العلاقات الجيو-إستراتيجية والسياسية الدولية

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

لقد أصبحت إيران في المرحلة الأخيرة نقطة التركيز الأساسية بالنسبة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.  فوضع إيران و على الأخص منذ منتصف العقد يلخص كل المسائل، فقد ارتفع نفوذها الإقليمي وأصبح لها مواقع على جبهة الصراع العربي الإسرائيلي، كما أن برنامجها النووي يكاد أن يتحول من حلم إلى حقيقة.  من جهة أخرى تعتبر إسرائيل إيران العدو الأول  والأخطر عليها وذلك بسبب تطور نفوذها الإقليمي و طبيعة نظامها المتصادم مع السياسة الإسرائيلية والأمريكية، لكن أكثر ما يقلق إسرائيل هو البرنامج النووي الإيراني، فهذا البرنامج بالنسبة لإسرائيل يغير موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط.  إن التوجهات النووية الإيرانية ستؤدي لمسألتين: الأولى كسر احتكار إسرائيل للسلاح النووي في الشرق الأوسط( والتي تمتلك بحدود ٢٠٠ رأس نووي) والثانية تحقيق توازن وردع بين إسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى.
وتشير المعلومات التي تترد في الأوساط المقربة من الإدارة الأمريكية في العاصمة الأمريكية أن إيران توصلت عام ٢٠٠٨ لصنع قنبلة نووية، لكنها تمهلت ولم تقم بعبور النقطة الحمراء تفاديا لازمة كبرى. أي أن إيران لم تقم بوضع اللمسات الأخيرة على منتوجها الذري، وذلك لأنها لم تكن مهيأة لفتح معركة دولية كبرى حول قدراتها النووية. وتشير ذات الأوساط المقربة إلى أن قيام إيران بعدم اجتياز النقطة الحمراء خفف من الاحتقان عام ٢٠٠٨ مؤقتا، وعلى الأخص في الساحة الإسرائيلية التي تعتبر النووي الإيراني خطر وجودي بالنسبة لها. وتفسر هذه الأوساط التباطؤ الإيراني على انه تحضير لمفاجأة العالم بقدرات اكبر من مجرد قنبلة واحدة، فإيران لن تذهب للعلنية بوضعها النووي إلا إذا امتلكت أساس لا رجعة عنه وترسانة جاهزة متكاملة،  وهناك رؤية أخرى في الوسط الأمريكي ترى أن إيران تسعى لتحقيق كل أنواع التقدم والانجاز التكنولوجي نحو امتلاك قدرات نووية (النموذج الياباني) دون القيام بالتصنيع النهائي.
وليس غريبا أن إيران ذات الطابع الشيعي الجعفري وابنة الثورة الإسلامية قد سعت نحو القوة النووية، ففي التاريخ الإسلامي واجه الشيعة الكثير من الاضطهاد كما مثلوا على الدوام القوة الأساسية للمعارضة، وقد أدى هذا إلى نشوء حالة من غياب الأمان في المشاعر الشيعية الدينية والعقدية تعبر عن نفسها في طريقة استذكار مجازر التاريخ وحالات الاضطهاد. وبنفس المنطق ليس غريبا أن تسعى إسرائيل فور انتهاء حرب ١٩٤٨ لامتلاك القوة النووية انطلاقا من تجربة مرتبطة بحالة الخوف والاضطهاد التي عاشها اليهود عبر التاريخ وعلى الأخص في أوروبا. إن السعي النووي في الحالة الإيرانية ينم عن مشاعر خوف وقلق لها بعدها التاريخي كما ينم عن شعور إيراني مرتبط بموقع إيران ودورها وحضارتها، أما  السعي النووي الإسرائيلي فهو الآخر ينم عن مشاعر خوف عميقة مرتبطة بتاريخ  اليهود في أوروبا، لكنه ينم عن سعي إسرائيل لتبوأ موقع محدد في ميزان الشرق الأوسط والميزان العالمي يقوم على عقيدة القوة، لهذا ليس غريبا أن تكون أول دولة نووية في الإقليم هي إسرائيل وثاني دولة نووية في الإقليم هي إيران. إن هذه المقارنة تؤكد بأنه على العالم أن يتعامل مع النووي الإسرائيلي كما يتعامل مع النووي الإيراني. يجب أن تكون المعاملة متساوية بين إسرائيل وإيران من حيث الرفض أو القبول. هناك تناقض في السياسة الأمريكية يضر بمصداقيتها ويساهم في زعزعة الإيمان بعدالة القانون الدولي المراد الحفاظ عليه. هذا بالطبع يساهم في إفشال السياسة الأمريكية التي تركز على إيران وتتفادى التركيز على إسرائيل.
ومهما بدت الضغوط في هذه المرحلة على إيران فمن الواضح أن إيران تتمسك بقدراتها النووية ولا يبدو في المدى المنظور أنها تطرح الأمر للمساومة وان كان بإمكانها التأجيل والمرواغة لتحقيق مكاسب إستراتيجية.  إن التوصل لعقد اتفاق استراتيجي أمريكي إيراني لم ينضج بعد فالشروط الأمريكية تتصادم مع الشروط الإيرانية خاصة وان جزء من المطالب الأمريكية اتجاه إيران هي الأخرى حتى الآن مطالب إسرائيلية مرتبطة بإيقاف النووي وفصل التحالف الإيراني مع حماس وحزب الله  والقوى العراقية. هذا بالنسبة لإيران  تجفيف لقدراتها ونقاط قوتها بينما لا تتخلى إسرائيل والولايات المتحدة في الجهة المقابلة عن نقاط قوتهم.  إن  إيران تسعى  لانتزاع اعتراف أمريكي واضح بالمصالح الإيرانية في إطار الشرق الأوسط ومنطقة والخليج  وتسعى لنزع الاعتراف بالمصالح التجارية والاقتصادية والسياسية لإيران، ولكنها تسعى لوضع القوة الإسرائيلية في إطارها من خلال انتزاع عنصر التفوق الاستراتيجي الذي تتميز به. فإيران متصادمة مع إسرائيل عقديا، وسياسيا، وامنيا، وما حرب ٢٠٠٦ بين حزب الله وإسرائيل إلا دليل على عمق هذا التصادم الذي تعود جذوره إلى التعاون الوثيق بين نظام الشاه السابق وإسرائيل. وتتضمن السياسة الإيرانية بنفس الوقت تحقيق التزام أمريكي بعدم السعي لتغير النظام. بل على الأغلب أن سياسة عدم تغير النظام أصبحت أمرا مفرغا منه مع إدارة الرئيس أوباما.
وقد تجد إيران في حالة ازدياد الضغوط عليها أن المدخل لإيقاف الضغوط الدولية والتخلص من العقوبات الدولية التي فرضت عليها مؤخرا هو أن تعلن عن قدراتها النووية وتقوم بتفجير نووي. فوفق التجربة الباكستانية: بمجرد الإعلان عن تفجير نووي تغيرت المعادلة وسقطت الضغوط العالمية على باكستان دفعة واحدة.  إن إيقاف القدرات النووية الإيرانية أصبح متأخرا،  ستكون إيران الدولة النووية القادمة في العالم، وسيجعلها هذا الوضع قادرة على المقايضة والقبول بدرجة من الرقابة الدولية في ظل تحقيق مكاسب جديدة في منطقة الشرق الأوسط.
وبالرغم من تراجع آفاق الضربة العسكرية الأمريكية إلا أن آفاق المغامرة الإسرائيلية في ضرب إيران لم تختفي. إن معظم التقديرات تشير إلى أن إيران تجاوزت الحد الذي تستطيع من خلاله إسرائيل إيقاف برنامج إيران النووي بواسطة ضربة عسكرية. إن إسرائيل قد تقبل على مغامرات كبيرة بهدف توريط الولايات المتحدة المتورطة بالأساس في كل من أفغانستان والعراق. بنفس الوقت إن الضغوط الإسرائيلية وتحركات اللوبي تهدف لمحاصرة الرئيس أوباما وفرض خيارات قاسية عليه تتطلب مزيدا من العقوبات والضغوط على إيران. والصراع الإيراني الأمريكي هو في الأساس في جانب منه صراع إسرائيلي إيراني.
وفي نفس الوقت يصعب الحفاظ على حالة من الاتفاق بين الدول الكبرى في التعامل مع إيران. فقرار العقوبات الجديد  رقم ١٩٢٩الذي اقره مجلس الأمن في الشهر الماضي بموافقة الصين وروسيا استهدف أن لا تقوم الولايات المتحدة من جانبها وبصورة أحادية بفرض عقوبات على إيران. لكن قيام الكونغرس الأمريكي بعد  ذلك بتمرير قوانين أحادية الجانب تفرض العقوبات على إيران جعل الصين بالتحديد تشعر أنها خدعت في مجلس الأمن. فقد وقع تفاهم بين الصين والولايات المتحدة يمنع الولايات المتحدة من فرض عقوبات من جانبها بصورة مباشرة على إيران لقاء موافقة الصين على العقوبات في مجلس الأمن.  بمعنى آخر هناك شقوق في التحالف الدولي الراهن وحدود لاستمرار هذا التحالف خاصة مع الصين وهذا ما تعرفه إيران جيدا. ويعزز هذا وجود مصالح صينية كبرى مع إيران في مجال الطاقة وفي مجالات أخرى. كما أن انسحاب بعض الشركات العالمية والأوروبية من إيران بسبب العقوبات قد يساهم في جعل الصين تحقق مكاسب تجارية في إيران مما يمهد لصعود دور الصين كدولة كبرى في منطقة الخليج من الباب الإيراني أولا ثم من الباب العراقي مستقبلا.
إن العقوبات التي فرضت قبل أسابيع من خلال قرار في مجلس الأمن ستصيب الشعب الإيراني ولن تصيب النظام، وسوف تساهم في ضرب المعارضة الإيرانية وتقوية النظام وبالأخص الجناح اليميني فيه. هذا ما فعلته العقوبات في العراق وهذا ما قد تفعله في إيران في حال استمرارها. لكن الواضح أيضا أن إيران لن تقبل بعقوبات طويلة، وأنها ستسعى لاستخدام قدراتها في التأثير المضاد، لنتذكر جيدا أن إيران تمتلك المقدرة على التأثير على المعادلات من خلال كل من العراق وأفغانستان ومن خلال حاجة الولايات المتحدة لتأمين انسحابات وتهدئة، كما أنها تمتلك نسبة من المفاجآت في الملف النووي،  ولدى إيران  المقدرة على  تحريك جبهة الصراع العربي الإسرائيلي كما لديها، فيما لو تعرضت لاعتداء، قدرات لتحريك عجلة العنف والفوضى في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي. لهذا تمثل إيران قوة إقليمية تمتلك تاريخا وعمقا حضاريا كما ولديها قدرات رمزية ودينية وثقافية وحضارية وسياسية بإمكانها توظيفها في اللحظة المناسبة. إن السياسة الأمريكية بتناقضاتها المختلفة ساهمت عبر تغير النظام العراقي وإسقاط نظام طالبان في أفغانستان وعبر وضع كل ضغوطها السلبية بعد الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ في مواجهة كل من المملكة العربية السعودية ومصر في تقوية إيران والإسهام في صعود نفوذها.
تحاول الولايات المتحدة الآن تحجيم إيران بعد أن وجدت أن سياساتها أدت إلى ما أدت إليه.  هذا هو الطريق الخطأ للسياسة الأمريكية الذي سيؤدي لفوضى جديدة وتعميق للإرهاب، بل إن الطريق الصائب هو ذلك الذي يتعامل جديا مع الصراع العربي الإسرائيلي بصفته الأساس الذي يساهم في تفجير حروب وكوارث المستقبل. أليس امتداد إيران لجنوب لبنان ولسوريا ولغزة وربما غدا للضفة الغربية مرتبط بوجود صراع عربي إسرائيلي واستيطان إسرائيلي وتهديد يومي للقدس وحصار دائم على غزة؟  المشكلة الأساسية في القدس قبل أن تكون في طهران وواشنطن.
المصدر: الحياة
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
© منبر الحرية،19 غشت/آب 2010

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

تمثل سياسة إيران الخارجية دائما إشكالية سواء على المستوى التحليلي أو على المستوى العملي، وهو ما سبب إرباكا حقيقيا للمتعاملين معها، ومرد ذلك أن طهران لا تتحدث بصوت واحد، وأن ثمة معسكرين في إيران يتداولان تلك المسألة، فضلا عن طبيعة سياستها الحذرة والمعقدة.
والسياسة الخارجية هي تلك “السياسة التي يتم بها تنظيم علاقات الدولة ونشاط رعاياها مع غيرها من الدول، وتهدف إلى صيانة استقلال وأمن وحماية مصالحها، ووضع مبادئ وأهداف السياسة الخارجية هي من مسؤوليات القادة العليا للدولة”. وتتكون السياسية الخارجية لأية دولة من الوسائل التي تختارها لتحقيق أهدافها في حلبة السياسة الدولية. وعليه فإن السياسة الخارجية هي تصور وأداء لدور وطني معين.
ويلاحظ في الآونة الأخيرة، وبخاصة بعد سقوط النظام العراقي، تصاعدا في النفوذ الإقليمي لإيران، فهي تقبع على موقع  جيوبوليتيكي متميز قدم لها فرصة كبيرة في استثماره لجهة الدفع بمشروعها التوسعي الدفاعي والهجومي في نفس الوقت، بيد أنه، أي الجيوبولتيكي الإيراني، جعلها أيضا عرضة للمخاطر في منطقة تتسم بالتوتر واللاستقرار.
وعليه، تحاول إيران أن تستغل ما لديها من أوراق تؤهلها في بسط نفوذها داخل محيطها الإقليمي، بغية لعب دورا قياديا، يعكس قدراتها وإمكانياتها الحقيقية، وثقلها الحضاري والتاريخي، وإحساسها بالرسالة. وهذا ما يعتبر إحدى الإشكاليات التي واجهت إيران في سياستها الخارجية، حيث راوحت سياستها بين المثالية (العقائدية) والواقعية، بين القول والفعل. بالإضافة إلى أنها بلد نامي تفتقر إلى الإمكانيات الكافية لتنفيذ دورها الطموح، لاسيما أن هذا النفوذ الإقليمي جاء في كثير من الأوقات على حساب التنمية الإيرانية الداخلية واحتياجات المجتمع الإيراني، بخاصة في ظل الحصار المضروب عليها، فضلا عن الاحتجاجات الداخلية المعارضة لسياسة إيران الخارجية الطموحة ذات الكلفة العالية، وبخاصة تدخلها في لبنان والعراق وفلسطين وغيرها من المناطق والأقاليم الأخرى، حيث استنفذ ذلك من مواردها. وبالتالي لابد للدولة أن يكون لها إستراتيجية لسياستها الخارجية متوائمة مع واقعها وقوتها ووزنها الحقيقي، وإلا أصبحت سياستها الخارجية وحركتها الدولية مجردة إلى حد كبير من عوامل الفاعلية. إن أي خلل في هذا التوازن بين قوة الدولة الشاملة وسياستها الخارجية يؤدي إلى نتيجتين: الأولى، أن تكون السياسة الخارجية مجردة من الفاعلية إلى حد كبير. والثانية، أن تكون قوة الدولة غير مستغلة تماما في سياستها الخارجية.
تأسيسا على ذلك، ثمة مجموعة من القضايا تنال الأولوية لسير الدول في سياستها الخارجية، وهي تمثل الأهداف الحيوية:  الأمن، حفظ الذات، والاكتفاء الاقتصادي، والنفوذ والهيبة القوميين، ومحور السياسة الخارجية هو تقرير أفضل السبل التي يمكن اتخاذها لدفع هذه الأهداف إلى الأمام، وهي الأهداف التي تنصب عليها السياسة الخارجية الإيرانية. إذ تصاغ خيارات السياسة الخارجية على ضوء الموارد المتاحة، للوصول إلى الأهداف والخيارات المختارة. وفي بعض الأوقات تؤكد سياسة الدولة الخارجية على واحد أو أكثر من الأهداف هذه على حساب الأهداف الأخرى.
على ضوء ذلك يمكن أن نقيم السياسة الخارجية الإيرانية، بالرغم أن الأهداف الحيوية هذه تعتبر مفاهيم عامة بحاجة لتحويلها إلى خطوات إجرائية كمية. ومن هنا ندرك مدى الصعوبات التي تواجه أية محاولة لتقييم السياسة الخارجية الإيرانية. فمثلا إذا لجأنا إلى معيار الأمن، الذي يشكل بدوره  أبرز قضايا السياسة الخارجية الإيرانية الحرجة، ويعتبر بحق الأكثر إلحاحا لدى الطبقة الحاكمة الإيرانية ذات المصالح السياسية والاقتصادية الواسعة، وقيمنا سياستها بناءً على هذا المعيار نطرح السؤال التالي:  هل استطاعت إيران أن تحقق أمنها القومي ؟  و ما هو المحدد الرئيس الذي من خلاله يمكن الحكم على نجاح أو فشل  السياسات الأمنية لإيران ؟  تحت أي معيار يمكن أن نجيب على ذلك؟ هل حفظ الذات وكيان الجماعة القومية وضمان بقائها ككيان مستقل هو المعيار؟ أم الحفاظ على الطبقة الحاكمة وضمان بقائها في الحكم؟ أم  استمرار وديمومة النظام؟ أم التحرر من العدوان؟ سنجيب على هذه التساؤلات في متن هذه الدراسة من خلال المحددات التالية:
أولا، المحدد الأمني:
تبنت إيران سياسة خارجية ثورية منذ 1979 إذ كانت الطبقة الحاكمة آنذاك محملة برؤية مسبقة تجاه العالم الخارجي انعكست على سياستها الخارجية، جرّت هذه الرؤية عاصفة محملة بعزلة دولية ونظرة سلبية تجاه إيران. إلا أن مع نهاية الثمانينات من القرن الماضي وبداية عقد التسعينات، بدت إيران أكثر واقعية في سياستها الخارجية، لاسيما مع صعود التيار الواقعي. إثر ذلك سعت إيران إلى إعادة هيكلة علاقاتها الإقليمية والدولية مع الاحتفاظ بثوابتها الإستراتيجية، وانتقلت من الدور الثوري في عهد الخميني، إلى الدور المتوازن إذ ركزت على الدبلوماسية الهادئة والتوازن في علاقاتها الخارجية، وحاولت أن  تجمع بين القوة الصلبة والناعمة، بعيدا عن إثارة الحساسيات، بهدف إعادة بناء ما دمرته الحرب العراقية- الإيرانية. رغم ذلك استمرت دول الجوار تقابل كل سياسة إيرانية بنظرة يكتنفها الشك والحذر الشديد.
أما بخصوص علاقتها مع واشنطن، تمكنت الأخيرة من خلقِ نفوذٍ سياسي وعسكري في الشرق والجنوب والشمال وبعض مناطق الجبهة الغربية لإيران،  في كل من أفغانستان والمحيط الهندي وجمهوريات أسيا الوسطى والخليج وتركيا، وأخير العراق، وبالتالي إحكام الحصار الأمريكي على إيران، ولفق طوق أمني وسياسي وعسكري حولها، بغية عزلها وإبعادها عن أية ترتيبات في محيطها الإقليمي، إذ ” تشير متابعة السياسة الإيرانية خلال فترة ما بعد الخليج إلى أن هذه السياسة تشهد حالة من الذعر والتوجس من احتمالات تعرض إيران لضربات عسكرية أمريكية أو أمريكية-إسرائيلية”.
هذا البيئة المضطربة جعلت إيران تستحوذ عليها فكرة استهدافها عسكريا في إطار ما تسميه واشنطن بـ” محور الشر” . ولولا مأزق أمريكا في العراق وأفغانستان لفتحت جبهات أخرى ربما كانت إيران إحدى هذه الجبهات. ومع ذلك،  ورغم العداء التاريخي بين الطرفين، إلا أنهما لم يصلا حد التناقض الذي لا يمكن أن يتعايش كلاهما معه بحيث يدفع ذلك إلى حرب طاحنة يقضي أحدهما على الآخر، أي أن الواقع التاريخي لتطور العلاقات الأمريكية-الإيرانية يقول إن الطرفين استطاعا أن يتعايشا في رحم تناقضاتهما وإبقاء الأخير كامن.  وبالتالي أستطيع أن أقول: إن سياسة إيران الخارجية استطاعت أن تحافظ على كيانها القومي وحفظ ذاتها واستمرار الطبقة الحاكمة في الحفاظ على وجودها وهيمنتها على النظام.
ومع ذلك  فرغم هذا النجاح النسبي في سياستها الأمنية، إلا أن إيران  ما تزال في علاقتها الإقليمية والدولية ينتابها عدم ثقة عميقة، حيث تواجه 15 دولة جوار يغلب على تفاعلاتها سمة التوتر، تجعل إيران والأطراف الإقليمية والدولية في حالة شك دائمة، وهذا بالتأكيد سوف ينعكس على فاعلية سياسة إيران الخارجية، وهو ما يعتبر إخفاقا نسبيا في سياستها الأمنية مما يجعل نجاحها الكامل أمرا مشكوكا فيه، وبخاصة أن إيران ما انفكت تشعر بأنها مستهدفة من القريب والبعيد، وهذا ينعكس على رؤيتها للعالم بما يحول دون تفاعلها الايجابي والبناء، وهو ما له تداعيات سلبية على نظام سياستها الخارجية.  ولعل العزلة والتهديد الموجه ضد طهران جعلا التفكير السياسي الإيراني القائم على المؤامرة ربما يمثل القوة المحركة وراء محاولة الحصول على السلاح النووي. وجدير بالملاحظة أن التهديدات والحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على إيران، فرضا على الأخيرة التركيز على سلامتها ووحدتها الإقليمية وأيقظت وعي الإيرانيين والشعور بأهمية الوضع الإقليمي لإيران.
واستطرادا، لا تزال أنشطة إيران الخارجية تُقابل بنظرة من القلق والشك، لاسيما في العراق ولبنان وفلسطين واليمن ومعظم الدول العربية، ‏وهو ما يحول دون تجذر العلاقات الإيرانية- العربية. فتجذر هذه العلاقة يتطلب بناء مؤسسات مشتركة تؤطر تفاعلاتهما‏، وترعاها جهات نافذة ذات سلطان ونفوذ‏، حتى يتم التعامل مع هذه العلاقة باعتبارها جزءا من نسق علائقي كامل اقتصادي وثقافي وسياسي، عند ذلك يمكن أن تزال أزمة الثقة بين إيران وجوارها، وبخاصة أن إيران لم تقم بالجهد اللازم لتطمين هذه الدول.
لا يمكن لكل ذي عقل حصيف أن ينكر أن سياسة إيران الأمنية جعلتها طرفا لا يمكن تجاوزه في ترتيبات المنطقة الأمنية. وبالتالي فإن أي سياسة تحول دون دمج إيران في شبكة طبيعية من العلاقات الدولية والإقليمية، هي سياسة فاشلة وقصيرة الأجل. حيث  ترى المجموعة الأوروبية فرصة اقتصادية كبرى في المساعدة على تسوية الخلافات الأمريكية- الإيرانية. وعلى المستوى الداخلي في واشنطن أخذت شركات النفط والمؤسسات الاقتصادية الأخرى، بالإضافة لعدد متنام من الشخصيات السياسة الأمريكية، تنتقد واشنطن لفشلها في حل مشكلاتها مع إيران. وسعت دول عربية خليجية إلى تحسين علاقاتها مع إيران ورفض مشاركتها بأي عمل عسكري ضدها. ولكن يجب على دول الخليج  بخاصة امتلاك عناصر القوة الشاملة لجعل علاقتها مع إيران تقوم على التوازن حتى يمكن تطوير علاقات متوازنة ومنظومة أمنية متناسقة، لأنه بدون التوازن الاستراتيجي بين إيران ودول الخليج لن تنبني علاقات متوازنة بل ستكون علاقات مختلة لصالح الطرف الأقوى وهذا يؤدي إلى صراعات مدمرة وعدم استقرار وتوتر دائم.
إن الإستراتيجية الأمريكية المدعومة من الغرب والمؤيدة من قبل بعض الدول العربية التي ترى عزل إيران وتطويقها سوف يؤدي إلى ” تهدئتها” والى كبح جماحها، دفع السياسة الخارجية الإيرانية إلى مناكفة القوى المواجهة لها، وعدم الإذعان من خلال محاولات التخريب عليها والتهديد بضرب مصالحها. لعل ذلك هو ما دفع القوى الدولية إلى الاعتراف بالدور الإيراني في منطقة الخليج والى الاعتراف بإيران كقوة إقليمية لا يمكن تجاهلها. كما أن سياسة الحصار الأمريكي أضرت بالشركات الأمريكية نفسها من سياسة العقوبات. فوفقا لتقارير أمريكية فإن 670 شركة أمريكية تم منعها من التعاون مع دول من بينها إيران وهذه الشركات فقدت مصالحها في هذه الدول حيث تشير التقديرات إلى انه نتيجة سياسة العقوبات هذه فإن الاقتصاد الأمريكي يفقد سنويا 19 مليار دولار وهو الدخل الذي ذهب إلى الدول الأوروبية والشرق الأدنى وأوروبا الشرقية ونتيجة لهذا تبخرت إمكانية إيجاد 200 فرصة في الولايات المتحدة.
خلاصة ذلك،  رغم النجاح الذي حققته إيران في هذا الجانب الأمني، إلا أنه لا يمكن الركون إلى المعيار الأمني كمحدد رئيس للحكم على نجاح السياسة الخارجية، لأنه لو اعتبرنا أن حفظ المقومات المادية للذات الإيرانية واستمرارية الطبقة الحاكمة كمعيار وحيد، دليل على نجاح السياسة الخارجية لاعتبرنا كل الدول بمن فيها الدول “الفاشلة” ناجحة في سياستها الخارجية. فمثلا سورية استطاعت بالفعل أن تحفظ النظام العلوي، والطبقة الحاكمة، فهل نعتبر هذا مؤشرا على نجاح سياستها الخارجية رغم أن قضاياها الكبرى لم تنجح في تحقيقها إلى الآن؟ ولا يعني ذلك أن نقلل من أهمية المعيار الأمني كمؤشر على نجاح السياسية الخارجية، ولكن الاعتماد عليه كمؤشر وحيد يعتبر خطأ. وهذا ما يدفعنا إلى البحث في المعايير الأخرى، والنظر إلى كافة المعايير من منظور متكامل.
© منبر الحرية،07 غشت/آب 2010

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

عادت ظاهرة الانقلابات العسكرية في إفريقيا بقوة في السنوات الأخيرة وآخر سلسة الانقلابات، كان انقلاب النيجر الذي قاده سالو جيبو، قائد وحدة الدعم في نيامي. والذي عين نفسه رئيسا للمجلس الأعلى لإعادة الديمقراطية”.والذي أطاح بالرئيس مامادو تانجا “71 عاما” الذي كان قد  اعتلى سدة الحكم في البلاد منذ العام‏1999‏ ليخلف داودا مالام وانكي في رئاسة البلاد.
ومسمى إعادة الديمقراطية وهو مسمى براق له مسوغه باعتبار أن الرئيس المخلوع قد  أراق دم الديمقراطية اثر الأزمة التي  اندلعت عندما أعلن انه اعتمد “صلاحيات استثنائية” استنادا إلى البند 53 من الدستور الذي ينص على انه “عندما يتعرض الاستقلال والجمهورية للخطر” يمكن للرئيس أن يحكم بالمراسيم.
واتخذ الرئيس هذا الموقف اثر قرار المحكمة الدستورية اعتراض مشروع استفتاء يهدف إلى تعديل الدستور لتمكينه من الترشح لولاية ثالثة  وهذا الدستور يمنحه -أيضا – سلطات أوسع ويمدد فترة حكمه. وفي اليوم التالي سارعت المعارضة المنضوية في جبهة الدفاع عن الديمقراطية، إلى “إدانة انقلاب” نفذه الرئيس ودعت قوات الأمن والدفاع إلى “عصيان أوامر رجل اختار عمدا انتهاك الدستور وفقد بالتالي أي شرعية سياسية وأخلاقية”. وأمر ممادو تانجا بحل المحكمة الدستورية التي اعترضت ثلاث مرات  على مشروع الاستفتاء وحصل  الرئيس بعد ذلك على تمديد مثير للجدل لولايته في ختام استفتاء ‏ولذا رأى سالو جيبو انه وجب خلعه.
ويعتبر هذا ثالث انقلاب تشهده النيجر الغنية باليورانيوم منذ التسعينيات. الطريف أن الاتحاد الإفريقي على خلفية انقلاب غينيا وما سبقه من انقلابي موريتانيا وانقلاب إفريقيا الوسطى  كان له موقف محدد  في هذا الشأن..، وهو أي سلطة تصل إلى الحكم من خلال الانقلاب العسكري لا يتم الاعتراف بها ولا يسمح لها بالتالي بالمشاركة في أعمال القمة. وينظر الاتحاد الإفريقي إلى الانقلابات العسكرية باعتبارها من أكبر معوقات التنمية في القارة التي شهدت 186 انقلابا و26 صراعا كبيرا في الخمسين عاما الماضية، وهو الأمر الذي لم يجد هوى في نفس بعض القادة -مثل – فرنسوا بوزيز رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى الذي استولى  على السلطة في انقلاب عسكري قائلا أن من الصعب على إفريقيا وضع قواعد صارمة على الانقلابات لان كل دولة تختلف عن الأخرى.
وقال بوزيز انه كان مجبرا على الاستيلاء على السلطة في عام 2003 لان الحكومة في ذلك الوقت لم تكن تمارس “حكما رشيدا.” واستولى بوزيز على السلطة بمساعدة مرتزقة من تشاد في عام 2003 عندما اجتاح العاصمة وأطاح بالرئيس انج فيليكس باتاسيه الذي يقيم حاليا في المنفى. وشهدت  إفريقيا الوسطى (المستعمرة الفرنسية السابقة)  11 محاولة انقلاب أو تمرد في الأعوام العشرة الماضية.
ويمكن القول أن التراجع الديمقراطي في إفريقيا هو امتداد للتراجع الديمقراطي العالمي الذي لا تحبذه شعوب العالم التواقة إلى الحفاظ على المثل الديمقراطية. فما الذي يدعو الجيوش إلى التدخل في السياسة في إفريقيا وإلى انتشار ظاهرة النظم العسكرية ولو بلباس مدني ؟
يمكن القول انه يوجد  اتجاهان رئيسيان في هذا الشأن :
– الأول: يرى بأن تدخل العسكريين في نظم الحكم يعود إلى أسباب تخص العسكريين أنفسهم مثل شيوع روح الخدمة العامة لديهم، وبنيان مهاراتهم والتي تجمع بين القدرة الإدارية ومواقفهم البطولية، وأصولهم الاجتماعية المستمدة من الطبقة المتوسطة والطبقة المتوسطة الدنيا، وفضلا عن تماسكهم الداخلي يضاف إلى ذلك أيضا درجة التعليم التي يتمتعون بها، ومدى اعتقادهم في الشرعية، وطبيعة العلاقات المدنية العسكرية القائمة كما يمكن أن يعود تدخل العسكريين في الحياة السياسية إلى أسباب تخص العسكريين كفئة اجتماعية كانخفاض الرواتب، أو المساس بكرامة وشرف المهنة، أو التأثير السلبي على الجيش من جانب المدنيين، أو شعور بعض العسكريين بتهديد مصدره ضباط آخرون. إن هذا الاتجاه ينظر إلى المجتمع كجماعات مستقلة ولكنها متنافرة لكل منها ميدانه الخاص، ومن هنا لم يمد أنصارهم بصرهم إلى المجتمع كله وخصائصه التي قد تدفع العسكريين إلى التدخل أو تبعدهم عنها.
الاتجاه الثاني : ويترأسه هانتنجتون والذي  كان يرى بأن أهم الأسباب التي تدفع إلى تدخل العسكريين في السياسة ليست أسبابا عسكرية، ولكنها أسباب سياسية لا تعكس الخصائص الاجتماعية والتنظيمية للمؤسسة العسكرية، ولكنها تعكس البنيان السياسي والمؤسسي للمجتمع ففي دول العالم الثالث حيث تفقد السياسة أهم خصائصها سواء من حيث الاستقلال الذاتي  أو التركيب، أو التماسك أو التكيف، تنخرط كافة القوى والجماعات الاجتماعية في العمل السياسي المباشر، والدول التي تشهد جيوشا وعسكريين، تشهد كذلك رجال دين سياسيين، وجماعات سياسية، وبيروقراطية سياسية، واتحادات ونقابات سياسية، وشركات كبرى ورجال أعمال سياسيين، ويصير تدخل العسكريين في هذه الحالة بدافع الحرص على مسألة التوزيع الخاص بالقوة والمكانة داخل النظام السياسي، فالدوافع إذن ليست عسكرية، كما أنها لا تقتصر على خصائص العسكريين ولكنها تمتد إلى المجتمع ككل وخاصة ما يتعلق بالبنيان السياسي والمؤسسي للمجتمع، وهو الذي يدفع بالعديد من القوى الاجتماعية إلى الإقدام على العمل السياسي.
© منبر الحرية،14 تموز/يوليو  2010

نبيل علي صالح17 نوفمبر، 20100

بدأت نهائيات كأس العالم الجارية حالياً في جنوب أفريقيا –والتي ستصل خلال أسبوع إلى مرحلتها النهائية- تتجه نحو مزيد من التشويق والإثارة، بعد انتهاء مباريات الدور الأول والثاني الذي ترافق مع خروج دراماتيكي مؤثر لدول كبرى ذات ماض عريق وتاريخ حافل بالإنجازات في عالم كرة القدم.. مثل البرازيل وفرنسا وإيطاليا وانجلترا..، وصعود نجم فرق جديدة من قارات لم يكن يحسب لها أي حساب في عالم كرة القدم كالفريق الغاني الذي نال إعجاب الجمهور والنقاد والمراقبين..
وقد ظهر جلياً المدى الذي بلغه تأثير كرة القدم على البشر جميعاً، ومدى انشداد الناس واهتمامهم في كل الأنحاء بهذه اللعبة العجيبة التي استطاعت أن تجعل أعضاء الجماعة البشرية بأكملهم –وعلى اختلافهم وتنوع مشاربهم وانتماءاتهم ومستوياتهم ومذاهبهم وألوانهم- يتسمرون أمام شاشات التلفاز لمشاهدة المباريات والتنافس الحضاري السلمي أو يسافرون إلى جنوب أفريقيا لتشجيع فرقهم المتأهلة للنهائيات.
بالفعل نحن أمام حالة أشبه ما تكون بالوحدة الإنسانية، حيث استطاعت هذه الكرة أن تفعل ما عجزت عنه السياسة والاقتصاد في تركيز انتباه الناس إلى كرة صغيرة يتنافس اللاعبون لإدخالها في مرمى على مدى 90 دقيقة بهدف تحقيق فوز من هنا وآخر من هناك قد يسمح لفريق من الفرق بنيل هذا اللقب العالمي الذي تتمنى كل دولة أن تحظى بشرف نيله.
والمونديال ليس فقط حالة تنافس كروي شريف بين مجموعة فرق تمثل بلداناً من مختلف القارات سينال منها فريق واحد كأس البطولة العالمية لمدة أربع سنوات، وإنما هي أيضاً مجال سياحي وثقافي وحضاري واسع للدولة المضيفة في أن تستثمر كل ما تمتلكه من إمكانات وطاقات ومؤهلات في تلك المجالات السياحية وغير السياحية لزيادة دخلها الوطني، واستغلال وجود ملايين السياح القادمين مع منتخباتهم للتمتع بقضاء إجازاتهم السنوية في ربوع الدولة المضيفة.
والواضح أن قطاع الرياضة أضحى اليوم حقلاً واسعاً وقطاعاً مزدهراً، ومن أهم قطاعات الحياة البشرية المتحركة والمنتجة والفاعلة في كثير من البلدان، بما يشتمل عليه من صناعات وأدوات ورموز وثروات وأدوات ونجوم، وهذا الحقل الاقتصادي أصبح له طريقاً صلبة يسير عليها، وهو يساهم من خلال أدواته في صناعة العالم الراهن، لا بل أضحى ينافس ويتفوق على قطاع الثقافة والكتاب والمفكرين، بجاذبيته وفاعليته وحضوره الآسر الممتع، وبات عالم كرة القدم أكثر مقبوليةً من أي حقل أو قطاع حياتي آخر، وربما بات ملاذاً آمناً وأكثر مؤانسةً وراحة للناس من معارك الثقافة والسياسة، ومجتمع المثقفين والساسة التي تقوم عندنا –في عالمنا العربي والإسلامي- على قاعدة الغلبة والتغلب، وتسود فيها قيم الاستبعاد والإلغاء والحصرية بأعلى صورها وعناوينها وتعابيرها خاصةً في ظل المناخ الثقافي والسياسي المهيمن عندنا، والذي تعبر عنه هذه العقول المغلقة والأيديولوجيات والعقائد الاصطفائية والشمولية ونزعات التعصب الدينية وغير الدينية التي تزعم وتدعي القبض على ناصية الحقيقة المقدسة، بينما تسود في عالم كرة القدم قيم التبادلية وعقلية المشاركة والجماعة والتنافس الحر السلمي الديمقراطي التداولي، وإدارة الشؤون بطريقة حضارية تشاركية مفتوحة متنوعة ومتعددة، بعيداً عن هيمنة منطق القسر والقهر والإلغاء.. وحيث أيضاً المران والتعب والجهد والمثابرة والخبرة والمهارة.. وحيث أيضاً لغة الابتكار وخلق وقائع جمالية جديدة غير منتظرة وغير متوقعة على عكس السياسة الرثة والبالية والمحافظة والتي يتعاطى منتجوها مع الواقع الحياتي القائم بعقول مقفلة وعقائد طوطمية سحرية قائمة على إقفال العقل عن التفكير والإبداع، ونهائية التفكير وتمامية النتائج.
إنها بالفعل عولمة كروية وساحة عرض كبرى لثقافات وعادات وتقاليد حضارات إنسانية متعددة، وهي أيضاً ظاهرة عالمية تتداخل فيها قضايا الاقتصاد والتجارة والسياسة والإعلام، لذلك تجد الكثير من المفارقات في هذا الحدث الذي يوفر للعالم فرصة واستراحة لمدة شهر للهروب من أزماته وتعقيداته الاقتصادية والاجتماعية.
© منبر الحرية،07 تموز/يوليو  2010

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

في مقابلة متلفزة ومشحونة بدلالات وأبعاد البون الثقافي بيننا وبين أوربا، قال الضيف وهو “إريك راؤول”، مقرر اللجنة البرلمانية لمنع النقاب في فرنسا ما نصه أن “مجرد رؤية امرأة منقبة بالسواد من رأسها حتى أخمص قدميها في مكان عام بفرنسا يشكل “صدمة” بالنسبة للناظر الفرنسي. الرجل لم يبالغ بهذا القول، خاصة وأن العين الفرنسية أو الألمانية أو الأوربية عامة لم تتعود مشهداً للمرأة مثل هذا، باستثناء حالات مثل أفلام الخيال العلمي أو أفلام الرعب.
والحق، فإن البون الثقافي والاجتماعي بين العالمين الغربي والشرقي يجعل من “المشاهد الصادمة” أهم وأبدع مزايا السفر والسياحة والارتحال: فمن الطبيعي أن يكون مشهد شابة جميلة ترتدي سروال الجينز مسرعة في الشارع وبيدها سيجارة، نقول انه من الطبيعي أن يكون هذا المشهد صادماً لرجل عربي كان قد غادر قبل سويعات مطار عاصمة بلاده (حيث ينظر إلى تدخين المرأة كحال سلبية أو حتى لا أخلاقية، للأسف) لينزل إلى شوارع مدينة أوربية فيشاهد عجائب الأشياء، من نوع شاب وشابة يتبادلان القبل الساخنة بكابينة الهاتف العام في الشارع! هذه مشاهد صادمة بالنسبة للعين العربية، فما بالك بهذه العين إذا ما شاهدت عجائب وغرائب المتنزهات والنوادي العارية أو سواحل السباحة في إيطاليا وإسبانيا حيث يكون لحم البحر المتوسط مكشوفاً، ربي كما خلقتني؟
بالنسبة للعين العربية هذه مشاهد صادمة، ذلك أن مشاهداً بسيطة لا تتجاوز تقليصاً محدوداً لطول ثوب المرأة، أو فتح زائد لأزرار القميص بالنسبة للرجل، نقول تبدو لدينا مشاهد “لا أخلاقية” يمكن أن نحتج عليها بدعوى خدش “الذوق العام”.
لم تحاول المحاورة العربية الحسناء في هذه المقابلة المتلفزة أن تتفهم حجم الصدمة التي كان البرلماني الفرنسي أعلاه يحاول أن يعبّر عنها بمناسبة مشاهدة امرأة منقبة في شارع باريسي أو في مقهى على “الشانزلزيه” أو وهي ترفع الستارة المتدلية من غطاء الرأس التي تغطي الفم كي ترتشف شيئاً من العصير المقدم لها في ذلك المقهى. مثل هذا المشهد يُعد حالة كاريكتيرية في العالم الغربي.
أنا شخصياً شعرت بصدمة ثقافية قوية لحظة هبوطي بمطار مدينة “سوفا” عاصمة جزر فيجي عام 1981، حيث أن جميع الرجال يرتدون التنورات بدلاً من السراويل لباساً رسمياً (مع ربطات العنق والجاكيتات!) كان المشهد بالنسبة لي صادماً بكل معنى الكلمة.
ثمة “أبوان” ثقافية واجتماعية تمتد بين عالمين مختلفين: العالم الشرقي، العربي/المسلم من ناحية، والعالم الغربي الآري/العلماني من الناحية الثانية. هنا، بكل دقة يمكن أن ندرك لماذا كان البرلماني الفرنسي لا يبالغ عندما يقول أن مشاهدة المنقبة الصامتة بالنسبة للناظر الفرنسي الذي اعتاد النساء الفرنسيات الفارعات الطول وهن يتحدثن معه في الفكر والسياسة والفلسفة، هو مشهد صادم له، هو لا يبالغ قط، ولن يبالغ قط كذلك إذا ما شعر بذات الصدمة عندما يرى عربياً بكامل زيه الصحراوي وهو يقود ناقته في حي “مونامارتر”. هذا المشهد غير ممكن وغير متوقع في عاصمة الثقافة الغربية، باريس. هو ممكن في مهرجان ثقافي أو كرنفال عجائبي، وليس كحالة اعتيادية نريد أن نفرضها عليهم: فهل يعقل أن نطالب فرنسا بامتطاء الجمال في شوارعها باعتبارها الحالة الشائعة في صحارينا، متوقعين من المشرّع الفرنسي التخلي عن سيارات البيجو والرينو؟
لقد كان البرلماني الفرنسي يبذل قصارى جهده كي يوصل فكرة الصدمة أو المشهد الصادم للمذيعة العربية الحسناء التي حاولت جهدها (حسب أوامر الفضائية التي تريد أن تبدو وكأنها غيورة على الإسلام والمسلمين أكثر منهم في العالم العربي) أن تظهر البرلماني الفرنسي ظالماً أو مخطئاً، بالرغم من أن شكلها لم يكن يوحي بأنها مسلمة أو من مجتمع مسلم: لا حجاب ولا نقاب ولا خمار، ولا هم يحزنون.
هنا يكمن شيء من “نفاق” الإعلام العربي هذه الأيام، خاصة عندما حاولت بعض قنوات هذا الإعلام الانحياز إلى النقاب بتعامٍ لا مبرر له، بينما لم تحاول هذه القنوات ذاتها أن تدعو إلى النقاب داخل مجتمعاتنا العربية خشية الاحتكاك بمن لا تحمد عقبى الاحتكاك به! أليست هذه مفارقة نفاق من الدرجة الأولى: أن يعين الإعلام نفسه محامياً مدافعاً عن النقاب في أوربا بينما هو يقدم أجمل المذيعات المسلمات بلا نقاب ولا حجاب، بل هو لا يتجاسر على الدعوة إلى النقاب في المجتمع العربي الذي يعمل فيه.
الطريف في الحوار المتلفز أعلاه وحسب تعليمات إدارة القناة بطبيعة الحال، كان سؤال المذيعة الجميلة السافرة حول إمكانية أن يمدد الفرنسيون “الموجة المضادة للنقاب” لتشمل الحجاب الإسلامي البسيط في وقت لاحق. لقد حاول البرلماني الفرنسي الإجابة على هذا السؤال عبر جهده لإفهام المذيعة أن النقاب يختلف عن الحجاب البسيط، درجة أنه راح يوظف يديه للإيضاح باعتبار أن النقاب هو “قناع” يوضع على كامل وجه المرأة، وهو لذلك يختلف بالتمام عن الحجاب الاعتيادي الذي يمكن للعين الفرنسية تجاوز مشاهدته!
© منبر الحرية ، 13 يونيو / حزيران 2010

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

من الناحية العسكريّة الإستراتيجيّة لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار الوقائع السّياسيّة والجغرافيّة من جهة والقدرات العسكريّة من جهة أخرى. فتضارب المصالح الاستراتيجيّة الإسرائيليّة مع القدرات الإيرانيّة المختلفة لا يمكن ايجاد حل عسكري له وفقاً للقاعدة العسكريّة الإستراتيجيّة الآتية: “لا يجب أن يقود المحاربون غمار الحروب من أجل تحقيق انتصار عسكري في حدّ ذاته، لأنّ هذا الأخير لا يغدو من دون تنازلات، والمكاسب هي عبارة عن انتصارات مؤقّتة ومرحليّة فقط”، هذه النظرية في العلاقات الدولية والعمل العسكري هي للجنرال الألماني كارل فون كلاوسفيتز والذي يعتبر أن التوازن في العلاقات مابين الدول هو عبارة عن فترة استراحة فقط بانتظار لحظة أكثر ملائمة للعمل، وهذا العمل ليس عملاً عسكرياً بالضرورة. وبالتالي لا بدّ من التركيز على حقيقة إستراتيجيّة مفادها أنّ الأهداف السّياسيّة هي التي تحدّد طبيعة العمل العسكري، إذ لا يمكن تصوّر عمل عسكري دون تحديد أهدافه السّياسيّة. ومن هنا يطرح السؤال :
ما هي المكاسب الإستراتيجيّة الإسرائيليّة في حال تمّت مواجهة عسكريّة مع إيران سواء أكانت محدودة أم واسعة؟
من الأرجح أنّ أي عمليّة عسكريّة فيما إذا تمّت من الناحية العسكريّة، فهي قد تعطي إيران استثماراً في السّياسة على اعتبارها بلداً معتدى عليه وبالتالي تظهر مظلوميّتها أمام العالم خاصّة العالم الإسلامي. كما أنّ هذه العمليّة العسكريّة ليست بحكم المؤكد أن تؤدّي إلى القضاء على برنامج إيران النووي أو حتى إسقاط النظام. فعسكرياً الخيارات الإسرائيليّة قائمة بالدّرجة الأولى على ضربة عسكريّة تعتمد على الطيران الإسرائيلي والمسارات المفترضة لمثل هذا الخيار تمرّ عبر كل من:
‌أ-               الأجواء التركية.
‌ب-           الأجواء الأردنية .
‌ج-             الأجواء العراقية.
كل مسار جوّي يتطلّب أثماناً إقليميّة يتوجّب على إسرائيل دفعها سياسياً. فالخيار الإسرائيلي على المسار الأردني العراقي أقل كلفةً على إسرائيل من مسار تركيا، الدولة الإقليميّة الكبيرة،التي لا بدّ من مراعاة حساباتها، وكذلك مكاسبها الإستراتيجيّة القوميّة  في المنطقة. ومن الناحية العمليّة، لا تستطيع الطائرات الإسرائيليّة استهداف كل المنشآت النوويّة الإيرانيّة في غارة طيران واحدة بسبب مجموعة متداخلة من العوامل المختلفة:
‌أ-        أوّلاً: الصّعوبات اللوجيستيّة حيث إيران تبعد أكثر من 1600 كلم عن الحدود الإسرائيليّة، الأمر الذي يفرض على الطائرات الإسرائيليّة قطع مسافة 3200 كلم ذهاباً وإيّاباً، وهو أمر مستحيل دون إمكان التزوّد بالوقود في أراضي دولة ثالثة وما يترتب عليه من أعباء سياسيّة.
‌ب-      ثانياً: العامل الجغرافي المتمثّل بتوزيع المنشآت النوويّة في مساحة شاسعة في إيران يزيد من صعوبة مهمّة الطيران العسكري الإسرائيلي أو إطلاق الصواريخ بعيدة المدى.
‌ج-             ثالثاً: إيران تملك في جعبتها أوراقاً لا يمكن  لإسرائيل أن تستهين بها ومنها:
(1)-     صواريخ بعيدة المدى من طراز شهاب قادرة على الوصول إلى العمق الإسرائيليكالصاروخ شهاب 3 الذي يستطيع أن يطال العمق الإسرائيلي وبقدرة تفجيريّة عالية (رؤوس نووية).
(2)-     يمكن استهداف المنشآت العسكريّة في شمال إسرائيل انطلاقاً من مواقع حزب الله في لبنان وتجربة حرب تموز 2006 أثبتت قدرات حزب الله الصاروخيّة .
(3)-     إيران تمتلك ورقة سلاح النفط الذي يمكن أن تستفيد منه كورقة ضغط على المنطقة والعالم بأسره في ظل ارتفاع حاد لأسعار النفط ممّا يعرّض مصالح الدّول الصّناعيّة للخطر.
(4)-         الموقع الإستراتيجي الإيراني قادر على تعطيل حركة الملاحة  في الخليج العربي.
(5)-         إمكانيّة إيران استهداف القوّات الأميركيّة داخل العراق بعدّة طرق وأساليب مختلفة.
(6)-         إنّ العمليّة العسكريّة بالغة التعقيد ولكن تبقى واردة الحصول على الرّغم من التوازن المتبادل إلى حدٍّ ما بين الطرفين.
لقد تمكّنت إيران من فرض سيطرتها ووجودها في أهمّ المحاور الإستراتيجيّة الحسّاسة على المستوى الدولي والإقليمي، وهذا بالطبع لا يخدم المصالح الإسرائيليّة فبالإضافة إلى القدرات العسكريّة الإيرانيّة، إيران أصبحت من اللاعبين الأساسيّين في المنطقة خاصّة في الملف العراقي بعد فشل الولايات المتحدة الأميركيّة من السّيطرة على الوضع الأمني والسّياسي بشكل كامل. وغالباً ما يتمّ الحوار ما بين الولايات المتحدة الأميركيّة وإيران حول الملف العراقي. وإيران على تحالف إستراتيجي مع سوريا، وأيضاً من الداعمين لحركات المقاومة كحركة حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين وحزب الله في الجنوب اللبناني.
يؤهل حجم الدولة الإيرانية وموقعها إلى الاضطلاع بدور قوة ينبغي أخذها في الحسبان ويمتد نفوذها إلى سوريا ولبنان والعراق وأذربيجان إلى شمال القوقاز، بالإضافة إلى أبعادها الثقافية في كثير من دول الخليج. كذلك تتمتع بإمكانات اقتصادية لا يستهان بها خاصة في حقل الطاقة. وإيران تمتلك الدوافع والمقومات والامكانات اللازمة للعب دور مؤثر وفعال في دعم القضية الفلسطينية، وهي أحد أهم الدول الإسلامية وهذا واقعاً تفرضه الحقائق ويعترف به من قبل كل من يقرأ التاريخ ويتابع التحولات اليوم. وإيران تتمتع بموقع جيوسياسي مهم وغني بثروات طبيعية وإنسانية، وهي صاحبة نموذج سياسي يعتبر نموذجاً لحكومة دينية معاصرة يجمع بين معايير الحكومات المعاصرة وبين المبادئ الإسلامية.
إستراتيجيّة إيران قائمة على مواجهة النفوذ الإسرائيلي في المنطقة بعد احتلال العراق على عدّة محاور إستراتيجيّة تعرض عمق الأمن القومي الإسرائيلي العسكري والسّياسي والأمني للخطر الإيراني المباشر. ومن تلك المحاور المحور العراقي والمحور السوري والمحور الفلسطيني والمحور اللبناني.
‌أ-        المحور العراقي: بعد احتلال العراق، تمكنت إيران من زيادة نفوذها الأمني والسّياسي هناك، كما أنّ إيران كانت من أوائل المستفيدين استراتيجياً من إسقاط النظام في العراق. فالتغيّر الحاصل في ميزان القوى في منطقة الخليج بعد احتلال العراق صبّ بالدرجة الأولى في مصلحة إيران الإستراتيجيّة.
‌ب-      المحور الفلسطيني: نتيجة حالة التفكك والأزمة التي يعيشها النظام العربي، وسياسة إسرائيل الرّافضة لكل التسويات العادلة في المنطقة بالإضافة إلى سياسة القتل المستخدمة من قبلها في وجه الفلسطينيّين، أدّى ذلك إلى تحالف القوى الفلسطينيّة المقاومة مع إيران لتصبح إيران ذات نفوذ وتأثير في مصير القضيّة الفلسطينيّة وبالتالي الصّراع العربي الإسرائيلي .
‌ج-       المحور السوري: هناك تحالف إستراتيجي إيراني سوري في ظلّ الحصار الدّولي والعربي الذي تعرّضت له سوريا خاصّة منذ اغتيال رّئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في العام 2005، وهذا التحالف الإستراتيجي يحمل أبعادًا سياسيّة وعسكريّة إستراتيجيّة بامتياز.
‌د-       المحور اللبناني: بما لا شكّ فيه أنّ إيران الدّاعم الأساسي للمقاومة في لبنان، وهذا الدّعم بدأ منذ نشوء المقاومة الإسلاميّة في أواخر السّبعينات وازداد متانة بعد تحرير الجنوب والعمل على دعم قدرات حزب الله الدّفاعيّة. وهذا ما تجلى في الإمكانيّات العسكريّة ذات المستوى التي ظهرت بها المقاومة إبّان الاعتداء الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006.
وقد تكون الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على لبنان من جانب التقنيّة العسكريّة نموذجاً للقدرات العسكريّة الإستراتيجيّة في المنطقة ما بين التفوّق الالكتروني الإسرائيلي وتطوير إيران لقدراتها العسكريّة. وإن ما حل بالدّبابة “ميركافا” الإسرائيليّة الصّنع يمكن اعتباره نموذج لواقع هذا التنافس والتحدّي الإستراتيجي العسكري، وحرب تموز كانت محاولة عدوانيّة فاشلة من قبل إسرائيل للقضاء على حزب الله وتوجيه ضربة مؤلمة للمصالح الإستراتيجيّة الإيرانيّة. ولكن استطاع لبنان وعن طريق المقاومة إلحاق الهزيمة بإسرائيل. فالانتصار الذي حققه حزب الله، زعزع هيبة وأمن واستقرار إسرائيل معنوياً وسياسياً وعسكرياً وأمنياً، وهذه الهزيمة تهدّد بقاء إسرائيل على كافة المستويات.
ومن خلال متابعة الأهداف الإسرائيليّة الإستراتيجيّة لا بدّ من التنبّه إلى أنّ إسرائيل لن تدع هذه الهزيمة تمرّ من دون ردٍّ، فهي تنتظر الفرصة السّانحة لإعادة الاعتبار لهيبتها المفقودة من خلال إعادة تجديد قدراتها العسكريّة والاستفادة من الحرب السّابقة من أجل شنّ حربٍ جديدة كما جاء في تقرير لجنة فينوغراد الإسرائيليّة. وإذا كانت هذه الحرب محاولة إسرائيليّة فاشلة لتحقيق مصالحها الإستراتيجيّة القائمة بالدّرجة الأولى على التخلص من خطر النفوذ الإيراني عليها.
إنّ مؤتمر أنابوليس2007 في الإطار السّياسي يأتي في نفس السّياق _  فقد أصبحنا نشهد مفردات جديدة سياسيّة في المنطقة كمحور الشرّ والتطرّف. والمحور الذي يضمّ دولاً عربية كسوريا ومنظمات وأحزاب المقاومة مقابل محور الاعتدال الذي يضمّ دولاً عربيّة بالإضافة إلى إسرائيل _ فهو عبارة عن المظهر السّياسي للمصالح الإستراتيجيّة الإسرائيليّة التي تريد تقسيم الدّول العربيّة من جهة فيما بينها ومن جهة أخرى في وضعها في حالة صراع مع إيران. وإسرائيل هي المستفيدة في كلتا الحالتين، والمستقبل سيكشف أنّ محور الاعتدال ليس وحيداً في برامجه السّياسيّة وهذه حال محور التطرف. فالتنازع ليس بين اعتدال مزعوم وتطرّف موصوف بل هو تنازع مصالح إستراتيجيّة على جميع المستويات المحليّة والإقليميّة والدّوليّة. وهذا التنازع سيصل إلى داخل المذهب الواحد، الطائفة الواحدة، والعشيرة الواحدة، ممّا يساعد إسرائيل على فرض وجودها كدولة يهوديّة في هذه المنطقة على حساب جميع العرب وإيران.
© منبر الحرية ، 11 يونيو / حزيران 2010

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

ما وقع مع سفن الحرية التي جابت البحار،  بهدف فك الحصار عن قطاع غزة أعاد فلسطين إلى الواجهة وأمد القضية الفلسطينية بالطاقة على الحياة والبقاء. إن الكارثة التي وقعت مع أسطول الحرية وأدت إلى مقتل تسعة نشطاء أتراك وجرح عدد آخر، كشف الحقيقة التي يعرفها كل من تعرض للاحتلال والاقتلاع الذي تمارسه إسرائيل. وبينما كانت تركيا للامس من اقرب واهم حلفاء إسرائيل وإذا بها اليوم في قيادة التصدي لحصارها لقطاع غزة ولاحتلالها للقدس والضفة الغربية والجولان. كما أن التحالف الذي نشأ بين عشرات المنظمات الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني العالمي مع ناشطين عرب وأتراك يمثل تحالف دولي لأجل إنصاف القضية الفلسطينية.  وقد عادت الكويت بقوة إلى صلب القضية الفلسطينية من خلال مشاركة ١٨ متطوعا ومتطوعة. ولا يمكن إغفال دور القوى الإسلامية في المنطقة العربية بصفتها قوى ديناميكية حية تصطدم مع واقع النظام العربي و تطرح قضية فلسطين وتتمسك بها من القاهرة إلى تركيا والكويت.  ما وقع في سفينة الحرية في المياه الدولية للناشطين الأتراك والعرب والعالميين أحيا الضمير وأعاد للذاكرة: النكبة عام ١٩٤٨ حينما طرد الشعب الفلسطيني من أرضه وقامت إسرائيل بحرب ١٩٦٧، حيث وقعت القدس والضفة الغربية وغزة والجولان السورية وسيناء المصرية تحت الاحتلال الإسرائيلي. وتواصل الحدث مذكرا بالانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧، والانتفاضة الثانية عام ٢٠٠٠، وذكرى احتلال بيروت وحصارها عام ،١٩٨٢ ومجازر صبرا وشاتيلا وقانا، وحرب حزب الله عام ٢٠٠٦، وحرب حماس في غزة ٢٠٠٩، وحرب الاستنزاف المصرية الإسرائيلية بين ١٩٦٨-١٩٧٠، واجتياح إسرائيل للضفة ولجنين ورامالله عام ٢٠٠٢، وذكر الحدث بمئات الاجتياحات والمقاومات في محيط الدول العربية وفي جنوب لبنان وفلسطين على مدى العقود.
إن ما وقع مع قافلة الحرية في عرض البحر يشير إلى اتجاه يجب أن تسلكه المقاومة الفلسطينية. فالاتجاه يشير إلى أهمية بناء التحالف الدولي المدني والتمسك بالدعم التركي والعربي، وضرورة إدخال إسرائيل في وضع تدفع من خلاله ثمن سياسي ومالي واقتصادي وإعلامي ودولي واستراتيجي من جراء حصارها واحتلالها. ما وقع أشار لأهمية المقاومة الايجابية ذات الطابع المدني الذي يكسب الشعب الفلسطيني تعاطفا دوليا منقطع النظير، ويساهم في عزلة إسرائيل بين اشد أنصارها في الغرب.  لهذا على المقاومة الفلسطينية في هذه المرحلة أن توحد إستراتيجيتها في المقاومة، وان تسعى لمواجهة إسرائيل حيث نقطة ضعفها المركزية: الرأي العام العالمي، الدعم الأمريكي، المجتمع المدني الإنساني في العالم، تحريك القوى اليهودية والإسرائيلية المناهضة للاحتلال وصولا لفرض العقوبات على إسرائيل أسوة بما حصل مع جنوب إفريقيا عندما عارضها العالم على عنصريتها وتميزها ضد سكان البلاد الأصليين. لنتذكر أن العالم يشعر بالضجر من إسرائيل والتضامن الدولي أمر قائم،  ومن أهم أسبابه التطرف الإسرائيلي.
لكن من جهة أخرى إن التعاطف الدولي مع القضية الفلسطينية ممكن أن يسقط إذا وقع تطرف فلسطيني في الوسائل في هذه المرحلة.  ولندلل على موقفنا لنفترض أن مجموعة فلسطينية مدربة ومسلحة نجحت في الوصول إلى شواطئ حيفا هذا الأسبوع. سينقلب الموقف، سينقلب كل شيء، سيخف الضغط على إسرائيل وسينسى المجتمع الدولي أسطول الحرية لأنه سيركز على الضحايا في إسرائيل.  لهذا هناك ضرورة لإستراتيجية فلسطينية موحدة دقيقة حول مشروع المقاومة.  إن نجاح الفلسطينيين في هذه المرحلة مرتبط بالمقدرة على مزج وسائل المقاومة بدء| من الحجر والصمود والمقاطعة وسفن الحرية، مع سعي لغطاء دولي وإقليمي بل وإحداث انشقاق إسرائيلي يهدف إلى انتزاع حق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.
من جهة أخرى أكدت المواجهة حول أسطول الحرية أن الشارع العربي يريد موقفا أكثر قوة في تعبيراته تجاه فلسطين، وذلك في إطار بحثه عن ميزان جديد. لهذا يتطلع العالم العربي إلى تركيا لتغير ميزان القوى. فتركيا التي تتزعم القوة المعارضة لإسرائيل هي حليف حتى الأمس القريب لإسرائيل و جزء أساسي من النظام الدولي والنظام العالمي والنظام الأوروبي ومنظومة الناتو. لكن تركيا اكتشفت أن الاستقرار في الشرق الأوسط الذي تنتمي إليه لن يتحقق إلا بالسلام العادل، واكتشفت أن السياسة الإسرائيلية سوف تؤدي إلى خلق فراغات أمنية وحروب وصراعات تودي بكل تقدم لتركيا.  ربما ترى تركيا أنها يجب أن تقود الموقف لإنقاذ الشرق الأوسط من إسرائيل وإنقاذ إسرائيل من نفسها وتطرفها.
لقد امتدت تركيا اقتصاديا وحداثيا وتطورت قدراتها، فهي اكبر اقتصاد في الشرق يصل إلى 660 مليار دولار وتمثل قاعدة صناعية إنتاجية لا مثيل لها في الشرق. وتمتلك تركيا حكما ديمقراطيا واقتصادا حيويا وجيشا متطورا واستقلالا.  وتركيا ليست كإيران تعيش وضعا عسكريا  ومقاطعة أمريكية، وليست دولة راديكالية كحالة فنزويلا أو كوبا، بل إنها دولة شعبها في أغلبيته مسلم وهي اقرب لان تكون دولة أوروبية في اقتصادها وانفتاحها وارتباطها بأوروبا والعالم. وتمتلك تركيا المقدرة على أن تطرح مشروعا للسلام وآخر للمقاومة وثالث للتنمية في منطقة الشرق الأوسط. لتركيا مصلحة عضوية في تحويل قوتها لصالح ازدهار المنطقة، وهي في هذا تعيد روابط استمرت لمئات السنوات بين العالم العربي وتركيا.  إن تركيا بدأت تعي بأن شروط الاستقرار والتنمية والتجارة الحرة وحقوق الإنسان والتطور الديمقراطي في الدول العربية مرتبطة ارتباطا كبيرة بانجاز عملية تاريخية، مفادها تحقيق الحقوق الفلسطينية في تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية.
ستبقى قوة إسرائيل في عسكريتها وجيشها وسيطرتها الكبيرة على الكونغرس الأمريكي وتأثيرها الكبير على السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. إنها بالفعل قوة كبيرة عسكرية وسياسية واقتصادية. وإسرائيل في النظام الدولي دولة أوروبية، ودولة عصرية، ودولة ديمقراطية، لكنها في الممارسة دولة عنصرية، تضطهد شعبا آخر، وتسعى كل يوم لسلب أراضيه واخذ ممتلكاته وطرد عائلاته وسجن شبانه وشاباته. في الممارسة لا علاقة بين الصورة الإسرائيلية الحقيقة وبين الصورة الإسرائيلية الوهمية.  إن ردة الفعل العالمية والمظاهرات في دول العالم الإسلامي والعربي والغربي تـؤكد بان الصورة بدأت تتغير.
وتبين ردة الفعل أيضا أن العمل السلمي في ظل التحالف الدولي والموقف الواضح بإمكانه أن يحرج إسرائيل ويهدد احتلالها، ويظهر وجه إسرائيلي طالما تجاهله العالم. إن دخول تركيا على الخط الساخن بأسلوبها الجديد الفعال يثير التفاؤل وسط الضياع العربي، لكن توحيد الإستراتيجية الفلسطينية هو شرط استراتيجي لاستكمال شروط التحرر الفلسطيني.
© منبر الحرية ، 10 يونيو / حزيران 2010

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

مع تفاقم الأزمة المالية وارتفاع معدلات البطالة، وتقلص الفرص المستقبلية، لا يزال الدخول في نقاش حول أهمية الهجرة يحتل بالكاد قائمة جدول الأعمال، وأمام هذا الوضع يسعى  السياسيون الشعبيون إلى التوصل إلى مكاسب سريعة من خلال إلقاء لائمة هذا الأمر على الأجانب. وهو الأمر الذي يضع الأطراف المسئولة أمام مواجهة خطر الاصطدام بحقل ألغام سياسي، كلما حاولوا تناول هذه القضية.
ولكن، على الرغم من أنه من الممكن تفهم التخوف من الخوض في هذا الموضوع، فإن هذا الموقف لا يعتبر وسيلة مثمرة، ولذا يجب الابتعاد عنه.  والمطلوب بجانب التصدي إلى حالات الانحياز وإساءة الفهم، إقامة حوار متنامي، والحديث هنا ليس عن حوار بين الدول الأوروبية بعضها البعض، بل حوار إقليمي.
وقد قاد الليبراليون الأوروبيون والعرب هذا التوجه في مواجهة  هذا النوع من أنواع الخلل. وذلك من خلال عقد مؤتمرين أحدهما في البرلمان الأوروبي في بروكسل والآخر في البرلمان المغربي في الرباط، ساهما في فتح مساحات جديدة من أجل التأسيس لحوار مشترك حول الهجرة وحول البعد الاجتماعي الاقتصادي لها علاوة على الجانب المتصل بحقوق الإنسان.
وعلى الرغم مما يثيره هذا العمل من مشاعر الفخر، فإننا نؤثر مع ذلك التحلي بالتواضع، ففي الكثير من الأحيان تنطلق مثل هذه  المبادرات ويصاحبها قدر كبير من الضجة الإعلامية ولكنها تدخل طي النسيان بمجرد اصطدامها بمشاكل التنفيذ على أرض الواقع.  وعلى هذا يتوجب علينا أن نبحث بالأحرى عن الكيفية التي تمكننا من  أن نضمن ألا تصبح هذه المبادرة مجرد حبر على ورق؟
حددنا نحن الليبراليون العرب والأوروبيون عدداً من العناصر الجوهرية من خلال “إعلان الرباط” وتتمثل فيما يلي:
•    الهجرة ظاهرة طبيعية ساهمت في تحقيق الحضارة الإنسانية وهي جزء لا يتجزأ من نظام العولمة في الوقت الحاضر.  ولكن معدلات الهجرة المهولة التي تتجاوز قدرة تحمل أي مجتمع  من حيث دمج القادمين الجدد فيه، قد تؤدي إلى العديد من المشكلات على المستويات المحلية.
•    وليس من شك أن قارة أوروبا التي بدأت تعاني من مظاهر الشيخوخة تحتاج في المستقبل القريب إلى قوة عاملة من الشباب ممن حصلوا على التعليم الجيد. ولكن الآليات الموضوعة في الوقت الحالي لتحقق هذا بالكاد ترتقي إلى المستوى المطلوب.
•    لذا نحتاج إلى مواجهة هذا الأمر وأن ننتبه إلى ضرورة إدخال التحسينات الهامة التي تعتبر مفيدة بالنسبة للجانبين.  وأوروبا في حاجة إلى تحقيق التحسن في هذا الصدد.
•    التعليم جوهري من أجل التوصل إلى قرارات ذات أساس سليم، ومن أجل رفع الوعي بالوضع الذي يواجه العديد من مواطني الدول التي لا تشهد تدفقاً من المهاجرين. ويؤدي الافتقار إلى التعليم إلى المخاطرة بتنفير الآخرين وإلى المساهمة في خلق روح من النزاع والتطرف.  ولكننا نحتاج إلى التركيز على قضايا التنمية والتعليم والديمقراطية وحقوق الإنسان وخلق الفرص والأمل بين البشر الذين يعيشون في المجتمعات التي يهاجرون إليها.
•    وبما يمثلونه من قيم جوهرية ليبرالية مثل التسامح والتعاون، ينادي الليبراليون العرب والأوروبيون بصوت واحد بالرفع من  مستويات التعليم العمومي، وباعتماد عرض الحقائق كما هي بخصوص هذه القضايا بدلا من عرض الأساطير والخرافات وذلك حتى نتمكن من التغلب على العواقب والمخلفات الوخيمة.
•    إن حماية حقوق المهاجر جزء لا يتجزأ من حماية حقوق الإنسان لذلك لابد من:
–   ضرورة احترام كافة الحقوق المادية والمعنوية للمهاجر، ومن ضمنها على وجه العموم الحريات والحقوق المدنية والثقافية والاجتماعية، وعلى وجه الخصوص الحق في التمتع والتعبير عن مقومات الهوية الذاتية للمهاجر وذلك في إطار الالتزام بالقيم السائدة في بلد الإقامة والقوانين الجارية بها.
–  ضرورة حماية المهاجر من كل أصناف التمييز بما فيها التمييز الاقتصادي والعنصري و كذا مراجعة كافة التشريعات القانونية  والإجراءات الحاملة للتمييز بين العمالة الأصلية والعمالة المهاجرة، مع ضمان حق العامل المهاجر في التدرج المهني والترقية واكتساب الخبرة في إطار العمل بمبدأ المساواة ومبدأ الحق والاستحقاق.
نرى أن هذا الأمر بدأ يتحقق من خلال مبادرتين: التفت الليبراليون الأوروبيون من خلال وثيقة “نقطة تركيز حزب الإصلاح الديمقراطي الليبرالي الأوروبي لسنة 2010: تحديات التغيرات الديمغرافية” وهي الوثيقة التي أبرزت عدداً من الموضوعات من بينها التركيب السكاني الذي يتسم بزيادة معدلات الشيوخ وعلاقته بالهجرة. المنتدى الطبيعي للتعاون والتنمية في منطقة البحر المتوسط وما حولها هو ما يعرف باسم “اتحاد دول البحر المتوسط” الذي أطلق سنة 2008 ولا يزال العمل قائم. لذا يحث الليبراليون الأوروبيون والعرب الاتحاد الأوروبي والبلدان العربية والإفريقية على أخذ هذه المبادرة مأخذ الجد مع تحقيق الاستفادة القصوى منها.
ويمكن أن يحقق أيضا من خلال تكريس التضامن الإقليمي بالشكل الذي يجعل من الهجرة قوة في خدمة الاستقرار والنمو والتنمية، سواء داخل بلدان المصدر أو داخل بلدان الاستقبال، وبالشكل الذي يجعل من بلدان جنوب المتوسطَ، جذابة ومؤهلة بما يكفي لامتصاص يد عاملة مرشحة باستمرار للهجرة غير المنظمة. ولاجتذاب دياسبورا عربية قادرة على حمل خبرة جديدة تساهم في انطلاق تنمية حقيقية.
* السيدة انيمي نييتس: هي عضو البرلمان الأوروبي ورئيسة الحزب الليبرالي الديمقراطي الإصلاحي
* السيد محمد تمالدو: هو رئيس شبكة الليبراليين العرب
© منبر الحرية، 05 يونيو/ حزيران2010

نبيل علي صالح17 نوفمبر، 20100

يبدو الوضع السياسي والجيواستراتيجي الحالي في المنطقة العربية ملتبساً وغير واضح المعالم، وذلك بالرغم من اعتماد القوى الدولية الكبرى –الأكثر فاعلية في خارطة التغيير ورسم السياسات- لخطط وتوجهات سياسية (تقول أنها جديدة) خاصة بالمنطقة، وتتعلق بطبيعة مقاربتها للملفات الشائكة في أكثر من موقع هنا وهناك.. خصوصاً بعد وصول إدارة سياسية جديدة إلى البيت الأبيض، يبدو همّها الأساسي منصباً على مخالفة معظم التوجهات السياسية التي كانت تعتمدها الإدارة الجمهورية السابقة، أكثر من اهتمامها ببناء سياسات واضحة ومعروفة.
وفي ظل تضارب مصالح معظم دول المنطقة والإقليم، وتعارض سياساتها إلى درجة التناقض الجوهري فيما بينها من جهة وبينها وبين القوى الدولية الكبرى من جهة ثانية، تحاول بعض دول منطقتنا –وعلى رأسها تركيا- التعاطي مع مجمل التعقيدات القائمة بهدوء وعقلانية.. يمكن ملاحظتها ومتابعتها خلال السنوات القليلة الماضية، وبخاصة بعد استلام حزب العدالة والتنمية للسلطة فيها.
فهذه الدولة التي تشغل مساحة جغرافية وحيز استراتيجي نوعي مهم ومؤثر، لا تزال تشهد منذ وصول حزب العدالة والتنمية –ذي التوجه الإسلامي المعتدل- إلى السلطة في 2002م تحولات مفصلية متسارعة على صعيدها الداخلي والخارجي.
وهي تحاول استعادة بعض أو كل مكانتها التاريخية شبه المفقودة والضائعة بين إغراءات الدخول إلى النادي السياسي والاقتصادي الأوروبي والحصول على مقعد فيه، وبين العودة إلى أعماق التاريخ “العصملي” البهي والمتألق الذي كانت لتركيا فيه موقع القلب من الجسد، لتستعيد مكانتها “القديمة-الجديدة” ومقعدها المخصص لها وحدها، والذي لا نعتقد أنه يمكن لبعض الدول الأخرى (كإيران مثلاً) أن تحتله نظراً للعمق التاريخي والثقل الجيواستراتيجي السياسي والثقافي والديني الذي تحوزه تركيا في المنطقة العربية، والذي لن تجد أمام تحققه على الأرض أية عقبات تذكر.. على عكس إيران التي تتوجس منها شراً كثير من الحكومات والشعوب العربية، بسبب تدخلاتها المتكررة في الشؤون الداخلية لبعض تلك الدول، وبسببٍ من تضخم تطلعاتها المرتكزة على تصدير مبادئ ثورتها الدينية الشيعية ذات التوجه والنزعة الرفضية الجذرية، وربطها المصلحي النفعي بين الدين والسياسة، وطغيان نزعتها القومية وحضورها التاريخي على مجمل سياساتها الخارجية (قومنة التشيع).
ولكن تركيا تبدو أكثر قدرةً من إيران على القيام بدور أساسي في مجمل السياسات الإستراتيجية المتعلقة بالمنطقة، ليس فقط لأنها دولة كبيرة مترامية الأطراف، تمتلك من الثروات والموارد والطاقات والمزايا الأخرى الشيء الكثير، بل لأنها أيضاً على علاقة جيدة وطيبة مع معظم الدول، مما يمكنها من الحديث مع الجميع ومن دون مواربة حول أكثر من ملف معقد وشائك، والتحول إلى مركز تواصل أساسي في السياسة الإقليمية والدولية. خصوصاً بعد أن تبنت تركيا –بقيادتها الجديدة- ثابتة إستراتيجية في سياستها الخارجية وهي ضرورة التعدد في العلاقات، وعدم حصرها في خط أو مستوى واحد.
لقد ارتكزت القيادة التركية الجديدة على قاعدة شعبية عريضة وواسعة للمضي قدماً في تنفيذ سياستها الخارجية (الهادئة والعقلانية والنشطة)، بعد تحقيقها لنجاحات اقتصادية داخلية ملفتة جعلت من تركيا إحدى أهم دول العالم في رفع مستويات التنمية الداخلية، وتخفيض العجز المالي، وزيادة حجم الميزانية القومية. وهذا ما يمكن ملاحظته ومتابعته من قبل الجميع، وبخاصة لمن يزور هذا البلد، ويقوم بجولات ميدانية في بعض مدنها الصناعية والتجارية الهامة، ليقف عن كثب على مصداقية الأرقام المتعلقة بالتنمية الاقتصادية ونهوض الاقتصاد التركي التي تقدمها مختلف الأوساط والمنظمات الاقتصادية الدولية بخصوص قوة وتطور الاقتصاد التركي.
وباعتقادي أنه لو لم تتمكن قيادة أردوغان –القادم من زخم تحقيق نجاحات باهرة في استانبول- من بناء الداخل على أسس اقتصادية صحيحة ومتينة، لبقيت محصلة المعادلة التركية الخارجية –في دورها ومكانتها وتأثيرها- صفراً، كما كانت عليها في السابق عندما كانت تركيا إحدى مصادر أو مواقع الإثارة والتوتير في المنطقة.
لقد أدرك القادة الأتراك الجدد بأن الفرصة واللحظة الإستراتيجية القائمة حالياً –والناتجة بالطبع عن أخطاء الآخرين، وفشل سياساتهم الخاصة بالمنطقة، الأمر الذي أوقعها في حالة فراغ استراتيجي- أدركوا أن الفرصة سنحت لإعادة موضعة سياساتهم الخارجية، واستغلال اللحظة الحرجة (لحظة الفراغ والالتباس التاريخي) التي قد لا تتوفر لهم مرة أخرى، فانطلقوا في اتجاه بناء سياسات جديدة، تتداخل فيها عوامل جذب واستقطاب مختلفة ومتعددة ما كان من الممكن تصورها سابقاً..
وكانت قاعدة هذا التصور الجديد تقوم على أن تركيا دولة محورية في الشرق ليس فقط لنفسها ولجوارها وامتدادها الجغرافي الشرقي والجنوبي، وإنما هي كذلك للأوروبيين أيضاً الباحثين دوماً عن استقرار المنطقة (جوارهم الجنوبي والجنوبي الشرقي الدائم)، والذين كان عليهم أن يدركوا بأنه لا بد أن تمر سياساتهم في المنطقة العربية –المثقلة بالهموم والأزمات- عبر الأتراك قبل غيرهم، لأنهم مهيئون تاريخياً وحضارياً وجاهزون دينياً وجغرافياً للتحدث بعمق وصراحة مع كل دول المنطقة، وحول كل قضايا وشؤون وشجون دول الإقليم، بما فيها إسرائيل..
ولهذا رأينا تركيا تتوسط في المفاوضات بين سوريا وإسرائيل، وتحاول حالياً التوسط بين إيران وأمريكا، كما رأيناها تعمل على وقف غزو إسرائيل لقطاع غزة، مع تحميل إسرائيل كامل المسؤولية عن ذلك العدوان.
إن التصور السياسي التركي الجديد للمنطقة يحاول مقاربة الأمور من زاوية الضرورة الحيوية لتحقق السلام في المنطقة، والتفرغ لبناء أسس ومقومات الحكم الصالح في داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تشهد وعياً متزايداً بأهمية الترابط بين الأمان والسلام الداخلي والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان..
وقناعة الأتراك بهذه المقاربة حقيقة، وليست ناتجة عن أية مراوغة تكتيكية، باعتبار أن تركيا نفسها ما كانت لتصل إلى ما وصلت إليه -من مكانة ودور- لولا إدراك قادتها الجدد لأهمية البعد المؤسسي للدولة المرتكز على قاعدة ديمقراطية واسعة مدعومة من الشعب الذي تزداد عملية انخراطه في ممارسة السياسة والسلطة بمقدار ما تزداد عوامل الجذب والإغراء الاقتصادي والحريات العامة التي توفرها له الدولة.
إننا نعتقد أن لتركيا موقعها السياسي ودورها النوعي المؤثر في معظم القضايا والتحديات التي تلف منطقتنا العربية والإسلامية، والواضح أمامنا أن تركيا لم تحصل على هذا الدور هديةً من أحد، بل رسمت له وخططت للحصول عليه بوعي منها ومن تلقاء نفسها، نتيجة عقلانية سياستها الخارجية وسرعة تحركها وروح المبادرة الفعالة التي تمتلكها..
وقد أثبتت الأحداث السياسية والأمنية والعسكرية التي حدثت خلال السنوات الأربع الماضية الأخيرة أن تركيا لاعب محوري وأساسي في معظم المعادلات السياسية القديمة والجديدة للمنطقة، مما يحتم ويجبر الدول والقوى الكبرى على الحديث وفتح القنوات السياسية وغير السياسية بالكامل معها وباستمرار.
وهذا ما يجب على العرب أن يتنبهوا له بعد أن غابوا وغيبوا أنفسهم طويلاً عن بناء علاقات طيبة ومتينة مع الأتراك.. بالرغم أن ما يجمعهم بتركيا أكثر بكثير مما يفرقهم عنها..
© منبر الحرية ،يونيو / حزيران 2010

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

بمناسبة عودة المفاوضات الغير مباشرة  بين إسرائيل والسلطة الوطنية برعاية أمريكية، يصعب أن نشرح لشاب أو شابة عربيين يعيشان  تحت الاحتلال الإسرائيلي أو حول العالم الإسلامي  المكون من مئات الملايين من الناس انه يوجد فارق كبير بين سياسة إسرائيل وسياسة الولايات المتحدة الأمريكية. فحتى الساعة تذهب الأموال الأمريكية بصورة أو بأخرى إلى المستوطنات في القدس والضفة الغربية. وبينما توجد قوانين أمريكية ودولية صارمة لمنع وصول الأموال إلى القاعدة وإلى الطالبان، إلا انه لا يوجد جهد دولي قانوني عالمي وأمريكي لمنع وصول أموال الولايات المتحدة إلى المستوطنين في القدس وفي الضفة الغربية والجولان.  أليس صحيحا أن الكثير من الجمعيات الخيرية الأمريكية أكانت مسيحية أم يهودية تقوم بأعمال تبرعات كبرى تنتهي بمستوطنات القدس والخليل ونابلس؟
لكن المشكلة أعمق من مجرد تمويل الاستيطان في المناطق العربية، فلتفسير حالة عدم الثقة والشك وأحيانا كثيرة الكراهية التي تستفحل في العالم العربي تجاه الولايات المتحدة علينا أن نتساءل: أليس السلاح والمتفجرات الذي يقتل به العرب منذ  أواخر ١٩٦٨ حتى اليوم هو  الأخر سلاح أمريكي؟    ثم ألا يساوي مجموع التصويت بحق النقض الفيتو الذي مارسته الولايات المتحدة منذ السبعينات حتى اليوم وذلك لمنع إدانة الاعتداءات الإسرائيلية على العالم العربي والشعب الفلسطيني في مجلس الأمن مجموع ما استخدم من حق النقض الفيتو من قبل بقية الأعضاء الدائمين؟  أليس صحيحا أن الرئيس الأمريكي جونسون عندما علم عام ١٩٦٩ بالبرنامج الإسرائيلي النووي من رئيس المخابرات المركزية الأمريكية قال له ”بأن لا يعلم احد انه يعلم بالأمر“ وذلك ليتفادى القيام بأي جهد لإيقاف البرنامج.
إن الالتزام الأمريكي منذ عقود بإبقاء إسرائيل قوة احتلال  واستيطان في الأراضي العربية وبنفس الوقت متفوقة على مجموع الدول العربية المحيطة بها ساهم في مقدرة القاعدة على كسب الأنصار، و قوي التشدد في إيران وبين أوساط حماس وعمق الإرهاب وأضعف الوسطيين العرب. إن هذا الوضع يتناقض مع سعي الولايات المتحدة للتغلب على الإرهاب، كما انه يثير تساؤلات كبرى حول مدى مقدرة الدولة الكبرى الأولى في العالم خط سير مستقل عن إسرائيل في ظل تسوية قادمة.
إن تأسيس عالم إسلامي وعربي اقل عنفا واقل تصادما مع السياسة الأمريكية سيتطلب ابتعادا أمريكيا عن تسليح إسرائيل وعسكرتها، ويجب أن يقترن هذا الابتعاد بإيقاف تدفق مليارات الدولارات العلنية والسرية التي تنتهي في مستوطنات عنصرية إجلائية على شكل بؤر عسكرية تؤسس لحروب ومواجهات لا نهاية لها بين إسرائيل والعالم العربي والإسلامي. إن الإدانة اللفظية الأمريكية للاستيطان ستؤدي في النهاية إلى جعل الدولة اليهودية خطر على نفسها وعلي الولايات المتحدة.  من هنا تنبع أهمية أن يكون  الرئيس أوباما قادرا على تغير المسار، وإلا ساهم من حيث لا يقوى بتعميق هذا الصراع وزيادة حدته في السنوات القادمة.
ومن الواضح الآن بأن الحسم العسكري والضربات الاستباقية لا تصنع عالما جديدا، فهذا ما أكدته تجربة المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر. فلقد عادت الطالبان للقتال بقوة في أفغانستان مستغلة الأخطاء الأمريكية وفساد بعض الأطراف التي شكلت الحكومة الأفغانية الجديدة، والعراق انفجر قتالا وحربا بعد حل الجيش العراقي وأجهزة الأمن العراقية عام ٢٠٠٣. وعندما يلتئم العراق ستكون قدرات الولايات المتحدة على التحكم بشؤونه محدودة، وإيران هي الأخرى تحولت لقوة سياسية وعسكرية وذلك بفضل تدمير أهم منافسيها على حدودها( صدام والطالبان)، كما أن حرب ٢٠٠٦ بين إسرائيل وحزب الله ثم حرب غزة في ٢٠٠٩ أكدت أن  القوة العسكرية الإسرائيلية لا تستطيع حسم جميع المعارك.
وبينما ننتظر من الرئيس أوباما تغييرا، خاصة انه يعرف  الكثير عن المسألة الفلسطينية،  إلا انه في التاريخ المديد بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي لم يتغير المنطق الأمريكي المنحاز.  فقد دعمت الولايات المتحدة شاه إيران ضد الرئيس الشعبي الوطني مصدق، لكنها انتهت بثورة الخميني الإسلامية، ودعمت الولايات المتحدة إسرائيل ضد القومية العربية وعبد الناصر فانتهت بالحركات الأصولية المعادلة للغرب، ودعمت الولايات المتحدة قيام إسرائيل بغزو لبنان عام ١٩٨٢ فانتهت بحزب الله في جنوب لبنان. ودعمت المجاهدين الأفغان ومجموعات بن لادن ضد الاتحاد السوفييتي فانتهت بالطالبان والقاعدة وأحداث الحادي عشر من سبتمبر،  كما أنها أعاقت، في أوج دعوتها الديمقراطية في الشرق الأوسط في زمن الرئيس بوش، حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية المنتخبة برئاسة حماس فانتهى الأمر بسيطرة حماس على غزة. لائحة  قصر النظر الأمريكية طويلة، رغم أننا نستطيع أن نستثني منها حرب تحرير الكويت ١٩٩٠ وبضعة مواقف صلبة ذات طابع مؤقت ضد الاستيطان الإسرائيلي أو لصالح حقوق الإنسان في العالم الإسلامي.
لقد أصبح العالم الذي تعيشه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط عالم سريالي مليئا بالتناقضات والحروب والخسائر المالية والبشرية والسياسية. أصبح السؤال : إلى أين تسير الدولة الكبرى الأولى في العالم؟ هل تسير في ذات الطريق الذي سارت به من قبلها دول كبرى، وذلك من خلال تبديد مواردها في حروب واحتلالات؟ الدولة الكبرى في العالم تتعامل مع السياسة في الشرق الأوسط انطلاقا من هموم وحسابات  إسرائيلية أولا وذلك لأنها نتاج تأثيرات محلية وانتخابية. لكنها لا تتعامل مع بقية العالم كما هو الأمر في الشرق الأوسط. لقد أضاعت الولايات المتحدة العلاقة العربية الأمريكية في حمى الحسابات الضيقة وانتهى بنا الأمر إلى صدام اكبر كما هو حاصل في السنوات القليلة الماضية. على الولايات المتحدة أن تتحرر من هذا الضغط الداخلي أولا وذلك لكي تنجح في تحقيق تقدم في الشرق الأوسط. بدون صحوة حقيقة وتحرر من سيطرة أقلية صغيرة على مجرى السياسة الخارجية تجاه الشرق الأوسط لن يتغير شيء، بل ستزداد الأمور سوءا وسريالية وعنفا.
الأمريكيون في هذه الأيام بالتحديد أكثر استعدادا للاستماع. ففي سلسلة محاضرات لي في مدن أمريكية مختلفة على فترات مختلفة في الشهور القليلة الماضية حول أوضاع الشرق الأوسط والمسألة الفلسطينية بدأت أرى عالما أكثر تساؤلا عن العلاقة مع العالم الإسلامي والعربي. فوجئت على سبيل المثال في مدينتي دينفير وبولدر في ولاية كولورادو بالأعداد الضخمة المكونة من مئات الحاضرين التي جاءت للاستماع عن ”العالم العربي على مفترق الطرق.“ التعطش الأمريكي للتساؤل يعكس الفراغ الذي يعيشه الشعب الأمريكي بعد حربي العراق و أفغانستان.
فبعد الحادي عشر من سبتمبر ساد الأمريكيون سؤال أساسي عن العرب: ”لماذا يكرهوننا،“ لكن السؤال بدأ يتراجع الآن أمام سيل من الأسئلة منها ”هل قامت السياسة الأمريكية بشيء يساهم في هذه الكراهية ؟“.   التيار العام في الولايات المتحدة لم يصل بعد للسؤال الأساسي عن دور إسرائيل في العنف بين الشرق والغرب.  ولكن عندما تعلن أمام جمهور أمريكي: ”لا حل عسكري في العراق لا حل عسكري في أفغانستان لا حل عسكري للصراع العربي الإسرائيلي ولا حل عسكري للازمة مع إيران، بل إن الحل الوحيد هو الحل العادل الذي ينطلق من حقوق الإنسان والمساواة بين الشعوب وحق تقرير المصير“، تشعر بمدى تجاوب الأمريكيين مع منطق ناقد لسياساتهم الخارجية تجاه الشرق الأوسط.
وفي إحدى الندوات أكدت متحدثة:  ”منذ خمس سنوات كنت من اشد المؤيدين لإسرائيل، لكن الأمر اختلف الآن“. سألتها: ”ما الذي تغير؟“ فقالت: ”الحرب في العراق وفي أفغانستان وجنوب لبنان وحرب غزة جعلتني أتساءل عن صحة تدخلنا ودقة موقفنا، لقد انتخبت الرئيس بوش في السابق والآن أوباما باحثة عن التغيير. لم أكن اعرف في السابق أن إسرائيل تضطهد شعبا أخر، كنت اعتقد أن هذه الأقوال دعاية عربية معادية لليهود وللسامية، والآن اكتشف ان الأمر ليس كذلك، وان إسرائيل تضطهد شعبا آخر .“
كان الأمريكيون على الصعيد الرسمي كما والشعبي في زمن الحرب الباردة مقتنعين بان إسرائيل تقوم بدور أساسي في مواجهة الاتحاد السوفياتي. وفي هذا القول بعض من الصحة، لكن الأمر اختلف الآن، فالولايات المتحدة تقاتل في كل مكان في الشرق الأوسط نيابة عن إسرائيل بأكثر مما هو نيابة عن الولايات المتحدة ومصالحها.  وقد تنجر الولايات المتحدة لمواجهة مع إيران أيضا نيابة عن إسرائيل وهذا سيؤدي لكوارث في العلاقة بين العالمين الإسلامي والغربي.
التغيرات الأمريكية عديدة، فهناك نمو في الجمعيات الأمريكية واليهودية ( منها J street اليهودية) التي تعي خطورة استمرار الاحتلال في فلسطين والتي تعي خطورة ابتلاع القدس.  في ندوة علنية حاشدة وقفت مواطنة إسرائيلية من مؤيدي حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني تشرح كم تعاني من الملاحقة في إسرائيل لأنها تقول برأي آخر.  هناك بداية وعي بأن مصلحة الولايات المتحدة لم تعد تتطابق مع مصلحة إسرائيل، وان مصلحة إسرائيل الرسمية لم تعد تتطابق وعقلية الاستيطان ومصادرة القدس.
إسرائيل مكونة اليوم ، في ظل حكومة نتنياهو، من مجموعة من المتعصبين المغامرين الساعين لجر دولة كبرى إلى نهاية عالمها. إذ يمثل رئيس الوزراء الإسرائيلي نمط من الإسرائيليين ممن يسعون لاستيطان مزيد من الأرض لأنهم يشعرون بأن إسرائيل تقف على مساحات ضيقة وأراضي قليلة. ولا يختلف رئيس الوزراء نتنياهو عن غيره من الإسرائيليين الذين لا زالوا ينطلقون من مبدأ التوسع على حساب العرب. ليس هذا بالأمر الجديد، إذ يمثل رئيس الوزراء الإسرائيلي  نتنياهو استمرارا للعقيدة الصهيونية التي تؤمن بأن مشروعها مشروع اقتحام واستيطان. إن نتنياهو لا يرى فارقا بين  الأراضي التي تم الاستيلاء عليها بالقوة عام ١٩٤٨ وتلك التي تم الاستيلاء عليها بالقوة عام ١٩٦٧،  وهو لا يرى أيضا فارقا بين القدس الشرقية التي احتلت عام ١٩٦٧ والقدس الغربية التي احتلت عام ١٩٤٨. فهذه العقلية هي أساس الفكرة الصهيونية منذ بداياتها ومنذ نشوء دولة إسرائيل في قلب فلسطين وعلى حساب الفلسطينيين سكان البلاد الأصليين. فالذي يبرر اخذ الأرض عام ١٩٤٨حيث لم يمتلك اليهود منها أكثر من ٦٪  يبرر اليوم قضم ما تبقى من فلسطين والقدس والجولان.
وبينما يزداد الصراع حدة على ارض فلسطين، تزداد حكومة نتنياهو انحدارا نحو اليمين. إن المغالاة ستكون صفة ملازمة للسياسة الإسرائيلية في المرحلة القادمة. لكن هذا لا يعني أن كل الإسرائيليين يرون الواقع من خلال هذا المنظار، هناك قوى أخرى في إسرائيل ترى حدود مشروعها الصهيوني، لكن نمو هذه القوى ودورها معطل حتى الآن في ظل هيمنة اليمين واستفحاله.
إن تغير العلاقة بين الولايات المتحدة والعالم العربي والإسلامي يتطلب  تغير قواعد اللعبة الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي في ظل سعي أمريكي للتحرر من الانحياز لإسرائيل.  إن  جوهر التغير يبدأ في فلسطين، فهي النقطة المركزية التي سببت الانقطاع الثقافي والمعنوي بين العالمين وهي التي وضعت الولايات المتحدة في كفة والعالم  العربي والإسلامي في كفة أخرى وهي المسؤولة عن سيطرة الديكتاتورية في العالم العربي.  إن انسحاب الولايات المتحدة من حالة الصدام مع العالم العربي والإسلامي لن يكون ممكنا بلا حل القضية الفلسطينية حلا عادلا وانسحاب إسرائيل والمستوطنين، وتأمين حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس.   كما ويجب أن يتضمن الحل انسحابا من الجولان السورية وتسوية مشرفة مع إيران وبقية العالم العربي. إن حل كهذا لن يكون ممكنا بلا تحرر أمريكي من سطوة الانحياز والضغط الانتخابي الداخلي الذي يرهق الولايات المتحدة ويزيد من جراحها ويحملها ما لا طاقة لها به. إن  إسرائيل بوضعها الراهن عبئ كبير على السياسة الأمريكية وعلى الأمن العالمي.
© منبر الحرية ، 16 ماي /أيار2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018