peshwazarabic

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

كما هو الحال، وبشكل افتراضي لدى جميع فروع المعرفة الإنسانية، يتم تقييم المعرفة والفهم الاقتصادي ليس فقط بشكل عرضي (أو حتى وإن كان ذلك بشكل مبدأي)، بل من حيث منفعتهما وفائدتهما من ناحية الشروط العملية والتطبيقية. والمبالغ الضخمة التي يتم إنفاقها كل سنة على البحث والتعليم الاقتصاديين سوف لن يكتب لها أن تشاهد النور، بكل تأكيد، لو لم يكن من المتوقع للبحث والتعليم الاقتصاديين أن يساعدا على ترويج ونشر السياسات الحكيمة التي تؤدي إلى الازدهار والرفاه الاقتصادي.
وبالفعل، ليس من الممكن أن يكون هناك أي شك حول قيام أولئك الذين يناصرون ويدافعون عن سياسات السوق الحر (في كتابات يتم نشرها في مطبوعات فريمان أو في أي مكان آخر) حيث يقومون هم بذلك الدفاع وهم على قناعة ثابتة بان مثل تلك المناصرة سوف تنبت وتنمو بشكل طبيعي من الفهم والإدراك الاقتصاديين. إنني، بكل تأكيد، أشاطرهم هذه القناعة، ومع ذلك فان الطريق الذي يتجه من فهم اقتصادي فعال وصحيح إلى مشورة سياسة اقتصادية معقولة سوف لن يكون طريقا صريحا واضح المعالم. وللمباشرة من العرض باستخدام التعبير بـ”يكون” إلى العرض باستخدام التعبير “يجب أن” سوف يكون، وفق جميع سياقات الكلام، محفوفا بالمخاطر الفلسفية التشهيرية. مثل هذه الأخطار سوف تتضاعف، ضمن سياق علم الاقتصاد، بشكل تصاعدي وذلك بفعل تلك الأذهان الماكرة التي تعمل على تعقيد مصادر الفهم الاقتصادي نفسه.
إن محاولتنا الخاصة بتوضيح الأساس الكامن في مجال العلوم الاقتصادية، بالنسبة لمشورة اقتصادية مشروعة ونافعة، سوف تتواصل وفق النحو التالي. في هذه المقالة الحالية سنقوم بتطوير وتوسيع التناقض الظاهري الذي يدخل في عرض أية مشورة “علمية” (أي المشورة المدعومة من قبل العلم أو حتى تلك المشورة التي قد تكون مستتبعة بالعلم) في المجال الاقتصادي. وفي المقالة الثانية سنقوم بفحص واختبار القواعد الفلسفية للعلوم الاقتصادية نفسها (مع بذل اهتمام خاص نحو إمكانياتها بالنسبة لصناعة السياسات الاقتصادية). وفي المقالة الختامية سنحاول أن نصيغ معا بصائرنا النافذة العديدة وأن نشكل استنتاجاتنا فيما يخص المشروعية العلمية لأية مشورة اقتصادية.
الاقتصاد السياسي هل هو “علـوم” أو “آداب”: تلك هي معضلة القرن التاسع عشر
ينظر الآباء المؤسسون لعلم الاقتصاد، بما فيهم العالم الأكثر شهرة آدم سميث، بشكل عام، إلى حقلهم هذا في مجال المعرفة وكأنه يشكل ما يطلق عليه اسم “آداب”، أي انه تعزيز “للثروة” الوطنية، لكونه مجموعة من النصوص المطبوعة لمشورة تدور حول كيفية إنجاز غرض محدد جيدا. وبالرغم من أن العنوان الكلاسيكي القديم الذي حمله آدم سميث هو التحقيق في طبيعة وأسباب ثروة الأمم (موحيا بذلك إلى أنه عبارة عن تحقيق علمي نزيه ليس له شأن في ترويج الثروة الوطنية المتزايدة ولا بمنعها)، فانه عادة ما كان يتم النظر إلى سميث نفسه على كونه معبرا عن موضوعه وكأنه أدب (مبينا ومعلنا عن طرق خاصة بزيادة الثروة الوطنية). لكن علماء الاقتصاد من ذوي التفكير العميق في تلك الفترة كانت لديهم هواجس وشكوك جدية حول مثل هذا النهج.
وبعض علماء الاقتصاد الكلاسيكيين الذي اتبعوا منحى سميث قاموا، بالفعل، بالتصارع مع العلاقة التي تربط بين علم الاقتصاد السياسي وأدب الاقتصاد السياسي. ومن بين مثل هؤلاء العلماء الاقتصاديين هناك ريتشارد واتلي الذي لم يكن فقط عالم اقتصاد ذائع الصيت بل أيضا رئيس أساقفة انجليكاني. وقد شعر واتلي بأنه بحاجة إلى الدفاع عن نفسه فيما يتعلق باهتمامه بعلم الثروة (وهو اهتمام تبين بان نقاده قد اعتبروه غير لائق برجل دين). وأشار واتلي (في محاضرة تمت في العام 1831 في أكسفورد) إلى أن من الممكن نشر وإدخال استنتاجات الاقتصاد السياسي في سياسات يتم تصميمها بغرض خفض الثروة (إذا تم النظر إلى الثروة وكأنها مشتبه بها أخلاقيا)، تماما كما يكون بالمستطاع أن يتم استخدامها في صياغة سياسات خاصة تهدف إلى زيــادة الثروة!
وفي أوائل القرن التاسع عشر، قام ناساو سينيور، أحد علماء الاقتصاد السياسي البارزين في تلك الفترة، وفي إحدى مراحل مسار حياته المهنية الأكاديمية، بالإنكار الصريح لوجود نفس الإمكانية في علم الاقتصاد والتي يمكن أن تكون متاحة لمثل ذلك الفن. ومع أن سينيور قام، في وقت لاحق، بالتراجع عن هذا الموقف الصريح إلا انه لم يتوافق ولم يتراض أبدا وبشكل تام مع فكرة أن يكون الاقتصاد السياسي أدبا. وفي خطابه الرئاسي في العام 1860 الذي وجهه إلى قسم العلوم الاقتصادية والإحصائيات (التابع للجمعية البريطانية)، بعد ربع قرن تقريبا من إنكاره لتوفر إمكانية أن يكون الاقتصاد السياسي أدبا، أصر سينيور على انه يتوجب على عالم الاقتصاد السياسي أن يركز اهتمامه فقط على إنتاج أو توزيع الثروة، بغض النظر عما إذا كانت “الثروة خيرا أم شرا”. كما انه كان يعتقد، بشكل واضح، بأنه ليس لعالم الاقتصاد، بصفته عالم اقتصاد، أي شأن في تقديم أية مشورة. “…عندما يقدم مبدأ وعندما ينصح قارئه بان يقوم بعمل ما أو ليمتنع عن القيام بعمل ما، فانه بذلك يحيد عن العلم إلى الأدب…”
ولما كان القرن التاسع عشر في سبيل الانقضاء، تم إبداء التجاهل نحو مخاوف سينيور، وقام علماء الاقتصاد، وخصوصا على مستوى القارة الأوروبية، ببذل قليل من الانتباه نحو التحذيرات والنصائح التي أبداها سينيور. فالمدرسة التاريخية الألمانية (التي هيمنت على علوم اقتصاد القارة الأوربية طيلة العقود الأخيرة من ذلك القرن) لم تقم بأية محاولة من أي نوع تستهدف فصل علومها الاقتصادية الأساسية عن المناصرة لمصلحة برامج اجتماعية معينة. وبالنسبة لها، فقد كان من الالتزام أن تتم هذه المناصرة التي تمنح علم الاقتصاد أهميته بصفته فرع من فروع المعرفة. ويروي جوزيف شومبيتر شهادة قدمها أحد طلبة صف دراسي كان يتم تدريسه من قبل قطب بارز من أقطاب المدرسة لدرجة أن حالة المزاج التي كانت تسود غرفة الصف كانت شبيهة بوضعية سباق انتخابي.
ولقد كان عالم الاجتماع الكبير ماكس ويبر هو الذي اعترف بالخطر الذي يحدق بسمعة علم الاقتصاد على أساس كونه علما موضوعيا متجردا جرى إرباكه بفعل مثل هذا الموقف المنغمس في السياسة. وأكد بالدليل بان الصفة العلمية لأي علم اجتماعي تشترط أن يكون محايدا بمنتهى الدقة وكأنه حيادٌ يتم بين أحكام وآراء يتم بها تحديد قيم (أو تحديد أسعار) متباينة، وهو الأمر الذي جعله يسير بشكل معاكس لوجهة النظر المهيمنة على العلوم الاقتصادية الألمانية. وفي حلقة نقاش بين علماء اجتماع باللغة الألمانية تم عقده في العام 1907، كان الموقف الذي اتخذه ويبر هو الموضوع الذي دار حول الاختلاف وعدم الاتفاق المريرين. ويصر ويبر على أن العلماء الذين لا يتفقون بشكل واضح تماما على أولويات أخلاقية، يجب عليهم، بالرغم من ذلك، أن يكونوا قادرين، على اقل تقدير من ناحية المبدأ، على أن يتفقوا حول الافتراضات والفرضيات الإيجابية المتواجدة في تخصصاتهم في حقل المعرفة. وفي وقت قريب جدا، سوف نعود إلى مزيد من التعليق على مبدأ ويبر، فيرتفرايهايت (أي حرية القيمة أو التحرر من وضع أحكام للقيمة).
القرن العشرون: علم اقتصاد الرفاه
بحلول نهاية القرن التاسع عشر، لم يعد واضعو النظريات الاقتصادية من ذوي الاتجاه السائد حينئذ ينظرون إلى حقلهم هذا في المعرفة على انه متعلق بالثروة المادية. فهم، بدلا من ذلك، قاموا بتركيز اهتمامهم على الحس الذاتي وغير الموضوعي بالرفاه حيث تأمل المخلوقات البشرية أن تستخرجه وتتوصل إليه من ثرواتها وأنشطتها الاقتصادية، وهو الأمر الذي أدى بهم (وخصوصا في إنجلترا) إلى النظر إلى علم الاقتصاد وكأنه يتعلق بشكل أساسي بـ”الرفاه”. ثم قاموا، في وقت قريب جدا، بالحديث عن “علم اقتصاد الرفاه” (وهو العنوان الجديد لكتاب إيه. سي. بيجو الصادر في العام 1902، والذي كان هو نفس كتاب الطبعة الثانية الصادر في العام 1912 المعنون بـ الثروة والرفاه). وللنظر إلى علم الاقتصاد باعتباره علم قادر على ترويج الرخاء الاقتصادي قد بدا وكأنه مجرد خطوة صغيرة غير ضارة. وهكذا، فقد تم في الغالب، بالنسبة لكثير من سنوات النصف الأول من القرن العشرين، التسليم بصحة القول جدلا على أن عالم الاقتصاد هو ذلك العالم الخبير الذي يقوم بصياغة سياسات يتم تنفيذها بغرض ترويج رفاه اقتصادي كلي غير فردي. وقد بدا بكل وضوح على أن لدى علماء الاقتصاد واجب مهني ألا وهو الدفاع عن السياسات التي تعمل حسب اعتقادهم على تعزيز الرفاهية من الناحية العلمية. وحتى علماء الاقتصاد الذين كانوا شديدي الحساسية تجاه التماسك الفلسفي لأية فكرة تدور حول الرفاهية الكلية الشاملة كانوا قادرين على استنباط إصدارات تمت صياغتها بشكل اكثر حرصا وعناية عن علم اقتصاد الرفاه من خلال رجوعهم إلى “أمثلية باريتو” أو إلى تركيبات معقدة مماثلة.
وتعتبر هذه الفترة هي الفترة التي شرع بها علماء الاقتصاد بالبدء في إيجاد فرص وفيرة للتوظيف في الحكومة. وبما أن المد الذي أصاب الرأي العام قد تحول بشكل حاسم (خلال الربع الثاني من القرن) إلى جانب التدخل الحكومي الشامل في اقتصاد السوق، نظر علماء الاقتصاد بشكل متزايد إلى حقلهم هذا في المعرفة وكأنه قادر على استحداث وخلق سياسات محددة جدا خاصة بحكومات يتم تنويرها بحيث تقوم باتباع هذه السياسات. وقام علماء الاقتصاد بوضع علمهم (وعلى وجه الخصوص ذلك الفرع الذي عمل على صياغة “علم اقتصاد الرفاه”) في خدمة الأحزاب السياسية، وهو الأمر الذي عمل، بشكل حتمي، على النزوع إلى إثارة نفس تلك الأسئلة المزعجة المتعلقة بالموضوعية المتجردة والحيادية لذلك العلم التي أزعجت ماكس ويبر وفق هذه الشاكلة. وقد تبين، بنحو مطرد، بان أي برنامج سياسي وأية فرضية خاصة بتشريع اقتصادي بإمكانهما أن يجدا علماء اقتصاد لديهم الاستعداد بأن يعطوا حجة “علمية” تعمل على دعمهما.
ميزس وفيرتفرايهايت
كان لودفيغ فون ميزس، عالم الاقتصاد التابع للمدرسة النمساوية المتفوقة، نصيرا مدافعا ومتحمسا جدا لمبدأ ويبر، فيرتفرايهايت، بخصوص كافة العلوم الاجتماعية وبشكل خاص علم الاقتصاد. وكان لودفيغ يعتقد بان الموضوعية المتجردة لأي علم تشترط لا شيء أقل من أن يتم فصل الافضليات الشخصية وأحكام القيمة الخاصة تماما عن الممارسين لها. والشيء الضمني في مبدأ ويبر، فيرتفرايهايت، هو اقتناع عالم الاقتصاد بان من الممكن، على الأقل من ناحية المبدأ، أن يمارس ويواصل علومه بمعزل عن أحكامه وآرائه الشخصية الذاتية حول القيمة. ومع ذلك، هناك فعلا بعض فلاسفة القرن العشرين قد تحدوا (وما زالوا يتحدون بالفعل) هذا الأمر، مؤكدين بالدليل على أن من الوهم أن يتم الاعتقاد بان بإمكان المرء أن يطمس الأحكام التي تحدد القيمة التي يضعها بينما يكون هو منشغل في علمه. وهم يجادلون بطريقة لا يمكن تجنبها على أن علم المرء يعكس الافتراضات الأخلاقية له. وقد يكون ميزس قد وافق على أن الإبقاء والمحافظة على مثل ذلك العزل سيكون أمرا صعبا، لكنه قد يكون قد رفض بشكل مشدد تلك الادعاءات التي تقول بأنه مستحيل. ويصر ميزس على أن من واجب العالِم تجاه سمعة علمه وتكامله أن يقوم بعزل البحث العلمي الذي يقوم بتأليفه عن أية مسحة “تلوث” ولو ضئيلة ناجمة عن ميول شخصية. فالباحث الطبي الذي يكشف عن الحلقات التي تربط بين تدخين السجائر ومرض السرطان يجب عليه أن يواصل اختباراته في المختبر وتحليلاته الإحصائية دون أن يكون ذلك البحث قد تأثر، بأي شكل من الأشكال، بأفضلياته الشخصية الذاتية المتعلقة بالتدخين أو بمخاوفه الخاصة به المتعلقة بالمرض. وهكذا أيضا، يجب أن يكون تحليل عالم الاقتصاد للأسواق والتنظيم وتداعياتهما مستقلا تماما عن آرائه الأخلاقية الخاصة به المتعلقة بالحرية وبالتفاوت في الدخل أو نحو ذلك.
ويقدم موقف ميزس إيضاحا رائعا عن الأشياء المبهمة والتعقيدات التي دخلت وتدخلت في مبدأ فيرتفرايهايت. فهناك غونار ميردال وهو أحد علماء الاجتماع السويديين البارزين في القرن العشرين (والذي كانت مواقفه حول السياسة الاقتصادية في خصام تام مع تلك المواقف التي تبناها ميزس بحيث انه عندما فاز كل من ميردال وإف. إيه. هايك مناصفةً بلقب جائزة نوبل في علم الاقتصاد، كان من المفهوم على نطاق واسع على أن القيام بهذه الاختيارات قد مثل نوعا من أعمال التوازن الفكري الآيديولوجي لآراء هايك المعتمدة حول السوق الحر لكونها قد واجهت توازنا مضادا من قبل دفاع ميردال عن سيطرة الحكومة الشاملة على الاقتصاد). وفي العام 1930 قام ميردال بنشر كتاب باللغة الألمانية عمل على فحص تاريخ علم الاقتصاد وتوصل إلى نتيجة مفادها بان معظم علماء الاقتصاد الرواد خلال ذلك التاريخ قد قاموا بحقن فرضيات وأفكار سياسية داخل ما كانوا قد قدموه على أنها بحوث علمية. وقد تمت ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية في العام 1955. وكان فريتز ماكلوب (وهو نفسه عالم اقتصاد مرموق في القرن العشرين المتدرب في النمسا والذي كان أحد تلامذة لودفيغ فون ميزس حيث قام بالتعامل مع ميزس على المستوى الشخصي بولاء وانتماء نموذجيين) قد كتب مراجعة لهذه الترجمة التي تم نشرها. وقام ماكلوب بجلب الانتباه نحو إقرار ميردال على أن مدرسة الاقتصاد النمساوية (على نحو مغاير لمذاهب الفكر الاقتصادي الأخرى) لم تكن قد ارتكبت ذنب قيامها بحقن مثاليات سياسية في البحث العلمي التي قامت بتأليفها. وقد وجد ماكلوب بان هذا الحكم الاطرائي يعتبر أمرا مفاجئا. وقام بطرح السؤال التالي: “كيف تمكنت أبحاث ومؤلفات النمساوي فون ميزس المضادة للمتدخلين من النجاة هربا من اهتمام وعناية ميردال؟” ومن الواضح بان ماكلوب لم يكن ليقدر على التوافق والتراضي مع إصرار ميزس الذي ذكره عن فيرتفرايهايت وعن الانفصال عن الالتزامات الآيديولوجية المسبقة بوجود مؤلفات ميزس التي تنطق بشكل فصيح والتي تصب لصالح سياسة عدم التدخل (الحكومي) في الشؤون الاقتصادية ولصالح اقتصاد السوق الحر.
وفي الحقيقة، فان أي قارئ للأثر العلمي الذي ألفه ميزس ليس باستطاعته أن يخفق في الإحساس بالتناقض الظاهري الذي يحيط بالعاطفة والهيام اللتان كتب بهما ميزس علومه الاقتصادية. وبحلول الوقت الذي نصل به إلى الجزء الثالث من هذه السلسلة، فأننا سنكون، بشكل مشجع، قد توصلنا إلى حل هذا التناقض. وهنا، سنقوم فقط بتحديده وبربطه مع التحدي الأكبر المتمثل باستخراج واستنباط مشورة نافعة من علم اقتصاد حرية تحديد القيمة.
لودفيغ فون ميزس وأهمية علم الاقتصاد
كما كنا قد لاحظنا، كان ميزس مقتنعا بان علم الاقتصاد يجب أن تتم مواصلته بشكل نزيه بعيدا عن العاطفة والانفعال، بصفته حقل معرفة في بيئة سوق حر، إلا أنه (أي ميزس) كان قد كتب بعاطفة متحمسة شديدة النقد عن الأخطار التي تواجه بني البشر في حال قيامهم بتجاهل الحقائق التي تكشف عنها العلوم الأكاديمية. وقد اختتم تحفته الرائعة الفعل البشري بالجمل القاسية التالية: “تعتبر مجموعة المعرفة الاقتصادية عنصرا رئيسيا في تركيبة الحضارة الإنسانية، فهي الأساس الذي تم فوقه بناء الصناعات الحديثة وكافة الإنجازات الأخلاقية والفكرية والعلاجية التي تحققت في القرون الأخيرة. وهي أيضا التي تبقت لدى الأفراد سواء عملوا على الاستفادة المناسبة من هذا الكنز الثري الذي وفرته لهم هذه المعرفة أم انهم تركوه بدون أن يستفيدوا منه. لكنهم، في حال إخفاقهم في الحصول على أقصى منفعة منه وقاموا بإهمال تعاليمه وتحذيراته، فسوف لن يكونوا قد عملوا على إلغاء علم الاقتصاد، بل إخماد المجتمع وسلالة بني البشر.”
لقد كان هذا هو الاقتناع العاطفي بالأهمية القصوى لتعاليم علم الاقتصاد الذي أسهم بالعناية والحرص اللذان قام ميزس ببذلهما تجاه الحالة الفلسفية لتلك التعاليم. فقد كان ميزس يعتقد بان أعداء المجتمع الحر بإمكانهم إن يديموا ويبقوا على دفاعهم عن التخطيط المركزي وعن التدخل الحكومي الشامل في اقتصاد السوق (أو استبداله) فقط بمجرد تجاهلهم لعلم الاقتصاد أو تشويه سمعة علم الاقتصاد. وقد نظر ميزس إلى كافة المحاولات التي بذلت للتشكيك في مشروعية الفرضيات التأسيسية لعلم الاقتصاد وكأنها مدفوعة من قبل دافع خفي لسياسة عدم تدخل اقتصادية مشوهة للسمعة.
ونظرا لاعتقاد ميزس بان سياسات عدم التدخل هي التي فقط يمكنها أن تديم وتحفظ الحضارة الحديثة، فقد شعر بأنه قد انساق إلى التوضيح وإلى الدفاع عن تلك القواعد الفلسفية التي قام هو بتسميتها بـ”علم الاقتصاد الحديث”. (بالنسبة لميزس، فان علم الاقتصاد الحديث هو مجموعة تعاليم اقتصادية متجذرة في علم الاقتصاد الكلاسيكي القديم لآدم سميث وتابعيه، بما انه قد تمت إعادة تصنيفه وصياغته من قبل ما سمي بعلماء الاقتصاد الكلاسيكيين الجدد، بما فيهم بشكل خاص، مؤسس المدرسة النمساوية كارل مينجر وتابعيه والذين كان من بينهم معلم ميزس الخاص صاحب المقام الرفيع يوجين فون بوم-بافيرك).
وقد اشتملت إيضاحات ميزس الخاصة بقواعد النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة، بشكل خاص، على دفاعه عن علم الاقتصاد من التهمة الماركسية وهي أن علماء الاقتصاد التقليديين هم مجرد تابعين خانعين لـ”الوول ستريت” الذين يناصرون السوق الحر لمجرد أن يقوموا بخدمة أسيادهم صرافي الرواتب الرأسماليين. وقد رأى ميزس بشكل واضح على أنه ما لم يقم علماء الاقتصاد بتطهير علومهم من أية وصمة من وصمات الانحياز الشخصي الملوثة (كالتعبير الصريح عن أحكام وآراء شخصية بتحديد القيمة)، فان تعاليمهم سوف تكون عرضة لمثل ذلك النبذ وصرف النظر. وبشكل دقيق، نظرا لأنه رأى في السوق الحر وكأنه مطلب مسبق رئيسي بالنسبة لأي مجتمع متحضر ومزدهر ونظرا لأنه كان يعتقد بان التحليل الاقتصادي غير المنحاز سيعمل حتما على دعم وجهة النظر هذه، فقد أصيب ميزس بالرعب من جراء إمكانية أن يتم نبذ علم الاقتصاد وكأنه لا شيء سوى كونه دعاية سياسية رأسمالية. وقد نظر فريتز ماكلوب إلى مناصرة ميزس لسياسة عدم التدخل (في كتاباته “ضد التدخلية”) باعتبارها مثال يحتذى على دقة التفاصيل للانطلاق من النزاهة والتجرد إلى مواصلة علوم الاقتصاد والتي قام ميردال باتهام الكثيرين جدا من علماء الاقتصاد بهما (إلا أنها كانت هي السياسة التي أقرت المدرسة النمساوية، بشكل عام، بأنها لم تكن قد ارتكبت أي ذنب). وسوف نعود في المقالة الثالثة من هذه السلسلة الصغيرة إلى فحص واختبار مشروعية تهمة ماكلوب.
وفي الفترة التي أعقبت الحرب، لم يقم معظم علماء الاقتصاد ببذل الكثير من الاهتمام إلى تلك الأمور المقلقة. والصحيح في هذا الجانب هو أن ميلتون فريدمان، وهو أحد العلماء الرواد في مدرسة شيكاغو المرموقة، قام (في مقالة مؤثرة في العام 1953) بمناصرة ما سماه بـ”علم الاقتصاد الإيجابي” (والذي يتم بموجبه تأسيس فرضيات اقتصادية قد تتحكم في الحصول على تصديق العلماء بغض النظر عن ميولهم الشخصية). ولكن ذلك الأمر تم النظر إليه باعتباره، من الناحية الأساسية، ممارسة منهجية متبعة تقوم بعرض حالة خاصة بمعالجة علم الاقتصاد على أساس كونه حقل معرفة تجريبي بشكل تام (كونه نقيضا للمعرفة المنطقية) (وليس كحالة خاصة بمبدأ حرية القيمة، فيرتفرايهايت).
ولقد جرى، من وقت لآخر، تكريس المزيد من العناية الجدية نحو مسألة حرية القيمة، فيرتفرايهايت. وهكذا، قام تيرينس دبليو. هاتشيسون وهو أحد مؤرخي الفكر الرواد (والذي كان، بمحض الصدفة، عالما في منهجية علم الاقتصاد الذي انتقد، بمرارة، مؤلفات ميزس المنهجية الخاصة)، بتأليف كتاب حول الموضوع. لكن هناك عدد قليل من علماء الاقتصاد الآخرين الذين قدموا الكثير من التفكير نحو المخاطر التي تحدق بنزاهتهم وتجردهم (أو إلى نزاهتهم التي يتم فهمها بالوعي) التي قد تكمن في الإفادات المعلنة عن سياستهم. وهناك بعض علماء الاقتصاد الذين كانوا، بطريقة أخرى، قد تأثروا بشكل عميق بالمدرسة النمساوية وبشكل خاص بميزس، قد عبروا بصراحة عن تحفظات قوية ضد مبدأ حرية القيمة، فيرتفرايهايت. وهكذا، قام موري روذبارد، وهو تلميذ رائد من تلاميذ ميزس، بالجدال وبالمناقشة بالنسبة لنطق المبادئ الأخلاقية المهنية بشكل صريح من جانب عالم الاقتصاد الذي يقدم مشورة حول سياسة ما.
ومنذ عهد قريب، قام دانييل بي. كلاين، والذي هو مدافع ونصير مشهور داعم لصناعة سياسة السوق الحر الاقتصادية بدعوة علماء الاقتصاد لنشر علومهم بهدف تعديل الخيارات السياسية-الاقتصادية المتاحة لجمهور عامة الناس. وجادل كلاين مؤكدا على أن علماء الاقتصاد الذين قاموا هم أنفسهم بتقييم المجتمع الحر كان لديهم التزام أخلاقي للمساعدة على قولبة الرأي العام ليتجه نحو إظهار الإدراك الكامل للحرية. وكان موقف علماء الاقتصاد موقفا فريدا من نوعه لقيامهم بإنجاز ذلك نظرا لأنهم كانوا يتمتعون بسمعة مهنية محترمة. وبدلا من أن يبذلوا وقتهم في التحدث إلى بعضهم البعض بلغة نماذج رياضيات مجردة، كان من الواجب على علماء الاقتصاد أن ينشغلوا في “خطاب عام” يتحدثون به إلى الرجل العادي حول مسائل سياسية عمومية تطبيقية. وقام كلاين بعمل استطلاع لعينة نموذجية من المؤلفات المنشورة التي أبدى تجاهها علماء الاقتصاد، كل من العلماء المتطورين والطلبة الخريجين المحبطين، تحسرا وتأسفا على عدم صلة المؤلفات الأكاديمية بالموضوع لكونها قد أنجزت بفعل مهنة خاصة بعلم اقتصاد. وقد وجد كلاين بأن تلك المهنة قد تم حبسها داخل توجه عقلي وفكري لتكمن ضمن اهتمامات عالم الاقتصاد المهنية العقلانية كي يتجنب مخاطبة الرجل العادي حول مسائل واقعية، مركزا بدلا من ذلك على النماذج التجريدية المثالية التي تعتمد عليها (بشكل عكسي) أية سمعة حسنة مهنية ومكافآت مهنية. وفي قيامه بدفع وحث عالم الاقتصاد على أن يقوم بإطلاع الرجل العادي على ما هو صالح وخير له، قام كلاين بشكل واضح بحض عالم الاقتصاد على أن ينظر إلى مسؤوليته المهنية وكأنها امتداد إلى ما أبعد من الإيجابية واليقينية الصارمة. ويجب على عالم الاقتصاد ليس فقط أن يقلق نفسه، أو حتى بشكل مبدأي، لينشغل في فهم وتوقع سلسلات السبب والمسبب الاقتصادية (أي وجود سبب لكل ما يتم تسببه في الحقل الاقتصادي)، بل عليه أيضا أن يروج وينشر ذلك الفهم الخاص بتقديم المشورة إلى أي فرد في الشارع (وحتى بتحذيره) بالنسبة لما هو الأفضل (ولما هو الأسوأ!) في مجالات عمل ذلك الفرد.
علماء الاقتصاد الذين تم انتقادهم بقسوة
وفي سبيل حث عالم الاقتصاد على إبلاغ جمهور العامة عما يكون في نظر علم الاقتصاد خيرا لهم، قام كلاين بالتمرد بشكل علني على الموقف الذي اتخذه جورج جيه. ستيجلر، وهو عالم اقتصاد من مدرسة شيكاغو الحائز على جائزة نوبل. وفي العام 1982، قام ستيجلر بنشر كتاب وجه به انتقادا شديدا لعلماء الاقتصاد (بدءا من آدم سميث ولغاية الزمن الذي عاش به ستيجلر) بشأن قيامهم بعمل ما كان يرغب منهم كلاين أن يقوموا بعمله بكل دقة (بمعنى أن يتم إبلاغ جمهور العامة عما هو خير لهم). وقام ستيجلر بالاحتجاج بشدة ضد علماء الاقتصاد لكونهم “وعاظا مبشرين” (يعاملون جمهور العامة على أساس انهم مخطئون، كالأطفال الذين قد يتم تحسين سلوكهم إذا ما تم تعليمهم بالشكل المناسب من خلال إقناع أخلاقي مناسب).
بالنسبة لستيجلر، يجب على عالم الاقتصاد أن يمتنع عن “التبشير والوعظ” ليس بسبب وجود أية أمور مقلقة فيما إذا كان مثل ذلك التبشير ينتهك موضوعيتهم العلمية وحياديتهم الأخلاقية، والأصح أن ستيجلر قام بشجب مثل ذلك الوعظ لان التبشير بسياسة اقتصادية هو بمثابة اعتقاد، وهو حسب رأي ستيجلر عمل خاطئ تماما: بان عالم الاقتصاد يعرف ما هو خير وصالح من الناحية الاقتصادية لجمهور العامة على نحو افضل مما يعرفه ذلك الجمهور أنفسهم. وقام ستيجلر بدعم فرضية المعرفة الكاملة (التي ميزت بشكل تشهيري الكثير من النماذج التي تم بناؤها من قبل واضعي نظريات اقتصادية لتعلل وتسهم في حقائق عالم حقيقي غير زائف) إلى درجة التناغم لكنها كانت متطرفة. وفي الواقع، قام ستيجلر بافتراض أن كل ما يقدر علماء الاقتصاد على تعليمه والتبشير به سوف يكون معروفا بشكل مسبق لدى جمهور الناس ولممثليهم السياسيين. وقد يعتقد عالم الاقتصاد بان النتيجة المتوقعة من سياسة معينة سوف تكون غير مرغوبة، لكنها في حال قيام جمهور العامة بتبني مثل تلك السياسة فان ذلك يثبت بان هؤلاء الجمهور هم في الواقع راغبون بتلك النتيجة ذاتها. وعالم الاقتصاد الذي يقوم بشجب مثل تلك السياسة على أساس أنها خطأ سوف يعمل ببساطة على الكشف عن أن لديه مجموعة من الأهداف التي تختلف عن تلك الأهداف التي يسعى نحوها جمهور الناس فعلا.
ومما لا شك فيه أن تاريخ الاقتصاد قد عمل على الكشف عن وجود إجماع ضئيل بين علماء الاقتصاد يتعلق بالإمكانية المتاحة وبالاستفادة من مبدأ حرية القيمة، فيرتفرايهايت، فالمهابة والاعتبار اللذان لازما تعاليم علم الاقتصاد والأهمية التي ألصقها الرأي العام المثقف بهذه التعاليم قد تراوحت بين القوة والوهن على مدى التاريخ، كما أن وجهات نظر علماء الاقتصاد أنفسهم فيما يخص وجود أو عدم وجود التزام لديهم لتنوير جمهور العامة حول السياسة الاقتصادية قد تغيرت وتعددت إلى درجة كبيرة. وسوف نحاول أن نوضح مشروعية المشورة (“العلمية”) التي يقدمها علماء الاقتصاد إلى جمهور الناس ونحن نقابل هذه الخلفية المربكة إلى حد ما.
من التعبير بـ”يكون” إلى التعبير بـ”يجب أن”
في الجزء الثاني من هذه السلسلة سنقوم بمراجعة قواعد الدروس الإيجابية واليقينية جدا التي يتم تدريسها من قبل علم الاقتصاد، أي أننا سوف نقدم، بشكل موجز، طبيعة التفكير الاقتصادي الذي يعمل على تأسيس وجود سلسلات السبب والمسبب في المجال الاقتصادي. وفي هذا الصدد، سنقوم باتباع التقليد النمساوي في مجال التفكير الاقتصادي، وعلى وجه الخصوص ما تم تطويره من المؤلفات ذات الصلة التي قام بها قطبا ذلك التقليد في القرن العشرين وهما ميزس وإف. أيه. هايك. والشيء الذي سوف ينبثق من هذا الإجراء والاختبار سوف يكون بمثابة تبصر ينفذ إلى نزعة السوق القوية لتقوم بترجمة تصنيفات احتياجات المستهلكين بطريقة منتظمة وكذلك التقييدات المفروضة على المصادر الطبيعية إلى أنماط من التخصيص والتوزيع للمصادر التي تتوافق معهما. وسوف نرى بان هذه الترجمة التصنيفية ستعمل على المتابعة بحيث تبدأ من غاية العمل الإنساني والنزوع المهني للكائنات البشرية بغرض اكتشاف ما هو في مصلحتهم ومن إمكانيات توصيل المعلومات عن نظام سعر السوق، وهو الأمر الذي سيقودنا مباشرة إلى الجزء الثالث والأخير من هذه السلسلة.
وفي تلك المقالة الثالثة، سنقوم بفحص واختبار المضامين التي تحملها وجهة النظر النمساوية هذه بالنسبة لإمكانية تقديم مشورة نزيهة حول مسائل سياسات عامة كتلك المشورة التي لا تعكس أية أفضليات شخصية أو آيديولوجيات فكرية لعالِم الاقتصاد الذي يقوم بعرضها. وبالإمكان أن يتم التمسك بمبدأ حرية القيمة من قبل مقدِّم السياسة العامة؛ وبالإمكان أن يتم المحافظة على موضوعية ونزاهة علماء الاقتصاد الذين يقدمون المشورة؛ وكذلك بالإمكان لنا أن نأمل في التمسك بالسمعة العلمية الحسنة لعلماء الاقتصاد، فقط إذا كانت تلك الإمكانية موجودة. إن استنتاجاتنا التي سنتوصل إليها فيما يتعلق بهذه الأسئلة سوف تمكّننا من توضيح بعض التناقضات الظاهرية التي واجهناها في المقالة الحالية، فهي التي ستزودنا، على وجه الخصوص، بفهم كيفية عدم حاجة تعاليم علماء اقتصاد السوق الحر إلى التساهل مع أغراضها وأهدافها ونزاهتها، والتي قد يتم، بالرغم من ذلك، عرضها مع وجود قناعة عاطفية ومناصرة دعم مكرسة لها.
مجلة فريمان، تموز-آب 2006.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 16 كانون الثاني 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

ربما أهداك أحدهم عدداً من مجلة فريمان. هل هذا يعني أن قراءة هذا المقال هو بلا كلفة؟ الجواب هو كلا ثم كلا. فلو لم تكن تقرأ ذلك المقال فلربما كنت تشاهد التلفاز أو تتحدث إلى زوجتك أو تعد واجباتك البيتية. إن ثمن ما تفعل مهما كان، يقاس بما سوف تضحي بعدم عمله. فبينما أنت تقرأ هذا المقال الذي قد يكون ثمنه صفراً، فإنه بكل تأكيد ليس صفراً من حيث الكلفة.
ومن أجل دعم فكرة أن الثمن هو ليس القياس الكامل للكلفة، تصور أنك تعيش في سانت لويس. الحلاق الذي يقص شعرك يحاسبك بـ20 دولاراً ثمناً للحلاقة. ولنفترض أنني أبلغتك بأن هنالك حلاقاً في مدينة شارلستون في جنوب كارولاينا وأنه يحاسبك بخمس دولارات لقصة مماثلة، فهل تعتبر بأن الحلقة في شارلستون أرخص؟ فبينما كلفة الحلقة أقل فإن الكلفة العامة سوف تكون أكثر كثيراً من ذلك من حيث الوقت والسفر وغير ذلك من النفقات التي سوف تتكبدها إذا قررت الحلاقة في مدينة شارلستون.
الناس يفكرون وهم على خطأ من أمرهم بأن الكلفة هي الكلفة المادية فقط، بيد أن ما يتم التضحية به عندما يتم عمل اختيار معين يمكن أن يشمل الهواء النظيف، أو الراحة، أو الأخلاق، أو السكينة، أو الراحة البيتية، أو الأمن، أو أي قيمة أخرى. وعلى سبيل المثال، فإن الكلفة المتوقعة للسهر في الخارج مع الأولاد قد يعني التضحية براحة منزلية.
الكلفة تؤثر على خياراتنا في العديد من الطرق، ومن أجل المضي في هذا البحث فإننا سوف نفترض بأن جميع الكلف المتعلقة بأي خيار معين سوف يتحملها صاحب الاختيار.
إن أحد أهم الاستخلاصات العامة التي يمكننا التوصل إليها فيما يتعلق بالسلوك البشري هي أنه كلما ارتفعت كلفة أي اختيار معين كلما قل احتمال اختياره، وأنه كلما قلت كلفته كلما زادت الرغبة في اختياره. هذا التعميم هو جوهر قانون الطلب. ومن أجل التبسيط دعونا نفترض أسعار نفقات الخطوة بينما نحتفظ بكل شيء آخر قد يؤثر على الاختيار ثابتاً. ويمكن التعبير عن قانون الطلب بوسائل عدة… فكلما قل سعر الشيء كلما زاد الطلب عليه؛ والعكس هو الصحيح بالنسبة للسعر الأعلى، ونستطيع أن نقول أيضاً بأنه يوجد سعر من شأنه أن يحفز على الشراء من منتج ما. وأخيراً هنالك علاقة عكسية بين سعر بضاعة والكمية التي يطلب منها.لماذا يسلك الناس مثل هذا السلوك؟ الجواب هو بكلمة أو اثنتين أن الناس يحاولون أن يكونوا بأكبر قدر ممكن من السعادة. وعلى سبيل المثال إذا ما وعندما يرتفع سعر البترول فإن الناس بكل بساطة يتجاهلون الارتفاع بالسعر وسوف يتوفر لديهم مال أقل للصرف على أغراض أخرى وأن يكونوا أقل سعادة. فإذا ما اختاروا بدائل لسعر البترول الأعلى فسوف يتوفر لديهم مال أكثر مما يجعلهم أكثر سعادة. ولهذا السبب فإن ارتفاع أسعار البترول تعطي الناس الدافع لشراء أدوات عزل أكثر، وشراء نوافذ أفضل، وارتداء ملابس أكثر دفءً، وربما حتى الانتقال إلى بلد طقسه أكثر دفءً. هذه الخيارات وكثير غيرها هي بدائل تتيح لك استهلاك كمية بترول أقل.
وعندما يقول أناسٌ بأن كمية معينة من شيء ما هي ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها، فإن مثل هذا القول قد يعني أن قانون الطلب غير موجود وانه لا توجد هنالك بدائل. إن هذا القول غير صحيح—ولننظر إلى حالة شخص يعاني من مرض السكري. هل يستطيع الاستمرار في العيش دون أخذ 50 وحدة من الإنسولين يومياً؟ قانون الطلب يقول أنه عندما يكون السعر في حد معين ولنقل 1000 دولاراً للوحدة فإنه يستطيع الاستغناء عنه. فهنالك دائماً بديل واحد على الأقل لأي منتج: أن يستغني المرء عن ذلك الشيء كلياً. وفي حالة مريض السكري فإن هذا يعني الاستغناء عن الإنسولين. ومع أن الاستغناء عن الإنسولين له نتائج غير محمودة فإنه بديل ممكن عندما تصل وحدة الإنسولين إلى 1000 دولاراً. ربما تقول: “وليامز، هذا النوع من التحليل الاقتصادي ينطوي على القساوة!” ولكنه ليس أكثر قساوة من قانون الجاذبية الذي يتنبأ بأنه إذا قفزت من ناطحة سحاب فإنك سوف تموت. النتيجتان كلاهما غير مشوقتين، ولكن هذه هي الحقيقة. وفي الحقيقة، فإن ملايين من البشر على امتداد العالم مضطرون إلى تحمل النتيجة المأساوية الناتجة عن عدم أخذ الإنسولين.
هنالك تعقيد فيما يتعلق بقانون الطلب إذ يقول: كلما انخفض السعر كلما ابتاع الناس أكثر من ذلك المنتج، وكلما ارتفع السعر كلما قل الطلب. إن من الأهمية بمكان إدراك أن الأسعار النسبية هي التي تقرر الخيارات وليس الأسعار الكلية. فالسعر النسبي هو سعر يقيَّم من حيث قياسه بسعر آخر. وإليكم هذا المثل على ذلك؛ الحقيقة أن ما سأقوله هي حيلة أداعب بها تلاميذ السنة الجامعية الأولى. لنفترض بأن شركتك قد عرضت عليك مضاعفة راتبك إذا قبلت بنقلك إلى فيربانكس في ولاية آلاسكا. هل ستعتبر مثل هذا العرض صفقة جيدة وتقبل بالعرض؟ بعض الطلبة بدون تفكير أجابوا بنعم. ثم أسأل ماذا إذا وجدت عند وصولك أن الإيجارات هي ضعف ما تدفع حالياً من إيجارات، وأن أسعار الأكل والملبس والبترول وغير ذلك من الحاجيات هي ثلاثة إلى أربعة أضعاف الكلفة التي تدفعها حالياً. النتيجة هي أنه في الوقت الذي قد تضاعف فيه راتبك بشكل كلي، فإن راتبك إذا ما قيس بالأسعار الأخرى قد هبط.
ومثال آخر محيرٌ بشكل أكبر، هو أن الأسعار النسبية وليس الأسعار الكلية التي تؤثر على السلوك هي ناتجة عن ملاحظة أن الأزواج الذين لديهم أطفال، والذين لا يمكن أن يتركوا وحدهم، يتجهون إلى اختيار سهرات أكثر كلفة من الزوجين الذين ليس لديهما أطفال. إن دخل الزوجين وأذواقهما ليس لهما سوى تأثير قليل على قرارهما؛ إن ما يقرر اختيارهما هو الأسعار النسبية. فبالاحتفاظ بالأعداد الصغيرة، ولنقل سهرة عالية الكلفة، العشاء مع حضور حفل موسيقي، فإن السعر هو 50 دولاراً والسعر الأقل، أي الذهاب إلى السينما هو 20 دولاراً. إن اختيار العشاء والحفل الموسيقي بكلفة 50 دولاراً يتطلب من الزوجين بدون أطفال التضحية بفيلمين ونصف الفيلم بنفس الكلفة.
الزوجان اللذان لديهما أطفال يدفعون 10 دولارات لجليسة الأطفال، سواء ذهبوا إلى سهرتهم الغالية أو السهر الأقل كلفة. فإذا ما أخذنا في الحسبان كلفة جليسة الأطفال فإن كلفة العشاء والحفل الموسيقي سوف تكلفهما 60 دولاراً وحضور السينما 30 دولاراً. وفي اختيارهما للعشاء مع الحفل الموسيقي فإنهما ضحيا بفيلمين فقط. لذا فإن هذه السهرة هي نسبياً أرخص للزوجين مع الأطفال. وما دام أنها أرخص، فإننا نتوقع من الزوجين الذين لديهما أطفال اختيار السهرة الأكثر كلفة. لا يحتاج الأمر إلى تحليل اقتصادي للوصول إلى هذه النتيجة.
قد يقترح الزوج “عزيزتي، دعينا نستأجر جليسة أطفال ونذهب إلى السينما”، وتجيب الزوجة قائلة “هذا ليس اختياراً جيداً. ذلك أن علينا أن ندفع 10 دولارات لجليسة الأطفال سواء ذهبنا إلى السهرة الرخيصة أو إلى السهرة الغالية، لذا فلماذا لا نأخذ أقسى ما يقابل المال الذي سننفقه فنذهب إلى العشاء ونحضر الحفل الموسيقي؟”
إرتفاع أسعار القهوة
وإليكم مثلاً آخر عن الارتفاع النسبي للأسعار؟ لنفترض أن سعر رطل من القهوة اليوم هو دولار واحد، وأنك بالمعتاد تشتري رطلين كل أسبوع. ثم تسمع أنباءً بأن الصقيع في البرازيل قد دمر معظم محصول القهوة وأنه يُتوقع أن ترتفع أسعار القهوة قريباً. ماذا سوف تفعل في هذه الحالة ولماذا؟ إنني أخمن بأنك ربما تشتري الآن كميات أكبر، ولكن لماذا؟ الشخص العادي سوف يجيب بأنه يفعل ذلك من أجل توفير المال. هذه إجابة مقبولة، بيد أنها لا تغطي الحقيقة كلها. مرة أخرى فإن قانون الطلب هو الذي يفعل فعله. فإذا كان من المتوقع أن ترتفع أسعار القهوة في الأسبوع القادم فإن هذا يعني بأن أسعار القهوة لهذا الأسبوع قد هبطت نسبة إلى ما ستكون عليه في الأسبوع القادم، وقانون الطلب يقول بأنه عندما ينخفض سعر سلعة ما فلسوف يشتري الناس كميات أكبر. إن هذا القانون يعمل بشكل عكسي أيضاً. فإذا كان من المتوقع أن تنخفض الأسعار في الأسبوع القادم، فإنك سوف تشتري كمية أقل من القهوة هذا الأسبوع. لماذا؟ لأن أسعار القهوة تكون قد ارتفعت هذا الأسبوع بالنسبة لما سوف تكون عليه في الأسبوع القادم.
قد يخطر ببالك أن تعتبر هذا التحليل للقهوة بأنه تبسيط للأمور، بيد أن هذا المثل هو خلف المبدأ الأساسي الذي يكوّن تعقيدات الأسواق المستقبلية مثل سوق تبادل السلع في شيكاغو حيث يصبح الناس كمضاربين أغنياء حيناً وفقراء حيناً آخر وهم يتنبئون بأسعار السلع في المستقبل.
محاضرتنا التالية سوف تبحث عما يقوله قانون الطلب فيما يتعلق بالتمييز السعري وغير ذلك من الخيارات التي نتخذها.
هذا المقال بالتنسيق مع مجلة فريمان (كانون الأول 2005).
© معهد كيتو، منبر الحرية، 15 كانون الثاني 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

هنالك أربعة أطياف من السلوك التي تقع تحت اسم السلوك الاقتصادي: الإنتاج، الاستهلاك، التبادل، والتخصص.
الإنتاج هو أي سلوك من شأنه خلق منفعة، أي أنه يرفع من القدرة على تلبية الرغبات، لشيء من الأشياء. عندما يقوم مصنع حديد بصهره، فإنه يرفع قدرته على تلبية الطلب له، عن طريق تغيير شكله. إن قدرته على تلبية مطلب تزداد ارتفاعاً عندما تتحول إلى فولاذ، والفولاذ إلى قضبان وزوايا ربط وغيرها. الإنتاج يشمل أيضاً تغيير المعالم المساحية للبضاعة. إن برتقالاً نافلاً ليس له خصائص جذب لسكان فيلادلفيا إذا كان البرتقال في كاليفورنيا. الشخص الذي يُسمى في بعض الأوقات “الوسيط،” أو “بائع الجملة،” يغير المعالم المساحية للبرتقال عن طريق نقله من كاليفورنيا إلى فيلادلفيا، وبالتالي رفع قدرته على تلبية الرغبات إلى سكان فيلادلفيا.
الاستهلاك سهل. إنه ببساطة تخفيض النفع، قدرة تلبية الرغبة لشيء ما. عندما آكل همبرغر، فإنني أنقص قدرته على تلبية الرغبة. وعندما أسوق سيارتي، فإنني أقلل قدرتها على تلبية المطلب. وبالمناسبة، إذا كان الإنتاج أكبر من الاستهلاك، فإن النتيجة تسمى الادخار، وإذا كان الأمر عكس ذلك، فإننا نسميه عدم الادخار.
التبادل هو أكثر تعقيداً بقليل؛ وإذا أسيء فهمه، فقد يؤدي إلى كثير من الفوضى وسوء التصرف. جوهر التبادل هو نقل حقوق الملكية. هذا ما يحدث عندما أشتري جالوناً من الحليب من البقّال. أقول له إنني أملك حقوق ملكية على الدولارات الثلاث التي بحوزتي، وهو يملك حقوق التملك لجالون الحليب. ومن ثم أقول له “إذا نقلت حقك في ملكية هذا الجالون من الحليب، فإنني سوف أنقل حقوق ملكيتي في تلك الدولارات الثلاث.”
كلما وقع تبادل طوعي، فإن الإستنتاج الواضح الوحيد الذي يمكن أن يتوصل إليه المراقب هو أن الفريقين في رأيهما—وليس في رأيك أو رأي أي إنسان آخر—هو أنهما كانا على قناعة بأن وضع كل منهما قد أصبح أفضل نتيجة التبادل، وإلا لما أقدما على التبادل. كنت حراً في الاحتفاظ بدولاراتي الثلاث، وكان البقّال حراً في الاحتفاظ بحليبه.
إذا كنت تفكر بأن من الواضح بأن الفريقين قد استفادا من التبادل الطوعي، فلماذا إذاً نسمع كلاماً عن استغلال العمال؟ لنقل بأنك تعرض عليَّ أجراً مقداره دولارين في الساعة. أنا حر بأن أقبل أو أرفض عرضك. لذا فماذا يمكن أن نستخلص إذا ما شاهدتني أعمل لك مقابل أجر الدولارين في الساعة؟
إحدى الاستخلاصات الواضحة هي أنني لا بد وأن أكون قد توقعت الاستفادة من عرضك بدلاً من قبول أي عرض يليه. لا بد أن أكون قد اقتنعت بأن جميع البدائل الأخرى كانت أقل فائدة لي، وإلا لما قبلت بعرض الدولارين في الساعة. هل هو مناسب القول بأنك قد استغلّيتني عندما قدّمتَ لي أحسن العروض؟ وبدلاً من استخدام كلمة استغلال، كان أنسب لو قلت بأنك تتمنى لو كان هنالك بدائل أفضل.
وبينما قد يصف الناس عرض دولارين في الساعة كاستغلال، فإنهم لن يقولوا الشيء ذاته إذا كان العرض 50 دولاراً في الساعة. لذا، وفي معظم الأحوال، عندما يستخدم الناس عبارة استغلال، بالإشارة إلى التبادل الطوعي، فإنهم في الحقيقة يعربون عن عدم رضاهم عن السعر. إذا ساوينا بين عدم الرضا عن السعر وبين الاستغلال، فإن الاستغلال في هذه الحالة منتشر. على سبيل المثال، فإنني لست غير راضٍ فقط عن راتبي، بل إنني، كذلك، غير راضٍ عن سعر طائرة الجلف ستريم النفاثة الخاصة.
إنني لا أدعو بأي حال من الأحوال بأن يفرغ المرء مفرداته اللغوية عن تعبير “استغلال.” إنه لفظ قيّمٌ لخداع الآخرين، ولكن وفي غضون ذلك، يجب أن لا يستخدم لخداع النفس. إنني أُذكّرُ نفسي باتهامات الاستغلال التي كانت توجهها لي زوجتي في مطلع زواجنا منذ 45 عاماً. كانت تقول: “وولتر، إنك تستغلني!”. وكنت أجيبها قائلاً: “عزيزتي، إنني أستغلك بكل تأكيد. ولو لم يكن لي استفادة منك لما تزوجتك في المقام الأول.” كم هم الناس الذين يتزوجون من شخص لا يجدون فيه أي نفع؟ وفي الحقيقة، فإن مشكلة القلوب المنعزلة بيننا هي أنها لا تجد أناساً تستخدمهم.
التخصص يحدث عندما ينتج الناس من بضاعة أكثر مما يستطيعون استهلاكها، أو يفكرون في استهلاكها. والتخصص يمكن أن يتم على أسس الفرد أو الإقليم أو الوطن. هاكم أمثلة على كل منها: عمال صناعة السيارات في ديترويت ينتجون من أجهزة الكرانك شافت (العامود المرفقي) أكثر مما يستهلكون أو يعتزموا الاستهلاك منها؛ مزارعو حمضيات كاليفورنيا ينتجون من برتقال نافل أكثر مما يستهلكون أو يعتزمون الاستهلاك منه؛ ومزارعو القهوة في البرازيل ينتجون من القهوة أكثر مما يستهلكون أو يعتزمون الاستهلاك منها.
وهنالك شرطان للتخصص: يجب أن تتوفر معطيات موارد غير متكافئة، وفرص التجارة. معطيات الموارد غير المتكافئة تعني أن الفرد يملك المهارة، أو أن الإقليم، أو الأمة، يملك الأرض والعمالة ورأس المال وقوة المبادرة، بحيث أنه يستطيع هو، أو هي، إنتاج أشياء معينة برخص أكثر من كلفة شخص آخر، أو منطقة أو أمة.
على سبيل المثال، ومع أنه بالإمكان زراعة الحنطة والقمح في اليابان، فإن ذلك سوف يكون غالي الثمن. لماذا؟ ذلك لأن زراعات مثل الحنطة والقمح تستخدم أراضٍ واسعة. واليابان بلد فقير نسبياً بالأراضي. هذا يعني أن الأراضي اليابانية غالية نسبياً. وعلى النقيض من ذلك فإن الولايات المتحدة غنية بالأراضي، لذا فإنها تستطيع إنتاج القمح بكلفة أقل نسبياً. ومن هنا يتبين أن من الفطنة وحسن الاختيار أن تعمد الولايات المتحدة إلى استغلال ما تستطيع أن تفعله بكلفة أقل—أي التخصص في إنتاج الحبوب—بينما يتعين على اليابان أن تتخصص فيما يمكن أن تنتجه بكلفة أقل—ولنقل، عدسات الكاميرا.
وحتى يمكن للتخصص أن يتم، يجب توفر فرص التجارة. فليس من الممكن أو المفيد للمزارعين الأمريكيين إنتاج حبوب أكثر مما يستطيعون استهلاكها أو يخططون لاستهلاكها إذا لم يكن باستطاعتهم الاتجار بذلك الفائض. كما أنه ليس من حسن الاختيار في شيء للمنتجين اليابانيين إنتاج عدسات كاميرات بكميات أكبر مما يستطيعون استهلاكها أو يخططون لاستهلاكها إذا لم يستطيعوا الاتجار بذلك الفائض.
ولننظر ماذا يحدث إذا ما فرضت الحكومة اليابانية قيوداً على استيراد القمح الأمريكي. المزارعون اليابانيون يستطيعون عندها فرض أسعار احتكارية واستيفاء مداخيل أعلى، بينما يدفع المستهلكون اليابانيون أسعاراً أعلى. فهل تعتبره استجابة ذكية أن تقدم حكومة الولايات المتحدة على اتخاذ إجراءات مضادة ضد اليابان عن طريق فرض قيود على استيراد عدسات الكاميرات اليابانية، بحيث تسمح لمنتجي تلك العدسات الأمريكيين بفرض أسعار احتكارية أعلى وفي الوقت ذاته أن يدفع المستهلكون الأمريكيون أسعاراً أعلى؟ أو لنضع الأمر بشكل آخر، هل من الحكمة أو الفطنة لحكومة الولايات المتحدة أن تلحق الضرر بالمستهلكين الأمريكيين بسبب أن اليابان قد ألحقت الضرر بمستهلكيها؟
جعل الناس معتمدين على بعضهم بعضاً
إن التخصص والتجارة يجعلان الناس معتمدين على بعضهم بعضاً لتلبية حاجاتهم ورغباتهم اليومية. كم هو عدد من ينتجون نظارات عيونهم أو ينتجون سياراتهم أو يبنون منازلهم أو يخيطون ملابسهم أو ينتجون أكلهم؟ إننا نستطيع الحصول على كل هذه البضائع والرغبات عن طريق التخصص فيما نستطيع التميز به والاتجار مع الآخرين فيما يتميز بإنتاجه وصنعه الآخرون. فمن خلال التخصص والتجارة يمكن أن نسمي ما يجري “الاستعانة بمصادر خارجية،” ذلك أننا سوف نتمتع بتلك المنتجات كما لو أننا قد أنتجناها بأنفسنا. وفي الحقيقة فإن التخصص هو الوسيلة البديلة للإنتاج. وبهذه المناسبة أود أن أذكر بأن كل من يطالب بالاستقلالية، سواء كان فرداً أو إقليماً أو وطناً، من شأنه أن يجعلنا أكثر فقراً. ولا يهم ماذا كان يطلبونه تحت شعار الاستقلالية: الاستقلالية في الطاقة، أو الاستقلالية في صنع الملابس، أو الاستقلالية في إنتاج القهوة.
ودعونا الآن ننظر إلى عدد قليل من البيانات المضللة فيما يتعلق بالتجارة الدولية. الولايات المتحدة تتاجر مع اليابان. هل يعتقد أي إنسان بأن الذي يتاجر هو الكونغرس الأمريكي مع أقرانه في البرلمان الياباني؟ إن من يتاجر هم الأفراد الأمريكيون مع الأفراد اليابانيين من خلال الوسطاء. وماذا عن “التجارة العادلة”؟ إذا اشتريت عدسات كاميرا من صناعة اليابان طوعاً ووفق شروط متفق عليها من الجانبين فإنك على الأغلب سوف تكون مقتنعاً بأنها كانت صفقة عادلة، وإلا لاحتفظت بمالك في جيبك. ربما يصف منتج عدسات كاميرا أمريكي تلك الصفقة بأنها “غير عادلة” لأنه لم يستطع أن يبيعك عدساته بسعر أعلى. النظرية الاقتصادية لا تستطيع الإجابة على أسئلة تقييمية مثل ما إذا كان من الأعدل لو دفعت ثمناً أعلى؛ إنها تستطيع أن تقول فقط بأن السعر الأعلى سوف يؤدي إلى إنقاص ما تملك من دولارات يمكن صرفها على أغراض أخرى.
البحث القادم في هذه السلسلة سوف يركز على أحد أهم النظريات الاقتصادية: الكلفة.
هذا المقال بالتنسيق مع مجلة فريمان (أيلول 2005).
© معهد كيتو، منبر الحرية، 2 كانون الثاني 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20101

ربما كان الإيمان بالمستقبل أكثر القيم أهمية بالنسبة لمجتمع حر. وهذا ما يجعل الكثيرين يرغبون في الحصول على التعليم، أو الاستثمار في مشروع ما، أو حتى أن يكونوا لطفاء مع جيرانهم. وإذا كنا نعتقد أنه ليس هنالك ما يمكن تحسينه أو إذا كنا نعتقد أن العالم قد شارف على نهايته، فإننا والحال كذلك لا نعمل بجد من أجل مستقبل أفضل وأكثر تحضراً. وسنكون كلنا تعساء.
لقد قام فلاسفة حركة التنوير بخلق الإيمان في المستقبل في القرنين السابع عشر والثامن عشر عن طريق جعلنا نعرف أن بإمكان قوانا العقلانية فهم العالم، وأنه يمكن لنا أن نعمل على تحسينه مع الحرية، وقد أثبتت الليبرالية الاقتصادية صحة ذلك. فعندما وضح آدم سميث أننا لا نحصل على اللحم من العمل الخيري للجزار، ولكن من مصلحته الذاتية، فقد كان ذلك أكثر من مجرد عبارة، بل كان نظرة عالمية. لقد شكل ذلك طريقة للقول بأن الجزار ليس عدواً لي. فكلانا يستفيد عن طريق التعاون والتبادل الطوعي ونجعل من العالم مكاناً أفضل خطوةًَ فخطوة.
ومنذ تلك الأيام، فقد حقق الجنس البشري تقدماً غير مسبوق، ولكن ما يبعث على الدهشة أن معظمنا لا يرى ذلك، وذلك بسبب الآليات الفكرية القديمة التي تم وضعها في أشد الأوقات خطورةً، عندما غالباً ما عنى انتصار شخص خسارة للآخر. والليلة سأناقش ماهيتها وكيفية التعامل معها، وأعتقد أنه من الجيد أن نبدأ بالايديولوجية التي أوجدت معظم هذه الآليات الفكرية: الاشتراكية.
لقد أوضح كارل ماركس أن الرأسمالية تجعل من الغني أكثر غنى وتزيد الفقير فقراً. فإذا كان لشخص أن يحصل على ربح، كان لا بد لشخص آخر أن يخسر في السوق الحرة. وستتحول الطبقة الوسطى إلى طبقة العمال) البروليتاريا)، وستعاني البروليتاريا من الجوع. يا له من زمن مشؤوم للخروج بهذه النبوءة! لقد منحت الثورة الصناعية الحرية للابتكار والإنتاج والتجارة، وخلقت ثروة هائلة الكم، وقد وصلت إلى الطبقة العاملة حيث جعلتهم التكنولوجيا أكثر إنتاجيةً وأكثر أهمية لدى أرباب العمل، وبلغت دخولهم مقداراً ضخماً.
الذي حدث أن العمال قد تحولوا إلى طبقة وسطى، وبدأت الطبقة الوسطى العيش مثل الطبقة الأعلى منها. وقد قادت هذا الطريق أكثرُ البلدان ليبراليةً: إنجلترا. ووفقاً لتوجهات الجنس البشري حتى ذلك الحين، فسيستغرق الأمر 2000 سنة لمضاعفة متوسط الدخل. وفي منتصف القرن التاسع عشر، حقق البريطانيون ذلك في 30 عاماً. وعندما مات ماركس في 1883، كان الرجل الإنجليزي العادي أغنى بثلاث مرات عما كان عليه لدى ولادة ماركس في 1818.
يعيش الفقراء في المجتمعات الغربية اليوم حياة أطول، ويتمتعون بإمكانية أفضل للوصول إلى التكنولوجيا والسلع، ويحظون بفرص أكبر من فرص الملوك في زمن ماركس.
حسناً، قال لينين، الغلام الشرير لماركس. ربما نكون مخطئين في ذلك. لكن الطبقة العاملة في الغرب استطاعت أن تصبح أكثر غنى لأنها مرتشية من قبل الرأسماليين. ويجب أن يدفع شخص آخر ثمن تلك الرشوة—البلدان الفقيرة. لقد عنى لينين أن الإمبريالية هي الخطوة الطبيعية التالية للرأسمالية، حيث كان على البلدان الفقيرة أن تتخلى عن عملها ومواردها من أجل إطعام الغرب.
تكمن مشكلة هذه الحجة في أن كافة القارات أصبحت أكثر ثروة، بالرغم من تفاوت سرعة ذلك. بالطبع، فإن الشخص الأوروبي الغربي أو الأمريكي العادي أغنى بتسعة عشر مرة مما كان عليه في 1820، ولكن الأمريكي اللاتيني أغنى بتسع مرات والآسيوي بست مرات والأفريقي بثلاث مرات. إذاً، ممن سرقت الثروة؟ إن الوسيلة الوحيدة للإبقاء على هذه النظرية الجوفاء هي العثور على حطام مركبة فضائية متقدمة بشكل مذهل قمنا بإفراغها قبل 200 عاماً. ولكن حتى هذا لا يمكن أن يبقي على النظرية لأنه ما زال علينا أن نبين الجهة التي قامت المخلوقات الفضائية بسرقة مواردها.
من الصحيح أن الاستعمار غالباً ما كان جريمة، وفي بعض الحالات أدى إلى أفعال شنيعة، ولكن العولمة في العقود الماضية تبين أن وجود بلدان رأسمالية غنية يسهل من تطور البلدان الفقيرة إذا ما شاركت في تبادل حر وطوعي للأفكار والبضائع. تعني العولمة أن التقنيات التي كلفت الدول الغنية مليارات الدولارات وانهمكت الأجيال في تطويرها يمكن استخدامها بشكل مباشر في البلدان الأفقر، حيث بإمكانها أن تبيع للأسواق الأغنى وأن تقترض رأس المال من أجل الاستثمار. فإذا كنت تعمل لدى شركة أمريكية في بلد منخفض الدخل، فإنك ستحصل على دخل أكثر بثمان أضعاف من متوسط الدخل في ذلك البلد. ليس لأن الشركات متعددة الجنسيات أكثر كرماً، ولكن لأنها معولمة، وتقوم بجلب آلات وإدارة ترفع من إنتاجية العمال وبالتالي من أجورهم.
لذلك فإن فرص بلد فقير يمتلك مؤسسات ترحب بالسوق الحر تتزايد كلما أصبح العالم أكثر تطوراً. لقد استغرق الأمر من إنجلترا 60 عاماً لمضاعفة دخلها عما كان في 1780، وبعد 100 عاماً، تمكنت السويد من القيام بذلك خلال 40 سنة فقط. وبعد 100 عاماً آخر، تمكنت بلدان مثل تايوان وكوريا الجنوبية والصين وفييتنام من ذلك في ما لا يزيد عن 10 سنوات.
خلال التسعينيات، تمكنت البلدان الفقيرة التي يبلغ عدد سكانها 3 مليارات نسمة من الإندماج في الاقتصاد العالمي، وقد شهدت زيادة في معدلات نموها السنوي بمقدار 5% لكل نسمة. وهذا يعني أن متوسط الدخل سيتضاعف في أقل من 15 سنة. فلنقارن ذلك مع النمو الأبطأ في البلدان الغنية، والنمو السلبي في البلدان النامية حيث يعيش مليار شخص. إن هذه البلدان، وتحديداً في شبه الصحراء الأفريقية، هي الأقل ليبرالية والأقل رأسمالية والأقل اتباعاً للعولمة. يبدو أن لينين قد قلب الأمور رأساً على عقب؛ فالبلدان الفقيرة المرتبطة في التجارة والاستثمار مع البلدان الرأسمالية تنمو بشكل أسرع من تلك البلدان التي لا تزداد فقراً.
دعونا نلقي نظرة سريعة على الإحصائيات لنطلع على أعظم القصص التي لم تروى أبداً. لقد انخفضت نسبة الفقر في الدول النامية من 40% إلى 21% منذ عام 1981. فقد ابتعد ما يقارب من 400 مليون نسمة عن الفقر، وهذه أكبر نسبة لانخفاض الفقر في تاريخ البشرية. وفي السنوات الثلاثين الأخيرة، انخفضت نسبة الجوع المزمن إلى النصف، وكذلك حجم عمالة الأطفال. ومنذ عام 1950، انخفضت نسبة الأمية من 70% إلى 23% مع انخفاض معدل وفيات الأطفال بنسبة الثلثين.
وهكذا يصبح الثري أكثر ثراءً والفقير أغنى بشكل أسرع من الثري. لقد كان كل من ماركس ولينين مخطئين. لنرى ما يقوله اشتراكي معاصر مثل الاقتصادي روبرت هيلبرونر، الذي أقر عام 1989 على الملئ بأن:
“بعد أقل من 75 عاماً على بدء المنافسة رسمياً بين الرأسمالية والاشتراكية، انتهت هذه المنافسة: فقد انتصرت الرأسمالية. فالتغييرات الصاخبة التي تجري في الاتحاد السوفييتي والصين وأوروبا الشرقية قدمت أوضح الأدلة الممكنة على أن الرأسمالية تنظم الشؤون المادية للبشرية بشكل أكثر قبولاً من الاشتراكية.” (دورية المفاهيم الجديدة، شتاء 1989).
لكن هيلبرونر لم يتصالح مع الرأسمالية. فالعقول الجوفاء—التي تتمسك بمقولة أن ربح شخصٍ ما يعني خسارةً للآخر—لا تموت بسهولة. فلا بد لأحدهم أن يدفع ثمن هذا النجاح، أليس كذلك؟ حسناً، لقد قال هيلبرونر أنه ما زال معارضاً للرأسمالية، ولكن هذه المرة لأنها ستؤدي إلى كلفة باهظة على البيئة. فبعد أن كان معارضاً للرأسمالية لأنها “تخلق الضياع والعجز والفقر،” يمكن للاشتراكي الآن أن يعارض الرأسمالية لأنها عالية الكفاءة وتولد الكثير من الثروة، ولذلك فإنها تدمر الطبيعة!
إن هذا الجدل شائع جداً كما أنه مضلل. بدايةً، فإن المداخن العالية لا تمثل أسوأ المشاكل البيئية في العالم. فالأسوأ من ذلك أن الكثير من الأشخاص يقومون بحرق الخشب والفحم وبقايا المحاصيل والروث داخل المنازل للحصول على الدفء ومن أجل الطبخ. وتقتل الأمراض التنفسية حوالي 1.6 شخصاً سنوياً. بالطبع، إن الإنتاج الحديث للطاقة يخلف مشاكل بيئية، ولكنه لا يقتل شخصاً كل عشرين ثانية كما يفعل ذلك القاتل في المطبخ. وتقتل الأمراض المنتقلة من خلال الماء 5 ملايين شخص كل عام. إن عدد الأشخاص الذين يموتون من هاتين المشكلتين البيئيتين يصل إلى ثلاثمائة ضعف عدد القتلى في الحروب سنوياً. ويصدف أنه قد تم القضاء على هذه الأمراض في كل الدول الصناعية على وجه الأرض.
ولكن علاوةً على ذلك، عندما نزداد ثراءً يكون بمقدورنا أيضاً التعامل مع المشاكل البيئية الجديدة التي تخلقها الصناعات الجديدة. عندما تتوفر لدينا الموارد لإنقاذ أطفالنا وغاباتنا فإننا سنبدأ بالاهتمام بشأن إنقاذ الطبيعة، فالتقدم الاقتصادي والتكنولوجي يوفر لنا الوسائل لفعل ذلك. والحركة البيئية هي نتاج لهذا التغير في الاهتمامات.
لقد انخفض التلوث الجوي في أوروبا في السنوات الـ25 الأخيرة بنسبة 40% وبنسبة 30% في الولايات المتحدة. وتتوفر لدينا دراسات مفصلة حول نوعية الهواء في لندن منذ القرن السادس عشر، الذي فسد حتى عام 1890، ولكن منذ ذلك الحين وهو في تحسن مستمر، واليوم فإنه أنظف مما كان عليه الحال في العصور الوسطى. ونجد أن الغابات في نمو كل عقد في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منذ السبعينيات. فالأنهار والبحيرات أصبحت أقل تلوثاً. ولقد انخفض معدل النفط المسكوب في محيطات العالم بنسبة تتجاوز 90% منذ عام 1980.
بالطبع فإننا نواجه مشاكل بيئية كبيرة. ولكن المشاكل الأكبر أصبحت جزءاً من الماضي، واستطعنا أن نتعامل معها بفضل المزيد من الثروة والمعرفة والتكنولوجيا، ولا أرى سبباً يمنعنا من أن نكون قادرين على الاستمرار في ذلك. وعليه، فهل رأينا أخيراً منافع الليبرالية والرأسمالية؟ حسناًَ، تقريباًَ. لقد كان المؤرخ الماركسي ايريك هوبسباوم أحد الاشتراكيين الذين اضطروا إلى النظر إلى رؤاهم وهي تتهاوى. ولقد أقر بامتعاض بأن الرأسمالية قد أثبتت قوتها في كل شيء تقريباً. ولكن لديه اعتراض أخير: هل تجعلنا الرأسمالية سعداء؟ ماذا بالنسبة لنوعية الحياة؟ يشكل هذا الأمر المعقل الأخير ضد الأسواق الحرة.
لقد قام الاقتصادي البريطاني ريتشارد لايارد بنشر هذا الجدل الذي يأخذ المنحى التالي:
لن يساهم النمو الاقتصادي في جلب المزيد من السعادة ذلك لاننا مهتمون على الاغلب بوضعنا النسبي (أي مستوى دخلنا عندما نقارنه بالآخرين). إن حقيقة كون أحدهم يجني دخلاً أكبر—مما يجعله أكثر سعادةً—تجعل الآخرين أقل سعادة، الأمر الذي يضطرهم إلى العمل بجد أكبر للحفاظ على وضعهم الحالي النسبي. في النهاية فإننا جميعاً أكثر ثراءً، ولكننا لسنا أسعد من ذي قبل، حيث أننا لا نستطيع جميعاً أن نصبح أكثر ثراءً من الآخرين. وهذا يعني أن المستقبل الأفضل لن يؤدي إلى مستقبل أفضل.
نحن نعي أن هنالك نقلة دراماتيكية في رفاهية المواطنين المبلّغ عنها عند انتقال البلدان من دخل وطني مقداره 5000 دولار أمريكي لكل نسمة إلى 15 ألف دولار أمريكي سنوياً لكل نسمة. ولكن عندها تتوقف مستويات الرضا، الأمر الذي يستخلص منه لايارد بعدم وجوب اهتمام كبير بمسألة النمو في البلدان الغنية. وفي الواقع فإنه يريد إعادة هيكلة وقابلية تحرك أقل، والتقليل من العمل الشاق المرتبط بدفع ضرائب عالية وتوفير وقت أكبر لنا إلى الأمور التي تجعلنا أكثر سعادةً، أي العائلة والأصدقاء.
ولكن هل هذا هو الاستنتاج الصحيح؟ تخيل بأنك مسرور لأن لديك حفل ممتع تتطلع إليه في الأسبوع المقبل. وبعد الحفل، يقوم لايارد بإجراء مقابلة معك ويكتشف أنك لست أكثر سروراً بعد الحفل مما كنت عليه قبله. وحينها فإنه سيقوم على الأرجح بتشجيعك على التوقف عن تخصيص الكثير من الوقت والجهد للحفلات، لأنه من الواضح أن ذلك لا يزيد من سعادتك.
يعد هذا استنتاجاً غريباً؛ فإنك لن تمتلك هذا الإحساس بالسعادة والابتهاج إذا لم يكن لديك أموراً جميلة تتطلع قدماً للقيام بها، مثل مآدب الغذاء الممتعة والحفلات الجميلة. أليس من الممكن أن ينطبق الأمر ذاته على الثروة؟ فإن حقيقة أن النمو لا يزيد من السعادة كثيراً لا تعني أنها عقيمة، فقد تكون الحقيقة استمرار النمو الأمر الذي يمكننا من الاستمرار في الإيمان في مستقبل أفضل، ومواصلة المرور بتلك المستويات العالية من السعادة.
نعرف من الأبحاث والاستبيانات أن الأمل يرتبط بالسعادة بصورة وثيقة. فإذا ما أردنا مقابلة رجل أوروبي سعيد، فلنجرب الشخص الذي يفكر في أن وضعه الشخصي سيتحسن في السنوات الخمس القادمة. ونرى الأمر ذاته حالياً لدى مقارنتنا بين الأمريكيين والأوروبيين. ووفقاً لاستطلاعات هاريس للرأي، فإن هنالك 65% في الولايات المتحدة مقابل 44% فقط في الاتحاد الأوروبي يعتقدون أن أوضاعهم ستتحسن في السنوات الخمس القادمة. وبناء على ذلك، فإن 58% من الأمريكيين راضون جداً عن حياتهم، مقارنةً بـ31% فقط من الأوروبيين.
تعاني مجتمعات كاملة في البلدان الفقيرة والموجهة بطريقة سيئة من اليأس. حيث هنالك القليل من الفرص وانعدام الأمل في أن يكون الغد أفضل من اليوم. ولكن الأمل في المستقبل يزداد عندما تبدأ البلدان الفقيرة بالنمو الاقتصادي، وعندما تصبح الأسواق منفتحة وتزداد المداخيل. يمكن أن يساعد ذلك في توضيح سبب وصول السعادة إلى مستويات عالية في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية. وعندما يتسارع نمو الاقتصاديات، يبدأ الناس بالاعتقاد بأن أطفالهم سيتمتعون بحياة أفضل من تلك التي كانت لهم.
يمكن أن يكون رفع الضرائب للتثبيط عن العمل والحد من النمو الاقتصادي طريقةً لإيقاف ذلك التقدم. وتبين كافة الدراسات تقريباً أن فقدان الدخل والفرصة يحد من السعادة.
في الواقع، لم تتوقف السعادة عن الازدياد. فوفقاً لـ قاعدة بيانات السعادة العالمية والتي يديرها الباحث الهولندي البارز رووت فينهوفين، فقد ازداد الرضا في معظم البلدان الغربية التي تتوفر لدينا دراسات عنها منذ 1975. هنالك عوائد تقل أكثر فأكثر، ولكن حتى وفقاً لمقياس المعيشة لدينا، فإن الناس يزدادون سعادة كلما ازداد غنى المجتمعات. والأماكن الأكثر سعادة هي أكثرها فردانيةً، أي أمريكا الشمالية وشمال أوروبا وأستراليا.
من الأسباب الأخرى لتلك السعادة هي أن المجتمع الليبرالي والموجه نحو السوق يتيح للناس حرية الاختيار. وفي حال اعتدنا عليها فإننا سنصبح أفضل بصورة مطردة في اختيار الحياة والعمل بالطريقة التي نرغبها. وإذا كنت تعتقد أنك لا تصبح أكثر سعادة عن طريق العمل الجاد وقابلية التحرك، فقم بإهمال هذه النقطة. يبين أحد الاستقصاءات أن 48% من الأمريكيين قاموا بتقليص عدد ساعات العمل في السنوات الخمس الأخيرة ورفضوا الترقية وحدوا من توقعاتهم المادية أو انتقلوا إلى أماكن أكثر هدوءاً. أتريد وجبة سريعة أم عادية؟ في المجتمع الليبرالي، أنت من يقرر.
وهذه هي الحقيقة، طالما أننا أحرار في اتخاذ قراراتنا. ولكن أولئك الذين يستخدمون السعادة لوضع أجندة معادية للسوق سينكرون علينا تلك الحرية. فهم يريدون أن يملون علينا كيفية عيشنا وبالتالي فإنهم سيعملون على الحد من قدرتنا على اتخاذ القرارات في المستقبل.
وبالرغم من انتقاد لايارد الموجه إلى الفردانية والمادية فإنه يقر “بأننا في الغرب أكثر سعادة على الأرجح مما هو الحال في أي مجتمع سابق.” حسناً، في تلك الحالة، فالرجاء الرجاء ألا تقوضوا ذلك المجتمع.
إننا أغنى وأكثر ازدهاراً وسعادة مما كنا عليه أبداً. فنحن نعيش حياة أطول وأكثر أمناً وأكثر حرية من قبل. وقد تمكنا من نقل معرفة وتكنولوجيا وثروة الأجيال السابقة لكل جيل لاحق، وأن نضيف ما لدينا. فقد قللنا من الفقر وصنعنا ثروة أكبر وزدنا من متوسط العمر المتوقع في السنوات الخمسين الماضية بصورة أكبر مما فعلنا في الخمسة آلاف سنة الماضية.
أنا لا أقول أن الكأس نصف ممتلئة بدلاً من كونها نصف فارغة. ولكن ما أقوله إنها قد كانت فارغة. قبل مائتي عام فقط كانت العبودية والإقطاعية والاستبداد تحكم العالم. وبمقاييس أيامنا هذه فقد كانت أغنى البلدان شديدة الفقر. وكانت الفرصة في البقاء على قيد الحياة بعد عامك الأول أقل من الفرصة في البقاء على قيد الحياة إلى سن التقاعد اليوم. على الأقل فإن الكأس اليوم نصف ممتلئة، وتزداد امتلاء في الوقت الذي نتحدث فيه الآن. وإذا ما كانت أمامي الآن، فإنني سأقترح نخباً لإبداع ومثابرة الجنس البشري. بمعنى آخر: لا تقلق—كن سعيداً!
ولكن بالرغم من حقيقة أننا سعداء، يبدو أننا لا نلاحظ ذلك ونعاني القلق.
عندما نسأل الناس حول ما جرى في العالم، فإن الغالبية تقول أن الأمور تزداد سوءاً، فالفقر في ازدياد والطبيعة عرضة للدمار. قمت الأسبوع الماضي بنشر استقصاء يبين أن السويديين يعتقدون أن كافة مؤشرات معايير المعيشة والبيئة التي تتحسن بصورة متسارعة هي في الواقع في تراجع. فعند قراءتنا للصحف نرى المشاكل والفقر والكوارث. والحركات الدولية القوية تعارض العولمة والرأسمالية لأنها تعتقد أنهما تزيدان من التعاسة والجوع. ويضع الباحثون كتباً مفادها أننا جميعاً حزينون ومحبطون.
إذا كان هنالك شيء لم يتحسن في العالم فهو نظرتنا له. لماذا؟ إذا كانت مغامرة الجنس البشري نصراً، لماذا لا ندرك ذلك؟ لماذا لدينا نزعة للتفكير، مثل ماركس ولينين وهيلبرونر وهوبسباوم بأن التقدم الذي نشهده سيؤدي إلى شكل آخر من المشكلة؟ سأحاول أن أقدم بعض التفسيرات لهذه الحقيقة المذهلة والمشوشة.
مشكلة النزعة
أول وأسوأ مجرم في هذه القصة هو النشوء. لقد حول الانتقاء الطبيعي تركيز البشرية نحو المشاكل. من السهل إدراك أن البشر الأقدمين الذين جلسوا بعد تناول وجبة شهية واسترخوا واستمتعوا بحياتهم كانوا قد لا يجدون طعاماً كافياً يقيم أودهم في اليوم التالي، وأنهم كانوا يتعرضون لخطر أن يتم التهامهم من قبل أسد ما. وحيث أن أولئك الذين كانوا مجهدين دوماً ويبحثون عن المشاكل، والذين مارسوا الصيد وجمع طعام أكثر تحسباً لأي طارئ، والذين نظروا بتشكك إلى الأفق هم أولئك الذين وجدوا المأوى قبل العاصفة أو قبل هجوم الأسد. وبالتالي فقد تمكنوا من النجاة، ونقلوا إلينا جيناتهم المشبعة بالقلق والتوتر.
من الضروري أن نكون مدركين للمشاكل لأن المشاكل تعني أن علينا التحرك. فإذا كان منزلي يحترق، فإنني أحتاج لمعرفة ذلك الآن. وحقيقة أن منزلي جميل ليست على ذلك القدر من الأهمية. إذا بلغني معلومات أن هنالك شيء في الطعام قد يسبب مقتل أطفالي، فإنني أحتاج إلى تلك المعلومات الآن. وحقيقة أن هنالك أطباق لذيذة وجديدة في السوق ليست على ذلك القدر من الأهمية.
الجنس البشري هو نوع يقوم بحل المشاكل. فأولئك الذين تمكنوا من حل المشاكل ظلوا على قيد الحياة. وهذا يعني أن علينا الاستمرار في البحث عنهم. ليس علينا أن نتوقف ونستمتع بالنصر لحظة حلنا لمشكلة قديمة ولكن علينا البحث عن المشكلة السيئة القادمة والبدء في العمل على حلها. فليس لنا أن نسهر الليل متأملين في حقيقة أننا تمكنا من معالجة شلل الأطفال والسل، ولكننا نسهر الليل مفكرين في كيفية معالجة الإيدز، ونقلق بشأن ما قد تؤدي إليه انفلونزا الطيور في المستقبل. فنحن لا نفكر كم كان الأمر رائعاً أننا استأصلنا الملاريا من البلدان المتطورة، ولكن نفكر بهول أعداد الناس الذين يموتون من الملاريا يومياً في البلدان النامية.
أشار الكاتب الأمريكي جريغ إيستربروك إلى حقيقة أن المشاكل القديمة، والتي كانت رهيبة في زمانها، تبدو أقل تهديداً بالنظر إلى الوراء، لأننا نعرف أننا قد تمكنا من حلها. ولكن مشاكل العصر غامضة ولم يتم حلها ولذلك فإنها تظل حاضرة في أذهاننا.
قبل بضعة أسابيع، كان الخبر الأول في الأخبار الرئيسية على التلفاز يبين أن هنالك “خطراً بيئياً متنامياً” في أوروبا. وكانت المشكلة في السفن التي أصبحت أكبر باعث لثاني أوكسيد الكبريت في أوروبا.
من جانب آخر، إذا استمعت بانتباه إلى التقرير، فإنك ستدرك أن ذلك لم يحدث بسبب زيادة الانبعاثات من السفن—وهو أمر يحدث ولكن بصورة معتدلة—ولكن بسبب الانخفاض المتزايد للانبعاث من مصادر أخرى. تم تقليص انبعاثات ثاني أوكسيد الكبريت في أوروبا (بما في ذلك السفن) بنسبة تصل إلى 60% في خمس عشرة سنة. وبالتالي فإن الخبر الحقيقي لم يكن حول التحسن الدراماتيكي في الشروط البيئية ولكن في كون السفن أصبحت من الأمور التي ينبغي أن نعالجها، وبالتالي فقد شكلت خبراً.
أنا متفائل. وأعتقد أن هذا التحيز الإدراكي أمرٌ جيدٌ. وهذا ما يبقينا يقظين، وبالتالي نتمكن من حل المشاكل وتحسين العالم. ولكن علينا أن نفهم أن ذلك يعني أن عقولنا منشغلة دائماً بالمشاكل. ولذلك نعتقد أن العالم أسوأ مما هو عليه.
يخلق التقدم نوعاً من التحدي الجديد دائماً، ويفكر العاملون على حل المشاكل بشأن التحديات أكثر من التفكير في التقدم. نعيش حالياً أعماراً أطول من ذي قبل. أليس هذا أمراً رائعاً؟ لا، لأن ذلك يؤدي إلى تكاليف أعلى للتقاعد والرعاية الصحية. أخيراً، ها هي البلدان الفقيرة تحقق تقدماً اقتصادياً، أليس ذلك مدهشاً؟ لا، لأننا نخشى الآن من استيلاء السمكريين البولنديين والمبرمجين الهنود على أعمالنا. هنالك دائماً أمر نخشاه. في السبعينيات من القرن العشرين، عندما كانت درجات الحرارة في انخفاض، كنا قلقين بشأن عصر جليدي جديد. وها هي الآن ترتفع وها نحن نخشى من الانحباس الحراري العالمي. اعتدنا على أن نقلق بشأن كل شخص مصاب بالإحباط، والآن فإن العقاقير المضادة للإحباط قد قللت من الانتحار في البلدان الغنية بحوالي الخمس. وعليه فإننا نخشى الآن بشأن الأعداد الكبيرة من الناس الذين يتناولونها.
التحيز الإعلامي
تقوم وسائل الإعلام باستغلال الاهتمام في المشاكل والكوارث. فنحن نريد أن نسمع آخر الأخبار وأرهبها، لأن عقولنا العائدة إلى العصر الحجري تعتقد أن هذه معلومات هامة يجب علينا التصرف إزائها. بحلول الألفية، قام استقصاء أعدته جامعة نيويورك بإعداد قائمة لـ”أهم الضربات الصحافية”. هل تتوقع أخباراً صحفية حول اللقاحات الجديدة، أو الاختراعات الرائعة، أو زيادة معدلات المعيشة، أو انتشار الديمقراطية من نسبة 0% قبل 100 عام إلى نسبة 60% اليوم؟ ستصاب بخيبة أمل. كانت كافة الضربات حول الحروب والكوارث الطبيعية والمواد الكيماوية الخطرة والسيارات غير الآمنة.
من السهل تصوير المخاطر والحوادث الرهيبة والكوارث ويُعدّ إنتاجها رخيصاً. وذلك فإن الجريمة من المواضيع الشعبية في الأخبار. وتبين الدراسات الأمريكية أنه كلما ازداد الوقت الذي يمضيه الناس في مشاهدة أخبار التلفاز، فإنهم يزدادون مبالغة في مدى الجريمة في مدنهم. أظهرت دراسة مشوقة حول بالتيمور أن 84% من الناس يخافون من أن يقوم المجرمون بإلحاق الأذى بهم أو بمن يحبون، ولكن في ذات الوقت فإن كلاً منهم تقريباً، 92%، قالوا إنهم يشعرون بالأمان في أحيائهم التي يعرفونها بشكل مباشر. ويعتقد جميعهم أن هنالك الكثير من الجريمة في بالتيمور، ولكنهم يعتقدون جميعاً أنها تحدث في مكان آخر في المدينة، في أماكن يسمعون عنها في وسائل الإعلام فقط.
تبرز هذه النتائج مرة تلو الأخرى في الاستقصاءات. يعتقد الناس أنه يتم تدمير البيئة وأن الاقتصاد ينهار ويعتقد الألمان أن إعادة توحيد ألمانيا أمراً سيئاً لمعظم الناس. ولكنهم يعتقدون أيضاً أن بيئتهم المحلية جيدة وأن مواردهم المالية الشخصية في تحسن، وأن إعادة توحيد ألمانيا كان أمراً جيداً بالنسبة لوضعهم الشخصي. تحدث المشاكل والكوارث دائماً في مكان آخر، وإذا كنا جميعاً نعتقد ذلك، فإننا مخطئين جميعاً.
مشكلة العالم المعولَم أن هنالك دائماً فيضان في مكان آخر وأن هنالك دائماً سلسلة من جرائم القتل في مكان آخر، وأن هنالك دائماً جوع في مكان آخر. ولذلك فإن هنالك تزويد مستمر للأشياء المرعبة التي تملأ شاشات التلفاز. إذا كنت لا تعرف الخلفية أو دراسة الإحصائيات، فإن الاستنتاج بأن العالم يزداد سوءاً يعد أمراً مغرياً.
بطريقة ما، أعتقد أن الحركة المناهضة للعولمة هي نتاج لعولمة المعلومات هذه. في الوقت ذاته الذي تم فيه الحد من الفقر المدقع بمعدل النصف في البلدان النامية، يعتقد الكثير من الناس أن الفقر في ازدياد، لأنهم يشاهدون الفقر للمرة الأولى على شاشات التلفاز. ونهتم لأمره بصورة جزئية الآن لأن الفقراء الفيتناميين والصينيين يصنعون القمصان التي نرتديها. وإذا كنتم لا تفهمون هذا السياق، فإنكم ستعتقدون أن سبب فقرهم هو أنهم يصنعون القمصان لنا. وبالرغم—كما قلت—من حقيقة أن الناس الذين يعملون لدى شركة أمريكية متعددة الجنسيات في بلد منخفض الدخل يحصلون على دخل يزيد بثمان مرات عن متوسط الدخل في ذلك البلد.
الاستثناءات أكثر تشويقاً من القواعد
يعزز تحيّزٌ تصوريٌّ آخر على هذا التركيز على المشاكل، في أذهاننا وفي وسائل الإعلام. كل ما هو جديد يعد أخباراً. ونحن نهتم بالاستثناءات. ونحن لا نرى الأمور التي تحيط بنا كل يوم. نرى الأشياء الجديدة، الغريبة وغير المتوقعة. وهذا طبيعي. ليس علينا أن نفسر ونفهم الأمور العادية واليومية، ولكن علينا أن نفهم الاستثناءات. لا نخبر عائلتنا كيف عدنا من أعمالنا اليوم إلا إذا حدث أمر غريب حقاً في طريق العودة.
هذا يعني أن لدينا تحيز معرفي دائماً يشوه نظرتنا إلى العالم. نلاحظ الأمور الخارجة عن المألوف. وفي عالم ينزع إلى التحسن، نميل إلى التشديد على المشاكل المتبقية بصورة أكبر. لا نقرأ في الصحف أن القطار قد وصل بسلام وفي موعده المحدد. ولكننا نقرأ عنه عندما يكون هنالك تحطم للقطار. لا نسمع عن شخص عاد إلى منزله من الحانة، ولكن نسمع عنه إذا تمت مهاجمته وضربه.
لقد شكل هبوط طائرة بسلام عام 1903 خبراً، عندما نجح الأخوان رايت لأول مرة. ولكن منذ كانون الأول 1903، فقد شكل تحطم الطائرات الأخبار. ولذلك، فإننا نبالغ في تكرُّر حوادث التحطم. ومنذ الحرب العالمية الثانية لم نرَ عدداً أقل من حوادث تحطم الطائرات مما فعلنا في عام 2004، بالرغم من الزيادة الهائلة في أعداد الرحلات. كان عدد حوادث التحطم في السبيعينيات أكبر بأربع مرات مما هو عليه حالياً، بالرغم من حقيقة أن لدينا أعداد رحلات تزيد بأربع مرات عما كان عليه الحال آنذاك. ولكن لا تتوقعوا أن تسمعوا بذلك في وسائل الإعلام. ولكن توقعوا بدلاً من ذلك تقارير ضخمة كلما وقع حادث تحطم. إذا عض كلب شخصاً ما لا يشكل ذلك خبراً، ولكن أن يعض رجل كلباً فذلك هو الخبر!
لاحظ المفكر الفرنسي الليبرالي توكوفيل هذه الآلية العقلية في بداية القرن التاسع عشر عندما لاحظ أن الناس بدأوا بنقاش مشكلة الفقر خلال الثورة الصناعية. اعتقد في البداية أن ذلك أمر غريب، حيث أن نمو النظام التصنيعي يعني أجوراً أعلى وبضائع أرخص. كان الفقر في تناقص، ولكن في الوقت ذاته فقد بدا كمشكلة أسوأ من ذي قبل.
لقد استنتج أن ذلك لا يحدث بالرغم من ولكن لأنه تم الحد من الفقر. وفي عصور سابقة، كان الفقر يعتبر أمراً لا بد منه، فهو أمر كان منتشراً في كل مكان، وشيء علينا أن نتعلم كيف نتعايش معه. وقد قامت الديانات الناشئة بشرح فضائل الفقر. ولكن في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عمل التصنيع على إيجاد ثروة غير مسبوقة وتم انتشال الملايين من الفقر. وكانت النتيجة أنه تم النظر إلى الفقر المتبقي بصورة أسوأ من ذي قبل. والآن حيث بإمكان الناس أن يروا أن الفقراء ليسوا إلى جانبنا دائماً، فقد بدأوا بالتساؤل لماذا علينا تحمله. لم يكن ضرورياً، ولكن يمكن له—وينبغي—أن يتغير. لم يعد يُنظَر إلى الفقر كأمر مسلم به، ولكنه الآن مشكلة اجتماعية.
وقد ولّد ذلك انطباعاً لفترة طويلة بأن الثورة الصناعية أنتجت مشاكل اجتماعية أكبر. حسناً، لقد فعلت ذلك بطريقة ما: من خلال جعل الفقر استثناءً فقد أوجدت الفقر كمشكلة في عقول الناس.
والآن، لنطبق اكتشاف توكوفيل على حقيقة أنه يتم القضاء على الفقر بصورة متسارعة في البلدان النامية، وحقيقة أن الناس يخصصون اهتماماً كبيراً لمشكلة الفقر في البلدان النامية.
هل هذا أمرٌ جيد؟
بالطبع، فإن العديد من الجماعات والمؤسسات والمصالح الخاصة من كل من اليمين واليسار تستخدم تحيزنا العقلي لتعزيز برامجها. فإذا تمكنوا من إبراز وجود مشكلة أو كارثة محتملة في مكان ما، فإن بإمكانهم اجتذاب اهتمامنا وحثنا على التحرك الآن.
هل سيتحسن حال المدارس بوجود بعض المال الإضافي؟ من يكترث لذلك؟ هل سيخفق أطفالنا ويصبحون مجرمين دون تخصيص مال إضافي للمدارس؟ حسناً، فلنتحرك الآن! هل أن الضرائب الجديدة لتمويل هذه القضية ستؤدي إلى خفض الاستثمار وتهميش دافعي الضرائب؟ من يهتم لذلك؟ هل ستؤدي إلى تدمير الاقتصاد وطرد الناس من منازلها؟ فلنقم بإلغائها الآن!
لكافة الأطراف مصلحة في تهويل مشاكل عالمنا. وينطبق الأمر ذاته على العلماء والباحثين والسلطات العامة. فإذا أرادوا الحصول على المزيد من المال لأبحاثهم، فعليهم أن يبرزوا المخاطر الكبيرة في المجال الذي يقومون بدراسته، وأن العزوف عن دراسة المواضيع التي يعملون فيها تحديداً بصورة وثيقة يعد أمراً بالغ الخطورة.
كما ينطبق الأمر ذاته على المؤسسات العالمية. ففي أيلول 2005، قام برنامج الأمم المتحدة للتنمية بنشر تقرير التنمية البشرية. وتحدث البيان الصحفي حول المناطق التي تعاني من مشاكل متزايدة، وحول البلدان الثماني عشرة المتأخرة. ويلخص التقرير الحالة العالمية بتعابير مثل “بطاقة الإبلاغ الشاملة حول التقدم تشير إلى قراءة محبطة” و”يتجه العالم نحو كارثة تنموية بشرية.”
ولكن كيف نمت البلدان الفقيرة في المجمل؟ بصورة مخبَّئة في مكان آخر من التقرير، وبصياغة أقل دراماتيكية، يخلص برنامج الأمم المتحدة للتنمية إلى:
“بالرجوع إلى العقد المنصرم فقد تواصل التوجه طويل الأمد نحو التقدم في التنمية البشرية. كمعدل متوسط، فإنه من الممكن اليوم توقع أن يكون الناس الذين يولدون في أحد البلدان النامية أكثر صحة وغنى وأفضل تعليماً من جيل آبائهم.”
ويمضي التقرير في أن البلدان الفقيرة شهدت فقراً أقل في الخمس عشر سنة الأخيرة، وانخفاضاً في معدل وفيات الأطفال الرضع، وتحسناً في الحصول على مياه نظيفة، وأمية أقل، وعدد صراعات أقل، وديمقراطيات أكثر. أهذا ما يسمونه “كارثة تنموية بشرية”!
يمكنهم فعل ذلك لأن ذلك كارثة مقارنة بالآمال في تقدم أكثر سرعة في أماكن أخرى. ولكن إذا لم تكن قارئاً يقظاً، فإن ما ستفهمه هو أن كل شيء يزداد سوءاً، وبالطبع فإن هذا هو الانطباع الذي يريد برنامج الأمم المتحدة للتنمية توليده. لأنه يعتقد أن توقع كارثة عالمية هو الطريقة الوحيدة التي ستجبرنا على التحرك.
أعتقد أن العكس هو الصحيح. إذا استمرّينا في صرف المزيد من الوقت والموارد لمعالجة المشاكل العالمية وجاء برنامج الأمم المتحدة للتنمية ليخبرنا أنه لم يكن له أي تأثير يذكر، فإذن لماذا علينا أن نستمر؟
ولكن ليست هذه هي النقطة التي أريد الوقوف عليها، فالهدف هنا هو فهم نوع التهديدات والتحذيرات التي تشارك فيها الهيئات ذات المصالح الخاصة، وكيف يشوّه ذلك نظرتنا إلى العالم. ويكشف بعضها عن ذلك علانية، ففي مقابلة في مجلة ديسكوفر في تشرين الأول 1989، أوضح مختص البيئة العالم والخبير في التغير المناخي، الذي يتم الاستشهاد به كثيراً، البروفيسور ستيفن شنايدر:
“نحتاج [من أجل إنقاذ الكوكب] إلى الحصول على دعم واسع، للسيطرة على مخيلة الناس. وهذا بالطبع يعني الحصول على كم هائل من التغطية الإعلامية. ولذلك فإن علينا أن نقدم سيناريوهات مرعبة، والخروج ببيانات مبسطة ودراماتيكية وذكر القليل من أي شكوك قد تراودنا… على كل منا أن يقرر ما هو الميزان الصحيح بين أن تكون فعالاً وأن تكون نزيهاً.”
إليكم تجربة فكرية لتسليط الضوء على هذه العملية. تخيلوا أن استنتاجي في هذه المحاضرة هو أن هذا التحيز العقلي يشكل صعوبة إلى حد ما، ولكن بإمكاننا التعايش معه. هل تعتقدون أن محاضرتي هذه ستحظى بمزيد أو قليل من الاهتمام إذا كان الاستنتاج الذي توصلت إليه رهيباً، وسيودي بنا إلى كارثة؟
التدمير الخلاق يبدو هداماً
في حال لم يكن ذلك كافياً، فإن التحيز المعرفي إزاء المشاكل والاستثناءات—وفي حال كان الإعلام والجماعات المهتمة تستغله إلى أبعد الحدود—يشكل مشكلة أخرى: فنحن نركز على المدى القصير وعلى ما هو شخصي بدلاً من التركيز على المدى البعيد وما هو عام. هنالك أمور نراها وأخرى لا نراها، إذا استخدمنا عبارة الاقتصادي الفرنسي فريدريك باستيا من القرن التاسع عشر.
دعوني أبسط هذه المسألة بالرجوع إلى فيلم وثائقي أمريكي قمت بمناقشته مؤخراً في مناظرة تلفزيونية. تحدث الفيلم، الذي أنتجته شركة الإذاعة العامة، حول حقيقة قيام وول مارت بشراء معظم بضائعها من الصين. وقد تم تصوير ذلك ككارثة بالنسبة للولايات المتحدة، وأجري خلال الفيلم مقابلات لمدة ساعة تقريباً مع عمال وأصحاب مصانع فقدوا وظائفهم وأعمالهم بسبب المستوردات الصينية الرخيصة. ويشكل هذا نصراً (1-0) للمناهضين للعولمة.
من الصحيح أن عامل المصنع الأمريكي قد يفقد عمله بسبب ذلك، ولكن هنالك آثار أخرى لم يبرزها الفيلم. فالعامل الصيني يحصل على العمل، بالطبع، وفي حال كان أداؤه جيداً فإنه سينفق دخله الجديد بطريقة ما، الأمر الذي يعني المزيد من الوظائف لشركات التصدير و/أو الشركات الصينية. سيحصل المستهلكون الأمريكيون على أسعار أقل، وعندما يفعلون ذلك فإن بإمكانهم إنفاق القوة الشرائية الإضافية في بضائع وخدمات جديدة، وبالتالي يمكن للأمريكي العاطل عن العمل أن يحصل على وظيفة جديدة في قطاع جديد. وهكذا يستفيد كل من العامل الصيني، وشركات التصدير، والمستهلكون، والقطاعات الجديدة: أي أربع نتائج جيدة، وبمعنى آخر نصر (4-1) لأنصار العولمة والتجارة الحرة.
ولكننا ننزع إلى عدم رؤية هذه الآثار، لأنها شخصية وغير مباشرة. فنحن نرى إغلاق مصنع وعمال يفقدون أعمالهم، وهذه حقيقة واضحة، دماً ولحماً، ويمكن أن تكون ذات علاقة بنا. ولكن حصول عمال آخرين على وظائف جديدة وتحسن القوة الشرائية وإيجاد قطاعات جديدة هو أمر أكثر تجريداً ويحدث لاحقاً وذو تأثيرات واسعة الانتشار، وليس من السهل تصويره كخبر أو ربطه بحقيقة أن لدينا تجارة أكثر حرية.
تعمل الرأسمالية وفقاً لمبدأ التدمير الخلاق. فنحن نوجد بضائع وخدمات أفضل وطرقاً جديدة للإنتاج والتجارة. ولكن من أجل أن نكون قادرين على القيام بأمور جديدة بطرق جديدة، علينا أن نتوقف عن القيام بالأمور القديمة بالطرق القديمة. تكمن المشكلة في أننا ننزع إلى ملاحظة والإبلاغ عن الجانب الهدام وليس الجانب الخلاق لذلك. وقد تحدث الأمريكيون حول المليون وظيفة التي فقدوها في الصناعة منذ عام 1970 أكثر مما تحدثوا حول الستين مليون وظيفة ذات الأجر الأفضل التي حصلوا عليها في قطاعات أخرى في ذات الوقت.
تمثل هذه العقلية سبباً آخر لكون العالم يبدو أسوأ مما هو عليه، ولكون الرأسمالية تجد أعداء لها دائماً. فكلما أبدعتْ وعملتْ الرأسمالية على التحسين، كلما شهدنا المزيد من التقويض والدمار الذي تقوم به.
قام مناهض سويدي للعولمة قبل عدة سنوات بتوضيح أنه دخل في نقاش مع بعض أنصار الرأسمالية “الذين أشاروا إلى الحقائق بصورة مستمرة،” ولكن المناهضين للرأسمالية كانوا أكثر نجاحاً لأنهم “استخدموا أمثلة من الواقع.” الحقائق في مواجهة الأمثلة… الإحصائيات المتجمعة والحقائق المجردة في مواجهة اللحم والدم. ولكنني لست على يقين من سينتصر في مناظرة كهذه. فنحن البشر نفضل القصص والأمثلة التي نرتبط بها. فإذا سمع بعض المستمعين أن عدد الذين يعيشون في فقر مدقع قد أصبح أقل بـ400 مليون شخص مما كان عليه الحال في 1981، ولكن سمع قصة مثيرة حول شخص معين أصابه الفقر خلال هذه الفترة، فإنه ليس من المؤكد أنهم سيعتقدون أنه قد تم الحد من الفقر. وبسبب كافة الآليات والعقليات التي ناقشتها، فإننا لا نسمع بالأمر الأول بمقدار ما نسمع عن الأمر الثاني.
العلاج
بدراسة هذا التحيز العقلي والفكري، فإنني وجدت أن الليبرالية والأسواق الحرة تمكنت من الاستمرار في البقاء إلى الحد الذي هي عليه الآن. ويتوجب عليها أن تقدم فوائد أكبر مما نعتقد للتغلب على هذه المعارضة غير الواعية. ولكن من المؤكد أن هنالك عائق يجعل من التحرير الاقتصادي أمراً أكثر صعوبة. ما الذي يمكننا أن نفعله حيال ذلك؟ كيف يمكننا أن نتعلم العيش في عالم، وبعقلية، يعملان على تضخيم المشاكل والكوارث والمخاطر؟ أعتقد أن نصيرنا الأعظم هو المعرفة. يمكن لمعرفة تحيزنا العقلي أن تعلمنا كيفية تجنب ذلك. مثلاً، كلما سمعنا عن استفحال إحدى المشاكل، علينا أن نحاول معرفة التوجهات بعيدة الأمد لمعرفة إذا كان ذلك حقيقة، أو أنه مجرد مبالغة في انحراف قصير الأمد. وكلما سمعنا عن خطر أو كارثة محتملة فإنه من السيء تصديقها بالكامل كما هو الحال إذا ما تجاهلناها بالكامل.
ولكننا نحتاج أيضاً لمعرفة الأمور التي تعمل على تحسين العالم. وهنا نرى فشل حتى المفكرين الجيدين. وقد أشرت إلى جريغ إيستربروك. لقد قام بوضع كتاب رائع أسماه مفارقة التقدم، حول الحقيقة الغريبة بأن الناس يشعرون بالسوء حيال الأمور التي تتحسن. وقد تعلمت الكثير منه، بالرغم من بعض التحفظات التي لدي. أحد التفسيرات لهذا اللغز هو إحساس “قلق الانهيار” واسع الانتشار، وهو عبارة عن شعور سيء ينتج عن الانغماس في حياة جيدة، وخوف من عدم استمرار ثروتنا، وأن هنالك نوع من التحطم الاقتصادي والانهيار البيئي أو أي كارثة أخرى قد تؤدي إلى إنهائها في أي وقت. ربما كان كل من ماركس ولينين وهيلبرونر وهوبسباوم يعانون من قلق الانهيار؟
ولكنني لا أوافق على أن هذا يشكل مشكلة نفسية. أعتقد أنك إذا كنت لا تفهم مصدر هذه الثروة فإن ذلك يشكل استنتاجاً منطقياً. ولسوء الحظ، فإنني لا أعتقد أن كتاب إيستربروك يساعد القارئ في فهم ذلك. فالأمر برمته يبدو وكأنه تَصادَفَ أن نكون محظوظين، أو أننا سرقنا الثروة من شخص آخر. وإذا كان الأمر كذلك، فليس من المعقول أن نفكر في أنها ستختفي في أي يوم!
ومن أجل استعادة الإيمان في التقدم والمستقبل، علينا أن نفهم ما الذي يخلق هذه الثروة. بالتأكيد إنها ليست الصدفة، ولكنها الرأسمالية. فالحقيقة هي أن الناس الأحرار هم الذين يبدعون، وأننا نعمل على حل المشاكل وأنه كلما زاد عدد الناس الأحياء الذين يتمتعون بحرية التفكير والابتكار، كلما زادت الفرصة في أن يطور بعضهم معرفةً وتكنولوجيا وثروةً مفيدة، وإذا ما كانت الحوافز ملائمة—إذا كان الناس يحصلون على مكافآت على عملهم—فإنهم سيستخدمونها ويطبقونها من أجل تغيير عالمهم نحو الأفضل. وفي عالم يعيش فيه مليارات من الناس الذين لديهم حرية الإبداع، فإن الفرص في عالم أفضل تكون أكبر مما كانت عليه أبداً. ولذلك، علينا أن نؤمن بالمستقبل. ليس بصورة ساذجة وليس كما يعتقد الحتميون بأن الأمور قد تسوء. نحن نعي أن الصراعات والإرهاب والأمراض والكوارث الطبيعية قد تسبب ويمكن لها أن تؤدي إلى دمار هائل. ولكن اعترافاًَ منا بأن الجنس البشري يتمتع بالذكاء، وأن التدفق الحر للمعلومات والأسواق يجعلنا أكثر ذكاء، وأننا نعالج المشاكل بصورة أفضل إذا كنا أحراراً وأغنياء، وأن على كل جيل أن يبني على إنجازات من سبقه، وبالتالي فإن لدينا الكثير لما يمكن أن نبني عليه. ولذلك فإن التقدم الأعظم ما زال في الطريق.
تعدّ الفرص بعيدة الأمد مذهلة. واليوم فإن لدينا المزيد من الناس الذين يعيشون حياة أطول في مجتمعات أكثر حرية من ذي قبل، ولدينا علماء على قيد الحياة أكثر من الذين عاشوا في العصور السابقة مجتمعة، ويحصلون جميعهم على تعليم يعادل تقريباً طول الحياة برمتها في العصور السابقة. ستؤدي التكنولوجيا الحيوية، والتكنولوجيا الدقيقة، وعلم الإنسان الآلي إلى تحسينات هائلة. سنكون أكثر غنى وسنعيش أطول ونتمتع بصحة أفضل. والقارات التي حكم عليها بالتعاسة ستعيش قريباً الحياة التي نعيشها اليوم.
نعلم أن عالمنا سيتحسن في الطرق والتكنولوجيا التي لا يمكن التنبؤ بها بالنسبة لنا كما هو حال الحاسوب أو الطائرة بالنسبة لأسلافنا. لكن في نفس الوقت تعني هذه الآليات الفكرية والعقلية أن الكثير من الناس سيتذمرون باستمرار ويقولون أن الأمور تسوء، وكل مرة نحل فيها مشكلة فإنهم سوف يبحثون عن أخرى جديدة.
لكن لا يتوجب علينا أن نكون هكذا. يمكننا أن نفترض بثقة أنه عندما نقرأ في الصحف عن تحطم طائرة أو عن كارثة فإنه على الرغم من المخاوف من تلك القصة المحددة فحقيقة أن هذا خبر تعني أن هذه هي الاستثناءات وأن العالم ما يزال آمناً تماماً. عندما نرى الآخرين يتذمرون ويركزون على المصاعب فإنه يمكننا أن نستنتج بثقة أنها تعني أن هذه هي الاستثناءات في هذا العالم وأن تركيزهم وجهودهم تعني أن بعض المشاكل في طريقها لأن تحل.
وبما أنني متفائل، أريد أن أختم بتلك الفكرة التي تبعث على الراحة. إذ يُعدّ بعض هذا النوع من الاستياء شرطاً مسبقاً للتطور.
من الجدير أن نعزو الكلمة الأخيرة إلى واحد من المفكرين الأكثر نفاذاً للبصيرة في جميع الأوقات وهو المؤرخ الليبرالي والسياسي في القرن التاسع عشر اللورد ماكوليه والذي حُكم على تفسيره الليبرالي للتاريخ باعتباره ساذجاً؛ (الفكرة البانغلوسية) القائلة بأن الأمور في تحسن مستمر ولكن التي شكلت في الواقع اعترافاً بأنه يمكن للأفراد أن يكونوا مبدعين إذا كانوا أحراراً.
عندما كتب ماكوليه قصته عن إنجلترا لم يستطع أن يصدق لماذا اعتقد الانجليز أن الماضي كان هو الأيام القديمة الجيدة، وحذر الأجيال اللاحقة—نحن—من ألا نصور زمانه تصويراً رومانسياً رغم أنه أفضل من الماضي حيث أنه لا وجود لمدينة فاضلة. وكتب هذا: “يبدو أن تأثير الدليل الذي تم تقديمه للقارئ من الصعب الشك فيه [أن المقاييس الحية تتحسن]. على الرغم من الدليل فإن الكثيرين سيصورون لأنفسهم إنجلترا ستيوارت على أنها دولة أكثر إرضاء من إنجلترا التي نعيشها. قد يبدو للوهلة الأولى أنه من الغريب بالنسبة للمجتمع وبينما يمضي قدماً بسرعة فائقة أنه ينبغي أن ينظر باستمرار إلى الوراء بندم شديد. لكن هاتين النزعتين غير ثابتتين كما قد تظهران، ويمكن أن يتم حلهما بسهولة في نفس المبدأ. تنشأ كلتاهما من نفاد صبرنا بالنسبة لواقع حالنا. وبينما يحثنا نفاد الصبر ذاك على تجاوز الأجيال السابقة، فإنه يقنعنا بالمبالغة في سعادتهم. يعد هذا بمعنى ما غير عقلاني، وكريه فينا، لأن نكون باستمرار ساخطين على الحالة التي تتحسن باستمرار. لكن في الحقيقة هناك تحسن مستمر بدقة بسبب وجود تذمر متواصل. إذا كنا راضين تماماً عن الحاضر ينبغي علينا أن نتوقف عن الاختراع والعمل والادخار من أجل المستقبل.”
محاضرة جون بونيثون السنوية الثانية والعشرون، مركز الدراسات المستقلة، سيدني، الثلاثاء، 11 تشرين الأول 2005.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 22 كانون الأول 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

لأول مرة منذ 37 سنة، لم أُعلِّمْ خلال فصل الخريف الماضي. لا، إنني لم أتقاعد. لقد مُنحتُ إجازة تقديراً لخدمتي لدورتين اثنتين كرئيس للدائرة في جامعة جورج ميسن. الإجازة مُستحقة بعد الرئاسة—وهي وظيفة شبيهة برعاية القطط.
خلال فصول الخريف، فإنني، كمُخطَّط مُتَّبعْ، أُدرِّسُ تلامذة السنة الأولى لدرجة الدكتوراة في موضوع الاقتصاد الجزئي. ومدفوعاً من محبتي للتعليم، فقد قررت أن لا أترك العمل كلياً، بل إعطاء بضع محاضرات حول مبادئ الاقتصاد الأساسية للقرّاء. ولنسمي هذه المجموعة من المحاضرات “علم الاقتصاد للمواطن”.
أول درس في النظرية الاقتصادية هي أننا نعيش في عالم شُحِّ الموارد. الشح هو الحالة التي تتجاوز فيها متطلبات الإنسان الوسائل لتوفيرها لمن يرغب فيها. الرغبات والمتطلبات للإنسان يُفترضُ أن لا تكون محدودة، أو على الأقل، فإنها في كثير من الأحيان، لا تكشف النقاب عن محدوديتها. الناس دائماً يرغبون في الحصول على المزيد من أي شيء، سواء كانت سيارات أكثر، أو أكلاً، أو حُباً أو سعادة، أو سِلماً أو عناية صحية، أو هواءً أنقى، أو عطاءً خيرياً أكبر. إن قدراتنا ومواردنا لتلبية جميع رغبات الإنسان هي محدودة بالفعل. هنالك فقط كميات محدودة من الأرض والحديد والعمال وسنوات العمر.
القلة (الندرة) تسبب عدة مشاكل اقتصادية: ماذا يجب أن يُنتَج، ومن الذي سيحصل على ما يُنتَج، وكيف السبيل للإنتاج، ومتى يجب أن يُنتَج؟ على سبيل المثال، كثير من الأمريكيين، والأجانب أيضاً، يحبون أن يكون لهم منزل للسكن أو للإجازات، على امتداد الألف ميل من سواحل كاليفورنيا وأوريغون وواشنطن. وترغب شركات النقل البحري في استخدام جزءٍ من هذا الساحل كموانئ، ووزارة الدفاع الأمريكية تود استخدامها كمنشآت عسكرية. بكل بساطة، لا يوجد على الساحل ما يكفي لتلبية الرغبات والاستخدامات المنافسة. هذا يعني أنه يوجد نزاع حول ملكية الشواطئ واستخداماتها. لو كانت رغبات الإنسان محدودة، ولو كانت الموارد اللازمة لتلبيتها غير محدودة، لما كانت هنالك مشكلة اقتصادية، ولما نشأ نزاع.
وكلما كان هنالك نزاع، وَجَبَ إيجاد الوسائل اللازمة لحله. هنالك عدة طرائق لحل النزاع. أولاً، هنالك آلية السوق. وفي المثل الذي أوردته حول استخدامات الأراضي، فإن من يدفع السعر الأعلى هو الذي سوف يملك الأرض، ويقرر كيفية استخداماتها. ثم هنالك مراسيم الحكومة، التي تفرض من له الحق في استخدام الأرض، ولأي هدف. العطايا قد تكون الوسيلة، والتي يقرر بموجبها المالك عشوائياً لمن يعطي أرضه. وأخيراً، العنف، وهو وسيلة لحل مسألة من له حق استغلال السواحل—دعوا الناس يتسلحون ويقتتلون لتقرير ذلك.
في هذا المنعطف، قد يقول البعض، من منطلق إيماني أخلاقي: “العنف ليس الوسيلة لحل النزاع بأي شكل من الأشكال!”، وقد يكون ذلك مقبولاً. بيد أن القرار حول من له حق استعمال معظم سطح الأرض كان قد تقرر من خلال العنف (الحروب). حقي في الدخل الذي أكسبه يتقرر جزئياً من خلال التهديد بالعنف، وأعني بذلك حكومتنا، التي، ومن خلال القوانين الضرائبية، تقرر بأن المزارعين، والقطاعات الاقتصادية، والفقراء، لهم حقوق في دخلي. وفي الحقيقة، فإن العنف هو من الفعالية في حل النزاعات، بحيث أن معظم الحكومات ترغب في الاستئثار باستخدامه حصراً.
ما هي أفضل الطرق لحل النزاعات الناشئة عن مسألة ماذا يجب أن يُنتج، كيف ومتى ينتج، ومن هو الذي سيحصل عليه؟ هل هي آلية السوق، القوانين الحكومية، العطايا، أم العنف؟
الجواب هو أن النظرية الاقتصادية لا تستطيع الإجابة على مسألة تقييمية. المسائل التقييمية هي التي تتعامل مع ما هو أفضل وما هو أسوأ. لا توجد نظرية تستطيع الإجابة على مسائل تتعلق بما هو أفضل وما هو أسوأ. حاول أن تسأل أستاذ الفيزياء: ما هي الحالة الأفضل أو الأسوأ: الغاز المجمد، الغاز السائل أو حالة البلازما؟ إنه، على الأغلب، سوف ينظر إليك وكأنك معتوه؛ إنه سؤال سخيف لا معنى له. ومن ناحية أخرى، إذا سألت أستاذ الفيزياء ما هي أرخص وسيلة لدقِّ مسمار في لوحة، فإنه ربما يجيب بأنه الحالة الصلبة. إنها الحالة ذاتها بالنسبة للنظرية الاقتصادية. ونعني بذلك، أنه لو سألت معظم الاقتصاديين أية وسيلة لحل الخلافات ينتج عنها الخير والرخاء الأعظم، فإنهم، على الغالب سوف يجيبون بأن تلك الوسيلة هي آلية السوق.
جوهر الموضوع هو أن النظرية الاقتصادية موضوعية وغير تقييمية، ولا تستطيع أن تعطي أحكاماً تقييمية. النظرية الاقتصادية تعالج ما كان، وما هو الآن، وماذا سوف يصبح، وعلى النقيض من ذلك، فإن المسائل المتعلقة بالسياسة الاقتصادية هي تقييمية وغير موضوعية، وتعطي إجابات تقييمية—أسئلة مثل: هل يتوجب أن نحارب البطالة أم التضخم؟ هل يجب أن ننفق أموالاً أكثر على التعليم؟ وهل يجب أن تكون ضريبة الأرباح 15 أو 20%؟
قال أحدهم يوماً أنه لو جمعنا جميع علماء الاقتصاد في العالم وصففناهم جنباً إلى جنب، فإنهم لن يستطيعوا أبداً التوصل إلى نتيجة موحدة. علماء الاقتصاد هم مثل سائر الناس، وبالتالي فإن لهم آراء وقيم. وبذا، فإن معظم الخلافات بين رجال الاقتصاد تنبثق من الأحكام التقييمية. وخلافاً لذلك، هنالك اتفاق واسع حول جوهر النظرية.
الحقائق والمستويات
من المهم الفصل بين الأحكام غير التقييمية والأحكام التقييمية، لذا دعوني أتوسع. خذوا القول الآتي “إن أبعاد هذه الغرفة هي 30×40 قدماً”. هذا قول موضوعي. لماذا؟ لأنه لو كان هنالك أي اختلاف، فهناك حقائق تجريبية ومقاييس متفق عليها بشكل عام يمكن اللجوء إليهما لحل الخلاف، ونعني بذلك إخراج مسطرة قياس. قارن ذلك القول بالقول التالي: “كان يجب أن تكون مقاييس الغرفة 20×80 قدماً”. ولنقل أن شخصاً آخر اختلف وقال إن المقاييس يجب أن تكون 50×50 قدماً. ليست هنالك حقائق أو مقاييس متفق عليها لحل مثل هذا الخلاف. كذلك الحال، فلا توجد حقائق أو مقاييس يمكن اللجوء إليها لحل الخلاف حول ما إذا كان يتوجب أن تكون ضريبة الأرباح 15 إلى 20%، أو أن من الأفضل مكافحة التضخم أو البطالة.
الأهمية في معرفة ما إذا كان بياناً يعتبر موضوعياً أو تقييمياً هو أنه في الحالة الأولى هنالك حقائق لفض الخلاف، ولكن لا توجد مثل هذه الحقائق في الثانية، إنها مسألة رأي ليس إلا، ورأي إنسانٍ هو جيد مثل رأي إنسان آخر. وكإشارة لمعرفة ما إذا كان البيان تقييمياً هي لدى استخدام كلمات فيه مثل: “يجب” و”يتوجب”.
في مطلع كل فصل من فصول التعليم، فإنني أقول لتلامذتي بأن موضوع النظرية الاقتصادية سوف يعالج النظرية الاقتصادية الموضوعية وغير التقييمية. كما أنني أقول لهم بأنهم إذا سمعوني أتحدث عن بيان تقييمي دون أن أكون قد بدأت بالملاحظة بـ”أنه في رأيي”، فيجب عليهم في تلك الحالة أن يرفعوا أيديهم وأن يقولوا “بروفيسور وليامز: نحن لم نقرر أخذ هذا الدرس لكي تعبئ عقولنا بآرائك الشخصية وأن تُسمي تلك الآراء نظرية اقتصادية. مثل ذلك هو [تزييف أكاديمي]”. كما أنني أبلغهم بأنه في اللحظة التي يسمعونني أقول “في رأيي”، فإن عليهم التوقف عن كتابة الملاحظات لأن آرائي ليست ذات علاقة بموضوع الفصل ألا وهو—النظرية الاقتصادية.
وإنني أختم هذا الجزء من المحاضرة بإبلاغ تلامذتي بأنني لا أعني أن أطلب منهم تطهير مفردات لغتهم من الكلمات التقييمية الذاتية. مثل تلك الآراء أدوات مفيدة لخداع الآخرين، ولكن في عمل ذلك يجب أن لا يخدع الإنسان نفسه. تقول لوالدك بأنك في حاجة قصوى لاقتناء تلفون متنقل وأنه يجب أن يبتاعه لك. لا يوجد هنالك أي إثبات بأنك تحتاج بالفعل إلى تلفون متنقل. ذلك أن جورج واشنطن استطاع أن يقود أمتنا لهزيمة بريطانيا، أقوى قوة على الأرض في ذلك الزمان، دون أن يملك تلفوناً متنقلاً.
أنا شخصياً أعتقد بأن الاقتصاد موضوع مثير وذو قيمة. علم الاقتصاد، أكثر من أي شيء آخر، هو أسلوب في التفكير. الناس الذين وجدوا موضوع علم الاقتصاد في دراستهم الجامعية حلماً مزعجاً هم ببساطة لم يكن لهم أستاذ اقتصاد جيد. لقد أصبحت بروفيسوراً جيداً نتيجة وجود أساتذة مثابرين خلال دراستي المتقدمة في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجيلس. البروفسور آرمن ألكيان، وهو أستاذ اقتصاد متميز، كان يعطينا وقتاً صعباً في الصف. ولكن، في يوم من الأيام، كنا في حديث ودّي خلال اجتماعات دائرتنا الأسبوعية بين الطلبة والأساتذة، عندما قال لي: “وليامز، المقياس الصحيح لمعرفة ما إذا كان تلميذ قد استوعب موضوعه هو قدرته على شرحه لشخص آخر لا يعرف أي شيء عن الموضوع”.
هذا هو التحدي الذي أُحب: جعل درس الاقتصاد محبباً ومفهوماً.
البحث القادم في سلسلة “علم الاقتصاد للمواطن” سوف يكون أكثر إثارة. وسوف أتحدث عن أنواع السلوك التي يمكن تسميتها بالسلوك الاقتصادي.
هذا المقال بالتنسيق مع مجلة فريمان (أيار 2005).
© معهد كيتو، منبر الحرية، 14 كانون الأول 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

المقدمـة

منذ أربعين سنة الآن عرّف البروفيسور هايك بطريقة حاسمة الفهم الخاطىء الأساسي المتعلق باقتصاد الرفاه السائد. هذا الفهم الخاطئ، كما جادل هايك، كان مسؤولا عن الإخفاق في تقدير النقد لإمكانية التخطيط المركزي المستند إلى النظريات الاقتصادية العقلانية—وهو النقد الذي عبّر عنه بقوة ووضوح ميزس، والذي طوره أيضا هايك نفسه. وببساطة، وكما برهن البروفيسور لافوي (1985)، إن المضمون الحقيقي لدرس هايك وأهميته لم يتم استيعابهما من قبل اقتصاديي الرفاه الذين كتبوا حول جدال النظريات الاقتصادية الاشتراكية، بالرغم من أنه تم الإشارة إلى عمل هايك على نطاق واسع.
نحاول في هذا البحث أن نكرر عرض هايك ونطبق مفهومه فيما يتعلق بمشكلة المعرفة وتداعياتها بالنسبة إلى التخطيط الاقتصادي المركزي سواء كان شاملاً أو غير ذلك. وسنستشهد في الفقرات القادمة بصياغة هايك لمفهومه الخاص ونقدم بعض الملاحظات الخاصة به. في الأجزاء اللاحقة من هذا البحث سنبدأ من نقطة انطلاق مختلفة تماماً وبالتالي نصل إلى إعادة صياغة وتطبيق موقف هايك—بيان بعض الأبعاد الراديكالية نوعا ما لإعادة صياغتنا.
طبقاً لهايك (1945: 77-78):
يتم تحديد السمة الخاصة لمشكلة النظام الاقتصادي المستند إلى العقلانية بشكل دقيق من خلال حقيقة مفادها أن المعرفة المتعلقة بالظروف الواجب علينا استخدامها لا توجد أبدا في شكل متكامل أو مركز وإنما فقط كأجزاء متناثرة من المعرفة غير الكاملة والمتناقضة غالبا، والتي يمتلكها كل الأفراد على حدة. وبناءً على ذلك، فالمشكلة الاقتصادية للمجتمع لا تتمثل فقط في كيفية توزيع موارد معينة—إذا كان يقصد بـ”المعينة” أن تكون معطاة إلى فكر منفرد يقوم عمدا بحل المشكلة الناجمة عن هذه “المعطيات”—إنها مشكلة كيفية تأمين أفضل استخدام للموارد معروف لأي عضو في المجتمع، لغايات لا يعرف أهميتها النسبية إلا هؤلاء الأفراد. أو باختصار، إنها مشكلة الانتفاع من المعرفة التي لا تعطى لأي شخص بشكل كامل.
دعنا نسمي مشكلة المعرفة هذه (مشكلة المعرفة الخاصة بهايك). نلاحظ في هذه المرحلة الأولية من نقاشنا أن الموقف المحتمل بخصوص مشكلة المعرفة لهايك، وعلى الأقل للوهلة الأولى، أنها لا تجعل تفوق معيار الكفاءة الاجتماعي غير مقبول مباشرة. إنه من الصحيح، كما أوضح هايك، فإن طبيعة المعرفة التي تتميز بالانتشار تعني أن المشكلة الاقتصادية لا تكمن في توزيع “الموارد الموجودة”، حيث تعني “الموارد الموجودة” تلك الموارد الموجودة والمعروفة لفكر منفرد. في الواقع، فإن المعرفة بحد ذاتها هي مصدر شحيح. لذلك يمكن اعتبار مهمة المخطط المركزي في ظل مشكلة المعرفة الخاصة بهايك بأنها الاستخدام الأكثر كفاءة للمعرفة المتوفرة المنتشرة والموجودة في المجتمع في لحظة ما—مع تقييد إمكانية بلوغ هذا الاستخدام بالتكاليف المترتبة على الاتصال والبحث الضروري نظرا لانتشار المعلومات المتوفرة.
ولذلك قد يبدو أنه لا يوجد شيء يجعل مشكلة المعرفة الخاصة بهايك خارجة عن مجال التخطيط الاقتصادي. وكما يجادل البعض، فإن مشكلة المعرفة تقوم بتعقيد مهام التخطيط: إنها تقدم مصدرا جديدا ودقيقا ومعقدا (المعرفة)؛ وتثير الانتباه حول المميزات الخاصة لهذا المصدر (سمته المتشتتة)؛ وتستدعي الانتباه إلى نوع جديد من التكاليف المطلوبة للبحث والاتصال. ولكن كما قد يبدو، يمكن أن تندرج مشكلة المعرفة الخاصة بهايك تحت المشكلة العامة للاقتصاد المفهومة تقليديا بمصطلحات توزيع الموارد. إن الموضوع الأساسي لهذا البحث هو رفض هذا الفهم لنتائج مشكلة المعرفة الخاصة بهايك.[1]
سأناقش في هذا البحث أن مشكلة ضمان الاستخدام الأفضل للمعرفة المنتشرة لا يمكن في الواقع أن يترجم إلى قضية خاصة لمشكلة تأمين تخصيص أكثر فعالية لموارد المجتمع الأكثر شمولا. وسيلي ذلك أن التخطيط الاجتماعي، بميزاته الخاصة، غير قادر على توضيح مشكلة هايك—هذا التخطيط قادر فقط على أن يحبط ويعيق قوة السوق التلقائية القادرة على المشاركة في مشكلة المعرفة هذه. ومن المهم للتمكن من تطوير هذه المناقشات أن يتم تقديم “مشكلة معرفة” محددة لتبدو للوهلة الأولى أنها تختلف كلياً عن مشكلة المعرفة الخاصة بهايك.
الخطة الفردية ومشكلة المعرفة
في الحياة اليومية يستمر الإنسان بالتخطيط. وقد قام الاقتصاديون باستنباط أن الخطة الفردية تمثل البحث عن المزيد: فالمخطِّط مصمم على الوصول إلى الوضع الأمثل المحاط بالعوائق. هذا هو مفهوم القرار الاقتصادي الذي وضعه ليونيل روبنز بدقة متناهية في عام 1932، وتم تبنيه منذ ذلك الحين أساساً لنظرية الاقتصاد الجزئي. ونشير إلى أن هناك مشكلة حتمية محتملة للمعرفة التي تحيط بمفهوم الخطة الفردية.
تفترض فكرة الخطة مسبقا وجود كيان مُستهدَف—مثل منفعة أو ربح—يجب أن تتم زيادته للحد الأقصى. كما وتفترض وجود عوائق معروفة على الموارد. ووفقا لمصطلحات روبنز، فإنه يُفترض توفر كل من الغايات والوسائل. إنها المعرفة المفترضة من قبل المخطِّط لظروف التخطيط هذه التي تتيح للاقتصاديين فهم الخطة باعتبارها حل لمشكلة تحقيق الحد الأقصى المقيَّدة. يجب ملاحظة أن صلاحية الخطة تعتمد كليا على صلاحية الفرضية أن المخطِّط في الواقع يعرف الظروف المحيطة بقراراته المستقبلية بشكل دقيق. إذا لم يعرف المخطِّط ماذا يريد أن يحقق وما هي الموارد المتوفرة لديه أو ما مدى فعالية هذه الموارد بالنسبة للأهداف المبتغاة، فإن خططه لن تؤدي إلى أفضل النتائج مهما تمت صياغتها بشكل حذر.
يمكننا أن نعرِّف الآن مشكلة المعرفة المناسبة لكل خطة فردية: بسبب نقص في معلومات المخطِّط حول ظروفه الحقيقية يمكن أن تفشل خطته في تحقيق الهدف الأمثل. دعنا نسمي مشكلة المعرفة هذه بـ”مشكلة المعرفة الأساسية”. وهذا سوف يميزها عن ما أسميناه “مشكلة المعرفة الخاصة بهايك”. كما سيوضح ذلك ما نعنيه، حيث أن مشكلة المعرفة الخاصة بهايك يمكن أن تعتبر حالة خاصة لما أسميناه “مشكلة المعرفة الأساسية”.
بالتأكيد فإن ما أسميناه “مشكلة المعرفة الأساسية” تبدو للوهلة الأولى تتشابه بشكل طفيف مع “مشكلة المعرفة الخاصة بهايك”. فمشكلة المعرفة الخاصة بهايك تكمن في طبيعة المعلومات المتوفرة المنتشرة؛ وتكمن مشكلة المعرفة الأساسية في جهل الفرد بالظروف المتعلقة بحالته. علاوة على ذلك، سيُظهر المزيد من التمحيص لكل من مشكلة المعرفة الخاصة بهايك ومشكلة المعرفة الأساسية المعنى الهام الذي بسببه تُعتبر مشكلة هايك مشكلة أساسية. دعنا أولاً نوضح الفهم الخاطئ المحتمل المتعلق بمشكلة المعرفة الأساسية.
مشكلة المعرفة الأساسية واقتصاديات البحث

قد يبدو للوهلة الأولى أنه من الممكن الفرار تماما من مشكلة المعرفة الأساسية التي تحيط بكل خطة فردية عن طريق إضافة مراحل تخطيط جديدة. إذا كان هناك احتمال لإخفاق خطة ما بسبب عدم توفر أحد الموارد الضرورية، فإن هذا التهديد بالإخفاق لن يكون بالضرورة نهائيا؛ وقد يمكن تجنبه من خلال التخطيط التمهيدي الملائم للحصول على هذا المورد. وبدلاً من وضع خطة فردية موجهة إلى الإحراز الفوري للهدف النهائي، فإنه من الضروري أن نقدم أهدافا متوسطة نسعى إلى تحقيقها في سياق الخطط التمهيدية الإضافية. عندئذ، قد تتطلب مشكلة المعرفة الأساسية أيضا التخطيط التمهيدي الحكيم فحسب.
من هذا المنطلق، يبدو أن مشكلة المعرفة الأساسية تمثل النقص في الموارد المتاحة لمورد هام هو المعرفة. وقد يستدعي هذا النقص إجراء بحث مُنظَّم لاكتساب المعلومات المهمة. وقد يُعتقد أنه من الممكن الفرار من مشكلة المعرفة الأساسية على الأقل إلى نفس الدرجة التي يُمكن لأي مشكلة تنتج عن نقص في الموارد أن تجد مخرجاً منه. وللدرجة الجديرة بالاهتمام، قد تستطيع خطة بحث تمهيدية تغطية النقص في المعلومات الضرورية التخلص كليا من مشكلة المعرفة الأساسية. وللدرجة التي يُعتقد أن هذا البحث المكلف غير ذي قيمة، سيبدو أن مشكلة المعرفة الرئيسية تعبر فقط عن الصعوبات الشحيحة التي لا مفر منها والموجودة ضمن وضع المخطِّط. وبالنسبة لعالِم الاقتصاد، فإن مشكلة الشح التي لا مفر منها تعني أنه لا توجد أي مشكلة على الإطلاق بالمعنى المقصود.
وإذا كان من الممكن تجنب مشكلة المعرفة، فإنه سيتم (ومن المفترض أن يتم) الفرار منها؛ وعندما يكون من غير المجدي تجنبها، سيبدو أنه لا وجود لمشكلة المعرفة الأساسية على الإطلاق—حيث أننا قمنا بتعريف مشكلة المعرفة الأساسية على أنها الإخفاق في تحقيق الدرجة المثلى الممكن تحقيقها. إذا كان نقص المعرفة يجعل من غير الممكن تحقيق الدرجة الافتراضية المثلى، فإن ذلك لن يؤدي إلى إحداث مشكلة المعرفة الأساسية. وإذا كانت تكلفة اكتساب المعرفة مانعة، تكون عندها الدرجة الافتراضية المثلى، وإن كان يمكن تحقيقها، غير مثلى على الإطلاق.
لا يمكن لهذا الجدل أن يستديم. فمشكلة المعرفة الأساسية التي تحاصر بقوة كل خطة فردية بطبيعتها لا يمكن الفرار منها. ومن غير ريب، يمكن تصحيح العجز في المعرفة بواسطة البحث وأن المخطِّط المستقل سيأخذ بعين الاعتبار في تخطيطه التمهيدي ضرورة إجراء البحث أو عدمه. ولكن مشكلة المعرفة الأساسية—التي تشمل على إمكانية الإخفاق في إنجاز الأمثل الممكن تحقيقه—تبقى. في الواقع، إن إمكانية التخطيط التمهيدي لاكتساب المعرفة توسع فقط مجال مشكلة المعرفة الأساسية.
دعنا نأخذ بعين الاعتبار الفرد المشارك في خطة والذي يسعى لتحقيق هدف قيّم. دعنا نسمي هذه (الخطة أ). خلال وضع الخطوات المحددة اللازمة لمتابعة (الخطة أ)، يدرك الفرد بأنه يفتقد إلى أجزاء من المعلومات المطلوبة. وعليه، يُعِدّ خطة لتحقيق تلك الأهداف الأولية، ألا وهي أجزاء المعرفة المفقودة. دعنا نسمي خطة البحث هذه (الخطة ب). يمكن أن نعتبر أن (الخطة أ) قد توسعت (نتيجة الجهل) لتشمل التخطيط لإحراز الأهداف الأولية المطلوبة، وبذلك تكون (الخطة ب) مدمجة مع (الخطة أ) الموسعة. وقد نعرِّف الخطوات اللاحقة الواجب اتخاذها في سياق (الخطة أ) الموسعة—تلك الخطوات اللاحقة للحصول على المعلومات من (الخطة ب)—بـ(الخطة أ). ( تتألف (الخطة أ) من الخطوات التي من شأنها أن تشكل الخطة الأصلية (الخطة أ) التي تم تصورها لو كان المخطط لا يفتقد إلى المعلومات المطلوبة). ونلاحظ بأن مشكلة المعرفة الأساسية هي خطر محتمل لكل من (الخطة أ) و(الخطة ب). ومن المؤكد أن (الخطة أ) المشتملة على (الخطة ب) و(الخطة أ) عرضة لنفس نقاط الضعف لكل منهما.
حتى ولو نجحت (الخطة ب) في الحصول على المعلومات المطلوبة المثلى الممكن العثور عليها بالضبط (وكانت تستحق التكاليف المخصصة لهذا البحث)، فإن (الخطة أ) ستكون عرضة للمخاطر المتعلقة بمشكلة المعرفة الأساسية. وبالرغم من أن صانع القرار، وهو ينشد صياغة (الخطة أ)، أدرك أنه ينقصه بعض المعلومات المحددة، ولذلك شرع في وضع (الخطة ب) التمهيدية، قد يكون في الحقيقة يفتقر الى معلومات اكثر مما يعتقد. (الهام في الموضوع أن مثل هذه المعلومات التي لم تُحدد قد تكون على شكل شركة، ولكن من الخطأ أن نؤمن أو نعتقد بصلاحية المعلومات الخاطئة كليا). أضف إلى ذلك أن المخطِّط الفرد قد يكون مخطأ في اعتقاده بأن المعلومات الناقصة هي معلومات ضرورية لتطبيق (الخطة أ) . كما يمكن أن يكون مخطأ في اعتقاده بأنه يفتقد إلى تلك المعلومات، وفي الواقع، قد تكون هذه المعلومات في قبضته الآن.
على سبيل المثال، قد يعتقد المخطِّط بأن (الخطة أ)، وفي سياق اتصاله مع الشخص (س)، تتطلب معلومات متعلقة برقم هاتف (س)، وهي المعلومات التي يعتقد أنه يفتقدها، وعليه يقوم بتنفيذ (الخطة ب) للبحث عن رقم هاتف (س). ولكن الحقيقة يمكن أن تكون مختلفة جدا، وأن (س) هو الشخص الخطأ، أو قد تكون الحقيقة أن (س) هو الآن جالس مع المخطِّط، ولذلك لا حاجة لرقم هاتفه للخطة (أ). أو قد يكون المخطِّط لا يفتقد رقم هاتف (س) على الإطلاق، ويمكن أن يكون رقم الهاتف مكتوباً في قائمة معينة موجودة لديه قرب جهاز الهاتف الذي يستعمله. مع وجود احتمالات الخطأ المحض ضمن (الخطة أ) و/أو (الخطة ب)، حيث يكون المخطِّط غير مدرك بحجم جهله، فإن (الخطة أ) التي تحتوي على (الخطة أ) و(الخطة ب) قد تكون بعيدة عن الأمثل، وإن كانت (الخطة ب) ناجحة من حيث تحقيق أهدافها. إضافة إلى ذلك، يمكن أن تغفل (الخطة ب) طرقا متاحة وأكثر فعالية لتحقيق أهدافها (فعلى سبيل المثال هناك طرق للبحث ذات تكلفة أقل لم يكن الباحث مدركا لها).
خلاصة القول، فإن احتمال التخطيط للبحث عن المعلومات الناقصة لا يُنهي مشكلة المعرفة. أولاً: يمكن أن يتم البحث بدون المعرفة بأن هناك أساليب متوفرة ذات فعالية أكبر. ثانياً: المعلومات التي يتم البحث عنها قد لا تبرر تكاليف البحث لأن الحقيقة التي يجهلها المخطِّط هي أن المعلومات غير مهمة للوصول إلى أهداف المخطِّط النهائية. وثالثاً: بغض النظر عن المعلومات التي يدرك المخطِّط أنه يفتقدها والتي سيحاول البحث عنها، فإنه قد يفتقد إلى معلومات هو غير مدرك لها ولا يأخذها بعين الاعتبار للقيام بالبحث عنها.
التخطيط المركزي ومشكلة المعرفة
نحن الآن نقدر مفهوم هايك لمشكلة المعرفة المتشتتة التي تُظهر مهمة التخطيط المركزي على أنها مرتبطة بعمق وتعقيد مع مشكلة المعرفة الأساسية. دعنا نضع أنفسنا في مكان المخطِّط المركزي الذي يبحث جديا وبفكر أحادي عن الطريقة المحتملة الأكثر كفاءة لتخصيص الموارد.
وكمخطِّط مركزي، فالمهمة هي صياغة خطة للمجتمع بأسلوب مشابه لذلك الذي يتبعه الفرد في التخطيط لسياق أعماله. نحن نعد خططنا الاجتماعية وفقا لبعض الأهداف الاجتماعية المحددة وفي ضوء تصور معين لمجموعات الموارد الاجتماعية المتاحة.[2] إن هذا الإطار مناسب للتخطيط المركزي لكل من التخطيط الاجتماعي الشامل والتخطيط المركزي المصمم خصيصا لتكميل أو تعديل النشاط الاقتصادي اللامركزي بدلا من إحلاله كليا. هذا التشابه بين الخطة الاجتماعية والخطة الفردية يدفعنا لأن ندرك علاقة مشكلة المعرفة الأساسية بالخطة الاجتماعية بنفس الطريقة التي وجدنا أنها خطر حتمي لا مفر منه بالنسبة للخطة الفردية. ومفهوم هايك يجعلنا ندرك بأن الخطة المركزية قد تكون معرضة للمخاطر (التي تنتج عن مشكلة المعرفة الأساسية) والتي يمكن أن يتم التهرب منها بواسطة التخطيط اللامركزي.
ومن البديهي استنتاج أن الخطة المركزية معرضة بشكل حتمي لمخاطر مشكلة المعرفة الأساسية بناء على مفهوم مشكلة المعرفة الأساسية نفسها. ونظرا لأن المخطِّط المستقل قد لا يكون مدركاً لظروفه الحقيقية وكذلك قد يكون غير مدرك بجهله، قد تفشل أفضل خططه المصاغة بشكل جيد في الحصول على الأمثل. وقد يكون القائمون على التخطيط المركزي أيضا غير مدركين بجهلهم فيما يتعلق بالظروف الحقيقية المناسبة للتخطيط الاجتماعي. ويعمِّق فهمنا للنتائج الخاصة بالمعرفة المتشتتة تقديرنا لجدية وخطورة مشكلة المعرفة الأساسية، ويكشف النقاب عن كيفية إمكانية تخطي مخاطر هذه المشكلة تماما في ظل غياب وجود الخطة المركزية.
إن إدراك حقيقة تشتت المعرفة—وخاصة فيما يتعلق بمعرفة الظروف الخاصة بالوقت والمكان (هايك، 1945: 80)—يوضح فورا فهمنا لمشكلة المعرفة الأساسية التي تهدد الأشخاص المعنيين بالتخطيط المركزي. فبالنسبة للمخطِّط المركزي، تُستمد مشكلة المعرفة الأساسية من الاحتمال بأن ما يعتقده المخطِّط بالنسبة لظروفه يمكن أن يختلف عما كان يمكن أن يعرفه لو كان أكثر يقظة أو إدراكا للبيئة الحقيقية (بدون الإنفاق الإضافي للموارد). ويعتبر الاحتمال نفسه وثيق الصلة بالنسبة للمخطِّط المركزي، ولكنه يزداد بسبب المأزق الخاص الذي يواجهه المخطِّط المركزي. إن ما يعتقده المخطِّط المركزي عن الظروف ذات العلاقة يجب أن يشابه ما يعتقده عن توفر أجزاء المعرفة المتشتتة التي يمكن حشدها، بطريقة ما ومقابل تكلفة، لصياغة وتطبيق الخطة الاجتماعية. وهناك فرصة ضئيلة لأن يعرف المخطِّط المركزي أين يجد أو يبحث عن جميع عناصر المعرفة المتشتتة المعروفة في النظام الاقتصادي. وإضافة إلى ذلك، فإنه يبدو أن هناك فرصة ضئيلة لأن يكون المخطِّط المركزي مدركا تماما لطبيعة مدى الفجوات المحددة في معرفته بهذا الخصوص. ويمكن أن يدرك بشكل عام أنه جاهل لبعض الأمور، ولكن هذا لا يُعطيه أي تلميح للمكان الذي يجب أن يبحث فيه. وفي النهاية، لا يستطيع المخطِّط استغلال كافة المعلومات المتوفرة لديه. وبشكل واضح، فإن انتشار المعلومات يعتبر مسؤولا عن بعد جديد في تطبيق مشكلة المعرفة الأساسية.
لقد ذكرنا سابقاً بأن مشكلة المعرفة الخاصة بهايك، وبالرغم من كونها شيئا جديدا، يمكن أن تندرج ضمن المشكلة الاقتصادية العامة، التي تُفهم تقليديا وفقا للإنجاز الفعال في تخصيص الموارد المتوفرة (وبشمول المعلومات المتاحة كمورد هام متوفر). ويمكن الآن أن نرى كيف أنه من غير المناسب اعتبار أنه بإمكان المخططين المركزيين أن يتفقوا مع مشكلة المعرفة الخاصة بهايك من حيث التخطيط التقليدي لتحقيق النمط الأمثل المحاط بالصعوبات بالنسبة لتخصيص الموارد. إن الجهل غير المعروف، وهو صُلب مشكلة المعرفة الناجمة عن تشتت المعلومات، يتحدى إمكانية المطابقة الصارمة لخطة التخصيص (معيار بروكرستيان). وكما أن المخطِّط الفردي غير قادر على التشبث بشكل متعمد مع مشكلة المعرفة الأساسية المحيطة بعمليات صنع القرار، كذلك الأمر بالنسبة للمخطِّط المركزي: فهو غير قادر على تنفيذ تقنيات للتخطيط ليتفق بشكل متعمد مع مشكلة المعرفة الخاصة بهايك.
الأمر الذي يجعل نقد مشكلة المعرفة الخاصة بهايك للتخطيط المركزي مدمرا هو أنه في حالة نظام إدارة السوق القائم على التخطيط اللامركزي، تُبدَّد مشكلة المعرفة غير الواضحة التي يواجهها المخططون المركزيون من خلال إجراءات الاكتشاف التنافسية لأصحاب المبادرة.
إجراءات الاكتشاف التنافسية لأصحاب المبادرة

هناك فهم خاطئ متكرر لمشكلة هايك الخاصة بصنع القرار اللامركزي. وفي حالات كثيرة، تُعرض هذه الحالة على أنها تجادل بأن اقتصاد السوق اللامركزي ينجو من مشكلة المعرفة المتشتتة لأن الأسعار تنقل المعلومات إلى صناع القرار المعنيين بشكل دقيق (بحيث يستبدل ذلك الحاجة لديهم لمعرفة المعلومات المفصلة المتشتتة خلال النظام). يجب التأكيد على أنه، وبالرغم من وجود هذا السياق من الاستنتاج بشكل واضح في أعمال هايك، إلا أنه لم يستوفه حقه فيما يتعلق بالمعاني الكاملة المتضمنة في ذلك العمل.
إن المجادلة بأن أسعار السوق تعطي وتنقل المعلومات، متغلبة بذلك على مشكلة المعرفة المتشتتة، توضح مسألة الأسواق التي تعتمد على الفرضية المشكوك فيها والتي تنص على أن الأسواق تكون دائما متوازنة أو قريبة من التوازن. ويمكن أن ندّعي أنه عند ذلك التوازن فقط يتم توجيه المشارك في السوق تلقائيا، وبالاسترشاد بأسعار السوق، باتجاه تلك الأعمال التي ستتنسّق بمرونة مع أعمال جميع مشاركي السوق الآخرين.
إضافة إلى ذلك، فإن وضع فرضية أن الأسواق قريبة من التوازن هو (وبمعزل عن الأسباب الأخرى لعدم الشعور بالارتياح المتعلق بواقعية هذه الفرضية) بمثابة الاستجداء من مشكلة هايك للمعرفة المتشتتة بدلا من التغلب عليها. في خضم ما تم ذكره سابقاً، وكما تقدم ظاهرة المعلومات المتشتتة التحدي للمخططين المركزيين، فإنها تقدم إلى الأسواق تحديا مماثلا ألا وهو الوصول إلى منظومات أسعار السوق التي ستخلق توازنا بين العرض والطلب.
لا يتسنى لأحد حل مشكلة المعرفة المتشتتة عن طريق افتراض الأسعار التي ستولد القرارات المرغوبة بلطف. إن المعرفة المتشتتة هي السبب الحقيقي بأن أسعار السوق الموجودة غير قادرة على خلق توازن بين العرض والطلب في الأسواق وضمان عدم هدر الموارد. الحقيقة أن السوق يمتلك أسلحة لمكافحة مشكلة المعرفة المتشتتة (وإن لم يكن قهرها تماما)، وهذه الأسلحة متضمنة في طريقة عمل نظام التسعير، وليست موجودة في النظام الافتراضي لأسعار التوازن. إن أهمية الأسعار فيما يتعلق ﺒمشكلة المعرفة الخاصة بهايك لا تقع ضمن نطاق دقة المعلومات التي ينقلها توازن الأسعار فيما يتعلق بأعمال الآخرين الذين حصلوا على معلومات مشابهة. بل تتمثل أهميتها في قدرة الأسعار غير المتوازنة على تقديم فرص للربح الصافي يمكنها أن تجذب انتباه أصحاب المبادرة المتيقظين الذين يسعون إلى تحقيق الأرباح. ويعبر إخفاق المشاركين في السوق عن نفسه في تنسيق نشاطاتهم بسبب المعرفة المتشتتة من خلال منظمونات الأسعار التي تنبه أصحاب المبادرة كيفية تحقيق أرباح صافية.
هناك معرفة قليلة للطرق المحددة لفرص الربح التي تجذب انتباه أصحاب المبادرة. ولكن، مما لا شك فيه أن لهذه الفرص قوة مغناطيسية جاذبة. إن القول بأن إمكانيات الربح الصافي تجذب الانتباه لا يعني أن إدراك هذه الإمكانيات مضمون بعملية البحث المتأني والمكلف من جانب أصحاب المبادرة. بل يجب إدراك أن إغراء الربح الصافي هو الذي يجعل صاحب القرار يتجاوز حدود إطار الخطة الموضوعة، وينجو من مشكلة المعرفة المتشتتة التي تحيط بصُنع القرار الفردي. إن يقظة أصحاب المبادرة موجودة دائماً لتحل محل تخطيطهم الضيق ضمن إطار الفعل الإنساني الأوسع. وفي نفس الوقت الذي يقوم به الإنسان بعملية احتساب التخصيص الأمثل للموارد المتوفرة آخذا بالاعتبار النتائج المتنافسة، يكون متحفزا لأي شيء قد يوحي بأن الموارد المتاحة مختلفة عن تلك التي تم افتراضها، أو ربما يجب وضع مجموعة أخرى من الأهداف والسعي لتحقيقها.
ويتم الاستجابة إلى إشارات الربح الصافي الناتج عن الأخطاء التي تنشأ عن المعرفة المتشتتة المتوفرة في المجتمع عبر العنصر الربحي في أعمال الإنسان. هذه هي الخميرة التي تخمر عملية الاكتشاف التنافسية لأصحاب المبادرة والتي تُكشف النقاب للمشاركين عن المعلومات ذات العلاقة المنتشرة في السوق. وعليه، فإن هذه العملية التنافسية لأصحاب المبادرة هي التي تتماسك مع مشكلة المعرفة الأساسية التي تواجه سلطات التخطيط المركزي. وللمدى الذي يمكن أن يحل التخطيط المركزي محل عملية الاكتشاف لأصحاب المبادرة، سواء على صعيد التخطيط الشامل للمجتمع أو على صعيد تدخلات الدولة التدريجية في نظام السوق الحر، يقوم المخططون بخنق قدرة السوق على تجاوز مشكلة المعرفة الأساسية معرضين أنفسهم إلى المشكلة ذاتها. إن مصدر المشكلة هو المعرفة المتشتتة الخاصة بهايك: لا توجد أدوات للتخطيط المركزي يمكنه من خلالها أن يتدخل في مشكلة المعرفة المتشتتة، كما إن طبيعته المركزية تعني أن عملية اكتشاف السوق تواجه صعوبات كثيرة، هذا إن لم تتوقف تماماً.
الأسواق والشركات والتخطيط المركزي

منذ بحث رونالد كوز (1937) حول نظرية الشركات، تم إدراك أن كل شركة في اقتصاد السوق هي عبارة عن جزيرة لـ”التخطيط المركزي” المحلي في بحر من قوى السوق التنافسية الهائجة. ففي داخل الشركة، نلاحظ تنسيق النشاطات بواسطة التوجيه المركزي وليس من قبل تنافس السوق عبر آلية الأسعار. يوضح نقاشنا في هذا البحث القوى التي تتحكم في موقع الحدود التي تفصل عالم “التخطيط المركزي” عن نظام الأسعار التنافسية.
لاحظنا أن استبدال اكتشاف السوق (يقظة أصحاب المبادرة لفرص الربح) بالتخطيط المركزي يولد نطاق نفوذ جديد لمشكلة المعرفة الأساسية الناشئة عن تشتت المعرفة. وعليه، وفي إطار نظام السوق الحر، يتم شراء أية ميزة مستمدة من التخطيط المركزي (على سبيل المثال، تجنب الازدواجية التي “تهدر” الموارد والموجودة غالبا في حالات التنافس في السوق) بثمن مشكلة معرفة مُعززة. يمكن أن نتوقع توسعا تلقائيا للشركات إلى الدرجة التي تتوازن فيها المميزات الإضافية للتخطيط المركزي مع الصعوبات المتزايدة للمعرفة التي تنشأ من المعلومات المتشتتة. فعلى نطاق ضيق، يمكن أن تكون هذه الصعوبات الأخيرة غير مهمة بالدرجة الكافية للتعامل معها للاستفادة من التنظيم المنسق بشكل واضح. وقد تعني المعرفة المتشتتة على منطقة جغرافية أو مؤسساتية صغيرة وجود مشكلة المعرفة الخاصة بهايك، والتي لا تشبه المشكلة المتعلقة بمؤسسات كبيرة ومعقدة، والتي يمكن حلها من خلال البحث المتأني. ومع ذلك، وبعد نقطة معينة، فإن صعوبات المعرفة يمكن أن تقلل من أرباح الشركات الكبيرة جداً. إن التنافس بين الشركات ذات الأحجام والمجالات المختلفة سيؤدي إلى كشف النقاب عن الحد الأقصى للتخطيط المركزي.
من جانب آخر، إذا تم فرض التخطيط المركزي على نظام السوق الحر، سواء كان ذلك لاعتبارات شاملة أم لا، فإن هذا التخطيط سيشتمل في الغالب على مشكلة المعرفة إلى حد لا يمكن تبريره بواسطة أي مميزات يمكن أن تمنحها الأنظمة المستندة على المركزية. إن التخطيط المركزي الذي تنفذه الحكومة يُبعد أسلحة السوق العفوية الدقيقة لمصارعة مشكلة المعرفة. وهذا التخطيط المركزي، استنادا إلى طبيعته الذاتية وكذلك طبيعة مشكلة المعرفة، غير قادر على أن يقدم أي أسلحة بديلة.
الخـاتمة

يجب أن نتذكر أنه نظرا لطبيعة مشكلة المعرفة، لا يمكن معرفة مداها وخطورتها سلفاً. إن جزءا من المأساة المتعلقة بمقترحات السياسة الصناعية والتخطيط الاقتصادي هو أن المدافعين عنهما جاهلون تماما بمشكلة المعرفة—المشكلة الناجمة عن عدم إدراك الشخص بجهله.
“التخطيط الاقتصادي ومشكلة المعرفة”: تعليق
ليونيد هورويتز[3]

ملاحظاتي موجهة إلى القضايا التي أثارها تحليل البروفيسور كيرزنر، وليس إلى الاقتراحات المختلفة المطروحة حالياً حول سياسة صناعية قومية، إلا أنني آمل أن تكون لها علاقة كخلفية لتحليل تلك الاقتراحات. كذلك، وما دام أنني أعتزم الإعراب عن مخالفتي لبعض من النقاط التي أثارها البروفيسور كيرزنر، دعوني أؤكد بأنني أتعاطف كلياً مع نقطته الأساسية، ألا وهي: تشتت المعلومات بين وحدات اتخاذ القرار الاقتصادية والتي يطلق عليها “مشكلة المعرفة المتعلقة بهايك”، والقضية الناتجة عنها والتي تتمثل في نقل المعلومات بين مختلف الوحدات.
كثير من الأبحاث التي قمت بها منذ خمسينات القرن الماضي كانت مركّزة حول قضايا اقتصاديات الرفاه، من منظور معلوماتي. إن نظريات هايك (وقد حضرت صفوفه في جامعة لندن للاقتصاد خلال العام الأكاديمي 1938-1939) قد لعبت دوراً رئيسياً في التأثير على تفكيري وقد اعترفت بذلك التأثير. بيد أن آرائي تأثرت أيضاً من قبل أسكار لانج (جامعة شيكاغو 1940-1942) وكذلك لودفيغ فون ميزس، والذي شاركت في ندواته في جنيف خلال الفترة 1938-1949.
والآن، توجد أبحاث كثيرة في هذا الميدان. إن دراسة متأنية لهذه الأبحاث سوف ترينا، في اعتقادي، بأن الفقرات الافتتاحية في بحث البروفيسور كيرزنر (والقائلة بأن درس هايك لم يُستوعَب قط من قبل علماء اقتصاد الرفاه) لا ينطبق على علماء الرفاه في مجموعهم في زمننا الحالي، بغض النظر عما إذا كان ذلك ينطبق أو لا ينطبق على الأبحاث السابقة في هذا الميدان.
دعوني أوضح ها هنا بأنني لا أعتزم أن أجادل حول مزايا أو مساوىء ما يمكن أن يشار إليه بـ”التخطيط المركزي” أو”السياسة الصناعية”. وبدلاً من ذلك، فإن هدفي من ذلك هو إدخال بعض من الشك فيما يتعلق بالحجج المبسطة التي تستخدم في بعض الأحيان في هذا الحقل. أود القول بأن الورقة التي أمامنا—وعلى الرغم من كثير من رؤاها الثمينة—لا تقدم أساساً كافياً لتكوين حكم حول المزايا المعزوة إلى “السوق الحرة”، أو “التخطيط المركزي”، أوغيرهما من أشكال التدخل الحكومي في العملية الاقتصادية. (هذا هو حكم على غرار الأحكام القضائية الاسكتلندية: ليس “مذنباً”، وليس “غير مذنب”، ولكن: “غير مثبت على أنه مذنب”)! الحالة هي كذلك لأسباب عدة، بما في ذلك غموض التعابير المستخدمة، والافتراضات الكامنة التي تصور “البيئة الاقتصادية الكلاسيكية” (والتي ستحدد أدناه)، ومسألة الحوافز، والأحكام القيمية التي تتجاوز معيار الكفاءة.
إن تعابير مثل “التخطيط المركزي” و”السوق الحرة” لهما تفسيرات كثيرة. وعند تحليل مزايا ونقاط ضعف عملية السوق، من الأمور المهمة التمييز بين الأسواق الحرة التامة، وبين الأسواق الاحتكارية أو مجموعة من قلة من الاحتكارات، وغيرهما من الأسواق غير الحرة بالمعنى التام للتعبير. وعلى سبيل المثال، ففي صناعة تتميز بتناقص التكاليف تدريجيا، لن يستطيع البقاء في السوق سوى قلة من الشركات، على الرغم من حرية الدخول للسوق. مثل هذا السوق يمكن تسميته بـ”الحرة”، ولكنه يُميِّلُ احتكار القلة وليس سوق منافسة حقيقية.
إن نظرية اقتصاد الرفاه المعروفة تؤكد نظرية باريتو بالنسبة للكفاءة الأمثل لتوازن قائم في سوق تنافسية كاملة. ولكن، ليست هنالك أسس نظرية للجزم بأن أسواق الاحتكار أو أسواق احتكار القلة تؤدي إلى تخصيص كفءٍ للموارد المتاحة. وفي الحقيقة، فإن التحليل الأولي يظهر بأن أسعار الاحتكار الموحدة أو الأسعار الموحدة في إطار احتكار القلة هما، بشكل عام، أسعار غير كفؤة بمعايير باريتو.[4] يضاف إلى ذلك أنه في ظل ظروف تتسم بالمردود المتزايد، فإن توازناً تنافسياً تاماً، هو بشكل عام مستحيل التحقيق، ذلك لأن تعظيم الربح في ظل سقف محدد للأسعار سوف يستدعي إنتاجاً يتراوح بين الصفر أو إنتاجاً غير محدود. لذا، فإن من الصعب رؤية كيفية تبرير كفاءة السوق الحرة بوجود مردود متعاظم، سواءً تم تفسير المصطلح الأخير بالمنافسة الكاملة، أو، مجرد حرية الدخول.
إن الصعوبات المصاحبة للمردود المتعاظم تشكل فقط حالة خاصة من بين مشكلة أكبر وأهم، إذ إن نظرية ضمان الكفاءة الأمثل لتوازن قائم في سوق تنافسية تفترض غياب العوامل الخارجية، وتستبعد كذلك السلع العامة.[5]
يضاف إلى ذلك، كما رأينا أعلاه، فإن هنالك ظروفاً (مثل المردودات المتزايدة) حيث لا يمكن لأية مجموعة من الأسعار أن تحقق توازناً بين العرض والطلب؛ يستدل من ذلك بأن تنافساً متوازناً تاماً هو أمر مستحيل المنال. وهكذا، ومن أجل ضمان إمكانية وجود أسعار متوازنة—وتعرف من الناحية التقنية الفنية بوجود توازن تنافسي كامل—وكذلك التوازن التنافسي الكامل والأمثل، فإن النظريات ذات العلاقة تقدم مجموعة من الفرضيات، مستبعدةً عوامل مثل الآثار الخارجية، والسلع العامة، والمردودات المتزايدة، وتلك الأصناف من السلع العامة غير القابلة للقسمة، وغير ذلك. وعندما تستوفى جميع هذه المعطيات (مع استبعاد العوامل المقلقة)، فإننا نتحدث عن اقتصاد كلاسيكي أو مناخ كلاسيكي. لذا، فإن النظريات التي تضمن تحقيق التوازن التنافسي الأمثل تفترض وجود بيئة كلاسيكية.
من الناحية العملية، مع ذلك، فإن المرء كثيراً ما يواجه بيئات غير كلاسيكية. التلوث هو مثال على عامل خارجي سلبي مهم، بينما المعلومات المستقاة من الاختراعات الجديدة أو السرور الذي ينشأ من المؤلَّفات الموسيقية تدلل على عوامل خارجية إيجابية أو سلع عامة. الدفاع الوطني هو مثال آخر على سلعة عامة بالغة الأهمية. الجسور والسدود تجسد عدم القابلية للقسمة، وهنالك أمثلة عديدة على اقتصاديات الحجم—والمعروفة بالمردود المتصاعد (للحجم). إنني لا أعرف أي أساس للادعاء بأنه، في مثل هذه الحالات، فإن عمليات السوق الحرة (بغض النظر عن كيفية وصفها) توفر تخصيصاً مثالياً للموارد.
لقد اتضح من عدد من الدراسات (ماونت وريتر 1974؛ أوسانا 1978؛ هورويتز 1977) بأنه في البيئات الكلاسيكية، فإن آلية التسعير التنافسية المثالية تستخدم حداً أدنى من المساحة لنقل رسالتها؛ أي أنها تستخدم الحد الأدنى من المتغيرات لنقل المعلومات بين الوحدات الاقتصادية. وهذا يؤكد نظرية هايك فيما يتعلق بالكفاءة الإعلامية لآلية الأسواق. ولكن، فقد تبين بالأمثلة (هورويتز 1977؛ كالساميليا 1977) بأنه في غياب التحدب لسلسلة احتمال الإنتاج،[6] فقد يكون مستحيلاً إيجاد أية آلية لامركزية ذات كفاءة عند استخدام مساحة ذات أبعاد محدودة لنقل رسالتها.
وبالإضافة إلى الصعوبات في تحقيق الكفاءة في البيئات غير الكلاسيكية، علينا أن نلاحظ بأن الكفاءة هي واحدة فقط من بين المعايير الممكنة، والتي تبنى على أساسها الأحكام التقييمية حول النظم الاقتصادية. بعض الناس قد يكونون مستعدين للتضحية بالكفاءة في سبيل المساواة؛ فبالنسبة لهم، فإن حقيقة أن عملية السوق تحقق الكفاءة، قد تكون غير كافية—حتى لو افترضنا وجود بيئة أو مناخ كلاسيكي. بطبيعة الحال، فإن هذا التوجه لا يحتاج بالضرورة إلى التخلي عن عملية السوق، بل ربما تعزيز ذلك بوسائل مثل الضرائب والدعم المالي. وهكذا، يمكن وضع دور للحكومة على أسس تقييمية، حتى لو تم الاعتراف بأن التدخل الحكومي سوف يؤدي إلى تخفيض كفاءة النظام الاقتصادي.
كما إنني أرى مشكلة في ترويج حجج البروفيسور كيرزنر حول النظرية أعلاه، فيما يتعلق بالتوازن التنافسي الأمثل. إن الورقة أمامنا جازمة في تجنب الاعتماد على الأسواق التي تكون بالفعل في حالة توازن. ولكن في الافتراضات الكلاسيكية، فقط يكون التوازن التنافسي هو الذي يضمن الوضع الأمثل. لذا، فإن أفضل ما يمكن قوله بالنسبة لحالات فقدان التوازن أنها قد تتجه نحو التوازن. وفي الحقيقة، فإن دراسة اشتركت في كتابتها مع أرو وبلوك عام 1959، حددتْ مجموعة من الحالات، حيث كان مثل هذا التوجه نحو التوازن قائماً. ولكن أبحاثاً لاحقة (على سبيل المثال بحث سكارف 1960) قد كشفت النقاب عن أن هذا التوجه ليس موجوداً دائماً، حتى في حالات السوق التنافسية المثالية. وفي جميع الأحوال، فإن من الصعب رؤية كيف يمكن في غياب قوى الاستقرار الادعاء نظرياً بأن الأسواق تؤدي إلى الكفاءة.[7]
إن التأكيد الأساسي في دراسة كيرزنر هو حول ما يسميه المؤلف “مشكلة المعرفة الأساسية.” وإلى الحد الذي يتجاوز فيه هذا القول تشتت المعرفة وفق هايك، فإن “قضية المعرفة الأساسية” هذه تبدو، ببساطة، من منطلق أن معظم القرارات—سواءً من قبل المخططين أو الشركات أو الأفراد—لا بد أن تتم دون توافر معلومات كاملة ودقيقة. لا يوجد أي خلاف حول هذه النقطة. ولكن بعض المناقشات على ما يبدو توحي بأن مثل هذا الوضع من عدم اليقين يجعل اتخاذ أي سلوك عقلاني مستحيلاً منطقياً.
إنني لا أستطيع الاتفاق على ما تقدم. هنالك بالفعل نظريات متطورة حول السلوك العقلاني في حالات عدم اليقين، بما في ذلك نظرية البحث. إن نظرية القرار الإحصائية هي فقط واحدة من فروع هذا العلم. ولكن حتى إذا قبلنا بالصعوبات العملية لسلوكيات البحث الأمثل، فإن المرء يجد نفسه منساقاً إلى إطار ما يسمى بـ”العقلانية المقيدة” (سايمون 1972؛ رادنر 1975).
إنني، بطبيعة الحال، أوافق على أن الناس كثيراً ما يتصرفون من منطلق قناعات ليست صحيحة في الواقع. وفي أفضل الحالات، يكون أملنا أن يكون التصرف عقلانياً في ضوء التنبؤ بالمستقبل وليس من قبيل استرجاع الماضي. ولكن هذه المصاعب تواجه كل إنسان وليس القائمين على التخطيط وحدهم. صحيح أنه إذا كانت معلومات المخطِّط أو قناعاته مستندة إلى نقل غير كامل، فإن ذلك سوف يشكل مصدراً إضافياً للخطأ. ولكن تلك، مرة أخرى، هي مشكلة هايك!
وكما ذكر أعلاه، فإن آلية السوق تخفِّض بالفعل مساحة الرسالة المطلوبة، بيد أن ادعاءاتها قائمة على افتراض وجود بيئة كلاسيكية. ففي مناخات غير كلاسيكية، وحيث هنالك قيم مهمة غير قيمة الكفاءة في الأداء، فإن بالإمكان تقديم حجة بعدم كفاية عمليات السوق، وربما في صالح دور حكومي. ولكن لا يجوز أن يعتبر ذلك مرادفاً للتخطيط الحكومي. وفي الحقيقة، فإن هذا الدور يمكن أن يقتصر على تقدمة وتنفيذ ما يمكن تسميته بـ”قوانين اللعبة”. وبالأخص، قد يشمل ذلك خلق حقوق ملكية من خلال حقوق نشر أو براءة ملكية أو اختراع. إن خلق مثل هذه الحقوق يشكل تدخلاً حكومياً في عملية السوق الحر، ولكن لا يشكل ما أسميه بـ”التخطيط المركزي”. والصيغة الأخيرة ربما يجب أن تُخصَّص لنمط من التدخل الذي يمكن تسميته بـ”الاستهداف الجزئي”، والتي تكون السياسة الصناعية أو مراقبة الأسعار أو التقنين أمثلة عليها، والتي تتخذ الحكومات من خلالها قرارات تتصل بالإنتاج، والانفاق، وأسعار سلع معينة أو مجموعة من السلع.
ومع ذلك، فإن من المهم التمييز بين التخطيط المركزي الشمولي (الذي تجري محاولته في الاتحاد السوفييتي) من ناحية، وعناصر من تخطيط تلحق باقتصاديات السوق الحرة (كما نراه عادة في البلدان الغربية) من ناحية أخرى. هكذا، يجب أن نعترف بأن ما بين الاقتصاد الحر والاقتصاد المركزي الشمولي (الاستهداف الجزئي) مساحة من الاحتمالات الممكنة، بعضها يشمل استهدافاً جزئياً، وبعضها الآخر تدخلاً حكومياً بقوانين اللعبة (وبدون عنصر التخطيط أو الاستهداف الجزئي).
شخصياً، فإنني أتفق في الرأي مع البروفيسور كيرزنر بأن دولة كبيرة حديثة هي فوق الحجم الأمثل حتى تكون وحدة قابلة للاستهداف الجزئي. أسباب قناعتي—بالإضافة إلى حقل المعرفة الذي أشار إليه البروفيسور كيرزنر—لها علاقة بإحباط الحوافز الشخصية نحو الإبداع أو الكفاءة،[8] بسبب نمط تخطيط جزئي، كما هو الحال في الاتحاد السوفييتي أو الصين. ولكن ذلك لا يعني بأن النظام الحر يشكل حلاً عالمياً شاملاً.
وبالأخص، ما زال يتوجب تقديم الدليل (كما هو الادعاء في الصفحة 417) بأن “التنافس بين الشركات من أحكام ومجالات مختلفة تتجه نحو إظهار الحد الأمثل لمثل ذلك (التنظيم المركزي).”
ففي مناخ كلاسيكي ربما يكون ذلك صحيحاً، ولكن من حق المرء أن يتساءل، على سبيل المثال، عما إذا كان التوجه نحو الاندماج الذي يجري حالياً في الولايات المتحدة من شأنه منطقياً أن يدفع الاقتصاد إلى مزيد من الاقتراب من الأداء الأمثل. إذا كانت النتيجة هي الاحتكار، فإن عدم الكفاءة سوف تتبع.
دعوني أقدم اعتراضاً آخر حول الكلمة الختامية في دراسة كيرزنر، والقائلة بأن دعاة السياسة الصناعية أو التخطيط المركزي، إنما ينطلقون بالضرورة من انعدام الإدراك بمشكلة المعرفة (دعاتها المخلصون غير الواعين كلياً لمشكلة المعرفة). في رأيي، فإن انعدام تقدير أهمية الحوافز يشكل مسألة أكثر خطورة. (الصين هي مثل على اقتصاد يدار مركزياً، وقد اعترفَتْ بأهمية الحوافز وبمنافع الإدارة اللامركزية). إن بعض الدعاة يرون السياسة الصناعية كحل يأتي في المرتبة الثانية، بالنظر للعيوب القائمة في الأسواق المحلية والدولية، وعلى الرغم من الصعوبات الناشئة عن مشكلة المعرفة. يستطيع المرء أن يختلف مع الرأي القائل بأن هذه قضية تأتي في المرتبة الثانية، ولكن دون أن يُتهم دعاتها بعدم الوعي بمثالبها.
إن قضية الدور المناسب للأسواق وللتدخل الحكومي هي قضية معقدة، ومن وجهة نظري، فإن الحل لا يكمن في أيّ من الطرفين المتعارضين. التحليل الموضوعي، والذي تُعتبر دراسة البروفيسور كيرزنر مساهمة مهمة لها، يُظهر المزايا والنواقص للحلول القائمة على طرفي نقيض؛ إنه يشير إلى نقاط القوة في اقتصاد السوق، مثلما يشير إلى تلك النواقص التي تبرر البحث عن وسائل مؤسسية إضافية تشمل تدخل القطاع العام. والأرجح بأن الأجوبة لن تسر الأيديولوجيين في كلا النقيضين.
ملاحظات
[1] لقد عمّق هايك (1979: 190) فهمنا لمشكلة المعرفة المتشتتة والتي تذهب إلى حد أبعد من “الاستفادة من المعلومات المتعلقة بالحقائق الراسخة التي يمتلكها الأفراد.” هو الآن يؤكد على مشكلة استخدام القدرات التي يمتلكها الأفراد لاكتشاف المعلومات الراسخة. وهذا يقود هايك إلى توضيح أنه لأن الشخص “سيكتشف ما يعرفه أو يمكنه أن يكتشف ذلك فقط عندما يواجه مشكلة حيث سيساعده ذلك،” فإنه قد لا يكون قادرا أبدا “على أن ينقل كل المعلومات التي يحصل عليها.” لقد قام البروفيسور لافوي أيضا من خلال عمل له لم يتم نشره، وبناء على أفكار من أعمال مايكل بولاني، بالتأكيد على الصلة المتعلقة بالحقيقة الضمنية للمشكلة الاجتماعية للانتفاع بالمعرفة المتشتتة. إن البحث الحالي يتوصل إلى استنتاجات مماثلة ولكن من بداية مختلفة إلى حد ما.
[2] نتجنب هنا شرح أي من الصعوبات المعروفة المحيطة بـِ: (أ) مفهوم التسلسل الهرمي للأهداف الاجتماعية المشابه بتصنيف الأهداف الفردية؛ و(ب) المفاهيم ذات العلاقة بالكفاءة الاجتماعية والاختيار الاجتماعي.
[3] أستاذ روجنتس للاقتصاد في جامعة مينيسوتا.
[4] نظرية كوز، كما أفهمها، فقط تقوم باستكشاف أبعاد طرح فرضية مفادها أن العناصر الاقتصادية التي تمتلك المعلومات وتعمل في السوق دون قيود اقتصادية ستصل إلى تخصيص باريتو الامثل. بيد أن الأسعار الموحدة في ظل الاحتكار أو احتكار القلة لا تلبي هذه الفرضية.
[5] حسب التعريف المعتاد، السلع العامة هي ذلك الصنف من السلع أو الخدمات التي تتواجد باستعمالها من قبل الشخص (أ) لا يتعارض مع احتمال استعمالها من قبل الشخص (ب) (ويمكن للحكومة أو القطاع الخاص تزويد هذا الصنف من السلع).
[6] العوائد المتزايدة هي حالة خاصة لعدم انحداب سلسلة احتمال الإنتاج.
[7] إني أؤكد كلمة “نظريا” لأنه لا البروفيسور كيرزنر ولا أنا نحاول معالجة البيّنات التجريبية فيما يتعلق بالاداء الحقيقي للأنظمة الاقتصادية المختلفة.
[8] البروفيسور كيرزنر يعترف بدور الحوافز في البحث عن المعرفة. وإني اشير ها هنا إلى حوافز السلوك الكفؤ على ضوء المعرفة المتوفرة.
مجلة كيتو، المجلد 4، رقم 2 (خريف 1984).
© معهد كيتو، منبر الحرية 12 تشرين الثاني 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

المشكلة المطروحة للبحث
تتناول هذه الورقة تلك الممارسات للشركات التي تلحق تأثيرات ضارة بالآخرين. المثال النموذجي لذلك هو مصنع تؤثر الأدخنة المتصاعدة منه على المقيمين في المناطق المجاورة. وتنطلق التحليلات الاقتصادية لحالة كهذه عادة من الاختلاف بين المنتَج الخاص والمنتَج الاجتماعي للمصنع، ويسلك الاقتصاديون في ذلك إلى حد كبير المعالجة التي طرحها بيغو في اقتصاديات الرفاه. ويبدو أن الاستنتاج الذي يقود إليه هذا الضرب من التحليلات معظمَ الاقتصاديين هو أنه قد يكون من المرغوب به جعل مالك المصنع مسؤولاً عن الضرر الذي لحق بمن تأثروا بالدخان، أو، كبديل عن ذلك، فرض ضريبة على صاحب المصنع تتناسب مع كمية الدخان التي يطلقها المصنع ومساوية في قيمتها المالية للضرر الذي قد تسببه، أو أخيراً، عدم السماح بوجود المصنع في مناطق سكنية (ويفترض في أي مناطق أخرى تكون فيها للدخان تأثيرات ضارة على الآخرين). وفي رأيي أن الحلول المطروحة ليست ملائمة من حيث أنها تؤدي لنتائج ليست مرغوبة بالضرورة أو حتى عادةً.
الطبيعة التبادلية للمشكلة
لقد نزعت المقاربة التقليدية لحجب طبيعة الاختيار الذي يجب اللجوء إليه، والسؤال الذي يخطر في البال عادة هو بما أن (أ) يوقع ضرراً على (ب) فما الذي ينبغي فعله؟ كيف ينبغي لنا وضع قيود تضبط ممارسات (أ)؟ ولكن هذا خطأ، فنحن نتعامل مع مشكلة ذات طبيعة تبادلية، فتجنب إلحاق ضرر بـ(ب) سيلحق ضرراً بـ(أ). والسؤال الحقيقي الذي يجب طرحه هو: هل ينبغي لـ(أ) أن يلحق ضرراً بـ(ب) أو ينبغي لـ(ب) أن يلحق ضرراً بـ(أ)؟ المشكلة هي تجنب الضرر الأشد خطورة. لقد ضربت في مقالي السابق مثلاً على قضية صاحب مصنع للحلوى كان الضجيج والاهتزازات الصادرة من آلاته يزعج طبيباً أثناء عمله. تجنب إزعاج الطبيب سيلحق ضرراً بصانع الحلوى. والمشكلة التي تطرحها هذه القضية هي أساساً ما إذا كان سيكون من المجدي، إذا ما قيدنا أساليب الإنتاج التي يستخدمها صانع الحلوى، تأمين بيئة مناسبة للعمل الطبي على حساب تخفيض منتجات الحلوى. هناك مثال آخر توفره مشكلة الماشية الشاردة التي تتلف المحاصيل في الأراضي المجاورة. إذا لم يكن هناك مفر من أن تشرد بعض المواشي فليس بالإمكان تأمين قدر متزايد من اللحوم إلا على حساب انخفاض في المحاصيل الزراعية. إن طبيعة الاختيار واضحة: لحوم أو محاصيل زراعية. والجواب الذي ينبغي تقديمه غير واضح بالطبع إلا إذا عرفنا قيمة ما تم الحصول عليه إضافة إلى قيمة ما ضحينا به للحصول عليه. ومن الأمثلة الأخرى المثال الذي ضربه البروفيسور جورج جيه. ستيجلر حول تلويث جدول الماء. إذا افترضنا أن التأثير الضار للتلوث هو أنه يؤدي إلى نفوق الأسماك فالسؤال الذي يجب طرحه هو: هل قيمة الأسماك المفقودة أكبر أو أقل من قيمة المنتج الذي يؤدي إلى تلويث الجدول؟ غني عن القول تقريباً بأنه ينبغي النظر إلى هذه المشكلة من ناحية كلية ومن هوامشها.
نظام التسعير مع المسؤولية عن الأضرار
أقترح بدء تحليلي بدراسة حالة يفترض أن معظم الاقتصاديين يوافقون على إمكانية حل المشكلة فيها بطريقة مرضية تماماً: عندما يتعين على الجهة المسببة للضرر أن تدفع تعويضاً عن جميع الأضرار اللاحقة بينما يعمل نظام التسعير بسلاسة (هذا يعني بالضبط أن عملية نظام التسعير لا تكلفة لها أبداً).
قضية المواشي الشاردة التي تتلف المحاصيل الزراعية في الأراضي المجاورة توفر مثالاً جيداً للمشكلة المطروحة للبحث. لنفترض أن مزارعاً ومربي ماشية يعملان في ملكيتين متجاورتين، ولنفترض أيضاً أنه، وبحكم عدم وجود سياج بين الملكيتين، فإن زيادة في حجم قطيع مربي المواشي ستؤدي إلى زيادة الأضرار الكلية اللاحقة بمحصول المزارع. الذي يحصل للضرر الهامشي مع زيادة حجم القطيع مسألة أخرى. هذا يعتمد على ما إذا كانت المواشي في القطيع تميل لأن تتبع بعضها بعضاً أم التجوال جنباً إلى جنب، أو ما إذا كانت تميل لكثرة الحركة بازدياد حجم القطيع، وعوامل مماثلة أخرى. ليس ثمة قيمة مادية، للغرض المباشر لبحثي، لأي افتراض يتم الأخذ به بالنسبة للضرر الهامشي الناتج عن زيادة حجم القطيع.
أقترح، تبسيطاً للنقاش، استخدام مثال من الرياضيات. سأفترض أن التكلفة السنوية لإقامة سياج حول أرض المزارع هي 9 دولارات وأن سعر المحصول هو دولار واحد للطن. سأفترض أيضاً بأن العلاقة بين عدد مواشي القطيع والخسارة السنوية للمحصول هي على النحو التالي:

وفي ضوء أن مربي المواشي مسؤول عن الضرر الناتج فإن التكلفة السنوية الإضافية المفروضة على مربي المواشي إذا زاد من حجم قطيعه من رأسين إلى ثلاثة رؤوس هو 3 دولارات، وفي تقرير حجم القطيع يتعين عليه أن يضع هذا في حسابه إلى جانب تكاليفه الأخرى. أي أنه لن يعمد إلى زيادة حجم القطيع ما لم تكن قيمة اللحوم الإضافية التي سينتجها (بافتراض أن مربي الماشية يعدها للذبح) تزيد عن التكاليف الإضافية التي ستتبعها هذه الزيادة بما في ذلك قيمة المحصول الإضافي المُتلف. بالطبع إذا أمكن تقليل التلف باستخدام كلاب أو حراس أو طائرات أو أجهزة اتصالات لا سلكية أو أي وسائل أخرى فإن استخدام هذه الوسائل سيتم عندما تكون كلفتها أقل من قيمة المحصول والتي يجري استخدامها لمنع إتلافه. وفي ضوء أن التكلفة السنوية للسياج تبلغ 9 دولارات، فإن مربي القطيع الذي يرغب في أن يكون لديه قطيع يتكون من أربعة رؤوس أو أكثر من المواشي سيدفع تكاليف بناء وصيانة سياج بافتراض أن استخدام وسائل أخرى لتحقيق نفس الغرض لن تكون أقل تكلفة. عندما تتم إقامة السياج تصبح التكلفة الهامشية الناتجة عن مسؤولية الضرر صفراً باستثناء أن زيادة حجم قطيع المواشي ستتطلب سياجاً أقوى وبالتالي أغلى لأن عدداً أكبر من المواشي سيتدافع عنده في نفس الوقت. بالطبع، قد يكون من الأرخص لمربي المواشي عدم إقامة سياج ودفع تكاليف المحاصيل التالفة طبقاً لما ورد في مثالي الرياضي أعلاه عند استخدامه ثلاثة رؤوس ماشية أو أقل.
قد يتبادر للذهن بأنه طالما أن مربي المواشي سيدفع الأضرار عن جميع المحاصيل التالفة فقد يدفع هذا المزارع إلى زيادة المزروع في أرضه إذا كان مربي المواشي سيحتل الأرض المجاورة له. هذا غير صحيح. فإذا كان من الواضح أن المحصول يباع في ظروف منافسة صحيحة فإن التكلفة الهامشية ستكون مساوية لسعر الكمية المزروعة وأي توسع في الزراعة سيؤدي إلى تخفيض أرباح المزارع. وفي الحالة الجديدة فإن وجود تلف في المحصول سيعني بأن المزارع سيبيع كمية أقل في السوق ولكن إيراداته من محصول معين ستبقى كما هي لأن مربي المواشي سيدفع سعر السوق لأي كمية تالفة من المحصول. بالطبع إذا كان من المتعارف عليه أن تربية المواشي تؤدي إلى إتلاف محاصيل فإن إيجاد صناعة تربية مواشي قد ترفع سعر المحاصيل المعنية مما يجعل المزارعين عندئذ يزيدون من زراعاتهم. إلا أني أريد تركيز انتباهي على المزارع الفرد.
قلت سابقاً أن إشغال أرض مجاورة من قبل مربي مواشي لن يؤدي إلى زيادة كمية إنتاج المزارع، أو ربما لأغراض الدقة، زيادة الكمية المزروعة. الواقع أنه إذا كان لتربية المواشي أي تأثير فسيكون تخفيض الكمية المزروعة. السبب في ذلك أنه، وفي حالة أي قطعة أرض، إذا كانت قيمة المحصول التالف كبيرة بحيث تصبح الواردات من بيع الأجزاء غير التالفة من المحصول أقل من تكلفة مجموع تكاليف زراعة قطعة الأرض، فسيكون من المربح للمزارع ولمربي الماشية أن يعقدا صفقة تبقى فيها قطعة الأرض دون زراعة. يمكن إيضاح ذلك عن طريق مثال من الرياضيات. لنفترض مبدئياً أن قيمة المحصول التي يمكن الحصول عليها من زراعة قطعة أرض ما هي 12 دولاراً وأن التكلفة المترتبة على زراعة هذه القطعة هي 10 دولارات، فيكون الربح الصافي من زراعة الأرض هو دولارين، وسأفترض، لأغراض البساطة، أن المزارع يملك الأرض. لنفترض الآن أن مربي الماشية بدأ بعمله في القطعة المجاورة وأن قيمة المحصول التالف هو دولار واحد. في هذه الحالة يكون صافي ما يحصل عليه المزارع هو 11 دولاراً ثم يحصل على دولار واحد من مربي الماشية تعويضاً عن التلف الحاصل ويبقى الربح الصافي دولارين اثنين.
لنفترض الآن أن مربي الماشية وجد أن من المفيد له زيادة عدد قطيعه، حتى لو ارتفعت قيمة تعويض المحاصيل التالفة لجاره إلى 3 دولارات، وهذا يعني أن قيمة الإنتاج الإضافي من اللحوم يزيد عن التكاليف الإضافية بما في ذلك الدولارين الإضافيين المدفوعين لتعويض المحاصيل التالفة. ولكن مجمل التعويض عن التلف ارتفع الآن إلى 3 دولارات، وبقي الربح الصافي للمزارع نتيجة زراعة أرضه دولارين. سيكون مربي المواشي في وضع أفضل إذا وافق المزارع على عدم زراعة الأرض مقابل أي دفعة تقل عن 3 دولارات، وسيكون المزارع موافقاً على عدم زراعة الأرض مقابل أي دفعة تزيد عن دولارين. من الواضح أن هناك مجالاً لعقد صفقة متبادلة مرضية ستؤدي إلى التخلي عن الزراعة.[1] إلا أن الحجة نفسها تنطبق ليس فقط على زراعة كامل قطعة الأرض من قبل المزارع، بل على زراعة أي جزء منها. لنفترض، مثلاً، أن لقطيع الماشية مساراً محدداً إلى غدير ما أو مكان يستظل فيه. في حالة كهذه ستكون كمية التلف للمحاصيل الواقعة على جانبي هذا المسار كبيرة، وقد يجد كلاً من المزارع ومربي الماشية، تبعاً لذلك، أن من الأنفع لهما أن يعقدا صفقة يوافق المزارع بموجبها على عدم زراعة الأرض.
بيد أن ذلك يثير احتمالاً آخر. لنفترض أن هناك مساراً محدداً تماماً، ولنفترض أيضاً أن قيمة المحصول التي يمكن الحصول عليها من زراعة الأرض ستكون 10 دولارات ولكن تكلفة الزراعة ستكون 11 دولاراً. إذا لم يكن هناك مربي ماشية في الأرض المجاورة فستمرع الأرض خصباً عند زراعتها، أما بوجود مربي الماشية فمن الجائز جداً عند زراعة الأرض أن يتلف المحصول كله من قبل الماشية. في حالة كهذه يتعين على مربي الماشية دفع 10 دولارات للمزارع. صحيح أن المزارع سيخسر بذلك دولاراً، ولكن مربي الماشية سيخسر 10 دولارات. من الواضح أن هذه حالة لا يحتمل لها أن تستمر إلى ما لا نهاية لأن كلا الطرفين لا يرغبان في استمرار ذلك. سيكون هدف المزارع حث مربي الماشية على دفع مبلغ مقابل ترك الأرض دون زراعة. لن يستطيع المزارع الحصول على مبلغ أكبر من تكلفة إقامة سياج حول قطعته ولا مبلغٍ عالٍ جداً تجعل مربي الماشية يتخلى عن استخدام الأرض المجاورة. المبلغ الذي سيتم دفعه فعلاً سيعتمد على مدى براعة المزارع ومربي الماشية كمفاوضين. ولكن وحيث أن المبلغ لن يكون كبيراً بحيث يدفع مربي الماشية للتخلي عن هذا الموقع، وحيث أنه لن يختلف باختلاف حجم القطيع، فإن اتفاقية كهذه لن تؤثر على تخصيص الموارد ولكنها ستعمل فقط على تغيير توزيع الدخل والثروة بين المزارع ومربي الماشية.
أعتقد أن من الواضح أنه إذا كان مربي المواشي متحملاً لمسؤولية التلف الذي تسبب به وعمل نظام التسعير بسلاسة فإن انخفاض قيمة الإنتاج في نواحي أخرى سيؤخذ في الحسبان عند حساب التكلفة الإضافية الناتجة عن زيادة حجم القطيع. ستجري موازنة هذه التكلفة مقابل قيمة الإنتاج الإضافي من اللحوم كما أن تخصيص الموارد لتربية المواشي سيكون مثالياً في ضوء المنافسة المثالية في هذه الصناعة. ما هو بحاجة للتأكيد عليه هو أن انخفاض قيمة الإنتاج في نواحي أخرى والذي سيؤخذ في الحسبان عند احتساب تكاليف مربي المواشي قد يكون أقل بكثير من قيمة التلف الذي قد يسببه قطيع الماشية للمحصول في الأحوال العادية، لأنه قد يكون من المحتمل، نتيجة للتعامل في السوق، التوقف عن زراعة الأرض. هذا أمر مرغوب به في جميع الحالات التي يكون فيها التلف الذي يسببه القطيع والذي سيكون مربي القطيع مستعداً لدفع تعويض عنه، أكبر من المبلغ الذي سيدفعه المزارع لاستخدام الأرض.
في ظروف المنافسة المثالية تكون القيمة التي سيدفعها المزارع لاستخدام الأرض مساوية للفرق بين القيمة الكلية للإنتاج عند استخدام العوامل على هذه الأرض وقيمة المنتج الإضافي المتحصلة في أفضل استخدام مقبل لهما (وهو المبلغ الذي سيدفعه المزارع من أجل العوامل). إذا تجاوز التلف المبلغ الذي سيدفعه المزارع لاستخدام الأرض فإن قيمة المنتج الإضافي للعوامل المستخدمة في نواحي أخرى ستتجاوز القيمة الكلية للمنتج في هذا الاستخدام بعد احتساب قيمة التلف. يترتب على ذلك أنه قد يكون من المرغوب به التخلي عن زراعة الأرض وتوجيه العوامل المستخدمة في الإنتاج إلى أماكن أخرى.
إن إجراءات تتوخى فقط دفع تعويض عن تلف المحصول بسبب المواشي ولكن دون تفكير في إمكانية وقف الزراعة ستؤدي إلى استخدام ضئيل جداً لعوامل الإنتاج في تربية المواشي واستخدام كبير جداً لعوامل تربية المواشي. ولكن في ضوء احتمالات تعاملات السوق فلن تصمد حالة يتجاوز فيها تلف المحصول قيمة إيجار الأرض. سواءً دفع مربي المواشي للمزارع لترك الأرض دون زراعة أو قام هو نفسه باستئجار الأرض (إذا كان المزارع نفسه هو مستأجر الأرض)، فالنتيجة النهائية ستكون هي نفسها وسترفع قيمة الإنتاج للحد الأقصى. حتى عندما يكون هناك حافز لدى المزارع لزراعة محاصيل ليست زراعتها مربحة عند البيع في السوق فإن ذلك سيكون ظاهرة قصيرة المدى فقط وربما يكون متوقعاً منها أن تؤدي إلى اتفاقية يتم بموجبها التوقف عن الزراعة. سيبقى مربي المواشي في ذلك الموقع وستكون التكلفة الهامشية لإنتاج اللحوم هي نفسها كما كانت من قبل، وبذلك لا يكون لها أثر طويل المدى على تخصيص الموارد.
نظام التسعير دون مسؤولية عن الضرر
أعود الآن إلى الحالة التي، برغم أن نظام التسعير يعمل بسلاسة (أي دون تكاليف)، تكون فيها الجهة المسببة للضرر غير مسؤولة عن أي ضرر تسبب فيه. جهة كهذه ليست مسؤولة عن دفع تعويضات للمتضررين من نشاطاتها. أقترح بأن أعرض بأن تخصيص الموارد في هذه الحالة سيكون هو نفسه في الحالة التي تكون فيها الجهة المسببة للضرر مسؤولة عن الضرر الحاصل. وحيث أني بينت في الحالة السابقة بأن تخصيص الموارد كان مثالياً فلن يكون من الضروري إعادة الحديث في هذا الجزء من النقاش.
أعود إلى حالة المزارع ومربي المواشي. يعاني المزارع من مزيد من التلف لمحصول كلما ازداد حجم القطيع. لنفرض أن حجم قطيع مربي المواشي هو ثلاثة رؤوس (وهذا هو حجم القطيع الذي يجب عدم تجاوزه إذا لم يكن تلف المحصول سيؤخذ في الحسبان). في هذه الحالة سيكون المزارع مستعداً لدفع 3 دولارات إذا خفض مربي المواشي قطيعه إلى رأسين ولغاية 5 دولارات إذا أبقى رأساً واحداً وسيدفع 6 دولارات إذا تخلى مربي المواشي عن هذا النشاط تماماً. تبعاً لذلك فإن مربي المواشي سيتلقى 3 دولارات من المزارع إذا أبقى رأسين فقط في قطيعه بدلاً من ثلاثة رؤوس. هذه الثلاثة دولارات إذن هي جزء من تكاليف إبقاء الرأس الثالث. سواءً كانت الدولارات الثلاث هي مبلغ يتعين على مربي المواشي دفعه إذا أضاف رأساً ثالثاً إلى قطيعه (وهو ما سيحدث إذا كان مسؤولاً تجاه المزارع عن الضرر الواقع على المحصول) أو كانت مبلغاً سيتلقاه إذا لم يحتفظ برأس ثالث (وهو ما سيحدث إذا لم يكن مربي المواشي مسؤولاً تجاه المزارع عن الضرر الواقع على المحصول) فإن النتيجة النهائية لن تتأثر. في كلا الحالتين تكون الدولارات الثلاث هي جزء من تكلفة إضافة رأس ثالث من ضمن التكاليف الأخرى. إذا كانت الزيادة في قيمة الإنتاج من تربية المواشي عن طريق زيادة حجم القطيع من رأسين إلى ثلاثة رؤوس أكبر من التكاليف الإضافية التي سيتم تحملها (بما في ذلك 3 دولارات مقابل الضرر)، فإن حجم القطيع سيزداد. والعكس بالعكس. حجم القطيع سيبقى هو نفسه سواءً كان مربي المواشي مسؤولاً عن ضرر المحصول أم لا.
قد يحاجج البعض بأن نقطة البدء المفترضة—قطيع من ثلاثة رؤوس—هي نقطة جدلية، وهذا صحيح. ولكن المزارع لن يكون مستعداً لدفع أي مبلغ لتجنب تلف المحصول إذا لم يكن بوسع مربي المواشي التسبب في هذا التلف. على سبيل المثال، المبلغ الأقصى الذي قد يمكن حفز المزارع على دفعه سنوياً لا يمكن أن يتجاوز 9 دولارات، وهي قيمة التكلفة السنوية لإنشاء سياج. ولن يكون المزارع مستعداً لدفع هذا المبلغ إذا كان من شأنه خفض أرباحه إلى مستوى يجعله يتخلى عن زراعة قطعة الأرض هذه بالذات. زيادة على ذلك فإن المزارع لن يكون مستعداً لدفع هذا المبلغ إلا إذا كان مقتنعاً بأنه إذا لم يدفع أي مبلغ، فإن حجم القطيع الذي سيحتفظ به مربي المواشي سيكون أربعة رؤوس أو أكثر.
لنفرض أن هذا هو واقع الحال، وعليه فسيكون المزارع مستعداً لدفع ما يصل إلى 3 دولارات إذا خفض مربي المواشي عدد القطيع إلى ثلاثة رؤوس، ولغاية 6 دولارات إذا خفضه إلى رأسين ولغاية 8 دولارات إذا خفضه إلى رأس واحد ولغاية 9 دولارات إذا تم التخلي عن مشروع تربية المواشي. يلاحظ أن التغيير في نقطة البدء لم تغير من قيمة المبلغ الذي سيتوفر لمربي المواشي إذا خفض قطيعه إلى أي عدد. صحيح أن مربي المواشي يستطيع تلقي 3 دولارات إضافية من المزارع إذا وافق على تخفيض عدد مواشي قطيعه من ثلاثة رؤوس إلى رأسين وأن هذه الدولارات الثلاثة تمثل قيمة المحصول الذي سيتلف في حالة إضافة رأس ثالث للقطيع. ورغم أن قناعة مختلفة من جانب المزارع (سواءً كانت مبررة أم لا) حول حجم القطيع الذي سيحتفظ به مربي المواشي إذا لم يدفع له مقابل ذلك قد تؤثر على المبلغ الكلي الذي يمكن حفزه لدفعه، فليس صحيحاً أن هذه القناعة المختلفة سيكون لها أي تأثير على حجم القطيع الذي سيحتفظ به مربي الماشية فعلاً. سيكون هذا نفس الشيء إذا ما كان على مربي الماشية أن يدفع تعويضاً عن التلف الذي تسبب فيه قطيعه، حيث أن دفعة سابقة من مبلغ معين تساوي مبلغاً بنفس القيمة.
قد يخطر في البال أنه ربما كان في صالح مربي المواشي زيادة عدد رؤوس قطيعه عن الحجم الذي يريده بعد أن يكون قد تم التوصل إلى صفقة معينة لكي يحفز المزارع على دفع مبلغ أكبر. قد يكون هذا صحيحاً، ويماثل في طبيعته سلوك المزارع (عندما كان مربي المواشي مسؤولاً عن الضرر) في زراعة الأرض التي، وفقاً لاتفاق مع مربي المواشي، كان سيتم التوقف عن زراعتها (بما في ذلك الأرض التي لن تزرع أبداً في غياب تربية المواشي). ولكن مناورات كهذه إنما هي تمهيد لاتفاق ولا تؤثر على حالة التوازن القائمة منذ وقت طويل، وهي ذاتها سواءً كان مربي المواشي مسوؤلاً عن الضرر الذي توقعه مواشيه على المحصول أم لا.
من الضروري معرفة ما إذا كانت الجهة المسببة للضرر مسؤولة أم لا عن الضرر الناتج حيث أنه دون التحقق من هذا التحديد الأولي للحقوق فلن يكون هناك تعاملات ملحوظة لنقلها وإعادة جمعها. ولكن النتيجة النهائية (التي تعظم قيمة الإنتاج) تعتمد على الوضع القانوني إذا كان لنظام التسعير أن يعمل دون تكلفة.
إحتساب تكلفة معاملات السوق

وصل النقاش إلى هذه النقطة على افتراض أنه لم تكن هناك تكاليف تَدْخل في إجراء تعاملات في السوق. هذا، بالطبع، افتراض غير واقعي للغاية، فلكي يتم إجراء تعامل في السوق فمن الضروري معرفة من هو الشخص الذي ستتعامل معه وجعل الناس يعرفون بأنك ترغب في التعامل وبأي شروط، وإجراء مفاوضات تؤدي إلى عقد صفقة، وكتابة العقد وإجراء التدقيق الضروري للتأكد من الالتزام بشروط العقد وما إلى ذلك. هذه العمليات مكلفة جداً غالباً، ومكلفة بما فيه الكفاية على أي حال لدرجة إحباط عدة تعاملات كان يمكن أن تتم في عالم بنظام تسعير دون تكلفة.
عندما تناولنا، في فصول سابقة، مشكلة إعادة ترتيب الحقوق القانونية من خلال السوق، ذكرنا بأن إعادة ترتيبٍ كهذه ستتم من خلال السوق كلما كان من شأن ذلك أن يؤدي إلى زيادة قيمة الإنتاج. ولكن ذلك كان يفترض تعاملات في السوق دون تكلفة. ما أن تؤخذ تكاليف تنفيذ التعاملات في السوق في الحسبان حتى يصبح من الواضح أن إعادة ترتيب كهذه للحقوق لا يمكن أن تتم إلا عندما تصبح الزيادة في قيمة الإنتاج المترتبة على إعادة الترتيب أكبر من التكاليف التي تتطلبها الزيادة. إذا كانت أقل من التكاليف، فإن إصدار أمر قضائي (أو العلم بأنه سيصدر) أو مسؤولية دفع تعويضات عن الأضرار قد تؤدي إلى وقف نشاط ما (أو منع الشروع به) وهو النشاط الذي كان سيتم لو كانت تعاملات السوق دون تكلفة. في حالات كهذه يكون للتحديدات الأولية للحقوق القانونية تأثر على الكفاءة التي يعمل بها النظام الاقتصادي. فقد يؤدي أحد ترتيبات الحقوق إلى قيمة أكبر في الإنتاج من ترتيب آخر، ولكن ما لم يكن ذلك هو ترتيب الحقوق المقرر من قبل الجهاز القضائي، فإن تكاليف الوصول إلى نفس النتيجة عن طريق تبديل ودمج الحقوق من خلال السوق قد تكون كبيرة لدرجة تجعل من المحتمل عدم تحقيق هذه الترتيبات المثالية للحقوق والقيمة الأكبر في الإنتاج التي ستنشأ عنها. سنبحث في الفصل القادم الجزء المتعلق بالاعتبارات الاقتصادية في عملية تحديد الحقوق القانونية. أما في هذا الفصل فسأتناول التحديد الأولي للحقوق وتكاليف تنفيذ تعاملات السوق حسب الواقع.
من الواضح أن شكلاً بديلاً من النظام الاقتصادي الذي قد يحقق نفس النتائج بتكلفة أقل مما قد يتم تكبده باستخدام السوق سوف يؤدي إلى رفع قيمة الإنتاج. وكما وضحت قبل سنوات عديدة، فإن الشركة تمثل بديلاً كهذا لنظام الإنتاج عن طريق تعاملات السوق. داخل الشركة يتم وقف الصفقات الفردية بين مختلف العوامل المتعاونة في الإنتاج ويتم العمل بقرارات إدارية بدلاً من تعاملات السوق. بعد ذلك تجري إعادة ترتيب الإنتاج دون الحاجة لصفقات بين من يملكون عوامل الإنتاج. قد يكرس مالك يشرف على قطعة كبيرة من الأرض أرضه لاستخدامات متنوعة واضعاً في اعتباره تأثير التداخلات المتشابكة لمختلف النشاطات على الإيرادات الصافية للأرض وبذلك يجعل الصفقات بين من يقومون بالنشاطات المتنوعة مسألة غير ضرورية. إن مالكي بناية كبيرة أو عدة ملكيات متجاورة في منطقة معينة قد يتصرفون بنفس الطريقة. في النتيجة تحصل الشركة على الحقوق القانونية لجميع الأطراف ولا تتبع إعادة ترتيب النشاطات مسار إعادة ترتيب حقوق بموجب عقد بل نتيجة لقرار إداري يحدد كيفية استخدام الحقوق.
لا يعني ذلك، بالطبع، أن التكاليف الإدارية لتنظيم معاملة ما عن طريق شركة هي حتماً أقل من تكاليف تعاملات السوق التي تم إلغاؤها. إلا أنه عندما يكون من الصعب بصورة غير طبيعية صياغة العقود وأن تؤدي محاولة وصف ما اتفق أو لم يتفق عليه الأطراف (مثلاً كمية ونوع الرائحة والضجيج التي قد يحدثوه أو لا يحدثوه) إلى ضرورة إعداد وثيقة مطولة وعميقة التخصص، وعندما يكون من المرغوب به إعداد عقد طويل الأجل، كما هو مرجح، فليس مما يبعث على الدهشة ألا يكون بروز شركة أو تحديد نشاطات شركة قائمة حالياً هو الحل الذي يتم تبنيه في حالات عديدة للتعامل مع مشكلة التأثيرات الضارة. قد يتم تبني هذا الحل كلما كانت التكاليف الإدارية للشركة أقل من تكاليف تعاملات السوق التي ألغتها وكانت المكاسب الناجمة عن إعادة ترتيب النشاطات أكبر من تكاليف الشركة في تنظيمها. لا أحتاج للتوسع في فحص طبيعة هذا الحل حيث أني كنت قد شرحت ما ينطوي عليه في مقال سابق.
ولكن الشركة ليست هي الإجابة الممكنة الوحيدة على هذه المشكلة. فقد تكون التكاليف الإدارية لتنظيم التعاملات ضمن الشركة مرتفعة أيضاً خصوصاً عندما توضع عدة نشاطات مختلفة تحت سيطرة مؤسسة واحدة. في الحالة القياسية لإزعاجٍ ناجم عن الدخان، والذي قد يؤثر على عدد كبير من الناس يمارسون نشاطات مختلفة، فإن التكاليف الإدارية قد تكون عالية جداً بحيث تجعل من المستحيل أن ينحصر التعامل مع المشكلة في شركة واحدة. وأحد الحلول البديلة هو تدخل تنظيمي حكومي مباشر، فبدلاً من إيجاد تنظيم قانوني للحقوق يمكن تعديله بتعاملات في السوق، تستطيع الحكومة فرض أنظمة تنص على ما يجب فعله أو عدم فعله ووجوب إطاعة هذه الأنظمة. تبعاً لذلك، تستطيع الحكومة (بموجب نص قانوني أو على الأغلب عن طريق ترتيبات إدارية)، ومن أجل التعامل مع مشكلة التلوث الدخاني، أن تصدر مرسوماً مفاده السماح أو عدم السماح باستخدام وسائل إنتاج معينة (مثلاً، وجوب تركيب أجهزة منع انبعاث دخان أو عدم استخدام الفحم أو البترول) أو قد تحصر ترخيص نشاطات معينة في مناطق محددة (تنظيم مناطق).
الحكومة هي، على نحو ما، شركة كبيرة (ولكن من نوع خاص جداً) لأنها قادرة على التأثير على عوامل الإنتاج من خلال قرارات إدارية. إلا أن الشركة العادية تخضع لتدقيق عملياتها بسبب منافسة الشركات الأخرى والتي تستطيع إدارة نفس النشاطات بتكلفة أقل، وأيضاً بسبب أن هناك دائماً بديلاً هو تعاملات السوق مقابل التنظيم داخل الشركة إذا أصبحت التكاليف الإدارية كبيرة جداً. تستطيع الحكومة، إذا شاءت، تجنب السوق كلياً، وذلك ما لا تستطيعه الشركات أبداً. الشركات يتعين عليها عقد اتفاقيات سوق مع ملاك عناصر الإنتاج التي تستخدمها، بينما تستطيع الحكومة اللجوء إلى المصادرة والاستملاك وتستطيع أن تأمر بأن استخدام عوامل الإنتاج يجب أن تستخدم فقط بهذه الطريقة أو تلك. الأساليب السلطوية كهذه تخفف كثيراً من المشاكل (بالنسبة لمن يقومون بالتنظيم). إضافة لذلك، فَتَحْت تصرف الحكومة شرطة وأجهزة أخرى لتنفيذ القوانين والتأكد من تطبيق الأنظمة التي تصدرها.
من الواضح أن لدى الحكومة سلطات تمكنها من إنجاز أشياء بتكلفة أقل من المؤسسات الخاصة (أو على أية حال أي مؤسسة ليس لديها سلطات حكومية). إلا أن الجهاز الإداري للحكومة ليس مجانياً، بل الواقع أنه قد يكون باهظ التكلفة أحياناً. زيادة على ذلك فليس هناك سبب للافتراض بأن الأنظمة المحددة وأنظمة تحديد المناطق التي تضعها إدارة قابلة للوقوع في الخطأ وتتعرض لضغوط سياسية وتعمل دون تدقيق منافس ستكون دائماً وبالضرورة هي الأنظمة التي تزيد الكفاءة التي تعمل بها الأجهزة الاقتصادية. إضافة لذلك فإن أنظمة عامة كهذه والتي يجب تطبيقها على حالات متنوعة واسعة سيجري تطبيقها أحياناً في حالات من الواضح أنها غير مناسبة لها. بناءً على هذه الاعتبارات يمكن القول بأن التنظيم الحكومي المباشر لا يؤدي بالضرورة إلى نتائج أفضل من ترك المشكلة للحل بأدوات السوق أو الشركة. بيد أنه يمكن القول وبدرجة متساوية أنه ليس هناك سبب لأن لا يؤدي تنظيم حكومي مباشر كهذا، في بعض الأحيان، إلى تحسن الكفاءة الاقتصادية. يبدو ذلك محتملاً غالباً عندما يطال التأثير عدداً كبيراً من الناس، كما يحدث عادة في مثال الإزعاج الناجم عن الدخان، وحيث، تبعاً لذلك، قد تكون تكلفة معالجة المشكلة، عن طريق السوق أو عن طريق شركة، تكلفة عالية.
هناك، بالطبع، بديل آخر، لا علاقة له بالمشكلة على الإطلاق. وفي ضوء أن تكاليف حل المشكلة عن طريق أنظمة يصدرها الجهاز الإداري الحكومي ستكون مرتفعة غالباً (خصوصاً إذا كان مفهوم التكاليف يشمل جميع العواقب الناجمة عن انشغال الحكومة في هذا النوع من النشاط) فما لا شك فيه أن النتيجة ستكون هي الحالة المتعارف عليها وهي أن المكسب الذي سيتحقق عن طريق تنظيم الأعمال المنتجة للتأثيرات الضارة سيكون أقل من التكاليف التي تتحملها الحكومة في عملية التنظيم.
إن بحث مشكلة التأثيرات الضارة في هذا الفصل (حيث تؤخذ في الحسبان تكاليف تعاملات السوق) قاصر للغاية، ولكنه قد أوضح على الأقل بأن المشكلة هي مشكلة اختيار الترتيب الاجتماعي الملائم للتعامل مع التأثيرات الضارة. هناك تكلفة لجميع الحلول وليس هناك ما يدعو للافتراض بأن الدعوة لتنظيم حكومي تأتي ببساطة لأن السوق أو الشركة لا يستطيعان معالجة المشكلة بطريقة جيدة. لا يمكن التوصل إلى آراء مرضية حول السياسة الضرورية إلا من خلال دراسة متأنية حول الكيفية التي تعالج بها عملياً الأسواق أو الشركات أو الحكومات مشكلة التأثيرات الضارة. يتعين على الاقتصاديين دراسة أسلوب عمل الوسيط في جميع الأطراف معاً، وفعالية التعليمات المقيِّدة، ومشاكل شركات تطوير العقارات الواسعة، وعمليات تخصيص المناطق من قبل الحكومات، والنشاطات التنظيمية الأخرى. في اعتقادي أن الاقتصاديين ومقرري السياسات بشكل عام يميلون للمبالغة في تقدير الفوائد الناجمة عن التنظيم الحكومي. ولكن هذه القناعة، حتى لو كانت مبررة، لا تعدو أن توحي بأن من الضروري تقليص التنظيم الحكومي. إنها لا تبين لنا أين نضع الحدود الفاصلة، ويبدو أن هذا ينبغي أن يأتي عن طريق دراسة مفصلة للنتائج الفعلية لمعالجة المشكلة بطرق عدة. ولكن سيكون من سوء الحظ أن تتم هذه الدراسة بالاستعانة بتحليل اقتصادي خاطئ. الهدف من هذا المقال هو الإشارة إلى ما ينبغي أن تكون عليه المقاربة الاقتصادية لهذه المشكلة.
التحديد القانوني للحقوق والمشكلة الاقتصادية
بالطبع، لو لم تكن هناك تكلفة لتعاملات السوق، فكل ما يهم (بمعزل عن الأسئلة المتعلقة بالإنصاف) هو ضرورة تحديد حقوق الأطراف المختلفة بوضوح وأن يكون من السهل التنبؤ بنتائج الإجراءات القانونية. ولكن، وكما رأينا، فالموقف مختلف تماماً عندما تكون تعاملات السوق مكلفة للغاية بحيث يصبح من الصعب تغيير ترتيبات الحقوق كما حددها القانون. في حالات كهذه فإن المحاكم تؤثر مباشرة على النشاط الاقتصادي. تبعاً لذلك يبدو من المرغوب فيه أن تفهم المحاكم العواقب الاقتصادية لقراراتها وعليها أن تأخذ هذه العواقب في اعتبارها عندما تصدر قراراتها، طالما كان ذلك ممكناً دون خلق الكثير من الشك في الوضع القانوني نفسه. حتى عندما يكون من الممكن تغيير التحديدات القانونية للحقوق من خلال تعاملات السوق فمن الواضح أن من المرغوب به تقليل الحاجة لتعاملات كهذه وبالتالي تخفيض استخدام المصادر المطلوبة لتنفيذها.
إن دراسة شاملة للافتراضات المسبقة للمحاكم في النظر في قضايا كهذه ستكون في غاية الأهمية ولكنني لم أتمكن من محاولة البدء بذلك. مع ذلك فمن الواضح من خلال دراسة سريعة أن المحاكم قد أدركت غالباً الأبعاد الاقتصادية لقراراتها وأنها تعي (بأكثر من العديد من الاقتصاديين) الطبيعة التبادلية للمشكلة. إضافة لذلك فإن المحاكم تأخذ، بين حين وآخر، هذه الأبعاد الاقتصادية في الاعتبار إلى جانب عوامل أخرى عند اتخاذ قراراتها. الكتّاب الأمريكيون المختصون في هذا المجال يشيرون إلى السؤال بطريقة أكثر وضوحاً من الكتّاب البريطانيين. من هنا، واقتباساً من عالم الاقتصاد بوزنر عن الجنح، يمكن لشخص ما استخدام أملاكه الخاصة أو ممارسة أعماله الخاصة على حساب بعض الإزعاج لجيرانه. يمكن له تشغيل مصنع ينتج عن دخانه وضجيجه بعض الإزعاج للآخرين طالما أن ذلك يتم في حدود معقولة. فقط عندما تصبح الممارسات غير معقولة—في ضوء طبيعة استخداماته والضرر الناتج عنها—يصح اعتبارها مؤذية. كما قيل في قضية قديمة حول صناعة الشموع في إحدى المدن الصغيرة (فائدة الشيء تغطي على وجود الرائحة الكريهة): يجب أن يكون هناك في العالم مصانع، ومعامل صهر، ومصافي بترول وآلات تُصدر ضجيجاً وانفجارات حتى لو كان ذلك على حساب بعض الإزعاج لأولئك الذين يعيشون في الضواحي المحيطة وقد يطلب من المدعي قبول بعض الإزعاج المعقول من أجل الصالح العام.
لا يوضح عامة الكتّاب البريطانيين على هذا النحو بأن مقارنةً بين المنفعة والضرر الناتج تعتبر عنصراً في تقرير ما إذا كانت التأثيرات الضارة تعتبر مؤذية. إلا أنه يمكن العثور على وجهات نظر مماثلة وإن كان التعبير عنها أقل حدة. المبدأ القائل بأن التأثير الضار يجب أن يكون ملموساً قبل أن تتدخل المحكمة، يعكس جزئياً، دون شك، حقيقة أنه سيكون هناك دائماً تقريباً نوع من المكسب يوازن الضرر. ومن الواضح في تقارير قضايا الأفراد أن القضاة قد أخذوا في اعتبارهم الخسارة مقابل الربح عندما يقررون توجيه إنذار أو الحكم بتعويضات.
المشكلة التي نواجهها في التعامل مع تصرفات ذات تأثيرات ضارة ليست ببساطة مشكلة تقييد أولئك المسؤولين عنها. ما يجب اتخاذ قرار بصدده هو ما إذا كان المكسب من منع الضرر أكبر من الخسارة التي قد تلتحق بآخرين نتيجة لوقف العمل المنتج للضرر. في عالم توجد فيه تكاليف لإعادة ترتيب الحقوق التي أوجدها النظام القضائي، تقوم المحاكم فعلياً في القضايا المتعلقة بالإزعاج والأذى باتخاذ قرارات حول المشاكل الاقتصادية وتقرر كيفية استخدام الموارد. قيل بأن المحاكم تدرك ذلك وأنها غالباً ما تجري مقارنة، ولكن ليس بطريقة واضحة تماماً، بين الكسب الذي قد يتحقق والخسارة التي قد تحدث في حالة منع أعمال ذات تأثيرات ضارة. ولكن تحديد الحقوق جاء أيضاً لسن قوانين، وهنا نجد أيضاً دليلاً على تقدير الطبيعة التبادلية للمشكلة. وفي حين أن القوانين التشريعية تضاف إلى قائمة المزعجات، يتم استحداث قوانين للسماح قانوناً بأعمال قد يمكن اعتبارها إزعاجاً ضمن الأعراف والتقاليد. إن نوع الحالة التي قد يُطلب من الاقتصاديين النظر في ضرورة إيجاد تشريع حكومي تصحيحي لها هي، في الواقع، غالباً ما تكون قد برزت نتيجة لعمل حكومي. عمل كهذا ليس غير حكيم بالضرورة، ولكن هناك خطراً حقيقياً في أن تدخلاً حكومياً ممتداً في الشأن الاقتصادي قد يؤدي إلى حماية أكثر مما ينبغي للمسؤولين عن إنتاج التأثيرات الضارة.
معالجة بيغو في “اقتصاديات الرفاه”

رأس النبع في التحليل الاقتصادي الحديث للمشكلة المطروحة للبحث في هذا المقال هو كتاب بيغو:اقتصاديات الرفاه، وخصوصاً ذلك الفصل من الجزء الثاني الذي يتناول الاختلاف بين المنتجات النهائية على المستوى الخاص والمستوى الاجتماعي التي تحدث لأن فرداً (أ) في سياق تقديمه خدمة ما، مدفوعة الأجر، لشخص آخر (ب) يقدم أيضاً ودون قصد خدمات أو يلحق ضرراً لأشخاص آخرين (ليسوا منتجين لخدمات مماثلة) بطريقة تجعل من غير الممكن تقاضي الثمن من الأطراف المستفيدة أو تفرض تعويضاً نيابة عن الأطراف المتضررة. يقول لنا بيغو أن هدفه في الجزء الثاني من اقتصاديات الرفاه هو التأكد من المدى الذي تميل فيه حرية التصرف في سبيل المصلحة الذاتية، ضمن النظام القانوني الحالي، إلى توزيع موارد البلاد بأفضل طريقة مناسبة لإنتاج عائدات قومية كبيرة وإلى أي مدى تفيد إجراءات الدولة في إدخال تحسينات على الميول “الطبيعية”.
إذا أردنا الحكم على الأمر من الجزء الأول لهذا النص نجد أن قصد بيغو هو اكتشاف ما إذا كان بالإمكان إدخال أي تحسينات على الترتيبات القائمة حالياً التي تحدد استخدام الموارد. وحيث أن استنتاج بيغو هو أن بالإمكان إدخال تحسينات فربما كان المرء يتوقع منه الاستمرار بالقول بأنه يقترح عرض التغييرات المطلوبة لإيجاد هذه التحسينات. عوضاً عن ذلك فإن بيغو يضيف عبارة تضع الميول “الطبيعية” في تناقض مع إجراءات الدولة، والتي يبدو أنها تساوي على نحو ما بين الترتيبات الحالية والميول “الطبيعية” والإيحاء بأن المطلوب لإيجاد هذه التحسينات هو الإجراءات الحكومية (إذا كانت مجدية). هذا هو تقريباً موقف بيغو كما يستدل من الفصل الأول من الجزء الثاني.
يبدأ بيغو بالإشارة إلى “الأتباع المتفائلون للاقتصاديين التقليديين” الذين حاججوا بأنه يمكن تعظيم قيمة الإنتاج إذا امتنعت الحكومة عن أي تدخل في النظام الاقتصادي والترتيبات الاقتصادية إذا كانت تجري بصورة “طبيعية”. ويمضي بيغو إلى القول أنه إذا كانت المصلحة الذاتية تروج الرفاه الاقتصادي فذلك لأن المؤسسات الإنسانية قد صممت لهذه الغاية. (هذا الجزء من محاججة بيغو، والذي طورها باقتباس من كارمان، يبدو لي صحيحاً). وينتهي بيغو إلى أنه:
“حتى في أشد الحالات تقدماً هناك قصور وأخطاء… عوائق عديدة تمنع من توزيع موارد المجتمع… بأقصى قدر من الكفاءة. دراسة هذه العوائق هي مشكلتنا الحالية… وأغراضها بصورة أساسية هي أغراض عملية، فهي تسعى إلى إيضاح بعض السبل التي تجعل من المجدي الآن أو قد يصبح من المجدي في نهاية المطاف للحكومات أن تسيطر على حركات القوى الاقتصادية بطريقة حكيمة لتشجيع الرفاه الاقتصادي، ومن خلاله، الرفاه الكلي، لمواطنيها جميعاً”.
يبدو أن فكرة بيغو الأساسية هي: حاجَجَ البعض بأنه لا حاجة لأي إجراء حكومي، ولكن النظام عمل بهذه الجودة بسبب الإجراءات الحكومية. مع ذلك فلا زال هناك أخطاء. ما هو الإجراء الحكومي الإضافي المطلوب؟ إذا كان هذا تلخيصاً صحيحاً لموقف بيغو، فإن العيب فيه يمكن إيضاحه عن طريق فحص المثال الأول الذي قدمه حول الفرق بين المنتجات الخاصة والمنتجات الاجتماعية. قد يحدث… أن تُلقى تكاليفٌ على أناسٍ ليسوا معنيين بالموضوع بصورة مباشرة، فلنقل، أضرارٌ دون تعويض لحقت بالغابات المجاورة بسبب نيران اندلعت من محركات قاطرات. جميع هذه التأثيرات ينبغي أن تكون مشمولة، بعضها سيكون إيجابياً وبعضها عناصر سلبية—في تقدير الناتج الاجتماعي الصافي من الزيادة الهامشية لأي حجم من الموارد تم تحويلها لأي استخدام أو أي مكان.
المثال المستخدم من قبل بيغو يشير إلى حالة حقيقية. ففي بريطانيا لا يتعين على هيئة السكك الحديدية عادة تعويض الذين يتعرضون لأضرار من النيران الناتجة عن شرر انطلق من محرك. أفهم توصيات بيغو في السياسة التي يجب انتهاجها في ضوء ما يقوله في الفصل التاسع من الجزء الثاني: أولاً، أنه يجب أن يكون هناك إجراء حكومي لتصحيح هذه الحالة “الطبيعية”، وثانياً أنه يجب إرغام هيئة السكك الحديدية على تعويض أولئك الذين تحرق غاباتهم. إذا كان هذا تفسيراً صحيحاً لموقف بيغو فأود القول بأن التوصية الأولى تستند إلى سوء فهم للحقائق وأن التوصية الثانية ليست أمراً مرغوباً به بالضرورة.
لندرس الآن الوضع القانوني. تحت عنوان “شررٌ من محركات” نجد ما يلي في القوانين الإنجليزية لهالسبوري:
“إذا استخدم القائمون على السكك الحديدية محركات بخارية في النقل على سككهم الحديدية دون سلطة قانونية لفعل ذلك فسيكونون مسؤولين، بغض النظر عن أي إهمال من جانبهم، عن النيران المشتعلة بسبب شررٍ انطلق من المحركات. إلا أن القائمين على السكك الحديدية لديهم صلاحيات تشريعية لاستخدام المحركات البخارية على سككهم الحديدية؛ وبناءً عليه، فإذا تم صنع محرك باستخدام الاحتياطات التي يقترحها العمل ضد النيران وتم استخدام هذا المحرك دون إهمال، فإنهم لا يكونون مسؤولين بموجب الأعراف والتقاليد عن أي ضرر قد يحدث بفعل الشرر… القائمون على السكك الحديدية ملزمون عند صناعة المحرك باستخدام جميع الاكتشافات التي وضعها العلم ضمن إمكانياتهم في سبيل تجنب إحداث أضرار، شريطة أن تكون هذه الاكتشافات معقولة بحيث تجعل الشركة تتبناها، مع إيلاء اهتمام مناسب لاحتمالات وقوع الضرر وللتكلفة وقابلية الإصلاح؛ ولكن لا يعتبر إهمالاً من جانب المسؤول في السكك الحديدية إذا رفض استخدام أجهزة أو أدوات مشكوك في كفاءتها وملائمتها. هناك استثناء لهذه القاعدة العامة ينطلق من قانون السكك الحديدية (النيران) لعام 1905 وتعديلاته عام 1923. وهذا يختص بالأراضي الزراعية أو المحاصيل الزراعية”.
في حالة كهذه فإن حقيقة أن المحرك قد تم استخدامه بموجب سلطات تشريعية لا يؤثر على مسؤولية الشركة في دعوى للتعويض عن الأضرار. بيد أن هذه المواد تنطبق فقط على الحالة التي لا تتجاوز فيها دعوى الضرر 200 جنيهاً [100 في قانون 1905] وحيث ينبغي أن تكون هناك مذكرة خطية عن حدوث الحريق والنية في المطالبة بتعويض قد تم إرسالهما إلى الشركة خلال سبعة أيام من وقوع الأضرار مع بيان مفردات الأضرار خطياً وبيان قيمة الدعوة على أن لا يتجاوز المبلغ 200 جنيهاً وأن ترسل المطالبة إلى الشركة خلال واحد وعشرين يوماً.
الأرض الزراعية لا تشمل الأرض الرعوية أو المباني، والمحاصيل الزراعية لا تشمل تلك التي تنقل بعيداً أو يجري تكديسها. لم أقم بدراسة عن كثب للتاريخ البرلماني لهذا الاستثناء القانوني، ولكن من الاطلاع على النقاشات في مجلس العموم خلال عامي 1922 و1923 يتضح بأن هذا الاستثناء قد تم تصميمه على الأرجح لصالح صغار الملاّك.
لنعد إلى مثال بيغو حول الأضرار غير المعوض عنها للغابات المجاورة التي نتجت عن شرر انطلق من محركات القطارات الحديدية. يفترض أن القصد من ذلك هو بيان كيف أن من الممكن “لإجراءات الحكومة أن تحسّن الميول [الطبيعية]”. إذا تعاملنا مع مثال بيغو باعتباره إشارة للوضع قبل عام 1905 أو باعتباره مثالاً جدلياً (من حيث أنه كان بإمكانه أن يكتب “بنايات مجاورة” بدلاً من “غابات مجاورة”) فعندئذ يصبح جلياً أن السبب في عدم دفع تعويض لا بد أن يكون أنه كان لسكك الحديد سلطة قانونية تخولها تسيير قطارات بخارية (والتي أعفتها من المسؤولية عن النيران الناتجة عن الشرر). هذا الوضع القانوني تأسس عام 1860 في قضية، وللغرابة، تتعلق بنشوب حريق في غابات مجاورة لسكة جديدة، ولم يتغير القانون حول هذه النقطة (ما عدا ذلك الاستثناء الوحيد) خلال قرن من التشريعات الخاصة بالسكك الحديدية، بما في ذلك التأميم.
إذا تعاملنا مع مثال بيغو حول “الضرر غير المعوض عنه للغابات المحيطة بسبب شرر انطلق من محركات قاطرات سكك حديدية” حرفياً، وافترضنا أنه يشير للفترة بعد عام 1905، عندئذ يصبح جلياً أن السبب في عدم دفع التعويض هو بالتأكيد لأن قيمة الضرر زادت عن 100 جنيهاً (في الطبعة الأولى من اقتصاديات الرفاه) أو اكثر من 200 جنيهاً (في طبعات لاحقة) أو أن مالك الغابة لم يبلغ السكك الحديدية خطياً خلال سبعة أيام من وقوع الحريق أو لم يرسل بياناً خطياً بمفردات الأضرار خلال 21 يوماً. في العالم الحقيقي، ليس هناك وجود لمثال بيغو إلا نتيجة لاختيار مدبر من قبل المشرِّع. ليس من السهل، بالطبع، تصور بناء سكة حديد بحالة طبيعية. أقرب ما يمكن للمرء أن يفكر فيه حول ذلك هو ما يفترض أنه سكة حديد تستخدم محركات بخارية “دون سلطة قانونية محددة”. إلا أن سكة الحديد ستكون ملزمة، في هذه الحالة، بتعويض أولئك الذين احترقت غاباتهم. أي، بعبارة أخرى، أن التعويض سيدفع في غياب إجراءات حكومية. الظروف الوحيدة التي لا يدفع فيها تعويض ستكون تلك الظروف التي لم تتخذ فيها إجراءات حكومية. ومن الغريب أن بيغو، الذي من الواضح أنه كان يعتقد بأن من الأفضل دفع التعويض، قد اختار هذا المثال بالذات للتدليل على كيف أن من الممكن “لإجراءات الدولة إدخال تحسينات على الميول [الطبيعية]”.
يبدو أنه كانت هناك أفكار غير صحيحة لدى بيغو حول حقائق هذه الحالة. ولكن يبدو أيضاً من المحتمل أنه كان مخطئاً في تحليله الاقتصادي. ليس من المرغوب فيه بالضرورة أن يتعين على سكة الحديد دفع تعويض للمتضررين من نيران اندلعت بسبب محركات القطارات. لست بحاجة إلى أن أبين هنا أنه إذا استطاعت شركة السكك الحديدية عقد صفقة مع كل من له عقار مجاور لخط السكك الحديدية ولم يكن هناك تكاليف في عقد هذه الصفقات، فليس من المهم فيما إذا كانت سكك الحديد مسؤولة عن الأضرار الناجمة عن النيران أم لا. لقد تم بحث هذه المسألة مطولاً في فصول سابقة. المشكلة هي فيما إذا كان من المرغوب به جعل السكك الحديدية مسؤولة في ظروف يكون فيها عقد صفقات من هذا النوع باهظ التكاليف.
من الواضح أن بيغو قد فكر أنه كان من المرغوب فيه إلزام السكك الحديدية بدفع تعويض ومن السهل فهم نوع النقاش الذي كان قد أدى به إلى هذا الاستنتاج. لنفرض أن شركة سكك حديدية تفكر في تسيير قطار إضافي أو زيادة سرعة قطار حالي أو تركيب أجهزة تمنع انطلاق الشرر من محركات قطاراتها. إذا لم تكن الشركة مسؤولة عن أضرار الحريق فإنها، عند اتخاذ هذه القرارات، لن تأخذ في الحسبان، كتكلفة، زيادة الضرر بسبب القطار الإضافي أو القطار الأسرع أو عدم تركيب أجهزة لمنع انطلاق الشرر. هذا هو مصدر الاختلاف بين الناتج الصافي الخاص والناتج الصافي الاجتماعي. إنه يؤدي إلى أن تقوم السكك الحديدية بأعمال من شأنها تخفيض قيمة الناتج الإجمالي—والتي لم تكن لتقوم بها لو كانت مسؤولة عن الأضرار. ويمكن إيضاح ذلك عن طريق مثال باستخدام الرياضيات.
لنفترض شركة سكك حديدية ليست مسؤولة عن الأضرار الناشئة عن اندلاع نيران بسبب شرر من محركات قطاراتها وتستخدم قطارين يومياً على خط معين. لنفترض أن تسيير قطار واحد يومياً سيمكن سكة الحديد من تقديم خدمات تساوي 150 دولاراً سنوياً وتسيير قطارين سيمكنها من تقديم خدمات تساوي 250 دولاراً سنوياً. لنفترض أيضاً أن تكلفة تسيير قطار واحد تساوي 50 دولاراً سنوياً وقطارين 100 دولار سنوياً. بافتراض منافسة صحيحة، تكون التكلفة معادلة لانخفاض قيمة الإنتاج في نواحي أخرى بسبب استخدام عوامل إنتاج إضافية من قبل شركة السكك الحديدية. من الواضح أن الشركة ستجد أن من المربح لها تسيير قطارين يومياً.
ولكن لنفترض أن تسيير قطار واحد يومياً سيشعل حرائق تتلف محاصيل بقيمة 60 دولاراً (كمعدل خلال السنة) وتسيير قطارين سيؤدي إلى إتلاف محاصيل بقيمة 120 دولاراً. في ظروف كهذه يؤدي تسيير قطار واحد إلى زيادة قيمة الإنتاج الإجمالي ولكن تسيير قطار آخر سيؤدي إلى خفض قيمة الإنتاج الإجمالي. القطار الثاني سيجعل من الممكن تقديم خدمات إضافية بقيمة 100 دولار سنوياً، ولكن قيمة الإنتاج في نواحي أخرى ستنخفض بمقدار 110 دولارات سنوياً؛ 50 دولاراً نتيجة لاستخدام عوامل إنتاج إضافية و60 دولاراً نتيجة لإتلاف محاصيل. وحيث أنه سيكون من الأفضل لو لم يتم تسيير القطار الثاني، وحيث أنه لن يتم تسييره إذا اتضح بأن سكة الحديد ستكون مسؤولة عن الأضرار الواقعة على المحاصيل، فيبدو من الصعب مقاومة الاستنتاج بضرورة جعل الشركة مسؤولة عن الأضرار. ليس هناك من شك في أن منطقاً من هذا النوع هو الذي يحدد موقف بيغو.
الاستنتاج بأنه سيكون من الأفضل أن لا يتم تسيير قطارٍ ثان هو استنتاج صحيح. أما الاستنتاج بأن من المرغوب فيه أن تكون شركة سكة الحديد مسؤولة عن الضرر الذي تسبب به فهو خطأ. دعنا نغير افتراضنا الخاص بقاعدة المسؤولية. لنفرض أن سكة الحديد مسؤولة عن الضرر الناتج عن الحرائق الناشئة عن تطاير الشرر من المحركات. إن مزارعاً في الأراضي المجاورة لخط السكة الحديدية سيكون عندئذ في وضع يخوله، في حالة تدمير محصوله بنيران تسببت فيها الشركة، بتقاضي سعر السوق من الشركة، ولكن إذا لم يدمر محصوله فسيتقاضى سعر السوق نتيجة للمبيعات. تبعاً لذلك لا يعود هناك فرق لديه فيما إذا تم تدمير محصوله أم لا. الوضع مختلف تماماً إذا لم تكن شركة سكة الحديد مسؤولة، فأي تدمير للمحصول بواسطة نيران تسببت فيها الشركة سيخفّض عندئذ من عائدات المزارع، وتبعاً لذلك سيمتنع عن زراعة أي أرض يحتمل أن يكون فيها التلف أكبر قيمة من العائدات الصافية لزراعة الأرض (لأسباب تم شرحها باستفاضة في الفصل الثالث). تبعاً لذلك فإن تغييراً على نظام تكون فيه شركة سكة الحديد غير مسؤولة عن الأضرار إلى نظام تصبح فيه مسؤولة سيؤدي، على الأرجح، لزيادة في زراعة الأراضي المجاورة لخط السكة الحديدية. كما أن هذا التغيير سيؤدي أيضاً، بالطبع، إلى زيادة في كمية المحاصيل التالفة بواسطة حرائق تسببت بها القطارات.
لنعد إلى مثالنا الرياضي. لنفترض أنه مع تغير قاعدة المسؤولية تضاعفت كمية تدمير المحصول الناجمة عن نيران تسببت بها محركات القطارات. في حالة قطار واحد يومياً سيتم تدمير محاصيل بقيمة 120 دولاراً سنوياً وفي حالة تسيير قطارين يومياً سيتم تدمير محاصيل بقيمة 240 دولاراً سنوياً. رأينا سابقاً أنه لن يكون من المربح تسيير القطار الثاني إذا كان على الشركة أن تدفع 60 دولاراً سنوياً للتعويض عن الأضرار. وفي حالة أن كلفت التعويضات 120 دولاراً سنوياً فإن الخسارة من تسيير القطار الثاني ستزيد بمقدار 60 دولاراً. ولكن لنأخذ في الاعتبار مسألة القطار الأول، حيث قيمة خدمات النقل التي يقدمها هذا القطار تبلغ 150 دولاراً في حين أن تكاليف تشغيله هي 50 دولاراً. المبلغ الذي ستدفعه الشركة تعويضاً عن الأضرار هو 120 دولاراً. هذا يؤدي إلى الاستنتاج بأنه ليس من المربح تسيير أي قطار، فباستخدام الأرقام في مثالنا نصل إلى النتيجة التالية: إذا لم تكن شركة سكة الحديد مسؤولة عن الأضرار فسيتم تسيير قطارين يومياً، أما إذا كانت الشركة مسؤولة عن الأضرار فستوقف تشغيل قطاراتها كلياً. هل هذا يعني أن من الأفضل ألا تكون هناك سكة حديد؟ يمكن الإجابة على هذا السؤال بالتفكير فيما قد يحصل لقيمة الإنتاج الكلي إذا تقرر إعفاء سكة الحديد من المسؤولية عن أضرار الحرائق، وبذلك يتم إعادتها للعمل (بتسيير قطارين يومياً).
تشغيل سكة الحديد سيؤمن تشغيل خدمات نقل بقيمة 250 دولاراً سنوياً، كما أن ذلك سيعني استخدام عوامل إنتاج من شأنها تخفيض قيمة الإنتاج في نواحي أخرى بمقدار 100 دولاراً. إضافة لذلك فسيعني أيضاً تدمير محاصيل بقيمة 120 دولاراً، كما أن تشغيل السكة سيؤدي إلى التخلي عن زراعة جزء من الأرض. ولما كنا نعرف أنه لو كانت هذه الأرض قد زرعت فإن قيمة المحاصيل التالفة ستبلغ 120 دولاراً وحيث أنه من المستبعد أن يتم تدمير كامل المحصول فيبدو من المعقول أن كمية المحصول من هذه الأرض ستكون أكثر من ذلك، ولنفترض أنها ستبلغ 160 دولاراً. ولكن التخلي عن زراعة الأرض سيحرر عوامل الإنتاج لتستخدم في أماكن أخرى. كل ما نعرفه أن كمية الزيادة في قيمة الإنتاج في أماكن أخرى ستكون أقل من 160 دولاراً. لنفرض أنها ستكون 150 دولاراً. عندئذ سيكون المكسب من تشغيل سكة الحديد 250 دولاراً (قيمة خدمات النقل) ناقص 100 دولاراً (قيمة عوامل الإنتاج) ناقص 120 دولاراً (قيمة المحاصيل التالفة بسبب النيران) ناقص 160 دولاراً (انخفاض قيمة إنتاج المحصول بسبب التخلي عن الزراعة) زائد 150 دولاراً (قيمة الإنتاج في أماكن أخرى نتيجة لتحرير عوامل الإنتاج). بالإجمال، سيزيد تشغيل سكة الحديد قيمة الإنتاج الإجمالي بقيمة 20 دولاراً.
من الواضح، بهذه الأرقام، أن سكة الحديد ينبغي ألا تكون مسؤولة عن الأضرار التي تتسبب بها وبذلك تتمكن من العمل مع تحقيق أرباح. بالطبع، إذا غيرنا الأرقام فسيكون من الممكن بيان أن هناك حالات أخرى قد يكون من المرغوب فيها أن تكون سكة الحديد مسؤولة عن الضرر الذي تتسبب فيه. يكفي للغرض الذي أقصده أن أبين بأنه، من وجهة نظر اقتصادية، فإن حالة توجد فيها “أضرار دون تعويض حصلت لغابات بسبب شرر انطلق من محركات قطارات” ليست حالة غير مرغوبة بالضرورة. أن تكون مرغوبة أم لا تعتمد على ظروف معينة. كيف حصل أن تحليل بيغو يبدو أنه يوفر الجواب الخطأ؟ السبب هو أن بيغو لا يبدو أنه قد لاحظ بأن تحليله يتناول مسألة مختلفة تماماً. التحليل من هذه الزاوية صحيح، ولكن لا يحق أبداً لبيغو أن يتوصل إلى ذلك الاستنتاج بالذات الذي توصل إليه.
السؤال المطروح للبحث ليس ما إذا كان من المرغوب به تسيير قطار إضافي أو قطار أسرع أو تركيب أجهزة منع حرائق؛ السؤال المطروح للبحث هو ما إذا كان من المرغوب به أن يكون هناك نظام يتعين فيه على شركة سكة الحديد تعويض أولئك الذين يتعرضون لأضرار بسبب حرائق تسببت بها الشركة أو نظام لا يتعين عليها فيه دفع تعويضات. عندما يقارن اقتصادي ترتيبات اجتماعية بديلة، فالأسلوب الصحيح هو مقارنة الناتج الاجتماعي الإجمالي الناجم عن هذه الترتيبات المختلفة. مقارنة الناتج الاجتماعي بالناتج الخاص ليس هنا ولا هناك، ويمكن استخدام مثال بسيط لإيضاح ذلك: تخيل بلدة فيها إشارات ضوئية. يقترب سائق سيارة من تقاطع ويتوقف لأن الضوء أحمر. ليس هناك سيارات أخرى تقترب من التقاطع من الجهات الأخرى. إذا تجاهل السائق الإشارة الحمراء فلن يقع حادث وسيزيد الناتج الإجمالي لأن السائق سيصل خلال وقت أقل إلى وجهته. لماذا لا يفعل ذلك؟ السبب هو أنه إذا تجاوز الإشارة الحمراء فقد تجري مخالفته. الناتج الخاص من اجتياز الشارع أقل من الناتج الاجتماعي. هل يتعين علينا الاستنتاج من ذلك أن الناتج الإجمالي سيكون أكبر إذا لم تكن هناك مخالفات لعدم الالتزام بالإشارة الضوئية؟ تحليل بيغو يبين لنا أن من الممكن التفكير بعوامل أخرى أفضل من العالم الذي نعيش فيه، ولكن المشكلة هي ابتكار ترتيبات عملية من شأنها تصحيح الخلل في جزء من النظام دون التسبب في مزيد من الأضرار الخطيرة في أجزاء أخرى.
لقد فحصت بالكثير من التفصيل في مثال واحد الاختلاف بين الناتج الخاص والناتج الاجتماعي ولست أقترح مزيداً من التدقيق في النظام التحليلي لبيغو. إلا أن البحث الرئيسي للمشكلة الذي تطرقنا له في هذا المقال موجود في ذلك القسم من الفصل التاسع في الجزء الثاني والذي يتناول الدرجة الثانية من التشعب في نظرية بيغو، ومن المثير للاهتمام ملاحظة الطريقة التي يطور بها بيغو مناقشته. لقد تم اقتباس وصف بيغو نفسه لهذه الدرجة الثانية من التشعب في بداية هذا الفصل. ويميز بيغو بين الحالة التي قدم فيها شخص خدمات لا يتلقى أجراً عنها والحالة التي يُحدِثُ فيها شخص ضرراً دون دفع تعويض للأطراف المتضررة.
لقد تركز اهتمامي الأساسي، بالطبع، على هذه الحالة الثانية، ومن المدهش، تبعاً لذلك، أن نجد، كما بين لي البروفيسور فرانسيسكو فورت، أن مشكلة المدخنة التي يتصاعد منها الدخان—”حالة الأسهم” أو “مثال غرفة الصف” في الحالة الثانية تستخدم من قبل بيغو كمثال على الحالة الأولى (خدمات دون أجر)—وليس لها ذكر أبداً، بشكل واضح على أية حال فيما يتصل بالحالة الثانية. يشير بيغو إلى أن أصحاب المصانع الذين يخصصون موارد للحد من تصاعد الدخان من مداخنهم يقدمون خدمات لا يتقاضون مقابلها أجراً. المعنى في ذلك، في ضوء نقاش بيغو في مكان لاحق من الفصل، هو أن مالك مصنع ذي مداخن ينبغي أن يُعطى منحة لحفزه على تركيب أجهزة لمنع تصاعد الدخان. معظم الاقتصاديين العصريين يقترحون فرض ضريبة على مالك المصنع ذي المدخنة التي يتصاعد منها الدخان. يبدو من المؤسف أن الاقتصاديين (باستثناء البروفيسور فورت) لا يبدو أنهم لاحظوا هذا الجانب من معالجة بيغو، حيث أن الإدراك بأنه يمكن معالجة المشكلة في أي من هاتين الطريقتين سيؤدي، على الأرجح، لاعتراف واضح بطبيعتها التبادلية.
عند بحث الحالة الثانية (إلحاق أضرار دون تعويض للمتضررين) يقول بيغو بأن هذه الأضرار تحدث “عندما يقوم مالك قطعة أرض في حي سكني في مدينة ببناء مصنع في أرضه وبذلك يدمر جزءاً كبيراً من مقومات الحياة في الأراضي المجاورة؛ أو، بدرجة أقل، عندما يستخدم موقعه بطريقة تحجب الضوء عن البيت المقابل؛ أو عندما يستثمر موارده في إقامة بنايات في منطقة مكتظة حيث ينجم عن ذلك، بسبب سد الفضاء وساحات الترويح في الحي إلى الإضرار بصحة ونشاط العائلات الي تعيش هناك”. بيغو محق تماماً، بالطبع، عندما يصف أعمالاً كهذه باعتبارها “أضراراً دون مقابل”، ولكنه على خطأ عندما يصف أعمالاً كهذه بأنها “غير اجتماعية”. قد تكون كذلك أو لا تكون. فمن الضروري موازنة الضرر ضد المنافع التي ستتحقق. وليس هناك ما يمكن أن يكون “غير اجتماعي” أكثر من معارضة أي عمل يسبب ضرراً لأي شخص. إن المثال الذي يفتتح به بيغو نقاشه حول “الأضرار دون مقابل” ليس هو، كما أشرت، حالة المدخنة التي يتصاعد منها الدخان بل حالة الأرانب الجائحة… أضرار عرضية دون مقابل تلحق بأطراف ثالثة عندما تشمل نشاطات المحافظة على الحيوانات البرية من جانب مالك أرض ما دخول أرانب جائحة إلى أرض مالكٍ مجاور.
هذا مثال ذو أهمية غير عادية، ليس بسبب كون التحليل الاقتصادي للقضية مختلفاً بصورة أساسية عن الأمثلة الأخرى، بل للخاصية الغريبة في الموقف القانوني والضوء الذي تسلطه على الدور الذي يستطيع ان يلعبه الاقتصاديون فيما يبدو أنه فقط مسألة قانونية تتعلق بتحديد الحقوق.
مشكلة المسؤولية القانونية عن سلوك الأرانب هي جزء من الموضوع العام المتعلق بالمسؤولية عن الحيوانات. سأحصر حديثي، مع أني متردد في ذلك، بالأرانب. القضايا الأولى حول الأرانب كانت تتعلق بالعلاقة بين مالك أرض وفلاحين يعملون لديه، إذ أصبح من المعتاد منذ القرن الثالث عشر وما بعده أن يزود مالك الأرض الفلاحين بمجموعات من الأرانب لأغراض لحومها وفرائها. إلا أنه في قضية بولستون عام 1597 تم رفع دعوى من قبل مالك أرض ضد مالك أرض آخر مجاور مدعياً بأن المتهم قد حفر جحوراً للأرانب مما جعل أعداد الأرانب تزداد وتسببت في إتلاف محصول المدعي من الذرة. لم تنجح الدعوى بسبب أنه كان بوسعه قتل هذه الأرانب حال ظهورها في أرض جاره لأنها حيوانات برية، ومن يحفر جحوراً للأرانب لا يملك هذه الأرانب ولن تجري معاقبته على أضرار سببتها الأرانب التي لا يملكها والتي يستطيع الطرف الآخر قتلها بصورة مشروعة.
وفي حين أن قضية بولستون قد عوملت باعتبارها ملزمة—قال جيه. بريه عام 1919 بأنه لم يكن يعلم أنه قد تم نقض الحكم في قضية بولستون أو مناقشتها—فإن مثال الأرانب الذي أورده بيغو قد مثل، دون شك، الموقف القانوني عند كتابة اقتصاديات الرفاه. وليس مما يبعد عن الحقيقة كثيراً في هذه القضية القول بأن الأحوال التي يصفها بيغو قد حصلت بسبب غياب الإجراءات الحكومية (على شكل قوانين تشريعية على أي حال) وأنها كانت نتيجة لميول “طبيعية”. مع ذلك فإن قضية بولستون تثير فضولاً قانونياً والبروفيسور وليامز لا يخفي استياءه من هذا القرار.
إن مفهوم المسؤولية في التسبب بالإزعاج على أساس الملكية هو، فيما يبدو، نتيجة لخلط بينه وبين مفهوم تجاوزات قطيع المواشي ويتناقض مع كل من المبدأ وسلطات القرون الوسطى حول الأضرار الناجمة عن تسرب الماء والدخان والأوساخ… الشرط الأساسي لأي معالجة مرضية للموضوع هي التخلي نهائياً عن مبدأ الإيذاء في قضية بولستون… ما أن تختفي قضية بولستون حتى تصبح الطريق ممهدة لإعادة النظر مرة ثانية في الموضوع برمته على أسس تتسق مع المبدأ السائد في بقية مواد قانون الإزعاج.
القضاة في قضية بولستون كانوا مدركين بالطبع بأن وجهة نظرهم حول الموضوع تعتمد على التمييز بين هذه القضية وقضايا الإزعاج: هذه القضية تختلف عن القضية المرفوعة في جانب آخر حول إنشاء فرن كلسي أو مصبغة أو ما شابه، لأن الإزعاج هنا ينجم عن تصرفات الأطراف التي تقوم به ولكن المسألة مختلفة هنا حيث أن الأرانب وحدها دخلت أرض المدعي وبوسعه، إن شاء، أن يأخذها عندما تدخل أرضه ويحقق ربحاً منها.
ويعقّب البروفيسور وليامز قائلاً: “مرة أخرى تبرز الفكرة المتوارثة حول مسؤولية الحيوانات وليس مالك الأرض. ليس هذا المبدأ بالطبع مقبولاً لتضمينه في قانون عصري حول الإزعاج. فإذا أنشأ (أ) بيتاً أو زرع شجرة بحيث يتسرب الماء من الشجرة أو البيت إلى أرض (ب) فإن هذا عمل قام به (أ) ويتحمل مسؤوليته تجاه (ب). ولكن إذا قام (أ) بتربية أرانب في أرضه بحيث أخذت تهرب إلى أرض (ب)، فإن هذا عمل قامت به الأرانب ولا يمكن أن يتحمل مسؤوليته (أ). هذا هو الفرق الخادع الناتج عن قضية بولستون”.
ينبغي الاعتراف بأن القرار في قضية بولستون يبدو غريباً إلى حد ما، فقد يكون رجلٌ ما مسؤولاً عن الأضرار الناجمة عن انبعاث دخان أو روائح كريهة دون ضرورة التأكد بأنه يملك الدخان أو الرائحة. ولم يتم الالتزام بالقاعدة في قضية بولستون دائماً في قضايا تتعامل مع حيوانات أخرى. ففي قضية (بلاند ضد ييتس)، على سبيل المثال، تقرر أن بالإمكان توجيه إنذار قضائي لمنع شخص من الاحتفاظ بكمية غير عادية وكبيرة من السماد العضوي الذي يتكاثر فيه الذباب والذي أخذ يغزو بيت شخص مجاور. لم يقم أحد بإبراز مسألة من الذي يملك الذباب، وليس هناك من اقتصادي يميل إلى الاعتراض لأن المنطق القانوني يبدو غريباً أحياناً. ولكن هناك سبباً اقتصادياً صحيحاً لتأييد وجهة نظر البروفيسور ويليامز التي تشير إلى أن مشكلة المسؤولية عن الحيوانات (خصوصاً الأرانب) ينبغي أن تدخل ضمن القانون العادي للإزعاج. السبب هو ليس أن الرجل الذي يؤوي الحيوانات هو الوحيد المسؤول عن الضرر، ولكن الرجل الذي أُتلف محصوله هو مسؤول بنفس الدرجة. وفي ضوء أن تكاليف تعاملات السوق تجعل إعادة ترتيب الحقوق مستحيلة، ما لم نكن نعرف الظروف بالذات، ليس بوسعنا القول فيما إذا كان من المرغوب به أم لا جعل الرجل الذي يؤوي الأرانب مسؤولاً عن الأضرار التي أحدثتها الأرانب في الأراضي المجاورة.
الاعتراض على القاعدة في قضية بولستون هو أن الشخص الذي يقوم بالإيواء لا يمكن بموجبها أن يكون مسؤولاً. هذه القاعدة تحدد المسؤولية تماماً على طرف واحد: وهذا أمر غير مرغوب به من وجهة نظر اقتصادية تماماً مثل تحديد المسؤولية على الطرف الآخر فقط بجعل الشخص الذي قام بالإيواء هو المسؤول دائماً. بيد أنه، وكما رأينا في الفصل السادس، فإن قانون الإزعاج، بالطريقة التي تعامله بها المحاكم، هو قانون مرن ويسمح بإجراء مقارنة بين المنفعة من عمل ما والضرر الناجم عنه. وفي ذلك يقول البروفيسور وليامز: “قانون الإزعاج برمته هو محاولة للتوفيق والتسوية بين مصالح متضاربة…”. إن تطبيق قانون الإزعاج العادي على مشكلة الأرانب لا يعني بالضرورة جعل من يؤوي الأرانب مسؤولاً عن الأضرار التي أحدثتها الأرانب. لا يعني هذا القول بأن الدور الوحيد للمحاكم في قضايا كهذه هو عقدُ مقارنةٍ بين المنفعة والضرر من عملٍ ما، كما أنه ليس من المتوقع أن تقوم المحاكم دائماً باتخاذ قرارات صائبة بعد عقد مقارنةٍ كهذه. إلا أنه، وما لم تتصرف المحاكم بطريقة غبية للغاية، فإن قانون الإزعاج العادي يبدو كافياً على الأرجح لإعطاء نتائج أفضل من تبني قاعدة ثابتة. توفر قضية بيغو حول الأرانب الجاثمة مثالاً ممتازاً على تشابك مشاكل القانون والاقتصاد، رغم أن السياسة الصحيحة التي ينبغي اتباعها قد تبدو مختلفة عن رؤية بيغو.
يفسح بيغو المجال لاستثناء واحد للاستنتاج الذي توصل إليه حول وجود اختلاف بين الناتج الخاص والناتج الاجتماعي في مثال الأرانب، ويضيف: “… ما لم تكن العلاقة بين المالك والمستأجر بحيث يُدفع التعويض كجزءٍ من تعديلاتٍ على العقد بينهما”. هذا الشرط مثير للدهشة حيث أن الدرجة الأولى من الخلاف في رأي بيغو تختص إلى حد كبير بالمشاكل الناجمة عن إعداد عقود مرضية بين الملاّك والمستأجرين. الواقع أن جميع القضايا الأخيرة حول مشكلة الأرانب التي استشهد بها البروفيسور وليامز تتضمن خلافات بين الملاك والمستأجرين حول حقوق الصيد. يبدو أن بيغو يميز بين الحالة التي يستحيل إجراء عقد فيها (الدرجة الثانية) والحالة التي يكون فيها العقد مرضياً (الدرجة الأولى). لذلك هو يقول أن الدرجة الثانية من الفروق بين صافي الناتج الخاص وصافي الناتج الاجتماعي لا يمكن تخفيفها، مثل الخلافات الناشئة عن قوانين الإيجار، بتعديل على العلاقة التعاقدية بين أي طرفين متعاقدين لأن الخلاف ينشأ بسبب تقديم خدمة أو إلحاق ضرر لأشخاص آخرين غير الطرفين المتعاقدين.
ولكن السبب في أن بعض النشاطات لا تكون موضوعاً لعقود هو بالضبط نفس السبب في أن بعض العقود تكون عادة غير مرضية—فهي تكلف كثيراً لصياغتها بطريقة صحيحة. الواقع أن كلا الحالتين متماثلتان تماماً حيث أن العقود غير مرضية لأنها لا تغطي نشاطات معينة. من الصعب اكتشاف التأثير الدقيق لمناقشة اختلاف الدرجة الأولى على المحاججة الرئيسية لبيغو. فهو يبين أن العلاقات التعاقدية بين المالك والمستأجر قد تؤدي، في بعض الظروف، إلى اختلاف بين الناتج الخاص والناتج الاجتماعي. ولكنه يمضي أيضاً ليبين أن إجراءات التعويض والشروط في عقود الإيجار المفروضة من قبل الحكومة تؤدي أيضاً إلى فروق. ويبين، إضافة لذلك، أن الحكومة عندما تكون في وضع مشابه لوضع المالك، أي عندما تعطي وكالة لجهة باستغلال منفعة عامة، تنشأ ذات الصعوبات التي تحدث في حالة أن يتعلق الأمر بأفراد من القطاع الخاص. المناقشة ممتعة، ولكني لم أستطع أن أتبين ما هي الاستنتاجات العامة حول السياسة الاقتصادية، إن وجدت، التي يتوقع منا بيغو التوصل إليها.
الواقع أن بيغو يتعامل مع المشاكل التي يطرحها هذا المقال بطريقة محيرة للغاية، وتثير مناقشة آرائه صعوبات في التفسير لا سبيل للتغلب عليها. تبعاً لذلك فمن المستحيل على المرء أن يتأكد من أنه فهم ما الذي يقصده بيغو بالضبط. ومع ذلك، فمن الصعب التنبؤ بالنتيجة. قد تكون هذه حالة غير عادية لاقتصادي في مكانة بيغو، حيث أن المصدر الرئيسي لهذا الغموض هو أن بيغو لم يقدر مركزه حق قدره.
مقاربة مختلفة
أعتقد أن فشل الاقتصاديين في التوصل إلى استنتاجات صحيحة حول معالجة التأثيرات الضارة لا يمكن أن يعزى ببساطة إلى عثرات قليلة في التحليل، بل يبدو أنه يعود إلى أخطاء أساسية في المقاربة الحالية لمشاكل اقتصاد الرفاه. المطلوب هو انتهاج مقاربة مختلفة.
يركز تحليل الاختلافات بين الناتج الخاص والناتج الاجتماعي على عيوب معينة في النظام ويميل لتعزيز الاعتقاد بأن أي إجراء لتلافي هذه العيوب هو، بالضرورة، إجراء مرغوب به. هذا التحليل يحول الانتباه عن تغييرات أخرى في النظام ترتّبت دوماً بالإجراء التصحيحي، تغييرات يمكن لها جداً أن تفرز ضرراً أكثر من العيوب الأصلية. لقد رأينا، في الفصول السابقة من هذا المقال، أمثلة عديدة على ذلك، ولكن ليس من الضروري تناول المشكلة بهذه الطريقة.
الاقتصاديون الذين يدرسون مشاكل الشركة يستخدمون مقاربة التكلفة كلما سنحت الفرصة. ويقارنون الإيرادات التي يمكن الحصول عليها من مجموعة معينة من العوامل مع ترتيبات تجارية بديلة. قد يبدو من المرغوب به استخدام مقاربة مماثلة عند التعامل مع مسائل سياسية اقتصادية ومقارنة الناتج الإجمالي الناجم عن ترتيبات اجتماعية بديلة. انحصر التحليل، في هذا المقال، كما هي العادة في هذا الجزء من علم الاقتصاد، بمقارنات بين قيم الإنتاج وفقاً لمقاييس السوق. ولكن من المرغوب به، بالطبع، أن يجري عرض الخيارات بين مختلف الترتيبات الاجتماعية لحل المشاكل الاقتصادية في نطاق أوسع من ذلك وينبغي الأخذ بالحسبان التأثير الإجمالي لهذه الترتيبات في مجالات الحياة كافة. وكما أكد فرانك إتش. نايت غالباً، فإن مشاكل اقتصاد الرفاه يجب أن تذوب في نهاية المطاف في دراسة لعلم الجمال والأخلاق!
ثمة ناحية أخرى للمعالجة المعتادة للمشاكل التي تم بحثها في هذا المقال وهي أن التحليل ينحو لإجراء مقارنات بين سياسة الحرية الاقتصادية من جهة ونوع من عالم مثالي من جهة أخرى. هذه المقاربة تؤدي بالضرورة إلى تشتت التفكير لأن طبيعة البديل الذي تجري المقارنة به لا تكون واضحة أبداً. هل يوجد، في حالة الحرية الاقتصادية، نظام مالي أو قانوني أو سياسي، وإذا كان الأمر كذلك فما الذي ستكون عليه هذه الأنظمة؟ الإجابة على جميع هذه الأسئلة يحوطها الغموض ويحق لكل شخص أن يخرج منها بالاستنتاجات التي يريدها.
الواقع أنه ليس هناك حاجة للكثير من التحليل لإثبات أن عالماً مثالياً هو أفضل من عالم تسوده الحرية الاقتصادية، إلا إذا كان تعريف العالم المثالي والحرية الاقتصادية هو نفسه. ولكن النقاش بكامله لا صلة له إلى حد كبير بمسائل السياسة الاقتصادية، حيث أنه أياً كانت صورة العالم المثالي في أذهاننا، فمن الواضح أننا لم نكتشف بعد كيف نصل إليه من النقطة التي نقف فيها الآن. يبدو أن مقاربة أفضل قد تكون بدء التحليل من حالة قريبة من الواقع لفحص تأثيرات تغييرات مقترحة على السياسة، ومحاولة معرفة ما إذا كانت الحالة الجديدة ستكون في مجملها أفضل أم أسوأ من الحالة الأساسية. بهذه الطريقة يصبح هناك شيء من العلاقة بين النتائج التي تمخضت عنها السياسة والحالة الواقعية.
سبب أخير للفشل في تطوير نظرية ملائمة لمعالجة مشكلة التأثيرات الضارة يعود إلى مفهوم خاطئ لعوامل الإنتاج، التي يُنظر إليها عادة باعتبارها شيئاً مادياً تحصل عليه وتستغله المؤسسة العاملة (فدّان من الأرض أو طن من السماد.. إلخ) بدلاً من كونها الحق في ممارسة أعمال (مادية) معينة. قد نتحدث عن شخص يملك أرضاً ويستخدمها كعامل إنتاج ولكن ما يملكه صاحب الأرض في الواقع هو الحق في القيام بقائمة من الأعمال المحددة.
ليست حقوق مالك الأرض غير محدودة، بل إنه لا يستطيع دائماً أن ينقل تراباً من أرضه إلى أماكن أخرى، عن طريق إنشاء مقلع حجري مثلاً. ورغم أنه قد يحق له عدم السماح لبعض الناس باستخدام “أرضه” فإن هذا قد لا ينطبق على آخرين، فقد يحق لبعض الناس، مثلاً، المرور عبر الأرض. إضافة لذلك فقد يحق له أو لا يحق إقامة أنواع معينة من المباني أو زراعة أنواع معينة من المحاصيل أو استخدام أنظمة صرف معينة للمياه في أرضه. لا يعود ذلك ببساطة للأنظمة الحكومية، فذلك صحيح بنفس الدرجة طبقاً للأعراف والتقاليد، والواقع أنه صحيح بموجب أي نظام قانوني. إن نظاماً تكون فيه حقوق الأفراد غير محدودة هو نظام لا تكون فيه هناك حقوق يمكن اكتسابها.
إذا تم النظر إلى عوامل الإنتاج باعتبارها حقوقاً يصبح من الأسهل فهم أن الحق في عمل شيء له تأثيرات ضارة (مثل انبعاث أدخنة أو ضجيج أو روائح إلخ) هو أيضاً عامل إنتاج. تماماً مثلما نستطيع استخدام قطعة ارض بطريقة نمنع فيها أحداً من المرور عبرها أو إيقاف سيارته فيها أو بناء بيت عليها، فإن بوسعنا أيضاً استخدامها بطريقة تمنعه من الإطلال على جهة معينة أو تمنع عنه الهدوء أو تمنع عنه الهواء النقي. إن تكلفة ممارسة حق ما (لاستخدام عامل إنتاج) هي دائماً الخسارة التي تتحملها جهة أخرى نتيجة لممارسة ذلك الحق—عدم إمكانية المرور في الأرض، أو إيقاف سيارة، أو الاستمتاع بمشهد، أو التنعم بالراحة والهدوء، أو استنشاق هواء نقي.
من الواضح أنه من المرغوب به أن تكون الأعمال التي يمكن القيام بها هي فقط تلك التي يكون فيها الكسب مساوياً لأكثر من الخسارة. ولكن الاختيار بين الترتيبات الاجتماعية التي تتم في سياقها القرارات الفردية يفرض علينا أن نتذكر دائماً بأن التغير في النظام الحالي، والذي يؤدي إلى تحسن في اتخاذ بعض القرارات، قد يؤدي أيضاً إلى تدهور في اتخاذ قرارات أخرى. إضافة لذلك علينا أن نأخذ في الحسبان التكاليف التي ينطوي عليها تشغيل مختلف الترتيبات الاجتماعية (سواءً كانت عمل السوق أو عمل دائرة حكومية) إضافة إلى التكاليف التي يتضمنها الانتقال إلى نظام جديد. عند صياغة ترتيبات اجتماعية والاختيار بينها يتعين علينا الانتباه للتكلفة الإجمالية. هذا هو، فوق كل شيء، تغيير أسلوب المقاربة الذي أدعو إليه.
ملاحظات:
[1] انطلق توجه النقاش في النص أعلاه على أساس أن البديل لزراعة المحصول هو التخلي عن عملية الزراعة كلياً، ولكن ليست هناك حاجة لأن يكون الأمر كذلك. قد تكون هناك محاصيل أقل عرضة للتلف من قبل المواشي ولكنها قد لا تكون مربحة كالمحاصيل التي تزرع دون وجود تلف، وبالتالي فإذا كانت زراعة محصول جديد ستدر على المزارع ربحاً مقداره دولاراً واحداً بدلاً من دولارين وكان حجم القطيع الذي يسبب تلفاً مقداره 3 دولارات للمحصول القديم لا يسبب تلفاً سوى بقيمة دولار واحد مع المحصول الجديد، فسيكون من المربح لمربي الماشية أن يدفع أي مبلغ يقل عن دولارين لحث المزارع على تغيير نوعية محصوله (حيث أن ذلك سيخفض مسؤولية التلف من 3 دولارات إلى دولار واحد)، وسيربح المزارع أيضاً إذا تلقى مبلغاً يزيد عن دولار واحد (التخفيض ناتج عن تغيير المحصول). الواقع أنه سيكون هناك مجال لصفقة مناسبة متبادلة في جميع الحالات التي يؤدي فيها تغيير المحصول إلى تخفيض مقدار التلف بأكثر مما يخفض قيمة المحصول (عدا التلف) في جميع الحالات عندما يؤدي تغيير المحصول المزروع إلى زيادة قيمة الإنتاج.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 27 تشرين الأول 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20101

ملخص تنفيذي

تعتبر التجارة الحرة أداة فعالة لتحسين صحة الإنسان، لسببين رئيسيين. الأول والأكثر أهمية، هو أن تحرير التجارة بين الأفراد والدول سبيل مثبّت لزيادة الرخاء الاقتصادي والثروة.
الثروة ضرورية للصحة لأنها تفسح المجال للناس لشراء التحسينات اللازمة لظروف معيشتهم. فالرخاء الاقتصادي يصطحب معه التّصحاح المقبول، والمياه الآمنة، والوقود المنزلي النظيف والكافي. إن الافتقار إلى هذه الضروريات مسؤول مباشرة عن نسبة كبيرة من الوفيات وانتشار المرض في أكثر الدول فقراً في العالم. في حين أن شعوب الدول الأكثر ثراء يملكون الموارد التي تكفل لهم التغذية الجيدة والعيش تحت ظروف صحية. ولهذا السبب بدأ متوسط العمر المتوقع بالارتفاع في هذه المناطق منذ بدء النمو الاقتصادي الحديث للثورة الصناعية.
السبب الثاني لاعتبار التجارة أداة فعالة لتحسين الصحة يتصل بما يسمى “نقل التكنولوجيا”. قبل القرن التاسع عشر، كانت التجارة عبر الحدود مقتصرة على عدد قليل من الدول. أما اليوم، فتقوم كافة الدول بالتجارة على الصعيد الدولي مع حدوث زيادة ملحوظة مؤخرا في نصيب الدول منخفضة الدخل في التجارة العالمية.
ونتيجة لهذا النمو في التبادل العالمي للسلع والخدمات، انتشرت المعلومات والتقنيات المتعلقة بالصحة والتي نشأت في الدول الغنية إلى باقي دول العالم. في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، كان للانتشار العالمي للأدوية—مثل البنسيلين الذي تم اكتشافه وتطويره في بريطانيا—تأثير ضخم على معدل الوفيات في دول عديدة. وعلى نحو مماثل، أدى انتشار التقنيات الأخرى التي تم تطويرها في الدول الغنية، مثل مبيد الـ دي. دي. تي. (دايكلورو ديفينيل ترايكلورو إيثان)، إلى انخفاض حالات الملاريا في العالم بشكل بالغ. ويعتقد بعض الاقتصاديين أن انتشار التكنولوجيا، الذي يُسر بواسطة التجارة الحرة، هو السبب الرئيسي في الارتفاع المستمر لمتوسط العمر المتوقع في معظم أنحاء العالم في السنوات الخمسين الأخيرة.
ومع ذلك، إدعى البعض أن تحرير التجارة، وخصوصا الاتفاقيات مثل تلك المدارة من قبل منظمة التجارة العالمية، تؤذي الفقراء. هذه الإدعاءات غير مدعومة بالبراهين.
لقد اتُهِمت الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات (الجاتس)، وهي إحدى اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، بتقويض السلطة وبفرضها خصخصة الخدمات الصحية، بينما الواقع أن الجات تمنح الموقعين درجة عالية من المرونة. إضافة إلى ذلك، وأسوة باتفاقيات التجارة الأخرى، فإن اتفاقية الجات طوعية وتعتمد على الاعتراف المتبادل وليس الإكراه. علاوة على ذلك، قد تعمل اتفاقية الجات على تحفيز نقل التكنولوجيا والمعرفة لأنها تشجع تبني الأشياء المفيدة مثل الطب عن بعد والسياحة العلاجية ومستويات مناسبة للتأمين الصحي. كما أنها قد تساعد على التغلب على ما يسمى “بتفريغ العقول” للكوادر الطبية من الجنوب للشمال عبر توفير فرص عمل محلية أفضل.
كما تم اتهام اتفاقية الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية (تريبس)، وهي اتفاقية أخرى لمنظمة التجارة العالمية، ومن ضمن اتهامات أخرى، باحتجاز نقل المعرفة من “الشمال” إلى “الجنوب”. وفي الواقع، فإن العكس هو الصحيح. لقد جعلت الهند مؤخرا تشريعاتها المحلية متوافقة مع التريبس، وكانت النتيجة تدفقا هائلا من الخبرات ورؤوس الأموال الأجنبية في مجالات البحث والتنمية. وتدل المؤشرات الأولية على أن هذا القانون المتوافق مع اتفاقية التريبس سيُتيح بيئة تستطيع الهند من خلالها أن تطور مجموعة جديدة من أدوية الأمراض التي تُؤثر على سكانها.
وفي هذه الأثناء، تُتهم أيضا اتفاقيات التجارة الحرة المختلفة الموقعة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشركاء الثنائيين بتأخير نقل التكنولوجيا عبر تعزيز حماية الملكية الفكرية. والحقيقة هي أن معظم اتفاقيات التجارة الحرة هذه تحتفظ بمرونة التريبس، كما ويوجد إلزام للآخرين. ستسمح هذه الاتفاقيات من خلال حماية الملكية الفكرية قيام المصنعين المحليين بتطوير منتجاتهم الخاصة تحت تهديد أقل بكثير لخطر القرصنة التي تتسبب في تناقص الربح. وكذلك، سيتم طمأنة الشركات متعددة الجنسيات من أن أملاكهم ستكون آمنة في أي بلد موقِّع على الاتفاقيات، مما يؤدي إلى زيادة الاستثمار الأجنبي ونقل التكنولوجيا.
للتجارة الحرة أثر إيجابي على الصحة، ولذلك، فإن استمرار الحكومات في فرض قيود على التجارة أمر يستحق الشجب. ومن المروع أن يستمر إخضاع الأدوية والأجهزة الطبية لمجموعة من رسوم الاستيراد في معظم البلدان ذات الدخول المنخفضة، مما ينتج عنه عدم تمكن العديد من المرضى توفير ثمن العلاج. يجب أن تكون إزالة هذه القيود غيرالمعقولة من الأمور ذات الأولوية بالنسبة للقائمين على المفاوضات التجارية القلقين إزاء صحة الفئة الأكثر فقرا.
إضافة إلى ذلك، هناك قضية معنوية قوية لإعطاء الأولوية لإزالة التعرفات المفروضة على التقنيات التي تُمكّن توفير المياه والطاقة النظيفتين. إن المياه والوقود غير النظيفين هما من أكبر مُسببات المرض في البلدان ذات الدخول المتدنية—مما يؤدي إلى حدوث أكثر من 4 ملايين حالة وفاة في السنة، معظمها من النساء والأطفال. فيجب أن يتم إلغاء هذه الرسوم بأسرع وقت ممكن. وإذا كان من غير المقبول سياسيا إزالة هذه الرسوم من جانب واحد، عندها ينبغي إزالتها في إطار مفاوضات الوصول إلى السلع والخدمات البيئية في جولة الدوحة متعددة الأطراف الحالية.
أخيراً، هناك ضرورة أخلاقية مطلقة لإزالة القيود المفروضة على الإتجار في الأغذية، لأن سوء التغذية لا يزال يمثل مشكلة رئيسية في أنحاء كثيرة من العالم. وينطبق هذا على العديد من الدول في إفريقيا التي تُبقي على التعرفات الضارة على المنتجات الزراعة من الدول المجاورة.
الثروة والتجارة والصحة

يُظهر تاريخ البشرية أن أضمن الطرق وأكثرها استدامة لتحسين صحة الإنسان يتمثل في زيادة ثروة ورخاء الفرد. ولقد أظهرت دراسة قام بها الاقتصادييْن لانت بريتشيت ولورانس سمرز في عام 1996 التأثيرَ الكبير على الصحة المترتبَ على زيادة الدخل حيث وجَدا تأثيراً سببياً قوياً للدخل على معدل وفيات الأطفال، وبيَّنا أنه لو ارتفع معدل النمو للعالم النامي في الثمانينيات بحوالي 1.5 نقطة مئوية، لكان من الممكن تفادي وفاة نصف مليون طفل.
في الواقع، تم تحسين صحة سكان العالم منذ بدء النمو الاقتصادي الحديث المتزامن مع الثورة الصناعية. فتحسن معدل وفيات الأطفال ومتوسط العمر المتوقع بشكل ملحوظ حول العالم، وأصبح هناك وفرة في الغذاء زهيد الثمن أكثر من أي وقت مضى. ولقد تحسنت هذه المؤشرات التي تدل على تحسن حياة الإنسان بشكل ملفت للنظر في البلدان الغنية منذ منتصف القرن التاسع عشر عندما بدأت الدول بتطهير إمدادات المياه ووضع التدابير الأساسية للصحة العامة، مثل التّصحاح والبسترة والتطعيم. وفي النصف الأول من القرن العشرين، أضيفت العديد من المواد إلى ترسانة الأسلحة ضد المرض مثل المضادات الحيوية والمبيدات مثل الـ دي. دي. تي ومجموعة من اللقاحات. وعندما تم قهر الأمراض المعدية والطفيلية التقليدية بشكل جوهري، قامت الدول الغنية بتحويل إبداعها وثروتها نحو التعامل مع ما يُسمّى بـ”أمراض الغنى”: السرطان وأمراض القلب والسكتات القلبية (إضافة إلى نقص المناعة المكتسبة/الإيدز وهو مرض معدٍ غير تقليدي). وبالرغم من أنه لم تتم هزيمة هذه الأمراض بعد، إلا أنه يوجد الآن مجموعة واسعة من العلاجات والأدوية والتكنولوجيات الجديدة لتخفيف آثارها.
خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أدى انتشار التكنولوجيا من الدول الغنية إلى الدول منخفضة الدخل، وكذلك الزيادة في ثروة الدول منخفضة الدخل، إلى ما يوصف بثالث الثلاث موجات الكبرى لانخفاض معدل الوفيات (غواتكين، 1980). شهدت هذه الفترة زيادة في وسائل الحصول على المياه المأمونة وخدمات التِّصحاح في البلدان منخفضة الدخل؛ والتي كانت، وبالاقتران مع الزيادات الحاصلة في كل من نصيب الفرد من الغذاء وخدمات الصحة العامة الأساسية والمعرفة بأساسيات العادات الصحية والأدوية الحديثة (مثل المضادات الحيوية واختبارات التشخيص المبكر)، فعّالة في خفض معدلات الوفيات.
ونتيجة لهذه التطورات، طال متوسط العمر المتوقع في كافة أنحاء العالم، ولم يقتصر ذلك على الدول الغنية فقط. فازداد متوسط العمر المتوقع العالمي من 46.6 سنة في الفترة من 1950-1955 إلى 66.8 سنة بين 1950-1955 و2003، بانتشار المعرفة والتكنولوجيا حول العالم (البنك الدولي، 2005). يوضح الشكل 1 العلاقة بين الثروة والصحة، مبينا أن متوسط العمر المتوقع يزداد بزيادة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.[1]

التجارة والصحة

من الواضح أن الإنسانية تدين بالصحة الجيدة الحالية وغير المسبوقة إلى الرخاء المتزايد وانتشار التقدم في المعرفة. وستكون هذه المعرفة محدودة الأهمية من دون الموارد الاقتصادية اللازمة لتنفيذها؛ على سبيل المثال، فإن نظم الصرف الصحي مكلفة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى برامج التحصين الجماعية أو بناء مساكن صحية.
ولكن، لم يكن ليتحقق الكثير من هذا النمو الاقتصادي ونشرالمعرفة الصحية دون الزيادة الكبيرة في التجارة الدولية التي تُميِّز أواخر القرن التاسع عشر والنصف الثاني من القرن العشرين. قبل القرن التاسع عشر، كانت التجارة عبر الحدود محصورة بعدد قليل من الدول. أما اليوم، فإن جميع البلدان تتاجر دوليا كما أنها تتاجر بنسب متزايدة وهامة من دخلها القومي، مع بعض الاستثناءات مثل كوريا الشمالية. وبينما لا تزال الدول ذات الدخول المرتفعة تُمثل ثلاثة أرباع التجارة العالمية في عام 2000، شهدت الدول ذات الدخل المنخفض مؤخرا ارتفاع نصيبها بحوالي الثلث عندما قامت بتخفيض التعرفات الجمركية وإزالة الحواجز الأخرى أمام التجارة الحرة. ولقد انخفض متوسط التعرفة في البلدان المنخفضة الدخل من 25% في أواخر الثمانينات إلى 11% اليوم (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، 2005). ووفقا لمنظمة التجارة العالمية، فإن الدول ذات الدخل المنخفض تسيطر على 31% من تجارة السلع العالمية، مسجلة بذلك أعلى مستوى لها منذ الخمسينات (منظمة التجارة العالمية، 2005).
الحواجز أمام فتح الأسواق

استطاعت البلدان منخفضة الدخل أن تبدأ بالمشاركة بنجاح في الأسواق العالمية إلى حد ما من خلال التخلي عن سياسات الحمائية القديمة لفترة ما بعد الحرب. وكانت سياسات تصنيع بدائل الاستيراد رئيسية من بين هذه السياسات، والذي جرى الترويج لها على نطاق واسع جداً بعد الحرب العالمية الثانية وطُبقت بشكل قوي وبحماس كبير في البلدان منخفضة الدخل، وخاصة في إفريقيا بعد الاستقلال.
كان تبرير سياسات تصنيع بدائل الاستيراد مزدوجا. أولاً، اتُّخذ كأمر مسلم به من أن التصنيع أمر ضروري للتنمية. ثانيا، افتُرِض أن باستطاعة الحكومات أن تُسرع هذه العملية بمنع استيراد السلع الصناعية، مشجعة بذلك تطوير الصناعة المحلية.
وباتباع النصيحة المقدمة من أنصار سياسات تصنيع بدائل الاستيراد، وضعت البرازيل واقتصادات أخرى في أمريكا اللاتينية قيودا ضخمة، مثل القيود الجمركية والحصص والحظر الكامل على استيراد السلع الصناعية. ونتيجة لذلك، حصل زيادة مؤقتة في الإنتاج الصناعي. هذا الأمر ليس مستغربا: فإذا تم تقييد استيراد البضائع التي يستوردها الناس عادة، عندها سيقوم الإنتاج المحلي بتعويض ذلك إلى حد ما.
كانت التكلفة الأولية انخفاضا في الإنتاج الزراعي بسبب انتقال العوامل المنتجة إلى الصناعة وبعيدا عن الزراعة، وهجرة الناس من الريف إلى المدن. وبعد فترة من الزمن، بدأ الإنتاج الصناعي بالانخفاض. ويعود هذا في الأساس إلى أن الإنتاج لم يعد تنافسيا. وأصبحت كفاءة المنتجات مقيدة لأنه لم يعد بالإمكان شراء مدخلات الإنتاج الأساسية من الخارج. وارتفعت تكاليف المدخلات مما أدى بدوره إلى أن أصبح إنجاز المنافسين الخارجيين أفضل.
بدأت الحكومات بتقديم الدعم المالي للصناعات التي كانت ترعاها بواسطة سياسات تصنيع بدائل الاستيراد بهدف إنقاذها. فقامت برفع الضرائب على قطاع الزراعة وسيّلت ديون الحكومة من خلال التضخم لتسديد هذا الدعم. وكانت النتيجة تضخما جامحا مشتركا مع البطالة ومعدلات نمو سلبية.


إضافة إلى ذلك، خُلقت فوضى اجتماعية. ويرجع ذلك إلى هجرة العديد من الناس إلى المدن والذين أصبحوا الآن عاطلين عن العمل. ولو كان هؤلاء عاطلين عن العمل في الريف، لكان لديهم دعم الشبكات الاجتماعية التي تم إنشاؤها على مدى العقود. ولكنّ المهاجرين الجدد إلى المدن لم يقوموا بتطوير هذه الشبكات.
التجارة المفتوحة تحسن الصحة

لحسن الحظ، اتفقت معظم الدول باختتام جولة أوروغواي من المفاوضات في عام 1994 على التحرك بعيدا عن هذه الاستراتيجية المضادة للإنتاج وكذلك على خفض تعرفات الحماية الجمركية بشكل كبير. في كثير من البلدان، أدى هذا إلى إرساء أسس النمو الاقتصادي السريع وتعميق الاندماج في الاقتصاد العالمي.
وفضلا عن كون النصف الثاني من القرن العشرين فترة زيادة التجارة العالمية والنشاط الاقتصادي، فلقد شهد أيضا تحسنا ملحوظا في الصحة في معظم البلدان منخفضة الدخل. فعلى سبيل المثال، انخفض معدل وفيات الأطفال في الهند بين أعوام 1950-55 وعام 2003 من 190 إلى 63 لكل 1000. في الواقع، ارتفع متوسط العمر المتوقع في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل باطّراد منذ منتصف القرن العشرين، مع استثناء دول جنوب صحراء إفريقيا الكبرى في التسعينات. وحدث هذا التقدم على خلفية تزايد التجارة الدولية.
هل يمكن تحديد أي علاقة بين زيادة الأهمية العالمية للتجارة وتحسين الصحة في دول العالم النامية؟ من الممكن أن تكون زيادة الثروة الوطنية التي تأتي من المشاركة في التجارة الدولية هي التي تجعل الأفراد والحكومات قادرين على شراء التكنولوجيات والبنية التحتية الأساسية الملائمة للصحة. وتظهر الكميات الكبيرة والواسعة من الكتابات أن زيادة حجم التجارة ترتبط بشكل مسبَّب مع النمو الاقتصادي القوي (مثلا، دولار، 1995، ودولار وكراي، 2001، وفرانكل ورومر، 1999، وساكس وورنر، 1995). وكما شاهدنا، يؤدي ارتفاع الدخل إلى صحة أفضل، وخاصة لأنه يتيح للناس المجال لشراء وسائل التّصحاح المحسنة والوقود الأنظف وتكنولوجيات الصحة الأكثر تقدما.
وبذلك، يعتبر فتح أبواب بلد ما للتجارة طريقة فعالة لتحسين صحة السكان. ويؤكد هذا الطرح الكتابات القليلة حول العلاقة بين تحرير التجارة والصحة. ولقد وجد أوين ووا (2004) في دراستهم حول 219 دولة، أن زيادة الانفتاح على التجارة ترتبط بمعدلات منخفضة لوفيات الأطفال وبارتفاع لمتوسط العمر المتوقع وخاصة في الدول منخفضة الدخل. وكذلك بيّن وي ووا (2002) أن زيادة الانفتاح على التجارة (وخاصة عندما تقاس مع انخفاض معدل التعرفة) ترتبط بمتوسط عمر متوقع أطول ومعدل وفيات أكثر انخفاضا. وتقدم التجارب الحديثة لدول مثل الصين والهند وفيتنام، والتي تحسنت المؤشرات الصحية لديها خلال سعيها نحو سياسات تجارية أكثر تحررا، تأكيدات قوية وملموسة لهذه النقطة.
إذا حُررت التجارة إلى مسافة أبعد من هذا، سينتج للأجيال المستقبلية في البلدان منخفضة الدخل عدد أكبر من المكاسب المالية والاجتماعية. وجاء في دراسة حديثة للبنك الدولي أن إلغاء التعرفات والمعونات المالية وبرامج الدعم المحلية سيؤدي إلى زيادة الرفاهية العالمية بحوالي 300 مليار دولار في العام بحلول عام 2015. وسيأتي ثلثا هذه المكاسب من إصلاح التجارة الزراعية لأن قطاع الزراعة هو الأكثر تشوها من القطاعات الأخرى. إضافة إلى ذلك، ستتلقى الدول ذات الدخل المنخفض 45% من المكاسب العالمية كنتيجة لتحرير تجارة جميع السلع تماما. وحيث أن للبلدان الفقيرة حصة صغيرة جدا من الثروة العالمية، فإن مكاسبها المحتملة من تحرير التجارة ستكون كبيرة بشكل غير متناسب، قد تصل إلى أكثر من ضعفيْ حصتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (مارتن وأندرسون، 2005).
إنتشار المعرفة: الآثار الجانبية الصحيّة للتجارة الحرة
وبالرغم من أن الفوائد الاقتصادية الناتجة عن التجارة الدولية ذات أهمية أساسية لفهم العلاقة بين التجارة الحرة والصحة، إلاّ أنه من الممكن أن تكون التجارة مفيدة أيضا للصحة بطرق أخرى. في الواقع، يعتقد بعض الاقتصاديين أن انتشار المعرفة المتصلة بالصحة المقترنة بتحرير التجارة عامل حاسم رئيسي للصحة في البلدان منخفضة الدخل (ديتون، 2004، أوين ووا، 2004، جيميسون وساندبو ووانج، 2001). ويعود ذلك إلى أن معظم المعرفة حول كيفية تحسين صحة الإنسان—من اللقاحات إلى نظرية الجراثيم المُسببة للأمراض—قد تم توزيعها على نطاق واسع إلى جميع أنحاء العالم من الدول الأكثر ثراء التي تم تطويرها فيها.
عند خفض تكاليف التجارة، يصبح من السهل نشر المعرفة والتقنيات والمنتجات الطبية من الدول المتقدمة التي طورتها إلى دول أخرى. فعلى سبيل المثال، كان لاكتشاف جون سنو في لندن عام 1854 حول انتشار الكوليرا عن طريق المياه الملوثة، آثارا هامة في الوقاية من الأمراض المعدية في العالم. انتشرت هذه المعرفة تدريجيا من لندن إلى أوروبا، دافعة السلطات في المدن نحو تحسين وتحديث أنظمة المياه والصرف الصحي لتفادي تلويث مصادر المياه بالنفايات الآدمية (وليامسون، 1990). إن نظرية الجراثيم المُسببة للأمراض مفهومة ومعترف بها اليوم على نطاق واسع من قبل السلطات المعنية بالصحة العامة في جميع انحاء العالم كأداة هامة لمكافحة الأمراض (حتى وإن كانت الموارد غير متاحة دائما لبناء وصيانة نظم فعّالة لإدارة المياه).
كذلك، يمكن أن يؤدي خفض تكاليف التجارة إلى الإسراع في معدل تبني التكنولوجيات الطبية المُثبتة من قبل بلدان أخرى. كانت الدول الغنية أول من طور بعض أنجع وأبسط الأدوية مثل المضادات الحيوية واللقاحات، ولكن الصناعة والتجارة الدولية لهذه التكنولوجيات سمحت لها بأن تُصبح متوفرة في معظم أنحاء العالم. ومن المحتمل أن يكون اعتماد هذه التكنولوجيات من جانب البلدان الفقيرة في آسيا في سنوات ما بعد الحرب مسؤولا إلى حد كبير عن الانخفاض الملحوظ في معدلات الوفيات الخام في هذه الفترة.
في الاربعينات، أنهت آسيا عدة عقود من العزلة الاقتصادية والثقافية النسبية وبدأت بالاندماج في الإقتصاد العالمي. تزامن مع هذا نشر ونقل مكثف لبرامج وتكنولوجيات وأساليب الصحة العامة التي نشأت في الدول الأكثر ثراء. ولقد شهد عقدا العشرينات والأربعينات تقدما هائلا في الاكتشافات الطبية مثل اكتشاف البنسيلين وأدوية السلفا والباستريسن والستربتوميسين والكلوروكوين. وبوصول هذه الأدوية وغيرها من العقاقير الفعالة إلى آسيا، أصبح علاج الأمراض التي قتلت في الماضي الملايين متاحا بتكلفة منخفضة. إضافة إلى ذلك، أعطى اختراع الـ دي. دي. تي. في عام 1943 السلطات سلاحا قويا جدا في المعركة ضد الملاريا والذي أدى إلى القضاء على المرض في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، كمل أدى إلى خفض عدد الحالات بأكثر من 99% في أجزاء من سريلانكا والهند (غراميشيا وبيليس، 1988). وبسبب توفر هذه التدخلات على نطاق واسع وخفض تكلفتها—التي أصبحت ممكنة من خلال تجارة أكثر حرية—انخفضت معدلات الوفيات الخام بشكل حاد، خاصة في شرق آسيا في أواخر الأربعينات. وبحلول الخمسينات والستينات، قلّ عدد الأطفال والشباب الذين يموتون من هذه الأمراض التي يمكن الوقاية منها بسهولة والتي كانت مسؤولة عبر التاريخ عن هبوط المؤشرات الصحية في المنطقة، كما ارتفع متوسط العمر المتوقع في جميع أنحاء المنطقة (بلوم وويليامسون، 1988).
وتستمر هذه العملية اليوم، حيث تتوفر الأدوية الجديدة التي استُحدثت في مكان ما في الأسواق الدولية. وبالرغم من أن معظم الأدوية تقريبا تبدأ حياتها بحماية براءة الاختراع، إلاّ أنها في آخر الأمر تنتهي، وتنفتح الأسواق للمنافسة العامة. ونتيجة لذلك، فإن العديد من الأدوية التي لا تخضع لبراءات الاختراع متوفرة في جميع أنحاء العالم وبأسعار زهيدة للغاية، فاتحة المجال أمام سكان البلدان الفقيرة للاستفادة من معرفة وابتكار الدول الأوفر ثراء في العالم. وتشمل الأمثلة الأكثر حداثة على أدوية خفض الكولسترول (مجموعة ستاتين) وأدوية معالجة الالتهابات الناتجة عن الريتروفيروس وتحديدا فيروس نقص المناعة فضلا عن تلك البنود مثل وحدات الرعاية المكثفة لحديثي الولادة ووحدات غسيل الكلى ومعدات الفحص وعدد ضخم من المعدات الطبية الحديثة الأخرى. وبالطبع، يخضع الكثير من الأدوية التي لها براءات اختراع إلى منافسة الأدوية الأخرى المشابهة. وبسبب تنويع الأسعار، من الممكن أن تكون الأدوية المحمية ببراءات الاختراع في متناول الفقراء بأسعار قريبة من تكلفة الإنتاج.
الضرائب والتعرفات الجمركية تُؤخر نقل التكنولوجيا

ستكون الفوائد المرجوة من نقل التكنولوجيا أعظم إذا قامت الدول منخفضة الدخل بإلغاء التعرفات الجمركية والضرائب الكثيرة التي تفرضها على الأدوية. فغالبا ما تؤدي التعرفات إلى تضخيم سعر الأدوية للمستهلك في الدول منخفضة الدخل كما وتعمل كحاجز أمام التوزيع الفعّال للأدوية والتكنولوجيا الطبية. لقد وجدت دراسة أجريت في عام 2003 بإسم المفوضية الأوروبية لـ 57 دولة أن الدول منخفضة الدخل تفرض ضرائب وتعرفات جمركية كبيرة على الأدوية المستوردة، فتقوم الهند ونيجيريا والباكستان بفرض أسعار موحدة تبلغ 55% و34% و33%، على التوالي (المفوضية الأوروبية، 2003). وتدعي الحكومات غالبا أن هذه الضرائب ضرورية لحماية صناعة الأدوية المحلية، ولكنها في الواقع تعمل وببساطة على حرمان المرضى لأفضل نوعيات الأدوية وأقلها أسعارا.
تشير الأدلة إلى أن الشركات الأجنبية التي ترغب في تصدير أجهزة طبية مثل منظم نبضات القلب إلى الهند تواجه تعرفات جمركية بحوالي 50%، بالرغم من أن خُمس الوفيات في الهند تُعزى لأمراض القلب وأن منظمة الصحة العالمية تقدر أن 60% من مرضى القلب في العالم سيكونون من الهنود بحلول عام 2010. وبالرغم من ذلك، لا يوجد في الهند مصنعون محليون لأجهزة تنظيم نبضات القلب وتلك المستوردة تخضع لضرائب كبيرة. ونتيجة لذلك، يتوجب غالبا على المرضى في الهند اللجوء إلى أجهزة تنظيم النبضات الأقدم أو تلك المجددة، إذا توفرت لهم (أنيلكومار وبالاشاندر، 2004).
التكنولوجيات الأخرى

بالرغم من التأثير المحبط للتعرفات الجمركية على نشر الأدوية وغيرها من التكنولوجيات الصحية، كسبت حجة “انتشار المعرفة” مزيدا من الدعم على إثر دراسة أجراها عالميْ اقتصاد هما آنجس ديتون وكريستينا باكسون في عام 2004. لقد بينا أن اتجاهات وفيات الأطفال ومتوسطي العمر تظهر في الولايات المتحدة قبل ظهورها في المملكة المتحدة بنحو أربع إلى خمس سنوات. وقد يُعزى هذا إلى أن نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، الموجه إلى الأسواق بدرجة أعلى، يسمح باعتماد أسرع للتكنولوجيات الجديدة مقارنة مع النظام المدار من قبل الدولة في المملكة المتحدة، وإن لم تكن هذه التكنولوجيات قد اخترعت أصلا في الولايات المتحدة. تتيح التجارة الحرة المجال أمام مقدمي الخدمات الصحية في الولايات المتحدة إلى اعتماد تلك التكنولوجيات والأدوية الجديدة فور إمكانية ذلك للحفاظ على ميزة التنافسية. ومن الواضح أن هذا يعود بالفائدة على المرضى.
كذلك، أسفر خفض تكاليف التجارة إلى سعي الدول الغنية والفقيرة نحو تكنولوجيات الاتصالات مثل الراديو والتلفزيون والإنترنت بشكل كبير. ولقد ساعد هذا على تحسين الصحة العالمية عبر تسهيل انتشار الأفكار مثل الآثار الصحية للتدخين أو ممارسة الرياضة. وأخيرا، هناك بعض الأدلة التي تُشير إلى أن لزيادة التجارة أثرا إيجابيا على نوعية مؤسسات الحكم، مما يؤدي إلى وجود بيئة سياسية أكثر ملائمة تُفضي إلى تحسين الصحة (أوين ووا، 2004). ولقد أظهرت الدراسة أيضا أن نتائج تحسن الصحة الناجمة عن زيادة حجم التبادل التجاري ظهرت بشكل قوي في الدول الأكثر فقرا.
اتفاقيات التجارة والصحة
تدين عودة التجارة الحرة عقب التدمير الاقتصادي جراء “الكساد الكبير” في الولايات المتحدة والحرب العالمية الثانية بالكثير لوضع نظام عالمي للتجارة، وبشكل أكثر تحديدا، لخلق الاتفاقية العامة للتعريفـات والتجارة (الجات) في عام 1947. تأملت هذه المؤسسة بأن تقوم على تعزيز فكرة بسيطة تتلخص في أنه إذا قام شخص في بلد ما بإنتاج سلع أو خدمات يحتاجها أشخاص آخرون في بلدان أخرى، فلهم الحق في بيعها لهم من دون تدخل الدولة. من نقطة البداية هذه، تطور نظام التجارة العالمي اليوم إلى أبرز مثال للتعاون الدولي. فشهدت الجولات المتتالية لتحرير التجارة سقوط التعرفات الجمركية وتوحيد الممارسات التجارية ودخول عدد كبير من الدول إلى النظام التجاري العالمي.
لقد تم الآن استيعاب الجات ضمن منظمة التجارة العالمية التي تعمل على الافتراض المقبول على نطاق واسع بأن رفاه الإنسان سيزداد عن طريق النمو الاقتصادي المبني على أساس تحرير التجارة في سياق مبادىء عدم التمييز وتبادل الامتيازات والعدل والشفافية والنزاهة. وفي حين كان لهيئة تسوية المنازعات الأصلية للجات سلطات محدودة للتنفيذ، فإن قرارات هيئة تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية ملزمة تلقائيا ومطبقة من خلال العقوبات والروادع بشكل أساسي.
التجارة في الخدمات
ومع ذلك، واجه قيام النظام التجاري الأكثر إلزاما معارضة وانتقادا شديديْن وخاصة من طرف المنظمات غير الحكومية الناشطة التي ادعت أنها تمثل مصالح الصحة العامة. وهذا ينبع في معظمه من تفاصيل بعض اتفاقيات التجارة متعددة الأطراف. وعلى الرغم من أن اتفاقيات التجارة متعددة الأطراف تهدف إلى تسهيل التجارة الحرة ونقل المعرفة، فلقد نددها الناشطون على أنها تضر بالصحة العامة وخاصة في الدول منخفضة الدخل. وكانت اتفاقية الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية (التريبس)، التي سيتم مناقشتها أدناه، من أبرز هذه الاتفاقيات بين هؤلاء الناشطين في حملاتهم، ولكن قد تكون الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات (الجاتس) ذات علاقة مساوية، إن لم تكن أكثر، بالصحة العامة.
بدأت فعالية الجاتس، التي نوقشت من قبل 120 دولة، في عام 1995 وتهدف إلى خلق مناخ موات للتجارة في الخدمات في ظل الشفافية والتحرير التصاعدي التدريجي. وتحقق الجاتس هذا من خلال السماح للدول تقديم تعهدات ملزمة لخفض الحواجز أمام التجارة. أما بالنسبة إلى الرعاية الصحية تحديدا، فتشمل الاتفاقية على المجالات الواردة في الجدول أدناه. ويفسر نقاد الجاتس ذلك على أنه يتطلب خصخصة الخدمات الصحية، مشكلا تحديا لقدرات الحكومات على تنظيم مقدمي الخدمات الصحية وتحديد شكل أنظمتها الصحية (سنكلير، 2000؛ بولوك وبرايس، 2003). على سبيل المثال، يطالب النقاد أن نصَّ الاتفاقية لا يعفي تحديدا جميع خدمات الرعاية الصحية المقدمة من الحكومة من إشراف الجاتس (كراجيفسكي، 2001). وهناك مجال آخر للخلاف حول الحد الذي تسمح به الجاتس للحكومات القيام بتنظيم الخدمات الصحية، مع جدل البعض في أن الاتفاقية “ستحظر استخدام آليات لا تستند إلى السوق مثل الدعم المالي ودمج المخاطر العالمية والتضامن والمساءلة العامة في تمويل وإنجاز الخدمات (بولوك وبرايس، 2000). وأخيرا، يؤكد النقاد على أن هذه الاتفاقية غير شرعية ديمقراطيا، لأنها تضحي، إلى حد ما، بملكية الأمم ذات السيادة لسياستها الصحية الإجمالية إلى نظام تجارة يخضع إلى قوى وجهات خارجية (سنكلير، 2000). ولقد أظهر تقييم الجاتس الذي قامت به ليا بيلسكي وآخرون في عام 2004 أن معظم هذه المخاوف لا أساس لها من الصحة. وبالرغم من وجود مخاوف من أن نظام الجاتس مبهم جدا بحيث لا يستثني تحديدا الخدمات الصحية المقدمة من القطاع العام (كراجيفسكي، 2001)، إلا أن هذا غير متصل بالموضوع لأن الدول لا تزال محتفظة بحق تنظيم جميع مقدمي الخدمات العامة والخاصة. ومع أن الدول محدَّدة في السياسات التي يسعون لها نحو القطاعات التي تم إلزامها بالجاتس، تستطيع الدول اختيار المشاركة أو عدمها ولها حرية انتقاء القطاعات التي ترغب في الالتزام بها. ولذلك، من الخطأ الإدعاء أن الجاتس تقوض السيادة الوطنية لأن الدولة تفرضها على نفسها طواعية. كما أنه من الصعب الجدل بأن الجاتس تُصور مثالا مهينا لعدم شرعية الديمقراطية—إن جدل ذلك يعني القول أن جميع القرارات الصادرة حول سياسات التجارة مشبوهة ديمقراطيا. وبما أن هذه الاتفاقيات ضمن منظمة التجارة العالمية لا تتم إلا بموافقة المشرعين في الدول الأعضاء، فهي في نواحي عديدة أكثر ديمقراطية من غيرها من الهيئات متعددة القوميات مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وبوضع هذه المخاوف جانبا، تجدر الإشارة إلى الآثار الإيجابية على الصحة العامة والتي تترتب على الالتزام بتحرير التجارة، مثل الآثار المترتبة على الجاتس. قد يكون للالتزام بالجاتس فوائد إجمالية كبيرة، وخاصة لأنه يساعد على الإسراع في “انتشار المعرفة” ونقل التكنولوجيا والتي سبق وأن رأينا أهميتهما في تحسين الصحة. كما قد يمثل الالتزام بالجاتس كوسيلة للدول للحصول على كميات كبيرة من إيرادات الصادرات، مما يُسهم في النمو الاقتصادي.

من الواضح أن البلدان التي تتمتع بميزة نسبية في تقديم الخدمات الصحية ستستفيد حتما من التحرير المذكور؛ وفي حين أن هذا ينطبق أساسا على الدول الأكثر ثراء، فإن بعض الدول منخفضة الدخل مثل الهند تقوم بتنمية تخصصات وقدرات بشكل سريع في مجالات طبية مختلفة.
الطب عن بعد

يعد الطب عن بعد أكثر مجالات الخدمات الطبية وضوحا التي يمكن أن تُقدَّم عبر الحدود. ومع أن الطب عن بعد لا يزال نسبيا في مراحله الأولى، إلا أن إمكاناته المستقبلية هائلة. إن خفض تكاليف الاتصالات يؤدي إلى توسيع النطاق للاطباء لفحص صور الأشعة أو حتى إلى أداء جراحة عن بعد لمريض في بلد مختلف تماما. من الممكن نشر المعلومات السريرية والرقابية والوبائية من خلال تكنولوجيات الاتصالات، مثل الإنترنت. لقد ساهمت هذه الابتكارات الحديثة في جعل مجاراة الأطباء لآخر الأخبار والمعرفة والمعلومات الطبية أكثر سهولة عنها في الماضي، حتى في أكثر المناطق النائية في العالم.
لدى تكنولوجيات الاتصالات القدرة على خفض التكاليف، حيث ستقوم المستشفيات بتفويض خدمات المزودين ذوي أكثر الأسعار تنافسية، ولن تكون خياراتهم محدودة حسب الموقع. ويمكن أن يساعد الطب عن بعد العاملين في المناطق النائية على التشاور مع المتخصصين في المراكز الحضرية، مما يؤدي إلى تقليل الحاجة للإحالات المكلفة. قد يساعد الطب عن بعد في توسيع نطاق التجارب السريرية مثل إمكانية شمول المناطق الريفية، أو نطاق أوسع من الأجناس والأعراق. وبالنسبة للمريض، فإن الطب عن بعد سيزيل الحاجة إلى السفر المُكلف المُضني ويقلل من التأخير بين الإحالة والعلاج (هيلي وروين وأوهينما، 2002).
هناك أدلة أيضا على أن الطب عن بعد قد يكون له فائدة مباشرة للدول ذات الدخل المنخفض. وجدت أحد الدراسات أن مشروعا لطب العيون عن بعد بين المملكة المتحدة وجنوب إفريقيا قد ساعد الأطباء على تحسين معرفتهم المحدودة في مجال طب العيون، كما أدى إلى خفض عبء مرض العيون (جونستون، 2004). بالطبع، من المتوقع أن تجني الدول منخفضة الدخل فوائد أكبر من الطب عن بعد من الدول الغنية. لقد تم إقرار خبراء الصحة العامة منذ زمن طويل على أن نقص سبل الحصول على العناية الطبية المؤهلة والخدمات التحتية الملائمة هما أحد أهم العوائق أمام الصحة الجيدة في البلدان الفقيرة. ويعتبر استقطاب المتخصصين إلى المناطق الريفية والضواحي مشكلة رئيسية متصلة بالموضوع. ولذلك، فإن بناء وصيانة الخدمات التحتية للاتصالات اللازمة لاستخدام الطب عن بعد يعدُّ أكثر سهولة من وضع الأطباء المتخصصين في المناطق الريفية.

الاستهلاك في الخارج

يتزايد الاتجاه نحو سفر المرضى إلى الخارج من أجل الحصول على أفضل نوعية للرعاية الطبية، وبأقل التكاليف ومع الحد الأدنى من الانتظار. إذ يسافر حاليا عدد كبير من السياح الطبيين إلى الهند وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا، حيث يوجد العديد من المرافق الطبية عالية الجودة. ويأتي العديد من هؤلاء المرضى من مناطق من العالم لا يتوفر لديها المرافق الطبية الحديثة؛ بينما يأتي البعض الآخر من دول أخرى مثل المملكة المتحدة وكندا حيث أنظمة الرعاية الصحية العامة مثقلة لدرجة كبيرة يمكن معها أن يستغرق المريض سنوات للحصول على الرعاية اللازمة. وتعتبر التكلفة دافعا آخرا للسياحة الصحية: تقدر تكلفة إجراء عملية جراحية في الهند أو تايلندا أو جنوب إفريقيا عشر التكلفة في الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية، بل واحيانا اقل. وتساعد الجاتس على توفير الإطار الذي سيتم من خلاله وصول المرضى لهذه الخدمات.
لقد كان مستوى السياحة الطبية قبل عشر سنوات لا يُذكر. اليوم، يزور سنغافورة أكثر من 200000 مريض كل عام، نصفهم تقريبا من منطقة الشرق الأوسط. ويقدر أنه في عام 2005، سيسافر نحو نصف مليون مريض أجنبي إلى الهند للرعاية الطبية، بينما في عام 2002 بلغ العدد 150000 مريض فقط. سيُحقق هذا بطريقة ما تخفيف العبء عن النظم الصحية في الدول الغنية في العالم التي تعاني من قيود مالية متزايدة، وفي نفس الوقت، يخلق حوافز أكبر للكوادر الطبية المدربة للبقاء في بلدانهم بدلا من الخروج بخبراتهم إلى دول أخرى. إضافة إلى ذلك، تقدم الجاتس آلية تستطيع الدول من خلالها تبادل طلاب الطب، مما يزيد من معدل نقل المعرفة.
قد يكون جذب المرضى الأجانب أيضا مصدرا للعملة الأجنبية في الدول منخفضة الدخل. فباستطاعة السياحة الطبية تحقيق حوالي 2.2 مليار دولار بحلول عام 2012، وفقا لدراسة قام بها خبراء الإدارة ماكنزي آند كومباني واتحاد الصناعات الهندية. ولقد دخلت كل من الأرجنتين وكوستاريكا وكوبا وجامايكا والأردن وجنوب إفريقيا وماليزيا وهنغاريا ولاتفيا وإستونيا في هذا السوق، أو لا تزال تحاول أن تفعل ذلك، مع انضمام دول أخرى إلى القائمة كل عام.
الوجود التجاري
توفر الجاتس آلية مبنية على قواعد تمكِّن مقدمي الخدمات الصحية التجارية، مثل المستشفيات أو شركات التأمين، من العمل في الدول الأجنبية. وبينما تزداد بعض الدول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة انفتاحا على الاستثمار الخارجي الخاص في القطاع الصحي، بدأت الدول الفقيرة مثل الهند وإندونيسيا ونيبال وسريلانكا وتايلندا أيضا تخطو طريقا حرا مشابها في هذا المجال (منظمة الصحة العالمية، 2002). هناك عدة أسباب لأهمية هذا النوع من التجارة في تسريع “انتشار المعرفة” التي قد رأينا أنها تؤدي إلى تحسين الصحة العامة.
أولا، سيؤدي وجود رأس المال الأجنبي الإضافي إلى تعجيل سرعة اعتماد التكنولوجيا الطبية الجديدة. سيحضر المزودون الأجانب أساليب إدارة متقدمة، والتي ستزيد من كفاءة المستشفيات المحلية.
ثانيا، سيقدم تطوير الخدمات الطبية عالية الجودة وظائف إضافية للكوادر الطبية، مما يساعد في الحفاظ عليهم في بلدهم. وغالبا ما يقوم الجراحون الاستشاريون بتقسيم وقتهم بين القطاعين العام والخاص. فإذا كانت خياراتهم الوظيفية محصورة في القطاع العام، لن يكون لديهم الحوافز الكافية لبقائهم في بلدهم. وعليه، فإن وجود المزودين التجاريين الأجانب سيساعد على التغلب على ما يُسمى “بهجرة الأدمغة” التي تؤثر على الخدمات الطبية في بعض الدول منخفضة الدخل.
ثالثا، سيكون بإمكان المزودين الأجانب ورأس المال الخاص في داخل بلد أجنبي المساهمة أيضا في التخفيف من واقع الخدمات العامة التي تعاني من قيود مالية، عبر تخفيض عدد المرضى الذين يحتاجون للعلاج.
وأخيرا، يمكن أيضا للجاتس أن تساهم في تسريع إدخال التأمين الصحي الخاص في الدول منخفضة الدخل والذي سيكون تطورا إيجابيا لأولئك المحرومين من الحصول على الرعاية بسبب الاحتكارات العامة غير الفعالة والجائرة. ويمكن لهذا تحسين الوصول الشامل فقط.
وجود الأشخاص الطبيعيين

توفر الجاتس إطارا قانونيا يستطيع الأفراد العاملون في المهن الطبية الانتقال من خلاله بين الدول لممارسة الطب. وهذه قضية خلافية لأن أكبر حركة انتقال للمهنيين العاملين في مجال الصحة تكون من الدول منخفضة الدخل إلى الدول الغنية، حيث الرواتب أعلى وظروف العمل أفضل. إذ يصعب على المهنيين العاملين في المجال الطبي العثور على وظيفة في مجال مهنتهم في العديد من الدول منخفضة الدخل، وينتهي بهم المطاف باللجوء إلى العمل في وظائف لا تتطلب مهارات عالية.
في الإعلام الشائع بين العامة، توصف هذه الظواهر بأنها “هجرة معاكسة تماما للأدمغة” تستنزف الأنظمة الصحية للدول ذات الدخل المنخفض من القدرات والموارد. وفي الواقع، قد يقدم ما يُسمى بـ “هجرة أدمغة” الكوادر الطبية بعض المساهمات الإيجابية لانتشار المعرفة ويساهم أيضا في العملة الأجنبية للدولة عبر التحويلات. وسيكتسب العديد من المهنيين العاملين في المجال الطبي المهارات التي لا يقدرون على اكتسابها في بلدهم، وفي كثير من الحالات يعود هؤلاء إلى بلادهم محملين بهذه المهارات. ففي مجال البحوث الصحية، يمكن للعلماء المهاجرين من الدول منخفضة الدخل تعزيز النشاط البحثي في المجالات ذات الأولوية بالنسبة لبلدهم، مما يُساعد على تحسين توزيع تمويل البحوث الصحية لهذه المناطق. علاوة على ذلك، فإن السماح بحرية حركة الشعوب يضمن استغلال الإمكانيات البشرية. فعلى سبيل المثال، لم يكن باستطاعة ألبرت أينشتاين وضع نظرياته لو بقي في ألمانيا النازية في الثلاثينات.
ومن منظور فلسفي أوسع، فإن الفكرة القائلة بوجوب تقييد حرية التنقل لبعض الفئات الخاصة من الأفراد من قبل الحكومات هي فكرة تسلطية مقيتة. أولئك الداعون بوقف الحركة الدولية للمهنيين العاملين في القطاع الصحي يلمحون أن هؤلاء الناس هم من الممتلكات المالية للحكومات. ويبدو هذا تعصب على نحو خطير لتقييد الناس من تحقيق طموحاتهم وإمكاناتهم بهذه الطريقة.
تريبس ونقل التكنولوجيا — حالة الهند

كان إدخال قضايا الملكية الفكرية الدولية في التجارة العالمية مثيرا للجدل منذ أن تم التوقيع على اتفاقية منظمة التجارة العالمية المتعلقة بالجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية (تريبس) في عام 1994. ولقد تركز معظم النقاش اللاحق حول فيما إذا كان فرض براءات الاختراع على المنتجات الدوائية سَيَحول دون حصول الدول ذات الدخل المنخفض على الأدوية. تحاول هذه الاتفاقية أن توازن بين الحاجة لضمان الحصول على الأدوية وبين ضرورة حماية استثمارات المبتكرين. ومن غير المحتمل أن يستثمر القطاع الخاص المبالغ الكبيرة المطلوبة من أجل تطوير أدوية جديدة بدون هذه الحماية.
لا تنوي هذه الورقة أن تطيل الحديث عن هذه الجوانب للجدل حول التريبس، والتي هي الآن مألوفة لجميع المهتمين بالصحة العامة. سيكون جديرا بالأحرى النظر في تأثير اتفاقية التريبس على نقل التكنولوجيا والمعرفة.
الهند هي أحد الأمثلة التي تستحق الفحص والبحث. فلكي تُصبح الهند ممتثلة مع اتفاقية التريبس، سنَّت الهند قانون براءة اختراع في أوائل عام 2005. المؤشرات الأولى أن هذا القانون قد أدى إلى زيادة الاستثمار في مجال بحوث وتنمية الأدوية (البحث والتطوير) في الهند من قبل الشركات المحلية ومتعددة الجنسيات، والتي من المفترض أن تُنتج مع مرور الوقت أدوية أرخص مصممة خصيصا لتلبية احتياجات سكان الهند. بهذه الطريقة، لن تستفيد الهند من الخبرات الفنية في مجال الصناعات الدوائية التي تجلبها الشركات متعددة الجنسيات معها فحسب، وإنما ستستفيد أيضا من زيادة مستويات الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تساعد على تعزيزالاقتصاد. هناك أيضا بعض الأدلة التي تشير إلى أن القوانين الجديدة تخلق مناخا جذابا لعودة العلماء والباحثين الهنود إلى بلدهم من الولايات المتحدة وأوروبا.
ولكن، قوبل هذا التحرك من جانب الحكومة الهندية بالكثير من المعارضة من قبل جماعات “المصلحة العامة” وحملات المهتمين بالصحة الذين يرون أن امتثال الهند مع تريبس سيُغلق أكبر مصدر للأدوية الرخيصة في العالم لأنه لن يعود بمقدور الشركات الهندية المصنعة للأدوية العامة إنتاج ونسخ الأدوية الحيوية التي تحظى ببراءة اختراع في أماكن أخرى.
لكن هذا الادعاء كاذب. إن 97% من الأدوية التي تُنتجها شركات الأدوية العامة الهندية لا تخضع لبراءة اختراع، وبذلك سيؤثر القانون على 3% من جميع الأدوية التي تنتجها الدولة كأقصى حد. وعلاوة على ذلك، فإن أقل من 2% من الأدوية الأساسية المدرجة في قائمة منظمة الصحة العالمية تخضع حاليا لبراءة اختراع (أتاران، 2004)، وعليه، فإنه من غير المحتمل أن يكون لقانون براءة الاختراع الهندي الجديد اثر كبير في الوصول إلى الأدوية في أجزاء أخرى من آسيا وإفريقيا.
قبل تنفيذ اتفاقية تريبس كان هناك حوالي 20000 شركة لإنتاج الأدوية في الهند، لا يزال بعضها يخضع لبراءة اختراع في بلدان أخرى. وقُدّر في عام 1999 أن أقل من 40% من السكان يستطيعون الحصول على أي نوع من الأدوية (لانجاو، 1999). لا شك في أن تنفيذ قانون براءة الاختراع المتماثل مع تريبس قد أدى إلى تخفيض عدد الشركات التي تنتج نسخا من الأدوية—والتي يقدر عددها بحوالي 9000—ولكن لم يكن لهذا أثر ملحوظ على معدلات إمكانية الوصول للأدوية التي لا تزال منخفضة لدرجة تبعث على الأسى. والواقع أنه هناك مشاكل أكثر خطورة تؤثر في إمكانية الوصول إلى الأدوية إلى جانب حقوق الملكية الفكرية، مثل الخدمات الطبية الأساسية غير الملائمة تماما.
ومع ذلك، فإن التغييرات الأخيرة في قانون الملكية الفكرية في الهند تُحفز الآن الشركات الهندية لإجراء بحوث وتطوير لأدوية الأمراض التي تؤثر على السكان المحليين بشكل سائد. فعلى سبيل المثال، افتتحت مؤخرا شركة نيكولاس بيراميل مركزا للبحوث والتطوير في بومباي بتكلفة 20 مليون دولار لإجراء البحوث الأساسية على مجموعة واسعة من الاضطرابات، ابتداء من السرطان إلى الملاريا. فالملاريا مرض يصيب ما لا يقل عن 600 مليون شخص سنويا، غالبا في الدول الفقيرة بما فيها الهند. وتقوم كل من شركة رانباكسي، أكبر شركة أدوية في الهند، وشركة الدكتور ريدي بمتابعة مشاريع بحث وتطوير مماثلة. لدى الهند حاليا أكبر عدد من شركات تصنيع الأدويه الموافق عليها خارج الولايات المتحدة، كما زادت الانفاق على البحث والتطوير من 4% قبل خمس سنوات إلى 8% في الوقت الحاضر.
يجذب التغيير في قانون براءة الاختراع أيضا استثمارا أجنبيا ذا قيمة. فتنظر الشركات متعددة الجنسيات مثل شركة ميرك وبريستول مايرز سكويب الآن إلى الهند كموقع رئيس لإنشاء مرافقا للبحث. ولا تعود جاذبية الهند إلى قلة التكاليف الأساسية فحسب، بل أيضا إلى وجود العديد من الباحثين المثقفين الذين يستطيعون إجراء الاختبارات السريرية عالية التكاليف وأشكالا أخرى أكثر تعقيدا لمراحل تطوير الأدوية المتقدمة. ويقدر الخبراء الإداريون ماكنزي أنه بحلول عام 2010، ستنفق شركات الأدوية الأمريكية والأوروبية حوالي 1.5 مليار دولار سنويا في الهند على التجارب السريرية وحدها (بادما، 2005).
تسعى الكثير من الشركات الغربية أيضا للشراكة مع الخبرات المحلية. ومثال حديث على هذا هو التعاون القائم بين شركة دنماركية، نوفو نورديسك، وشركة الدكتور ريدي لإيجاد علاج جديد لمرض السكري. ولقد أعربت الشركات اليابانية عن رغبتها في استثمار مبالغ كبيرة في مشاريع البحث والتطوير الهندية. وبدلا من فرض حواجز مانعة، كما فعلت الهند في السابق، دأبت الحكومة الهندية على جذب هذه الاستثمارات الأجنبية بتوفير الحوافز، مثل منح إعفاء ضريبي لمدة عشر سنوات لشركات الأدوية التي تُشارك في البحوث والتنمية.
تعني هذه التطورات أنه بإمكان الشركات الهندية تطوير لقاح لمرض الملاريا أو تحسين علاجات السل المتوفرة حاليا والتي تساهم المقاومة لها في وفاة أكثر من 1000 شخص كل يوم في الهند وحدها. وتدخل الاستثمارات في مجالات البحث والتطوير في محاولة العثور عن لقاح لفيروس الإيدز. وتُجرى حاليا تجارب على الإنسان للّقاح الوقائي المرشح ضد فيروس الإيدز الثاني الذي أنتجته الهند.
في وقت قصير نسبيا، سرّع قانون براءة الاختراع الجديد في الهند التعاون بين قطاع تكنولوجيا المعلومات والصناعات الدوائية والتكنولوجيا الحيوية. وحتى وقت قريب، اعتمدت القطاعات النامية للتكنولوجيا الحيوية والأدوية المبنية على الأبحاث على تسجيل براءات الاختراع في أوروبا والولايات المتحدة. كما واجهت صعوبات في إنشاء مشاريع مشتركة مع شركات تكنولوجيا المعلومات بسبب ضعف قوانين براءة الاختراع المحلية وإحجام الشركات الأجنبية عن تقديم التزامات كبيرة وخطرة. الآن، وبدلا من تصدير المواد الخام والعناصر الفعالة الأساسية التي تدخل في إنتاج الأدوية العامة زهيدة الثمن، فإن الشركات في الهند قادرة الآن على المنافسة عالميا، منتجة أدوية منقذة للحياة ذات قيمة مضافة مرتفعة. وسوف يسهِم هذا أيضا في النمو الاقتصادي المستمر للهند الذي شهد ارتفاعا في متوسط العمر المتوقع من 36 سنة في عام 1951 إلى مستواه الحالي وهو 61 سنة.
اتفاقيات التجارة الحرة
لقد أدى الاتجاه المتزايد لدى الولايات المتحدة للتوقيع على اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية والإقليمية، أسوة بالتريبس، إلى الخوف من أن تكون اتفاقيات التجارة مضرة على الصحة من خلال إعطاء الأولوية لاعتبارات الملكية الفكرية بدلا من إمكانية الوصول إلى الأدوية. ولدى الولايات المتحدة حاليا اتفاقية تجارة حرة مع الأردن وتشيلي وسنغافورة وأستراليا والمغرب والبحرين ومجموعة من ستة بلدان من أمريكا الوسطى (منطقة التجارة الحرة للأمريكتين). وهناك مفاوضات متقدمة بين الولايات المتحدة وتايلندا ودول الأنديز وخمسة اتحادات جمركية لدول إفريقيا الجنوبية (ساكو) و34 دولة من أمريكا اللاتينية ودول الكاريبي. وعلى نحو مشابه للتريبس، يمكن لهذه الاتفاقيات أن تحسن الصحة عبر تشجيع نقل التكنولوجيا وإثراء الدول الموقعة.
هناك بعض الشكوك حول اتفاقيات التجارة الحرة. فعلى سبيل المثال، تؤكد بعض الجماعات الناشطة أن بعض أحكام الملكية الفكرية في هذه الاتفاقيات ستمنع الدول من استخدام الضمانات الواردة في إعلان الدوحة بشأن اتفاقية التريبس والصحة العامة. لقد صرح الإعلان الموقع من قبل جميع الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية ثانية بمرونة اتفاقية التريبس التي تسمح للدول اتخاذ التدابير اللازمة، بما في ذلك الترخيص الإجباري للأدوية، لحماية الصحة العامة. ولقد أكد توضيح آخر في آب 2003 أنه بإمكان دول ثالثة أيضا أن تجعل ترخيص الأدوية إلزاميا للتصدير للدول الفقيرة التي ينقصها القدرة على التصنيع.
ولكن ادعاء الناشطين أن اتفاقيات التجارة الحرة “تقتل” من خلال الميل بالتوازن بين “الصحة العامة مقابل الملكية الفكرية الخاصة” لصالح المصالح التجارية لشركات الأدوية الأمريكية هو ببساطة ادعاء غير صحيح. إذ تصرح جميع اتفاقيات التجارة الحرة بوضوح على أنها لن تُقيِّد أية مرونة مسموح بها في التريبس أو إعلان الدوحة لحماية الصحة العامة. وحيث لم يظهر هذا التصريح في الاتفاقية الرئيسية، قامت الولايات المتحدة والدولة الشريكة (الدول الشركاء) بتوقيع “رسائل جانبية” ملزمة بنفس المفعول.
عند القيام بحملات ضد اتفاقيات التجارة الحرة، يرفع الناشطون شبح فترات البراءة التي تتجاوز الحد الأدنى لسنوات التريبس العشرين، مقترحين بذلك حالة يتوجب فيها انتظار الفقراء 20 عاما أو أكثر قبل تمكنهم من الحصول على الأدوية العامة. ولكن، كما شاهدنا، فإن 95% من الأدوية الضرورية على قائمة منظمة الصحة العالمية لا تخضع لبراءة الاختراع وستبقى كذلك (أتاران، 2004). وبالمثل، فإن الأدوية المسجلة في الولايات المتحدة وليس في غيرها من البلدان، بما فيها الأدوية المضادة للفيروسات، لا يمكنها الآن أن تكتسب حماية براءة الاختراع. وفي أي حال لا يكون للأدوية بحكم الواقع 20 سنة مدة براءة الاختراع. ويتطلب الأمر، وبشكل نموذجي، مدة تتراوح من 10 إلى 12 سنة لإجراء تجارب على مادة ما وللحصول على الموافقات القانونية—ويحدث جميع هذا بعد منح براءة الاختراع—حيث لن تقوم أية شركة بالاستثمار في مادة غير مسجلة ببراءة اختراع. في هذه الأثناء، قد يتطلب تسجيل براءة الاختراع من سنة إلى ثلاث سنوات بعد تقديم الطلب. لذلك، فإن لمعظم الأدوية مدة براءة فعالة لمدة تتراوح من ست إلى عشر سنوات، وفي العادة أقل بكثير من ذلك. ووفقا لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية، فإن متوسط فترة البراءة المتبقية بعد الحصول على الموافقة على التسويق في عام 2001 كان 7.8 سنة من العشرين عاما الأصلية لحماية براءات الاختراع (إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، 2002). بالمقابل، تتمتع القطاعات الصناعية الأخرى بمتوسط عمر براءة اختراع تتجاوز 18 سنة. وتقدم بعض اتفاقيات التجارة الحرة تعويضا لمدة البراءة في حالة التأخير غير الضروري في الحصول على الموافقة التسويقية. وفي الولايات المتحدة، حيث توجد مثل هذه التشريعات، لا تتجاوز المدة الإضافية في العادة السنتين. وبعبارة أخرى، ستحصل معظم الأدوية على فترة تفرّد أقل بكثير من العشرين سنة المذكورة.
وفي حين تفتح اتفاقية التريبس المجال للحكومات لحماية الصحة العامة، فهي تهدف أيضا إلى تشجيع الدول على احترام الملكية الفكرية بالامتناع عن استنساخ الأدوية الموجودة، مثل الفياجرا وغيرها من “أدوية أساليب الحياة”. وبإجراء ذلك يتم استقطاب الاستثمار كما يساعد على نمو صناعاتهم المبتكرة الخاصة. سيُتيح هذا زيادة نقل المعرفة والتكنولوجيا، حيث ستشعر الشركات متعددة الجنسيات أن باستطاعتهم العمل في بلد بدون التعرض لاختلاس ممتلكاتهم. وبحماية الملكية الفكرية، تشجع اتفاقيات التجارة الحرة إطلاق المنتجات المبتكرة التي بواسطة الصناعات الدوائية المحلية. على سبيل المثال، منذ أن وُقعت اتفاقية التجارة الحرة بين الأردن والولايات المتحدة في عام 2000، تم إطلاق أكثر من 32 منتجا جديدا في الأردن (ممثلية التجارة الأمريكية، 2004).
وللتأكيد، فإن اتفاقيات التجارة الحرة تُمثل ثاني أفضل حلّ لتحرير التجارة. ومع ذلك، فهي تحسن للوضع القائم عبر تحرير التجارة وتحسين الرفاه الاقتصادي. هذا سيسمح للدول الإنفاق بشكل أكبر على الرعاية الصحية، فضلا عن تمكين الأفراد من تحسين ظروفهم المعيشية وبالتالي تحسين الصحة. إضافة إلى ذلك، فهي تشجيع نقل التكنولوجيا والمعرفة عن طريق تحسين بيئة العمل لشركات الأدوية المبتَكِرة.
الخاتمة

بالرغم من وضوح قيام التجارة الحرة بحثّ اثنين من أهم العوامل الصحية—النمو الاقتصادي ونقل التكنولوجيا—فهي لا تزال تواجه الكثير من الشك من قبل مجموعة متنوعة من الناس. وتشمل هذه المجموعة جماعات الضغط في قطاع الصناعة الخائفين من المنافسة الدولية، والناشطين الذين يسعون إلى الحد من حرية القطاع الخاص، والحكومات التي تُملي السياسات وفقا لرغبات مجموعات المصالح الخاصة. ويؤكد المعارضون أن التجارة الحرة شيء سيىء بسبب تصوُّر أنها ستخلق فائزين وخاسرين. وعلى الرغم من الأدلة الجديرة بالاعتبار والمبنية على التجربة التي تدل على عكس ذلك، فهناك أيضا شك شديد بقدرة النمو الاقتصادي على تحسين رفاهية الإنسان. وغالبا ما تبدو هذه الآراء المعارضة واضحة كآراء رسمية لبعض الهيئات مثل الأمم المتحدة ووكالاتها، والذي يبدو أنها تعتقد أن معالجة قضية اللامساواة ذات درجة أعلى من الأولوية عن تعزيز النمو الاقتصادي.
إن تقرير التنمية البشرية لعام 2005 لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية هو أحد الوثائق التي تتبنى هذا الموقف، والذي يناقش بضرورة تقديم المزيد من المساعدات الخارجية لمعالجة اتساع التفاوت الذي يعتبره البرنامج العائق الرئيسي أمام تحقيق أهداف التنمية للألفية. تشك الوثيقة أيضا بقوة التجارة الحرة في تحسين ظروف الإنسان. وتقترح أن التجارة الحرة قد تجعل التفاوت في الصحة والتعليم والدخل في الدول منخفضة الدخل أسوأ. وتشكل هذه النظرة الأساس لمفوضية المحددات الاجتماعية للصحة التابعة لمنظمة الصحة العالمية، كما تم مناقشتها أيضا في تقرير التنمية العالمية للبنك الدولي لعام 2006.
يغفل الهاجس العالمي للتخلص من “اللامساواة” النقاط التي تتعلق بالقضايا الصحية. كثيرا ما يصاحب النمو الاقتصادي ازدياد في التفاوت الصحي، ولكن من المهم أن نعترف بأن النمو الاقتصادي قلما يتسبب في الإضرار بصحة السكان الكلية. وفي الواقع، تظهر الأدلة المستقاة من التجربة أن ما يحدث هو العكس تماما. وجد آدم واجستاف (2002) في تحليله للبيانات المأخوذة من 42 دولة أن التفاوت الصحي يزداد فعلا مع ارتفاع دخل الفرد في كل من الدول الغنية والفقيرة. ويعود هذا جزئيا إلى تحسين توفر التكنولوجيا الصحية الجديدة التي تُرافق النمو الاقتصادي، الذي يمكن تبنيه بسرعة أكبر من قبل الأغنياء وليس الفقراء. ولكن من المهم أن نلاحظ أن أكثر الناس فقرا لا يصبحون أقل صحة بازدياد صحة عناصر المجتمع الأكثر ثراء، بل يصبحون أوفر صحة كذلك، ولكن بمعدل ابطأ قليلا من أولئك الأكثر ثراء نسبيا. ولكن إذا رغبت الدول منخفضة الدخل في التغلب على هذه التفاوتات من خلال إدارة التجارة بواسطة سياسات بدائل الاستيراد وما شابه ذلك، فمن المحتمل أن يتأخر النمو الاقتصادي وأن يدام الفقر، مما يجعل الناس غير قادرين على الحصول على الوقود النظيف والمرافق الصحية الملائمة والظروف المعيشية الصحية.
بالنسبة لأولئك المعنيين بالتفاوت من موقف معياري، يجدر التذكير أيضا أن الارتفاع المذهل للازدهار الفردي الذي حصل في السنوات الأخيرة في الهند والصين قد ساهم كثيرا في خفض التفاوتات العالمية في التعليم والصحة. وبالرغم من وجود تباين في الدخول العالمية (نتيجة لفشل إفريقيا في تشجيع النمو الاقتصادي)، تقاربت مؤشرات التنمية البشرية بسرعة في انحاء العالم خلال نصف القرن الأخير. وقد لاحظ الاقتصادي تشارلز كيني مؤخرا أنه بالرغم من اتساع الفجوات في الدخل بين أغنى الدول وأفقرها، فإن معظم الدول تتقارب بسرعة في مؤشرات التنمية مثل الصحة والتعليم (كيني، 2005). ويعود هذا جزئيا إلى أن عمليات التجارة الحرة والعولمة الاقتصادية أدت إلى انتقال أسرع للتكنولوجيا والمعرفة من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة مما كان ممكنا في القرون السابقة. وأظهرت دراسة نفذها الاقتصادي ديفيد دولار من البنك الدولي أن تسارع العولمة الاقتصادية وتدفقات التجارة في المراحل الأخيرة من القرن العشرين قد أتاح المجال لمعدل النمو الاقتصادي في الدول منخفضة الدخل أن يتجاوز معدل النمو للدول الغنية للمرة الأولى في التاريخ (أنظر الشكل 4). إضافة إلى ذلك، إن عدد الفقراء في العالم يتناقص بحوالي 375 مليون شخص منذ عام 1981 في حين ازداد عدد سكان العالم بحوالي 1.6 مليار في نفس الفترة.
في المقابل، لم يعترف معارضو التجارة الحرة بتأثيرها المفيد على الإنسانية. إنهم ينظرون إليها كلعبة “مجموع الصفر” حيث تستغل الدول ذات الدخل المرتفع والشركات متعددة الجنسيات الفقراء والمهمشين. ويدفع نشطاء مكافحة الفقر باستمرار الرسالة التي تدور حول أن تحرير التجارة سيىء بالنسبة للفقراء، لأنهم غير قادرين على منافسة التفوق المالي والتكنولوجي للمنتجين من الأسواق الأكثر ثراء.
يُلبس معارضو التجارة الحرة بمحض إرادتهم أحيانا “التجارة الحرة” بما هو في الواقع تجارة موجهة. لقد قدمت إحدى الحملات الأخيرة المناهضة للتجارة الحرة والتي تقودها منظمة العون المسيحية بمكر فكرة أن المزارعين الأفارقة يعانون بسبب التجارة الحرة مع الدول الغنية، بينما أن المعرفة السطحية بالحقائق كفيلة بأن تكشف أنهم يعانون من الدعم المالي السخي والحواجز الجمركية الواقية الممثلة من خلال السياسة الزراعية المشتركة. ومن الواضح أن هذا لا يمثل التجارة الحرة، وهو سيىء للمزارعين في الدول الفقيرة والمستهلكين في الدول الغنية. ولكن عندما يقاس تأثير التجارة الحرة الحقيقية على صحة السكان من قبل الاقتصاديين، تُشير الدلائل إلى أنها قوة للخير تُساعد على تحسين متوسط العمر المتوقع ووفيات الأطفال (وي ووا، 2004).

ستتحسن الصحة من خلال أداء اقتصادي أفضل للدول التي تقبل التجارة الحرة وترفض سياسات بدائل الاستيراد، كذلك ستجعل بإمكان المستهلكين الحصول على سلع تساهم في صحة الإنسان ذات جودة أعلى وتكلفة أقل. وعلى سبيل المثال، تزداد معدلات الوفيات وانتشار الأمراض في الدول منخفضة الدخل زيادة كبيرة نتيجة لتلوث الهواء الداخلي الذي ينشأ من احتراق الوقود الحيوي البدائي مثل روث البقر. ستجعل التجارة الحرة الوقود المستورد الأنظف مثل الكيروسين والغاز أرخص ثمنا وأكثر وفرة، كما وستضغظ بطريقة غير مباشرة على الحكومات من أجل إصلاح قطاع الطاقة. وبالمثل، فإن جزءا كبيرا من عبء المرض في أكثر الدول فقرا هو نتيجة مباشرة للمياه الملوثة، ولذلك ستكون التجارة الحرة في تنقية المياه والتكنولوجيات الأخرى ذات الصلة مفيدة جدا. وأخيرا، ستُتيح التجارة الحرة في المواد الغذائية توازنا أفضل بين العرض والطلب عما هو الحال حاليا في أجزاء كثيرة من العالم، وستساعد على مكافحة سوء التغذية—أحد أهم محددات الصحة. هذه الحالة صحيحة لعديد من الدول الإفريقية، التي تُقيم، وعلى نحو غير ضروري، حواجز جمركية صارمة بينها من أجل حماية قطاع الزراعة المحلية. وتكون النتيجة غذاء أغلى ونقصا في الأغذية وفي بعض الأحيان المجاعة.
ملاحظات:

[1] المنحنيات المصقولة في هذا الشكل مبنيّة على تحليل تراجعي خطي لوغارثمي. عدد القراءات = 268 لعام 1977 و2003 على نحو تراكمي؛ R2 المعدلة = 0.56. الزيادة في متوسط العمر المتوقع المترتبة على زيادة الدخل ومرور الوقت ذات أهمية على مستوى 99.9%.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 13 كانون الأول 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

هناك قول شائع، وقد يكون صحيحاً، مفاده أن الاقتصاد المؤسساتي الجديد بدأ بمقالي “طبيعة الشركة” (1937) مع مقدمتها الواضحة لتكاليف التعاملات في التحليل الاقتصادي. بيد أنه ينبغي التذكر أن منبع النهر العظيم هو جدول صغير وأنه يستمد قوته من الروافد التي تصب في مجراه. وهذا هو الحال في الموضوع الذي نحن بصدده. لست أفكر فقط في مساهمات اقتصاديين آخرين مثل أوليفر وليامسون وهارولد ديمسيتز وستيفن تشيونغ، على أهميتهم ولكن أيضاً في أعمال زملائنا في القانون والأنثروبولوجيا والاجتماع والسياسة والعلوم والتخصصات الأخرى.
إن عبارة “الاقتصاد المؤسساتي الجديد” هي من ابتكار أوليفر ويليامسون وكان القصد منها تمييزها عن “الاقتصاد المؤسساتي القديم”. كان جون آر. كومونز وويزلي ميتشل والمتعاونون معهما رجالاً ذوي مكانة فكرية كبيرة ولكنهم مضادين للنظريات، وإذا لم تكن هناك نظرية تربط مجموعة الحقائق التي توصلوا إليها فلن يكون لديهم الشيء الكثير مما يستطيعون إيصاله للناس. من المؤكد أن التيار السائد في علم الاقتصاد يمضي في طريقه دون أي تغيير ذي شأن، وهو لا زال مستمراً في ذلك. عندما أتحدث عن الاقتصاد كاتجاه سائد فإني أشير إلى الاقتصاد الجزئي، وأترك للآخرين تقدير ما إذا كانت انتقاداتي هذه تنطبق أيضاً على الاقتصاد الكلي.
اقتصاد التيار السائد، كما يراه المرء في المجلات المتخصصة وفي الكتب الدراسية والدورات التي تعقدها أقسام الاقتصاد في الجامعات أخذ سمة تجريدية بمرور الزمن، ورغم أنه يوحي بغير ذلك فإنه في الواقع لا يقيم وزناً كبيراً لما يحدث في عالم الواقع. وقد قدم ديمسيتز تفسيراً لسبب حدوث ذلك: لقد كرس الاقتصاديون منذ آدم سميث أنفسهم لوضع صياغة لمبدأه حول اليد الخفية—تنسيق النظام الاقتصادي بواسطة نظام التسعير. كان ذلك إنجازاً مثيراً للإعجاب ولكن، وكما أوضح ديمسيتز، فإنه تحليل لنظام شديد اللامركزية. إلا أنه يحوي أخطاءً أخرى.
وقد أشار آدم سميث أيضاً إلى أنه يتعين علينا أن نولي عناية لتدفق السلع والخدمات الحقيقية بمرور الوقت، وبما يحدد تنوعها وحجمها. والحال أن الاقتصاديين يدرسون كيف أن العرض والطلب يقرران الأسعار ولكن ليس بنفس العوامل التي تحدد ما هي السلع والخدمات التي يجري تداولها في السوق وبالتالي تسعيرها. إنها وجهة نظر تستهين بما يجري في العالم الحقيقي ولكن الاقتصاديين اعتادوا عليها واستمروا العيش في عالمهم دون إزعاج. إن نجاح اقتصاد التيار السائد رغم أوجه الخلل فيه هو إشادة بقدرة احتمال أسس نظرية حيث أنه قوي بالتأكيد من ناحية نظرية ولكنه ضعيف من الناحية الواقعية. من هنا، وعلى سبيل المثال، فإن بينغت هولمستورم وجان تيرول يشيران في كتابهما دليل المنظومة الصناعية(1989، ص 126) إلى أن “نظرية الشركة تلحظ أن نسبة الدليل/النظرية هي نسبة ضعيفة جداً في هذا المجال حالياً”.
هذه اللامبالاة بما يحدث عملياً في العالم الحقيقي تستمد القوة من الطريقة التي يفكر بها الاقتصاديون في موضوعهم. كان هناك، أيام شبابي، تعريف شائع جداً للاقتصاد وضعه ليونيل روبنز (1935، ص 15) في كتابه مقال في طبيعة وأهمية علم الاقتصاد: “الاقتصاد علم يدرس سلوك الإنسان كعلاقة بين أهداف ووسائل نادرة لها استخدامات بديلة”. إنه دراسة للسلوك الإنساني كعلاقة. اقتصاديو هذه الأيام يشيرون، على الأرجح، إلى موضوعهم باعتباره “علم الاختيار الإنساني” أو يتحدثون عن “مقاربة اقتصادية”. ليس هذا تطوراً جديداً، فقد سبق لجون مانيارد كينز أن قال بأن “نظرية الاقتصاد هي أسلوب وليست مبدأ… أدوات للعقل، أسلوب في التفكير، تساعد من يؤمن بها على التوصل إلى استنتاجات صحيحة (المقدمة، إتش. دي. هندرسون، 1922، ص5). أما جوان روبنسون (1933، ص 1) فتقول في مقدمة كتابهااقتصاديات المنافسة غير التامة بأن “نظرية الاقتصاد تعطى للمحلل الاقتصادي باعتبارها صندوق أدوات”. معنى هذا أن الاقتصاديين يفكرون بأنفسهم بأن لديهم صندوق عِدّة ولكن ليس مادة موضوع… (لقد نسيت القصيدة والشاعر ولكن الأبيات لا تُنسى):
“أرى الرسن واللجام بوضوح،
ولكن أين هي الفرس اللعينة؟”

وقد أسهمت من جانبي بتعبير مماثل قلت فيه بأننا ندرس الدورة الدموية دون وجود جسم.
لا أريد بقول هذا أن يُفهم بأن هذه الأدوات التحليلية ليست مهمة للغاية، وأسعد عندما يستخدمها زملاؤنا القانونيون في دراسة عمل النظام القانوني أو عندما يستخدمها أولئك العاملون في العلوم السياسية في دراسة عمل النظام السياسي. النقطة التي أتحدث عنها مختلفة، فأنا أعتقد بأنه ينبغي لنا أن نستخدم هذه الأدوات التحليلية لدراسة النظام الاقتصادي. أعتقد أنه يوجد لدى الاقتصاديين مادة موضوعية: دراسة عمل النظام الاقتصادي، وهو نظام نتقاضى فيه دخولنا ونصرفها. إن رفاه المجتمع الإنساني يعتمد على تدفق السلع والخدمات وهذا بدوره يعتمد على إنتاجية النظام الاقتصادي. وقد أوضح آدم سميث بأن إنتاجية النظام الاقتصادي تعتمد على التخصص (يسميه تقسيم العمل)، ولكن التخصص لا يكون ممكنا إلا إذا كان هناك تداول—وكلما كانت تكلفة التداول (تكلفة التعامل إذا شئت) أقل كلما أصبح هناك تخصص أكثر وزيادة في إنتاجية النظام. بيد أن تكلفة التداول تعتمد على المؤسسات في بلد ما: نظامه القانوني، نظامه السياسي، نظامه الاجتماعي، نظامه التعليمي، ثقافته، وما إلى ذلك. من ناحية فعلية، المؤسسات هي التي تحكم أداء الاقتصاد، وهذا ما يعطي “الاقتصاد المؤسساتي الجديد” أهميته بالنسبة للاقتصاديين.
ثمة جانب اقتصادي آخر يوضح أن هناك ضرورةً لعملٍ كهذا، فبصرف النظر عن صياغة النظرية فإن الطريقة التي ننظر بها إلى عمل النظام الاقتصادي ظلت ثابتة بصورة غير عادية عبر الزمن. ينحو الاقتصاديون غالباً بحقيقة أن شارلز داروين قد توصل إلى نظريته في التطور نتيجة لقراءته توماس مالثوس وآدم سميث. ولكن قارن التقدم الذي حصل في حقل علم الأحياء منذ داروين مع ما حصل في الاقتصاد منذ آدم سميث. لقد قفز علم الأحياء خطوات كبيرة وأصبح لدى علماء الأحياء الآن فهم مفصل للتركيب المعقد الذي يحكم أداء الكائنات العضوية. أعتقد أننا سنحقق ذات يوم انتصارات مماثلة في الاقتصاد. ولكن ذلك لن يكون سهلاً. حتى لو بدأنا بالتحليل البسيط نسبياً حول “طبيعة الشركة” فإن اكتشاف العوامل التي تحدد التكاليف النسبية للتنسيق عن طريق الإدارة في الشركة أو التعاملات في السوق لن يكون أمراً سهلاً. بيد أن ذلك ليس كل القصة بأي حال من الأحوال. ليس بوسعنا حصر تحليلنا بما يحدث في شركة واحدة، وهذا ما سبق أن قلته في محاضرة لي نشرت في حياة النوابغ (كوز 1995، ص 245): “تتأثر تكاليف التنسيق ومستوى تكلفة التعاملات في شركة ما بقدرتها على شراء المدخلات من شركات أخرى، وقدرة تلك الشركات على توريد هذه المدخلات تعتمد جزئياً بدورها على تكاليف التنسيق ومستوى تكلفة التعامل لديها وهذه تتأثر على نحو مماثل بما يحدث في شركات أخرى. ما نتعامل به هو بناء متشابك معقد”. أضف إلى ذلك تأثير القوانين والنظام الاجتماعي والثقافة إضافة إلى تأثير التغيرات التكنولوجية مثل الثورة الرقمية وما صاحبها من انهيار دراماتيكي في تكلفة المعلومات (وهي إحدى المكونات الرئيسية لكلفة التعاملات)، فتجد لديك مجموعة معقدة من العلاقات المتشابكة تحتاج لاكتشاف طبيعتها إلى عمل جاد لفترة طويلة من الزمن. بيد أنه عندما يحدث ذلك سيصبح كل الاقتصاد ما نطلق عليه الآن “الاقتصاد المؤسساتي الجديد”.
لن يحدث هذا التغيير، في رأيي، نتيجة لهجوم جبهوي مباشر على اقتصاد التيار السائد، بل ستحدث نتيجة لاعتماد الاقتصاديين في الفروع أو الأقسام الاقتصادية مقاربة مختلفة كما يحدث فعلاً حالياً. عندما يتغير معظم الاقتصاديين فسيعترف اقتصاديو التيار الرئيسي بأهمية فحص النظام الاقتصادي بهذه الطريقة وسيزعمون بأنهم كانوا يعرفون كل ذلك من قبل.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 4 تشرين الأول 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

لوهلة الأولى، بدا هبوط أعوام 2001-2003 في معدلات الفائدة الأمريكية وكأنه قد حرّر السلع: إذ ان النمو في الناتج والعمالة قد تسارع على نحو بطيء، وبقي التضخم ضمن النطاق المريح للمجلس الاحتياطي الفيدرالي، تحت الـ2%. وعلى كل حال، بحلول منتصف عام 2004، أدرك مجلس الاحتياطي الفيدرالي ان نسبة التضخم كانت تزحف إلى الأعلى، بعد ان وصلت إلى القاع عام 2003. وهكذا فقد رفع (أي المجلس) الكلفة المالية قصيرة الأمد، على نحو بطيء ولكنه ثابت. ارتفعت نسبة الاحتياط الفيدرالي مجددا إلى 5%. ليس بالضرورة ان يكون إحكام الضبط قد انتهى. على هذا النحو، على الأقل، قرأ وول ستريت تحذير بن بيرنانكي، مدير مجلس الاحتياطي الفيدرالي في الخامس من حزيران حول الأسعار.
ان الخط المعياري لمجلس الاحتياطي الفيدرالي هو قيامه بالنظر إلى كافة مؤشرات التضخم. بعد قول هذا، لا يخفى على احد ان المقياس المفضل لدى مجلس الاحتياطي الفيدرالي هو القياس الجوهري لنفقات الاستهلاك الشخصي. وقد ارتفع هذا المقياس، الذي يتقصى ما ينفقه الناس بشكل عام (باستثناء الطعام والطاقة)، في العام المنصرم، ارتفع بواقع 2.1% فقط. بينما فاقت هذه النسبة الهدف غير الرسمي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي ذي الـ2%، فهي ما زالت واطئة بما فيه الكفاية بالنسبة للمجلس ليدّعي باحتواء التضخم. وعلى كل حال، فان مقاييس التضخم الأخرى تتحدى ذلك التشخيص الحميد. ارتفعت نفقات الاستهلاك الشخصي التي تتضمن الطعام والطاقة، على سبيل المثال، بـمستوى 3% في العام الماضي. كما ان مؤشر أسعار المستهلك، المستند على سلة ثابتة من البضائع والخدمات (بما فيها الطاقة والطعام)، قد ارتفع إلى 3.6%.
علاوة على ذلك، هنالك أسباب جيدة للاعتقاد بأن مؤشرات أسعار الحكومة، مع المكونات المتقلبة من الطعام والطاقة او بدونها، تعطي إشارات تضخم ضعيفة على نحو مصطنع. على سبيل المثال، ان الازدهار الأخير في أسعار الإسكان لا يظهر مطلقا في مؤشر أسعار المستهلك. ان ما يسمى بـ”الإيجار المكافئ للمالك” يستخدم كبديل لكلفة ملكية المساكن. لم يتماش هذا المقياس مع أسعار المساكن.
إذا ما نظرنا إلى بيانات السوق الحقيقية، مثل تلك التي ينتجها سوق السلع، فان صورة التضخم قد تغيرت بشكل دراماتيكي. في العام الماضي ارتفع سعر الذهب إلى 51% وسعر النفط الخام إلى 35%. أما المؤشرات التي تتضمن أسعار تصفية السوق بالنسبة لنطاق واسع من السلع الزراعية والصناعية قد ارتفع أيضا بشكل كبير. كما ان مؤشر مكتب أبحاث السلع لـثلاثة وعشرين سلعة قد ارتفع إلى 15% مما كان عليه قبل عام. وسواء نظرنا إلى إحصاءات الحكومة، او إلى أسعار السوق، من الواضح جدا ان مجلس الاحتياطي الفيدرالي قد ضغط على دواسة تسريع الائتمان المالي بشكل أكثر شدة ولوقت أطول.
وكما أشرت في عمودي الصحفي في الثامن من أيلول لعام 2003 في مجلة فوربز، فان إحصاءات الحكومة، مثل نفقات الاستهلاك الشخصي ومؤشر أسعار المستهلك، قد تراجعت وراء أسعار السلع. بناءا على ذلك، أتوقع المزيد من الارتفاعات في مقاييس التضخم الحكومية والمزيد من إحكام مجلس الاحتياطي الفيدرالي. إذا كنت لم تتبع نصيحة الاستثمار التي ذكرتها في ذلك العمود، فافعل ذلك الآن: تخلّص من السندات التقليدية واستبدلها بسندات خزينة محصنة ضد التضخم. ضع 10% من محفظتك المالية في السلع، والذهب هو الاختيار المثالي.
ان معدلات الفائدة الواطئة والأرباح الزائدة بشكل مفرط قد أنتجت تشوهات ولاتوازنات أخرى. ان هؤلاء الذين تتلمذوا في نماذج دورة الأعمال التجارية التي طوّرها فريدرك هايك في الثلاثينيات (من القرن العشرين)، يعرفون ان معدلات الفائدة المنخفضة بإفراط تنجم عن فجوة كبيرة بين المدّخرات والاستثمار. لا يرغب الناس في تأجيل الاستهلاك ان كان الرجوع إلى المدّخرات ضئيلا، أما مستخدمو رأس المال فهم ميالون إلى تمويل المشاريع الهامشية عندما تكون كلفة المال منخفضة. ومما لا شك فيه ان إجمالي المدخرات كان 16.7% من الناتج القومي الإجمالي عام 2000. وبحلول عام 2005، تدهورت إلى 13.8% من الناتج القومي الإجمالي. اما إجمالي الاستثمار (أي الاستثمار قبل استخراج استهلاك رأس المال) بوصفه نسبة مئوية من إجمالي الناتج، فبدأ عند 20.7% وانتهى عند 20% خلال هذه الفترة. وبالتالي، فان فجوة المدخرات-الاستثمار قد انتفخت من (-4%) من إجمالي الناتج القومي إلى(-6.25%).
على المستوى القومي، تلك المدخرات ناقصة الاستثمار في الولايات المتحدة يساوي صافي الاستثمار الأمريكي الخارجي. وهذا بدوره يساوي الموازنة في الحساب الجاري الأمريكي، والذي هو الفرق بين صادرات أمريكا ووارداتها بشكل عام. إذا ما فاق الاستثمار المحلي مجموع مدخرات الأمريكيين، كما يفعل الآن، ستكون الواردات اكبر من الصادرات، وسنحصل على رأس مال أجنبي لتمويل الفرق. وبعبارة ابسط، إن عجزنا التجاري المتزايد هو دالة للتفاوت السلبي بين مدخراتنا ومعدلات الاستثمار.
السياسيون، وكما هو متوقع، يلومون الصينيين لعجزنا التجاري. ولمَ لا؟ مَن مِن السياسيين الأمريكيين قد خسر الانتخابات بواسطة لوم الأجانب على مشكلة وقعت في أمريكا؟ توقعوا المزيد من اللكمات الصينية، والمزيد من السياسات التجارية الحمائية، ودولاراً متزايد الوهن.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 7 آب 2006

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018