق معدلات الضرائب التصاعدية وتحقيق أهداف إعادة التوزيع.”
لقد تم انتقاد جهود المنظمة بشكل واسع ومناسب لسعيها إلى تقويض السيادة الضريبية بغية مساندة دول الرفاه الاجتماعي في أوروبا ذات الضرائب المرتفعة غير القادرة على المنافسة، وإنما يجب النظر إلى هذا أيضا على أنه هجوم مباشر على الإصلاح الضريبي. يرتكز مشروع مقاومة المنافسة الضريبية البيروقراطية، الذي يتخذ من باريس مقرا له، على “تمكين الدول ذات الضرائب المرتفعة من ملاحقة وتتبع هروب رؤوس الأموال وفرض الضرائب عليها.” وهذا يعني بالضرورة أن المنظمة تتطلب من الدول مضاعفة الضرائب على الإيرادات التي يتم ادخارها واستثمارها، وفرض هذه السياسة السيئة خارج الإقليم. وهكذا، تشكل دول الضريبة الثابتة تهديدا مباشرا للنظام العالمي الذي تتصوره المنظمة حيث ستكون بمثابة “المأوى.”
في الواقع، يتم حاليا شن صراع عالمي. فمن جهة، هناك القوى المؤيدة للسوق التي تُقيّم المنافسة الضريبية كقوة دافعة من أجل الوصول إلى سياسة ضريبية أفضل. إن الثورة العالمية للإصلاح الضريبي هي من أحد الأعراض التي تبين كيف تدفع العولمة السياسة العامة في الاتجاه الصحيح. ومن الجهة الأخرى، هناك البيروقراطيات الدولية مثل منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (وتعارض أيضا كل من المفوضية الأوروبية والأمم المتحدة المنافسة الضريبية). وتؤكد هذه البيروقراطيات على حقها في إملاء ما يسمونه بـ “أفضل الممارسات” بطريقة يمكنها أن تتحكم في أنواع السياسة الضريبية التي يمكن اعتمادها من قبل سلطة الاختصاص.
بافتراض أن التطورات السياسية (وخاصة في الولايات المتحدة) لا تغير ميزان القوى لصالح دول الرفاه في أوروبا، ستستمر المنافسة الضريبية بالازدهار ولن تتحقق أبدا “منظمة تعاون وتنمية اقتصادية للسياسيين.” إن آيسلندا هي الدولة الوحيدة من دول “العالم الأول” التي اعتمدت الضريبة الثابتة حتى الآن، ولكن ربما قد تكون مجرد مسألة وقت قبل أن يؤدي التنافس الضريبي إلى إيجاد سياسة ضريبية جيدة في باقي دول أوروبا وحتى في الولايات المتحدة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 13 حزيران 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

سانتو دومينغو، جمهورية الدومينيكان – هذه الجزيرة الجميلة عانت أكثر من نصيبها العادل من الحكّام الفاسدين والعاجزين والذين أبقوا معظم شعبهم في أوضاع من الفقر. ولكن الآن وحيث أخذ اقتصاد الدومينيكان يقوى ويتحسن وارتفعت الأصوات داعية إلى تغييراتٍ إيجابية خلاقة، فإن هذا البلد (وغيره من الشعوب الفقيرة المماثلة) قد أصبحوا يخشون من بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي وبيروقراطيو الاتحاد الأوروبي والمسؤولون في المنظمات الدولية أكثر من خشيتهم من قادتهم.
إيرلندا وآيسلندا، وبيرمودا، وجزر كيمان وسنغافورة، جميعها جزر أصبح معظم سكانها أثرياء ومترفين خلال العقود الأخيرة. ومع ذلك فإن العديد من الجزر مثل جمايكا، وكوبا وجمهورية الدومينيكان والتي تملك موارد طبيعية أكثر من الأولى تعاني الفقر. إن ما يجمع الجزر الغنية ليس الطقس أو الانتماء العرقي للسكان وإنما حكم القانون، وحدٌ أدنى من الفساد وسياسات تنظيمية وضرائبية وتجارية تنافسية. أما الجزر الفقيرة فتعاني جميعها من فساد شديد، وأنظمة حكومية مكبلة وحريات اقتصادية ضئيلة.
كان يمكن أن نظن بأن الطبقات السياسية في الأمم الغنية سوف تحيي وتؤيد السياسات التي جلبت الرخاء والحرية إلى الجزر الغنية (وغيرها من الأمم)، وأن تنحى باللائمة على سياسات الأمم الفقيرة. ولكن للأسف، فإن هذا لا يحدث.
إن من الصعب لجزيرة فقيرة أو لبلد فقير أن ينمو وأن يحقق الثراء إذا لم يكن في مقدوره جذب رأس المال الأجنبي وفتح الأسواق الخارجية أمامه. ومع ذلك فإن البلدان الصغيرة والشعوب التي تتمتع برفاهية معقولة تتلقى الهجوم من العديد من قادة الاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ومن بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي بسبب أن نسب الضرائب لديها متدنية، وبالأخص بالنسبة للعمالة ورأس المال.
هذه المعركة ظلت مستمرة على امتداد معظم العقد المنصرم ولكنها أخذت منحىً أكثر شدة مرة أخرى عندما اتخذت المجموعة الأوروبية استهدافاً مباشراً لسويسرا بسبب أن بعض القوانين السويسرية المحلية تتيح معاملةً ضرائبية مريحة إلى الشركات التي تنتقل إليها. عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي قدموا مشاريع قوانين تعاقب البلدان ذات الضرائب المتدنية والتي يتهمون حكامها بالاشتراك في “جريمة” السعي لتحسين أوضاع مواطنيها عن طريق جعل بلدانهم أكثر جذباً لرأس المال الأجنبي. (بطبيعة الحال، يستطيع أعضاء مجلس الشيوخ أن يعالجوا بشكل إيجابي هذه “المشكلة” الناشئة عن التنافس الضرائبي عن طريق استبدال نظام ضريبة الدخل الأمريكية المدمِّرة والمعقدة، بضريبة استهلاكٍ بسيطة مثل الضريبة العادلة، والتي من مزاياها الإضافية رفع النمو الاقتصادي الأمريكي).
إن نفاق بعض دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يبدو بغير حدود. الصلاحيات الصغيرة المحدودة المتعلقة بالضرائب والمحافظة على السرية تُهاجم، علماً بأن مثيلاتها من القوانين موجودة في الولايات المتحدة وفي المملكة المتحدة وفي غيرهما من أعضاء الاتحاد الأوروبي، مثل النمسا وبلجيكا وهولندا. إن المستثمرين الأجانب في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة معفون من كثير من ضرائب الدخل وضرائب ازدياد رأس المال على بعض من استثماراتهم، وكل واحدة من تلك الأمم لها مواقع أو أنواع من المعاملات تتسم بالسرية والحماية.
التجارة هي ميدان آخر، حيث يبدو أن النفاق قائم بلا حدود. المسؤولون في الاتحاد الأوروبي، بينما ينحون باللائمة على معاناة فقراء العالم ويطالبون بمزيد من الضرائب من أجل الإنفاق على المساعدات الخارجية، ثم ينقلبون في نفس اللحظة ويطالبون بوضع قيود شديدة على الاستيراد الزراعي من البلدان الإفريقية الفقيرة ومن شعوب الجزر. القيادة الديمقراطية في الكونغرس تدفع باتجاه إقرار إجراءات تحرم البلدان ذوات المداخيل المتدنية من الدخول إلى الأسواق الأمريكية. وفي الفترة الأخيرة أعلن السيناتور الديمقراطي ماكس بوكوس، عن ولاية مونتانا، بأنه يؤيد “التجارة الحرة” ولكنه تحول إلى القول بأن التجارة يجب أن تُقيد إذا لم يكن العمال الأجانب يتمتعون بنفس المزايا التي يتمتع بها عمال الولايات المتحدة وإذا لم تكن البلدان الأجنبية تلك تتمتع بنفس المستويات البيئية التي تتمتع بها الولايات المتحدة. هذا القول جعل من الواضح بأن السيناتور لا يعرف ما معنى “التجارة الحرة”!
لسنوات عديدة، دأب كثير من علماء الاقتصاد بيننا على القول للبلدان المتدنية المداخيل: خفضوا من نسبة ضرائبكم الهامشية العالية على العمالة ورأس المال لكي تصبح اقتصادياتكم في وضع تنافسي عالمي جيد، وخفّضوا من تعرفاتكم وحواجزكم التجارية ولسوف تبادلكم الأمم الكبيرة تلك الإجراءات بمثيلها. ولكن لسوء الحظ فإن العديد من السياسيين والإعلام في أماكن مثل جمهورية الدومينيكان هم يستمعون الآن للرسالة التالية من واشنطن وبروكسل وباريس: إذا وضعتم سياسات اقتصادية تدعم النمو فإننا سوف نعاقبكم بدلاً من مكافأتكم.
ومن المفارقات أن بعضاً من أكثر دعاة السياسات التي تؤدي إلى مزيد من الفقر في بلدانهم كما في البلدان الأجنبية، يلقون التعظيم والإجلال كدعاةٍ للإنسانية من قبل أعضاء وسائل الإعلام الذين لا يفكرون تفكيراً صافياً، والذين لا يعرفون الفرق بين التعاطف الكلامي وبين الأفعال التي تؤدي بالفعل إلى تحسين أو تراجع أوضاع فقراء العالم.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

في تسعينات القرن الماضي، ظهر إجماع جديد بخصوص أنظمة سعر الصرف بحيث بات على الحكومات أن تختار بين أسعار الصرف المرنة وأسعار الصرف الثابتة. فالأسعار الثابتة القابلة للتعديل، مثل تلك الخاصة بنظام (بريتون وودز) ونظام النقد الأوروبي قبل عام 1993، لم تعد فاعلة بسبب ضعفها في مواجهة هجمات المضاربين.
وبدلاً من صفة “المعوّمة” للأسعار سأستخدم صفة “المرنة” لأن مراقبين كثراً غير مقتنعين بالكامل بأن الأسواق أذكى من الحكومات، ولا يستثنون دور التدخل الرسمي في التأثير في الأسعار التي يحددها السوق.
ويبدو أن الإجماع يلمح أيضاً إلى أن الأسعار الثابتة فاعلة ومعقولة في الوقت نفسه، لكن لدي تحفظات على هذا الرأي. فبالنسبة الى كل الاقتصادات تقريباً، ما عدا البلدان الأصغر الملحقة اقتصادياً ببلدان أكبر والتي قد تفضل تبني عملات هذه البلدان، تكون الأسعار المرنة أكثر ملاءمة.
لقد قُدمت حجج كثيرة مؤيدة لتثبيت أسعار الصرف. وكل تلك الحجج سليمة نوعاً ما، لكنها غير جذابة، جملةً وتفصيلاً.
تُطرح الحجة الأولى غالباً على شكل اعتراض على الأسعار المرنة لكنها تُطبق أيضاً على الأسعار الثابتة القابلة للتعديل. ويلعب عدم الاستقرار الناتج من التغيرات في سعر الصرف دور ضريبة على التجارة، وبشكل أكثر أهمية، كضريبة على الاستثمار في قطاعات السلع المتاجر بها.
وعلى رغم إمكان الوقاية من خطر سعر الصرف باستعمال المشتقات المالية، تصعب الوقاية من الخطر ما لم يُعرف حجم تعرّض الاستثمار للعملة الأجنبية. وعلى أي حال، لا يؤثر تغيّر سعر الصرف فقط في قيم العملة المحلية في الدفعات المستقبلية للعملات الأجنبية، وإنما يؤثر أيضاً في قيم العملة الأجنبية من طريق التأثير في حجم التدفقات التجارية المستقبلية وقيمها.
وترى الحجة الثانية المؤيدة للأسعار الثابتة أن تغيرات سعر الصرف تسبب ضغوطاً وقائية ويمكنها بالتالي أن تمنع تحقيق المكاسب من التداولات. وظهرت هذه الحجة دورياً في سياقات مختلفة جداً. فانخفاض قوة العملة البرازيلية عام 1999، دفع الأرجنتين إلى أن تنصب حواجز تجارية وتهدد بوقف تحرير التجارة.
هذه الحجة، كالأولى، لا يمكن أن تُرفَض رفضاً قاطعاً. لكن على رغم ذلك، من الواجب ملاحظة أن تثبيت سعر الصرف يحرم الحكومة من أداتين ثمينتين جداً: سعر الصرف الاسمي والسياسة النقدية. ويمكن لذلك أن يُغري بتبني سياسات تجارية حمائية لتحمل صدمات خفض الناتج.
وتتناول الحجة الأخيرة للأسعار الثابتة تأثير نظام سعر الصرف في نوعية السياسة النقدية. ولهذه الحجة روايات عدة. تقول الرواية الأولى إن سعر الصرف الثابت يحيّد الصدمات النقدية، بما في ذلك تلك الناتجة عن عجز المصرف المركزي. كذلك فإن بلداً ذا سعر صرف ثابت سـ”يستورد” أو “يصدر” النقد آلياً حينما يبرز تغيّر في الطلب أو العرض وبذلك يمنع الصدمة النقدية من التأثير في الاقتصاد الحقيقي.
وتستند الرواية الثانية، بالطريقة نفسها، إلى افتراض أن بعض المصارف المركزية أقل أهلية وصدقية من غيرها. لذلك يمكنها استيراد صدقية من نظرائها الأكثر أهلية من طريق تثبيت سعر الصرف وهكذا تلزم أنفسها بوضوح بمحاكاة السياسة النقدية للمصارف المركزية الأكثر أهلية.
لقد اتبعت هذه الإستراتيجية بلدان أوروبية عدة ثبتت عملاتها الوطنية على أساس المارك الألماني لاستيراد الصدقية من الـ”بوندسبنك”. لكن هل نجحت في ذلك؟ من الصعب الحكم، فقد هبطت نسب التضخم بحدة في أوروبا في الثمانينات وماثلت المستويات الألمانية المنخفضة في آخر التسعينات. لكن نسب التضخم هبطت بحدة في البلدان الأخرى أيضاً، بما في ذلك في المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وترتبط الرواية الثالثة بالثانية مباشرة. فهي ترى أن تثبيت سعر الصرف يمكن أن يُستعمل لتحقيق سقوط سريع وكبير في التضخم عندما تعاني البلاد بشكل مزمن من التضخم العالي جداً وحتى المفرط. بكلمة أخرى، يعتبر تثبيت سعر الصرف، كما في السابق، طريقةً لشراء الصدقية.
وهذا النوع من “العلاج بالصدمة” حقق نتائج إيجابية في بلدان كثيرة، بما في ذلك بوليفيا وبولندا والأرجنتين والبرازيل. لكن في معظم الحالات لم يتوقف التضخم فوراً. فأسعار السلع المتاجر بها استقرت بسرعة، لكن أسعار السلع غير المتاجر بها استمرت في الارتفاع، بالترافق مع متوسطات الأجور. وارتفعت الأسعار ببطء أكثر من ذي قبل، لكن بمقدار يكفي ليسبب ارتفاعاً كبيراً في قيمة سعر الصرف الحقيقي وتدهوراً في ميزان الحساب الجاري، فكان ضرورياً خفض قيمة العملة المحلية. لذلك فإن أولئك الذين يواصلون التوصية بهذا النوع من العلاج بالصدمة يسارعون أيضاً إلى التحذير من أن الحكومات التي تتبناها يجب أيضاً أن تبتكر “استراتيجية خروج”، أي طريقة لتعزيز مرونة سعر صرف العملة قبل حدوث ارتفاع جوهري في قيمتها الحقيقية.
مباشرة بعد اتفاق اللوفر عام 1987، تبنت البلدان الصناعية الرئيسة أنظمة شبيهة إلى حد كبير بنظام النقد الأوروبي المؤسس عام 1993. وكان يجب أن أتذكر ما كتبته في وقت سابق، عام 1973، أثناء مشاورات (لجنة العشرين) التي كانت تحاول أن تصمم “نظام أسعار الصرف المستقرة لكن القابلة للتعديل”. قلت إن ذلك كان تناقضاً لفظياً، فالاستقرار غير متوافق مع قابلية التعديل!
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 6 نيسان 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

في تسعينات القرن الماضي، ظهر إجماع جديد بخصوص أنظمة سعر الصرف بحيث بات على الحكومات أن تختار بين أسعار الصرف المرنة وأسعار الصرف الثابتة. فالأسعار الثابتة القابلة للتعديل، مثل تلك الخاصة بنظام (بريتون وودز) ونظام النقد الأوروبي قبل عام 1993، لم تعد فاعلة بسبب ضعفها في مواجهة هجمات المضاربين.
وبدلاً من صفة “المعوّمة” للأسعار سأستخدم صفة “المرنة” لأن مراقبين كثراً غير مقتنعين بالكامل بأن الأسواق أذكى من الحكومات، ولا يستثنون دور التدخل الرسمي في التأثير في الأسعار التي يحددها السوق.
ويبدو أن الإجماع يلمح أيضاً إلى أن الأسعار الثابتة فاعلة ومعقولة في الوقت نفسه، لكن لدي تحفظات على هذا الرأي. فبالنسبة الى كل الاقتصادات تقريباً، ما عدا البلدان الأصغر الملحقة اقتصادياً ببلدان أكبر والتي قد تفضل تبني عملات هذه البلدان، تكون الأسعار المرنة أكثر ملاءمة.
لقد قُدمت حجج كثيرة مؤيدة لتثبيت أسعار الصرف. وكل تلك الحجج سليمة نوعاً ما، لكنها غير جذابة، جملةً وتفصيلاً.
تُطرح الحجة الأولى غالباً على شكل اعتراض على الأسعار المرنة لكنها تُطبق أيضاً على الأسعار الثابتة القابلة للتعديل. ويلعب عدم الاستقرار الناتج من التغيرات في سعر الصرف دور ضريبة على التجارة، وبشكل أكثر أهمية، كضريبة على الاستثمار في قطاعات السلع المتاجر بها.
وعلى رغم إمكان الوقاية من خطر سعر الصرف باستعمال المشتقات المالية، تصعب الوقاية من الخطر ما لم يُعرف حجم تعرّض الاستثمار للعملة الأجنبية. وعلى أي حال، لا يؤثر تغيّر سعر الصرف فقط في قيم العملة المحلية في الدفعات المستقبلية للعملات الأجنبية، وإنما يؤثر أيضاً في قيم العملة الأجنبية من طريق التأثير في حجم التدفقات التجارية المستقبلية وقيمها.
وترى الحجة الثانية المؤيدة للأسعار الثابتة أن تغيرات سعر الصرف تسبب ضغوطاً وقائية ويمكنها بالتالي أن تمنع تحقيق المكاسب من التداولات. وظهرت هذه الحجة دورياً في سياقات مختلفة جداً. فانخفاض قوة العملة البرازيلية عام 1999، دفع الأرجنتين إلى أن تنصب حواجز تجارية وتهدد بوقف تحرير التجارة.
هذه الحجة، كالأولى، لا يمكن أن تُرفَض رفضاً قاطعاً. لكن على رغم ذلك، من الواجب ملاحظة أن تثبيت سعر الصرف يحرم الحكومة من أداتين ثمينتين جداً: سعر الصرف الاسمي والسياسة النقدية. ويمكن لذلك أن يُغري بتبني سياسات تجارية حمائية لتحمل صدمات خفض الناتج.
وتتناول الحجة الأخيرة للأسعار الثابتة تأثير نظام سعر الصرف في نوعية السياسة النقدية. ولهذه الحجة روايات عدة. تقول الرواية الأولى إن سعر الصرف الثابت يحيّد الصدمات النقدية، بما في ذلك تلك الناتجة عن عجز المصرف المركزي. كذلك فإن بلداً ذا سعر صرف ثابت سـ”يستورد” أو “يصدر” النقد آلياً حينما يبرز تغيّر في الطلب أو العرض وبذلك يمنع الصدمة النقدية من التأثير في الاقتصاد الحقيقي.
وتستند الرواية الثانية، بالطريقة نفسها، إلى افتراض أن بعض المصارف المركزية أقل أهلية وصدقية من غيرها. لذلك يمكنها استيراد صدقية من نظرائها الأكثر أهلية من طريق تثبيت سعر الصرف وهكذا تلزم أنفسها بوضوح بمحاكاة السياسة النقدية للمصارف المركزية الأكثر أهلية.
لقد اتبعت هذه الإستراتيجية بلدان أوروبية عدة ثبتت عملاتها الوطنية على أساس المارك الألماني لاستيراد الصدقية من الـ”بوندسبنك”. لكن هل نجحت في ذلك؟ من الصعب الحكم، فقد هبطت نسب التضخم بحدة في أوروبا في الثمانينات وماثلت المستويات الألمانية المنخفضة في آخر التسعينات. لكن نسب التضخم هبطت بحدة في البلدان الأخرى أيضاً، بما في ذلك في المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وترتبط الرواية الثالثة بالثانية مباشرة. فهي ترى أن تثبيت سعر الصرف يمكن أن يُستعمل لتحقيق سقوط سريع وكبير في التضخم عندما تعاني البلاد بشكل مزمن من التضخم العالي جداً وحتى المفرط. بكلمة أخرى، يعتبر تثبيت سعر الصرف، كما في السابق، طريقةً لشراء الصدقية.
وهذا النوع من “العلاج بالصدمة” حقق نتائج إيجابية في بلدان كثيرة، بما في ذلك بوليفيا وبولندا والأرجنتين والبرازيل. لكن في معظم الحالات لم يتوقف التضخم فوراً. فأسعار السلع المتاجر بها استقرت بسرعة، لكن أسعار السلع غير المتاجر بها استمرت في الارتفاع، بالترافق مع متوسطات الأجور. وارتفعت الأسعار ببطء أكثر من ذي قبل، لكن بمقدار يكفي ليسبب ارتفاعاً كبيراً في قيمة سعر الصرف الحقيقي وتدهوراً في ميزان الحساب الجاري، فكان ضرورياً خفض قيمة العملة المحلية. لذلك فإن أولئك الذين يواصلون التوصية بهذا النوع من العلاج بالصدمة يسارعون أيضاً إلى التحذير من أن الحكومات التي تتبناها يجب أيضاً أن تبتكر “استراتيجية خروج”، أي طريقة لتعزيز مرونة سعر صرف العملة قبل حدوث ارتفاع جوهري في قيمتها الحقيقية.
مباشرة بعد اتفاق اللوفر عام 1987، تبنت البلدان الصناعية الرئيسة أنظمة شبيهة إلى حد كبير بنظام النقد الأوروبي المؤسس عام 1993. وكان يجب أن أتذكر ما كتبته في وقت سابق، عام 1973، أثناء مشاورات (لجنة العشرين) التي كانت تحاول أن تصمم “نظام أسعار الصرف المستقرة لكن القابلة للتعديل”. قلت إن ذلك كان تناقضاً لفظياً، فالاستقرار غير متوافق مع قابلية التعديل!

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

طبقا لدراسات اقتصادية رياضية، فإن الحرية الاقتصادية، أو تطويراتها، تعمل على زيادة معدلات النمو الاقتصادي. إلا أن ظواهرها ستكون تحت سيطرة ظواهر مستوى التنمية الاقتصادية ورأس المال البشري. فهل تشير هذه النتائج، ضمنيا، إلى أن المناصرين أو المدافعين عن الرأسمالية وعن الحرية الاقتصادية يبالغون في قضيتهم؟ ليس ذلك على الإطلاق.
فكِّر في مستوى التنمية الاقتصادية التي تعمل على تحديد الفوائد الكامنة في الاسترجاعية. فعلماء الاقتصاد، في العادة، يقومون بمناقشة أسباب وجود هذه الفوائد كالتالي: يمكن للاقتصاد الأقل تطورا أن يستعير أو يستلف التقنيات التكنولوجية ونماذج الأعمال التجارية وإجراءات التسويق من الدول الأكثر تطورا، وقد يكون التقليد اكثر سهولة وسرعة من الابتكار الذي تعتمد عليه الاقتصاديات المتطورة الرائدة.
وهذه الفوائد تكون، من الناحية المعقولة ظاهريا، اضخم واعظم عندما تكون مسـتويات الاسترجاعية معتدلة بحيث يسمح مستوى تكوين رأس المال البشري أن يتم الاستفادة واستغلال فرص الاسترجاعية، أو، عندما يكون لدى الاقتصاديات الأقل تطورا نطاقا واسعا بالنسبة لإعادة توزيع العمالة بحيث يكون هذا النطاق اكبر من الأعمال الأقل إنتاجية في الزراعـــة ليصل إلى الأعمال الأكثر إنتاجية في مجال الصناعة أو في الخدمات، أو، على سبيل الاحتمال، عندما يكون من السهل أن يتم إيجاد استثمارات مربحة في الدول النامية، ولنفترض بأنها سوف تكون في مجال البنية التحية للنقل، بحيث يكون اكثر سهولة من إيجاد مثل تلك الاستثمارات المربحة في الاقتصاديات العالية التطور والتي تمت بها، وبشكل مسبق، تأسيس عدد كبير من الاستثمارات الهامة البارزة. وبالنسبة لي، فأنني ليس لدي الرغبة في أن أشارك في مناظرات تدور حول مدى جدارة هذه المناقشات النسبية. كما أنني ليس لدي الرغبة في إضافة أية حجج تؤخذ من علوم اجتماعية أخرى تشير عملية التنمية الاقتصادية من خلالها، وبشكل ضمني، إلى وجود تغييرات في القيمة تقوم بتغذية استرجاعية كي يتم تقويض الإمكانيات التي تدل على حدوث نمو اقتصادي مرتقب لاحق.
دور الدول المتقدمــة
وبدلا مما سبق ذكره، أود أن أؤكد على ما هو واضح والذي ينزع، بالرغم من ذلك، إلى أن يتم نسيانه، وهو: أن فوائد الاسترجاعية بالنسبة لبعض الدول النامية تستلزم وجود دول متقدمة. فإذا كانت الدول المتقدمة، ولنفترض بأنها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية واليابان، غير موجودة، فان نمور شرق آسيا الأوائل (كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة) لا يمكن لها أن تنمو بالسرعة التي نمت بها مطلقا، كما أنه من غير الممكن للصين والهند أن تحققا ما تحققانه هذه الأيام. وقبل أن يحل منتصف القرن العشرين وتبايناته السابقة المجهولة في الدخل في تلك الفترة بين المجتمعات الصناعية الغربية والدول الأقل تطورا، فانه، في تلك الفترة، لن تجد، مطلقا، دولة كبرى يمكنها أن تحقق النمو الاقتصادي بشكل سريع كسرعة النمو الاقتصادي الذي حققته كوريا الجنوبية وتايوان خلال أعوام الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي أو كما تقوم الصين بتحقيقه منذ أعوام الثمانينيات من القرن الماضي وكما تقوم الهند وفيتنام بإنجازه في الوقت الحاضر. وهكذا، فان عدم المساواة العالمية (أو التفاوت بين دول العالم) يعتبر جزءا أساسيا من فوائد الاسترجاعية، وان هذا التفاوت سوف ينفع تلك الدول المتخلفة التي تعمل على الإمساك بالفرص المتاحة.
وتعتبر الدول المتقدمة والدول الحرة إلى حد ما دولا أساسية في استحداث الفرص الخاصة بالاسترجاعية. فهي تقدم أنموذجا ليتم تقليده وتوفر مصدرا للتكنولوجيا وسوقا خاصة بالمنتجات المنخفضة الأجور. فإذا أصبحت الدول المتقدمة غنية بشكل يسبق الدول الأخرى نظرا لأنها قامت بتأسيس وتثبيت حقوق ملكية سليمة خاصة بالتجار وبالمنتجين بوقت أبكر من الآخرين، ولأنها استفادت من حكومة محدودة بوقت أبكر من الآخرين وقامت باختراع الرأسمالية واستفادت من الحرية الاقتصادية منذ البداية، سوف تكون، عندئذ، فوائد الاسترجاعية إحدى ظواهر الحرية الاقتصادية أو الرأسمالية.
وللأسف، فان نقص البيانات الكمية تمنعنا من إجراء تحليل خاص بمدى تأثير الحرية الاقتصادية على معدلات النمو الاقتصادي على المدى الطويل. إلا انه من المقبول ظاهريا أن نقوم بإسناد ادعائنا إلى بيانات كيفية أو إلى روايات سوف يكون تأثير الحرية الاقتصادية بموجبها قويا. وفوائد الاسترجاعية لا بد وأن كانت صغيرة قبل أن يتم تأسيس الرأسمالية نظرا لان معظم الحضارات الكبرى (المكونة من عشرات الملايين من الأفراد) قد كان لديها آنذاك إيرادات متماثلة في الدخل لنصيب الفرد الواحد.[1]
وهكذا، فان فوائد الاسترجاعية تستحق أن يتم تفسيرها حسب تفسير عالم الاقتصاد فريدرك هايك، كما يلي:
“لا تنحصر منافع الحرية، إذن، في الحرية… فمما لا ريب فيه أن الاغلبيات غير الحرة على مدى التاريخ الماضي استفادت من وجود الاقليات الحرة وسوف تستفيد المجتمعات غير الحرة في الوقت الحاضر مما ستحصل عليه وتتعلمه من المجتمعات الحرة.”
هذه الإفادة تتفق مع العلاقة القائمة حاليا بين جمهورية الصين الشعبية والغرب كما لو أنها قد تمت كتابتها يوم أمس مع وجود هذا المثال تحديدا في الذاكرة. إن كون منافع الحرية الاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية والغرب ممتدة لتشمل المجتمعات الدولانية قد تمت أيضا الإشارة إليها من قبل هنري ناو بخصوص اليابان والدول الآسيوية الأخرى التي تطورت بشكل مبكر كتايوان أو كوريا الجنوبية، كما يلي:
“سوف يعمل إنموذج التطور الآسيوي الذي تم تمجيده والإعلان عنه من قبل واضعي النظريات التجارية الاستراتيجية بنجاح فقط إذا تم وضعه ضمن سياق الانموذج الانجلو-أمريكي في التجارة الحرة. فليس هناك من قام بالإثبات بان اليابان أو أية دولة آسيوية أخرى ستكون قد حققت النجاح في تجارتها واستراتيجياتها الاقتصادية، مهما كانت درجات تدخل الحكومة، لو لم يكن لديها دخولا ووصولا إلى الأسواق العالمية، وعلى وجه الخصوص إلى السوق الأمريكي. ولو تم عزو مثل ذلك النجاح إلى انموذج التطور المتفوق في الصناعة المحلية فمن المرجح أن تشكل التكنولوجيا وتدخل السياسات التجارية، بناء على ذلك، نصف الحقيقة.”
وجهة نظر مختلفة للتفاوت العالمي
وهكذا، فان الأمر يبدو وكأن للحرية الاقتصادية في الاقتصاد العالمي—والذي يعني وجود اقتصاديات حرة مهيمنة ورائدة—أهمية عليا في تحسين معدلات النمو الاقتصادي وفي التغلب على الفقر الجماعي في كل مكان آخر غير دول الغرب. إضافة إلى ذلك، فان الحرية الاقتصادية داخل الأمم، أو تطويراتها، ستساعد أولئك الذين يقومون بممارستها وتطبيقها.
إن الاعتراف بحقيقة التفاوت الدولي أيضا قد أدى إلى وجود تقييمات متباينة تماما. فقد قام البنك الدولي، مؤخرا، بإبداء تحسره بقوله بان “هناك تفاوتات هائلة في العالم. حتى المواطنين الأكثر غنى في معظم الدول النامية يواجهون فرصا أسوأ من الفقراء في الدول الغنية. والحقيقة القائلة بان الدولة التي يلد بها الشخص تعتبر إحدى المحددات الرئيسية للفرص الخاصة بالأشخاص تسير بشكل مضاد لوجهة نظرنا عن المساواة.”
ومهما تكن فكرة البنك الدولي عن المساواة، فان ذلك سوف يكون، على ابعد تقدير، تقييما منقوصا للتأثير الذي يحدثه التفاوت بين الأمم، والذي نشأ بسبب تأسيس وتثبيت حقوق الملكية والحرية الاقتصادية والرأسمالية في الغرب قبل تلك الإنجازات التي تحققت ببطء في كل مكان آخر غير بلدان الغرب. فلو لم يقم تأسيس وتثبيت الحرية الاقتصادية المبكر بإثراء الغرب قبل الآخرين، فانه عندئذ سوف لن يكون هناك مصالح وفوائد كامنة في الاسترجاعية بالنسبة للدول الفقيرة كي تقوم بالاستفادة منها واستغلالها. وهكذا، فان الحرية الاقتصادية الغربية لم تقم فقط باستحداث متطلب أساسي لتحقيق الازدهار الغربي، بل قامت أيضا وبشكل تزامني بتثبيت شرطا خاصا كي يتم التغلب على الفقر الجماعي بشكل سريع في كل مكان آخر غير البلدان الغربية.
ملاحظات:
[1] مع أن أسيموغلو وجونسون وروبنسون لم يقوموا بالتركيز الصريح على الحكومة المحدودة والحرية الاقتصادية، فقد جادلوا محاججين بان المؤسسات—وليس الجغرافيا—هي محددات النمو الاقتصادي على مدى قرون من السنوات وأنها تقدم نوعا من الدليل الكمي تم أخذه من القرون الخمسة الأخيرة كي يتم دعم وجهة نظرهم.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 21 شباط 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

هناك أغنية شائعة تقول: “إذا أردت أن تكون سعيداً لبقية حياتك فإياك أن تتزوج من امرأة جميلة”!
لقد اتُّهم الميكانيكيون بفرض أسعار أعلى على النساء للقيام بإصلاح أعطال تقع على الطرق. شركات الطيران تفرض أسعاراً أعلى على رجال الأعمال من تلك التي تفرضها على السياح. شركات استئجار السيارات والفنادق كثيراً ما تفرض أسعاراً أقل في عطل نهاية الأسبوع. وكثيراً ما تفرض شركات النقل أسعاراً أقل على كبار السنّ والطلبة. وبائعات الهوى يفرضن أسعاراً أعلى على المجندين في الجيش من تلك التي تُفرض على زبائنهن المعتادين. محطات البنزين على الطرق ما بين الولايات تفرض أسعاراً أعلى عن تلك التي تُفرض في داخل الولايات. ما الذي نفهمه من كل هذا التمييز؟ هل يتوجب علينا إبلاغ النائب العام بما يجري؟
حقيقة أن البائعين يفرضون على الناس أسعاراً مختلفة لما يبدو أنها منتجات متماثلة، هو أمر يتصل بنظرية تعرف بـ”مرونة الطلب”، ولكننا لن ندخل هنا في مجمل التعابير الاقتصادية المختلفة.
دعنا نفكر بالبدائل. لنأخذ النصيحة التي تتضمنها الأغنية التي ذكرتها أعلاه حول عدم أخذ امرأة جميلة كزوجة. السيدات الجميلات مرغوبات، وهنّ محط الأنظار ويجري وراءهن رجال عديدون. المرأة الجميلة لها بدائل كثيرة عنك، وبالتالي فإنها تستطيع أن تفرض عليك متطلبات عديدة. المرأة البيتية لها بدائل قليلة جداً عنك، ولا تستطيع بسهولة استبدالك. لذا، فقد تكون أكثر لطفاً ودماثة معك بحيث تفعل ما يسميه علماء الاقتصاد بـ”التعويض عن الفروقات.”
الموضوع كله يتعلق بالبدائل للبضائع والخدمات المشار إليها واستعداد المشتري لدفع ثمن أعلى. رجال الأعمال المسافرون يملكون مرونة أقل في خياراتهم بالنسبة للنقل الجوي من تلك المتوفرة للسائحين. السيدات عموماً يجدن بدائل أقل للقيام بإصلاح سياراتهن المعطلة. الرجل في الغالب قد يكون أكثر قدرة على إصلاح العطب أو ربما يكون أكثر استعداداً للمخاطرة بالمشي في انتظار سيارة مارة تقبل بنقله. بائعة الهوى قد ترى بأن البحّار في فرصته الشاطئية يملك خيارات أقل. ناهيكم عن حاجته الجامحة لخدماتها من الشخص الذي يعيش في المنطقة. والسائقون المسافرون من مدينة إلى أخرى سوف يكون لديهم معلومات أقل حول أسعار بنزين أرخص من السكّان المحليين.
ويبدو أن رجال السياسة يتجاهلون فكرة البدائل، ونعني بذلك أنه عندما يتغير سعر مادة ما فإن الناس سوف يستجيبون لذلك بالسعي لشراء بدائل أرخص. مدينة نيويورك رفعت الرسوم على السجائر بحيث جعلت ثمن علبة السجائر سبع دولارات. ماذا كانت النتيجة؟ لقد نتج عن ذلك قيام سوق سوداء مزدهرة.
في عام 1990 عندما فرض الكونغرس ضريبة عالية على اقتناء اليُخوت والطائرات الخاصة والسيارات المرتفعة الثمن، صرح السيناتور تيد كينيدي ورئيس الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ يومئذ جورج ميتشل، كيف أن الأغنياء سوف يضطرون في النهاية إلى دفع حصتهم العادلة من الضرائب. بيد أن باعة اليخوت أوضحوا في تقاريرهم أنه قد جرى انخفاض في المبيعات بلغت 77 بالمائة كما أن صانعي اليخوت استغنوا عن 25000 عامل يعملون في منشآتهم. ماذا جرى؟ إن كينيدي وميتشل افترضا ببساطة بأن الأغنياء سوف يسلكون نفس السلوك بعد فرض الضريبة الباهظة مثلما كانوا يفعلون قبل ذلك، وأن الفرق الوحيد هو أن أموالاً أكثر سوف تدخل في صناديق الحكومة. لم يكونوا يملكون أية فكرة عن قانون المرونة في الطلب، أي أن الناس لا يستجيبون سلباً لتغير الأسعار. الحقيقة هي أن الناس يستجيبون والمسألة الوحيدة القابلة للنقاش هي كمية الاستجابة وعلى امتداد أية فترة.
إن نظرية المرونة ليست مقتصرة على ما يُعتبر عادة شأنا اقتصاديا؛ إنها تنطبق على جميع أطياف السلوك الإنساني. عندما يسأل والد طفله: “كم من العطايا يجب أن أسلب منك حتى تسلك سلوكاً سوياً؟” هذا سؤال يتعلق بالمرونة بالفعل. وبكلمات أخرى كم يجب أن تبلغ العقوبة حتى يقلل الطفل من سوء سلوكه؟ ومن السهل هنا أن نرى كيف أن نظرية المرونة تنطبق على إنفاذ القانون أيضاً: ماذا يجب أن نفعل لتأكيد المحاسبة والعقاب حتى نجعل المجرمين يرتكبون جرائم أقل؟
النظرية الاقتصادية تنطبق على ذلك بشكل عام. بيد أن كيان المجتمع فيما يتعلق بحقوق الملكية يؤثر في كيفية تطبيق تلك النظرية. الشيءُ ذاته صحيح بالنسبة لنظرية الجاذبية. فبينما أن القاعدة تنطبق عليها بشكل عام، إلا أن ربط مظلة هبوط إلى شيء سائر في الهبوط يُؤثر على كيفية انطباق قانون الجاذبية. مظلة الهبوط لا تلغي قانون الجاذبية، كما أن قوانين حقوق الملكية لا تلغي قوانين العرض والطلب.
حقوق الملكية تشير إلى من يملك السلطة الوحيدة لتقرير كيفية استخدام تلك الثروة. تسمى حقوق الملكية جماعية عندما تقرر الحكومة استخدامات هذه الثروة. وتكون فردية عندما يكون الفرد هو الذي يملكها وله وحده الحق في تقرير كيفية استخداماتها. إن حقوق الملكية الفردية تضفي كذلك على المالك حق الاحتفاظ بِـ وتملك وبيع ومنع الآخرين من استخدام ما يملك.
قد تكون حقوق الملكية محددة تحديداً دقيقاً أو غير دقيق. وقد يكون تطبيقها رخيصاً أو غالي الثمن. هذه وغيرها من العوامل تلعب دوراً مهما في النتائج التي نلاحظها. دعنا ننظر إلى بعض منها.
إن مالك منزل له مصلحة أكبر في مصير منزله من المستأجر. ومع أنه لن يكون موجوداً بعد خمسين إلى مئة سنة من الآن، فإن استخدامات بيته المستقبلية تؤخذ في الحسبان عند تقرير سعر البيع. وهكذا فإن ملاك المنازل يبدون اهتماماً أعظم في العناية وصيانة المنزل من المستأجر. إحدى الوسائل التي تمكن مالك المنزل من جعل المستأجر مشاركا في اهتمامات صاحب الملك هي أن يطلب منه دفع مبالغ تأمين.
وإليكم هنا سؤال تجريبي يتعلق بحقوق الملكية. أية وحدة اقتصادية يحتمل أن تعطي اهتماما أكبر لرغبات عملائها وتسعى لتحقيق أكثر وسائل الإنتاج كفاءة؟ هل هي الكيان الذي يسمح أصحاب القرار فيه بأن يحتفظوا لأنفسهم بالمكاسب المالية نتيجة إرضاء عملائهم والسعي لأساليب إنتاج أكثر كفاءة، أو هل هو الكيان الذي لا يستحق أصحاب القرار فيه المطالبة بأية مزايا مالية؟ فإذا أجبت بأنها الكيان الأول، أي الكيان الذي يتوخى الكسب، اذهب إلى عريف الصف.
وبينما توجد هنالك خلافات منهجية بين الكيانات القابلة للربح وتلك التي لا تتوخى ربحا، فإن أصحاب القرار في كليهما يحاولون تعظيم المداخيل. صاحب القرار في كيان لا يتوخى الربح سوف يسعى في الغالب لتحقيق مكاسب عينية، مثل سجاد فاخر وساعات عمل مريحة وإجازات طويلة ومحاباة للزبائن. لماذا؟ فعلى النقيض من نظيره الذي يتوخى الربح، فإن المكاسب المالية نتيجة السلوك الكفء لن تكون له. كذلك فإن صاحب القرار في كيان لا يقوم على الربح لا يستطيع أن يربح لنفسه المزايا كما لا يتكبد الخسائر، فهنالك ضغط أقل عليه لإرضاء عملائه وللسعي لانتهاج أقل وسائل الإنتاج كلفة.
تغييرات ضريبية
ربما تقول: “بروفيسور ويليامز، بالنسبة للكيانات التي تبغي الربح فإنها في بعض الأحيان تملك سجادا فاخرا كما يتوفر لديها حساب جار كبير، وتنتهج سلوكا مماثلا لأولئك الذين يعملون بالكيانات غير الربحية.” إنك على حق، ومرة أخرى القضية هي قضية حقوق ملكية. الضرائب تغير هيكلية الدخولات المتأتية عن حقوق الملكية. فإذا كانت هنالك ضريبة على الربح فإن أخذ المنافع نقدا يصبح أكثر كلفة. وتصبح أقل كلفة نسبيا أخذ بعض من تلك المكاسب بأشكال غير نقدية.
وليس المدراء وحدهم هم الذين ينتهجون مثل هذا السلوك. ولنفترض أنك في رحلة عمل. تحت أي من السيناريوهات يتوقع منك أن تنزل في فندق سعره 50 دولارا في الليلة وأن تأكل البيرغر كنج؟ السيناريو الأول هو عندما يعطيك رئيس عملك مبلغ 1000 دولارا ويقول لك احتفظ بما يتبقى لك من هذا المبلغ. السيناريو الثاني هو عندما يقول لك أن تقدم له قائمة محددة بالمصاريف التي تكلفتها وانه سوف يعيد إليك مبلغا يصل إلى 1000 دولارا كحد أعلى. بالحالة الأولى فإنك تأخذ لنفسك الربح في إيجاد أرخص وسيلة للقيام بالرحلة، وفي الحالة الثانية فإنك لا تفعل ذلك.
هذه الأمثلة هي مجرد لمحة عن التأثير الذي تمليه حقوق الملكية على تخصيص الموارد. إنها أحد أكثر المواضيع أهمية في مضمار الموضوع الجديد نسبيا في مجال القانون والاقتصاد.
هذا المقال بالتنسيق مع مجلة فريمان (نيسان 2006).
© معهد كيتو، منبر الحرية، 15 شباط 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

يبرز التعامل العادي مع التنظيم الحكومي للأسواق تمايزاً حاداً بين السوق العادي للسلع والخدمات وبين النشاطات التي يغطيها التعديل الأول [للدستور الأمريكي]—الكلام والكتابة وممارسة المعتقدات الدينية—والتي أطلق عليها اختصاراً (سوق الأفكار). عبارة (سوق الأفكار) ليست وضعاً لحدود المنطقة التي تم تطبيق التعديل الأول عليها بشكل دقيق. الواقع أنه يبدو أن هذه الحدود لم يكن قد تم رسمها بشكل واضح تماماً. ولكن ليس هناك شك يذكر بان سوق الأفكار، أي التعبير عن الرأي في الكلام والكتابة والنشاطات المماثلة، هو في صميم النشاطات التي يحميها التعديل الأول، وأن بحث التعديل الأول كان معنياً إلى حد بعيد بهذه النشاطات.
الجدلية التي أنوي البحث فيها تسبق بكثير إقرار التعديل الأول (والذي من الواضح أنه شمل أفكاراً كانت معتنقة أصلاً) وهناك خطورة بالنسبة للاقتصاديين، ولكن، ليس بالضرورة بالنسبة للمحامين الأمريكيين، تتمثل في حصر نقاشنا حول التعديل الأول بدلاً من بحث المشكلة العامة التي هو جزء منها. الخطر هو أن ينمو نقاشنا نمو التركيز على آراء المحاكم الأمريكية وخصوصاً آراء المحكمة العليا وأننا، تبعاً لذلك، سنجد أنفسنا منقادين لتبني مقاربة تجاه تنظيم الأسواق وجدتها المحاكم ملائمة بدلاً من مقاربة طورها الاقتصاديون، وهو أسلوب قطعنا فيه شوطاً طويلاً لتدمير اقتصاديات المرافق العامة والذي أضر كثيراً بالمناقشات الاقتصادية حول مشاكل الاحتكار بشكل عام. هذه المقاربة ملزمة بطريقة أخرى، حيث أنه بالتركيز على قضايا في سياق الدستور الأمريكي، فقد أصبح من الأكثر صعوبة الاستفادة من خبرة وأفكار بقية العالم.
ما هي وجهة النظر العامة التي أسعى لبحثها؟ هي أن الأنظمة الحكومية مرغوبة في سوق السلع ولكنها غير مرغوبة في سوق الأفكار وينبغي أن تكون محدودة للغاية. في سوق السلع تعتبر الحكومة بشكل عام قادرة تنظيمياً ولديها دافعية ملائمة. المستهلكون يفتقرون للقدرة على الاختيار الصحيح والمنتجون غالباً ما يمارسون سلطة احتكارية، وهم على أية حال، وفي غياب شكل من التدخل الحكومي، لا يتصرفون بطريقة مفيدة للمصلحة العامة. أما في سوق الأفكار فالموقف مختلف تماماً، فإذا حاولت الحكومة التدخل تنظيمياً في سوق الأفكار فلن تكون كفؤة لذلك وستكون دوافعها سيئة بشكل عام بحيث حتى لو أنها نجحت في تحقيق ما تسعى لإنجازه فإن النتائج لن تكون مرغوبة. المستهلكون، من ناحية أخرى، وإذا تركت لهم الحرية، يمارسون تمييزاً دقيقاً في الاختيار بين وجهات النظر المختلفة المعروضة أمامهم، في حين أن المنتجين سواءً كانوا أقوياء اقتصادياً أم ضعفاء، والذين يُعرفون بعدم الالتزام بمعايير الضمير والأخلاق في أسواق أخرى، يمكن الوثوق بهم للتصرف في سبيل الصالح العام سواءً كانوا ينشرون أو يعملون في الـ نيويورك تايمز أو شيكاغو تريبيون أو هيئة إذاعة كولومبيا. السياسيون، الذين تؤلمنا تصرفاتهم أحياناً، بارعون جداً في كلامهم. ومن المعالم الغريبة في هذا السلوك أن الإعلانات التجارية، والتي هي غالباً مجرد تعبير عن وجهة نظر وربما يُظنُّ، في ضوء ذلك، أنها محمية بالتعديل الأول، تعتبر جزءاً من سوق السلع. النتيجة هي أن إجراءات الحكومة تعتبر مرغوبة في تنظيم (أو حتى قمع) التعبير عن رأي في إعلان، والذي لو كان مطروحاً في كتاب أو مقال سيكون خارجاً تماماً عن نطاق الأنظمة الحكومية.
هذا التضاد بين دور الحكومة في سوق السلع ودورها في سوق الأفكار لم يتعرض عادة للنقد سوى من المتطرفين في اليمين أو اليسار—أي بين الفاشيين أو الشيوعيين. العالم الغربي يتقبل، إلى حد كبير، الفرق وتوصيات السياسة العامة التي تصاحب ذلك. بيد أن خصوصية الحالة لم تغب عن الأذهان وأود أن ألفت انتباهكم لمقال قوي بقلم آرون دايركتر.
يستشهد دايركتر ببيان قوي للقاضي ويليام دوغلاس ورد في قرار للمحكمة العليا، وهو نص كان القصد منه، دون شك، أن يكون مفسِّراً للتعديل الأول ولكن من الواضح أنه يشمل أيضاً وجهة نظر لا تستند إلى الاعتبارات الدستورية. يقول القاضي دوغلاس: “حرية الكلام، وحرية الصحافة، وحرية ممارسة العبادات منفصلة تماماً ومستقلة؛ إنها فوق وخارج نطاق سلطة الشرطة؛ وهي لا تخضع للتنظيم بالطريقة التي تخضع لها المصانع وأحياء الأكواخ وبنايات الشقق وعمليات إنتاج البترول وما شابه” [بيوهارنيس ضد إيلينوي]. وحول حرية الكلام، يلاحظ دايركتر بأنها “المجال الوحيد الذي لا زال يحظى بالاحترام.”
لماذا ينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو؟ ربما يعود ذلك جزئياً إلى حقيقة أن القناعة بسوق حر للأفكار ليست لها نفس الجذور مثل القناعة بقيمة التجارة الحرة في السلع. نقتبس من دايركتر ثانية: “ظهرت حاجة ملحة للسوق الحر كأسلوب مرغوب به لتنظيم الحياة الفكرية في المجتمع قبل وقت طويل من الدعوة له كأسلوب مرغوب به لتنظيم الحياة الاقتصادية للمجتمع. لقد تم إدراك فائدة التبادل الحر للأفكار قبل إدراك فائدة التبادل الحر للسلع والخدمات في أسواق متنافسة.” في السنوات الأخيرة وخصوصاً، فيما أظن، في أمريكا (أي أمريكا الشمالية) تعززت هذه النظرة للوضع الخاص لسوق الأفكار بالتزام بالديمقراطية كما هي مجسدة في المؤسسات السياسية للولايات المتحدة والتي تعتبر أن أسس الكفاءة في عملها تتطلب سوق أفكار لا يخضع لتنظيم حكومي. هذا يفتح المجال لموضوع واسع سأتجنب التعليق عليه. يكفي القول، من الناحية العملية، أن النتائج المتحققة فعلياً من هذا النظام السياسي بالذات توحي بأن هناك قدراً كبيراً من “فشل السوق.”
نظراً للرأي القائل بأن سوقاً حراً للأفكار ضروري لإدامة المؤسسات الديمقراطية، ولأسباب أخرى أيضاً في اعتقادي، فقد أبدى المثقفون ميلاً لتمجيد سوق الأفكار والتقليل من شأن سوق السلع. لا يبدو لي مثل هذا السلوك مبرراً، وكما قال دايركتر: “سيتعين على معظم البشر في المستقبل المنظور تخصيص جزء معتبر من حياتهم العامة للنشاط الاقتصادي. إن حرية الاختيار بالنسبة لهؤلاء الناس، باعتبارهم مالكين للموارد، في الاختيار ضمن فرص متوفرة ومتغيرة باستمرار، لمجالات العمل والاستثمار والاستهلاك، مهمة تماماً مثل أهمية الحديث والمشاركة في الحكومة.” ليس لدي شك في صحة ذلك. بالنسبة لمعظم الناس في معظم البلدان (وربما في كل البلدان) يعتبر توفير الطعام واللباس والمأوى أهم بكثير من توفير “الأفكار الصحيحة” حتى لو افترضنا أننا نعرف ما هي هذه الأفكار.
ولكن لندع جانباً مسألة الأهمية النسبية لكلا السوقين؛ اختلاف وجهات النظر حول دور الحكومة في هذين السوقين هو حقاً دور خارج عن المألوف تماماً ويتطلب تفسيراً. لا يكفي مجرد القول بضرورة استبعاد الحكومة من مجال نشاط معين لأنه حيوي لحياة مجتمعنا. حتى في الأسواق التي تهم بشكل رئيس الطبقات الأدنى فلا يبدو من المرغوب به تقليل الكفاءة التي يعملون بها. التناقض الظاهري هو أن تدخل الحكومة الشديد الضرر في مجالٍ ما يصبح نافعاً في مجال آخر، ويصبح التناقض باعثاً على مزيد من الدهشة عندما نلاحظ أننا نجد في أيامنا هذه أن أشد من يضغطون عادة لتوسيع التنظيم الحكومي إلى أسواق أخرى هم الأشد رغبة في تطبيق مشدد للإجراءات المقيدة للتنظيم الحكومي في سوق الأفكار!
ما هو تفسير هذا التناقض؟ طبيعة دايركتر اللطيفة لا تسمح له بأكثر من إلماحة حول ذلك: “ثمة تفسير سطحي حول أفضلية حرية الكلام في أوساط المفكرين والمثقفين يدور حول مصالح عمودية. كلٌ يحاول تضخيم أهمية مركزه وتقزيم مركز جاره. المثقفون مشغولون بملاحقة الحقيقة بينما الآخرون مشغولون فقط بكسب قوتهم. الواحد من هؤلاء يعمل في مهنة، مستنيرة عادة، بينما الآخر يعمل في تجارة أو نوع من العمل التجاري.” أود أن أسمي الأشياء بأسمائها فأقول بأن سوق الأفكار هو الذي يعتبره المفكر مهنة له. تفسير الظاهرة يرجع إلى المصلحة الذاتية والمنفعة الذاتية. المصلحة الذاتية تقود المفكرين إلى تضخيم أهمية سوقهم، بينما تنظيم الآخرين يبدو طبيعياً خصوصاً أن كثيراً من المفكرين يعتبرون أنفسهم مناطين بمهمة التنظيم. ولكن المصلحة الذاتية مقرونة بالمنفعة الذاتية يتضافران لضمان أنه، بينما يجري تنظيم الآخرين، فإن التنظيم ينبغي ألا يطبق بحقهم. وهكذا فمن الممكن التعايش مع وجهات النظر المتناقضة هذه حول دور الحكومة في هذين السوقين. النتيجة النهائية هي ما تهم. وقد لا يكون التفسير لطيفاً، ولكني لا أستطيع التفكير بتفسير آخر لهذه الحالة الغريبة.
أن يكون هذا هو التفسير الرئيسي لهيمنة وجهة النظر التي تعتبر سوق الأفكار أمراً مقدساً تدعمه بالتأكيد نظرة متفحصة على تصرفات الصحافة. الصحافة، بالطبع، هي أقوى المدافعين عن مبدأ حرية الصحافة، وهو سلوك في الخدمة العامة قادتها إلى أدائه يدٌ خفية. إذا أمعنا النظر في تصرفات وآراء الصحافة لوجدنا أنها متسقة في شيء واحد: الاتساق مع المصلحة الذاتية للصحافة دائماً.
تأمّل طرحهم الذي يقضي بأنه لا ينبغي إرغام الصحافة على الكشف عن مصادر المواد التي يتم نشرها. يسمون هذا دفاعاً عن حق الجمهور في المعرفة، الذي يمكن تفسيره ليعني بأنه ليس للجمهور حق في معرفة مصدر المادة المنشورة في الصحافة. الرغبة في معرفة مصدر القصة ليس مجرد فضول بليد، فمن الصعب معرفة مدى مصداقية معلومة ما إذا كان القارئ يجهل مصدرها. التقليد الأكاديمي، الذي يكشف فيه الكاتب إلى أبعد مدى ممكن المصادر التي اعتمد عليها وبذلك يطرحها لتفحص زملائه، يبدو لي تقليداً صحيحاً وعنصراً أساسياً في البحث عن الحقيقة. والحجة المضادة من جانب الصحافة، بالطبع، لا تخلو من المنطق، فهم يقولون بأن بعض الناس لن يقدموا على التعبير عن آرائهم بصدق إذا كان سيصبح من المعروف عامةً بأنهم يؤمنون بهذه الآراء. بيد أن هذه الحجة تنطبق بنفس الدرجة على كل تعبير عن رأي سواءً في الحكومة أو في مجال الأعمال أو في الحياة الخاصة حيث السرية ضرورية لإبداء الآراء بصراحة. إلا أن هذا الاعتبار لم يردع الصحافة بصورة عامة عن كشف أسرار كهذه عندما يكون ذلك في مصلحتها. بالطبع كشف مصادر المواد المنشورة في الحالات التي تنطوي على خيانة للأمانة أو حتى سرقة وثائق سيكون من شأنه أيضاً إعاقة تدفق المعلومات. وقبول مواد في ظروف كهذه لا يتسق مع المعايير الأخلاقية العالية والالتزام الصارم بالقانون التي تتوقعها الصحافة من الآخرين.
يصعب علي أن أصدق بأن الخطأ الرئيسي في قضية ووترغيت لم يكن من تدبير صحيفة النيويورك تايمز. ولست أرغب في المجادلة بأنه ليس هناك اعتبارات متضاربة في كل هذه القضايا يصعب تقييمها. النقطة التي أود التأكيد عليها هي أن الصحافة لا تجد هذه الاعتبارات صعبة على التقييم.
لنأخذ مثالاً آخر أكثر مدعاة للدهشة من عدة جوانب: سلوك الصحافة تجاه التنظيم الحكومي للبث الإعلامي. البث الإعلامي مصدر مهم للأخبار والمعلومات؛ وهو يقع في نطاق التعديل الأول. مع ذلك فإن محتوى برامج المحطات الإعلامية يخضع للأنظمة الحكومية. وقد يخطر للمرء بأن الصحافة، وهي تعتبر نفسها مكرسة للتطبيق الصارم للتعديل الأول، ستكون في حالة هجوم دائم على هذا التغاضي عن حق حرية الكلام والتعبير، إلا أنها في الواقع لم تفعل ذلك. خلال الخمسة وأربعين عاماً التي مرت منذ تأسيس هيئة الإذاعة الفيدرالية (أصبح اسمها الآن هيئة الاتصالات الفيدرالية)، لم تُبد الصحافة سوى القليل جداً من الشكوك حول سياسة هذه الهيئة. الصحافة، الحريصة جداً على البقاء طليقة من قيد الأنظمة الحكومية، لم تبذل أبداً أي جهد لضمان حرية مماثلة لصناعة البث الإعلامي. وكي لا يتبادر لذهن أحد أني أبدي عداءً للصحافة الأمريكية فإني أود الإشارة إلى أن الصحافة البريطانية قد تصرفت بطريقة مماثلة. بل إننا في هذه الحالة نجد التناقض أقوى بين الممارسة الفعلية والقناعات المزعومة لأن ما هو موجود في بريطانيا هو احتكار تسيطر عليه الحكومة للأخبار والمعلومات. وقد يتبادر للذهن أن هذه الاستهانة قد أفزعت الصحافة البريطانية. لم يحصل ذلك، بل إنها قد دعمت احتكار البث الإعلامي بصورة رئيسية، كما يبدو لي، لأنهم رأوا أن البديل لهيئة الإذاعة البريطانية سيكون إعلاماً تجارياً وأن ذلك سيشكل، تبعاً لذلك، منافسة متزايدة تحد من إيراداتهم الإعلانية. ولكن إذا كانت الصحافة لا ترغب في منافستها على الإيرادات الإعلانية فإنها لا ترغب أيضاً في منافسة متزايدة على مصادر الأخبار، وهكذا فقد بذلت كل ما في وسعها لكبح هيئة الإذاعة البريطانية، على الأقل كجهة مزودة للأخبار والمعلومات. وعندما تأسس الاحتكار في البداية (عندما كان يطلق على الهيئة اسم شركة الإذاعة البريطانية) كانت الشركة ممنوعة من بث أي معلومات أو أخبار إذا لم يكن قد تم الحصول عليها من وكالات أنباء محددة بالاسم. لم يكن مسموحاً ببث أي أخبار قبل الساعة السابعة مساءً وكانت هناك قيود أخرى أيضاً على أي أخبار قد تؤثر سلباً على مبيعات الصحف. ثم أخذت هذه القيود تخف تدريجياً، وعلى مدى عدة سنوات، نتيجة للمفاوضات بين الصحافة وهيئة الإذاعة البريطانية. ولكن الإذاعة البريطانية لم تقم ببث نشرة أخبار منتظمة قبل الساعة السادسة مساءً حتى ما بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية.
ولكن ربما كان هناك من يجادل في أن حقيقة كون رجال الأعمال يتأثرون بصورة رئيسية باعتبارات مالية هي مسألة بديهية وليست اكتشافاً هاماً، فماذا يمكن للمرء أن يتوقع من اللاهثين وراء المال في عالم الصحافة؟ أكثر من ذلك، قد يقول معترض، فإن مجرد دعم نشر مبدأ من قبل أولئك الذين يستفيدون منه لا يعني أن هذا المبدأ غير سليم. ألم يتبنّ الدعوة لحرية الكلام والصحافة، في نهاية المطاف، كبار المفكرين الذين تتشكل قناعاتهم بتأثير ما هو حق وليس لاعتبارات مادية خسيسة؟ ليس هناك بالتأكيد مفكر أرجح عقلاً من جون ميلتون. وحيث أن أطروحته (من أجل حرية صحافة دون ترخيص) قد تكون على الأغلب أشهر دفاع كتب حول مبدأ حرية الصحافة، فقد بدا لي أن المسألة تستحق فحص طبيعة وجهة نظره في سبيل صحافة حرة. وأنوه قبل ذلك إلى أن لعمل ميلتون فائدة أخرى تخدم غرضي، فقد كُتب هذا العمل عام 1644 أي قبل وقت طويل من عام 1776، وعليه فبوسعنا أن نتعرض إلى طبيعة الجدلية قبل أن يكون هناك أي فهم عام لكيفية عمل الأسواق المتنافسة وقبل بروز الآراء الحديثة في الديمقراطية. لعله من العبث الذي لا طائل تحته أن أتظاهر أن بوسعي اتخاذ موقف المفسِّر لأفكار ميلتون، فأنا لا أعرف سوى القليل عن إنجلترا في القرن السابع عشر وهناك الكثير في أطروحة ميلتون مما لا أستطيع إدراكه. إلا أن هناك مقاطع من هذه الأطروحة تثب عبر القرون ولا حاجة لتفسيرها منحة تخصصٍ علمي.
يؤكد ميلتون، كما يمكن للمرء أن يتوقع، على أهمية سوق الأفكار: “أعطني الحرية لكي أتعلم وأتحدث وأجادل بحرية وفقاً للوعي قبل أي حرية أخرى” (ص 44). هذا شيء مختلف عن سوق السلع وينبغي عدم التعامل معه بنفس الطريقة: “الحقيقة والفهم ليستا سلعتين يمكن احتكارهما والمتاجرة بهما باستخدام اللوائح والقوانين والمقاييس. يجب ألا نفكر في جعل المعرفة في كل البلاد سلعة كبرى نمنحها ترخيصاً وعلامة تجارية كالقماش وبالات الصوف” (ص 29). إن ترخيص المادة المكتوبة إهانة للرجال المتعلمين والمقبلين على التعليم: “عندما يجلس رجل ليكتب للعالم فإنه يستجمع كل ما لديه من ذكاء ومهارة ليستعين بهما، فهو يبحث ويوازن ويثابر وقد يتحاور ويتشاور مع الحكماء من أصدقائه، وبعد ذلك كله يستشعر في نفسه الثقة بالإحاطة بما يريد الكتابة عنه إضافة على ما كان قد كُتب عن الموضوع من قبله. إذا كان مثل هذا الكاتب في مثل هذا العمل الذي أولاه كل ما لديه من براعة ودقة واكتمال، لا تستطيع السنوات ولا المثابرة ولا أي إثباتات سابقة لقدراته أن توصله إلى درجة النضج التي تجعله يبقى غير ذي ثقة بل وموضع شبهة ما لم يحمل خلاصة كدّه وسهر لياليه لأخذ موافقة سريعة من موظف ترخيص مشغول ربما كان أصغر منه سناً بكثير وربما كان أقل قدرةً منه بكثير في الحكم على الأمور وربما كان رجلاً لم يعرف في حياته مشقة الكتابة، ثم، إذا لم يُرفض عمله أو يقابل بالازدراء فيجب أن يظهر عند الطباعة كشخص هزيل يحمل على الجهة الأخرى من عنوان كتابه علامة يد راعية ورقيبة كفالة وضمانة بأنه ليس معتوهاً أو ضالاً، فلا يمكن لذلك إلا أن يكون امتهاناً وانتقاصاً للمؤلف والكتاب لرفعة وامتياز قيمة التعلم” (ص 27). الترخيص هو أيضاً إهانة لعامة الناس: “وليس الترخيص أقل امتهاناً لعامة الناس؛ فإذا كنا من الغيرة عليهم إلى هذا الحد بحيث لا نجرؤ على الثقة بهم في قراءة كتيّب باللغة الإنجليزية فماذا نفعل أكثر من أننا نلومهم باعتبارهم جمهوراً مترنحاً فاسداً مهزوزاً في حالة من ضعف الإيمان والقدرة على الاختيار تجعلهم غير قادرين على تناول أي شيء إلا إذا كان عبر أنبوب موظف الترخيص” (ص 30). في سوق الأفكار يتم اتخاذ الخيارات الصحيحة: “دعوا [الحقيقة] والكذب يتصارعان. من عرف يوماً أن الحقيقة ستفشل في مواجهة حرة ومفتوحة؟” (ص 45).
الذين يتولون سلطة الترخيص ليست لديهم كفاءة للقيام بذلك، فمن يتولى سلطة كهذه يجب، في رأي ميلتون، أن يكون: “مثابراً ومطلعاً، وحصيفاً.” ولكن من المستبعد أن نحصل على شيء كهذا في شخص هذا الموظف: “قد نستطيع أن نستشرف بسهولة نوعية موظفي الترخيص الذين يمكن توقعهم من الآن فصاعداً: إما أن يكونوا جهلة ومتغطرسين ولا مبالين أو مستعبدين مالياً” (ص 25). وسيكون موظفو الترخيص، على الأرجح، أكثر ميلاً لقمع الحقيقة من قمع الكذب: “وفي حالة الخطر، فسيتعدى الأمر في الأغلب الأعم حظر الحقيقة نفسها، التي سيكون ظهورها الأول لأعيننا وهي ضبابية وباهتة بسبب التحيز والتقاليد أكثر بشاعة وأقل صدقية من العديد من الأخطاء” (ص 47). ولا ينسى ميلتون أن يخبرنا بأن نظام الترخيص الذي كان يَكتُب ضده قد ظهر نتيجة لضغط الصناعة: “وكيف كانت لها اليد العليا… كان فيها خداع بعض أصحاب الامتيازات والمحتكرين في مهنة بيع الكتب” (ص 50).
ربما لعبت المصلحة الذاتية دوراً في تشكيل أفكار ميلتون، ولكن ليس هناك شك يذكر في أن محاججته تنطوي على قدر كبير من الكبرياء الثقافي الفكري من النوع الذي أشار له دايركتر. الكاتب رجل مطلع ومثابر وجدير بالثقة، أما موظف الترخيص فهو جاهل وغير كفؤ وذو دوافع مالية، وربما كان “أصغر” و”أقل قدرة في الحكم على الأمور.” كما أن رجل الشارع يختار الحقيقة باعتبارها على الطرف النقيض للكذب. الصورة ذات جانب واحد إلى حد ما بحيث يصعب اعتبارها مقنعة تماماً، وإذا كانت مقنعة للوسط الثقافي الفكري (ويبدو أنها كانت غالباً كذلك) فمن المؤكد أن ذلك يعود إلى أن من السهل إقناع الناس بأن ما هو في صالحهم هو بالضرورة في صالح البلاد.
لا أعتقد بصحة هذا التمايز بين سوق السلع وسوف الأفكار. ليس هناك فرق جوهري بين هذين السوقين، وعند اتخاذ قرار حول السياسة العامة إزاءهما يتعين علينا أن نأخذ في الحسبان الاعتبارات ذاتها لكليهما. في كل الأسواق هناك بعض الأسباب لدى المنتجين ليكونوا صادقين وبعض الأسباب ليكونوا غير صادقين؛ وتكون لدى المستهلكين بعض المعلومات ولكنهم غير ملمين تماماً بكل المعلومات أو حتى قادرين على استيعاب المعلومات المتوفرة لهم؛ والمنظمون عادة يرغبون في القيام بعملهم بشكل جيد، ورغم أنهم غير أكفاء غالباً ومعرضون لتأثيرات مصالحهم الخاصة، فإنهم يتصرفون بهذه الطريقة لأنهم، مثلنا جميعاً، بشرٌ، ليست أقوى حوافزهم هي الأفضل.
عندما أقول بأنه ينبغي أخذ نفس الاعتبارات في الحسبان فلا أعني بذلك أن السياسة العامة ينبغي أن تكون هي ذاتها في جميع الأسواق. فالمقومات الخاصة لكل سوق تعطي وزناً مختلفاً لنفس العوامل مما يجعل الترتيبات الاجتماعية الملائمة تختلف وفقاً لذلك. قد لا يكون من المعقول العمل بالترتيبات القانونية ذاتها التي تحكم صناعة الصابون والإسكان والسيارات والبترول والكتب. وجهة نظري هو أنه يتعين علينا استخدام (المقاربة) ذاتها لجميع الأسواق عندما نقرر سياسة عامة. الواقع أننا إذا قمنا بذلك واستخدمنا لسوق الأفكار ذات المقاربة التي استهوت الاقتصاديين في سوق السلع فمن الواضح أن ذلك يدعم حجة التدخل الحكومي في سوق الأفكار بشكل أكثر قوة مما عليه الحال عموماً في سوق السلع. وكمثال على ذلك، فإن الاقتصاديين يدعون عادة إلى التدخل الحكومي، والذي قد يشمل أنظمة حكومية مباشرة، عندما لا يعمل السوق بطريقة صحيحة—أي عندما يحدث ما يُعرف عادة بتأثيرات الجوار أو تشكل فائض أو “العوامل الخارجية” إذا ما كان لنا أن نستخدم هذه العبارة المشؤومة.
إذا حاولنا تخيل نظام حقوق الملكية الضروري والمعاملات التي يجب القيام بها لضمان أن يحصل كل من قام بنشر فكرة أو اقتراح للإصلاح على قيمة السلعة التي نتجت عن تلك الفكرة أو يدفع تعويضاً عن الضرر في حالة حدوثه فمن السهل أن نرى أنه سيكون هناك في التطبيق العملي، على الأرجح، قدر كبير من “فشل السوق.” حالات مثل هذه تقود الاقتصاديين عادة للدعوة لتدخل حكومي مكثف.
أو لنأخذ مسألة جهل المستهلك التي ينظر إليها عادة كمبرر للتدخل الحكومي. من الصعب الاعتقاد بأن عامة الجمهور سيكونون في وضع أفضل لتقييم وجهات نظر متنافسة حول سياسة اجتماعية واقتصادية أكثر من الاختيار بين أنواع مختلفة من الطعام. مع ذلك فهناك تأييد للتنظيم الحكومي في حالةٍ وعدم تأييد في الأخرى. أو لنأخذ مسألة منع الغش الذي يحظى عادة بحض على التدخل الحكومي. من الصعب إنكار أن مقالات الصحف وأحاديث السياسيين تحوي قدراً كبيراً من الكذب والبيانات المضللة—الواقع أنها تبدو أحياناً وكأنها لا تحوي خلاف ذلك. الإجراءات الحكومية لضبط الإعلانات الكاذبة والمضللة مرغوبة للغاية، إلا أن اقتراحاً لتشكيل هيئة صحافة فيدرالية أو هيئة سياسية فيدرالية على غرار هيئة التجارة الفيدرالية لن يحظى بأي اهتمام.
التأييد القوي الذي يحظى به التعديل الأول ينبغي ألا يحجب عنا أن هناك، في الواقع، قدراً كبيراً من التدخل الحكومي في سوق الأفكار. لقد تطرقت إلى الإذاعة، ولكن هناك أيضاً موضوع التعليم، الذي، رغم أنه يلعب دوراً حيوياً في سوق الأفكار، فإنه يخضع لكثير من التنظيم. قد يتبادر للذهن أن أولئك الذين يبدون حرصاً كبيراً على منع إجراءات التنظيم الحكومي عن الكتب والمواد المطبوعة الأخرى قد يرفضون أيضاً تنظيماً كهذا في مجال التعليم. إلا أن هناك اختلافاً بالطبع. تنظيم الحكومة لمجال التعليم يصاحب عادة التمويل الحكومي مع إجراءات أخرى (مثل إلزامية التعليم المدرسي) والذي يزيد من الطلب على خدمات المفكرين والمتعلمين، وبالتالي، على دخولهم (راجع إي. جي. ويست، ص 101). المصلحة الذاتية إذن، التي تؤدي عموماً إلى تأييد سوق حر للأفكار، هي التي توحي بموقف مختلف في مسألة التعليم.
كما أني لا أشك أن الدراسة المفصلة ستكشف حالات أخرى أيدت فيها مجموعات من العاملين في سوق الأفكار التنظيم الحكومي وتحديد المنافسة عندما يكون من شأنها زيادة دخولهم، تماماً كما وجدنا السلوكيات ذاتها في سوق السلع. ولكن الاهتمام بالاحتكار سيكون على الأرجح أقل في سوق الأفكار. هناك سياسة عامة لمفهوم التنظيم، هي أن تحديد السوق يؤدي إلى خفض الطلب على خدمات المثقفين والمفكرين. ولكن لعل الأهم من ذلك هو أن الجمهور معني أكثر بالصراع بين الحقيقة والكذب أكثر من اهتمامه بالحقيقة نفسها. إن الطلب على خدمات المؤلفين وكتاب الخطابات، يعتمد إلى حد كبير على وجود جدال—ولكي يكون هناك جدال فمن الضروري ألا تنتصر الحقيقة وحدها!
مهما فكر المرء في الدوافع التي أدت إلى القبول العام للوضع الحالي يبقى هناك سؤال حول أي السياسات هي، في الواقع، أكثر ملاءمة. هذا يتطلب منا التوصل إلى بعض الاستنتاجات حول الطريقة التي ستؤدي بها الحكومة أية مهمات يعهد بها إليها. لا أعتقد أنه سيكون بوسعنا تكوين حكم نستطيع الوثوق بصوابه ما لم نتخلّ عن التناقض الحالي في النظرة إلى أداء الحكومة في السوقين وتبني موقف أكثر اتساقاً. يتعين علينا أن نقرر فيما إذا كانت الحكومة قليلة الكفاءة كما يفترض عادة في سوق الأفكار، وفي حالة كهذه سنميل بالدعوة إلى خفض درجة التدخل الحكومي في سوق السلع، أو ما إذا كانت جيدة الكفاءة كما يفترض عادة في سوق السلع، وفي حالة كهذه سنميل بالمطالبة إلى زيادة درجة التدخل الحكومي في سوق الأفكار. يستطيع المرء، بالطبع، أن يتبنى موقفاً وسطاً—أي حكومة لا هي رديئة وقليلة الكفاءة كما يفترض في أحد السوقين ولا هي كفؤة ومثلى كما يفترض في السوق الأخرى. في هذه الحالة يتعين علينا أن نخفض درجة التنظيم الحكومي في سوق السلع وربما سنميل لزيادة التدخل الحكومي في سوق الأفكار.
وأتطلع إلى معرفة أي من الخيارات في وجهات النظر هذه ستكون موضع تأييد زملائي في المهنة الاقتصادية.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 6 شباط 2007.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018