peshwazarabic

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

حادث وقع معي خلال زيارة سابقة قمت بها إلى الصين، تركت داخلي أثراً قوياً بالنسبة للفجوة الواسعة من التفاهم التي تفصل الناس المنغمسين في مؤسسات اقتصادية مختلفة. تلك الفجوة تجعل الأهمية بمكان التأكيد، المرّة تلو المرّة، على المبادئ الأساسية التي نعتبرها جميعنا أمراً مسلماً به، بالنسبة للنظام الذي تعودنا عليه. لقد وقع الحادث المشار إليه عندما تناولت أنا وزوجتي طعام الغذاء مع نائب وزير إحدى الدوائر الحكومية، والذي كان على أهبة السفر إلى الولايات المتحدة ليطَّلع على الاقتصاد الأمريكي. أراد مُضيفُنا مساعدتنا له حول من يتوجب الاجتماع بهم.
كان السؤال الأول الذي وجهه في هذا الشأن هو “من في الولايات المتحدة هو المسؤول عن التوزيع المادي؟” لقد أثار هذا السؤال استغرابي واستغراب زوجتي؛ وإنني أشك بأن أي أحد في الولايات المتحدة، مهما كان ساذجاً في شؤون الاقتصاد، يمكن حتى مجرد التفكير بطرح مثل ذلك السؤال. ومع ذلك، فقد كان أمراً طبيعياً جداً لمواطن يعيش في اقتصاد مشترك، أن يسأل مثل هذا السؤال. إنه معتاد على وضع يقرر فيه شخص ما، من يأخذ من مَن ماذا، سواء كان ذلك من يأخذ المواد والأجور مِن مَن.
كان ردّي الأولي أن اقترحت عليه زيارة قاعة بورصة شيكاغو التجارية، حيث تتم التجارة في سلع مثل القمح والقطن والفضة والذهب. أثار هذا الجواب الحيرة لدى مُضيفي، لذا فقد استمررت في التوسع حول حقيقة أنه لا يوجد شخص واحد—أو حتى لجنة من الأشخاص—”تكون مسؤولة عن توزيع المواد.” هنالك دائرة التجارة، وهناك وزارة الداخلية، لهما اهتماماتهما بمواد الإنتاج والتوزيع ولكن من منظور مختلف كلياً. ولكنهما لا تقرران من سيحصل على أية كمية منها. وبالتالي، فقد وجدت نفسي مرغماً على إجابة مُضيفي بتعابير لم يكن من السهل على مضيفي استيعابها. لا حاجة إلى القول بأنني هنا لا أعني توجيه الانتقاد له. في ضوء خلفيته، فإن مما لا يمكن تصوره أنه كان يمكن أن يفهم كيف أن السوق يستطيع توزيع مجموعة مختلفة من السلع، بين ملايين من البشر المختلفين ولآلاف الاستعمالات، وبدون أن تمسها أيادي سياسية.
أعجوبة السوق تكمن على وجه التحديد في حقيقة أنه من خلال الفوضى والصراخ المتبادل بين الناس، والإشارات الغريبة بأيديهم والتضارب على ساحة بورصة السلع التجارية في شيكاغو، فبطريقة أو بأخرى يبدو أن المتجر القابع في الزاوية مليء على الدوام بكميات كافية من الخبز، والمخبز مليء بما يحتاج إليه من طحين، والمطحنة دائماً تحوي ما تحتاج إليه من قمح، وهكذا. هذه هي الأعجوبة التي يحقق السوق بموجبها تنسيق نشاطات ملايين البشر، ويفعل ذلك بطريقة غير شخصية كلياً، من خلال تسعيرة إذا ما تركت وشأنها دون تدخل، فإنها تكون خالية من الفساد والرشاوى، والنفوذ الخاص، أو الحاجة إلى آليات سياسية.
دعني الآن أتحول أكثر مباشرة إلى الموضوع. بمعاني معينة، فإن الإشارة إلى “السوق” يضع البحث على أسس خاطئة. السوق ليس بقرة تحلب؛ مثلما أنه ليس العلاج الشافي لجميع الأمراض. بتعبير لغوي حرفي، فإن السوق هو ببساطة الاجتماع، في مكان وزمان محددين، من أجل عقد صفقات. لا حاجة إلى القول بأن كلمة “الاجتماع” وكلمة “المكان” هما تسميات مجازية؛ إنها لا تعني الاجتماع الفعلي معاً. في الزمن الحالي، هنالك سوق في تبادل العملات يشمل العالم بأسره. الناس يجتمعون بواسطة الستلايت اللاقط، والهواتف وما إلى ذلك. يضاف إلى ذلك، أن الصفقات التي تتم في، أو من خلال السوق، ليست مقتصرة على تلك المتعلقة بالمال أو المشتريات أو المبيعات. العلماء الذين يتعاونون مع بعضهم بعضاً لتقدم حقول تخصصهم، سواءً أكانت الفيزياء أم الكيمياء، أو الاقتصاد أو علم الفلك، هم في الحقيقة والواقع يعقدون صفقات فيما بينهم. سوقهم يتكون من سلسلة متصلة من المجلات والمؤتمرات وما إلى ذلك.
السوق هو الآلية التي يمكن تجنيدها لأغراض عديدة. واعتماداً على طريقة استعمالها، فإنها قد تساهم في التطور الاجتماعي والاقتصادي، أو لجم مثل ذلك التطور. استخدام أو عدم استخدام السوق ليس التمييز المهم. كل مجتمع سواء كان شيوعياً أو اشتراكياً أو ديمقراطياً اشتراكياً أو رأسمالياً نقياً، أو أي نظام آخر، يستخدم السوق. وبدلاً من ذلك، فإن التمييز الأساسي هو وجود الملكية الخاصة أو عدم وجودها. من هم المشتركون في السوق، وبالنيابة عن من يتعاملون؟ هل المتعاملون بيروقراطيون حكوميون يتعاملون بالنيابة عن شيء اسمه الدولة؟ أم أنهم أفراد يتعاملون مباشرة أو بشكل غير مباشر بالنيابة عن أنفسهم؟ ولهذا السبب، وفي بحث سابق قدمته في الصين، فقد دعوت إلى أوسع استخدام ممكن ليس لتعبير السوق ولكن لتعبير “السوق الحر الخاص”. هذه الكلمات “الحر” و”الخاص” هي حتى أكثر أهمية من كلمة “السوق”.
تنشأ مشاكل عديدة محددة عندما يحاول مجتمع استبدال اقتصاد موجه بيد السوق الخفية، والتي سوف أبحث عدداً منها. هذه المشاكل لا تقتصر على المجتمعات التي حاولت استخدام التوجيه كآلية اقتصادية أساسية، كما هو الحال في الصين وروسيا؛ إنها تنشأ كذلك في الاقتصاديات الغربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، والتي أصبح عامل الأمر والتوجيه فيها أكثر اتساعاً بمرور الوقت، والتي تجري فيها محاولات لعكس ذلك التوجه. إزالة العمليات الاقتصادية التي تملكها الحكومات في الغرب، مثل خدمات البريد في الولايات المتحدة، والسكك الحديدية والمنافع الخدماتية في بلدان أخرى، يثير قضايا مماثلة لتلك التي تنشأ، عند عملية استبدال الاقتصاد الموجه والملكية العامة بتعاون طوعي، وملكية خاصة في الصين وروسيا وغيرهما.
التحرير الجزئي مقابل التحرير الكلي
إن إدخال دور أكبر لآلية السوق الخاصة، في قطاع واحد من قطاعات الاقتصاد، قد يصاب بالفشل الجزئي أو الكلي نتيجة الأفق المحدود للتغيير. انظر إلى ما كان يعتبر خطوة رئيسية تجاه استخدام أوسع للسوق، والمتمثل في إنشاء السوق الأوروبية المشتركة، ومحاولة تحقيق تجارة حرة بين بلدان السوق المشتركة. لقد مضى حتى الآن ما يقارب الـ40 عاماً منذ مشروع شومان لإقامة مجموعة الفحم والفولاذ الأوروبية، ومع ذلك فلا أحد ينكر بأن التجارة الحرة داخل بلدان السوق ما زالت مثلاً أعلى أكثر منها حقيقة واقعة. آخر دليل على ذلك هو الاتفاق الأخير لإزالة جميع أشكال العوائق بحلول عام 1992. ولو كانت اتفاقية السوق المشتركة ناجحة منذ البداية، لكانت قد تحققت حرية التجارة قبل سنوات عديدة مضت.
ماذا كانت المشكلة؟ لماذا لا توجد ولايات متحدة أوروبية حقيقية في أوروبا؟ في رأيي، فإن الجواب هو أن إزالة القيود حتى من حيث المبدأ، قد أقر فقط للبضائع والخدمات، ولكن ليس لحرية تنقل المال. قد احتفظت البلدان المختلفة بسلطات كاملة على عملاتها الوطنية. وأكثر أهمية، فقد رفضت تلك الدول تطبيق نظام يضمن تعويم تبادل العملات بحرّية—أي التبادل الحر لعملة واحدة مع عملة أخرى بأي سعر تبادل يكون قد تم الاتفاق عليه طوعاً في أسواق خاصة حرة. إن رفض ترك السوق الخاص تقرير معدلات تبادل النقد بين البلدان المختلفة شكَّل ضعفاً مميتاً.
حالياً، تواجه الصين تحديداً مشكلة مماثلة. إن الهدف من بحثي لهذا الموضوع هنا ليس الترويج لنظام تبادل حر للعملات، ولكن إعطاء مثل صارخ يرينا كيف أن اقتصار نزع التوجيه أو التخصيص على منطقة واحدة، وعدم توسيعه بحيث يشمل مناطق متصلة بها عن قرب، من شأنه أن يفسد الهدف الأساسي.
مثل ثانٍ يأتي من الولايات المتحدة. فمع أن شركات الطيران هي شكلاً خاصة، فقد تم إخضاعها إلى رقابة حكومية واسعة، بالنسبة للأسعار التي يمكن فرضها، والأسواق التي تستطيع خدمتها. لقد أدى رفع الرقابة عن شركات الطيران عام 1978 إلى زيادة كبيرة جداً في التنافس، وتخفيض واسع وشامل للأسعار، وزيادة في آفاق الخدمات، وبالتالي توسع رئيسي في حجم التنقل الجوي. ولكن، وبينما تم تحرير شركات الطيران أو كما أُفضِّل أن أسميه تخصيص شركات الطيران، فإن المطارات ظلت على حالها. لقد ظلت المطارات مملوكة للحكومة وتدار من قبلها. لم يجد القطاع الخاص صعوبة في إنتاج جميع الطائرات التي ترى شركات الطيران أنها تستطيع تشغيلها بربحية. ولم تجد شركات الطيران الخاصة صعوبة في إيجاد الطيارين لقيادتها والمضيفين والمضيفات لخدمتها. ومن الناحية الأخرى، فإن الطائرات الملأى بالركاب كثيراً ما تواجه تأخيراً في خدمات المطارات لها بسبب عدم كفاءة التجهيزات والآليات التي تستخدم في عمليات هبوطها وطيرانها. بطبيعة الحال، تجيب الحكومة واضعة اللوم على شركات الطيران الخاصة؛ فقد بدأت تطلب من شركات الطيران تقديم تقارير عن أسباب تأخرها في الوصول بالمواعيد المقررة، ونشر تقارير موجزة حول تقيّد شركات الطيران المختلفة بمواعيد الوصول. لقد تم تقديم مقترحات عدة، حتى في ظل احتفاظ الحكومة بملكية وإدارة المطارات، على الأقل فيما يتعلق بحقوق إدارة البوابات، من حيث عدد البوابات وعدد مرات استخدامها، وأن يتم ذلك عن طريق المناقصة. ولكن لسوء الحظ، فإن معارضة شركات الطيران التي تملك مصالح خاصة في البوابات وأوقات استعمالاتها بتفويض من الحكومة، قد حال دون الأخذ حتى بأقل إجراءات الإصلاح. بطبيعة الحال، الحل الأفضل كثيراً، هو خصخصة المطارات.
مثل ثالث يتمثل في تخاصية بعض نواحي التصنيع، في وقت يتم فيه الإبقاء على الإنتاج أو على تسعيرة المواد الخام، تحت إشراف الحكومة. دعني أذكر بعض الأمثلة الواضحة بالنسبة للصين. إدخال درجة عالية من التخاصية في قطاع الزراعة قد أدى إلى زيادة كبيرة في الإنتاج الزراعي والإنتاجية—وهو أحد أكثر المظاهر الدراماتيكية في نجاح الصين، في توسيع استخدامات السوق الحرة الخاصة. ولكن من الواضح بأن النجاح ذاته قد خلق مشكلة حقيقية. الغالبية العظمى من الشعب الصيني تعمل في الزراعة. وحتى تحقيق تقدم قليل نسبياً في الإنتاجية الزراعية يعني بوضوح الاستغناء عن عمال زراعيين لم يعد مجدياً تشغيلهم. إن من مصلحة الصين استخدام هذه العمالة في ميادين أكثر إنتاجية، مثل الصناعة. ومع ذلك، فإن الجزء الأكبر من قطاع الصناعة، مازال تابعاً للاقتصاد الموجّه؛ إن هذا القطاع لم يخضع للخصخصة أو التحرير، أو الخضوع كليّةً لعوامل السوق.
لقد بذلت جهود حقيقية لتغيير الطريقة التي تدير فيها الحكومة الفعاليات التابعة لها. فقد أُبلغ المسؤولون في تلك الفعاليات باستخدام آليات السوق، كما بذلت جهود لإعطائهم الحوافز لعمل ذلك. ولكن، وما دام أن البيروقراطيين هم الذين يديرون الصناعات التابعة للدولة، فإن قدرتهم على الاستجابة بفعالية لضغوطات السوق سوف تظل محدودة بشكل حاد. بالنسبة للصين، فإن أكثر القيود خطورة هي قدرتهم على التصرف بمرونة، واستعدادهم أو قدرتهم على المغامرة للقيام بمشاريع تنطوي على المغامرة والتي تحمل في طياتها مخاطر الفشل، ولكن بعض النجاح الحقيقي والباهر، وإن يكن قليلاً. مرة أخرى، إن القضية ذات طابع عالمي. فكل دراسة أجريت في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة تظهر بأن المشاريع الصغيرة—وليست الشركات الضخمة التي هي ملء الأسماع هي وراء خلق معظم فرص العمل. في الصين، مجالات مثل هذه المشاريع الخاصة الصغيرة لهي قليلة جداً.
إن خصخصة أوسع كثيراً للنشاط الاقتصادي من شأنها تخفيض صعوبات استيعاب العمال الذين يستغني القطاع الزراعي عنهم. عندها، سوف تنشأ مشاريع خاصة في جميع الأماكن لامتصاص القوة العاملة.
مثل آخر للصين هو شبيه للمشكلة التي ذكرتها بالنسبة للسوق الأوروبية المشتركة؛ الفرق بين آفاق الحرية في إنتاج وتوزيع البضائع والخدمات، وبين إنتاج وتوزيع عملة النقد. التحرير الواسع الذي تم في أسعار العديد من السلع، وبالأخص السلع الزراعية وما شابهها، لم تصاحبه خصخصة النظام البنكي. وكما فهمت، فإن حكومة الصين تقرر بشكل غير مباشر ماذا يحدث لحجم العملة المتداولة، عن طريق المنح التي تعطيها للمشاريع الحكومية. النتيجة تشمل زيادة سريعة في كمية النقد المتداول، وليس—وهذا ما يدعو إلى الدهشة—ضغطاً متصاعداً على الأسعار، الأمر الذي أدَّى إلى تضخم علني ومُقنَّع، أخذ يُطل بوجهه القبيح.
متى يجب أن يأتي الإصلاح تدريجياً، ومتى يكون التغيير الراديكالي والفوري أمراً مناسباً؟ أحد البدائل يتبدى في قصة الأرنب والسلحفاة، عندما وصلت السلحفاة بمشيتها “البطيئة ولكن الثابتة” إلى خط النهاية، سابقة الأرنب الأسرع منها كثيراً، ولكنه كان الأقل استمرارية وثباتاً. المثل الثاني يتجسد في المقولة بأنه ليس من الفطنة قطع ذنب الكلب بالبوصات. وهنا تكمن إحدى أصعب المشاكل التي تُواجه نتيجة لتوسيع مجالات السوق. دعوني أُبين ذلك بالنسبة للتجارة الخارجية. لنفترض بأن بلداً كان يفرض مستويات مرتفعة من التعرفة الجمركية، يقرر الانتقال إلى وضع التجارة الحرّة. إن محاسن التحرر التدريجي واضحة. لقد استثمر رأس المال بطرق لم يعد من الممكن معها أن يمثل استخداماً فعالاً للثروة المتاحة ضمن الظروف الجديدة. معظم رأس المال آنذاك يكون في شكل آليات، ومباني، ومهارات إنسانية وما شابه ذلك. أليس واضحاً في مثل تلك الحالة أن يكون من الأجدى والأعدل تخفيض التعرفة تدريجياً؟ ذلك يعطي أرباب الثروات المتخصصة فرصة سحب رأسمالهم تدريجياً، وبالتالي تخفيض النفقات التي فرضها عليهم التغيير.
إن الدعوة إلى إزالة التعرفة بجرة قلم، أي بما يشبه المعالجة بالصدمة، هي أكثر دقة وتعقيداً، ومع ذلك، ومن منظور الكفاءة الاقتصادية، فإنها أكثر إقناعاً. فإلى المدى الذي تكون فيه الكفاءة الاقتصادية أعلى في استثمار الموارد في غياب التعرفة، يجب أن يتم ذلك، وإذا كان بالإمكان الحصول على أي مردود فوق الكلفة الهامشية، عن طريق مواصلة استخدام الموارد الإنسانية وغيرها، فإن من الأفضل الحصول على ذلك الهامش بدلاً من لا شيء. سوف يقع العبء على أرباب الموارد المتخصصة في الحال، ولكن استثماراً سلبياً سوف يتبع ذلك فقط، بالسرعة التي يتم بموجبها استخدام العمالة المتخصصة والموارد الأخرى، في مشاريع أخرى أكثر إنتاجية وجدوى. من الناحية الأخرى، فإن التخفيض التدريجي للتعرفة يتيح ربحاً فردياً نتيجة مواصلة استخدام الموارد الخاصة على مستوى أعلى، ولكن على حساب الكفاءة الاجتماعية، وبالتالي فرض كلف لا ضرورة لها على المجتمع.
إن إنهاء تضخم مستمر يخلق مشاكل مماثلة، وإنهاؤه بضربة واحدة، إذا لم يكن قد استشعر به قبل زمن طويل من ذلك، قد يتسبب في خسائر رأسمالية واسعة النطاق. وعقود طويلة الأجل كان قد تمّ التعاقد حولها بتوقعات معيّنة بالنسبة للتضخم قد تصبح فجأة غير مناسبة. فالدعوة من منظور العدالة لفترة انتقال تدريجية أقوى كثيراً بالنسبة لدرجة معتدلة من التضخم منها بالنسبة إلى التعرفة. إن النتائج المترتبة على كل من التضخم المسبق ونهايته غير المتوقعة، هي أكثر شمولاً، وتؤثر على أعداد أكبر من الناس الذين يكونون قد تضرروا أولاً من التضخم المسبق، ويتضررون مرة أخرى من إنهاء ذلك التضخم. إن تخفيض التضخم تدريجياً يسهل الفترة الانتقالية، كما يقلل من أكلاف تحقيق نموٍ حقيقي بمعزل عن التضخم.
ومع ذلك، فإن الكثير يتوقف على نسبة ارتفاع التضخم. فإذا كان التضخم عالياً جداً—على ارتفاع سنوي من ثلاث خانات—فإن الوضع يكون صعباً جداً. يكون جميع المشاركين في السوق قد عدَّلوا من ترتيباتهم بحيث يكونوا قد أخذوا كل التغييرات بالحسبان. إن زوال التضخم المفاجئ سوف يفرض كلفاً قليلة، لأن المؤسسات المالية وغيرها، تكون قد تأقلمت مع تغييرات حادة في نسبة التضخم—وبالحقيقة، فإن مثل هذا التأقلم يُمثل ثمناً رئيسياً نتيجة التضخم العالي والمتغيّر. والإزالة التدريجية في بعض الأحيان ليست مجدية، بسبب عدم توافر وقت كاف—يكون الكلب قد مات قبل أن يكون ذيله الطويل قد قُطِع بضع بوصات.
إن الرقابة المباشرة على الأسعار—سواءً كانت عامة أو محددة، أي على الإيجارات أو أسعار تبادل العملات—يجب أن يتم وضع حد لها في الحال. مارجريت ثاتشر وضعت حداً تاماً للرقابة على تبادل العملات وفي الحال. التأقلم التدريجي من شأنه فقط أن يطيل الضرر الذي تنزله الرقابة، ويعطي أرباحاً لا مبرر لها لمن يتعاملون فيها “من الداخل.” النقص في الإمدادات، والصفوف الطويلة وغيرهما من التشوهات التي تتأتى عن محاولات إبقاء الأسعار دون مستوى سعرها السوقي، سوف تستمر، مع أنها سوف تنخفض، وتنشأ مكانها مشاكل إضافية، ذلك لأن التدرج يُشجع على المضاربة ويشجع الخصوم على السعي لإعادة الوضع إلى ما كان عليه. حالة مماثلة تنطبق على محاولات الإبقاء على الأسعار حول معدلات أسعار السوق، كما يتبين بوضوح من السياسات الزراعية للولايات المتحدة واليابان والسوق الأوروبية المشتركة.
التغلب على المعيقات السياسية
لقد أقحَمَ هذا الموضوع نفسه بشكل حتمي في الأقسام السابقة. المشاكل العامة هنا هي حول كيفية تجاوز العقبات السياسية التي تقف في وجه توسيع السوق. إن الخطر ليس فقط أن تلك المعيقات من شأنها أن تُحبط السعي لتحرير السوق، ولكن، وبدرجة متساوية، أن يؤدي السعي للتغلب على الحواجز السياسية على تدمير فوائد تحرير السوق. التحدي هو في إيجاد وسائل للتغلب على تلك المعيقات دون خلق تلك الآثار الضارة. وتجارب الغرب في حقل الخصخصة يلقي ضوءً خاصاً على هذا الموضوع.
ربما تشكل التجربة البريطانية في الخصخصة أغنى مجموعات التجارب، وأكثرها تحليلاً، وإنني أوصي أصدقاءنا الصينيين الذين يسعون إلى توسيع السوق بدراسة العِبر المستفادة من تجربة الخصخصة البريطانية.
مثل بسيط من الولايات المتحدة يدلل على الموضوع هو خصخصة مصلحة البريد. إن خدمة البريد في أمريكا تملك احتكاراً في بريد الدرجة الأولى بسبب قوانين الإكسبرس الخاصة التي تحرم على الأفراد تحت طائلة التجريم تقديم خدمات نقل بريد الدرجة الأولى. ومحاولات عديدة جرت لممارسة ذلك ولكنها انتهت إلى المحاكم التي وضعت حداً لها. لقد أخذت الخصخصة في الزحف في تقديم خدمات على الهامش، أولاً في شكل خدمات نقل الطرود. لقد نجحت شركة (يونايتد بارسل سيرفس)، وغيرها من شركات نقل الطرود الأخرى، في أخذ معظم خدمات النقل التي كانت تتولاها مصلحة البريد سابقاً. يضاف إلى ذلك، خدمات المراسلين الفرديين وأكثرها شهرة (الفيديرال إكسبرس)، والتي كان نجاحها عظيماً لدرجة أن شركات عديدة أخرى دخلت إلى الميدان. التطورات التي كانت سوف تشجعها التقدمات التكنولوجية، بغض النظر عن وسيلة إبداء الخدمة، قد نمت بسرعة. والأمثلة على ذلك البريد الإلكتروني عبر الكومبيوتر والهاتف والفاكس، ومرة أخرى عن طريق الهاتف. هذه الأمثلة تُبين قوة الابتكار التي تملكها الأسواق الخاصة في الاستفادة من الفرص التي تتاح أمامها نتيجة عجز المؤسسات الحكومية.
لقد بُذلت محاولات متكررة سعياً وراء إلغاء قوانين الإكسبرس الخاص، بحيث تتمكن الشركات الخاصة من الدخول منافسة للخدمة البريدية الحكومية. ولكن جميع تلك المحاولات كانت تصطدم باحتجاجات عنيفة من قبل اتحادات موظفي البريد، ومن مديري خدمات البريد التنفيذيين، ومن المجتمعات الريفية التي تعتقد بأنها ستُحرم من الخدمات البريدية. ومن الناحية الأخرى، قليلون هم من يملكون اهتماماً قوياً ومركّزاً، يدفع بهم إلى تأييد إلغاء قوانين الإكسبرس التي تحمي الخدمة البريدية الحكومية. رجال الأعمال الذين يرغبون في دخول هذا الميدان، إذا كان متاحاً للقطاع الخاص، لا يعرفون مسبقاً بأنهم يستطيعون أن يفعلوا ذلك. مئات الآلاف من الناس، والذين سوف يحصلون على عمل دون شك، في حالة قيام خدمات بريدية خاصة، ليس لديهم أقل فكرة بأنهم سوف يحصلون على ذلك.
إحدى الطرق للتغلب على معارضة الخصخصة، وقد استخدمت على نطاق واسع في بريطانيا، وكما وصفها روبرت بوول، هي تحديد المعارضين المحتملين وإدخالهم في الصفقة، عن طريق تملك أسهم فيها. التطبيقات العملية لهذا المبدأ هي: (1) تملك الأسهم من قبل المستخدمين، و(2) الرأسمالية العامة.
إن فرصة تملك أسهم في المشروع من شأنها إحداث تغيير دراماتيكي على نظرة موظفي الخدمة العامة المنتظمين في نقابات، كما تبين في موضوع شركة الاتصالات البريطانية، فقد شجب موظفوا النقابات الخصخصة المقترحة للشركة، طالبين من أعضاء النقابات عدم شراء الأسهم المعروضة للبيع. ولكن في نهاية الأمر، وعندما شعروا بفرصة الربح المالي، ابتاع حوالي 96% من القوة العاملة أسهم الشركة.
ويستخدم بوول تجربة شركة الاتصالات البريطانية للتدليل على الآلية الثانية ألا وهي: الرأسمالية العامة.
لتشجيع عملاء الخدمات الهاتفية على شراء أسهم، قدمت لهم سندات تمنحهم فيها خصماً على فواتير هواتفهم، إذا ما احتفظوا بأسهمهم لمدة لا تقل عن ستة أشهر. ولكي يمنعوا المؤسسات والشركات الكبرى من ابتياع حصة الأسد، فقد حدد شراء الأسهم بـ800 سهم لكل راغب في الشراء.
أحد المطبات التي يتوجب الابتعاد عنها في السير بهذا الأسلوب هو تزيين الصفقة عن طريق تحويلها من احتكار حكومي إلى احتكار خاص—والذي قد يُشكل تقدماً ولكنه يقل كثيراً عن النتيجة المرجوّة. إن تجربة خدمة البريد الحكومية الأمريكية تُبيّن المطلب، وكذلك زيف محاولة تقليد الخصخصة وتوقع أن يؤدي ذلك إلى جوهرها. فقد أنشئت كشركة حكومية ذات استقلال، وغير خاضعة للنفوذ السياسي المباشر، وبحيث تعمل على قواعد عمليات السوق. ولم تكن النتيجة على ذلك النحو، ولأسباب مفهومة. لقد بقيت احتكاراً، ولكنها لم تطور اهتماماً خاصاً قوياً لرفع كفاءة أدائها.
إن أفضل شكل بالنسبة لي للخصخصة هو ليس في بيع الأسهم على الإطلاق ولكن، في إعطاء المؤسسات التي تملكها الحكومة للمواطنين. إنني أسأل المعارضين، من يملك الشركات الحكومية؟ الجواب المعتاد هو: “الجمهور.” حسناً إذن، لماذا لا نجعل ذلك حقيقة بدلاً من تركها شعاراً براقاً؟ أقم شركة خاصة وأعطي لكل مواطن سهماً أو مائة سهم فيها. اتركهم أحراراً في شراء أو بيع تلك الأسهم. وفي زمن قصير سوف تصبح تلك الأسهم في أيدي رجال الأعمال، إما أن يبقوا على الشركة كما هي، ولنفترض أنها الخدمة البريدية، إذا كان ذلك أربح وأجدى، أو يقسمونها إلى عدد من الكيانات إذا بدا ذلك هو الأربح.
مثال أخير يُبين وجهة النظر هذه بشكل آخر. لقد سمح الروس بقطع أراضٍ صغيرة في مجال الزراعة. وتقدر تلك القطع الخاصة بحوالي 3% من أراضي الاتحاد السوفييتي القابلة للزراعة؛ وثلث مجموع الإنتاج الزراعي الذي يباع في الاتحاد السوفييتي يأتي من هذه القطع الصغيرة الخاصة. لقد اخترت كلماتي بعناية، إنني لم أقل بأن ثلث الإنتاج جاء من تلك المزارع الصغيرة، لأنني أكون مخطئاً لو قلت ذلك. إن نسبة كبيرة من الإنتاج الآتي من المزارع الصغيرة هو حقاً من إنتاجها. ولكن يساورني شك قوي بأن قسماً كبيراً منه أيضاً قد تم تحويله من المزارع الجماعية.
على امتداد عقود، كان واضحاً لحكام الاتحاد السوفييتي بأن في مقدورهم زيادة الإنتاج الزراعي زيادة كبيرة، عن طريق زيادة حجم ودور المزارع الخاصة. لماذا لم يفعلوا ذلك؟ لم يكن ذلك بكل تأكيد بسبب الجهل. الجواب بوضوح هو أن الخصخصة سوف تؤدي إلى إقامة مراكز سلطة مستقلة، والتي بدورها سوف تنقص من سلطات البيروقراطية السياسية. لقد اعتبر الحكام الثمن السياسي الذي يتوجب عليهم دفعه، أعلى من الفائدة الاقتصادية التي سوف يجنونها. في هذه اللحظة، وتحت تأثير مثل هذه السياسة في الصين، كما أشك، فإن الرئيس غورباتشوف يتحدث عن توسيع كبير للمزارع الخاصة. وليس واضحاً أبداً إن كان سينجح في ذلك.
إستبداد الوضع القائم
إن قضايا التغلب على المصالح الذاتية الكامنة، وتفويت مساعي الإيجار، تنطبق تقريباً على جميع محاولات إحداث تغييرات في السياسات الحكومية، سواء أكان التغيير متصلاً بالخصخصة، أو إزالة قواعد عسكرية، أو تخفيض المعونات، أو أي شيء آخر. إن النتيجة المتمثلة في استبداد الوضع القائم، كما عنوَنتُ أنا وزوجتي كتاباً وضعناه مؤخراً، والذي يبحث أمثلة واسعة لمثل تلك الحالات في الولايات المتحدة، هو السبب الرئيسي الذي يجعل الآليات السياسية اقل فعالية كثيراً من آليات السوق الحر، في تشجيع التغييرات الديناميكية، وفي تحقيق النمو والرخاء الاقتصادي.
هنالك حِكَمٌ بسيطة للتغلب على استبداد الأوضاع القائمة. ولكن هنالك حكمة واحدة تنطبق أكثر من غيرها، على البحث الذي أجريناه سابقاً بشأن التغيير التدريجي مقابل التغيير المفاجئ. إذا كان الهدف خصخصة فعالية حكومية أو إلغاءها، فليتم ذلك بشكل كامل ودون تردد. لا تلجأ إلى الحل الوسط بتأميم جزئي، أو تخفيض جزئي. إن مثل ذلك سوف يترك المجال لمجموعة من المعارضين المصممين، للعمل بإصرار، وكثيراً ما يكون بنجاح، لإلغاء التغيير. لقد حاولت إدارة ريغان مراراً خصخصة أمتراك (خدمة السكك الحديدة للركاب)، وأن تلغي شركة الخدمات القانونية. وفي كل حالة، تمت تسوية الأمر بتخفيض في الموازنة وتحقيق نصر مرحلي مؤقت. ومن الناحية الأخرى، فإن الإلغاء التام لمجلس إدارة الطيران المدني يعطي أملاً أكبر كثيراً بأن تحرير النقل الجوي وشركات الطيران هو هنا ليبقى.
وفي الختام، هنالك وسائل أفضل، أو أسوأ، لخصخصة اقتصاد موجه؛ ولكن لا توجد صيغة سحرية للانتقال بسهولة ودون ألم من اقتصاد موجه إلى اقتصاد طوعي قائم على التبادل التجاري. ومع ذلك، فإن المكاسب المتوقعة كبيرة إلى حد أنه إذا كان بالإمكان تحقيق التحول، فإن الكلفة المرحلية سوف تكون باهتة بالنسبة للمكاسب. إن زعماء الصين الحاليين يستحقون الإشادة لإدراكهم بأن المكاسب المتوقعة تُقزِّم التكلفة المرحلية، ولأنهم يبذلون جهوداً جدّية حثيثة لإنجاز المرحلة الانتقالية. الشعب الصيني سيكون الكاسب الأكبر، ولكنه ليس الوحيد أبداً الذي سوف يستفيد من نجاح هذه الجهود. فجميع شعوب العالم سوف تستفيد من ذلك.
إن السلام والرخاء العميم المشترك هما الجائزة العليا للتعاون الطوعي على امتداد العالم، كوسيلة رئيسية لتنظيم النشاط الاقتصادي.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 28 حزيران 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

إن جوهر فكر لودفيغ فون ميزس هو نظرية الفعل البشري أو الممارسة العملية، وهو العلم العام الذي يسعى إلى بلورته. ويضم هذا العلم العام—وملتصقاً به—الحوافز، أو علم التبادل (ميزس [1949] 1996: 1-3، ويعرف فيما بعد بحرف “م”). ونتيجة لذلك، فإن كل ما نسعى إلى دراسته في موضوع الاقتصاد بالنسبة لميزس ينبثق في نهاية الأمر من الخيار الفردي، ومفتاحه الاقتصاد الذاتاني أو المذهب الذاتي، الذي انبثق عن ثورة منجر، وجيفونز، وولراس، في عقد السبعينات من القرن التاسع عشر. وهكذا، فإن “الاختيار هو الذي يقرر جميع القرارات الإنسانية. وفي عملية اختياره تلك، فإن الإنسان يختار، ليس فقط الأشياء المادية المختلفة والخدمات. جميع القيم الإنسانية هي متاحة للاختيار. جميع الأهداف، وجميع الوسائل قائمة في اصطفاف واحد، وخاضعة لقرار يختار بموجبه شيئاً مُعيّناً ويطرح شيئاً آخر.” (م: 3). يضاف إلى ذلك “أن الفعل البشري هو بالضرورة، عقلانياً دائماً” (م: 19). بالنسبة لميزس، فإن ما تقدم هو حقيقة وليس نظرية خاضعة للتجربة لتقرير ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة، ذلك بسبب أن الممارسة العملية هي محايدة فيما يتعلق بأية أحكام قِيَمِيّة بالنسبة للمعطيات المتوفرة عنها—إنها الهدف النهائي الذي يتم اختياره في الفعل الإنساني. وبالتالي، ليست هنالك أسس موضوعية للتأكيد بأنه يمكن لأية اختيارات ما بأن تكون لا عقلانية.
المعطيات الخارجية (سواء كانت حول الثمن أو الفائدة المرجُوَّة) لا تُشكل مشكلة من حيث المبدأ بالنسبة لميزس، لأنه رأى بوضوح، مثلما رأى كوز، بأنها تنطوي على ترسيم أو تحديد لحقوق الملكية—قضية مِلكٍ لا يملكه أي إنسان أو موارد متاحة لعامة الناس دون مقابل. القضية هي اعتبار أشخاص مسؤولين عن تحمل أثمان الفعل البشري الذي يتحمله الآخرون. ميزس يرى أن مبدأ استحقاقية المسؤولية هو مبدأ مقبول على نطاق واسع؛ وأية ثغرات مفترضة هي ناشئة عن “ثغرات متبقية في النظام” (م: 658). وأخيراً، وفي هذا العرض الموجز، هنالك الآراء القوية المعروفة لميزس ضد التدخل: “لا تكاد توجد أية حالات من التدخل الحكومي في السوق، والتي كما تُرى من وجهة نظر المواطنين المعنيين، لا يمكن إلا أن تُعدل بحيث تعتبر إما مصادر أو هدية. لا يوجد هنالك أي شيء يمكن اعتباره وسيلة عادلة ومنصفة، نتيجة ممارسة السلطة الهائلة للتدخل، التي توضع في أيدي الهيئات التشريعية أو التنفيذية” (م: 734). كما أننا نرى حتى مقدمات السعي للحصول على الإيجارات والخيار العام، في معرض تلخيصه للبحث حول الفساد، كنتيجة حتمية وصفها بأنها “نتيجة لازمة للتدخل” (م: 736). لذا، فإن نظرية الاختيار هي أوسع كثيراً من “الجانب الاقتصادي” للجهد الإنساني—إنها رئيسية لجميع الأفعال البشرية.
قرأت ميزس لأول مرة عندما كنت طالباً في السنة الأخيرة لمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، متخرجاً في هندسة الكهرباء. كان ذلك أحد الأسباب العدة وراء انتقالي في آخر الأمر، إلى دراسة الاقتصاد. قراءة ميزس بعد خمسين عاماً، جعلتني أشعر بمدى أثر وصحة وحيوية كتاب الفعل البشري بالنسبة للوضع الاقتصادي في نهاية الألفية الثانية. لقد أثبت جدواه لأن كثيراً من عناصره الرئيسية—حقوق الملكية، أنظمة المسؤولية القانونية، فعالية الأسواق، عبثية التدخل، وأولوية الفرد—قد أصبحت عناصر مهمة في تحليل الاقتصاد الجزئي، سواء نظرياً أو كسياسات عامة. يضاف إلى ذلك أن تلك العناصر والمعطيات قد أصبحت مهمة بسبب ميزس وهايك وغيرهم من الأتباع (كوز، ألكيان، نورث، بيوكانن، توللوك، ستيجلر، وفيكري، من بين آخرين كثيرين)، وليس نتيجة للنظريات الاقتصادية السائدة. هنالك الكثير من آراء ميزس بحاجة إلى التحديث، بسب الأشياء التي نعتقد بأننا أصبحنا نعرفها الآن، والتي لم نكن نعرفها قبل 50 عاماً.
بيد أن رسالة ميزس الأساسية حول كيفية عمل الاقتصاد هي الآن صحيحة كما كانت صحيحة قبل 50 عاماً. إن الذي تغيّر بقفزات واسعة هي أساليب دراسة طبيعة اتخاذ القرار الإنساني. في هذا البحث الموجز، سوف أختار عدداً من العناصر في فكر ميزس للتدليل على ذلك التغيير. وسوف أضيف إلى ذلك البحث بعض التعليقات على فكر هايك، ذلك أن هذه السنة تصادف الذكرى المائة لمولده. لذا هنالك الكثير مما يمكن مشاركة النمساويين الاحتفال به.
حول الفعل البشري والتجارب المختبرية
أفكار ميزس حول الأساليب التجريبية تعكس النظرة المنهجية التي كانت سائدة في هذا الميدان قبل 50 عاماً—أي أن علم الاقتصاد هو بالضرورة علم غير تجريبي:
“هنالك عدد من علماء الطبيعة والفيزيائيين الذين ينحون باللائمة على الاقتصاد، بسبب أنه ليس علماً من علوم الطبيعة ولأنه لا يستخدم أساليب ووسائل المختبر… بيد أن الخبرة التي تُعزى إليها جميع نجاحات علوم الطبيعة هي خبرة التجربة التي يمكن فيها ملاحظة عناصر التغيير الفردية بمعزل عن غيرها… الخبرة التي يترتب على علوم الفعل الإنساني التعامل معها هي دوماً تجربة معطيات معقدة. لا يمكن إجراء تجارب مختبرية بالنسبة للفعل الإنساني. نحن لا نكون أبداً في موقع يمكّننا من ملاحظة التغيير الذي يطرأ بالنسبة لعنصر واحد فقط، مع بقاء جميع شروط الحدث دون تغيير” (م: 7-8، 31).
إن وجهة نظري حول سبب الاعتقاد بأن علم الاقتصاد ليس علماً قابلاً للخضوع للتجربة هو بكل بساطة لأن لا أحد حاول أو اهتمّ بذلك. رأي ميزس كان مقبولاً عالمياً في حينه، وهو ما يزال يشار إليه. وهكذا، فقد لُفت نظر تشارلز هولت، وهو عالم تجريبي بارز من قبل مستشاره، بأن “الاقتصاد التجريبي كان طريقاً مسدوداً في عقد الستينات، وأنه سوف يكون كذلك في عقد الثمانينات” (كيجل وروث 1995: 428، 2). ما هو غير واضح هو السؤال التالي: لماذا استمر ما اعتبر طريقاً مسدودة في عقد الستينات طريقاً مسدودة في عقد الثمانينات أيضاً؟ إنني أتطلع في الأشهر القليلة الباقية من عام 1999 إلى أن يكون عقد التسعينات طريقاً مسدودة كذلك.
هذا يذكرني بملاحظة بول سامويلسن بأن العلم يتقدم جنازة إثر جنازة. وفي الحقيقة، فقد صادف العام الماضي الذكرى الخمسين (وإن لم يُؤبه بها) لأول دراسة صدرت حول تجارب السوق في الاقتصاد (تشيمبرلن 1948). ما ظن تشيمبرلن أنه أظهره هو أن نظرية السوق التنافسية غير قابلة للتطبيق (على الرغم من أن التجارب التي أُجريت في صفوفه كان يُراد بها التمهيد لإثبات نظريته فيما يتعلق بالتنافس الاحتكاري، وأن تجاربه لم تظهر بأن الأسواق تفشل في تحقيق مكاسب كبيرة من التبادل التجاري).
إن نقدي وتعديلي لتجربة تشيمبرلن، بما في ذلك شمول مكاسب مالية، وتغيير في التركيز حول دور المؤسسات (أنظمة لسوق مُعَّين) هو أمر معترف به، ليس هنالك شيء عجيب أو غير عادي حول النتائج التي توصل إليها تشيمبرلن. الاقتصاد التجريبي يؤيد تأييداً قوياً ليس فقط نظرية ميزس بالنسبة لأسعار السوق، ولكن كذلك نظرية التوازن في ظروف غير متغيرة، وحتى في ظروف متغيرة تغيُّراً ديناميكياً. نظرية التوازن بمجموعها، كانت في نظر ميزس “معطيات خيالية” (م: 250-51). وكانت هذه هي الحقيقة، مثلما كانت كثير من أفكار ومساهمات ميزس. هكذا هي طبيعة النظريات، وقد وُضعَت جميعها دون أن يتوقع أحدٌ بأنها سوف تخضع للتجربة. ما فعلته تجارب السوق بالنسبة لي هي إحياء “هذا البناء النظري الخيالي.” وأمام عيّني رأيت الناس الذين لديهم المعلومات الخاصة، والذين لم يكونوا يملكون علماً مسبقاً بالنتائج التي كانوا يحققونها، يحققون أقصى درجات الربح من عمليات التبادل ونتائج التوازن المتأتي عن ذلك. يوجد الآن مئات عدة، بل آلاف من التجارب التي تدلل على قوة الأسواق—وبالأخص عندما تُجَّمَعُ وتُنظمُ في إطار مؤسسات المزاد المضاعف الواسع الانتشار في جميع الأسواق المالية وأسواق السلع؛ إنها تعطي نتائج قوية ليس فقط بالنسبة للعمليات التنافسية، بل كذلك في العروض البريدية والمناقصات ذات السعر الواحد في عمليات التصفيات السوقية (أنظر كيجل وروث 1995، ديفيس وهولت 1993، سميث 1991). هذه النتائج، والتي أعيد تكرارها من قبل العديد من الدارسين هي جليّةٌ بالنسبة للمواضيع المجمعة المطروحة: طلبة البكالوريوس الجامعيون، طلبة الدراسات العليا، تلامذة وأساتذة المدارس الثانوية، رجال الأعمال والمنظمات النسائية. ومن ثمَّ، في منتصف الثمانينات، أجرينا تجربة، مستخدمين في ذلك الموظفين الإداريين لوزارة الطاقة، أوضحت أن المشرفين الحكوميين على تطبيق الأنظمة، يستطيعون بسهولة طبيعية مماثلة خلق سوق.
إن ما نتعلمه من مثل تلك التجارب هو أن أية جماعة من الناس تستطيع الدخول إلى غرفة، وتكون مُحفزةً ببيئة اقتصادية خاصة ومحددة الأهداف، وتكون أنظمة المشاركة في المزاد المضاعف قد شُرحت لها لفظياً للمرة الأولى، تستطيع أن تخلق سوقاً يتحول عادة إلى توازن تنافسي، ويكون 100 في المائة منظماً تنظيماً جيداً؛ مثل تلك الجماعة تستطيع أن تحقق حداً أقصى من الربح نتيجة التبادل، في غضون مرتين أو ثلاث مرات من المشاركة في أية فترة تجارية. ومع ذلك فإن المعلومات تكون مبعثرة، بحيث لا يكون المشارك مُلماً أو مطَّلعاً على العرض والطلب، أو حتى استيعاب ما يعني ذلك. هذا يدلل بشكل مثير للانتباه ما أسماه آدم سميث (مؤلف كتاب ثروة الأمم) “بنزوع مُعيّن في الطبيعة البشرية، لنقل ومقايضة وتبادل سلعة ما لسلعة أخرى” (سميث، 1776، 1909: 19). كذلك، فإنه يدلل على ما أكّده ميزس “بأن كل إنسان يعمل من أجل نفسه؛ ولكن أفعال كل إنسان تهدف إلى تلبية حاجات الآخرين بمثل ما تهدف إلى تحقيق أهداف الإنسان الذاتية. كل إنسان في فعله يخدم مواطنيه الآخرين” (م: 257).
حول التطور والعقل البدائي

إن فهم ميزس للتطور يتلاقى جيداً مع التفسيرات المعاصرة، مثل سيكولوجية التطور (توبي وكوزميدس 1992):
“العقل البشري ليس صفحة بيضاء التي تكتب عليها الأحداث الخارجية تاريخها. إنها مزودة بمجموعة من الأدوات لاستيعاب وفهم الحقيقة. لقد اكتسب الإنسان تلك الأدوات أي، التركيب المنطقي لعقله، من خلال تطوره من الخلية الأميبية إلى الوضع الذي وصل إليه حالياً. بيد أن تلك الأدوات هي منطقياً جاءت سابقة لأية تجربة. لا توجد أية حقائق مستقاة من علم الأعراق البشرية “الإثنولوجيا”، أو من التاريخ تدحض التأكيد بأن التركيبة المنطقية للعقل هي واحدة في جميع الرجال، من كافة الأجناس، والأعمار والبلدان.” (م: 35، 38).
هذه في جوهرها هي النظرة الراهنة للسيكولوجية التطورية فيما يتعلق بنظرية التطور والنشوء، والعقل، وبشكل محدد اللغة الطبيعية. إن الادعاء بأننا نكتسب أدواتنا العقلية قبل مراحل التجربة هي موضحة توضيحاً جيداً في دراسة كيفية اكتسابنا للغة: “عندما يركز الباحثون على قاعدة نحوية (أمثال في اللغة الإنجليزية تتمثل في نظام العدّ الذي يضيف حرف [s] للاسم العادي للدلالة على الجمع؛ وإضافة [ed] لوصف صيغة الماضي في الفعل العادي)، وملاحظة كم هي المرات التي يستجيب الطفل لها، وكم هي المرات التي يتجاهلها، فإن النتائج تبدو باهرة: بأي قياس تختاره، فإن الأطفال في سن الثالثة يستجيبون لها في معظم الحالات (بينكر 1994: 271). التفسير هو أن العقل يجيء مزوداً سلفاً بحلقة دائرية جاهزة لاستيعاب ألفاظ أية لغة؛ وأن تشغيل تلك الحلقة يتطلب فقط التحدث إلى الآخرين لتحريك مفاتيح الحلقة. الاستثناءات (الأخطاء) للأطفال في سن الثالثة، يدفع في الواقع إلى تأكيد هذا المبدأ: “Two mans are at the door” أو “He builded the house” هما خطآن لا يستخدمان. فالأفعال غير العادية والأسماء يجب أن تحفظ عن ظهر قلب، وتودع بعملية من عمليات العقل تبدأ أولاً بإغلاق وتصريف الحساب المنعطف، ومن ثم تجفيف تلك الحالات غير العادية من الذاكرة. إن كثيراً من الحالات غير العادية لا تستخدم إلا نادراً من قبل الكبار، لذا فقد يستغرق وقتاً أطول لتحقيق عملية الإغلاق/والاستبدال، أما الأطفال في سن الثلاثة أعوام فإنهم دائماً يستخدمون الاصطلاحات الحسابية الصحيحة. هكذا تعمل أدوات اللغة المودعة في العقل عملها الطبيعي. إن استخدام الحساب المنعطف في العقل البشري هو وسيلة العقل في تقنين الذاكرة الصحيحة ومصادر المعلومات. إنك تحتاج فقط إلى أن تحفظ في ذاكرتك الجذور الرئيسية والفروع، ثم استنهاض الحسابات الأوتوماتيكية لتغذية الكلمات الأساسية بحيث يتسع معجم الكلمات في اللغة اتساعاً كبيراً. هكذا، فإن ما يعرفه في المتوسط خريج مدرسة ثانوية أمريكية هو (45000) كلمة—وهي ثلاثة أضعاف الكلمات التي استطاع شكسبير استخدامها في مجموع رواياته وأبياته (بينكر 1994: 150).
بيد أن البعض يرفضون هذا التفسير للغة، معربين عن الرأي بأن قدراتنا اللغوية ليست تأقلماً مع، وإنما هي وسيلة جرى تطويرها لأغراض أخرى، وأعيدت صياغتها لتحقيق أهداف جديدة (جولد وفربا 1981). ولكن تبدو لي مثل هذه الآراء تحويلة تباعدية. يمكن أن يكون التأقلم معقداً، ووضع اليد على وحدة قياس، يبدو لعالم البيولوجيا (الأحياء) بأنها تشبهه، قد تم تطويره لخدمة أهداف أخرى، هو سبيل واحد فقط، من بين سبل كثيرة، يمكن للأقلمة التطورية أن تنتهجه. رجل حكيم فقط، هو الذي يستطيع أن يقول لنا لأي سبب تم تطوير آلية بيولوجية معينة في الأصل. لا يتوجب عليك الاعتقاد بأن اللغة قد تطورت بسبب أن الإنسان الأول نطق بكلمة زادت من لياقته، وأن هذه الكلمة الجينية انتشرت بعد ذلك بين السكان. ميزس لا يدعي معرفة كيف خلق التطور قدرة الإنسان العقلية. ولكن بالنسبة له، فإن من الطبيعي النظر إلى العقل كنتيجة للتطور والنشوء، بمثل الاعتقاد بأن عملية التطور قد أدت إلى خلق الأيدي والأرجل.
جولد وليوينتين (1979) قد اتهما الكثيرين من علماء التطور البيولوجيين بإضفاء مصداقية مبالغ فيها للانتقاء النوعي. وسوف يجد أحفاد مدرسة ميزس الفكرية طرافة في تقييم بينكر (1994: 359) لدراسة جولد وليوينتين المتنفذة والتي تقول: “إن أحد أهدافهم هو النيل من نظريات السلوك البشري، والتي في تصورهم تنطوي على ميول سياسية يمينية. إن جولد الذي ينتمي إلى جامعة هارفارد، هو طبعاً مثل بارز على ادعاء مأفون بالقيل والقال، بأن الماركسيين الوحيدين الذين ظلوا في العالم يُعلمون في الجامعات البريطانية والأمريكية. الذي يبدو أن اليساريين الذين يروِّجون لاكتمال البشر من خلال الهيمنة، المجتمعية (الحكومة)، يخشون تداعيات إعطاء وزن كبير للطبيعة، في الوقت الذي يخشى فيه اليمينيون (على الأقل تلك الفئة التي تؤمن بمحدودية دور الحكومة) من تداعيات الدولة على مطواعية العنصر البشري. هذه هي طبيعة النقاش بين الطبيعة مقابل التنشئة والذي ينطوي على انحيازات سياسية كامنة. ميزس يصطف على جانب الطبيعة في قوله بأن للعقل أدوات تُشكلُ جزءً من التجربة. بيد أن العقل اكتسب تلك الأدوات لأنها كانت طيِّعة وقابلة للأقلمة، ولأنها ازدهرت في بيئات لم تغلق في وجهها قدرة التعبير عن نفسها. هكذا، فإن وجهة نظر معاصرة مهمة هي التوأمة بين الطبيعة والثقافة—الثقافة تؤثر على ذلك الذي يبقى ويزدهر، والطبيعة تؤثر على ما هو بشكل أو بآخر، قابل للتغيير.
الفعل الواعي والفعل اللاشعوري

هنا في هذا المجال، نجد أنه تم تجاوز ميزس، نتيجة التطورات الأخيرة في علوم النفس، ذلك أنه يقول “إن الفعل الواعي أو المتعمد هو على نقيض حاد مع السلوك اللاشعوري، أي الانعكاسات والاستجابات اللاشعورية لخلايا الجسم والأعصاب” (م: 10). إنه يريد أن يدعي بأن الفعل الإنساني هو فعل متعمد وواع. ولكن ذلك ليس شرطاً ضرورياً لنظرياته. فالأسواق هناك تفعل فعلها بغض النظر عما إذا كان وراء الفعل الإنساني خيار ذاتي متعمد أم لا.
إنه يقلل لدرجة هائلة من عمل العقل اللاواعي. معظم الذي نعرفه لا نذكر بأننا قد تعلمناه، مثلما أن عملية التعلم ليست متوفرة لتجاربنا الواعية—أي للعقل. الطفل الذي ينمو بشكل طبيعي يكون قد أتقن تركيب الجمل في أشكالها الصحيحة، عندما يبلغ السنة الرابعة من عمره، ودون أن يكون قد تعلم ذلك. وكما لاحظ بينكر “الأطفال يستحقون معظم الثناء لاكتسابهم اللغوي. وفي الحقيقة، فإننا نستطيع أن نبيّن بأنهم يعرفون أشياء لا يمكن أن يكونوا قد تعلموها” (بينكر 1994: 40). وحتى قرارات حول قضايا مهمة نواجهها تعالج من قبل العقل دون طاقاته الواعية. يبدو ذلك واضحاً عندما تكون منغمساً في اتخاذ قرار، أو محاولة حل مشكلة، أو الذهاب للسرير حيث تصحو وقد أحرزت تقدماً مهماً، أو حتى توصلت إلى حل. وكما أوضح عالم النفس ميشيل جازانيجا ببيان واضح كما هو دأبه:
“ما أن يحين الوقت الذي نعتقد فيه أننا نعرف شيئاً (أي أنه جزء من خبرتنا الواعية) يكون العقل قد أتم فعل ما يتوجب عمله. إنها أخبار قديمة بالنسبة للعقل، ولكنها جديدة بالنسبة لنا (العقل الواعي). الأنظمة المشيّدةُ في العقل تفعل فعلها أوتوماتيكياً، وإلى حد كبير، خارج إدراكنا الواعي. العقل ينهي العمل قبل نصف ثانية من وصول المعلومات التي يتعامل معها إلى عقلنا الواعي… نحن (أي عقولنا) خاليو الذهن حول كيفية عمل ذلك والتأثير عليه. نحن لا نخطط أو نبلور تلك الأعمال. إننا ببساطة نراقب النتيجة. ويبدأ العقل بالتغطية على ذلك (أي الفعل الذي تم من مناحي العقل) بخلق الانطباع الخاطئ بأن الأحداث التي نمر بتجربتها هي أحداث في زمن حقيقي—وليس قبل فعلنا الواعي بتقرير ما يتوجب عمله” (جازانيجا 1998: 63-64).
وفي الحقيقة، فإن أحد الألغاز المحيّرة في علم النفس هي: لماذا يخدع الدماغ العقل إلى الاعتقاد بأنه يسيطر على النشاطات العقلية. ولكن، لا شيء مما تقدم ينال من تأثير نظرية ميزس. الأسواق هي إحدى وسائل العقل الاجتماعية لتوسيع قدرتها على معالجة المعلومات من عقول غيرها، والمساهمة في خلق الثروة، بما يتجاوز كل ما يستطيع العقل البشري أن يفهمه. وكما أن معظم ما يفعله الدماغ هو غير متاح للعقل، كذلك هنالك إخفاق واسع بين الناس في فهم الأسواق كأنظمة تنظم نفسها بنفسها، وتنسقها أسعار تهدف إلى تحقيق مكاسب مشتركة من عمليات التبادل، ودون توجيه من أحد. إن تفاعلات الاقتصاد هي بعيدة عن إدراك المتعاملين فيه، بما في ذلك رجال الأعمال، كبعد إدراك المتعامل نفسه عن فعل عقله. إن عمليات الاقتصاد ليست نتاج، ولا يمكن أن تكون نتاج العقل الواعي، والذي يتوجب عليه الاعتراف بمحدوديته وأن يواجه، وفق ما كتب هايك “تداعيات الحقيقة المذهلة، والتي كشف عنها علم الاقتصاد وعلم البيولوجيا، بأن النظام الذي يعمل دون تخطيط مسبق، يفوق بمراحل كبيرة الخطط التي يضعها الإنسان عمداً” (هايك 1988: 8).
حول شبكة العقل المتخصصة بمعرفة كلفة الفرصة وتشابك علاقة العقل والعواطف
نظرية تبرز بإصرار ومتابعة في كتابات ميزس، هي أن الاختيار يقوم على التفكير، وتحليل الأفضليات المقارنة والأحكام المتصلة بما هو أكثر وما هو أقل: “الفعل هو محاولة استبدال وضع أفضل من وضع أقل منه… الثمن يساوي القيمة المعطاة لوضع ما، والتي يتوجب التخلي عنها لتحقيق الهدف المنشود” (م: 97). “الرجل وحده يملك الملكة على تحويل الحوافز الحسيّة إلى ملاحظة وتجربة [ويستطيع أن يرتبهما] ضمن نظام متكامل. الفعل يسبقه التفكير” (م: 177).
أود أن ألفت النظر إلى حقيقة أن توجهاً في أبحاث تتصل بالحيوان والإنسان تقود إلى السنّة ذاتها، قد نشرت بعنوان الفعل البشري، وقد أثبتت الأساس لمقارنات قيمية مقنعة، تتعلق بكيفية عمل الدماغ الحيواني. قدم زيمان (1949) تقريراً يعرض فيه نتائج تجارب على فئران دُرِّبت على السعي لتحقيق هدف تحفزها إليه المكافأة المقدمة. ومن ثمَّ انتقلت التجربة إلى إعطاء مكافأة أقل، وقد كانت استجابة الفئران الركض ببطء أكثر نتيجة المكافأة الأقل. فريق ثان من الفئران بدأ بمكافأة صغيرة، ثم انتقل إلى مكافأة أعلى. وعلى الفور ركضت تلك الفئران بوتيرة أسرع مما لو كانت المكافأة الأعلى وحدها هي التي طبقت. كانت تلك التجربة المبكرة متوافقة مع الفرضية التي مفادها أن الحافز يعتمد على المكافأة النسبية—كلفة الفرصة—وليس على مقياس كُلِّي من القيمة ينتجها الدماغ. بيد أن ذلك التفسير لم يُقدَّر بما يستحق في ذلك الوقت. ومنذ ذلك الحين، أظهر القياس المباشر لنشاط نبضات الدماغ أهمية المقارنة القيمية النسبية في فهم كيفية عمل أدمغة المخلوقات. هكذا، فإن أدمغة كل من القردة والفئران تستجيب لمقارنات متفاوتة من المكافآت. فالدراسات العصبية الفيزيولوجية لكل من القردة والفئران تدل على أن النيورونات الجزئية في الأقسام المكونة من طبقات ست في مقدمة ذلك الجزء من الدماغ (فوق العينين)، تقوم بتمحيص الأحداث المحفّزة، وتميزُ بين الشهية وبين الحوافز الموضوعية الطاردة، وأنها تكون نشطة خلال فترات توقع النتائج (شولتز وترمبليه 1999: 704).
لقد أصبح ثابتاً الآن بأن نشاط النيورون الأمامي المحرك في القدرة يُمكِّنها من التمييز بين المكافآت النسبية ذات العلاقة المباشرة بالتفضيل النسبي للحيوانات، بين مجموعة من المكافئات مثل الزبيب والتفاح والحبوب (مرتّبةٌ وفق التفضيل النسبي). وهكذا، فإن نشاط النيورونات هو أكبر بالنسبة للزبيب منه إلى التفاح عندما يكون الخيار بين الزبيب والتفاح، وكذلك بين التفاح والحبوب. بيد أن النشاط المحفّز من التفاح هو أكبر كثيراً بالمقارنة مع الحبوب منه بالمقارنة مع الزبيب. هذا يتعارض مع ما يتوقع المرء لو كانت المكافئات الثلاث مسجلة على قياس ثابت من المواصفات الفيزيولوجية، بدلاً من القياس النسبي (شولتز وترمبليه 1999: 706، الشكل 4).
وحيث أن التقنيات التي تستخدم في الحيوانات نزّاعة إلى التوغل في الأنسجة أكثر مما هو مُستحب بالنسبة للبشر، ما هو المغزى بالنسبة للإنسان لتلك الأبحاث حول عمل الدماغ الحيواني؟ الجواب هو أن الأبحاث قد دلَّت على أن القشرة الأمامية المتحركة في الدماغ البشري تعمل عملاً متطابقاً مع ما تفعله تلك القشرة في الحيوانات. وقد تبين ذلك من خلال دراسة البشر والقردة اللذين أصيبت قشرتهما الأمامية بالعطب: كلا الجنسين أبديا تعبيرات متغيرة بالنسبة للمكافئات والخيارات المفضلة، كما أظهرا العطب الذي أصاب قدرتهما على اتخاذ القرارات، والحوافز والسلوك العاطفي، وجميعها تؤدي إلى اختلالات مهمة في سلوكها الاجتماعي. وكما لاحظ داماسيو في تلخيص نتائج تلك الدراسات: “على الرغم من الفروقات النيوروبيولوجية بين القردة والشمبنزي، وبين الإنسان والشمبنزي، هنالك جوهر مشترك للعطب الذي ينتج عن إصابة الأعضاء الأمامية في الدماغ: فقد نتج عن ذلك تدهور شخصي واجتماعي شديد في سلوكيهما” (داماسيو 1994: 75).
يود الناس أن يعتقدوا بأن اتخاذ القرارات الصائبة هي نتيجة لاستخدام العقل، وأن أية مؤثرات قد تولدها العواطف هي مناقضة للقرارات الصائبة. إنَّ ما لم يُقدّره ميزس وغيره الذين يعتمدون أيضاً على أولوية العقل في نظرية الاختيار هو الدور الإيجابي الذي تلعبه العواطف في الفعل الإنساني. وعلى سبيل المثال، فقد قام بيكارا وآخرون (1997) بدراسة سلوك المرضى الذين يعانون من إصابات في الحيِّز الأمامي للدماغ في عملية اتخاذ القرار، مقارنة مع الأشخاص الطبيعيين.[1] لقد دلت تلك الدراسات على أن الأشخاص الطبيعيين، عندما علموا بالبيئة الاختبارية، قد دخلوا في مرحلة انتقالية حرجة، غيّروا فيها من أنماط اتخاذهم للقرارات. بيد أنه وقبل التحول الذي وقع في اتخاذ القرار، أظهرت التجارب التي أُجريت على القشرة الجلدية الناقلة للحواس استجابة عاطفية، بينما فقط بعد تغيير القرار، استطاعوا أن يبلوروا شفوياً السبب الذي أدّى إلى إجراء التغيير. وبالتالي، فإن الدماغ العاطفي ينتقل إلى الفعل قبل تغيير القرار، بينما العقل، في شكل تبرير عقلاني، يعمل بعد اتخاذ القرار. الذين أُصيب دماغهم بالعطب فشلوا في إبداء استجابة عاطفية، وفشلوا في تغيير صنع القرار، ويقدمون تبريرات لفظية لأدائهم الضعيف. ومما يلفت النظر أن هنالك مشكلة عامة فيمن أصاب العطب دماغهم ألا وهي، فقدان وظائفهم، أو الإفلاس، ويجدون صعوبة في اتخاذ قرارات على المدى البعيد (بيكارا وآخرون 1997). أعتقد بأن هنالك إشارات لا شعورية، تصدر عن ذلك الجزء العاطفي من العقل (يسمى في بعض الأحيان بـ”Limbic System”)، وهو الذي يوجه أو يؤثر على تشكيل استراتيجية المعرفة، وأن هذه الاستدارة تتأثر بما يحل بمقدمة الدماغ من انشقاقات ونتوءات. ونتيجة لذلك، فإن العواطف، وبعيداً عن أن تكون ضارة باتخاذ القرار الصائب، قد تكون أساسية له، بينما التحليل العقلي الواعي يكون الأخير في معرفة ما جرى.
حول المجتمع الإنساني والتعاون
وفق نظريات ميزس، فإن جميع العلاقات الاجتماعية تنشأ من تقسيم العمل، والذي أصبح ممكناً نتيجة اقتصاد السوق:
“داخل نظام التعاون الاجتماعي، يمكن أن تنشأ بين أعضاء المجتمع مشاعر التعاطف والصداقة، والشعور المشترك بالانتماء. هذه المشاعر هي مصدر أكثر تجارب الإنسان علواً ومسرّة. إنها أغلى مُزيّنات الحياة.. بيد أنها ليست الأداة التي جلبت العلاقات الاجتماعية. إنها ثمرة التعاون الاجتماعي، وإنها تنمو فقط ضمن أُطره… الحقائق الأساسية التي جلبت التعاون والمجتمع والحضارة، وحوَّلت الحيوان البشري إلى كائن إنساني، هي الحقائق التي أظهرت بأن العمل الذي يتم في إطار تقسيم العمل، هو أكثر إنتاجية من العمل المنعزل، وأن عقل الإنسان قادر على إدراك هذه الحقيقة” (م: 144).
أود أن أسلط ضوءً مختلفاً على هذه القضايا، دون أن أنفي، أو أُقلّلَ من جوهر رسالة ميزس. إن صيغتي، القائمة على أسس من علم الآثار، والأعراق والدراسات التجاربية، تعطي منظوراً مختلفاً حول الجذور السيكولوجية الاجتماعية للتبادل، وحقوق الملكية والمال. وحيث أنني قد سبق وبحثت هذا الموضوع بإسهاب في موقع آخر، فإنني سوف أستخدم هذه المناسبة لتحديثها وإعادة صياغتها في إطار تكريم مساهمات ميزس الخالدة (سميث 1998).
ربما في الترتيب الثاني بعد اللغة، كظاهرة إنسانية عامة، يقوم الناس دائماً، وإلى درجة كبيرة لا شعورياً، في الإقدام على التبادل مع الأصدقاء والمشاركين وحتى الغرباء، إذا لم يكن الإطار لذلك التعاون عدائياً. إنك تدعو المعارف إلى العشاء، يتلو ذلك دعوتهم لك، إنك تعطي تذكرة المسرح إلى صديقة عندما تكون خارج المدينة، وبعد ذلك، فإنها تعطيك تذاكر لحضور حفلات موسيقية، تكون هي غير قادرة على حضورها. الأصدقاء يتبادلون العطايا، ويقرضون الممتلكات، ويقدمون الخدمات لبعضهم بعضاً بشكل أوتوماتيكي، دون إجراء حسابات تفصيلية دقيقة. ومن هنا تجيء العبارة الشائعة “أنا مدين لك بواحدة.” مجتمعات الصيد، التي تمت دراستها على امتداد المائة عام الماضية، مليئة بأنظمة تبادلات اجتماعية، ذات نتائج وتداعيات اقتصادية بعيدة المدى. ومع أن بعضها كان يتعامل بشكل من أشكال السلع المالية، فإن الكثيرين منها لم يكونوا يفعلون ذلك، بل يعتمدون كلياً على التبادل الاجتماعي من خلال التعامل بالمثل، لاكتساب الربح من خلال التبادل، في عالم خالٍ من المال أو الحفظ في التبريد.
إن أشكال المؤسسات تختلف اختلافات كبيرة، بيد أن عملها هو الشيء ذاته. هنالك تقسيم عال في العمل على امتداد الأجيال وبين الجنسين: النساء والأطفال وكبار السن، في العادة، يجمعون ويوضبون الناتج الزراعي؛ بينما الرجال والأولاد ما بعد سن الثامنة عشرة يصيدون؛ كبار السن يعطون النصائح حول الصيد ويصنعون الآلات؛ الجدات يساعدن في توليد الأطفال وتنشئتهم، كجزء من تأقلم إنساني بيولوجي—انقطاع الطمث—أي سن اليأس، الذي يؤدي إلى حياة عائلية وخدماتية للمجتمع، في فترة ما بعد الإنجاب.
هذه “الغريزة” لتبادل المنافع قد ظهرت بقوة، وعلى نطاق غير متوقع، في تجارب واسعة معملية (فير، جاكتر وكيركستايجر 1996؛ مكايب، راسينتي وسميث 1996). وكما ذكر أعلاه، فإن أبحاث السوق التجاربية تؤيد بقوة وجهة نظر سميث-هايك-ميزس حول التعاون من خلال مؤسسات السوق، والتي من خلالها تسخّرُ حقوق الملكية المصلحة الذاتية لخلق الثروة. بيد أن النصف أو أكثر من الناس الذين يُعظمون مكاسبهم من التبادل، وإن كان عن غير وعي، وبتعاملات غير محدودة من قبل أنظمة السوق، يختارون أيضاً التنازل عن المصلحة الذاتية لتحقيق نتائج تعاونية بدلاً منها، من خلال الثقة والائتمان، في مبادلات بسيطة ضمن لعبة معلومات تامة.
وعلى سبيل المثال، وفي أحد لعب الثقة، فإن اللاعبين الاثني عشر يصلون على المختبر “لكسب المال في تجربة الاقتصاد.” فعندما يصل الأفراد يدفع لهم مبلغ خمس دولارات لوصولهم في الوقت المحدد، كما يُخصص لهم كمبيوتر في غرفة تحتوي على أربعين جهازاً تفصل بينها حواجز تقسيم. وبعد أن يصل جميع المشتركين، وكل واحد منهم يضم إلى شريك باختيار عشوائي وسرّي، ومن ثم يعطى وبشكل عشوائي أيضاً مركز المحرك الأول أو الثاني. اللعبة تلعب مرة واحدة. المحرك الأول يستطيع أن يختار تقسيم مبلغ 20 دولاراً بالتساوي، 10 دولارات لنفسه و10 دولارات للاعب رقم 2. وخلافاً لذلك، يستطيع أن ُيمرر للاعب رقم 2، مما يضاعف الكعكة الأصلية إلى 40 دولاراً. اختياران أمام اللاعب رقم 2: أخذ الـ40 دولاراً، تاركاً لا شيء للاعب رقم 1، أو أن يأخذ 25 دولاراً، تاركاً 15 دولاراً للاعب رقم 1. ومهما يكن الاختيار، ففي النهاية كل واحد من المشتركين يدفع له بشكل انفرادي خاص ويغادر التجربة. تستغرق مدة التجربة حوالي 15 دقيقة. لا يعرف أحدهم مع مَنْ مِنَ المشاركين تم ازدواجه. اللعبة اليتيمة، والازدواج السرّي، فيهما يعترف بالبروتوكول على أنه يحدد الشروط الأكثر نجاعة للحركات غير المتعاونة التي يقوم بها كل لاعب. نظرية اللعبة تفترض بأنه، في غياب لعبة مكرّرة، أو أي تاريخ أو مستقبل للتفاعل بين اللاعبين، فإن كل واحد منهم سوف يختار استراتيجية الهيمنة، وكل واحد منهم سوف يفترض بأن الآخر سوف يختار الشيء ذاته. ونتيجة لذلك، فإن توازن اللعبة يتطلب أن يأخذ اللاعب الأول 10 دولارات، تاركاً 10 دولارات للاعب الثاني. وخلافاً لذلك، فإذا لم يلعب المحرك الأول يختار المحرك الثاني أخذ مبلغ الـ40 دولاراً كلها.
وخلافاً لذلك، لنفترض بأن اللاعب رقم 1 هو شخص سياسته في التفاعل الاجتماعي مع الآخرين هي كثيراً ما تكون قائمة على تبادل وُدِّي. ضمن هذا الإطار فإن ترك اللعبة للاعب رقم 2 يراد به إعطاء عرض للتعاون. اللاعب رقم 1 يغامر بخسارة فرصة إضاعة 10 دولارات، من أجل فرصة يربح فيها 5 دولارات. يمكن تفسير ذلك بأنه إشارة للاعب رقم 2 مفادها: “إنني لا أنوي التخلي عن الكسب المؤكد للدولارات العشر، لأنني أتوقع منك أن تترك لي (صفراً). إنني أعرض عليك مردوداً يساوي 250%، بحيث أستطيع الحصول على 150% كعائد على التبادل. إنني أثق فيك بأن تكون موثوقاً.” فإذا كان للاعب رقم 2 توجهٌ مماثل، فإننا نكون قد حققنا تجارة تُدرُّ عائداً على التبادل، يستلم اللاعب 1 فيه 15 دولاراً واللاعب 2 يستلم 25 دولاراً.
الجدول رقم 1 يعطي نتائج لعيِّنة من 24 زوجاً من طلاب البكالوريوس، وعيِّنة لـ28 زوجاً لطلاب الدراسات العليا (البيانات من مكايب وسميث 1999). الدرس المستفاد هو أن نصف عينة طلبة الجامعات، بما في ذلك طلبة الدراسات العليا على امتداد الولايات المتحدة وأوروبا، المؤهلين بتدريبات اقتصادية وبنظرية اللعبة، يثقون، بينما 64 إلى 75 في المائة ممن تم الازدواج معهم، هم جديرون بالثقة. لماذا مثل هذه النسبة العالية من أولئك اللاعبين المجهولين المتفاعلين يتخلون عن الفعل الأناني غير المتعاون، كما تنبأت بذلك النظرية الاقتصادية ونظرية اللعبة؟ نعتقد بأن الجواب بسيط: معظم الناس في المجتمعات المستقرة نسبياً تجد أنها سياسة ناجحة تؤتي أُكلها على المدى البعيد، سياسة التعاون والتجاوب مع الآخرين. هذا الموقف المعتاد قوي إلى درجة أنه ظل فعالاً حتى في حالات التفاعل المجهولة، في لعبة تجريبية تتم مرةً واحدة؛ معظم من تم الازدواج معهم يفهمون الرسالة، ويبادلونها تعاوناً بتعاون لمصلحة الفريقين المتبادلة. إن بياناتنا تُظهرُ بأن اللاعبين رقم 1 الذين يتعاونون، مغامرين بالخسارة، هم في أغلب الحالات يكسبون مالاً أوفر من أولئك الذين لا يتعاونون.

أود أن أقترح بأن هذا الشكل من السلوك قد ميَّز سلوك أسلافنا ربما على امتداد المليوني سنة الماضية. وفي الحقيقة، فإنني أتفق مع ميزس بأنه من خلال التبادل، تُمكِّننا من الوصول إلى ما وصلنا إليه اليوم، ما عدا القول بأن التبادل، على امتداد معظم تاريخنا، قد جرى في نطاق التبادل بين العائلة والعشيرة والقبلية. هذا هو الذي وضع الأساس لأقدم مراحل التخصص، وقبل زمن طويل من قيام السوق. ونتيجة لذلك، عندما اخترع أحدهم “المقايضة”، وفيما بعد، ما أصبح يعرف بالنقد، فقد كان للإنسان خبرة شاسعة في ميدان التبادل. ما فعله النقد كان تحرير العقل من الحسابات القائمة على حسن النوايا—الحاجة إلى التدقيق بين الحين والحين، حول ما إذا كانت الحسابات الجارية مع صديق دقيقة أو غير متوازنة إلى حد كبير. هذا العنصر الجديد هو الذي جعل التجارة طويلة الأمد ممكنة، والتي بلغت ذروتها اليوم في الأسواق العالمية، والدخول في عصر التجارة الإلكترونية (نورث 1991).
النموذج الذي ذكرناه أعلاه حول الفرد—أن يسلك سلوكاً غير متعاون في الأسواق العامة غير الشخصية، وتعظيم الربح من التجارة، ولكن التعاون في التبادل الشخصي وتعظيم الكسب من التبادل—يمكّن الإنسان من فهم السبب الذي يدفع الناس إلى الرغبة في التدخل بالأسواق “لتحسين الأوضاع.” إن خبرتهم في التبادل الشخصي الاجتماعي، هو أن عمل الخير (عن طريق أن يثق وأن يكون موثوقاً)، يؤدي إلى نتائج جيدة (مكاسب واضحة من التبادل الاجتماعي). أما في المبادلات العامة غير الشخصية من خلال الأسواق، فإن المكاسب من التبادل ليست جزءً من خبرتهم. وكما لاحظ آدم سميث ([1776] 1909: 19): “تقسيم العمل هذا، ليس في الأصل نتيجة لأية حكمة إنسانية، تتنبأ وتتوجه نحو تلك الثروة الغريزية، والذي يوصل لها.” التبادل غير الشخصي من خلال السوق يعطي الانطباع بأنه لعبة ليس فيها رابح أو خاسر، وهو انطباع لا يُقللُ بأي شكل من الأشكال من قدرة الأسواق على إنجاز الأهداف التي بلورها آدم سميث وميزس. البرامج التدخلية في نظري ناتجة عن أن الناس يطبقون بشكل غير صحيح تجاربهم وخبراتهم من التبادل الشخصي الاجتماعي على الأسواق العامة، والتوصل إلى قناعة بأنه يمكن التدخل وتحسين أوضاع السوق. الناس يستخدمون حدسهم وليس عقلهم (كما كان يظن ميزس) في نظرتهم إلى الأسواق، وهم بذلك يرتكبون خطأً.
الخاتمة
معْلَمان اثنان فريدان يختص بهما العنصر البشري، وهما في الغالب أساسيان لقيام التخصص (نظام التعاون الموسع) كظاهرة إنسانية عامة، مكّنتْ أسلافنا من “السيطرة على الأسماك في البحار، والطير في الفضاء، والمواشي، وعلى جميع الأرض، وعلى كل دابة” (سفر التكوين 1: 26). هذان المعلمان أو العنصران هما: (1) استخدام لغة طبيعية مؤهلة و(2) التبادل أو “القدرة على التنقل ومقايضة وتبادل شيء بشيء آخر” (سميث، 1776، 1909: 19). من الصعب التصور بأن هذين العنصرين قد تطورا على انفراد. إنهما بكل تأكيد جزءٌ من شبكة تطور ثقافي–بيولوجي مشترك على امتداد أكثر من مليوني سنة. إن غريزة التبادل تفسر بقاء أنظمة التجارة في الصين، والاتحاد السوفييتي السابق، وغيرهما، تحت أنظمة الدولة ومحاولات القمع الاجتماعي.
ميزس وهايك بلورا وأثريا إثراءً عظيماً المبادئ التي جاء بها آدم سميث، في مرحلة حرجة في هذا القرن (القرن العشرين)، عندما كان يُنظر إلى تفكيرهما بأنه عفا عليه الدهر، وغير عملي، ومثالي. لقد تحدثا عن الحرية عندما لم يكن لها تأييد شعبي؛ تحدثا بحكمة وعقل ثاقب. ولكنهما تحدثا من منطلقات مستقلة، وفي بعض الحالات متعارضة. بالنسبة لميزس “التفكير العقلي هو الأداة التي حققت كل شيء إنساني محدد” (م: 91). ولكن في رأي هايك، فإن قمة الغرور هي “الفكرة القائلة بأن القدرة على امتلاك المواهب تتأتى عن العقل. إنها على النقيض من ذلك: ذلك أن تفكيرنا العقلي هو نتيجة عملية التطور الانتقائي، بقدر ما هو تطور أخلاقياتنا”، ولكنها تنبع من تطور مستقل: “لا يجب لأحد أن يظن بأن قدرتنا العقلية هي في المستوى الأعلى، وأن القوانين الأخلاقية الوحيدة النافذة هي تلك التي يسندها العقل” (هايك 1988: 21). “ولفهم حضارتنا، على المرء أن يقدر بأن النظام الموسع للتعاون قد نتج، ليس بفعل الإرادة الإنسانية أو توجهاتها، ولكن عفوياً: لقد نشأ نتيجة اتباع عدد من الممارسات التقليدية، في معظمها أخلاقية، وبدون قصد متعمد. وكثير منها مكروهة، كما أنهم في العادة لا يستوعبون مغزاها، كما لا يستطيعون إثبات صلاحيتها؛ ولكن رغم ذلك، فقد انتشرت بسرعة بفعل التطور الانتقائي—الزيادة المقارنة في حجم السكان والثروة—لتلك الجماعات التي تبعتها” (هايك 1988: 6).
ومع أن هايك في رأيي، هو المفكر الاقتصادي الأبرز في القرن العشرين، والذي رأى ما يتوجب أن يكون عليه النظام الموسع، فقد كان ميزس التقني المُختار، ولم يكن أحد يفوقه في بلورة أولوية الفرد، والحاجة إلى تحديد وتنمية الحقوق الفردية. الاقتصاد التجريبي، الذي أنشئ في السنوات الخمسين منذ الفعل البشري كان منصفاً لأهل النمسا، في تمكيننا من إظهار أن النظام العفوي، الذي يعمل من خلال مؤسسات الملكية الفردية، يظهر المعالم المرغوبة التي ادّعى النمساويون مزايا وجودها. هذه القوة في الإظهار والإثبات هي بالنسبة لي أشد إقناعاً بكثير من اللجوء إلى العقل، وبالأخص من قبل ميزس. العقل، كما تعلمون هو يُدعى أيضاً على أنه في جانب تدخل الدولة، وأن مثل هذا الشكل من العقل له القدرة على التأثير في عقول الناس، بسبب محاكاته السطحية لتجاربهم، على الرغم من أن النظم التي أقيمت حوله قد انهارت، وتراهم يبدون اليأس والإحباط مدَّعين بأن كل شيء سوف يصبح على ما يرام، لولا الجشع البشري.
طرائق الفعل البشري
لورنس إتش. وايت[3]

لقد أعطانا فيرنون سميث، مجموعة مشوِّقة من الآراء حول كتاب ميزس، الفعل البشري، ففي حقل الطرائق والأساليب، يمكن اعتبار الفعل البشري على أنه بيان يؤكد الاستنتاجية الافتراضية من القاعدة العامة المسبقة إلى الخاصة، بينما يمكن اعتبار سميث على أنه ملتزم بالمذهب التجريبي (من الطراز الاختباري). وعندما يؤخذ ذلك بعين الاعتبار، فإن سميث يبدي انفتاحاً حميداً غير متوقع نحو الكتاب.
الحيادية الأخلاقية والعقلانية في علم الاقتصاد
أوضح ميزس (1966: 19) كما نقل عنه سميث، أنه قال: “الفعل البشري هو بالضرورة عقلانياً دائماً.” ويعلمنا سميث بأن ميزس يعتبر ذلك صحيحاً “لأن التطبيق العملي محايد فيما يتعلق بأية أحكام تقييمية تتعلق بالبيانات—ألا وهي الأهداف النهائية التي يتم اختيارها في الفعل البشري. لذا، فليس هنالك أساس موضوعي للتأكيد بأن اختيارات أي إنسان يمكن أن تكون لا عقلانية.” أعتقد أن استخدام سميث لكلمة (لأن) السببية، ليست في مكانها. ومع أن الفترة التي ينقل عنها سميث تبحث بالفعل ضرورة العقلانية في الفعل البشري، جنباً إلى جنب مع الحيادية الأخلاقية في التطبيق العملي، فإن الأخيرة ليست السبب وراء الأولى. يجب أن لا نخلط بين أمرين اثنين مختلفين: (1) معنى عبارة العقلانية في الاقتصاد، و(2) الحيادية الأخلاقية في التحليلات الاقتصادية.
الحيادية الأخلاقية تعني أن الاقتصاد مهتم باستكشاف نتائج نشاطات السوق والسياسة الاقتصادية، وليس في الحكم على سوءاتهما أو حسناتهما. أن تكون عقلانياً بالنسبة لميزس (1966: 20) هو الانغماس في نشاط متعمد، أي المحاولة المتعمدة لتحقيق هدف ما. كما إن الـ”فعل” يعني عملاً متعمداً (ميزس 1966: 11). السلوك الوحيد غير المتعمد (الذي لا هدف وراءه) هو السلوك الانعكاسي اللاإرادي، لذا، وكتحصيل حاصل، فإن جميع “الأفعال البشرية” هي عقلانية، حتى ولو تقبّل المرء أو رفض الحيادية الأخلاقية في التحليلات الاقتصادية (ويضيف ميزس قائلاً: “عبارة فعل عقلاني هي، تبعاً لذلك، حشو كلامي، ويجب أن ترفض على هذا الأساس.”) يمكن للمرء أن يقبل بعبارة ميزس، ومع ذلك يرفض العبارة المبنية على أساس الاعتقاد بأن للاقتصاد مهمة أخلاقية في الحكم على القرارات، بأنها جيدة أو سيئة. المسألتان تبدوان متداخلتين فقط عندما تُستعمل العبارتان بشكل مختلف، وبالأخص عندما يصف مراقب قرار إنسان ما بأنه “غير عقلاني”، وهو يعني بذلك أنه قرار “سيء”، أو أنه مخالف “لأهداف” المراقب. ميزس يبحث الحيادية الأخلاقية من أجل تحذيرنا ضد مثل ذلك الاستخدام، وليس من أجل توضيح كون الفعل البشري بالضرورة عقلاني.
علم الاقتصاد ليس علماً طبيعياً
يشرع سميث مبكراً في تقديم انتقادات إيجابية: “هنالك الكثير في كتابات ميزس، في حاجة إلى التحديث، بسبب أشياء نظن أننا نعرفها الآن، والتي لم نكن نعرفها قبل 50 سنة،” وبالأخص “بالنسبة لطبيعة اتخاذ القرار البشري.” إن معلوماتنا الجديدة حول عملية اتخاذ القرار تستخلص من (1) تجارب سميث الخاصة بشأن الحوافز والأسواق لدى العنصر البشري، (2) الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، والإثنوجرافيا (علم نشوء الأعراق)، والسيكولوجية التطورية، و(3) الأبحاث في علم الأعصاب—على سبيل المثال، على أدمغة القردة، والأدمغة البشرية المعطوبة.
من السهل الموافقة على القول بأن أي بيان صدر قبل 50 عاماً مضى بشأن العلوم الطبيعية هو في الغالب في حاجة إلى تحديث. إنني أتفق مع سميث بأن ميزس كان على خطأ، أو على الأقل، إنه كان جامحاً عندما كتب يقول (ميزس 1966: 31): “لا يمكن إجراء أية تجارب مختبرية بشأن الفعل البشري.” إنصافاً إلى ميزس، مع ذلك، فقد جاءت تلك العبارة في وسط فقرة حول قضية شرح التجربة التاريخية. كان ميزس ببساطة يوضح بأن التاريخ الاقتصادي لا يجري في محيط مختبر، لذا يجب استخدام أساليب أخرى، غير التجارب المختبرية المنضبطة، للوصول إلى نتائج سببية تفسر الفعل البشري. فالبيانات التاريخية ليست بيانات مختبرية.
انتقادات سميث تشير إلى قضية أهم وأوسع بالنسبة لأي إنسان يأخذ على محمل الجد نظريات ميزس (الاستنتاجية المسبقة من القاعدة العامة إلى الخاصة، والتي تبدأ من منطلق المنطق التام في الاختيار). هل نظريات ميزس حول الوسائل المناسبة للاقتصاد في حاجة إلى تحديث؟ إنني أعتقد بأنها ليست في حاجة لذلك. أعتقد أن ميزس على حق في إصراره على أن المعطيات الجوهرية في النظريات الاقتصادية متأصلة في وسائل منفصلة عن تلك المتواجدة في العلوم الطبيعية. فالنظرية التطبيقية مستقلة عن العلوم الطبيعية، والاقتصاد التجريبي من وجهة النظر هذه يعتبر من العلوم الطبيعية. هذا لا يعني بأن الاقتصاد التجريبي لا ينتمي إلى دائرة الاقتصاد، أو أنه غير معني بكيفية عملنا نحن الاقتصاديون الذين لا ينتمون إلى المدرسة التجريبية. هنالك متسع كبير لكلا الجانبين: التطبيقي النظري المسبق، والعلم الطبيعي في دراسة السلوك البشري في الأسواق.
إن موقفي يتلخص في الآتي: الاقتصاد التجريبي وغيره من العلوم الطبيعية ليسا في وضع يتيح لهما تكذيب المعطيات الاستنباطية للنظرية الاقتصادية. تلك المعطيات تعتمد على نظرتنا “الداخلية” حول الناس كعملاء في السوق، بينما العلوم الطبيعية تعطينا أفقاً خارجياً حول الناس. تستطيع التجارب أن تُبين أفعال النظرية الاقتصادية. وبتعبير سميث، إنها تستطيع أن تعيد إلى الحياة معطياتها المتصوَّرة. وأهم من كل ذلك، أنها تستطيع مساعدتنا في تسوية قضايا مهمة لا يستطيع الاستنباط المسبق أن يحُلَّها. إن مجموعة من مثل تلك الأسئلة التجريبية ليست خالية من المضمون (كما أن ميزس لم يكن يعتقد ذلك). ومن الناحية الأخرى، فإن مجموعة من الأسئلة الاستنباطية المفيدة ليست كذلك خالية من المضمون. إنها تشمل، ليس فقط نظرية الاستهلاك، ولكن بعض نظريات المال أيضاً، وعلى سبيل المثال قانون جريشام.
إكتشاف ظاهرة المبادرات الاقتصادية
يقول سميث إن علم الأعصاب الراهن يدحض وجهة نظر ميزس القائلة بأن هنالك تغاير حاد بين السلوك المتعمد والسلوك اللاشعوري أو الانعكاسي غير المتعمد. لا يساورني شك بأن هنالك—من وجهة نظر علم الأعصاب—استمرارية وليس تناقضاً حاداً. ولكنني أجد نفسي على خلاف مع سميث في قوله بأن “الإرادة المتعمدة ليست شرطاً ضرورياً في نظام ميزس.” فالأسواق موجودة هناك، تفعل فعلها سواء كانت دوافع الفعل الإنساني تنطوي على اختيار إرادي أم لا. أقوال سميث قد تنطبق على نظام ولراس النظري، والذي أعتقد أن باريتو قال فيه: “إن الفرد قد يختفي، بشرط أن يترك لنا وراءه صورة فوتوغرافية عن أذواقه.” ولكنها لا تنطبق على نظام ميزس النظري. فمفهوم ميزس للكيفية التي يتم بموجبها عمل السوق بالفعل هي عملية اكتشاف المبادءة والمبادرة، وليس فقط الاستجابة التلقائية للمحفزات. أن يكون النظام الاجتماعي الناجم عن ذلك غير متعمد لا يعني بأن القرارات الفردية التي ينطوي عليها ليست بالضرورة متعمدّة.
ملاحظات:
[1] إن مهمة الأشخاص موضوع الدراسة هي تكديس كمية النقد من خلال طرح أي جزء أو كل مجموعات أوراق اللعب الأربع. الاوراق في المجموعات (أ) و(ب) يعطون 100$، بينما في (ج) و(د) 50$. لكن في الحالة الأولى يبدو أن هنالك ورقة مناسبية تنطوي على خسارة كبيرة غير قابلة للتنبؤ. إن الجزاء يستمر بغير نمط، بينما لا يعرف الأشخاص موضوع الدراسة متى ستنتهي المهمة. جميع الاشخاص موضوع الدراسة موصولون بإلكترودات كهربائية في الجلد من أجل قياس الاستجابة الجلفانية الجلدية. إن رد الفعل العاطفي للأحداث يسبب مزيداً من الافراز للعرق، وهذا يسجل على شكل إيصالية أعلى للجلد، كما هو مقاس بقيمة أعلى على الجلفانوميتر. إن أول نتيجة مثيرة للاهتمام للتجربة هي أن هناك إستجابة عاطفية تمت ملاحظتها في قراءات الاستجابة الجلفانية الجلدية للأشخاص الطبيعيين موضوع الدراسة قبل قرارهم للتحول من مجموعة (أ) و(ب) إلى (ج) و(د). فقط في ذلك الوقت، لاحقاً للتغيير في اتخاذهم للقرار، تمكن الأشخاص موضوع الدراسة من الإفصاح عن سبب تحولهم. الملاحظة الثانية الهامة هي أن المرضى الذين يعانون من أذى في الفص الأمامي لم يتحولوا إلى المجموعتين (ج) و(د)، وإن هذا لم يصاحبه تغييرا في القراءات، وأنهم مالوا إلى إعطاء ذرائع شفوية لتبرير أدائهم الضعيف، وبعضهم أشار إلى أن المجموعتين (أ) و(ب) قد يتحسنا.
[2] عدد الأزواج الذين حازوا على هذه النتيجة شريطة الوصول إلى المرحلة الثانية من اللعبة (اللاعب 1 يستنكف). ولذا، بالنسبة لطلبة البكالوريوس، 12 من 24 لاعب رقم 1 تحركوا إلى الأسفل، ومنهم 9 لاعبين تحركوا إلى اليمين و3 تحركوا إلى الاسفل.
[3] بروفيسور الاقتصاد في كلية تيري لإدارة الأعمال، جامعة جورجيا.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 25 حزيران 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

كانت شركة غوغل للبحث في الانترنت هي واحدة من قصص النجاح الأكبر في الاقتصاد الأمريكي في العقد الماضي. فبعد بداية متواضعة في غرفة سكن طلابي في جامعة ستانفورد، طُرحت أسهمها للاكتتاب العام سنة 2004 ووصل سعر السهم لديها إلى 370 دولاراً.
أصبح مؤسسو الشركة، لاري بيج، وسيرجي برن والعديد من مدراء الشركة الأثرياء، أصبحوا أغنياء بالطريقة الوحيدة التي تستطيع أن تثرى بها في السوق الحرة: من خلال إنتاج شيء يريده الآخرون. فقد عمل العديد من الناس الأذكياء لساعات طويلة لينتجوا برنامج تشغيل حاسوبي اختار استخدامه مئات الملايين من الناس، في خضّم سوق تنافسية للغاية قدّم الكثير من الخيارات الأخرى.
ولكن في نظامنا الاقتصادي السياسي—الذي يسميه جوناثان راوتش، الصحفي في ناشيونال جورنال “الاقتصاد المتطفل”—لا يمر عمل جيد بلا عقاب. فقد أراد بعض الناس أن يسموا غوغل منفعة عامة يجب تنظيمها في المصلحة العامة، ربما من خلال مكتب فيدرالي لآلات البحث. تريد إدارة بوش من غوغل أن تسلمها أكثر من مليون عنوان إلكتروني عشوائي وسجلات لكل عمليات البحث على أساس أسبوع واحد. ويحقق الكونغرس في كيفية تعامل الشركة مع طلب الحكومة الصينية بمراقبة ناتج بحث المستخدمين الصينيين.
لذا قررت غوغل أن تبدأ لعبة واشنطن، كما فعلت مايكروسوفت وشركات أخرى من قبل. فقد فتحت مكتباً في واشنطن ووظّفت خبراء مجاميع ضغط (لوبي) من ذوي العلاقات الجيدة. إحدى أفضل شركات البحث التنفيذية في البلاد تبحث عن مدير سياسي للشركة.
ما يجب أن يقلقنا هنا هو كيف أن الحكومة قد استمالت شركة غوغل نحو القطاع السياسي للاقتصاد. لقد مضت الشركة في عملها لقرابة عقد من السنوات، تُطورُ برامج التشغيل، وتخلق آلة بحث أفضل من أية آلة كان قد حلم أي واحد منا، وتكسب المال ببراءة. ولما أثار حجمها وثروتها انتباه المنافسين، والناشطين المضادين للعمل التجاري، والسياسيين، أُجبرتْ على البدء بإنفاق بعض أموالها وتفكيرها لتتقي الهجمات السياسية. وهي نفس العملية التي مرت بها مايكروسوفت قبل سنوات قليلة، عندما واجهت نفس النوع من المشاكل. والآن مايكروسوفت هي جزء من “مؤسسة واشنطن”، بنفقات لوبي تزيد على تسعة ملايين دولاراً في العام.
وفقاً لمعايير واشنطن، مازالت غوغل لاعباً صغيراً، بكُلَف لوبي لا تبلغ المليون دولاراً فقط في العام الواحد. لقد كان لاعبو واشنطن المحنكون يرعون البراءة السياسية لغوغل. قال خبير اللوبي التكنولوجي ريت داوسون إن الشركة “تمضي بسرعة نحو مرحلة النضج… وهي تدفع لكي تجذب الانتباه في واشنطن.” أما لورين مادوكس، معاون سابق لشركة نيوت غينغريتش استخدمته غوغل مؤخراً، فقال إن لوبيّي الشركة يشرحون لهم أن “عملية السياسة هي امتداد لساحة معركة السوق.”
لقد مرت مايكروسوفت بنفس الضباب، رغم أنه كان أكثر حديةً. قال أحد المعاونين من الكونغرس، “إنهم لا يريدون أن يلعبوا لعبة العاصمة، هذا شيء واضح، وقد نجوا بفعلتهم لحد الآن. ولكن المشكلة هي أنهم لن يتمكنوا من ذلك على المدى البعيد.”
شيء على غرار: “(هاي) بيل، لديك شركة صغيرة جميلة هناك. من العار أن يحدث لها أي شيء.” وتفهم الشركات الرسالة: إذا أردت أن تنتج شيئاً في أمريكا، فلا بد أن تلعب اللعبة. ساهِمْ في حملات السياسيين، وظِّفْ أصدقاءهم، إذهبْ وقبعتك بيمينك إلى جلسات الاستماع في الكونغرس، واعتذرْ عن نجاحك.
المأساة هي أن العامل الأكثر أهمية في مستقبل أمريكا الاقتصادي—في رفع مستوى معيشة الجميع—ليس الأرض، أو المال، أو الكومبيوترات؛ بل الموهبة البشرية. بعض من الموهبة البشرية في شركة أخرى من أكثر شركات أمريكا ديناميكية يتحول الآن من النشاط الإنتاجي إلى حماية الشركة من النهب. وهكذا فإن الاقتصاد المتطفل امتص مشروعاً إنتاجياً آخر.
يمكن أن يعزى تباطؤ الاقتصاد الأمريكي خلال العقود القليلة الماضية إلى حد بعيد إلى هذه العملية فقط—توسع الاقتصاد المتطفل على حساب الاقتصاد المنتج. ارتفع عدد المؤسسات التي لديها مكاتب في واشنطن، إضافة إلى عدد المدراء التنفيذيين الذين يزورون واشنطن بشكل منتظم. وإذا كنت تعتقد بأن نمو الاقتصاد المتطفل سيتباطأ في ظل حكومة الجمهوريين، فإنك على خطأ. يصل عدد الشركات ذات خبراء اللوبي المسجلين إلى 58% في ست سنوات، وارتفع الإنفاق الرسمي من مليار ونصف إلى مليارين ومائة مليون دولاراً في ذلك الوقت.
كتب بيل غيتس عام 1998، “لقد مر عام على آخر زيارة لي إلى واشنطن العاصمة. أعتقد أن علي من الآن فصاعداً القيام بهذه الرحلة بشكل أكثر تكراراً.”
وهذا ما يكلفه الاقتصاد المتطفل لأمريكا. فمؤسسو مايكروسوفت وغوغل وغيرها من الشركات الخلاقة الأخرى سيهدرون عقولهم في حماية شركاتهم وليس بالتفكير بمنتجات جديدة، وطرق جديدة لتقديمها.
إن حضور غوغل الجديد في واشنطن مفهوم تماماً، ولكنه رمز تراجيدي لتحول موارد أمريكا الإنتاجية إلى عالم غير منتج من النهب السياسي والصراع لمقاومة هذا النهب.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 24 حزيران 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

إنه من السائد كثيراً بأن السياسة والاقتصاد أمران منفصلان ولا علاقة لأحدهما بالآخر؛ وأن الحرية الفردية مسألة سياسية بينما أن الرفاهية المادية مسألة اقتصادية، وبأنه من الممكن ضمّ أيّ نوع من الأنظمة السياسية إلى أي نوع من الأنظمة الاقتصادية، والتطبيق المعاصر الأوضح لهذه الفكرة هو الدفاع عن “الاشتراكية الديمقراطية” من قبل العديد من الذين يدينون في الوقت ذاته القيود التي تفرضها “الاشتراكية الديكتاتورية” على الحرية الفردية في روسيا، وكذلك هؤلاء المؤمنين بأنه من الممكن أن تقوم دولة بتبني الخصائص الأساسية للأنظمة الاقتصادية الروسية وفي الوقت ذاته ضمان الحرية الفردية من خلال تلك الأنظمة السياسية. إن الفكرة التي يتناولها هذا الفصل تتمثل في أن مثل تلك الرؤية مضللة، وبأن هناك علاقة جوهرية بين السياسة والاقتصاد بحيث أنه بالإمكان الجمع فقط بين أنظمة سياسية واقتصادية محددة دون غيرها، وأنه على وجه الخصوص لا يمكن لمجتمع اشتراكيّ أن يكون في الوقت ذاته ديمقراطياً ضمن مفهوم ضمان الحرية الفردية.
إن الأنظمة الاقتصادية تلعب دوراً مزدوجاً في تأسيس مجتمع حرّ؛ فمن ناحية، فإن الحرية في الأنظمة الاقتصادية هي بذاتها جزء من الحرية بمفهومها الأوسع، وهي هدف نهائي بحد ذاتها. أما في المرتبة الثانية فإن الحرية الاقتصادية كذلك وسيلة لا يستغنى عنها في سبيل تحقيق الحرية السياسية.
إن أولى تلك الأدوار للحرية الاقتصادية تتطلب تأكيداً خاصاً لأن للمفكرين على وجه الخصوص ميلٌ قوي لعدم اعتبار هذه السمة للحرية على أنها مهمّة؛ فهم ينزعون إلى التعبير عن ازدرائهم لما يعتبرونه مظاهر ماديّة للحياة، وإلى اعتبار سعيهم وراء قيمهم السامية المزعومة على أنه على مستوى أعلى من الأهمية، وعلى أنه يستحق اهتماماً خاصاً. ولكنه لمعظم مواطني الدولة—وإن لم يكن ذلك للمفكرين—فإن الأهمية المباشرة للحرية الاقتصادية هي على الأقل بمثل أهميتها غير المباشرة كوسيلة لتحقيق الحرية السياسية.
فالمواطن البريطاني الذي لم يسمح له بعد الحرب العالمية الثانية بقضاء إجازته في الولايات المتحدة بسبب نظام الرقابة على الصرف وتحويل العملات الأجنبية قد تم تجريده من حرية أساسية بما لا يقل عن المواطن الأمريكي الذي حُرم من فرصته في قضاء عطلته في روسيا بسبب آرائه السياسية. فالحالة الأولى كانت في الظاهر تقييداً اقتصادياً للحرية بينما كانت الثانية تقييداً سياسياً لها؛ ومع ذلك فإنه لا يوجد فرق جوهري بين كلتيهما.
إن المواطن الأمريكي الذي يجبره القانون على تخصيص ما يقارب 10% من دخله من أجل شراء نوع معين من عقود التقاعد الذي تقدمه الحكومة؛ فإنه يتم تجريده بالقدر ذاته من حريته الشخصية. إن شدة الشعور بهذا التجريد ومقدار شبهه بالتجريد من الحرية الدينية—والتي سيعتبرها الجميع كحرية “مدنية” أو “سياسية” بدلاً عن اقتصادية—قد تمثل من خلال حدث متعلق بجماعة من مزارعي طائفة أميش؛ فعلى أساس المبدأ، اعتبرت هذه الجماعة البرامج الفيدرالية الإجبارية للشيخوخة كانتهاك لحريتهم الشخصية الفردية ورفضوا دفع الضرائب أو قبول الإعانات؛ ونتيجة لذلك تم بيع بعض مواشيهم في مزاد علنيّ لدفع استحقاقات ضرائب الضمان الاجتماعيّ. إنه صحيح بأن أعداد المواطنين الذين يعتبرون ضمان الشيخوخة الإجباري كتجريد للحرية قد تكون قليلة؛ لكن المؤمن بالحرية لا يحصي الأنوف أبداً.
إن المواطن الأمريكي الذي لا يمتلك—ضمن تشريعات العديد من الولايات—حرية الالتحاق بالمهنة التي هي من اختياره الخاص إلا إذا حصل على ترخيص لذلك؛ هو كذلك يتم حرمانه من جزء أساسي من حريته. وكذلك الشخص الذي يريد استبدال بعضٍ من بضائعه بساعة سويسرية مثلاً لكنه يُمنع من ذلك بسبب حصة نسبية ما (كوتا). وهكذا أيضاً الرجل من كاليفورنيا الذي قد زجّ به في السجن لبيعه (ألكا سيلتزر) بسعر أقل من ذاك الذي فرضته الجهة الصانعة تحت ما يطلق عليه اسم قوانين “التجارة العادلة”. وأيضاً كذلك المزارع الذي لا يستطيع زراعة كمية القمح التي يرغب بها، وهكذا دواليك. إنه من الواضح بأن الحرية الاقتصادية وبحد ذاتها جزء مهم للغاية من الحرية بمفهومها الشامل.
باعتبارها وسيلة لتحقيق الحرية السياسية؛ فإن الأنظمة الاقتصادية مهمة بسبب تأثيرها على تركيز أو توزيع السلطة؛ فذاك النوع من النظام الاقتصادي الذي يوفر الحرية الاقتصادية بشكل مباشر، وأعني النظام الرأسمالي التنافسي، يشجع كذلك الحرية السياسية لأنه يفصل السلطة الاقتصادية عن السلطة السياسية وبذلك يمكن أحدهما من أن يوازن الآخر.
إن الدليل التاريخي يتحدث بصوت واحد عن العلاقة بين الحرية السياسية والسوق الحرة. فلا أعلم عن أي مثال في أي مكان أو زمان لمجتمع تميز بقدر كبير من الحرية السياسية، وفي الوقت ذاته لم يستخدم شيئاً شبيهاً بالسوق الحرة لتدبير معظم نشاطه الاقتصاديّ.
ولأننا نعيش في مجتمع يتمتع بحرية كبيرة فإننا نميل إلى نسيان كم هو محدودٌ الزمن والجزء من العالم الذي قد تواجد فيه مطلقاً شيء شبيه بالحرية السياسية، فغالباً ما كان حال البشر الاستبداد والعبودية والشقاء؛ إلا أنه قد أبرز القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في العالم الغربي استثناءات لافتة للنظر للمنحى العام للتطور التاريخي؛ فقد تحققت الحرية السياسية في هذه المرحلة بشكل واضح بمعية السوق الحرة وتطور المؤسسات الرأسمالية، كالذي حققته الحرية السياسية في العصور الذهبية لليونان وفي العهود الأولى للعصر الروماني.
ويقترح التاريخ بأن الرأسمالية تكفي كشرط أساسي للحرية السياسية؛ لكنه من الواضح بأن ذلك ليس كافياً؛ فإيطاليا الفاشية وإسبانيا الفاشية، وألمانيا خلال العديد من الفترات في السبعين سنة الماضية، واليابان قبل الحرب العالمية الأولى والثانية، وروسيا القيصرية في العقود التي سبقت الحرب العالمية الأولى؛ جميعها مجتمعات لا يمكن تصوّرها على أنها حرة سياسياً؛ ومع ذلك كانت المشاريع الخاصة هي الشكل السائد للنظام الاقتصادي في كل منها. ولذلك من الممكن وبشكل واضح أن تتواجد أنظمة اقتصادية والتي هي رأسمالية في الأساس مع أنظمة سياسية غير حرة.
حتى في تلك المجتمعات السالفة الذكر كان للمواطنين حرية أفضل من هؤلاء في دولة ديكتاتورية حديثة كروسيا أو ألمانيا النازية، والتي جمعت بين الديكتاتورية الاقتصادية والديكتاتورية السياسية. حتى في روسيا تحت الحكم القيصري كان ممكناً لبعض المواطنين في بعض الأحوال تغيير وظائفهم دون أخذ تصريح من السلطة السياسية بذلك حيث وفرت الرأسمالية ووجود الملكية الخاصة بعض الكبح على السلطة المركزية للدولة.
إن العلاقة ما بين الحريتين السياسية والاقتصادية معقدة وليست بأي شكل من الأشكال أحادية الجانب؛ ففي بدايات القرن التاسع عشر كان لبنثام والراديكاليين الفلسفيين ميلاً لاعتبار الحرية السياسية كوسيلة نحو الحرية الاقتصادية، وقد آمنوا بأنه يتم كبح الطبقة العاملة عن طريق القيود التي تفرض عليهم، وبأنه إن أعطى الإصلاح السياسي عامة الشعب حق التصويت لعملوا ما في صالحهم والذي كان التصويت لسياسة عدم التدخل (مبدأ يقاوم التدخل الحكومي في الشؤون الاقتصادية إلا بمقدار ما يكون ذلك ضرورياً لصيانة الأمن وحقوق الملكية الشخصية). وبتأمل الأحداث الماضية لا يستطيع أحد القول بأنهم قد كانوا مخطئين في ذلك. ولقد كانت هناك إجراءات عظيمة من الإصلاح السياسي والذي رافقه إصلاح اقتصادي في توجه نحو تحقيق سياسة عدم التدخل تلك. وقد تبع هذا التغيير في الأنظمة الاقتصادية زيادة هائلة في رفاهية الطبقة العاملة.
إن انتصار الليبرتارية البنثمايتية في بريطانيا القرن التاسع عشر تبعه ردة فعل نحو زيادة التدخل الحكومي في الشؤون الاقتصادية. وقد تسارعت هذه النزعة نحو الجماعيّة (مبدأ اشتراكي قائل بسيطرة الدولة—أو الشعب ككلّ—على جميع وسائل الانتاج أو النشاطات الاقتصادية) بشكل كبير في بريطانيا وغيرها خلال الحربين العالميتين، وأصبحت دولة الرفاه بدلاً عن الحرية السمة المميزة للدول الديمقراطية. وبإدراك الخطر الضمني على الفردانية (نظرية تنادي بأن المبادرة والمصالح الفردية يجب ألا تخضع لسيطرة الحكومة أو المجتمع أو رقابتهما) خشي المفكرون المنحدرون عن الراديكاليين الفلسفيين—على سبيل الذكر: دايسي وميزس وهايك وسايمنز—بأن التقدم المستمر نحو السيطرة المركزية على النشاط الاقتصادي سوف يثبت الطريق إلى الرق كما أطلق هايك على تحليله النافذ لهذه العملية، ولقد كان تركيزهم على الحرية الاقتصادية كوسيلة لتحقيق الحرية السياسية.
لقد أظهرت الأحداث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية علاقة جديدة مختلفة بين الحريتين الاقتصادية والسياسية؛ حيث أن التخطيط الاقتصادي الجماعيّ قد تعارض فعلاً مع الحرية الفردية، لكنه في بعض الدول على الأقل لم ينتهِ الأمر بقمع الحرية بل بتحوّل السياسة الاقتصادية فيها. وتقدم بريطانيا مرة أخرى المثال الأبرز على ذلك: ولربما كانت نقطة التحوّل فيها تكمن في نظام “ضبط الالتزامات” الذي وجد حزب العمّال من الضروري فرضه—على الرغم من المخاوف الكبيرة—لتنفيذ سياسته الاقتصادية. وإن كان قد تم تنفيذه بالشكل الكامل لتضمن هذا القانون توزيعاً مركزياً للأفراد على المهن، الأمر الذي كان متعارضاً جداً مع الحرية الشخصية، بحيث أنه قد تم تنفيذه على عدد لا يذكر من الحالات، ثم تم إلغاؤه بعد أن كان ساري المفعول لمدة قصيرة فقط، وقد قاد إلغاؤه هذا نقلة واضحة في السياسة الاقتصادية تميزت باعتماد أقل على “الخطط” و”البرامج” المركزية من خلال تفكيك العديد من القيود، وعن طريق زيادة التركيز على السوق الخاصة. وقد حدث تحوّل مشابه في السياسة الاقتصادية في معظم الدول الديمقراطية الأخرى.
إن التفسير الأقرب لهذه النقلات في السياسة الاقتصادية هو النجاح المحدود للتخطيط المركزي أو فشله الكامل في تحقيق الأهداف المعلنة. ومن ناحية أخرى فإن هذا الفشل الذي يعزى في ذاته—لدرجة ما على الأقل—للمضامين السياسية للتخطيط المركزي ولانعدام الرغبة في متابعة منطقه عند تنفيذه، يتطلب وطئاً شديداً على الحقوق الخاصة المحفوظة. ومن المحتمل أن تكون هذه النقلة مجرد صدعاً مؤقتاً في الاتجاه الجماعيّ لهذا القرن؛ وحتى إن كان كذلك؛ فإنه يوضح العلاقة الوطيدة بين الحرية السياسية والأنظمة الاقتصادية.
إن الدليل التاريخي لوحده لن يكون مقنعاً بشكل كافٍ، ولربما كانت تلك صدفة محضة بأن حدث انتشار الحرية في الوقت ذاته مع نمو المؤسسات الرأسمالية والسوق الحر، فلماذا يجب أن تكون هناك علاقة بينهما؟ وما هي الروابط المنطقية بين الحريات الاقتصادية والسياسية؟ من خلال البحث في هذه التساؤلات سوف نمعن النظر أولاً في السوق كعنصر مباشر للحرية، ومن ثم سنتناول العلاقة غير المباشرة بين أنظمة السوق والحرية السياسية، وكنتيجة ثانوية لذلك ستكون بالتوصل إلى موجز للأنظمة الاقتصادية المثالية في مجتمع يتمتع بالحرية.
كليبراليين؛ إننا نتخذ حرية الفرد أو ربما العائلة كهدف نهائي لنا في الحكم على الأنظمة الاجتماعية. إن للحرية كقيمة ضمن هذا المفهوم علاقة بالروابط المتبادلة بين الناس، وليس لها أيّ معنىً مهماً كان لروبنسون كروزو على جزيرة معزولة—من دون غلامه فرايدي—حيث أن كروزو على جزيرته تلك عرضة ﻠـ “التقييد”، ويمتلك “سلطة” محدودة، ولديه فقط عدد محدود من الخيارات، لكن لا توجد عنده مشكلة الحرية بالمفهوم الذي نعنيه بنقاشنا هذا. وبشكل مماثل، في مجتمع ما ليس للحرية علاقة بما يفعله المرء بحريته، فهي ليست بصفة أخلاقية شاملة لكافة الجوانب. وبالفعل؛ فإن هدفاً أساسياً للليبرالي هو ترك المسألة الأخلاقية للفرد ليتصارع معها. إن المسائل الأخلاقية الهامّة “حقاً” هي تلك التي تواجه الفرد في مجتمع حرّ: ما الذي يجب عليه أن يفعله بحريته، وبالتالي فإن هنالك مجموعتان من القيم سيؤكد الليبرالي عليها: القيم المتعلقة بالعلاقات بين الناس، والذي هو السياق الذي يحدده من خلاله الأولوية الأولى للحرية، والقيم ذات الصلة بالفرد في ممارسته لحريته، والذي هو مجال الأخلاقيات والفلسفة الفردية.
يصوّر الليبرالي البشر على أنهم كائنات ناقصة، ويعتبر مسألة النظام الاجتماعي كونها مشكلة سلبية متمثلة في منع “الأشرار” من التسبب بالأذى بالقدر ذاته من تمكين “الأخيار” من عمل الخير، وبالطبع فإن “الأشرار” و”الأخيار” قد يكونوا الأشخاص ذاتهم وذلك اعتماداً على من يقوم بالحكم عليهم.
إن المشكلة الأساسية للنظام الاجتماعي هي كيفية تنسيق النشاطات الاقتصادية لأعداد كبيرة من الناس؛ فحتى في المجتمعات الرجعيّة نسبياً لا بدّ من تقسيم شامل للعمل والتخصص في الوظائف من أجل الاستغلال الفعّال للموارد المتوفرة. أمّا في المجتمعات المتقدمة فإن المعيار الذي يجب أن يكون عليه النظام من أجل الاستغلال الأمثل للفرص التي يقدمها العلم والتكنولوجيا الحديثة هو أكبر بكثير. ففي الواقع ينخرط الملايين من الناس في توفير الخبز اليومي لبعضهم البعض، ناهيك عن سياراتهم السنوية. إن التحدي الذي يواجهه المؤمن بالحرية هو التوفيق بين اعتماد الناس بعضهم على بعض بالشكل الكبير هذا وبين الحرية الفردية.
يوجد هنالك بشكل أساسي طريقتان للتنسيق بين النشاطات الاقتصادية لملايين الناس: إحداهما هي التوجيه المركزي المتضمن استخدام القهر أي تقنية القوة العسكرية والدولة الديكتاتورية الحديثة. أما الطريقة الثانية فهي التعاون الطوعيّ للأفراد، أي تقنية ميدان السوق.
إن إمكانية التنسيق من خلال التعاون الطوعي يعتمد على القضية الأساسية—والتي على الرغم من ذلك كثيراً ما لا تؤخذ بعين الاعتبار—بأن ينتفع كلا الطرفين في المعاملات الاقتصادية منها، شرط أن تكون الصفقة اختيارية من كلا الجانبين ومعلن عنها.
لذلك يمكن للتبادل التجاري إحداث ذاك التنسيق دون إجبار. وكنموذج عمليّ لمجتمع منظم من خلال التبادل الطوعيّ هو اقتصاد تبادل المشاريع الحرة الخاصّة والذي قد أطلقنا عليه اسم الرأسمالية التنافسية.
في أبسط أشكاله يتألف مثل ذاك المجتمع من عدد من الأسر المستقلة—مجموعة من عائلة روبنسون كروزو إن جاز التعبير—بحيث تستخدم كل أسرة منها الموارد التي تحت تصرفها لانتاج السلع والخدمات التي تقوم بمبادلتها بسلع وخدمات تنتجها أسرٌ أخرى، وفق شروط مقبولة بشكل تبادلي لكل من طرفي الصفقة؛ وبذلك تتمكن من تلبية احتياجاتها بشكل غير مباشر من خلال انتاج السلع والخدمات للآخرين بدلاً عن الطريقة المباشرة في انتاج البضائع لاستخدامها الفوري الخاص بها. إن الحافز من وراء تبني هذا المسلك غير المباشر هو بالطبع الانتاج الزائد الذي وفره تقسيم العمل والتخصص في الوظائف؛ فكون أن للأسرة دوماً الخيار في الانتاج المباشر لذاتها؛ فإنها لا تحتاج الدخول في أية عمليات مبادلة إلا إذا كانت منتفعة منها، وهكذا لن يحدث أي تبادل ما لم ينتفع كلا الطرفين منه، وبذلك يتحقق التعاون من دون إجبار.
إن التخصص في الوظائف وتقسيم العمل ما كان ليحقق نجاحاً عظيماً لو كانت الوحدات الانتاجية الأساسية مقتصرة على الأسر. ففي المجتمع الحديث قد ذهبنا إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث قمنا بإدخال المشاريع المتوسطة بين الأفراد، في قدراتهم كمزودين للخدمات، وكونهم المشترين للبضائع. وبشكل مماثل، ما كان للتخصص في الوظائف وتقسيم العمل ليحقق النجاح إذا كان علينا الاستمرار في الاعتماد على مقايضة منتجٍ ما مقابل آخر، ونتيجة لذلك تم إدخال النقود كوسيلة لتسهيل عمليات التبادل، وليصبح في الإمكان تقسيم عمليات الشراء والبيع إلى نوعين.
بالرغم من الدور المهم الذي تلعبه المشاريع والأموال في اقتصادنا الفعليّ، وبالرغم من المشاكل الكثيرة والمعقدة التي تثيرها تلك المشاريع والأموال؛ فإن السمة الرئيسية لتقنية السوق في تحقيق التنسيق تظهر بشكل تام في الاقتصاد التبادلي البسيط الذي لا يشتمل على مشاريع ولا على أموال؛ بحيث أنه في مثل ذاك النموذج البسيط—وكذلك في الاقتصاد المعقد لتبادل الأموال والمشاريع—يكون التعاون فردياً واختيارياً بشكل تام بشرط: (أ) أن تكون المشاريع خاصة بحيث تكون الأطراف النهائية المتعاقدة أفراداً؛ و(ب) أن يكون الأفراد أحراراً بشكل فعال في الدخول أو عدم الدخول في أية عمليات تبادلية بعينها، وبذلك تكون كل صفقة اختياريةً بشكل تامّ.
إنه من السهل بكثير وضع هذه الشروط بلغة عامة بدلاً عن شرحها بالتفصيل، أو بدلاً عن التخصيص بدقة تلك الأنظمة المؤسساتية الأكثر فاعلية في المحافظة عليها. وبالفعل، فإن الكثير مما كتب في الاقتصاد التطبيقي يهتم بهذه التساؤلات على وجه الخصوص. إن الضرورة الأساسية هي المحافظة على القانون والنظام لمنع القهر الجسدي على أي فرد من الأفراد من قبل آخر، وكذلك فرض تعاقدات يتم الدخول فيها اختيارياً؛ وبالتالي إعطاء حرية التصرف بالمال للخاصة. بالإضافة لذلك؛ فإنه لربما تظهر المشكلات الأكثر صعوبة بسبب الاحتكار—الذي يثبط الحرية الفعالة عن طريق حرمان الأفراد من خياراتهم في تبادلات تجارية بعينها—وبسبب “تأثيرات الجوار” والتي هي التأثيرات على الطرف الثالث الذي هو من غير المناسب تكليفه أو مكافأته.
طالما أنه تمت المحافظة على الحرية الفعالة في التبادل التجاري، فإن السمة الرئيسية لنظام السوق للنشاط الاقتصادي ستكون منع الفرد من التدخل بشؤون الآخر فيما يتعلق بمعظم نشاطاته: فيُصان المستهلك من القهر من قبل البائع بسبب وجود باعة آخرين يستطيع التعامل معهم، ويُصان البائع من الإجبار من قبل المستهلك بسبب وجود مستهلكين آخرين في إمكانه البيع لهم، ويُصان العامل من أن يقهره صاحب العمل بسبب توفر غيره يستطيع العمل عندهم، وهلم جرا، بحيث يحقق السوق ذلك بطريقة موضوعيّة وبدون سلطة مركزية.
وفي الحقيقة؛ فإن أحد الأسباب الأساسية لمعارضة الاقتصاد الحرّ هو على وجه الخصوص أداؤه لهذه المهمة بفاعلية؛ فهو يقدم للناس ما يرغبون به بدلاً عمّا تعتقده جماعة محددة بالذي يجب عليهم أن يرغبوا به، وإن معظم الآراء المعادية للسوق الحرة مبنية على عدم إيمان بالحرية ذاتها.
إن وجود السوق الحرة لا يلغي بالطبع الحاجة إلى الحكومة؛ بل على العكس من ذلك فإن للحكومة دور أساسيّ كمنبر يحدد “قواعد اللعبة” وكحكمٍ يفسّر ويفرض القواعد المتفق عليها. والذي يقوم به السوق هو تقليل مجال المسائل التي يجب البتّ فيها من خلال الوسائل السياسية؛ وبالتالي التقليل من مدى الحاجة إلى الحكومة للمشاركة بشكل مباشر في اللعبة. إن الصفة البارزة للعمل من خلال القنوات السياسية هي أنها تميل إلى الحاجة أو إلى فرض خضوع كبير. ومن جهة أخرى، تكمن الفائدة العظمى للسوق بأنها تسمح بتنوع كبير. إنها—بالمفهوم السياسي—نظام تمثيل نسبيّ، أي نظام انتخابي تمنح الجماعات والأحزاب السياسية بمقتضاه مقاعد في البرلمان تتناسب وقوتها الشعبية أو قوتها الاقتراعية الفعلية، بحيث يستطيع كل شخص بالتصويت للون رباط العنق الذي يريده والحصول عليه—إن جاز هذا التعبير—وليس عليه رؤية اللون الذي ترغب فيه الأغلبية ومن ثمّ إن كان من ضمن الأقلية فعليه الاستسلام.
إن هذه هي خاصية السوق التي نشير إليها عندما نقول بأن السوق يوفر حرية اقتصادية؛ لكن لهذه الصفة أيضاً مضامين تذهب إلى أبعد بكثير من المفهوم الضيق للاقتصاد. إن الحرية السياسية تعني انعدام قهر الفرد من قبل أنداده. والخطر الرئيسي على الحرية هو امتلاك القوة على القهر، وكونها في يد الملك أو الديكتاتور أو حكم الأقلية أو أغلبية آنية. وتتطلب حماية الحرية التخلص من مثل ذاك التمركز للسلطة على أكبر قدر ممكن، ونشر وتوزيع أية سلطة ليس بالإمكان إلغاؤها—أي إيجاد نظام من نقاط الضبط والتوازن. وبتخليص نظام النشاط الاقتصادي من سيطرة السلطة السياسية، سيتخلص السوق من هذا المصدر للسلطة القهرية، ويمكن ذلك على أن تشكل القوة الاقتصادية مصدر ضبطٍ على السلطة السياسية بدلاً من كونها تعزيزاً لها.
إنه من الممكن نشر السلطة الاقتصادية بشكل واسع، ولا يوجد قانون حماية يجبر على أن يكون نمو مراكز جديدة للقوة الاقتصادية على حساب المراكز القائمة. من جهة أخرى، فإن السلطة السياسية أكثر صعوبة في إبطال مركزيتها، بحيث أنه من الممكن أن تتواجد العديد من الحكومات الصغيرة المستقلة عن بعضها البعض، ولكنه يصعب جداً الابقاء على العديد من المراكز الصغيرة المتكافئة للسلطة السياسية ضمن حكومة واحدة كبيرة، أكثر منه من تواجد العديد من المراكز للقوة الاقتصادية ضمن اقتصاد واحد كبير. ومن الممكن أن يتواجد العديد من أصحاب الملايين ضمن اقتصاد واحد كبير، ولكن هل بالإمكان تواجد أكثر من قائد واحد فذ حقاً، أي شخص واحد تتوجه إليه طاقات وحماسة أبناء بلده؟ إن حصلت الحكومة المركزية على السلطة فمن الأرجح أن يكون ذلك على حساب الحكومات المحلية. يبدو أنه يوجد هناك شيء كمجموع ثابت للسلطة السياسية ليتم توزيعه، وبناء على ذلك، إن تم ضم السلطة الاقتصادية إلى السلطة السياسية فإن التمركز يبدو حتمياً على الأغلب. من جهة أخرى، إن تم الابقاء على السلطة الاقتصادية في أيدٍ غير تلك التي تمتلك السلطة السياسية، فإنها ستعمل كنقطة ضبط وفحص للسلطة السياسية.
إن قوة هذه المناقشة النظرية ربما يمكن توضيحها بالشكل الأفضل من خلال الأمثلة. دعنا نتناول أولاً مثالاً فرضياً قد يساعد في توضيح النقاط الأساسية للموضوع، ومن ثم سنتناول بعض الأمثلة الحقيقية من التجارب الراهنة والتي نوضح من خلالها الطريقة التي تقوم بها السوق بالمحافظة على الحرية السياسية.
إن أحد سمات المجتمع الحرّ هي بالتأكيد حرية الأفراد في تأييد ونشر أي تغيير جذري في بنية المجتمع بشكل صريح طالما كان هذا التأييد مقتصراً على الإقناع ولا يتضمن استخدام القوة أو أية أشكال أخرى من القهر. إنها من علامات الحرية السياسية لمجتمع رأسمالي بأن يستطيع الناس تأييد الاشتراكية بصراحة والعمل لصالحها. وبشكل مماثل، ستتطلب الحرية السياسية في مجتمع اشتراكي بأن يكون الناس أحراراً في تأييد إدخال النظام الرأسمالي إليه. فكيف بالإمكان حماية والمحافظة على حرية تأييد الرأسمالية في مجتمع اشتراكي؟
من أجل أن يقوم الناس بتأييد أي شيء لابد في المرتبة الأولى أن يكونوا قادرين على كسب عيشهم، وهذا يثير مقدماً مشكلة في المجتمع الاشتراكي، حيث أن جميع الوظائف هي تحت السيطرة المباشرة للسلطات السياسية. وسوف يتطلب الأمر نكراناً للذات—الذي برز صعوبته من خلال التجربة في الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية في مشكلة “الأمن” بين موظفي السلطة الفيدرالية—في سبيل أن تسمح حكومة اشتراكية لموظفيها تأييد سياساتٍ تتعارض مباشرة مع مذهب الدولة الرسمي.
لكن دعنا نفترض وقوع مثل هذا الفعل من نكران الذات، فمن أجل أن يكون تأييد الرأسمالية مؤثراً يجب أن يكون أنصاره قادرين على تمويل قضيتهم—لعقد اجتماعات عامة، وإصدار النشرات، وتمويل برامج إذاعية، وإصدار الصحف والمجلات وهلم جرا—فكيف باستطاعتهم جمع الموارد المالية لذلك؟ فلربما قد يكون في المجتمع الاشتراكي أناساً ذوي دخل مرتفع، وربما حتى مبالغ لرؤوس أموال ضخمة على شكل تعهدات حكومية وأمثالها، لكنه لابد أن يكون هؤلاء من كبار موظفي الدولة. إنه من الممكن تصوّر موظف اشتراكي صغير قادر على الاحتفاظ بعمله على الرغم من تأييده الصريح للرأسمالية؛ لكنه من السذاجة تصوّر كبار ضباط الاشتراكية يمولون مثل تلك النشاطات “الهدامة”.
إن الحلّ الوحيد للموارد المالية سيكون بجمع مبالغ صغيرة من عدد كبير من الموظفين الصغار، لكن هذا ليس بجواب واقعيّ؛ فلتحقيق هذا لابد مسبقاً من اقناع العديد من الأشخاص بذلك، ومشكلتنا بأكملها تكمن في كيفية البدء وتمويل الحملة من أجل هذا الهدف على الأخص. إنه لم يتم مطلقاً تمويل الحركات الراديكالية في المجتمعات الرأسمالية بهذه الطريقة؛ بل تم دعمهم بشكل نموذجي من قبل عدد قليل من الأغنياء الذين تم اقناعهم—من قبل فريدريك فاندربيلت فيلد، أو أنيتا مكورميك بلين، أو كورليس لامونت—في ذكر بعض الأسماء التي برزت مؤخراً، أو من قبل فريدريك إنجلز إذا عدنا إلى زمن أبعد من ذلك. إن هذا من دور عدم المساواة في الثراء في المحافظة على الحرية السياسية والذي قلما يتم الانتباه له، إنه دور الأنصار.
يتطلب الأمر في المجتمع الرأسمالي مجرد إقناع بعض الأغنياء للحصول على الأموال لترويج أية فكرةٍ كانت—بشكل مثير للاستغراب—ويوجد هنالك العديد من هؤلاء الناس الذين يشكلون بؤراً مستقلة للدعم. وبالفعل ليست هناك أية ضرورة حتى لإقناع الناس أو المؤسسات المالية التي تتوفر لديها الأموال الداعمة بوقع الأفكار التي سيتم ترويجها على الآذان، بل تكون الحاجة فقط بإقناعهم بأن ذاك الترويج قد يكون مثمراً مالياً، أي أن الصحيفة أو المجلة أو الكتاب أو أية وسيلة استثمار أخرى ستكون مربحة. فالناشر التنافسي—على سبيل المثال—لا يستطيع تحمّل تكاليف نشر نص بمجرد أنه مقتنع به شخصياً؛ بل يجب أن يكون مقياسه إمكانية أن يكون السوق كبيراً بالحد الكافي ليعود عليه بعائد مُرضٍ لاستثماره هذا.
وبهذه الطريقة يكسر السوق تلك الحلقة المفرغة ويجعل بالإمكان في النهاية تمويل مثل تلك المضاربات بأخذ مبالغ صغيرة من العديد من الأشخاص دون الحاجة في البداية إلى اقناعهم بذلك. ولا توجد مثل تلك الخيارات في المجتمع الاشتراكي؛ بل تكون الدولة فقط ممتلكة لكامل السلطة.
دعنا نتوسع في خيالنا ونفترض بأن الحكومة الاشتراكية على اضطلاع بهذه المسألة، وعلى أنها تتكون من أشخاص توّاقين لحماية الحرية؛ فهل من الممكن أن توفر الموارد المالية لذلك؟ ربما، لكنه من الصعب تخيل ذلك. إنها قد تشكل دائرة رسمية لتقديم العون المالي للدعاية الهدامة. ولكن كيف ستختار من ستقدم له العون؟ فإن تم دعم كل من يطلب ذلك ستجد نفسها سريعاً وقد نفذت منها الأموال، حيث الاشتراكية لا تستطيع إلغاء القانون الاقتصادي الأساسي بأن السعر المرتفع بقدر كافٍ يستدعي طلباً كبيراً. لو جعلنا تأييد القضايا الراديكالية مربحة بالقدر الكافي فسيكون دعم هذا التأييد غير محدود.
علاوة على ذلك، فإن حرية تأييد القضايا غير المرغوبة لا تتطلب بأن يكون مثل ذاك التأييد دون ثمن؛ بل على العكس من ذلك؛ لن يكون أي مجتمع مستقراً إن كان تأييد التغييرات الجذرية فيه غير مكلفٍ أو يلزمه الدعم القليل. إنه من المقبول تماماً بأن يقدم الأفراد تضحيات لتأييد القضايا التي يؤمنون فيها بإخلاص، وبالفعل، إنه من المهم أن تقتصر الحرية على هؤلاء الذين هم على استعداد لنكران ذاتهم، وإلا سوف تنحلّ الحرية إلى فجور وعدم مسؤولية. وإنه لأمر أساسي بأن تكون تكلفة تأييد القضايا غير المرغوبة مقدوراً عليها وليست ممنوعة.
إننا لم ننتهِ بعد، ففي مجتمع ذي سوق حرة يكفي توفر الدعم المالي، فمزوّدو الورق على استعداد لبيعه ﻠـ(ديلي ووركر) كاستعدادهم كذلك لبيعه ﻠصحيفة الوول ستريت جورنال. أمّا في مجتمع اشتراكي، لن يكون كافياً توفر الأموال؛ فعلى المؤيد الافتراضي للرأسمالية إقناع مصنع ورق حكوميّ ليبيعه له، وعليه اقناع المطبعة الحكومية لطباعة نشراته، ومكتب بريد حكومي لنشرها بين الناس، ووكالة حكومية ليستأجر منها قاعة يلقي فيها خطاباته، وهلمّ جرا.
ربما توجد هناك طريقة ما يستطيع المرء من خلالها التغلب على هذه الصعوبات وحماية الحرية في مجتمع اشتراكي، فلا يمكن أن نقول أن ذلك مستحيل تماماً. ولكنه من الواضح أنه توجد هنالك عقبات حقيقية لإقامة مؤسسات تحمي فرصة الانشقاق عن مذهب الدولة بفاعلية، وبالقدر الذي أعلمه فلا أحد من هؤلاء الذين كانوا متعاطفين مع الاشتراكية وفي الوقت ذاته مع الحرية قد كان حقاً على قدر هذه المواجهة، أو حتى قام ببداية جديرة بالاعتبار في تطوير الأنظمة المؤسساتية التي قد تسمح بتحقيق الحرية تحت لواء الاشتراكية؛ بل على النقيض من ذلك، فإنه من الواضح كيف أن المجتمع الرأسمالي ذي السوق الحرة يقوم برعاية الحرية.
إن مثالاً واقعياً بارزاً على هذه المبادئ النظرية هو تجربة ونستون تشيرشل: فمنذ عام 1933 حتى نشوب الحرب العالمية الثانية لم يُسمح له الحديث عبر الإذاعة البريطانية التي كانت بالطبع حكراً حكومياً تديرها هيئة الإذاعة البريطانية، على الرغم من أنه قد كان في هذه المرحلة شخصية قيادية بارزة في بلده، وعضواً في البرلمان، ووزيراً سابقاً في مجلس الوزراء، وكان يحاول جاهداً بكل وسيلة ممكنة إقناع أبناء بلده على أخذ خطوات جادة في وجه تهديدات ألمانيا الهتلريّة؛ إنه قد تم منعه من التحدث إلى الشعب البريطاني عبر الإذاعة لأن هيئة الإذاعة البريطانية كانت حكراً للحكومة وكان موقفه هذا “مثيراً للجدل”.
مثال بارز آخر ما ورد في اﻠتايم، عدد 26 كانون الثاني عام 1959، والذي كان يتعلق ﺒـ “تلاشي القائمة السوداء”. و تخبرنا قصة اﻠتايم:
[إن حفل تقديم جوائز الأوسكار هو أكبر احتفالية لهوليوود للكرامة الإنسانية، لكنه قد استبيحت تلك الكرامة قبل سنتين مضت عندما تم إعلان روبرت ريتش كأفضل كاتب عن فيلم “الشجاع”، ولم يتقدم أحد لاستلام الجائزة، حيث كان ذلك إسماً مستعاراً يخفي واحداً من بين 150 كاتب… قد دونت صناعة الأفلام أسماءهم على القائمة السوداء منذ عام 1947 للاشتباه بأنهم شيوعيون أو من رفاقهم المسافرين. لقد كانت تلك القضية مربكة بشكل خاص لأن أكاديمية الأفلام السينمائية كانت قد منعت أي شيوعيّ أو من أنصار التعديل الخامس من المشاركة في مسابقة أوسكار. وقد تم في الأسبوع الماضي وبشكل غير متوقع إعادة صياغة قانون الشيوعية ولغز هوية ريتش الحقيقية. لقد تبين بأن ريتش هو دالتون ترمبو، أحد العشر الأوائل من كتاب هوليوود، الذي رفض الشهادة في جلسات عام 1947 حول موقف صناعة الأفلام من الشيوعية. وقد صرّح المنتج فرانك كينج والذي أصرّ بشدة بأن روبرت ريتش كان “شاباً صغيراً ذا لحية من إسبانيا”: “إن علينا التزاماً تجاه مساهمينا بشراء أفضل النصوص التي نستطيع الحصول عليها، وقد جاءنا ترمبو بنص “الشجاع” وقد قمنا بشرائه.”… لقد كانت تلك في الواقع النهاية الرسمية لقائمة هوليوود السوداء، أمّا بالنسبة للكتاب الممنوعين من المشاركة فقد كانت النهاية غير الرسمية قبل ذلك بكثير. إن 15% على الأقل من أفلام هوليوود الحاليّة قد تم كتابتها وفق التقارير من قبل أفراد على القائمة السوداء. و قد ذكر المنتج كينج: “إنه توجد أشباح في هوليوود أكثر منها في مقبرة (فوريست لون)، ولقد استخدمت كل شركة في المدينة أعمال الأشخاص من على القائمة السوداء. إننا فقط أوّل من قام بتأكيد ما يعلمه الجميع.”]
قد يؤمن المرء—مثلما أفعل أنا—بأن الشيوعية ستدمر جميع حرّياتنا، وقد يعارض المرء هذا المذهب قدر استطاعته؛ ومع ذلك وفي الوقت ذاته، يؤمن كذلك بأنه في مجتمع حرّ لا يُحتمل منع فرد من عمل ترتيبات اختياريّة مع آخرين يبادلونه المنفعة بسبب أنه يؤمن أو يحاول ترويج الشيوعية، فحريته تشمل حريته في الدعوة إلى الشيوعية، وتشمل الحرية كذلك حرية الآخرين في عدم التعامل معه تحت تلك الظروف. لقد كانت قائمة هوليوود السوداء عملاً مناقضاً للحرية ويدمرها لأنه كان تآمراً يستخدم وسائل قسرية لمنع تبادلٍ اختياريّ. ولم ينجح ذلك لأن السوق على وجه الخصوص جعل الأمر مكلفاً في أن يحمي الناس مثل تلك القائمة. إن التشجيع التجاري—حقيقة أن للأشخاص الذين يديرون المشاريع حافزاً في كسب أكبر قدر ممكن من المال—قد قام بحماية حرية الأفراد الذين تم إدراجهم على القائمة السوداء بمنحهم شكلاً بديلاً لتوظيفهم، وكذلك بمنح الناس حافزاً لتوظيفهم.
لو كانت هوليوود وصناعة الأفلام مشاريع حكومية، أو لو كانت مسألة التوظيف في بريطانيا من شأن هيئة الإذاعة البريطانية لكان من الصعب تصديق بأن العشرة الأوائل من كتاب هوليوود أو أمثالهم قد وجدوا أماكن عمل لهم. وبشكل مماثل، فإنه من الصعب التصديق بأنه في ظل تلك الظروف لتمكن أشد أنصار الفردية أو المشاريع الخاصة—أو في الحقيقة أشد أنصار أية رؤية جديدة غير الرؤية السائدة—من إيجاد وظائف يعملون فيها.
مثال آخر على دور السوق في حماية الحرية السياسية ظهر من خلال تجربتنا مع مذهب المكارثية؛ فبعيداً كلياً عن ما تضمنه من مواضيع جوهرية، ووقائع التهم التي نسبت إليه، ما الحماية التي نالها الأفراد وعلى الأخص موظفو الدولة في وجه التهم غير المسؤولة والتحقيقات في شؤونٍ كان الكشف عنها مخالفاً لالتزاماتهم؟ إن لجوءهم للتعديل الخامس لكان مهزلة فارغة دون وجود بديل للتوظيف الحكومي لهم.
إن حمايتهم الأساسية كانت وجود اقتصاد السوق الخاصة التي استطاعوا من خلالها تحصيل عيشهم. وهنا أيضاً لم تكن الحماية مطلقة، فقد كان العديد من أصحاب العمل المحتملين من القطاع الخاص—سواء كانوا على خطأ أو صواب—غير راغبين في توظيف هؤلاء المُشهَّر بهم. وقد يكون السبب في ذلك بأنه كان هناك تبريراً قليلاً جداً للتكاليف المفروضة على العديد من الناس الذين لهم صلة بالموضوع أكثر منه للتكاليف المفروضة بشكل عام على الأشخاص الذين يؤيدون القضايا غير المرغوبة. لكن النقطة الأساسية هي بأن التكاليف كانت محدودة لكنها لم تكن ممنوعة، كما كان من الممكن أن تكون فيما لو كان التوظيف الحكومي هو الخيار الوحيد أمامهم.
إنه من الجدير بالملاحظة بأن جزءاً كبيراً بشكل غير متكافئ من الناس الذين لهم صلة بالموضوع قد توجهوا بوضوح إلى الأقسام الاقتصادية الأكثر تنافسية—كالمشاريع الصغيرة، والتجارة، والزراعة—حيث أن السوق أقرب ما يكون إلى السوق الحرة المثالية. فلا أحد يشتري الخبز وهو يعلم فيما إذا كان القمح الذي صنع منه قد تم زراعته من قبل شيوعي أو جمهوري، أو دستوري أو فاشي، أو—بقدر ما قد يكون له علاقة بالموضوع—من قبل زنجي أو شخص أبيض. ويوضح هذا كيف يفصل السوق بطريقة موضوعية النشاطات الاقتصادية عن الآراء السياسية ويحمي الأفراد من التمييز الجائر بينهم في نشاطاتهم الاقتصادية لأسباب لا علاقة لها بإنتاجيتهم، سواء كانت هذه الأسباب متعلقة بآرائهم أو لونهم.
وكما يقترحه هذا المثال، فإن أكثر الجماعات في مجتمعنا التي يُراهن عليها في حماية وتعزيز الرأسمالية التنافسية هي تلك الجماعات الصغيرة التي قد تصبح بسهولة هدفاً للريبة والعداوة من قبل الأكثرية: كالزنوج، واليهود، والأجانب، في ذكر الحالات الأكثر وضوحاً فقط. ومع ذلك؛ وبشكل غريب، فإن خصوم السوق الحرة—الشيوعيين والاشتراكيين—قد تم تجنيدهم بطريقة غير متكافئة من بين تلك الجماعات؛ فبدلاً من إدراكهم بأن وجود السوق الحرة قد قام بحمايتهم من مواقف الآخرين من أبناء بلدهم، إنهم ينسبون هذا التمييز المتخلف للسوق ذاتها.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 13 أيار 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

ملخص إجرائي
يعتبر علم الاقتصاد وللوهلة الأولى، بالنسبة للإنسان العادي، تعبيراً مبهماً، فهو يتألف من مجموعة من الأفراد يكون الشغل الشاغل لكل منهم التركيز على أهدافه الخاصة، غير مكترث بما تنطوي عليه المصلحة العامة. إذ ليست هناك سيطرة أية وكالة مركزية لتسيطر بل لتراقب على قرارات الإنتاج والتبادل المستقل التي لا حصر لها، والتي يتخذها هؤلاء الأفراد الذين لا حصر لهم. ولا غرابة في أن اقتصاد السوق لا يبدو سوى غابة من الصراعات والنشاطات الفردية غير المتناسقة. ووفقاً لهذا المنظار، فان تنظيمات الدولة لا تسد سوى حاجة بسيطة وواضحة ألا وهي تقديم جزءاً يسيراً من التنسيق في هذا الخضم الهائل من العماء الفوضوي. إن ما نحتاج إليه بشكل واضح لإنقاذ الناس من النتائج الكارثية الناجمة عن سعي كل فرد خلف مصالحه والتي تولد تضارباً مع مصالح أخرى لأفراد آخرين هو الإرشاد المتأتي من وكالة تتمتع بالقوة اللازمة والمعرفة والدافع لتبني التوافق أو التنسيق.
وبالطبع، منذ آدم سميث ولحد الآن، دأب الاقتصاديون على رفض هذه النظرة الساذجة للسوق. على الرغم من الاختلاف الشاسع في تقييماتهم لفوائد التنظيم الحكومي، كان رجال الاقتصاد قد أرغموا على أن يأخذوا تلك التنظيمات بعين الاعتبار ضمن إطار السوق، وبأساليبهم المتنوعة، والتي تعكس—بالنسبة لسميث—النتائج الحميدة للـ “اليد الخفية”. وفي غمرة الجدالات الحديثة الدائرة حول التنظيم، جاءت الانتقادات الأكثر شهرة للتنظيم الحكومي مقترنة بنموذج “كلاسيكي محدث”. كما ستقدم هذه المقالة أيضاً وجهة نظر تشكك، على نحو جاد، بوظائف التنظيمات، ولكنها متأتية من نموذج نمساوي. كما يتوجب علينا أن نحدد، وبشكل حذر، بعض الاختلافات بين هذين المنظارين، ولكننا قد نصف جوهر الاختلاف بشكل موجز. فالتنظيم الحكومي، بحسب المنظور الكلاسيكي المحدث الشهير، موضع شك لأن النتائج غير المقيدة لعملية السوق الحر هي حميدة، في إحدى مظاهرها. ومن ناحية أخرى، وحسب المنظور النمساوي، تعرض التنظيم الحكومي للانتقاد على أساس النظر المعمق المتعلق بالشخصية الحميدة (نسبياً) لعملية السوق الحرة. على الرغم من أن كليهما يرفضان وجهة النظر الساذجة القائلة بأن السوق فوضوي، فإن هنالك الكثير من التباين بين هذين النوعين من الانتقادات الموجهة للتنظيم الحكومي. كما يجب أن نلاحظ أن كليهما، سواء كانا مبنيين على “نتائج حميدة” أو “عملية حميدة”، فإن المعيار العام لتحديد مدى جودة ولطف ما هو حميد هو مدى تلبيته لبعض الأهداف المحددة. فهنالك، في الواقع، بعض الغموض النظري الإشكالي الذي ينطوي عليه هذا المعيار، ولكننا قد نتجنب الخوض في هذا الأمر في ورقتنا هذه. والأمر ببساطة هو أن الخبير الاقتصادي، من خلال التشكيك بالتنظيم الحكومي، لا ينادي بضرورة أن يكون هناك هدفاً أخلاقياً حميداً خلف عملية السوق أو نتائجها. والقضية ذات العلاقة هي التأثير الذي من خلاله يقوم النظام بخدمة أهداف المشتركين من الأفراد.
نتائج السوق
ينبع تقييم النتائج الحميدة للتنظيم الحكومي من الاعتقاد بأن الأسواق يمكن في كل الأوقات أن نفترض بأنها في توازن تنافسي أو قريبة منه. يُنظر إلى نظام السوق على أنه كفوء لدرجة أن يضمن وفي كل الأوقات أن تكون الأسعار عند المستوى الضروري تقريباً لترتيب أسواقها الخاصة. بعيداً عن الفوضوية، ينظر إلى السوق على أنه مؤسسة تنسيقية هائلة، تستطيع أن تساوي بين المشترين المفترضين مع البائعين المفترضين ضامنة في الوقت ذاته أن تتم كل فرص التبادلات ذات الفائدة للطرفين والممكنة التحقيق بنجاح. يُنظر إلى الإخفاقات التي يزعم أن تُلاحظ في تخصيص السوق للموارد، حسب وجهة النظر هذه، على أنها إخفاقات حسب رأي أولئك الذين لا يتفقون مع تفضيلات المستهلك، أو الذين يفشلون في فهم الضغوطات التي لا مفر منها والتي تفرضها الشحة. وحتى لو كنا مهيأين لتبرير دوافع المنظمين على أنها لاتتسم بالأنانية وعدم الانحياز، للعبث بالنتائج الحميدة المنسوبة للسوق والتي يجب أن تحرف مسار الإنتاج، وتخصيص الموارد، من القنوات التي تم تعيينها حسب تفضيلات مشتركي السوق أنفسهم (في ضوء هبات الموارد المعطاة) إلى القنوات المفروضة بشكل عشوائي والتي هي “أقل حسناً”. وحسب وجهة النظر هذه، فإن التتابع الدقيق لأحداث السوق والتي يمكن الحصول من خلاله على توازن بين الأسواق، وضمنها، هو أقل أهمية من الظرف الذي بموجبه يكون توازن من هذا النوع قد أُنجز تقريباً مسبقاً.
ومن أجل الاستنتاج بأن نتائج السوق هي حميدة حقاً، فإن وجهة النظر هذه تعتمد بشكل كبير على افتراض وجود أسواق تنافسية مثالية. إن التوازن الحاصل بين الأسواق، وضمنها، هو التوازن السوقي التنافسي الأمثل—وهو التقييم المفضل للتوازن التنافسي من قبل اقتصاد الرفاه الذي يعلم الاستنتاجات المضادة للتنظيم ويخبرها حول وجهة النظر هذه. ولا عجب بأن رجال الاقتصاد الداعمين لسياسات الحكومة التنظيمية—وبدون الحاجة إلى رفض وجهة نظر التوازن في السوق ولا نظريات الرفاه المرتبطة بالتوازن—كانوا قادرين ببساطة على الإشارة إلى الإفتراضات الخاصة جداً، والتي هناك حاجة لها قبل النطق بقرار حول السوق الذي يفتقر إلى تدخل الدولة. ولعل أهم تلك الافتراضات هو التنافس المثالي—أي أن السوق يتألف من مشترين وباعة صغار العدد يمثل سعر السوق لهم بياناً من البيانات غير المتأثرة بالتسعيرة أو المخرجات أو قرار الشراء لأي واحد منها. يفشل هذا الافتراض الخاص في التلاؤم مع حقائق الأسواق المعاصرة. وهذا حقيقي تماماً حيث أن العديد من الاقتصاديين—وبسبب الاعتماد على أساس توازن السوق—نظروا بصورة عامة بعدم ارتياح للتنظيم الحكومي، كما أنهم اعتبروا رغم هذا كله أنه من المستحسن أن تتدخل الحكومة لضمان تقريب معقول لظروف التنافس المثالية.
ليس من الضروري أن نقتات على التساؤلات التي يمكن أن يطرحها المناصرون للتنظيم الحكومي، أو التي طرحوها ضد وجهة النظر هذه (فيما يتعلق بصلة الافتراضات الضرورية لوجهة النظر هذه في أن تكون معقولة وضرورة أن تكون الأطروحة، القائلة بأن الأسواق تتوازن بنجاح، صادقة). أما الآن فسنتوجه إلى المنظور النمساوي لتحليل التنظيم.
السوق كعملية
وحسب وجهة النظر الثانية هذه لا يزعم أحد أنه، وتحت أي ظرف، يمكن للسوق أن يصل إلى مجرد اقتراب من حالة التوازن. لقد حدث جدل فقط على أنه حيثما لم يتم تحقيق ظروف التوازن، فإن هذا الظرف بذاته يخلق الدوافع من أجل التغييرات النظامية التي تميل إلى إقصاء اللاتوازن الموجود. إن القضية المضادة لتنظيم السوق (حتى من قبل حسني النية من موظفي الخدمة المدنية) تستند على تكهنات حول هذه العملية التصحيحية، وحول شخصيتها الحميدة. وقبل أن تقود هذه العملية التصحيحية إلى أي تنسيق مشترك بوقت طويل، كان من الممكن أن تحدث تغييرات في البيانات الأساسية للسوق (كتفضيلات الأفراد وهبات الموارد والتكنولوجيا المتوفرة) وأن تحول الحالة الافتراضية لتوازن السوق (المعرف حسب صلته بالحالة الابتدائية للبيانات) إلى شيء غير ذي صلة تماماً. ولكن التباينات بدورها تُنشّط وعلى الدوام التغييرات في هذه الأنساق الموجودة لتخصيص الموارد.
إن التأكيد على خصائص عملية صناعة السوق، بدلاً من النموذج التخصيصي الذي يتم عن طريق العملية، يسلط الضوء على عدم الترابط الكلي لأفكار المدينة الفاضلة (الطوباوية) ذات التنسيق المثالي. ووفق هذه النظرة لاقتصاد السوق، فإن الحكم على نظام اقتصادي عملي وواقعي في ضوء معيار التنسيق المثالي لا يعني فقط أن تعامل إمكانية التنسيق المثالي بجدية مفرطة (وبذلك تعامل الأسواق بتوازن كامل) وهذا بحد ذاته سوء فهم كبير للمشكلة الاقتصادية الأساسية التي تواجه المجتمعات المتمدنة. والحقيقة هي، كما أشار هايك قبل أربعة عقود خلت، أن المشكلة الاقتصادية التي تواجه المجتمع تتكون من الحاجة إلى ضمان أن تسهم نتف المعرفة المتوفرة للأشخاص المنعزلين أو المفردين، في القرارات ذات العلاقة، والتي تؤثر على النمط المجتمعي لتخصيص المورد. إن محاولة قياس النجاح الذي يتعامل بموجبه المجتمع مع مشكلته الاقتصادية، وبمعيار يعكس نمطاً ملائماً لمعرفة غير محدودة لمركزية افتراضية، هو أشبه بمحاولة تقييم كفاءة نمط التخصيص لموارد نادرة، وذلك عن طريق مقارنة نتائجها مع تلك التي يمكن تصورها لعالم تتلاشى فيه الندرة أو الشحة: إن المشكلة بمجملها هي كيفية الانسجام مع الندرة أو الشحة على نحو ممتاز. وعلى نحو مماثل فالمشكلة الاقتصادية-الاجتماعية هي كيفية الانسجام مع لامركزية المعرفة التي لامناص منها.
بعد أن اطلعنا على عدم ترابط استخدام معيار المعرفة المطلقة، والتعقيدات التي تتكون منها المشكلة الاقتصادية التي تواجه المجتمع عندما تؤخذ عواقب التغيير المشكالي في البيانات الأساسية في الحسبان، يصبح من الواضح وجوب إيجاد القياس المعياري، بدلاً عن التنسيق المثالي. تقترح وجهة نظر “العملية” بأن القياس الأمثل يجب أن يفتش عنه في المقدرة التي تعزى لعملية السوق والتي تكون خدمتها على شكل “إجراء اكتشافي” (العبارة لهايك). يرى هايك أن ما يحدث خلال عملية السوق من تفاعل للقرارات الفردية، هو أن المشاركين يكونون ميالين إلى اكتشاف النواحي ذات العلاقة لكل القدرات والرغبات. وهنا يبدو أن لدينا محكّاً مفاهيمياً ذا علاقة، يمكن من خلاله تقييم كل من عملية اقتصاد السوق، وسياسة التوصيات التي تصنع لتعديل تلك العملية (أي عملية اقتصاد السوق). ولا داع لأن يكون سؤالنا: هل إن نتائج عملية السوق هي على نحو لا يمكن اكتشاف شيء بعدها، أو إنها قريبة من ذلك؟ بل علينا أن نسأل: هل بإمكان البنية المؤسساتية (أو تعديلات مقترحة عليها) أن تحفز التدفق المهم والثابت للاكتشافات المتبادلة (الصحيحة)؟ فإلى المدى الذي يمكن أن تكون فيه الإجابة على هذا السؤال بالإثبات ممكنة، يمكننا أن نقول بوجود عملية “حميدة”. وإلى المدى الذي يعزز فيه التعديل المقترح نزعة النظام لتحفيز الاكتشافات (الصحيحة)، فإنها تمثل مقترحاً “حميداً”. من ناحية أخرى، إذا كان المقترح يعيق أو يشوه إجراء الاكتشاف، فهو مقترح “ضار”.
وبالتأكيد فإن تبني طريقة العملية لا يعني أننا لسنا مهتمين بالنتائج. ومع ذلك فإن الفاعلية التي تحفز العملية عن طريقها الاكتشافات يمكن أن يتم قياسها، بشكل جزئي، عن طريق ملاحظة النتائج. ولكن حتى وإن كانت الحال على هذا النحو، لا تتم الإشارة إلى النتائج بسبب الرغبة المطلقة في نمط التخصيص الذي تستعرضه، ولكن بسبب مدى الاكتشافات المعمولة سلفاً والتي تفصح عنها. فلنر كيف أن اقتصاد السوق، ومن خلال منظور العملية، ينسق نشاطات المشاركين.
السوق كإجراء اكتشافي
تتخذ القرارات في اقتصاد السوق بشكل مستقل من قبل المشاركين بالسوق كمستهلكين أو مالكي موارد أو منتجين أو أصحاب مبادرة. وتتخذ هذه القرارات على أساس ما يعتقده الأفراد كأفضل الخيارات المتوفرة لديهم. وبما أن المتوفر من الخيارات هي ذاتها نتائج خيارات الآخرين الفردية، فإن قرارات الأفراد تتم على أساس تقييم قرارات الآخرين المتوقعة. ومن الواضح أن تكون هذه التقييمات محتملة الخطأ بدرجة كبيرة أو صغيرة. قد يقدم المشترون أسعاراً عالية لاعتقادهم الخاطئ بأن لا أحد مستعد للبيع بسعر أقل. فالبائعون يعرضون البيع بأسعار مخفضة لأنهم يعتقدون بأن لا أحد مستعد للشراء بأسعار أعلى. ويحجم المنتجون عن إنتاج مادة ما لاعتقادهم الخاطئ بأن الموارد المطلوبة لإنتاجه لا يمكن الحصول عليها إلا بكلفة ستضع المنتج بعيداً عن متناول المستهلكين المحتملين. أو قد ينتجون مادة أخرى بسعر مرتفع لاعتقادهم بأن المشترين المحتملين متلهفين أكثر لشرائه وهلم جرى.
إن كل قرار خاطئ من تلك القرارات سيميل إلى حدوث عواقب معينة، وبصورة منتظمة، فالمغالاة في الظن بإعجاب المستهلكين بالمنتج سيترتب عليه خسائر في السوق. فعندما يبالغ مُنتِج ما في كلف الإنتاج، أو يبخس تقدير منتَج ما لدى المستهلك، فإنه يتجاهل الفرص لكسب الربح مما من شأنه جذب المزيد من أصحاب المبادرة. وكنتيجة لتلك الأنواع المعروفة من خبرات الكسب والخسارة، فإن المشاركين في السوق يتعلمون تقييم حدود المعاملات ذات الربح المتبادل الممكن مع شركائهم بدقة أكثر.
لاحظ إننا لا نقول بأن هذه الإخفاقات واكتشافات الربح تستبعد كل الأخطاء التي تم ارتكابها. نحن نقول فقط بأن نشاط السوق المبني على الخطأ يولد الباعث والخبرة التي تميل إلى تشخيص مكان ارتكاب الخطأ، وتحفز نشاطات أقل خطأً. سيتعلم البائع المحبط في توقعه تحقيق كسب كبير أن بإمكانه توقع أسعاراً منخفضة في أحسن الأحوال. أما البائع الذي يتقبل سعراً أقل من السعر المدفوع من قبل المشترين الآخرين في السوق، فيساعد في خلق موقفٍ يباع فيه المنتج ذاته بسعرين مختلفين—وهكذا يقدم الفرصة لتنبيه أصحاب المبادرة للشراء ضمن حدود السعر الواطئ وبيعه بالسعر العالي. إن مثل هذه الفرص الواضحة المعالم من أجل كسب خالص، تميل إلى جلب الانتباه، فيتم استغلالها ولذلك تستبعد—في خلال مسيرتها التي يكون فيها الخطأ الأولي ذاته قابل للتصحيح. ولهذا التتابع صفة شعرية تقريباً:1) تتجلى الأخطاء ذاتها في خلق فرص الربح أو النكسات المجربة، 2) تميل فرص الربح إلى أن تستغل وتكتشف، وتميل الإخفاقات إلى إعطاء المشاركين في السوق، ولا سيما المتفائلين منهم، معلومات أكثر واقعية، وتتوحد هذه الميول من أجل: 3) إقصاء الأخطاء الابتدائية (وفرص الربح والإخفاقات التي تتولد). وهنا يتوفر الباعث من أجل اكتشاف متبادل عن طريق تبعات الاكتشاف الابتدائي لهفوات وإخفاقات السوق.
الربح، المبادرة، وعملية الاكتشاف
من الأهمية بمكان أن نلاحظ الدور الذي يلعبه في عملية السوق هذه الربح الصافي من المبادرة. تظهر فرص الربح الصافي باستمرار وكأنها أخطاء يرتكبها المشاركون في السوق في هذا العالم المتغير. وتنشأ السمة العابرة لتلك الفرص، والتي لا يمكن تفاديها، من ميل السوق الهائل لجعل أصحاب المبادرة يلاحظون ويستغلون ومن ثم يستبعدون تلك الاختلافات في السعر الصافي. إن التناقض في فرص الربح الصافي يكمن بالتحديد في أنها تبرز بصورة مستمرة، ولكنها ومع ذلك تتلاشى باستمرار في الوقت ذاته. إن عملية الخلق والهدم المستمرة لفرص الربح الصافي هي التي تصنع الجراء الاكتشافي للسوق.
إنها العملية التي تجعل أصحاب المبادرة يتماشون مع التغيرات في تفضيلات المستهلكين، وضمن التقنيات المتوفرة والموارد المتاحة. وكما لاحظنا فإن فرص الربح تعكس فروقات الأسعار. بل إن هذه الفروقات في السعر تعكس الخطأ المرتكب في الماضي. بيد أن فرصة الربح المتحققة على هذا النحو تمارس قوة جذب هائلة على يقظة أصحاب المبادرة. بينما قد يظهر الخطأ بذاته وبصورة عامة كمحفز للتصحيح الذاتي، كما أن الخطأ الذي يولد فرص الربح الصافية يجعل أصحاب المبادرة أكثر دراية بتلك الفرص وهكذا فهو يحفز الإقصاء الذاتي.
إن اعتقادنا بوجوب عدم تشويه فرص الربح الصافي التي سيتم الانقضاض عليها من قبل أصحاب المبادرة لتوحي بأن جميع فرص الربح الصافي قد تم اقتناصها مسبقاً وفي كل الأوقات حتى قبل ظهورها؛ إن هذا الخطأ شائع جداً بيننا. ومن ناحية أخرى، يجب أن لا يوحي الوجود الدائم للخطأ بعدم وجود قوى نظامية في السوق تميل إلى إقصاء الخطأ. إن القوة الدافعة لعملية السوق في الاكتشاف المستمر للخطأ المستمر على الظهور هو الإدراك أو الحذر التجاري. إن الحقيقة هي أننا (سواء كنا رجال اقتصاد أو أطباء نفسيين أو رجال أعمال) نعرف القليل جداً عن مصادر وطبيعة الدراية التجارية، ولكننا نعرف ما يكفي لفهم أن السوق يعتمد عليها لمقدرتها المتميزة للعمل كإجراء اكتشاف اجتماعي. وإذا ما توجب على السوق الحر أن يعتمد على عملية الاكتشاف التجاري لحسن نواياه الاجتماعية، حسب ما نفترض في هذه المقالة، يتوجب علينا إذن، كصناع سياسات أن نفهم بعمق الأوجه الحساسة لهذه العملية، وأن نأخذ كل خطوة من شأنها أن تجنبنا التشويه والإعاقة.
لا يقتصر الإدراك التجاري على ملاحظة فروقات الأسعار الموجودة سلفاً. فالإدراك التجاري يذهب إلى أبعد من استغلال الفرص المتاحة من أجل المضاربة الفورية في الأسواق اليومية. إن صاحب المبادرة الاستكشافي الذي يتوقع ارتفاعاً في سعر مادة ما، فيشتري الآن وبالسعر المنخفض من أجل حصد ربح صاف عند بيع المادة غداً أو بعد عشرين عاماً، فهو بذلك يعمل على محفز “درايته” أو إدراكه لغياب التنسيق بين ما هو متوفر اليوم وما يمكن الحاجة إليه غداً أو بعد عشرين عاماً. إذا ما اتضح أن صاحب المبادرة التكهني هذا صائب، فإن غياب التنسيق هذا سيُرى على أنه ناشئ عن أخطاء أولئك الذين فشلوا في توقع ميول السوق المستقبلي بشكل صحيح.
وقد نوغل في الإسهاب في الأمر. وقد لا يمكن ملاحظة فرصة الربح الوقتي أو السريع من قبل المضارب ولكنه في الحقيقة قد يخلقها. إن صاحب المبادرة ذا الخيال الواسع والخلاق الذي يشتري موارد اليوم بثمن بخس من أجل تسويق فكرة جديدة تماماً، الغد أو بعد عشرين عاماً من الآن، قد عمل على جلب تخصيص لموارد المجتمع وإدخالها في تنسيق أعظم مع الاحتمالات الحقيقية التي تكشفها عبقريته المبدعة. ومن منظار تاريخي، إن ما سيتم الكشف عنه على أنه “أخطاء” الأجيال السابقة الذين لم يحلموا بالاكتشافات الهائلة “المنتظر” تحقيقها قد تم “تصحيحها” من خلال العملية الإبداعية للخلق التجاري المبادِر. ولا يهم فيما إذا ظهر الإدراك التجاري في هيئة وعي بفرص الربح أو فرص المضاربة الصافية أو فرص الإبداع التقني أو التسويقي فإنه ذلك الإدراك الذي يدفع باتجاه عملية الاستكشاف التصحيحي للسوق.
المنافسة والمبادرة

يجب أن نلاحظ إضافة الى ذلك، أن عملية الاسكتشاف المبادر تشكل عملية تنافسية أساسية. وهذه المسألة تتطلب توضيحاً موجزاً.
وكما شاهدنا فإن المحرك الأساس لعملية السوق يتأتى من تنفيذ الاكتشافات المبادِرة. ومن أجل هذا التنفيذ، من الضروري بالطبع أن يكون أصحاب المبادرة أو أصحاب المشاريع أحراراً لكي يتمكنوا من العمل على اكتشافاتهم—بغض النظر عن كيفية خدمة هذا الأمر لمصلحة الذين لم يقوموا بهذه الاكتشافات بأنفسهم. وتتطلب حرية الفعل هذه أن لا يقوم أحد بمنع أي صاحب مبادرة من الولوج في أي مضمار تجاري يريد. فحرية الدخول مشروعة كشرط أساسي لأجراء الاكتشاف للسوق.
لقد بات من السهل رؤية كيف يجب أن تكون حرية دخول أصحاب المبادرة أو المشاريع اليقظين، الذين يعتقدون أنهم اكتشفوا فرصاً للربح الصافي، مصدر قلق لأولئك الذين منعت “أخطاؤهم” خدمة المستهلكين على نحو أفضل مما كان. أما بالنسبة للذين يبيعون بأسعار مرتفعة (في الوقت الذي تتوفر فيه المادة بسعر أقل)، فإن المنافسة بين المضاربين في الأسعار تعني نهاية سريعة لأسعارهم المرتفعة. (أما هؤلاء الذين يشترون بأسعار منخفضة، فإن هذه المنافسة من المضاربين تعني تهديداً مشابهاً). وبالنسبة للذين يستخدمون موارد شحيحة لإنتاج منتوج لا يحتاجه المستهلك أكثر من حاجته لمنتوج ثانوي (يمكن إنتاجه بنفس الموارد)، لا يتم تصنيعه الآن، فإن منافسة أصحاب المبادرة الذين أخذوا يعرضون سعرهم من أجل تلك الموارد النادرة لغرض إنتاج المنتوج الثاني يجب أن تبدو تهديداً تنافسياً أشد خطورة. وسيبدو من المرغوب فيه، لكل من يشعرون بالتهديد، منع أولئك أصحاب المبادرة المجددين ومحطمي التقاليد والمندفعين، من الدخول في هذه الأسواق الموجودة وتشويشها. من الواضح أن محرك الاكتشاف المضاربي يعمل على شكل عرقلة مستمرة للحياة الهادئة التي قد يتم التمتع بها من قبل الذين يتابعون أنماطاً معينة (مغلوطة جزئياً) لسلوك السوق.
وبالمعنى الذي يفهم به رجال الأعمال معنى المنافسة، فإن عملية الاكتشاف المضاربي في السوق هي تنافسية بالأساس: فهي تعمل فقط بقدر لا يسمح فيه بحماية أي شخص في السوق من دخول القادمين الجدد. إن حرية الدخول لا تجعل الداخلين المحتملين أكثر وعياً بالـ”هفوات”—مناطق الربح الكبير—فحسب؛ بل إن الوعي بهذه الحرية سيجعل من المتواجدين في السوق أكثر إدراكاً ويقظة لتهديدات الداخلين المحتملين. عندئذٍ، سيفتش المتواجدون في السوق عن طريقة لمنع الدخول بواسطة إجراء تعديل “مبادِر” على أنشطتهم.
ولتحفيز يقظة أصحاب المبادرة بهذه الطريقة—أي لضمان سمة التنافس لعملية السوق—لسنا بحاجة إلى التخمين بأن السوق، ولأجل أية مادة معينة، يحتوي أصلاً على الكثير من المشترين والباعة. كما أننا بالتأكيد لسنا بحاجة إلى التخمين بأن كل مشارك في السوق ينظر إلى نفسه على أنه غير قادر على اختيار عروضه للأسعار—كما افترضت الاصطلاحات التقليدية للاقتصاديين التقنيين بأن ذلك ضروري لوجود ظروف تنافسية كاملة. كل ما نحن بحاجة إلى تخمينه هو أنه ليست هناك عقبات إضافية للسوق لكي تمنع دخول المنافسين المحتملين في أي اتجاه كان من اتجاهات المحاولة. وعند مناقشة الخواص الحميدة التي عزوناها لعملية السوق، والتي تعتمد على سمة السوق التنافسية، لا نعني بأن تلك الخواص تعتمد على نتيجة العملية التنافسية التي دخل خلالها العديد من المشاركين في السوق لكي يحالوا إلى عاجزين. إن ما نقوله هو أن الشروط التي تحفز عملية المنافسة—أي الغياب الكامل للقيود المؤسساتية—تميل إلى ضمان عملية اكتشاف متبادل.
التنظيم الحكومي: عقبة أمام عملية الاكتشاف

نحن الآن في وضع أفضل لمشاهدة كيف أن النظرة النمساوية للسوق، التي تحدثنا عنها فيما تقدم، قد تؤدي إلى وضع انتقادي للتنظيم الحكومي، وكيف يختلف الأساس لمثل هذا الوضع عن ذلك الرأي المألوف، أي الدفاع الكلاسيكي الجديد عن السوق الحرة. قد نضع الأمر بصورة موجزة: من أجل تنسيق ناجح معقول ضمن نظام لامركزي لاتخاذ القرارات، فإن عملية الاكتشاف التي يشكلها وعي أصحاب المبادرة التنافسي من أجل الربح، لهي أمر في غاية الأهمية. قد تستند المحاولات الهادفة للتحسين بالتنظيم المباشر على معلومات خاطئة (وذلك لأن المنظمين لا يستطيعون الإفادة من عملية الاكتشاف للسعي خلف الربح)، ومن الممكن أن تشوه عملية اكتشاف السوق الدقيقة أو تغلقها.
لنفترض أن الحاجة للتنظيم قد تأكدت على أساس ظاهرة “غير مرغوب فيها” ناجمة عن السوق غير المنظم. فعلى سبيل المثال، إن أسعار بعض البضائع المعينة ينظر إليها على أنها “عالية جداً” (كأسعار الحليب للمستهلكين؟)، أو “واطئة جداً” (كأسعار الحنطة التي يستلمها الفلاحون؟). أو ينظر إلى الكمية المتوفرة لمنتوج معين على أنها “واطئة جداً” (العناية الطبية؟) أو “عالية جداً” (كاللُعَب غير الآمنة”؟) وهلم جرى. فلنتخيل بأن صانعي القرارات الحكومية لا يحفزون إلا عن طريق الحافز لأن يعملوا نسقاً لظاهرة ما تعكس بصدق تفضيلات المستهلكين، (والتي يعتقدون أنها تُحبط بالسوق الحر الذي يفتقر إلى التنسيق). من المفترض أن تكون مناقشتنا قد وضحت بأن أولئك المسؤولين ذوي العقلية المكرسة للعامة والناكرين لذاتهم يفتقرون للوسائل التي تمكنهم من الاستجابة للتفصيلات التي لا حصر لها (للمستهلكين ومالكي الموارد) والتي قد لا يكونوا على دراية بها بصورة مباشرة. ليست هناك طريقة يعرفون بها الكمية “الصحيحة” أو السعر “الصحيح” لأي منتوج أو مورد معين. ليس هناك (نظير للباعث التجاري لاكتشاف فرص الربح الصافي) ما يمكن أن يقودهم إلى اكتشاف مكامن الخلل في التنسيق وبشكل منتظم.
وإن ما هو أكثر جدية هو حقيقة أن السيطرة الحكومية على الأسعار والكميات ونوعيات إنتاج المخرجات وتوظيف المدخلات، قد تقوم عن غير قصد بمنع أو حجز الأنشطة التي لم تكن قد خطرت ببال احد. وبينما يمكن أن تكون هذه الأنشطة الممنوعة أو المعطلة أنشطة نافعة من الناحية التجارية (ربما يكون ذلك ناتجاً من التغييرات غير المتوقعة في البيانات)، فإن احتمالية اكتشافها تكون حينها قد اضمحلت بالكامل. وبالتالي كانت عملية الاكتشاف التلقائي للسوق الحرة، حتى وإن لم تكن قصدية بالضرورة، مخنوقة ومشوهه إلى حد ما.
لقد لاحظنا مسبقاً مدى أهمية المقدرة على الدخول غير المقيد لأصحاب المبادرة الباحثين عن الربح بالنسبة لعملية الاكتشاف المبادِر التنافسي. ومما لا مناص منه هو أن قيود الحكومة التنظيمية تمنع هذا الدخول. إن القيود من هذا النوع هي قيود ضد التنافس. فهي تميل إلى إحباط الاكتشافات التي تولدها العملية التنافسية. حتى عندما يكون تنظيم الحكومة (مستوحى ربما على شكل نموذج مغلوط “للتنافس” حيث يكون فيه كل حجم مهم مشكوك فيه بحد ذاته) مصمم لـ “الإبقاء على التنافس” (على سبيل المثال عن طريق منع الاندماجات)، وهذا أيضاً يجب أن يعتبر شكلاً من الأشكال التي لا تساعد على التنافس. لأن هذا مثلاً قد يغلق العملية المبادِرة التي يمكن أن يكتشف بها الحجم الأمثل للشركة المنتجة.
من السهل على مسؤولي الحكومة المؤهلين أن يتصوروا أن بإمكانهم معرفة ما هو جيد للاقتصاد. ولكن من المحتمل أن يعني هذا أن في الاقتصاد المعقد جداً في زمننا الحاضر يكون من السهل للأفراد ذوي النية الحسنة أن لا يدركوا جهلهم بأمور معينة. أما بالنسبة لأصحاب المشاريع الخاصة، فإن وسيلة إيصال المعلومات الغير مشتبه بأنها مفقودة توفرها جاذبية فرص الربح الصافي الذي تولده معلومات الفرص المفقودة تلك. ليس المنظمون وحدهم غير قادرين على الاستفادة من الاكتشافات المستوحاة من الربح: فتدخلهم المباشر في السوق يمكن أن يحبط ويخنق ويشوه عملية الاكتشاف الحميدة اجتماعياً والتي تعتمد على حرية الدخول في فروع النشاط الذي لم يتم التأسيس لقبوله اجتماعياً لحد الآن.
ويتبع ذلك أن التأثيرات الضارة للتنظيم (والتي تم الحكم عليها من منظور تفضيلات المستهلك، وليس عن طريق القوانين المتبناة عشوائياً للأهمية الاجتماعية) ليس بالضرورة أن تكون موجودة في الفشل الواضح (كما يعبّر عنه مثلاً في النقصان وغياب التنسيق الواضح). وقد تتمظهر التأثيرات الضارة للتنظيم في حالات حيث يكون هناك غياب للتنسيق لا يعلم به احد. إن النقطة التي نريدها هي أن التنظيم يمكن أن يكون مسؤولاً عن هذا الغياب في التنسيق الذي لم يتم اكتشافه. إن ما يثير العجب في السوق التنافسي المبادِر هو مقدرته في إلهام نشاطات تنسيقية لا يتم الكشف عنها في غياب السوق.
في الحقيقة، إن “اليد الخفية” للسوق الحرة هي خفية ايضاً من حيث أن مشاكل التنسيق نفسها والتي تسعى إلى حلها هي مشاكل خفية حتى على أعلم العلماء المخلصين، أو على المنظمين الحكوميين أنفسهم.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 28 كانون الثاني 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

قد يكون ما ذهب إليه مايكل كيلوج في مقاله الموسوم “بعد البيئوية” من “أننا جميعاً بيئويون” صحيحاً، ولكن من غير الصحيح أن تتقبل سياسة الأمر والسيطرة لأجل أن تكون بيئوياً. ومع ذلك، فان الاختبار الحامضي الأساسي (اختبار الليتموس) لقياس درجة الاخضرار، بالنسبة للاتجاه السائد للبيئويين، هو قبول المزيد من الحكومة لتحقيق غاياتٍ بيئية. فكثيراً ما ينادون بالمزيد من التنظيم البيئي، والمزيد من التملك الحكومي للأراضي، الى أقصى حد ممكن. إلا أن العبرة من بيئوية السوق الحرة هي أن المزيد من التدخل الحكومي ليس بالشيء الضروري لتطوير نوعية البيئة وجودتها، بل ربما يكون ذلك ضاراً بتلك الغاية.
أما هؤلاء الذين يرفعون شعار الدولانية البيئية فيميلون الى الفكرة القائلة بأن العصا أفضل من الجزرة عندما يتعلق الأمر بحقوق أصحاب المُلكية الخاصة. فيتجاهلون النمو المتفاقم في العقد الأخير في أسواق التسلية (أسواق الاستجمام والسياحة)، ولا سيما في صيد السمك وأجور الصيد، التي قادت أصحاب الأملاك، مثل شركة الورق الدولية—وهي مالكة لغابة صناعية كبرى—إلى تربية أو رعاية مصادرها وممتلكاتها البيئية. وعلى العكس من ذلك، كان التنظيم وعلى الدوام خط دفاعهم الأول ضد أصحاب الأملاك. وليس غريباً ان ينظر أصحاب الأملاك الى الأجناس المهددة بالانقراض والمستنقعات على أنها معوقات وليس موارد قيّمة. وليس من الدهشة بمكان أن يقول مربو المواشي في شمال غرب مونتانا في سرهم، ولأجل انتعاشهم المالي، أن العلاج الأنجع للدببة الرمادية والذئاب التي في أراضيهم هو أن “تطلق الرصاص، تدفن وتسكت”. في غضون ذلك، يستمر الصخب لأجل الحصول على المزيد من التشريعات المقيدة، والمزيد من الدعاوى القضائية، والمزيد من التعدي الحكومي.
لقد أظهرت إدارة متنزه يالوستون الوطني، مفخرة نظام متنزهاتنا وحدائقنا العامة وجوهرة تاجها، أن السيطرة الحكومية على وسائل الترفيه أخذت تنحى منحى جنونياً. ويقدم العلماء المستقلون البراهين الدامغة على أن سياسة الحدائق أو المتنزهات التي تترك للطبيعة حرية تنظيم الحياة البرية للمتنزهات قد قذفت بعلم دراسة الأحياء البيئية في المتنزهات إلى هاوية سحيقة. فأشجار الحور والصفصاف تلتهمها حشود من الأيائل الجائعة التي تفوق حد نموها. أما القندس، ذلك النوع الذي يعتمد على شجر الحور والصفصاف، فقد اختفى تماماً من المتنزه. بالاضافة إلى ذلك، هناك سياسة يالوستون المتنورة في معالجة الحرائق التي استبدلت 70 عاماً من إخماد الحرائق ومنشأة الوقود الكبيرة بسياسة الـ(دعه يحترق) غير المعقولة. لقد كانت مسألة وقتٍ ليس إلا، قبل ان تلتهم النيران—كتلك التي نشبت عام 1988—أكثر من نصف غابات المتنزه الأصلية القديمة قدم الأزل. واليوم مازال مديرو يالوستون يتخبطون مع مهمتهم المزدوجة في حماية موارد المتنزه ومنح الجمهور صلاحية تامة للوصول. في غضون ذلك، كانت حشود الناس الذين يرتادون المتنزه، يدوسون طرقاته المتخمة للسواقي الطبيعية القديمة، ويحتشدون في طرق المرور السريعة المتدهورة، وكثيراً ما يتصارعون مع الحياة البرية. وعلى نفس المنوال، إن لم يكن اسوأ منه، فإن المشكلات التي كانت تحدث في نظام المتنزهات كانت قد وُصفت على نحو وافٍ من قبل مسؤولي المتنزه على أنها مناطق خضراء. وباختصار، فان سجل السيطرة السياسية على الموارد الطبيعية وعلى البيئة لم يكن أساسياً متميزاً، وهذا أقل ما يمكن أن يقال بحقه.
وفي ضوء الإخفاقات العديدة، علينا أن نسأل لماذا يعتبر العديد من العلماء وأخصائيي البيئة سياسات الأمر والسيطرة الاختبار الحامضي الأساسي لقياس درجة الاخضرار. وجوابنا هو أن هذه السلطات القسرية هي فقط من يسمح للبيئويين بالحفاظ على نقائهم في أرض أحلام خيالية، دون أية كلفة تذكر بينما يتحمل الآخرون تكاليف هذا النقاء. ولكن هذا في سياق التطور النفطي في المناطق الأصلية القديمة (غير المفسدة بالتدخل البشري) مثل المنطقة الوطنية القطبية الشمالية للحياة البرية. البيئويون الحقيقيون “يقولون كلا فقط”. لا يستحق أي نفط كان تدنيس البيئة أو انتهاكها؛ “إن تكلفة البيئة” ليست بذات علاقة تذكر لأنها تضمر رغبةً في القيام بالتناوب أو المقايضة.
ليست المقايضة لبعض الإزعاجات البيئية من أجل الموارد النفطية نقية خالصة بما فيه الكفاية، حتى إن أمكن استخدام تلك الإيرادات لخدمة بعض القضايا البيئية الأخرى. وهذا يفسر السبب وراء عدم شعور العديد من أعضاء جمعية اودوبون الوطنية بالفخر والاعتزاز لحقيقة أن الجمعية تغاضت عن، أو سمحت بتطوير صناعة النفط والغاز في بعض من محمياتها الخاصة بينما عارضت تطويرها في الأراضي الاتحادية (الفيدرالية).
ومن الاستثناءات القليلة لسياسة الأمر والسيطرة التي لاقت القبول مؤخراً في المجتمع البيئي هي الحلول المستندة الى السوق، مثل إجازات (تصاريح) التلوث القابل للاتجار. وهذه متفق عليها على الأقل بدرجة قليلة من اللون الأخضر من قبل البيئويين الرئيسيين لأنها مازالت “تسمح للحكومة بالقيادة”. ولكن الحلول المستندة للسوق، في واقع الحال، لا يربطها شيء بالأسواق؛ فما هي إلا طرق أخرى لجعل الأمر والسيطرة أكثر فاعلية. لقد حظيت مثل هذه الحلول المستندة الى السوق لبعض الوقت بتأييد الاقتصاديين الذين أشاروا الى ان هذه الحلول تطور الكفاءة. وفي ظل نظام الإجازات القابلة للتجارة، سيكون لدى الطرف الذي يحمل إجازة أو إذناً الدافع لتقليل معايير تلوثه وبيع الاجازة إذا ما استطاع فعل ذلك بفائدة معينة. وهذا سيقلل من كلفة مطابقة معايير التلوث من خلال تشجيع هؤلاء الذين لديهم أقل قيمة ممكنة من تقليل التلوث على القيام بذلك.
وعلى خلاف السوق، فأن مستوى التلوث لا يحدده، على كل حال، المشترون الراغبون والبائعون الراغبون، ولكنه يُحدَّد بالأمر والسيطرة. إن سوق التلوث يجبر الملوِّث بأن يدفع للمستلم في صفقة طوعية. أما إذا كان المسبب للتلوث راغباً في أن يدفع أكثر من الكلفة التي يحملها المستلم، فسيجري انبعاث المزيد من التدفق. وهذا يتطلب نظاماً من حقوق المُلكية المحددة بشكل جيد ونظاماً من قانون الأضرار العام الذي يجبر المتسبب بالتلوث على دفع تعويضات عن أية أضرار يتسبب فيها. من ناحية أخرى، فإن الحلول المستندة إلى السوق تؤسس مستوى التلوث من خلال عملية سياسية لا يُدفع فيها كتعويض سوى القليل، أو لا يدفع شيئاً مطلقاً، لهؤلاء الذين سيستقبلون التلوث. من الحقيقي فعلاً أن الحلول المستندة إلى السوق يمكنها أن تجعل التوافق أو التطابق مع حدود التلوث المسموح بها والمفروضة من قبل الحكومة أكثر فاعلية، أما اختصاصيو البيئة من أنصار مذهب السوق الحرة فيحبذون ويستحسنون هذه المنجزات في الكفاءة. ولكن يجب أن لا نشكك بالحقيقة القائلة بأن عملية تحديد مستوى التلوث لابد أن تكون عملية سوق محضة.
إن بديل البيئة الدولانية هو بيئوية السوق الحرة. وكما لاحظ كيلوج فإن بيئوية السوق الحرة تبدو مثل “تناقض ظاهري” فقط لأنها لا تعتمد على يد الحكومة القسرية التي تقود دفة القارب بالقوة. وبدلاً عن ذلك، تعتمد بيئة السوق الحرة على حقوق المُلكية وقانون العقود والأضرار، حيث يحدد الباعة والمشترون المضمار أو السياق من خلال اتفاقهم على تبادل حقوق المُلكية. ففي سياق بيئة السوق الحرة، لا يكون التلوث تلوثاً طالما كان الذين يستلمون المنتجات الجانبية (المخلفات) يتلقون تعويضاً عما هو غير مرغوب فيه من قبل الآخرين. لذا فان العلامة المكتوبة على شاحنة المخلفات تقرأ: “قد تكون أزبالاً بالنسبة لك، ولكنها خبزاً وزبداً بالنسبة لنا”.
تعتمد بيئة السوق الحرة على منطلقين: الأول، هو أن الأسواق الحرة توفر مدخولات أعلى، من شأنها بالتالي أن تزيد الطلب على الجودة البيئية. ولا ينكر سوى القليلون أن الطلب على الجودة البيئية قد تزايد بشكل درامي في الخمسة والعشرين سنة الماضية، وهناك إجماع حقيقي على أن السبب وراء هذا التزايد هو الإيرادات المتزايدة. وتظهر الدراسات الحديثة أن العلاقة بين دخل الفرد الواحد من السكان وجودة البيئة تتبع نمط “منحنى حرف جيه J”. ففي المستويات الواطئة جداً من الدخل، تكون نوعية البيئة مرتفعة لعدم إنتاج أي تدفق. وبارتفاع الدخول أو الواردات إلى أكثر من الحد الأدنى، يزداد الملوِّثون فتتدهور البيئة. ولكن بعد ذلك، عندما يقترب دخل الفرد الواحد إلى خمسة آلاف دولار في العام، تبدأ نوعية البيئة بالتحسن فتكون جيدة بشكل مترف. أما فوق ذلك المستوى من الدخل، فتظهر التخمينات التي أجراها دون كورسي من جامعة واشنطن في سانت لويس ان لكل 10% من الزيادة في الدخل، هناك 30% الى 50% من الزيادة في طلب الجودة البيئية. قد نكون جميعاً بيئويين الآن، ولكن السبب ليس في تجربة متجددة في وولدين بوند، ولكنها الزيادة في الثروة الناتجة عن الأسواق الحرة التي أعطتنا المال الكافي لتحمل نفقات الترف البيئي.
أما درع الوقاية الثاني لبيئوية السوق الحرة فهي أن أسواق الملطفات البيئية توفر البواعث أو الدوافع للأفراد لكي يتعاملوا مع البيئة على أنها مورد أو مصدر قوة أكثر منها عائقاً. ويقر كيلوج بأن شيئاً ما قد يحدث لبيئة السوق الحرة حيث “أن السوق يمكن أن يأخذنا إلى أي مكان نريد الذهاب إليه”. إلا أن هذا لا يدرك المشكلة الأساسية التي تواجهها مخططات بيئوية السوق الحرة: الى أين نريد الذهاب؟ يزعم البيئويون القسريون أنهم يعرفون إلى أين علينا أن نذهب، ويستخدمون سلطات الحكومة لأخذنا إلى هناك. فبالنسبة لهم ليس هناك حياة برية كافية على الإطلاق، والأنواع يجب أن لا تنقرض، والتلوث يجب أن لا يتواجد. إذا ما تأكد ذلك، فلماذا لا تستخدم سياسة الأمر والسيطرة؟
أما البيئيون من أتباع السوق الحرة فلا يزعمون أنهم يعرفون الشيء الذي يجب فعله. فذلك يحدده الفعل الإنساني الذي يتكشف في التعامل الطوعي حيث توفر الأسعار دوافع للمشترين والبائعين الراغبين في الحصول على غاياتهم المتبادلة. وكما قال كيلوج: “إذا أراد أحد أن يشتري وادي يوسيمايت وأن يقيم عليه شققاً سكنية… عند ذاك ستكون هناك شققاً سكنية”. ليس لدى بيئويي السوق الحرة أية مشاكل مع هذا الاستنتاج، إلا أن هذا لا يعني أنهم بالضرورة يفضلون الشقق على وادي يوسيمايت. (لا شك أن وادي يوسيمايت الأصلي ليس كما نعرفه الآن تحت سياسة الأمر والسيطرة، مما قد يجعل الشقق ذات طبيعة برية أكثر منها مأهولة بالناس في ظل الإدارة البيروقراطية). يقول أخصائيو البيئة من أتباع مذهب السوق الحرة أنه إذا لم يستطيعوا أن يرفعوا السعر (في المزايدة العلنية) على محبي الأسهم لأية استخدامات يفضلون، عندها يتم الكشف عن التفضيلات المقيدة بالموازنات المالية.
وهنا عادة ما يظهر نوعان من الانتقادات؛ أحدهما تقدم به كيلوج أما الآخر فلا. أما الذي لم يتقدم به كيلوج فله علاقة بتوزيع الثروات. طالما كان الأغنياء يمتلكون ثروة أكثر من الفقراء، لاشك أنهم سيزايدون على الفقراء—كما يقال—في نظام السوق. ولكن الحقيقة هي أن الأغنياء لا يفوزون أو ينتصرون على الدوام. إذ قد يفضل الأغنياء السيارات الفارهة كالـ(ليكزس) على سيارات الجيو، ولكن الأخيرة مازالت تنتج وتبيع، والحق أن هنري فورد أصبح ثرياً من خلال إنتاجه للجماهير الواسعة، وليس للنخبة أو لسوق الأثرياء. إذا ما كانت جودة البيئة مطلوبة من قبل المستهلكين من أبناء الطبقات ذات الدخل الواطئ أو المتوسط، فسيثرى المجهزون من خلال توفيرها (أي جودة البيئة). وبالطبع، إن لم يكن ذلك ما يريده الناس في الواقع (على عكس ما يعتقده البيئيون القسريون من أنهم يريدون ذلك)، فان السوق “سيفشل”. إضافة الى ذلك، لا تختلف المشكلات التوزيعية المتعلقة بالبيئة عن تلك المتعلقة بالطعام. إن كان هناك أناس فقراء، فلا شك أن إعطاءهم المال وتركهم ليقرروا ما إذا أرادوا مناطق برية خضراء أو متنزهات مائية. وعلى كل حال، فإن البيئيين القسريين يرون عموماً أن لهم (أي الفقراء) تفضيلات خاطئة.
أما الانتقاد الثاني الموجه لترك التعاملات الطوعية تحدد نوعية البضائع البيئية التي سيتم انتاجها فهو أن “بعض الأشياء لا يجب أن ترجع ببساطة إلى الأمور المالية. فبعض الأشياء مقدسة، أو يجب أن تكون مقدسة”. وهنا تتجلى وتشرق الألوان الحقيقية للبيئيين القسريين. فلأنهم يعرفون ما هو المقدس، سيجبرون هؤلاء الذين ليست لديهم رؤية صحيحة للقيام بما هو صحيح، دون ارتياب أو تأنيب ضمير. ففي اللغة الدارجة للبيئيين القسريين، للبيئة قيمة جوهرية يعرّفها كيلوج على أنها “قيمة مستقلة عن اختيارات بعض الأفراد المعينين، وهي بذلك تتسامى على اعتبارات السوق”. إن ما يعنيه بهذا بالضبط هو أن القيم الجوهرية (التي تحل محل القداسة الروحية) هي قيم مطلقة غير محدودة، لذلك لا يمكن الاتجار بها إزاء قيم أو استخدامات أخرى؛ فهي الورقة الرابحة. إذن، ليس من الغرابة بمكان أن لا تستطيع بيئوية السوق الحرة، في شكلها الحالي، أن تأخذ القيم الجوهرية في نظر الاعتبار.
إن حل كيلوج هو أن يكون هناك “جدل شعبي عام يمكن فيه التفكير في القيمة الجوهرية والنظر فيها من قبل المجتمع بأسره، وليس مقايضتها أو تبديلها في التعاملات الخاصة للأفراد”. وهنا مرة أخرى، تقوم خدعة يدوية بإظهار كل شيء بمظهر حسن. من هو ذلك المجتمع؟ وما هي العملية التي تمّكن كل المجتمع من التصويت؟ ترى بيئية السوق الحرة أن المجتمع هو ببساطة مصطلح ذرائعي للحلول السياسية المليئة بالإخفاقات التي تضاهي في الأقل إخفاقات “التعاملات الخاصة بالأفراد”.
إن قمة تمبر التي أجرتها إدارة كلينتون، والتي قام بها الناس بالتعبير عن القيمة الجوهرية لمشاهدتهم لبعض طيور البوم، بينما كانت الحكومة تستمع لذلك، تقدم مثالاً للطريقة السياسية التي نادى بها كيلوج. وفي النهاية، مُحيت مساحة تقدر بأكثر من سبعة ملايين أكرة من أراضي الغابات الأصلية لإنتاج الخشب، مكلفة آلاف المهن والأعمال في شمال الغرب، ومقترَحاً لبرنامج “تشغيل المترف” للعمال الذين يوضعون في غير أماكنهم المناسبة. لقد كانت سياسات متوحشة تلك التي قام خلالها البيئيون بإلحاق الهزيمة بمنتجي الخشب. وعلى أقل تقدير، سيكون الجدل حول الطرق البديلة لإنتاج الملطفات البيئية أكثر صدقاً إذا ما أدركنا أن البيئية القسرية تستبدل السياسة بكافة مساوئها وعيوبها بالحرية مهما كانت ناقصة.
يرى كيلوج أن قَدم أخيل [نقطة ضعفه القاتلة] بالنسبة لبيئوية السوق الحرة هي التعاملات التجارية الطوعية التي تتطلب حقوق ملكية، وأن تأتي حقوق الملكية من الحكومة. وهنا مرة أخرى تفوته نقطة بالغة الأهمية تتعلق بتطور حقوق الملكية هي—على وجه التحديد—أن هذه الحقوق تستطيع التطور وتتطور فعلاً عبر قانون العقود الخاصة والأضرار. وتكثر الأمثلة على تطور حقوق الملكية من خلال الرسوم الجمركية والقانون الخاص في غرب أمريكا. فحقوق المعادن وحقوق المياه، على سبيل المثال، تطورت وازدهرت في معسكرات المناجم والأقاليم الاروائية قبل أن يؤسس بيروقراطيو الحكومة حضورهم في مقاطعات ورؤوس أموال الولاية بوقت طويل. مازالت مثل هذه الحقوق للملكية تشكل الأساس في تسويق المياه. وفي جميع الولايات الغربية، هناك نظام أولوية تخصيصية (استيلائية) لحقوق المياه مختلف تماماً عن تقاليد الضفاف (ذات العلاقة بضفاف الانهار) الشرقية، يسمح للطرفين بنقل الماء إلى استخدامات بالغة الأهمية بينما يحميها من الانتهاكات أو الأضرار التي قد يتسبب فيها طرف ثالث. ولسوء الحظ، فأن العديد من القوانين العامة، كتلك التي تمنع بيع المياه لاستخدامات جداول الاستجمام والترفيه، قد حصلت أو صدرت عن طريق تعاملات السوق. إن الرجوع الى تأسيس حقوق الملكية عبر عملية القانون العام سيساعد في حل مشكلات حقوق الملكية التي تقلق كيلوج.
وكما ذكر روجر مينيرز وبروس ياندل في كتابهما الموسوم “التعامل الجاد مع البيئة”، تبين السجلات التاريخية ان حقوق الملكية يمكن أن تتطور، بل إنها تتطور فعلاً، عن طريق القانون العام وأن تلك القواعد العامة تحمي الأفراد حقاً وتدافع عنهم ضد التلوث وضد المظاهر البيئية الخارجية الأخرى. ونادراً ما يدرك المسؤولون الحكوميون الحاجة الى حقوق الملكية. والحق أن معظم هذا التطور حدث في عصر كانت فيه التكنولوجيا أقل تعقيداً بشكل كبير، وكان فيه الحصول على المعلومات حول الأخطار الكامنة للتلوث أقل كلفة. لا شك أن التنفيذ يتطلب إجباراً حكومياً، ولكن هذا التنفيذ صرخة بعيدة كل البعد عن الإبداع المنهجي وإعادة توزيع حقوق الملكية بالاستناد إلى كلف التعامل التجاري التي اقترحها كيلوج والتي نُسبت خطأ إلى رونالد كوز الحائز على جائزة نوبل.
تدرك سياسة السوق الحرة المتعلقة بالبيئة أن الرأسماليين البيئيين هم الذين اكتشفوا السوق الكامنة في تعريف حقوق لياقة البيئة وملائمتها، فاستثمروا اكتشافاتهم بطريقة رأسمالية من خلال تأسيس حقوق الملكية. على سبيل المثال، حاولت منظمة حماية الطبيعة مؤخراً أن تشتري وتسحب حقوق الرعي في الأراضي الفيدرالية في نيو مكسيكو. ورغم أن الحكومة قد تكون هي التي أوجدت حقوق الرعي في الأراضي المشاعة، إلا أن مقاولات منظمة حماية الطبيعة هي التي حاولت إضافة عصا جديدة الى حزمة الحقوق. ومن الممتع في الأمر أن أحد القضاة في وزارة الداخلية لم يسمح للتعامل الطوعي المصمم لغرض تحقيق غاية بيئية.
بينما كان صاحب المبادرة البيئي توم بورلاند يعمل بصفة خبير أحيائي في منظمة إنترناشيونال بيبر، قام أيضاً بابتداع أو إيجاد عصي جديدة في حزمة حقوق الملكية. فمن خلال جهوده لمنع التجاوزات، أو تسويق أو بيع حقوق الصيد أو تأجير الأراضي لأغراض الاستجمام والترفيه، كان بورلاند قادراً على تحويل الملطفات البيئية إلى أصول تحفز الشركات على الاحتفاظ بها. أخذت قائمة الرأسماليين-البيئيين بالتنامي والازدياد بتزايد قيمة الملطفات البيئية ولم يكن يقيدها سوى خيال أصحاب المبادرة.
إن بيئة السوق الحرة تتحدى الوضع الحالي من خلال تقديم طريقة “لإعادة التفكير بالطريقة التي نفكر بها” حول المشكلات البيئية. يوافق الكثير منا على أن من الأفضل ترك الطعام والسكن وإنتاج اللوازم الضرورية الأخرى للسوق. لماذا لا تترك للبيئة؟ حتى المشكلات البيئية تقدم وضعاً نافعاً لصاحب المبادرة البيئي الذي يستطيع تعريف وتعزيز حقوق الملكية. وقد تُطلب الحلول السياسية في القضايا التي تكون فيها تكاليف تأسيس حقوق الملكية لا يمكن السيطرة عليها، وليس هناك من سبب يدعو للبدء بالمنطق القائل بأن منهج الأمر والسيطرة هو فقط من يستطيع إنتاج جودة بيئية. وعلى العكس، تشير بيئة السوق الحرة إلى أن هناك دائما “بيروقراطية ازاء البيئة” وأن الحلول السياسية تتخندق بشكل يجعلها تقف في طريق أية حلول تجارية خلاقة يقدمها السوق. إن التغلب على النمط الفكري للدولانية البيئية ليس بالأمر اليسير، لأن ذلك كان النموذج البارز لتشكيل السياسة البيئية لما يقارب القرن من الزمن. يتطلب التحرك إلى ما وراء الوضع الحالي تشكيل تحالفات جديدة ومغادرة المنظومة المناوئة للسوق.
لقد حدث هذا في تحديد حصص المياه، لأن المحافظين الماليين والبيئويين قد وجدوا أرضية مشتركة. إن التدخلات الفيدرالية في مشاريع المياه الكبرى المصممة لجعل الصحراء تزهر مثل وردة، لم تعبر خط دراسات الجدوى، بل وكثيراً ما كانت تتسبب في دمار بيئي. ولهذا السبب، تم إحداث بعض التطور في إزالة حصص المياه من أجندة السياسة وتحويلها الى قوى السوق. وحتى في حالة تدفق الأنهار لإغراض بيئية، هناك أدلة متنامية على أن أداء الأسواق يمكنه أن يفوق أداء السياسة.
“جميعنا بيئويون الآن” لأننا في الولايات المتحدة وفي بعض البلدان الغربية الغنية نستطيع تحمل طلب الجودة البيئية (على عكس الأمر فيها). إن المنطلقات الأساسية لبيئة السوق الحرة هي: أولاً، إن الجودة البيئية تأتي مع تزايد الثروة، وثانياً، إن السوق الحرة توفر البيئة المحفزة لزيادة الثروة ولإنتاج الملطفات البيئية. إذا ما استمر البيئيون القسريون بأجنداتهم النخبوية في السيطرة على السياسة البيئية، سيكون من المحتمل أن يكون لدينا في نهاية المطاف ثروة قليلة وملطفات أقل عدداً. ومن بين الخيارات الثلاثة التي استعرضها كيلوج، هناك فقط خيار سياسة بيئة السوق الحرة الذي يوفر للجميع منظاراً مستقبلياً للمزيد من الثروة، والمزيد من الملطفات، والمزيد من الحرية وهو أكثر الموارد ندرة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 4 كانون الثاني 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

إن لدى العديد من الناس مشاعر قوية حول العولمة. إلا إنني لن أخوض في المشاعر، بل سأتحدث عن الأسباب والمنطق والدليل. من المهم أن تكون الجدالات معقولة وأن يكون من الممكن التحقق من صحتها أو تفنيدها، وأن نشرك القلب من خلال العقل. آمل أن أشرك عقولكم لكي تشركون قلوبكم بالجانب الإنساني.
شاع بين خصوم العولمة استخدام المصطلح كسلة حاوية لكل جوانب الحياة الإنسانية التي يكرهونها. سوف استخدم مصطلح “العولمة” بشكل أدق للإشارة إلى نقص أو غياب القيود التي تفرضها الدول والحكومات على التبادل التجاري عبر الحدود، وما نتج عنه من نظام عالمي معقد في الإنتاج والتبادل التجاري والذي يتشابك بشكل مطّرد. وتبقى الاسئلة الملحة عن ماهية الآثار الفعلية للعولمة وما إذا كانت نافعة أم ضارة.
إن المسألة الجوهرية للسياسات هي ما إذا كان لابد من استخدام الحدود لإيقاف التعاملات التي كان من الممكن السماح بها لو أن الطرفان يقعان على جهة واحدة من تلك الحدود. هل يجب السماح لمزارعي القمح الأمريكيين شراء الهواتف النقالة من سكان فنلندا؟ وهل يجب السماح للنساجين من غانا بيع القمصان والبناطيل التي يصنعونها للعمال الألمانيين؟
أعتقد أن الجواب هو نعم. أما معارضو العولمة من اليسار الى اليمين—من رالف نادر إلى باتريك بيوكانن وجان ماري لوبن—فيقولون لا. قبل أن أبيّن لماذا أقول نعم، دعني أؤكد على أن الجدل ليس حول تفاعل الأعداد ولكن حول تفاعل الأشخاص الحقيقيين، أشخاص من لحم ودم ذوي أجساد وعقول وحياة لها معنى وقيمة.
من أجل وضع بعض ذاك اللحم والدم على النقاشات الرسمية، دعني أخبركم قصة: في العام الماضي اصطحبني صديق من مايا—يدرّس الانثروبولوجي في غواتيمالا—إلى المرتفعات الماوية. وقد أخبرني أن علماء الانثروبولوجي في أوروبا والولايات المتحدة الذين يريدون “دراسة” الهنود، يشتكون من أن العديد من نساء المايا لا يرتدين زيهن التقليدي الجميل، المصنوع بشكل يدوي متقن، كل يوم. فيحتفظن بذاك اللباس بشكل متزايد للمناسبات الخاصة كالتعميد أو الزفاف. وتكون استجابة الزوار واحدة تقريباً ألا وهي الفزع، فيقولون أن الماويين قد سلبت ثقافتهم وأنهم بذلك أوائل ضحايا العولمة والاستعمار الثقافي.
ولم يكلف أحد من هؤلاء نفسه فيسأل نساء المايا لماذا لا يرتدي العديد منهن الزي التقليدي، بينما فعلها صديقي. أخبرته النسوة أنهن لا يرتدين ملابسهن المصنوعة يدوياً لأنها أصبحت غالية الثمن. الآن، ماذا يعني أن تصبح الملابس المصنوعة يدوياً غالية الثمن؟ إنه يعني أن عمل المرأة الماوية أصبح أكثر قيمة. بدلاً من قضاء الساعات في النسج على مغزل لتصنيع قميص ليرتدين، بوسعهن قضاء ذلك الوقت لعمل نفس القميص وبيعه لسيدة في فرنسا واستخدام الأرباح لشراء ثلاثة أدوات ونظارات، أو مذياع، أو دواء مضاد لحمى الضنك. وتستطيع النساء عمل شيء آخر فيكنّ في نفس الوقت قادرات على شراء المزيد من الأشياء التي يجدن لها قيمة. إنهن لا يتعرضن للسرقة، بل يصبحن أكثر غنىً. وذلك من وجهة نظرهن ليس شيئاً سيئاً، ولكن من وجهة نظر هؤلاء—معارضي العولمة—الذين يطلق عليهم صديقي إسم “سياح الفقر”، الذين يحبون أخذ صور للفقراء بملابسهم الملونة—فهي خيبة أمل كبيرة.
لذا، عندما نناقش العولمة، علينا أن لا ننسى النساء اللواتي يصنعن الأثواب التي أصبحت الآن غالية الثمن بالنسبة لهن ليرتدينها كل يوم. هؤلاء هم الناس الحقيقيون الذين سوف يقرر مصيرهم للأفضل أو للأسوأ، من خلال الجدال حول العولمة. فهل سيصبحون أغنى أم أفقر؟ هل ستصبح حياتهم أطول أم أقصر؟ نتيجة لسياسات حكيمة أم حمقاء؟
أساطير حول العولمة

 العولمة تقضي على الوظائف:
لا تؤثر السياسة التجارية على الوظائف، لكنها تؤثر على نوعية الأعمال التي يمارسها الناس. إذا زادت الحمائية (سياسة حماية التجارة والصناعة الوطنية) عدد الوظائف في الصناعات الإستيرادية التنافسية، فإنها وبشكل مماثل ستقلل عدد الوظائف في الصناعات التصديرية، أي في الصناعات التي تنتج البضائع التي كان من الممكن استبدالها بالبضائع التي يمكن استيرادها، ولكنها أصبحت الآن أغلى ثمناً من خلال التعريفات، أو تم إبعادها من خلال الحصص النسبية (الكوتا). وبالنتيجة فالصادرات هي الثمن الذي ندفعه مقابل الواردات، كما أن الواردات هي الثمن الذي يدفعه الأجانب مقابل صادراتنا. لذا، إذا قللتَ من قيمة البضائع المستوردة من خلال التعرفة فإنك تقلل من قيمة البضائع المصدرة لتسديد ثمن تلك الواردات. مما يعني فقدان الوظائف في الصناعات التصديرية.
 العولمة تدير رأس المال نحو الأجور الأقل وتستغل العمال الأكثر فقراً:
لو كان صحيحاً أن رأس المال يتدفق حيث تكون الأجور أقل، لتوقعنا أن تكون بوركينا فاسو وبلداناً فقيرة ذات أجور قليلة أخرى غارقة بأمواج الإستثمارات الخارجية. هذا الادعاء له مضامين ممكن اختبارها لأجل التحقق منه. خلال التسعينات ذهب 81% من الاستثمار الأمريكي الخارجي المباشر إلى ثلاثة أجزاء من العالم: كندا الشديدة الفقر، وأوروبا الغربية الفقيرة، واليابان المتضورة جوعا! أما البلدان النامية—ذات الأجور المتزايدة!—مثل أندونيسيا والبرازيل وتايلندا والمكسيك فقد ذهب إليها 18%. وتشاركت باقي أجزاء العالم، من ضمنها إفريقيا كلها، في نسبة الـ 1% المتبقية. يضع المستثمرون رؤوس أموالهم حيثما تدر عليهم بالربح الأكبر، وبشكل عام تكون هناك أعلى الأجور وليس أقلها. تميل المشاريع التي يقيمها المستثمرون الأجانب إلى دفع أجور أعلى مقارنة مع المشاريع المحلية، لأنهم يريدون جذب أفضل العاملين والاحتفاظ بهم.
 تُصدّر روؤس الأموال من البلدان الغنية إلى العالم الثالث لخلق مؤسسات صناعية تستغل العمال بأجور منخفضة (في ورش الكادحين)، التي بالتالي تصدر الكثير من البضائع الرخيصة إلى الشعوب الأغنى. وتخلق فائضاً تجارياً، وتضرب التصنيع في الدول الغنية ويصير كل شيء إلى حال أسوأ:
كثيراً ما اسمع هذا النوع من القصص في الجامعات، إنه لأمر مربك الى الحد الذي يصعب الخوض فيه. أولاً، إنه ليس من الممكن الحصول على فائض في رأس المال وفائض تجاري في آن واحد. إذا صدّرتَ أكثر من وارداتك، فإنك تحصل على شيء مقابل صادراتك، تحصل على ملكية الموارد (أموال الاستثمارات الصافية) في البلدان التي تصدر لها. أما إذا استوردتَ أكثر من صادراتك، كما فعلت الولايات المتحدة لعقود متتالية من الزمن، فلا بد أن تبيع شيئاً للأجانب الذين يرسلون لك منتجاتهم، إن الذي تبيعه هو أصول الواردات، مثل الأسهم في الشركات. إن المعادلة الحسابية الأساسية هي: [الإدخار – الاستثمار = الصادرات – الواردات]. إن معظم السيناريوهات المفزعة التي يستحضرها معارضو العولمة تعتمد على تجاهل بسيط لأهم العناصر الأساسية لحسابات التجارة العالمية.
 العولمة تسبب انحداراً نحو الهاوية في المقاييس البيئية والعمالية:
هناك مغالطة أخرى وهي أن رأس المال يتدفق حيث تكون المقاييس البيئية والعمالية في أوطأ مستوياتها. لكن تفحص الحقائق التالية: يقوم المستثمرون بالاستثمار حيث تكون العوائد المالية في أعلى مستوياتها، أي حيث تكون الحركة العمالية أكثر إنتاجية، وبالتالي يكون الناس أغنى، ويميل الأشخاص الأغنى إلى المطالبة بأجواء بيئية وظروف عمل أفضل وليس أسوأ. إن الحالتين اللتين كثيراً ما يشار إليهما كأمثلة على الآثار البيئية السلبية المزعومة للإتفاقيات التجارية هما: حالة سمك التونا/الدولفين وحالة القريدس/السلحفاة، وهما تظهران تسارعاً نحو القمة وليس نحو القاع، حيث قامت دول أخرى بتبني الضوابط القانونية الأمريكية لحماية الدولفين وسلاحف البحر. وينطبق هذا أيضاً على المقاييس الوظيفية حيث إن الأعمال في المشاريع الأجنبية عادة ما تكون مطلوبة بشكل أكبر لأنها تدفع أجوراً مالية أعلى وتقدم ظروفاً وظيفية أفضل مقارنة مع البدائل المحلية.
 العولمة تخلق ثقافة أمريكية متجانسة حول العالم:

هذا صحيح فعلاً، أن الولايات المتحدة تشكل مصدر جذب ثقافي، وأن بعض الأشخاص—وهم النخبة على الأغلب—يعارضون ذلك. لكن أمعن النظر في الجنون الذي عصف بالعالم أكمله في الساحر الإنجليزي الصغير هاري بوتر، أو الولع الذي سيطر على أطفال السبع سنوات في شتى أرجاء العالم حول العالم ألا وهو ظاهرة (بوكمون) اليابانية. كذلك في صناعة افلام (أنيم) اليابانية، و( بولي وود) الهندية، ومساهمات أخرى من ثقافات غير أمريكية، كل منها تسهم في إثراء كل واحد فينا. وغني عن الذكر الطعام التايلندي، أو القدرة على الاستماع إلى الأغاني المسجلة فعلياً بجميع اللغات المحكية في العالم. لو تم إبقاء الثقافات منغلقة بإحكام وغير متغيرة، فإنها تتوقف عن كونها ثقافات بشرية وتصبح عروضاً في متحف. العولمة تثري ثقافياً.
 العولمة تخلق عدم المساواة:

إن أسباب نهوض أو تراجع عدم المساواة معقدة، لكن هنالك حقيقة جوهرية للادعاء بأن العولمة تسبب عدم المساواة: إن فجوة الثراء بين البلدان ذات الأنظمة الاقتصادية المنغلقة والبلدان ذات التجارة الحرة تستمر بالنمو. ليست تلك هي اللامساواة التي يفكر بها معارضو العولمة. ففي الدول التي فتحت أنظمتها الاقتصادية للتجارة والاستثمار، نمت الطبقات المتوسطة مما قلل التباين في الدخل بدلاً من ازدياده.
فوائد العولمة
 العولمة تؤدي إلى السلام من خلال تقليص بواعث الصراع:

إن سياسة حماية الانتاج الوطني مبنية على الذهنية وبالتالي على مجموعة من السياسات التي تقوي المصالح المتعارضة بين الأمم. أما التجارة الحرة، فعلى النقيض من ذلك، تربط الشعوب معاً في سلام. هناك مثل قديم يقول: “عندما تعجز البضائع عن عبور الحدود، فلا بد أن تعبرها الجيوش.”
 التجارة تخلق الثراء:

تخيل أن أحدهم اخترع آلة تسمح لك أن تدفع من خلال بابٍ ما أشياءً تستطيع أن تصنعها بتكلفة قليلة، ومن خلال الباب الآخر تأتي أشياء ترغب في الحصول عليها لكنها تكلفك أكثر لأجل إنتاجها. يمكن للأستراليين أن يرعوا الغنم من إحدى الأبواب، وتأتيهم السيارات وآلات التصوير من الباب الآخر، وقد يدفع اليابانيون أجهزة (الفيديو) و(الستيريو) من باب ويسحبون النفط والقمح والطائرات من خلال باب آخر. إن مخترع تلك الآلة سيلقى ترحيباً كمُحسن للجنس البشري—حتى لو أظهر رالف نادر أو بات بيوكانن أنه كان… لاجئاً أو غريباً، ثم بدلاً من أن الترحيب به كمُحسن، سيذم ذلك “المخترع” بوصفه مدمر للوظائف، بالإضافة إلى ذلك، سيكون مضاداً للوطن. لكن ما الفرق بين تلك الآلة المدهشة والتجارة؟
 التجارة تؤدي إلى منافع للجميع:
إن الخطأ الأكثر شيوعاً لدى ما يرتكبه أصحاب مذهب حماية الإنتاج الوطني هو الخلط بين الفائدة المطلقة والفائدة المقارنة. حتى وإن كان الشخص الذي يجلس أمامي أفضل مني في كل شيء، فإن كل منا سيستفيد من التجارة إذا ما تخصص هو في العمل الذي يجيده وتخصصت أنا في العمل الذي أجيده. ينطبق المثال القديم للطابعي والمحامي في الخارج كما ينطبق داخل المكاتب: يستطيع المحامي أن يكتب الموجزات القانونية وأن يطبع بشكل أفضل من كاتب الطابعة، لكنهما يستفيدان الاثنان من تخصص المحامي في كتابة الموجزات القانونية، بتكلفة أقل من منظار نتاج الطباعة الضائع، أما طباعتها من قبل كاتب الطابعة فهي ذات الكلفة الأقل مقارنة بالمرافعات القانونية الضائعة، بما أن الطابعي أفضل في الطباعة منه في المرافعات القانونية. وبذلك يرتفع مجمل الإنتاج، فيتلقى كل منهما دخلاً أكثر. وهذا أحد الأسباب التي تجعل التجارة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسلام. ولأن الناس يرون الأشخاص الآخرين على أنهم شركاء لهم في علاقة تعاونية ذات منفعة متبادلة، وليسوا خصوم لدودين، لذا فإن وجود المجتمع الانساني ممكن في الدرجة الأولى. وتقع التجارة في صلب قاعدة الحضارة الإنسانية.
 التجارة الحرة هي أسرع الطرق للتخلص من تشغيل الأطفال:
هناك أكثر من 250 مليون طفل من مختلف أرجاء العالم ممن يزاولون أعمالاً. وقد تناقصت هذه النسبة—لم ترتفع—مع نهوض التجارة والعولمة لأسباب واضحة جداً. فالبلدان الفقيرة ليست فقيرة لأن الأطفال يعملون فيها. بل إن الأطفال يعملون لأنهم فقراء. عندما يصبح الناس أغنياء من خلال الإنتاج والتبادل الحر فإنهم يرسلون أطفالهم إلى المدارس عوضاً عن الحقول. فالتجارة الحرة هي أسرع الطرق للتخلص من عمالة الأطفال واستبدالها بتعليمهم.
 التجارة والإنفتاح والعولمة تدعم الحكومة الديمقراطية المسؤولة وسيادة القانون:
مع سقوط الحواجز التجارية، فإن نسبة حكومات العالم التي يصنفها “بيت الحرية” على أنها ديمقراطيات قد ارتفعت. من بين أعلى 40% من الحكومات التي رتبت من حيث الانفتاح الاقتصادي في نشرة “الحرية الإقتصادية في العالم”—الصادرة عن معهد كيتو—صنفت 90% على أنها “حرة” وفقا لـ “بيت الحرية”. وبالمقابل، من بين أقل 20% من تلك الحكومات، أي تلك الأكثر انغلاقاً اقتصادياً، صنفت 20% منها على أنها “حرة” بينما صنفت أكثر من 50% منها على أنها “غير حرة”. تعتبر المكسيك مثالاً جيداً في هذا المجال، فانفتاح الإقتصاد المكسيكي من خلال اتفاقية التجارة الحرة لدول أمريكا الشمالية جعل فوز الرئيس فنسنت فوكس ممكناً، وكسر احتكار السلطة من قبل الحزب الثوري المؤسساتي. لا بد لمؤيدي الحكومة الديمقراطية المسؤولة وسيادة القانون من دعم العولمة.
 التجارة الحرة هي حق أساسي للإنسان:
بدأ معارضو العولمة وأصحاب مذهب حماية الإنتاج الوطني بالإدعاء بان لهم الحق باستخدام القوة لإيقافنا أنا وأنت من الإنخراط في التبادل الحر. ولكن الحقوق الأساسية يجب أن تكون متساوية لجميع البشر، والحق في التعاطي بالتجارة هو حق رئيسي وعمل يتمتع به الجميع بغض النظر عن الجهة التي يقيمون عليها من الحدود. فالتجارة الحرة ليست امتيازاً، وإنما هي حق للإنسان. التجارة نشاط إنساني مميز، وهي تميزنا عن سائر الحيوانات الأخرى، وترتكز على ملكة المنطق والمعقول وعلى قدرتنا على الإقناع. وكما أشار آدم سميث في محاضرة ألقاها في 30/آذار/1763: “إن عرض القرش (الشلنغ) الذي يبدو لنا أنه يتمتع بمعنى واضح وبسيط، هو في الواقع اقتراح للمناقشة لإقناع الشخص لعمل كذا وكذا على أنه لصالحه”. كما بيّن أنه من الممكن أن تتعاون الحيوانات الأخرى ولكنها لا تتاجر؛ لأنها لا توظف المنطق والمعقول في الإقناع.
فالتجارة ليست نشاطاً إنسانياً مميزاً فحسب، بل هي أيضاً صفة مميزة للتحضّر كما لاحظ هوميروس في الأوديسه. ففي الكتاب التاسع عندما يخبر أوديسيوس بالوصول إلى أرض السايكلوبس (جنس العمالقة) يعرض بعض الأفكار ليبين لماذا يعتبر السايكلوبس وحشاً غير خاضع لسيطرة القانون. فيلاحظ أوديسيوس:
ليس لدى العمالقة سفناً ذات أقواس قرمزية
وليس لديهم نجارين ليصنعوا سفناً متقنة
يمكن لهم الإبحار بها نحو موانئ غريبة
مثلما يركب معظم الرجال مخاطر البحار للتجارة مع رجال آخرين

إن السايكلوبس همجي لأنه لا يتاجر ويعيش في العالم الذي يفضله معارضو العولمة، أي عالم بلا تجارة، عالم فيه الإنتاج كله محلي.
إن مبدأ حماية الإنتاج الوطني يجب أن لا يُرفض لمجرد أنه ليس فاعلاً فحسب، بل يجب أن يُرفض لأنه يؤدي إلى الصراع والحرب، فهو لا أخلاقي و بعيد عن التحضّر.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 2 كانون الثاني 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

إن الزيارة الأولى للمختص بشؤون الاقتصاد الغربي إلى أمة اشتراكية لهي تجربة مدهشة حقاً. فالانطباعات الأولى التي يكوّنها الفرد أشبه بتلك التي تتكون من زيارة الأقاليم الأكثر فقراً في أنظمتنا الاقتصادية—أوطأ المستويات الممكنة من الراحة، والصحة، والظروف البيئية التي يمكن أن تعيش فيها المخلوقات. وعلى كل حال، سيكون من الخطأ أن نبيّن الفروقات بين اقتصاد السوق وبين الاقتصاد الاشتراكي من خلال الظروف التي تفسر الفروقات عبر الزمن أو الفروقات بين الأقاليم من حيث القدرة الإنتاجية ومعدل الدخل في ضوء نظام اقتصاد السوق.
على سبيل المثال، كثيراً ما يكون خبير الاقتصاد الذي يدرس نظام اقتصاد السوق ميالاً للتركيز على الفروقات في المهارات البشرية، والاستثمار الخاص والعام، والموارد الطبيعية، ومقدار التغير أو الفروقات الصغيرة في سياسة الحكومة. فقلما نميل إلى دراسة المؤسسات الأساسية لاقتصاد السوق، لأنها لا تتغير إلا بالتدريج عبر الزمن ولأنها واحدة ومعروفة في كافة أرجاء الأمة. والحق أن معايير تدريب خريجينا في علوم الاقتصاد نادراً ما تذكر هذه المؤسسات، وهناك القليل من علماء الاقتصاد ممن لديهم فهماً عميقاً لأهميتها.
إن الفروقات الأكثر أهمية بين نظام اقتصاد السوق والنظام الاشتراكي هي على أي حال الفروقات الأقل ظهوراً أو قابلية للقياس في هذه المؤسسات الأساسية. لست مختصاً بالنظم الاقتصادية الاشتراكية، لذا فإن فهمي للاقتصاد السوفييتي فهماً ثانوياً منقولاً. وعلى كل حال، فإن الصلاحيات المنقوصة في النظم الاشتراكية في السنوات العديدة الماضية قادتني إلى التفكير في المؤسسات الأساسية، أو “البنية التحتية الخفيفة” لنظام اقتصاد السوق والمقالة الحالية تمنحني فرصة إشراك الآخرين في أفكاري بطريقة منظمة.
النظام القانوني
النظام القانوني هو واحد من ثلاثة مؤسسات أساسية في نظام اقتصاد السوق. وعلى وجه التحديد، يعتمد اقتصاد السوق على منظومة تجارية شاملة ونظام من المحاكم التجارية للبت في النزاعات. وتتضمن المنظومة الحديثة قوانين لها علاقة بالمُلكية، والعقود، والأضرار، وتلك القوانين المختصة بالعديد من الأنواع الرئيسية للمشاريع التجارية. ولأجل أن يكون هذا النظام فاعلاً بشكل تام، يجب لحقوق الملكية أن تكون:
 حصرية: لتوفير عنوان واضح للصلاحية باستخدام أو بيع بعض الحقوق المحددة.
 منقولة أو قابلة للتحويل (يمكن بيعها): للسماح بتبادل السوق لبعض الحقوق المعينة.
 قابلة للتجزئة (يمكن تقسيمها): للسماح بفصل أحد الحقوق المعينة عن مجموعة الحقوق.
 واسعة (شاملة): للسماح للسوق بتبادل كافة الموارد القيِّمة، وهو شرط ضروري لتجنب إساءة استخدام “مجموعة الموارد العامة” وهي سمة مميزة للمشكلات البيئية.
في الواقع، إن الاقتصاد السياسي لأمة ما يعرّف من خلال طبيعة وتوزيع هذه الحقوق. إن المبدأ المميز لاقتصاد السوق هو أن أي تغيير في توزيع الحقوق لابد له من أن يحصل على موافقة جميع هؤلاء الذين يملكون الحقوق المتأثرة بذلك التغيير.
كثيراً ما يتردد عالم الاقتصاد الأمريكي أو يتحفظ على الاستنتاج بأن أية أمة قد تكتفي بالقليل من المحامين. إن جيش المحامين الذي لدينا يكاد يضاهي في حجمه حجم الجيش الأمريكي الحقيقي ويكاد يكون بخطورته. أما الأنظمة الاقتصادية الاشتراكية فتحتاج بوضوح إلى توسيع وتحسين منظوماتها التجارية. وربما يكون المثال التالي مفيداً في هذا الخصوص.
على الرغم من أن معظم المُلكية في الاقتصاد الاشتراكي مملوكة للدولة إسمياً، كثيراً ما لاتضح ما إذا كان العمال، أو المدير المحلي، أو بعض المسؤولين الحزبيين، أو الوزير ذو العلاقة، لديهم الصلاحية لبيع الملكية ومن هو الذي يستلم الأرباح أو العائدات. لقد خلق هذا الغموض بعض الحالات التي تكون فيها شركتين قد اشترتا نفس الملكية من مسؤولين مختلفين، دون عملية واضحة للبت في خلافات حق المُلكية. إن عملية الخصخصة المهمة، والمعقدة بالضرورة، ستتعرض إلى تقويض تام إذا ما كان عموم السكان ينظرون إلى التوزيع الأوّلي من المبيعات على أنه غير عادل. إن التأكيد القوي لحق المُلكية الواضح من قبل الدولة قد يكون الخطوة الضرورية الأولى، وربما الساخرة بعض الشيء، للوصول إلى خصخصة فاعلة.
في بعض الحالات، يمكن ان تُمنَح بعض الحقوق للمزارعين أو المساهمين لاستخدام مُلكية والانتفاع بها دون الحق في بيعها. كثيراً ما يقود هذا الموقف إلى إدامة غير كافية للمُلكية، ويتجلى ذلك بشكل واضح للغاية في التجربة اليوغسلافية. وفي الحالات الأخرى، تُمنح الحقوق بالجملة، كمجموعة، ولكن دون صلاحية لبيع بعض الحقوق للآخرين. ويقود هذا الموقف الى التقليل من فائدة هذه الحقوق المعينة التي لا يكون المالك مؤهلاً او مخوّلاً لاستخدامها. في كل الأمم، تكون شركات الدولة هي المتجاوز الأسوأ والأفظع على البيئة، وذلك لأن الحكومات قد قامت بإعفاء هذه الشركات من بعض القضايا القانونية أو من الإجراءات التي تنطبق على الشركات الأخرى.
كما أن التمعن في النظر للاقتصاد السوفييتي سيقدم أمثلة أكثر دون شك. إن نقطتي الأساسية هي أن العديد من المشكلات الظاهرة للعيان في النظم الاقتصادية الاشتراكية يمكن تقليلها من خلال توسيع وتحسين منظوماتها التجارية. على الاتحاد السوفييتي أن لا يحاول استنساخ المنظومات التجارية الغربية؛ إذ أن المنظومة الأمريكية على وجه الخصوص معقدة وتحتوي على الكثير الكثير من الدعاوى القضائية. رغم ذلك، هنالك فرصة نادرة للتعلم من نجاحاتنا ومشكلاتنا على حد سواء. لقد تعهد الرئيس غورباتشوف باستعادة حكم القانون في الاتحاد السوفييتي. لن تتم هذه المهمة أو يكتب لها النجاح حتى يجري توسيعها لتشمل كل النطاق الواسع للحقوق والعلاقات الاقتصادية.
نظام المحاسبة

أما المؤسسة الأساسية الثانية في اقتصاد السوق فهي نظام المحاسبة. إن اقتصاد السوق، على وجه الدقة، يعتمد على الاستخدام الواسع لمجموعة عامة من القواعد الحسابية المالية وعلى نظام مستقل من تقارير الكشوفات أو التدقيقات المالية. والتقريران العامّان هما ورقة الموازنة (وهي تصريح بقيمة موارد أو أصول الشركة المالية ومسؤوليتها القانونية عند نهاية الفترة السابقة)، وورقة تصريح بالأرباح أو العائدات المالية (وهي سجل بالإيصالات والنفقات المستهلكة خلال تلك الفترة). وهذان التقريران، إضافة إلى المعلومات الداخلية، يستخدمان من قبل مدراء ورؤساء أقسام الشركة لتحديد النفقات والفوائد لبعض المنتجات المحددة والأداء المالي للأقسام المكونة للشركة. والأكثر أهمية من ذلك، أن هذين التقريرين يتمتعان بأهمية ملحة للبنك أو الشركة الأخرى التي تفكر في منح قرض للشركة أو أن تستثمر فيها. لقد تطورت القواعد الحسابية والكشوفات أو التدقيقات المالية كثيراً خلال السنوات العديدة الماضية ولكنها ليست بدرجة الكمال، ولكن لا يستطيع المرء أن يتصور اقتصاد السوق دون نظام محاسبة من السجلات المالية.
وعلى كل حال، فقد كانت محاوراتي مع أصحاب المبادرات التجارية الغربيين الذين فكروا بالانضمام في مشاريع تجارية مع شركات اشتراكية تدل على أن حسابات تلك الشركات كانت عديمة القيمة تقريباً، إما بسبب الإدارة الداخلية أو المراقبة الخارجية. ففي معظم الأمم الاشتراكية، تكون جميع حسابات شركات الدولة مصممة ومستمرة لتوفير الطلبات البياناتية (المعلوماتية) لنظام الدولة التخطيطي التي لا يمكن إشباعها. إن معظم هذه البيانات مرتبط بالتدفقات أو المنتجات المادية وهي قليلة الفائدة في تقدير الكُلف والفوائد لبعض المنتجات المعينة، أو الوضع المالي للشركة، حتى وإن كانت أسعار المدخلات والمخرجات قريبة من معدلات السوق. في الواقع، لقد اخبروني أن أوراق الموازنات للعديد من شركات الدولة لا تحتوي على مقياس للقيمة الحقيقية. وفي زمن مبكر وأكثر براءة، كان يتوقع من الحواسيب الالكترونية (أجهزة الكومبيوتر) أن تحل مشكلات معالجة جمهرة البيانات للاقتصاد الاشتراكي. وعلى كل حال، فان مشكلات الاقتصاد الاشتراكي ليست نابعة من نقص في البيانات، بل إن النظم الاقتصادية الاشتراكية مغرقة في البيانات، المشكلة هي أن هذه البيانات تغطي أو توصل معلومات ذات علاقة قليلة جداً.
من أهم إيجابيات أو فوائد اقتصاد السوق هي أنه يقلل تدفق المعلومات الضرورية، طالما كانت الأسعار توصل أو تغطي معظم المعلومات الضرورية لتنسيق الفعالية الاقتصادية بين الشركات والمستهلكين. والنظام المحاسبي المالي بدوره يوفر المعلومات اللازمة لمديري الشركة ليستجيبوا بشكل صحيح لأسعار السوق للمدخلات والمخرجات. إن برنامجاً كبيراً في تدريب المحاسبين الماليين سيكون من بين الاستثمارات ذات أعلى العائدات في الاقتصاد السوفييتي.
المواقف الثقافية
أما المؤسسة الثالثة لاقتصاد السوق فهي منظومة المواقف الثقافية. مرة أخرى، هذه مؤسسة يتعامل معها الاقتصاديون الغربيون كما هي عليه، ونتيجة لذلك لم يفهموا أهميتها. ربما أحسن الليبرالي الألماني ويلهيلم روبكي التعبير عن أهمية المنظومة المحددة من المواقف الثقافية عند استنتاجه:
“طالما أن التبادل الاقتصادي المكثف والموسع لا يمكن أن يتواجد أو أن يبقى طويلاً دون حد أدنى من الثقة الطبيعية، والثقة باستقرار ومصداقية الهيكل القانوني-المؤسساتي (بما في ذلك النقود)، والالتزام التعاقدي، والنزاهة واللعب النظيف، والصدق المهني، وذلك الكبرياء الذي يجعلنا ندرك أن لاشيء يستحق أن يجعلنا نغش، أو نتعامل بالرشوة، او نسيء استخدام سلطة الدولة لأغراض خاصة.”
أما الشرط الوحيد الذي يميز اقتصاد السوق عن البازار الشرقي على أفضل ما يمكن فهو الرغبة المتبادلة للعلاقات المتواصلة. لقد تعلمت هذا الدرس متأخراً. وبصفتي رئيس الخبراء الاقتصاديين لشركة جنرال موتورز، استغربت لمعرفتي أن فورد استطاع أن يحقق مليارات الدولارات من المشتريات لمدة سنة كاملة من المجهّزين الاعتياديين عبر الهاتف بهياكل عقود فقط وبعض الجدالات التعاقدية. إن الرغبة المتبادلة في العلاقات المستمرة هي التي عززت أداء كافة الأطراف في كل عملية تداول أو تعامل تجاري. وفي أي وقت يتوقع فيه قيام أي طرف بإنهاء العلاقة، أو أنه يتوقع من الطرف الآخر أن ينهي العلاقة، فإن النظام الأوّلي المتبقي في التعامل الحالي هو قيمة سمعة الشركة أمام الأطراف الأخرى ، وليس حماية للعقد الرسمي. ولم يكن التعاقد موسعاً ومثيراً للجدل سوى عندما قامت فورد بمشتريات كبرى دون توقع أية علاقة مستقبلية. إن المواقف الثقافية التي تسهم في “تطور التعاون” هذا ثابتة وبسيطة: ألا وهي الالتزام بالتبادل (وليس التهديد) كوسيلة أساسية لتنسيق أي نشاط اقتصادي، والالتزام الذاتي بترك شيء ما على الطاولة للطرف الآخر في كل تعاقد أو تباحث تجاري، واللجوء الى سلطة الدولة فقط لتنظيم الخروقات الإجمالية أو المتكررة للعقد ليس إلا.
كان روبكي مدركاً تماماً للمواقف الثقافية اللازمة لاقتصاد السوق. إلا انه لم يسهب أو يتوسع في تلك المواقف التي من شأنها أن تدمر أو تمنع قيام اقتصاد السوق. من المواقف الأكثر تعارضاً مع اقتصاد السوق هي حالة الحسد العميقة والسائدة. يستطيع المجتمع أن ينجو من الروح الأنانية أو الفردانية الطاغية؛ والحق أن اقتصاد السوق يعتمد عليها، ولكنه، على أي حال، لا يستطيع ان ينجو من غريزة التساوي—أي القلق من أن جارك أو زميل دراستك السابق قد يكون أفضل منك على صعيد العمل. على المرء أن لا يستغرب من أن كافة التقاليد الدينية الرئيسية والأعراف تعتبر الحسد أو الجشع أو الكراهية إثماً كبيراً. الحسد حالة بشرية، ولكنها الأكثر ضرراً بالمنظومة الاجتماعية. فالحسد، إذا ما اقترن بتآكل القيود الدستورية على السلطات الحكومية، قد أضعف نظم اقتصاد السوق الغربية، وعلى نحو مطرّد. وقد يحول الحسد دون تطوير نظم أكثر استقراراً لاقتصاد السوق في بعض الأمم الاشتراكية الحالية. يزعجني أن أسمع في الحكايات الشعبية الروسية عن بعض الفلاحين الذين صلّوا لله ليس لأجل حصاد وفير مبارك، أو قطيع وفير، بل لأجل أن تحترق غلّة جيرانهم أو أن يموت قطيع ماعزهم. وكما لاحظ روبكي، فمن المهم جداً “عدم إساءة استخدام سلطة الدولة لأغراض خاصة.” كما لا يجوز إساءة استخدام سلطات الحكومة كأدوات للحسد.
الخلاصة
وباختصار، فالمؤسسات الثلاثة الرئيسية—اللازمة للبنية التحتية الخفيفة—في اقتصاد السوق هي النظام القانوني، ونظام المحاسبة، والمواقف الثقافية. وقد تجنبت عن قصد تصنيف اهمية هذه المؤسسات الثلاثة. إن هذه المؤسسات اذا ما اجتمعت سوية، فهي أشبه بكرسي بثلاثة أرجل، حيث أن أي ضعف أو قصر في إحداها، سيقلل من استقرار الكرسي الى حد كبير. إن الاستثمار الفردي أو استثمار الدولة في هذه المؤسسات الثلاثة أكثر أهمية من العناصر الأخرى للبيروسترويكا الراديكالية؛ في الحقيقة إن هذه المؤسسات الثلاثة ضرورية لنجاح الإجراءات أو التدابير الأخرى.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 2 كانون الثاني 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018