العلاقات الجيو-إستراتيجية والسياسية الدولية

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

لم يكن ظهور مفهوم “الضربة الاستباقية” أو “الحرب الوقائية” ومرادفاتها العديدة في السياسة الدولية حديثاً ، بل يرجعه البعض الى ما قبل منتصف القرن الماضي ، حيث يعتقد أصحاب هذا التوجه أن الهجوم الياباني على ميناء “بريل هاربر” الأمريكي عام 1941م يدخل في نطاق الضربة الاستباقية التي سعت من خلالها اليابان لتحجيم القوة الأمريكية وضربها في عصب الحياة الاقتصادية التي كانت تنتعش من خلال هذا الميناء الحيوي ، ويرى آخرون أن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م كان بمثابة حرب استباقية أو ضربة وقائية لصالح فرنسا وبريطانيا التي رأت في تأميم قناة السويس من جانب مصر زمن الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر ، بمثابة تهديد مباشر لأمنهما ومصالحهما ويستوجب ضربة استباقية لاعادة الأمور لنصابها دون سابق إنذار لذلك ، فيما زعمت إسرائيل أنه ضربة استباقية لمنع مصر من استيعاب صفقة الأسلحة التشيكية التي عقدتها عام 1954م حتى لا تشكل تهديداً ضدها.
و”الضربة الاستباقية” أو الوقائية ، كما يحلو للبعض تسميتها ، والتي بدأت الكتابات الأكاديمية الغربية والعربية تروج لها كنسق جديد في العلاقات الدولية أو كنظرية ذات مواصفات معينة ولها رواد ومفكرين ، اتخذت اليوم صفة “مبدأ بوش” أو “سياسة المحافظين الجدد” في العلاقات الدولية .
ويشبه بعض المراقبين الطريقة التي وصل بها “المحافظون الجدد” إلى السلطة في واشنطن ، بما كان عليه الحال عندما أمسك “الحزب النازي” بزمام الحكم في ألمانيا عام 1936 ، فلم تكن القوى السياسية في ألمانيا وأوربا على دراية كافية بالأجندة الخفية للنازيين، ومساعيهم لإثارة نزاعات إقليمية ودولية انتهت باندلاع الحرب العالمية الثانية.
لقد أظهر فريق بوش قدرة ملحوظة على مباغتة الرأي العام الدولي بأجندته السياسية، مستفيدا من حالة الارتباك التي صاحبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ومهيئا الأجواء داخل الولايات المتحدة وخارجها لتقبل مبدأ “الحرب الاستباقية الوقائية”، وهو ما مكنه من استقطاب تأييد دولي واسع النطاق في الحرب على أفغانستان والعراق ، وساعيا لتوظيف هذا التأييد في الحروب التالية على دول “محور الشر” (إيران وكوريا) ، ومن ثم إطلاق جملة مبادرات سياسية وأمنية ترمي إلى إحداث تغيير واسع المدى في عدة أقاليم ، في مقدمتها الشرق الأوسط.
ويعرف أهل السياسة الضربة “الاسبتاقية أو الوقائية” بأنها “التحول من الرد على هجوم فعلي الى المبادرة بالهجوم لمنع هجوم محتمل ، خاصة إذا تمكنت أجهزة الدولة من اكتشاف نوايا مبكرة بالهجوم لدى الخصم بغض النظر عن مظاهر هذه النوايا”، بمعنى أن الاعتماد في الضربات الاستباقية أو الوقائية يكون على نوايا الطرف الآخر أو لمجرد كونه عدو محتمل أو قائم للدولة الأولى التي بادرت بهذه الضربة ، وسواء قام الخصم بإظهار هذه النوايا من خلال تحرك عسكري أو تصعيد سياسي أو لم يظهر .
وان كان يتفق دارسو العلوم العسكرية والمختصين في التخطيط الاستراتيجي للعمليات الحربية مع المفهوم السابق على انه يخص الضربات الوقائية ، إلا أنهم يميزون بين هذا المفهوم السياسي والعسكري في آن واحد وبين الضربات الاستباقية ، إذ يعتبرون أن الضربات الاستباقية مفهوم عسكري – استراتيجي وليس سياسي ويخضع لقيادة الجيش وآليات إدارتها للحرب بعد نشوبها أو قبل نشوبها بفترة قصيرة ، وملخص وجهة نظرهم أن الضربات الوقائية توجه مبكراً عند اكتشاف نوايا بالهجوم لدى الخصم بغض النظر عن نشر وسائل هجومه أم لا ، بينما الضربات الاستباقية فإنها توجه ضد قوات الخصم التي تم نشرها فعلاً في أوضاع هجومية مختلفة استعداداً لهجوم حقيقي، ويبدو أن الفرق عملياً مركز في التخطيط لإدارة الحرب بعد توافر النوايا لخوضها لدى أحد الطرفين ، ما يعني أن لا خلاف جوهري بين المصطلحين السياسي والعسكري من الناحية النظرية ، باعتبار أن عنصر القيام بالفعل متوفر في كلا الحالتين.
ويطرح مختصو العلوم العسكرية أمثلة تميزّ بين الضربتين ، إذ يعتبر الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر الأمريكي عام 1941م بمثابة ضربة استباقية ، حيث وجهت اليابان للولايات المتحدة ضربة تستبق فيها أي هجوم أمريكي عليها ، بينما تعتبر إسرائيل أن حربها ضد مصر في العدوان الثلاثي عام 1956م كان ضربة وقائية لمنع مصر من إتمام صفقة الأسلحة التشيكية ، وكذلك ضرب المفاعل النووي العراقي (أوزيراك) عام 1981م كان ضربة وقائية للحيلولة دون تطوير القدرات النووية العراقية ، وذات الشي يطبقه خبراء العلوم العسكرية على حرب إسرائيل على الدول العربية عام 1967م ، وكذلك على حرب رمضان 1973م من جانب مصر وسوريا ضد إسرائيل ، ويلاحظ في الأمثلة المطروحة على الضربة الوقائية أن جميعها كانت تعتمد على نوايا محتملة لهجوم طرف على الأخر ، فيحاول وقاية نفسه بنقل الحرب الى الطرف الأخر بصورة استباقية .
مما يعني أن ثمة تداخل بين الضربتين على الصعيد العسكري نوعاً ما ، فإذا كانت الضربة الوقائية تعتمد على النوايا المحتملة لدى الخصم ، فان الضربة الاستباقية تأتي في مرحلة متقدمة –حسب العلوم العسكرية- لتوجية ضربة سريعة ومباغته لقوات الخصم قبل المبادرة في بدء الحرب .
وحول مفهوم الإدارة الأمريكية للضربة الاستباقية أو الوقائية –رغم الاختلاف البسيط بينهما من الناحية العسكرية والتكتيكية وحسب- قال الرئيس الأمريكي جورج بوش في خطابه للشعب الأمريكي بعد عشرة أيام على أحداث 11 سبتمبر 2001م “علينا أن ننقل المعركة الى العدو وأن نزعزع خططه، علينا أن نواجه أسوأ التهديدات قبل أن تظهر ، إن الطريق الوحيد الذي يضمن لنا السلامة في هذا العالم الذي أقحمنا فيه هو طريق الفعل” ، وأضاف بوش “على الولايات المتحدة أن تكشف خلايا الإرهاب في ستين دولة أو أكثر” ، وهو ما يعني أن بوش قد أعلن –من طرف واحد- انتهاج سياسة “الضربة الأولى الاستباقية” ضد الإرهاب والإرهابيين والدول التي تأويهم في المكان والزمان الذي تختارهما الولايات المتحدة سواء كانت هناك نوايا إرهابية فعلا أو مجرد توجس ومخاوف قد لا يكون لها أساس من الصحة ، وهو ما يفسر قول بوش “لو أننا انتظرنا التهديدات التي نشعر بها الى أن ننفذ فسوف ننتظر طويلاً”.
وعاد الرئيس بوش ليؤكد على نظرية أو سياسة الضربة الاستباقية أو الوقائية في خطاب له أمام الحزب الجمهوري بتاريخ 15 حزيران 2002م ، حيث أوضح أن عنصري الردع والاحتواء اللذين قادا سياسة أمريكا الخارجية منذ طرحها في إطار مبدأ ترومان عام 1947م ، لم يعودا كافيين ، وبعد يومين من هذا الخطاب ، شرحت مستشارة الأمن القومي السابقة ووزيرة الخارجية حالياً كونداليزا رايس مبدأ بوش الاستباقي أو الوقائي بقولها “إنه يعني منع أعمال تدميرية معينة ضدك ، ومن خصم لك وان هناك أوقاتا لا تستطيع فيها الانتظار حتى يقع عليك الهجوم ، ثم ترد ..” ، ومن الواضح أن الضربات الاستباقية بهذا المفهوم وعلى هذه الصورة ، تقوم على دلائل غير مؤكدة وليس رداً على هجوم فعلي ، لذلك فهو سلوك هجومي في أساسه بينما مبدأ ترومان للردع والاحتواء يبقى دفاعي في مفهومه .
والسؤال المطروح هو ما إذا كانت الأعمال الاستباقية تميز هذه السياسة الجديدة عن غيرها؟
إذ تعرف وزارة الدفاع الأمريكية العمل الاستباقي بأنه “هجوم يتسم بأخذ المبادرة بناء على أدلة دامغة بأن هجوم العدو وشيك” ، وعلى النقيض من ذلك ، فإن الحرب الوقائية هي “حرب تُشن بناء على اعتقاد بحتمية حدوث نزاع عسكري رغم أنه غير وشيك ويستلزم تأخيره قدراً كبيراً من المخاطرة”.
ويبرر جراهام أليسون المحاضر في جامعة هارفارد الحرب الاستباقية بقوله ” قد أدخل معك في يوم ما في حرب ، وفي الوقت الراهن أتمتع بالقوة في حين تفتقر إليها ، لذا فإنني سوف أشن الحرب حالياً”.
ويشير أليسون إلى أن هذا المنطق نفسه هو الذي دفع باليابانيين إلى شن هجومهم على (بيرل هاربر)، بل إن بعض اليابانيين يعتقدون أن الخطأ الفادح الذي ارتكبوه هو أنهم تأخروا أكثر من اللازم.
وهناك فرق جوهري بين الهجوم الاستباقي والحرب الوقائية ، فكما تم الإشارة آنفاً ، “فإن الهجوم الاستباقي يكون مبرراً إذا كان التهديد وشيكاً وساحقاً ، ولا يترك مجالاً لاختيار الوسائل أو متسعاً من الوقت للتخطيط”. وفي الحرب الوقائية لا يكون التهديد مؤكداً أو وشيكاً، وهذا ما يجعل الإدارة الأمريكية تصرّ على أن استراتيجيتها استباقية رغم أن بعض المسؤولين الأمريكيين يستخدمون المصطلحين معاً.
ولهذا يرى البعض أن حرب الولايات المتحدة على العراق أو العدوان الأمريكي – البريطاني على العراق في آذار 2003م يندرج تحت ما يسمى بالحرب أو الضربة الاستباقية والوقائية ، بينما تعتبر حرب الخليج الثانية عام 1991م حربا دفاعية عن سيادة الكويت واستقلالها وبموجب ميثاق الأمم المتحدة الذي يجيز استخدام القوة العسكرية للدفاع عن دولة أو دول من تهديد واقع عليها ، وكان أمام العراق فرصة استخدام الضربة الوقائية الاستباقية لضرب قوات التحالف وهي في طريقها للتجمع أو التكّيف مع ساحة الحرب قبل بدايتها في كانون الثاني عام 1991م ، خاصة أن عملية نشر وتجميع هذه القوات في منطقة الخليج أخذت فترة ستة شهور كاملة ، فيما كان العراق يحتل الكويت وينشر قواته على مختلف الجبهات وكانت قواته الجوية في أهب الاستعداد لانتظار الأوامر بالقصف الجوي منذ أول لحظة لوصول القوات الأمريكية والغربية الى ساحة المعركة ، وهو ما أثار استغراب خبراء الحروب من منهجية وعقلية صانع القرار العراقي آنذاك .
وكشفت الفترة من سبتمبر 2001م الى ابريل 2003م عن صعوبة تطبيق الهند استراتيجية الضربة الوقائية ضد باكستان ، فقد حاولت الهند خلال تلك الفترة وتحت تأثير تجربة أحداث سبتمبر وسيناريو الرد الأمريكي على تلك الأحداث من ناحية ، ثم صدور وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي عام 2002م من ناحية أخرى ، والتي تبنت مفهوما مرنا لمفهوم وشروط الضربة الاستباقية،عند تطبيق هذا المفهوم ضد باكستان.
بل رأت الهند في باكستان حالة مثالية لتوفر شروط الضربة الاستباقية على النحو الذي طورته التجربة الأمريكية ، والذي ركز على التنظيمات الإرهابية وما أطلق عليه الدول المارقة ذات النظم غير الديمقراطية ، والتي تسعى إلى تطوير أسلحة الدمار الشامل ودعم الإرهاب ، وقد ذهب وزير الشئون الخارجية الهندية ياشوانت سنها في الأسبوع الأول من أبريل 2003م الى القول بأن الهند يتوفر لديها حالة جيدة لتوجيه ضربة استباقية ضد باكستان، معتبرا أنه إذا كان غياب الديمقراطية وامتلاك أسلحة دمار شامل، وتصدير الإرهاب هي شروط الضربة الاستباقية، فإن باكستان تمثل الحالة الأولى بالعمل الاستباقي ، غير أن التجربة العملية كشفت بوضوح عن تعقيدات تطبيق تلك الاستراتيجية آنذاك ، رغم أن هذا مؤشر خطير لمحاولات الدول الأخرى لتبني هذه النظرية والاستراتيجية في سياساتها الخارجية .
ومنذ نهاية الحرب الباردة وأحداث الحادي عشر من سبتمبر دفع العديد من السياسيين والمحللين السياسيين داخل الإدارة الأمريكية وخارجها إلى بناء وتنمية مفهوم الضربة الاستباقية من أجل استثمار هذه القوة الأمريكية الهائلة والضاربة لأهداف وأغراض سياسية تصب بمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية ، ورغم خطورة هذا المنهج السياسي – العسكري، إلا أنها غير قادرة على تعميمه على العديد من المناطق في العالم خصوصاً أن مفهوم الضربة الاستباقية يتطلب شروطا رئيسية ، أهمها : ضعف الطرف المقابل، وإمكانية تطبيق الضربة الاستباقية تجاه الدول والمناطق التي تعاني من الاختراق السياسي والاقتصادي الخارجي ، وكذلك ضرورة توافر تواجد عسكري ضخم في المناطق التي سوف ينفذ فيها الضربة الاستباقية من أجل احتواء ردود الفعل المحتملة بعد الضربة .
إن نظرية الضربة الاستباقية تُشجع على إساءة استخدام القوة ، وترسّخ سابقة خطيرة يحذو حذوها الآخرون ، لأن هذه الإستراتيجية لا تضع معياراً محدداً للحكم على التهديد الذي يبرر توجيه ضربة استباقية ، فالدولة الخصم أو العدو تبعاً للنوايا المحتملة ، ليست هدفاً تلقائياً للضربة الاستباقية.
وربما يكون أهم إنجاز للاستراتيجية الأمريكية أو لصقور اليمين الجديد ، هو الثناء على نظرة بوش لإحضار الديمقراطية إلى الشرق الأوسط وسط مظاهر غير عادية لكراهية الديمقراطية واحتقارها ، وتم تصوير هذا بالتمييز الذي قامت به واشنطن بين أوروبا القديمة والجديدة ، فالأولى تم التنديد بها ، أما الجديدة فتم الترحيب بها وبشجاعتها ، وكان المعيار محددا بشدة : تتكون أوروبا القديمة من حكومات تتخذ نفس الموقف الذي تتخذه الأغلبية بين شعوبها من الحرب على العراق برفضها تماماً ، بينما أبطال أوروبا الجديدة يتبعون أوامر صادرة إليهم من البيت الأبيض في واشنطن .
إن الاستراتيجية العظمى تعطي الولايات المتحدة سلطة تنفيذ حرب وقائية لا حربا استباقية ، ومهما كانت التبريرات التي تحاول تسميتها بالحرب الاستباقية ، فهي لا تسري على الحرب الوقائية خاصة ، حيث أن الفكرة ينهض لتفسيرها المتحمسين لها الآن فاستخدام القوة العسكرية للحد من تهديد مخترع أو متخيل أو محتمل ، ومن ثم حتى التعبير بكلمة “وقائية” هو تعبير فضفاض للغاية ، فالحرب الوقائية –حسب المفهوم الأمريكي- هي ببساطة شديدة الجريمة العظمى التي تمت إدانتها من الغالبية العظمى من دول وشعوب العالم حينما تركت الولايات المتحدة لنفسها العنان لإعلان الحرب على العراق واحتلاله ، ومن ثم تهديد دول أخرى بنفس مصير العراق .
وعندما غزت الولايات المتحدة العراق ، كتب المؤرخ أرثر شليزنجر أن الاستراتيجية الكبيرة لبوش ضمن مفهوم الحرب الاستباقية أو الوقائية ، كانت “مشابهة بوضوح لنفس السياسة التي استخدمتها اليابان الإمبريالية أيام اعتدت على بيرل هاربر في يوم يلطخه العار كما قال الرئيس الأمريكي السابق فرانكلين روزفلت” ، وأضاف شليزنجر أنه لا عجب أن موجة التعاطف العالمية التي احتضنت أمريكا بعد 11 سبتمبر ، قد انتهت لتحل محلها موجة عالمية من كراهية الغطرسة الأمريكية والعسكرية الأمريكية” ، والاعتقاد بأن بوش “أكثر تهديدا للسلام من صدام حسين بكثير”.
لقد اختير العراق ليكون أول ساحة نموذجية لتطبيق الضربة الاستباقية وجعله “أمثولة” يرهب بها الآخرون ، ثم يستسلمون لأمريكا بلا قتال ، كما أشار ريتشارد بيرل ، الذي وصف بـ “أمير الظلام” عقب غزو العراق مباشرة ، وهنا يكمن مقتل المشروع الإمبراطوري الأمريكي ، حيث كان تطبيق الضربة الاستباقية في العراق لا يقوم على إسقاط نظامه السياسي فقط ، للتخلص من عقبة وجود نظام حر غير خاضع للسيطرة الامريكية ويجلس “فوق بحيرة نفط” ، كما قال مسؤولون أمريكيون ، وهو أمر يمنع تطبيق نظرية “أن من يمسك بالنفط يسيطر على العالم” ، بل يجب أيضا إلحاق دمار شامل وجذري بالدولة العراقية ، لضمان حل الجيش والمؤسسات واعادة العراق الى “عصر ما قبل الصناعة” .
ويخطأ من يظن أن التهديد ، طبقا لهذه الستراتيجية ، يقتصر على الجانب العسكري فقط، فبالرغم من إعلان سياسة تقوم على تجريد كل الأطراف من القدرة على حيازة أسلحة دمار شامل والتخلص من أسلحة دمار شامل مملوكة حاليا ، ووسائل إيصالها ، كالصواريخ والطائرات ومنع أي محاولة جديدة للحصول عليها ، فان تدقيق وتحليل مفهوم الضربة الاستباقية يؤكد أن التهديد يشمل وجود منافسين للولايات المتحدة في المجالات التكنولوجية والتجارية والعلمية ، واحتمال تفوق هؤلاء مستقبلا عليها ، وفي هذه الحالات على الولايات المتحدة أن تسارع لاحتواء كل هؤلاء ومنعهم من تحقيق أي تفوق عليها واستخدام كافة السبل، وبلا استثناء ، بما في ذلك الغزو العسكري والتدمير الاقتصادي والتكنولوجي ، لضمان إعادة تشكيل العالم وفقا لرؤية ومصالح الولايات المتحدة فقط لا غير .
© منبر الحرية، 04 دجنبر/كانون الأول2009

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

إذا ما عدنا بالذاكرة قليلا إلى الوراء على وقع المفاوضات الجارية حاليا مع إيران للتوصّل إلى اتفاق حول الأزمة النووية وعدد من المشكلات المثارة، وتحديدا إلى تاريخ 14/6/2008، سنصاب بالذهول والحيرة.
فقد شهد ذلك التاريخ تقديم الاتحاد الأوروبي ما يسمى “عرض الحوافز” إلى إيران بموافقة وتوقيع كل القوى الكبرى ومن ضمنها الولايات المتّحدة والصين وروسيا وألمانيا وفرنسا. وقد تضمّن ذلك العرض لمن يريد مراجعته حوافز ذات سقف عالي جدا، وشملت الطاقة والسياسة والاقتصاد والزراعة والطيران والصناعة والتكنولوجيا، وشملت أيضا نفس الأفكار التي يتم التفاوض عليها حاليا، وقد رفضته إيران حينها.
وقد تضمّن الشق المتعلّق بالطاقة آنذاك اقتراحا يشير إلى النقاط التالية:
•    توفير المساعدات التقنية والمالية اللازمة لاستخدام إيران السلمي للطاقة النووية، ودعم استئناف مشاريع التعاون التقني في إيران من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
•    دعم إقامة مفاعلات الماء الخفيف استنادا لآخر ما توصلت إليه التكنولوجيا.
•    مساندة الأبحاث والتنمية في الطاقة النووية وذلك مع استعادة الثقة الدولية تدريجيا.
•    توفير ضمانات إمدادات الوقود النووي الملزمة قانونيا.
•    التعاون بخصوص معالجة الوقود المستنفد والفضلات الإشعاعية.
•     إقامة شراكة إستراتيجية طويلة الأجل وواسعة النطاق في مجال الطاقة بين إيران والإتحاد الأوروبي وغيره من شركاء على استعداد للتعاون، مع اتخاذ إجراءات وتطبيقات عملية.
بمعنى آخر، فانّ ما يتم التفاوض عليه الآن كان قد تم التفاوض عليها سابقا ولاسيما النقطتين الرابعة والخامسة أعلاه، وتم رفضه أيضا من قبل طهران، فلماذا يتم إعادة إحياؤه الآن؟ وما الذي تغيّر حتى نتوقع أن تقبل إيران به هذه المرّة؟ والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الإطار وفي ظل سياسة كسب الوقت الإيرانية المعروفة، ماذا إن كانت إيرانتراوغ من جديد؟ وماذا إن لم تكن تريد التوصل إلى اتفاق أصلا؟
إذا كانت إيران تريد حقا القبول بذلك العرض ولكنها تنتظر الوقت المناسب الذي تكون فيه في موقع أكثر قوّة مما كانت عليه حينها، فقد فشلت في ذلك. فالوضع الإيراني الحالي وخاصة الداخلي أكثر صعوبة في ظل وجود انشقاق سياسي خطير من المنتظر له أن يستمر بل وينمو على وقع القمع الذي يتعرّض له.
وعلى الصعيد الاجتماعي، هناك تحرك أيضا لطوائف وقوميات مقموعة ومكبوتة ومحرومة للتعبير عن الاستياء من الوضع الذي وصلت اليه في ظل حكومة نجاد وسياساته، وعلى الرغم من أنها لا تطالب بالانفصال عن إيران ومنها مناطق مثل بلوشستان في الشرق وأذربيجان في الشمال والأحواز على الخليج العربي، الاّ أنّ لتحرّكاتها مفاعيل مدمّرة إذا ما تزامنت في وقت واحد، وقد رأينا إحدى تجلّياتها في التفجير الأخير الذي استهدف كبار قادة الحرس الثوري المفترض أنّه صمّام أمان النظام السلطوي في طهران.
على الصعيد الخارجي الدولي، استطاعت ديبلوماسية الرئيس أوباما تصحيح أخطاء بوش الابن في التعامل مع إيران وجمعت الصف الدولي إلى جانبها في محاولة منها للقول أننا نريد التوصل إلى اتفاق مع إيران لكن يبدو أنّ الأخيرة لا تريد ذلك وبالتالي فان جميع الخيارات عندها ستكون مطروحة في ظل التفاهم الدولي والإجماع.
وقد أكّدت الأحداث الأخيرة في إيران أنّ الهم الأوّل بالنسبة إلى رموز النظام هو التمسّك بالسلطة مهما كلّف الثمن، ولذلك يصبح من المستبعد القول بأنّ هذا النظام يعتمد سياسة الانتحار الجماعي في السياسة الخارجية، أو أنه يريد أن يستجلب حربا ضدّه قد تطيح به وبمنظومته التي عمل كثيرا للوصول اليها، وسيعمل ما بوسعه للحفاظ عليها ايضا، وهو ما يفترض منطقيا قيامه بكل ما من شأنه أن يجنّب الآخرين استعمال الخيار العسكري ضده.
ولكن وإذا ما نظرنا جيّدا في أسباب الرفض الإيراني المتكرر لرزمة الحوافز السخيّة جدا كما وصفت من قبل المسؤوليين الدوليين مرارا وتكرارا، فإننا قد نصل إلى استنتاج مفاده أن هذا النظام يخاف من الحوافز بقدر خوفه من الحرب، فالحوافز قد تساعد أيضا على الإطاحة به.
إذ من شان هذه الحوافز أن تفتح إيران والمجتمع الإيراني والاقتصاد الإيراني على الخارج، وقد يؤدي ذلك إلى انهيار تدريجي للنظام الذي يفضّل دائما أن يكون على الجانب الانعزالي الذي يمكنه السيطرة فيه على المجتمع وإحكام قبضته على النظام. بمعنى آخر قد تتحوّل هذه الحوافز بالنسبة إلى حلقة المرشد الأعلى علي خامنئي من الملالي دائرة السلطة  إلى حصان طروادة، وبذلك تكون مفاعيلها أخطر من القيام بشن هجوم عسكري على إيران.
ويوصلنا التحليل إذا ما كانت قراءتنا هذه واقعية وافتراضاتنا صحيحة، إلى انّ النظام الإيراني لن يتخلى عن الوصول إلى سلاح نووي مهما كلّف الأمر، وان اقتضى ذلك منه أن يظهر انّه مستعد للحرب تارة وللتفاوض تارة أخرى. وبطبيعة الحال، فان لم يتم التصرف بشكل سريع وحاسم في مواجهة هذا التلاعب الإيراني والمراوغة الدائمة فإننا سنكون أمام خيارات قاسية جدا خاصّة بالنسبة للمنطقة العربية.
© منبر الحرية، 02 دجنبر/كانون الأول2009

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

أصدرت إحدى المؤسسات البحثية في كندا فلما وثائقيا خطيراً تحذر فيه من الانتشار المتنامي للإسلام في العالم ، خاصة في أوروبا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية ، والفلم الوثائقي ، الذي أنتجته المؤسسة البحثية –التي لم يتسنَ التأكد من هويتها- في 25 ابريل 2009 وانتشر بصورة مذهلة على شبكة المعلومات الدولية “الانترنت” ومدته ثمانية دقائق وتم ترجمته لعدة لغات أجنبية ، يتناول واقع النمو السكاني الطبيعي في أوروبا والولايات المتحدة وكندا ومقارنته بالنمو السكاني الهائل للمسلمين في الغرب ، خاصة بعد الهجرات الكثيفة للعرب والمسلمين صوب الغرب منذ منتصف القرن الماضي .
ويؤكد التقرير أن معدلات المواليد في القارة الأوروبية تنخفض بشكل تدريجي منذ عقود ومعدلات الخصوبة متراجعة بشكل ملحوظ، إلا أن الحضارة الغربية غير مهددة بالانقراض أو الاندثار، ليس بسبب ارتفاع معدلات النمو الطبيعي في أوروبا وإنما لارتفاع معدلات الهجرة إليها ، وخاصة ما يسميه التقرير “الهجرة الإسلامية” !! حيث يرى أن ما نسبته (90%) من مجموع المهاجرين إلى أوروبا منذ عام 1990م هم من المسلمين .
الغريب في الأمر انه لم تتبنى أي جهة رسمية كندية أو غربية حقيقة محتوى التقرير، دلالة على أن ما يتضمنه أشبه “ببالون” اختبار عملي تقف خلفه جهات أجنبية معينة تهدف من ورائه لجس نبض ردود الأفعال الرسمية الإسلامية والغربية على التقرير ومن ثم التحضير لتزويد مؤسسات الأمن القومي الغربي، خاصة في كندا والولايات المتحدة، بتفاصيل أكثر دقة لمواجهة ما يسميه التقرير بـ”خطر انتشار الإسلام الكاسح” !!
ويقدم التقرير أرقاما عن نسبة المواليد في بعض الدول الغربية ومعدلات مواليد المسلمين مقابلها، ففي فرنسا مثلا معدلات المواليد فيها (1.8%) يقابلها معدلات مواليد في العالم الإسلامي يبلغ (8.1%) في بعض الأحيان . وفي فرنسا أيضا فان نسبة السكان المسلمين تحت سن العشرين في المدن الكبيرة مثل باريس ونيس ومرسيليا تبلغ (30%) من سكان تلك المدن . وفي بريطانيا ارتفع عدد المسلمين فيها خلال الثلاثين سنة الماضية من (82) ألف مسلم إلى (2.5) مليون مسلم بزيادة مقدرها ثلاثين ضعفا.
أما في هولندا فان (50%) من المواليد الجدد هم من المسلمين وهذا يعني بأن نصف سكانها سيكونون من المسلمين خلال (15) سنة قادمة . وفي روسيا اليوم هناك أكثر من (23) مليون مسلم يشكلون خمس إجمالي سكانها. وفي بلجيكا اليوم فان (25%) من السكان    و(50%) من المواليد الجدد من المسلمين .أما في كندا فالإسلام اليوم هو أسرع الأديان نمواً في هذا البلد .. وفي الولايات المتحدة الأمريكية كان عدد المسلمين عام 1970م (100) ألف مسلم فقط وارتفع هذا العدد اليوم إلى أكثر من (9) مليون مسلم .
ورغم عدم إمكانية التأكيد من صحة الأرقام والنسب التي يطرحها التقرير، إلا أن الواقع يفرض مصداقيتها من حيث المبدأ، سيما وان الأرقام والنسب قد تكون صحيحة لكن عملية توظيفها بهذا الشكل الذي يسيء للإسلام والمسلمين في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية هي المشكلة الحقيقية في التقرير .
فالأرقام مستخدمة بطريقة تقدم للآخر معلومات خاطئة وإحصائيات ذات دلالة خطيرة مفادها أن الإسلام خطر حقيقي يتهدد الغرب، والإشارة إلى أن انتشاره الواسع من خلال ارتفاع معدلات خصوبة المسلمين مقارنة بضعف نفس المعدلات لدى الشعوب الغربية يشير إلى تحول بعض البلاد الغربية إلى دول إسلامية بالمستقبل !! هو افتراء ما بعده افتراء من تلك الجهات التي وقفت خلف التقرير واعدته بصورة نمطية تضع المسلمين في أوروبا في قفص الاتهام أمام الرأي العام الغربي أولا ومن ثم أمام صانع القرار الغربي ثانيا .
ويبدو أنها رسالة موجهه لمؤسسات صنع القرار الغربي بوقف الهجرة العربية والإسلامية إلى دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من جهة ، ومن جهة أخرى لمراقبة وضبط وتقييد حرية وحركة وعمل العرب والمسلمين في أوروبا والغرب عموما ، عملا بشعار “كل مسلم متهم حتى تثبت براءته” !! وهو منطق سبق وحاولت الولايات المتحدة الأمريكية تطبيقيه بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م وفشلت بذلك لأنها خرقت أهم قواعد الدستور الأمريكي الذي لا يميز بين مواطنيه لأبعاد دينية أو عرقية أو طائفية ، وكذلك وجدت نفسها في مأزق حرج وهي الدولة التي ينشدها كل إنسان على وجه البسيطة لممارسة طقوسه  وحريته الدينية كيفما يشاء .
ويشير التقرير إلى أن المسلمين في أوروبا والبالغ عددهم اليوم أكثر من (52) مليون مسلم لا يعيشون في جماعات موحدة، وهذه حقيقة تناقض دعوته إلى خطر هذه الجماعات على الغرب ؛ فالجماعات الإسلامية في أوروبا ليست متجانسة، وإنما لها خلفيات عرقية وثقافية ولغوية وأخرى اجتماعية متباينة. وعلاوة على ذلك فهي تنتمي إلى مذاهب إسلامية مختلفة. تماما كما هو حال أيضا الشعوب الأوروبية غير المتجانسة مع بعضها حيث الخلفية الاقتصادية والاجتماعية والقانونية.
ولا ينكر أحدا أن الجاليات الإسلامية في أوروبا قد حصلت على كثير من الحقوق التي كانت تفتقدها في مواطنها الأصلية التي هاجرت منها، كما حصل الكثير منها على جنسية الدول التي يقيمون فيها بحيث أضحوا جزءًا من نسيج تلك المجتمعات. وقد حصل هؤلاء على مستوى معيشي جيد، ورعاية صحية كاملة، وأتيح لهم التعليم في مختلف المستويات، وممارسة حرية التعبير كأهل البلاد الأصليين .
وتناسى التقرير أيضاً أن بعض دول أوروبا اعترفت بالإسلام كدين رسمي في بلادها منذ مطلع القرن الماضي ، فعلى سبيل المثال تم الاعتراف بالإسلام في النمسا كدين رسمي منذ عام 1912، وفي بلجيكا منذ عام 1974 بكل ما يعنيه هذا الوضع من مزايا.
لذلك فالمسلمون في الغرب إضافة نوعية وايجابية لرصيد الحضارة الغربية وهم جزء من التكوين الثقافي والاجتماعي للغرب وقدموا الشيء الكثير للحضارة الغربية ، وهم اليوم قوة إنسانية نوعية تزيد من قوة الغرب ولا تضعفها كما يروج التقرير لذلك ، بدليل أن ألاف مؤلفة من الطاقات والإمكانيات البشرية الإسلامية تخدم الغرب في مواقع حساسة ومهمة سياسية واقتصادية وعسكرية .
فوجود المسلمين في الغرب هو مكسبٌ عظيم للغرب، وإغناء لا مثيل له للثقافة الغربية المعاصرة، لاسيما وأن ثمة حالياً استجابة كبيرة من لدن الغرب للقيم الإسلامية الإنسانية ، خاصة بعد أن تمكن المسلمين في الغرب ، خلال العقد الأخير، من أن يشكّلوا حضوراً لافتا داخل المجتمعات الغربية، اعترى مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية وغير ذلك .
والواقع أن العلاقة بين المسلمين والغرب، في إطار تعايش المسلمين في أوروبا،  لا وجود لها بذلك الشكل السلبي المضخّم الذي يصوره التقرير، فالصورة التي صُمّمت للإسلام في الغرب، هي صورة مقزّمة، نُسجت بفرشاة الأيديولوجيا ومقصّ الإعلام، فإما أن تثار على مستوى النقاش الأيديولوجي ، فتكون صناعة إعلامية مدعومة بما هو أيديولوجي معاد للإسلام، أو العكس، صناعة أيديولوجية مدعومة بما هو إعلامي معاد للإسلام . بيد أن الغرب الحضاري والإنساني، الذي يقدّم للإنسان شتى القيم الإيجابية والإنجازات المفيدة ونحو ذلك، هو ذلك الغرب الذي هيّأ ملاذاً دافئاً لملايين المسلمين والأجانب، في الوقت الذي أقفلت الدول الإسلامية الغنية أبوابها في وجوههم .
وحتى تكتمل محاور النقاش بموضوعية ولا تبقى تدور في حلقات الغرب الذي يحمّله الكثير –ظلماً- ضريبة ومسؤولية الصورة السلبية للمسلمين في أوروبا ، لا بد من توجيه النقد أيضاً للجماعات الإسلامية في الغرب بشكل عام، بضرورة الخروج من نموذج الانغلاق على الذات والتقوقع باسم الدين والمحافظة والخوف من الذوبان، وما إلى ذلك من التبريرات اللاعقلانية.
والأفضل لهم هو الاندماج الإيجابي أو العقلاني في المجتمع الغربي، وهو اندماجٌ على مستوى ما تقرّه الأدبيات السّياسية والقانونية الغربية؛ من إتقان للغة الدولة التي يستقرّ فيها الأجنبي أو المسلم، وتعرّف على ثقافتها وعاداتها وتقاليدها، واحترام ما ينصّ عليه دستورها من قوانين منظّمة للحقوق والواجبات. في مقابل ذلك يتحتّم عليه التمسك بهويته الدينية والثقافية، التي لا تلغي الآخر، بقدر ما تدعو إلى المعاملة الإيجابية معه.
فالانخراط السّلمي والفعال للمسلمين في الواقع الغربي، لا يتحقق إلا بالاندماج الإيجابي المشار إليه أعلاه ، وهو اندماج مبني على احترام الآخر، آخذاً بعين الاعتبار حقوقه. لذلك مطلوب من المسلمين أيضاً بتحسين حضورهم بالسلوك الحسن، والمشاركة الاجتماعية والاقتصادية الفعّالة، والإسهام السّياسي المستمر، والإنتاج الثقافي الهادف، والتوجيه التربوي الصارم. لذلك فإنّ كل منْ يعتقد أن التعايش الحقيقي مع الغرب يبدأ من نزع الحجاب أو اللحية أو ترك الصلاة أو غير ذلك، فإنّ مثله مثل الذي يحرث الصحراء، فلا يحصد منها في النهاية شيئاً، لأن تجانس المسلمين مع واقعهم الحقيقي في الغرب، لن يتأتى إلا عن طريق التربية القويمة التي تصحّح جملة من الأفكار الخاطئة التي جبلوا عليها، وتزوّدهم بمنهج حياة مستمد من منابع الإسلام الحقيقية، حيث الدين المعاملة أولاً وأخيراً سواء كانوا في مجتمع إسلامي عربي أو مسيحي غربي .
ولعل أن تقرير اتحاد هلسنكي العالمي الصادر عام 2005م بشان أوضاع المسلمين في دول الاتحاد الأوروبي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م دليلاً قاطعاً على أن التقرير الكندي –موضوع المقال- لا يمثل سوى الجهة المشبوهة التي أصدرته لأغراض الإساءة إلى الحضور الإسلامي في الغرب والتشكيك في انتماء المسلمين للحضارة الغربية.
إذ وجه تقرير اتحاد هلسنكي العالمي عددا كبيرا من الوصايا إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بشأن معاملة المسلمين في أوروبا على أساس أنهم مواطنين أوروبيين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية . ومن الناحية السياسية طالب التقرير بجعل الجاليات المسلمة جزءً مندمجا في المجتمع الأوروبي وحمايتهم من كل أنواع التمييز.   وطالب بضمان حرية ممارسة العبادات وأن يكون تطبيق القوانين الخاصة بالهجرة ومحاربة الإرهاب متماشية مع الاتفاقيات الدولية لحماية حقوق الإنسان. كما أوصى التقرير أيضا أن تكف الدول عن التمييز ضد المسلمين وأن تدعوا بانتظام إلى التسامح والحوار، سواء كان في تعامل المواطنين أو الهيئات أو الإعلام مع المسلمين.
© منبر الحرية، 26 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

إسم المؤلف: د. كريستوفر أ. بريبل
إسم الناشر: كورنيل يونيفيرستي بريس
في كتابه الذي صدَرَ حديثا تحت عنوان (مشكلة القوّة: كيف تجعلنا الهيمنة الأمريكية أقل أمنا وأقل إزدهارا وأقل حرية ً) يقدّم الدكتور كريستوفر أ. بريبل طرحا جريئا حول مشكلة القوة العسكرية الأمريكية التي هيمنت على العالم. ولكنها جعلت من الأمريكيين أقل أمنا وأقل إزدهارا وأقل حرية ً.
وفي المقدِّمة يمهد الكاتب للتعريف بالكتاب بأنه يتناول تحديدا ً القوة العسكرية الأمريكية من حيث ماهيّتها وكيفية قياسها واستخداماتها بإلاضافة إلى اعتبارات أخرى تتعلق بتكاليفها والفوائد التي يجنيها الأمريكيون من وراء وجود هذه القوة الهائلة. ويبيّن المؤلف كيف أن القوة الأمريكية العسكرية الضخمة لم تردع أو تخيف المهاجمين في الحادي عشر من سبتمبر 2001، ولم تجعل صدام حسين يرضخ للشروط الأمريكية، واستمرت كوريا الشمالية بتجاهل التحذيرات الأمريكية، ولم تكن التهديدات الأمريكية ضد إيران ذات جدوى. ويقول الكاتب في هذا الصدد: “إن مقارباتي من السياسة الخارجية الأمريكية مختلفة ولا تروق لصنّاع السياسات في واشنطن من جمهوريين وديمقراطيين مع علمي أن التغيير ليس سهلا ً.”
ويبيّن المؤلف أن الأمريكيين نسوا في بعض الأحيان أن القوة الوطنية في الولايات المتحدة تشمل أكثر مما هو متعارف عليه بالقوة العسكرية. وبذلك فقدوا رؤية الغرض الذي وجدت لأجله القوة العسكرية وأصبحت القوة العسكرية الأمريكية بعدة طرق مشكلة حقيقية. وشكّلت هذه المشكلة الأساس الذي ارتكز عليه هذا الكتاب لإثارة النقاش والجدل بهدف الوصول إلى حقيقة مفادها وجوب تخفيض القوة العسكرية الأمريكية ليصبح الأمريكيون أكثر أمنا. ويمكن حلّ المشكلة بالعودة إلى الدستور الأمريكي وإلى قرون التاريخ لاستنباط أن مهمة القوة العسكرية الأمريكية هي تأمين الحرية الإقتصادية  والاجتماعية والثقافية الأمريكية لجميع الأمريكيين داخل الولايات المتحدة الأمريكية وليس لحماية شركاء في الخارج والتعهد بنشر الديمقراطية في بلدانهم.
ويستطرد الكاتب بالقول: “مع أن إدارة كل من بوش الأب وكلينتون كانتا قد ساهمتا في خفض نفقات الأفراد والمعدات لكنهما بنفس الوقت أرسلتا القوات الأمريكية إلى عدد من المهام الخطيرة والتي لم تكن ضرورية للأمن الوطني الأمريكي.”
ويحاول الكاتب إثبات وجهة نظره هذه بأن القوة الحقيقية للأمة الأمريكية لا تكمن في القوة العسكرية لوحدها. واستشهد على ذلك بأن من الدروس الأولى المهمة لحقبة الحرب الباردة أن الولايات المتحدة ربحتها ليس عن طريق القوة العسكرية، بل بسبب عوامل قوة كثيرة إجتماعية واقتصادية وثقافية. في حين خسرها الإتحاد السوفيتي الذي بنى ترسانة هائلة من الأسلحة النووية والتقليدية على حساب قوت الشعوب السوفييتية لكنه لم يوفّر للناس في الأسواق أحيانا ما يشترونه من المواد الغذائية الأساسية. وعلى الرغم من ذلك، نسي بعض الأمريكيين دروس الحري الباردة خلال العقدين التاليين لسقوط الإتحاد السوفييتي واعتقدوا أن القوة العسكرية الأمريكية هي نهاية المطاف. ثم يتساءل الكاتب قائلا: “لقد قدمنا مساعدات لمسلمي البوسنا والهرسك ولكن لماذا لم نساعد المسلمين في الشيشان؟”
وفي الفصل الأول يؤكد الكاتب حقيقة “أن القوة العسكرية هي قوة هيمنة إلا أنها ليست قادرة على كل شيء.” وحتى يتم فهم ذلك لا بد من معرفة ما هي مكونان القوة العسكرية برّا وبحرا وجوّا وأين تتوزع تلك التشكيلات العسكرية داخل الولايات المتحدة وخارجها لا بل وماذا تعمل تلك القوات على وجه التحديد. ويركّز الكتاب على أن القوى البشرية العاملة والمعدات والأسلحة المستخدمة في الصنوف الأربعة التي تمثل التنظيم العسكري الأمريكي للقوات المسلحة وهي الجيش الأمريكي (القوات البرية) والبحرية ومشاة البحرية والقوات الجوية الأمريكية. حيث ينتشر ما مجموعه 267000 جندي أمريكي في أكثر من 100 دولة حول العالم. وذلك من خلال عدد من الاتفاقيات السرّية حول تنظيم تواجد القوات العسكرية الأمريكية والتي تتراوح ما بين 80 إلى 115 اتفاقية مع دول متعددة على الساحة العالمية، والأهم من ذلك كله أن هذا الانتشار الهائل للقوات العسكرية الأمريكية لم يحدث بين عشيّة وضحاها، لا بل أنه تفاقم بعد عقدين من أفول نجم الحرب الباردة. ويعود الكاتب بشكل موجز إلى الجذور التاريخية لإنشاء القوة العسكرية الأمريكية منذ القرن الثامن عشر ويبيّن كيف تطورّت تلك القوة نسبيا وتدريجيا ما بين الحربين عام 1812 مع البريطانيين والحرب العالمية الثانية عام 1939. ويبيّن المؤلف ماهيّة الدور الفعلي للقوة العسكرية من خلال رؤى واضعي نصوص الدستور الأمريكي والرؤساء الأمريكيين المؤسسين ومجالس الكونغرس المتعاقبة. وذلك بهدف معرفة كيفية الوصول القوات العسكرية الأمريكية إلى ما وصلت إليه اليوم من حجم هائل وقدرات كبيرة وانتشار واسع النطاق حول العالم، والتي لم تكن بالحسبان عبر مراحل التأسيس الأولى. ومع ذلك، كان الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت آيزنهاور قد حذّر قبل مغادرته البيت الأبيض في الستينيات من مغبّة تحكّم المجمع الصناعي الأمريكي للأسلحة والمعدّات العسكرية بمجريات الأمور المتعلقة بالقوات المسلحة وقرارات الحرب. إلا أنه على الرغم من تلك التحذيرات وقبل الوصول إلى نهاية حقبة الحرب الباردة، كانت قد بدأت مرحلة التدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج، ابتداءً من الجوار الأمريكي، حيث الدومنيكان عام 1965، وغرينادا عام 1983 وبنما عام 1989، ثم الانتقال إلى العراق عام 1991 والصومال عام 1992. وبعد ذلك في البلقان ثم أفغانستان عام 2001، والعراق مرة أخرى عام 2003. ما زال الوجود العسكري الأمريكي في البلقان وأفغانستان والعراق ماثلا حتى اليوم.
ويوضّح الفصل الثاني من الكتاب كيفية حساب ومطابقة تكاليف القوة العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية من خلال طرح التساؤل عن مقدار الإنفاق على القوة العسكرية ومعرفة أين تذهب تلك النقود لا سيما وإن التكاليف المباشرة لإنشاء وإدامة وتوسيع القوة العسكرية مع الميزانية الأساسية لوزارة الدفاع “البتناغون” يسهل حسابها نسبيا. ويبيّن الكاتب : “أنه عند إضافة تكلفة الحرب في أفغانستان والعراق والتي وصلت إلى 4.5 في المائة من مجمل الإقتصاد الأمريكي أو ما يعادل 622 مليار دولار أمريكي كإنفاق عسكري عام 2007، وعندما يجري توزيع هذا المبلغ على مستوى الفرد في الولايات المتحدة تبلغ حصة كل رجل وأمراة وطفل أمريكي نحو 2065 دولار.” أي ما يزيد عن ضعف ما يدفعه المواطن البريطاني والفرنسي وأكثر من ثلاثة أضعاف ما يدفعه الشخص الياباني والألماني. علما بأن الفجوة في الأنفاق قد زادت في عام 2008 عن العام السابق ثم وصل المجموع الكلي المطلوب للأنفاق العسكري في عام 2009 حوالي 800 مليار دولار.
ويبيّن المؤلف في الفصل الثالث أن القوة العسكرية لأمريكا تُكلّف كثيرا ومع ذلك يعتقد كثير من الأمريكيين خطأ أن تخفيض الميزانية العسكرية وإجراء تغييرات شاملة على الإستراتيجية الأمريكية الحالية يمكن أن ينتج عنها حالة قد تكون “أقل أمنا”  بالنسبة للشعب الأمريكي. ويستدلّون على ذلك من تقديرات تقول أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر قد كلّفت الإقتصاد الأمريكي 250 مليار دولار. ثم يستشهد الكاتب على ذلك بالقول: “طالبَ مرشحو الرئاسة الأمريكية عام 2008 بما فيهم الرئيس الحالي باراك أوباما بزيادة عدد الأفراد العاملين في الجيش ومشاة البحرية، وحسب وجهة نظر السناتور جون مكين فإن تلك القوات يمكن زيادتها بنسبة 40 بالمائة عمّا كانت عليه قبل هجمات 11 سبتمبر 2001.” ومع ذلك يتجاهل الكثير من الأمريكيين أن زيادة النفقات على القوات التقليدية لها تأثير محدود ضد أعداء مجهولين كتنظيم القاعدة.
وفي الفصل الرابع يعتبر الكاتب : “أن القوة العسكرية الأمريكية بحد ذاتها مشكلة لأنها تكلف كثيرا جدا. وتكلّف كثيرا جدا لأنها كبيرة جدا.” وهي بحق أكبر بكثير من حاجة الولايات المتحدة للدفاع عن نفسها ومصالحها الحيوية. ومع ذلك، فإن صنّاع القرار في الولايات المتحدة يستخدمون تلك القوة العسكرية كثيرا بسبب الأعتقاد الخاطئ بأن الأمن الأمريكي يعتمد على الإستقرار العالمي الذي لا أحد يستطيع الحفاظ عليه سوى الولايات المتحدة. ولكن إذا ما جرى التركيز بصورة دقيقة على الأمن الغذائي الأمريكي يتبين أن الولايات المتحدة تحتاج إلى حجم أقل واستخدام أقل للقوة العسكرية الأمريكية.
وحول مأزق السيطرة على القوة العسكرية يشرح المؤلف في الفصل الخامس هذا المفهوم من منطلق مقنع إلى حد كبير وهو: “أن إستراتيجية الولايات المتحدة باستخدام القوة العسكرية الأمريكية نيابةً عن الآخرين لا تشجعهم بالدفاع عن أنفسهم لا بل وتجر الولايات المتحدة إلى حروب خارجية” بسبب فرضية إعتبار أن الهجوم عليهم هو هجوم على الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. ومن هنا فإن الولايات المتحدة لا تعتمد على تلك الدول في مسألة الدفاع عن أنفسهم من الأخطار الخارجية، وهذا الأمر يظهر للعالم أن الولايات المتحدة أمة أكثر من عادية لتحمل عبئا أكبر من أمنها الداخلي. وبنفس الوقت أن الأمم الأخرى هي أقل من عادية وغير معنية بأمنها الداخلي.
وفي الفصل السادس يرى الكاتب أن تطويع مشكلة القوة أمر لا بد منه ولا يكون ذلك التطويع من وجهة نظره بتخفيض نفقات القوة العسكرية الحالية إلى النصف بين عشية وضحاها، ويستطرد قائلا: “عندما يتم بناء قوة عسكرية هائلة وتستمر الولايات المتحدة بالمحافظة عليها بهذا الحجم ثم يقوم أصحاب القرار السياسي بالبحث عن أدوار لها بهدف استخدامها، فإن ذلك يعني أن الحصان أمام العربة.” وقد يكون من الأفضل أن يركز النهج المتّخذ على العكس تماما فيما لو حددّت الولايات المتحدة أولوياتها من حيث الأهم والمهم. على أن تتناسب الخيارات العسكرية الأمريكية مع القوة العسكرية المتوفرة من حيث الحجم الإجمالي للقوات بما فيها الأسلحة والمعدات المشتركة مثل الطائرات والأفراد والسفن والغواصات وغير ذلك.
وفي خلاصة الكتاب يبيّن المؤلف أنه: “من الممكن أن تحافظ الولايات المتحدة على موقعها في قمة النظام العالمي وحدها لمدّة طويلة جدا. مع أن التاريخ يقول غير ذلك. “ومن حيث أن الولايات المتحدة ستبقى تكافح من أجل البقاء متقدّمة على الآخرين فإن هذا الوضع يجعلها تعيش في حالة مستمرة من الخوف، وعليه لن يتوقف الحديث عن عدم الشعور بالأمن. ومن هذا المنطلق ستستمر الولايات المتحدة بالإنفاق أكثر فأكثر نتيجة لقناعة ذاتية بهدف البقاء من دون منافسة أحد لها.
يتبين من خلال قراءة كتاب ” مشكلة القوة ” قراءة دقيقة ومتأنية أن طروحات المؤلف قوية جدا ومنطقية للغاية، وتمس شعور ورغبات وتطلعات المواطن الأمريكي، من حيث أن هنالك أولويات وبرامج مطلوبة داخليا أكثر من تجارة الحروب في الخارج (نيابة عن الآخرين) بقوات عسكرية تضخّمت لدرجة أصبحت عبئا ثقيلا على المواطنين ودافعي الضرائب الأمريكيين، من دون مردود اقتصادي داخلي. كما أن استنتاجات المؤلف مقنعة بدرجة كبيرة وتتوافق مع ما يعتقده كثيرون من الأمريكيين أنفسهم، ومع كثير من الشعوب على الساحة العالمية – مع أنها قد لا تروق لأنظمة سياسية خارجية – ممن يرون أن الجندي الأمريكي مكلّف بحراستهم وحماية كراسيهم و مكتسباتهم الشخصية. يُذكر أن المؤلف اعتمد على مراجع عالمية دفاعية معروفة وموثوقة، ومصادر بحثية وأكاديمية أمريكية متعمدة. بالإضافة إلى وثائق وأرقام وإحصائيات متعددة في كافة مقارباته وتناوله للحقائق والأحداث والأقوال والتصريحات.
أعيد نشره نقلا عن مجلة الدراسات الإستراتيجية، المجلد الخامس، العدد 15 ، صيف 2009، بموافقة من السيد رئيس تحرير المجلة وبالتنسيق والتعاون  مع مركز البحرين للدراسات والبحوث، وتجدر الإشارة إلى أن مجلة الدراسات الإستراتيجية هي مجلة متخصصة محكّمة تصدر دوريا عن مركز البحرين للدراسات والبحوث وتعنى بالدراسات والبحوث والمقالات ذات البعد الإستراتيجي.
© منبر الحرية، 21 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

حينما سُئِل طريد العدالة الأميركي ويلي سوتون عما يدعوه لسرقة البنوك، ردّ بالقول: “لأن الأموال موجودة فيها”. وبالبساطة ذاتها يمكن تسويغ السبب الذي دفع – ولا يزال يدفع – منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى لعب دور هو الأول من نوعه في سواحل القرن الأفريقي، بأن “الجهات التي تُهدد الأمن الأوربي والعالمي موجودة فيها”.
من ناحية المبدأ، قد نقبل بهذا المنطق الذي يُحمّل قراصنة الصومال مسئولية تدخل الحلف في عمليات هدفها حماية الأمن البحري في مياه خليج عدن والمحيط الهندي، بالنظر إلى تعاظم خطر القرصنة البحرية على خطوط الملاحة العالمية في هذه المنطقة بالتوازي مع عدم قدرة دولها على الحدّ من هذه الظاهرة الإجرامية، لاسيما وأن لأوربا، التي تنضوي غالبية دولها في منظومة الحلف الأمنية، لها مصلحة حيوية في حماية الممرات البحرية التي يمر عبرها جزء كبير من تجارتها مع آسيا وشرق أفريقيا.
لكن، في المقابل، لا يمكننا تجاهل حقيقة أن ثمة فرصة ثمينة لحلف الناتو أخذت تتبلور بفعل تفاقم ظاهرة القرصنة البحرية في سواحل القرن الأفريقي، وأن المشهد – بشكل أو بآخر- أصبح مواتياً لكي يمد الحلف نشاطه، ولو مؤقتاً، إلى منطقة جغرافية جديدة، وعلى نحو يُعزز مساعيه الحثيثة منذ نهاية الحرب الباردة لتحويل نفسه إلى منظمة أمنية كونية من حيث نوع مهماته وطبيعة مشاركاته، بل وحتى الصيغة المستقبلية للعضوية فيه.
وكما كان نابليون يقول دائماً فإنه “كما في الحرب كذلك في السياسة: كل فرصة تضيع ولا تعود”، فإن الحلف لم يلبث أن أبدى إدراكه لذلك، ووعيه به، بالفعل. وفي هذا الإطار، يمكننا فهم خلفية التحركات الأوروأطلسية الأخيرة والمتواصلة قبالة السواحل الصومالية. ففي تطور غير مسبوق، قرر حلف الناتو في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الماضي إرسال سبعٍ من بوارجه الحربية إلى خليج عدن والمحيط الهندي. ولم تأتِ القوة الأطلسية هذه المرة تحت ذريعة وقف نزاع مسلّح، أو المحافظة على الاستقرار الإقليمي، بل تحت شعار ضمان “الأمن الملاحي” وحماية سفن برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، وهو بالتأكيد شعارٌ زاهٍ يُناسب ظروف المرحلة وتعقيداتها، ومن ثمّ فإن نجاحه، كشعار مجرد، سواء أكان طابعه استهلاكياً ودعائياً أم لا، مضمونٌ ولاشك.
والحقيقة أن تحرك الناتو هذا يبدو منسجماً مع توجهه خلال السنوات الأخيرة نحو توسيع دوره في منطقة “الشرق الأوسط الكبير” كما هو ظاهر في عملياته ونشاطاته المختلفة في كل من أفغانستان والعراق، وكذلك مع دوره الأمني المستجد في القارة الأفريقية والذي احتل فيه موضوع الأمن البحري موقعاً رئيسياً ولافتاً. ففي صيف العام 2007، قامت مجموعة بحرية متعددة الجنسيات وتابعة لحلف الناتو بالإبحار حول أفريقيا للمرة الأولى، في خطوة أراد منها الحلف إظهار “قلقه ومخاوفه” بشأن أمن الممرّات البحرية البعيدة والمكشوفة، و”إثبات قدرته على فرض قوّة بحرية في مناطق تتجاوز مياه الحلف الأوربية التقليدية”. وقامت هذه المجموعة، خلال تلك المهمة، التي امتدت شهرين، وقطعت خلالها 12500 ميلاً بحرياً، بأعمال دوريّة على شواطئ القارة، وتنفيذ مناورة مشتركة مع سلاح بحرية جنوب أفريقيا، بالإضافة إلى إنقاذ جنود يمنيين نجوا من انفجار بركاني مفاجئ في إحدى الجزر مقابل السواحل اليمنية.
وإذا كانت مهمة الناتو الأفريقية السابقة قد نجحت في تحقيق أهدافها المحددة لها من قبل قيادة الحلف، إلا أن مهمة الناتو الأخيرة (والمستمرة) قبالة سواحل الصومال وخليج عدن لم تكن سهلة كسابقتها، وفي المحصلة فإنها لم تُكلّل، في مرات عديدة، سوى بخيبة وإخفاق كبيرين في مواجهة القراصنة الصوماليين، الأمر الذي دفع الاتحاد الأوربي إلى إسناد قوة الحلف بقوة أخرى تابعة للاتحاد في إطار عملية أمنية أُطلِق عليها اسم “أتلانتا”، ولم يلبث الحلف أن أَطلَق، هو الآخر، عملية ثانية في أواخر أسابيع الربع الأول من العام الحالي لمكافحة القرصنة في خليج عدن.
والمؤكد أن الحلف كان يدرك، ومنذ البداية، التعقيدات التي تكتنف مهمته البحرية في القرن الأفريقي وأنها قد لا تتحقق بالشكل المطلوب؛ فبنية القوة التي أرسلها إلى المنطقة – كما لاحظ العديد من المراقبين – ليست منسجمة أصلاً مع الغرض الذي أتت من أجله، لا من حيث الكم ولا من حيث النوع. فقد تشكّلت من قطع حربية ثقيلة تتراوح حمولتها بين أربعة وسبعة أطنان، وهي بالتالي غير مهيأة لمطاردة الزوارق السريعة، التي يستقلها القراصنة. كما أن قدراتها الهجومية والاستطلاعية المتقدمة لا بد أن تُثير هواجس عديد من الأطراف في المنطقة.
على أن المهم في الأمر في النهاية، وبغض النظر عن فشل حلف الناتو أو نجاحه في التصدي للقراصنة الصوماليين وحماية الأمن البحري في المنطقة، أن الناتو قد تمكّن، ومن دون صعوبات أو اعتراضات تُذكر، من مدّ حدود دوره الأمني إلى واحدة من أكثر مناطق العالم أهمية من الناحية الجيوستراتيجية بالنسبة له، وبخطوته هذه يبدو أن الحلف استجاب لدعوة أميركية عمرها 28 عاماً للمساهمة في “ترتيبات الأمن” في هذه المنطقة. والأهم من هذا كله، فقد استطاع الحلف، الذي ما زالت خططه الرامية للتوسع شرقاً تصطدم بمقاومة روسية شرسة، أن يُشرعِن وجوده في نطاق جيوبوليتيكي جديد آخر بعيد عن النطاق المركزي لمهامه الأمنية الأصلية، وأثبت لنفسه وللآخرين أن دوره الأمني العالمي بات موضع ترحيب (أو لنقُل بالأحرى موضع قبول) من المجتمع الدولي الذي ما فتئ يؤطّر هذا الدور ويقننه بقرارات صريحة من مجلس الأمن (في حالة مكافحة القرصنة البحرية في الصومال، أهم هذه القرارات: 1816 و1838 و1851).
وهذا كله يصُبّ – في نهاية المطاف – في مصلحة الحلف ودوله؛ فبدلاً من أن ينتهي به الحال إلى فقدان أهميته كلياً تقريباً بعد انقضاء مهمته الأصلية التي أوجدتها الحرب الباردة، أظهر حلف الناتو قدرة مدهشة على التكيّف مع تحولات مهمة في البيئة الأمنية العالمية. وبطبيعة الحال، فإن ظاهرة القرصنة البحرية في خليج عدن والمحيط الهندي لن تكون آخرها برغم إخفاقه الواضح، حتى الآن على الأقل، في كبح جماح حفنة من قراصنة ولصوص البحار في واحد من أهم خطوط الملاحة العالمية.
© منبر الحرية، 10 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

شعب واحد, مدينة واحدة, في برهة واحدة من أشد لحظات القرن الماضي كثافة وعمقاً وخصوبة وتوتراً, احتل واجهة مسرح التاريخ المعاصر. كانت دوامة التغيير المعاصر تتركز هناك وتتحقق. حدثٌ تجاوز زمانه الخاص, ويمكن القول عنه إنه مثل كل شيء في نهايات القرن وكان ختامه الباهر. وليس ثمة شك حقيقي في أنه كان نهاية حقبة في تاريخ العالم وبداية حقبة جديدة.
تداعى جدار برلين في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989 بعد 28 عاماً من بنائه. يكشف هذا الحدث عن الدور الشامل الذي لعبته مدينة, ليس في تقرير مصير أمة فحسب, وإنما في تاريخ أوروبا كلها. لن نشارك المؤرخين في وصف الواقعة مجدداًً, لكن الذي يبدو جديراً بالاهتمام هو مقاربة الحدث في كونيته وكليته, والسعي لفهم كيف استطاع هذا الحدث الجزئي أن يكون مقدمة لتداعيات عالمية أكبر وأشمل؟ فهو بخلاف الحوادث الأخرى يمنحنا مدلولاً كلياً للتغيير. لهذا يتعين البحث عن تصور موحد وكلي للتغيير الذي تم انطلاقاً من هذا الموقف الجزئي بالذات.
إن محاولة اكتشاف معنى هذا التحول التاريخي وإماطة اللثام عن مغزاه العميق, لن تكون ممكنة دون النظر إلى الحدث في عالميته. ذلك أن برلين التي عادت ألمانية بالتمام والكمال غدت بوابة للتغيير العالمي الأشمل, وصارت دروب التغيير كلها تقود إليها ومن خلالها.
لقد حقق الشعب الألماني مهمته التاريخية القومية بوحدته, إلا أنه, وفي الوقت نفسه, دشن مرحلة جديدة في تاريخ شعوب أوروبا والعالم, ومهد السبيل أمام تقدم نوعي لحريتها. ولهذا السبب فإن هذا التطور لايُنسب لتاريخ ألمانيا المعاصر إلا بمعايير جغرافية وسياسية محددة, فقد كانت له أبعاد أسمى وأشمل. وكما سيبرهن التاريخ فإن الوحدة الألمانية لم تك مجرد غاية قومية ألمانية فحسب, وإنما غاية كونية أكبر, كانت تعبيراً عن الإرادة العقلانية الحرة لشعوب أوروبا في التغيير من أجل حياة أرقى, ومن أجل تحقيق ذاتها عبر الانفتاح والتواصل. ومثلت تقدماً متزايداً نحو قيم الحرية والوحدة والعقلانية, وتشكل هذه العناصر الثلاثة قوام تطور التاريخ الأوروبي الراهن. هكذا بدا مالم يك قط عقلانياً بوجود الجدار, أصبح أكثر اتساقاً مع العقل بغيابه وانهياره.
قرابة ثلاثة عقود من الزمن تحدى الجدار تقدم أوروبا ووحدتها, ناهيكم بألمانيا المقسمة. وبسقوطه صار بالإمكان الحديث عن التاريخ الأوروبي بصفته تاريخاً للعقلانية والوحدة والحرية في آن. من هنا كان تشكل ألمانيا الموحدة نفياً للدولة الألمانية, بمعنى من المعاني, وخروجاً للألمان من ألمانيتهم السياسية إلى أوروبيتهم, وهذا هو التحول الحاسم في تلك العملية التاريخية..
كان الجدار هو اللغز الذي توقف على حله معضلة التقدم الأوروبي, وانهياره كان بمثابة ولادة أوروبا الجديدة, وسيأتي الوقت الذي لن تستطيع فيه أوروبا أن تكتشف سر وجودها إلا من خلال هذا الحدث العظيم. حينها فقط تغدو حكمة ف.هيغل F.Hegel أكثر واقعية ووضوحاً على هذا النحو( إن بومة منيرفا لم تشرع بالطيران إلا بسقوط الجدار).
© منبر الحرية،09 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

شهد العالم منذ بداية العقد الأخير من القرن الماضي عدداً من المتغيرات في هيكل العلاقات الدولية وتفاعلاتها، وقد انعكس ذلك بشكل واضح على معظم مجالات الحياة، ولعل ما حدث من تطورات تكنولوجية وما تبعها من تطور في وسائل الإعلام ونظم الاتصالات يُعد أبرز هذه المتغيرات ، بل أصبح الإعلام وكيفية تطويعه لتكنولوجيا الاتصال عنصراً هاماً من عناصر تقييم القوة الشاملة للدولة ، وبالتالي تقييم قوة الدولة المتحكمة في النظام الدولي الحالي.
وهكذا أصبح العصر الذي نعيشه الآن ، هو عصر ثورة الاتصال والفضائيات التي تبث عبر الأقمار الصناعية ، بل وتحول العالم إلي قرية صغيرة ، وذلك كنتيجة مباشرة لما شهدته وسائل الإعلام في السنوات الأخيرة ، من تقدم تقني ووظيفي ، أدى إلى انتشار القنوات التليفزيونية الفضائية ، فضلاً عن الانتشار المذهل لوسائل الإعلام الأخرى سواء المسموعة أو المقروءة ، ناهيك عن شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) ، مما دفع بالأحداث المحلية إلى دائرة الاهتمام العالمي، وجذب الأحداث العالمية إلى بؤرة الاهتمام المحلي .
لقد كتب الكثير منذ ربع قرن حول التأثير المتنامي للإعلام ، واختلف منذ البداية رواد علوم الإعلام السياسي في تحديد نوعية العلاقة بين السياسة والإعلام، فرأى بعضهم ان العمل السياسي والعمل الإعلامي يشكلان مجالين متميزين، ورأى البعض الآخر انه لا يمكن الفصل بين هذين النشاطين باعتبار أهمية الوظيفة الإعلامية هي التبليغ وإشراك المواطنين في الحياة السياسية، وربط قنوات الاتصال بين التشكيلات المتآلفة او المتعارضة ، فأضحى الجمهور مرتبطا بما يقرأه في الصحافة ويشاهده على الشاشة او يسمعه في الإذاعة ، لذلك فانه لا تكتمل الحياة السياسية في الدولة العصرية الا بالإعلام الغزير والحوار الدائم بين المواطنين ومختلف أجهزة الحكم .
وهذا العمل الإعلامي الذي يطلق عليه صفة “الإعلام السياسي” يتصل خاصة باهتماماته المحلية والدولية ذات الطابع السياسي ، وللإعلام السياسي في النظام الدولي أو النظام السياسي المحلي أهداف كثيرة، منها دعم الديمقراطية وخدمة التنمية السياسية وتكريس الحقوق الإنسانية ، ولئن كان هذا الإعلام يتصل بنشاط مشترك فهو يختلف في مستوى الممارسة ، ومن قطاع الى آخر ، وقد تقدم البحث العلمي في مجالات الاتصال السياسي وظهرت آليات جديدة لقياس مدى تأثير الرسائل الإعلامية والإعلانية في الأذهان وتأكدت صحة نتائج التحقيقات واستطلاعات الرأي ، فأفضى كل ذلك إلى برامج متكاملة ومتلائمة مع حاجة المجموعات في معالجة مختلف الإشكاليات الاجتماعية المتأصلة التي عجزت أجهزة الإدارة عن معالجتها بالوسائل التقليدية التي عرفها الإنسان.
ومن الثابت منذ نهاية القرن المنصرم أن تراجع الخطاب المطالب بإقامة نظام عالمي جديد للإعلام والاتصال، كامتداد طبيعي للمطالبة بإرساء أسس نظام اقتصادي عالمي جديد يكون الهدف منهما تقليص الاختلافات والتفاوتات التي تطبع العلاقات بين دول المال ودول الجنوب.
ومن الثابت كذلك أن تراجع الخطابين إنما جاء نتيجة للمعارضة الشديدة التي لقيها من لدن الدول الغربية الكبرى، عبرت عنها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بالانسحاب على اعتبار “أدلجة” المؤسسة (اليونسكو) التي تشبثت دول العالم الثالث في ظلها بالنظامين.
لقد خلق النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لنفسه نظاما إعلاميا برزت معالمه الأولى في تغطية حرب الخليج الثانية عام 1991م ثم في أحداث 11 أيلول 2001م واحتلال أفغانستان عام 2002م وأخيراً في حرب الخليج الثالثة عام 2003م، موظفا في ذلك أقوى ما وصلت إليه تكنولوجيا الإعلام والاتصال ، وأثبتت الوقائع تهميشه الممنهج لمشاكل العالم الثالث وتشويهه الصارخ لقضاياه وتطلعاته المستقبلية.
ما يشد الملاحظ للتطورات العالمية التي واكبت خطاب النظام الدولي الأمريكي ملامحه التكنولوجية البارزة، والتي أهلت الولايات المتحدة بامتياز لاحتلال مركز الصدارة بدون منازع في إعادة تشكيل بنية العلاقات الدولية لما بعد الحرب الباردة.
ويوجز أهل العلم  سمات النظام الدولي الأمريكي في السياسة الدولية المعاصرة في ثلاثة سمات رئيسية أدت إلى تشكيل هيكلية النظام العالمي الحالي برفقة نظام إعلامي معاصر ، وهذه السمات هي :
السمة الاولى : تتمثل في “الثورة الهائلة في وسائل الاتصال ونقل المعلومات وسرعة تداولها عبر الدول، وما ترتب على ذلك من اختصار غير معهود للزمن والمسافات بين مختلف مناطق العالم … إلى الحد الذي حمل بعض المفكرين الاجتماعيين، مثل آلفن توفلر، إلى التساؤل بشأن مدى قدرة الإنسان على التكيف مع هذه الدرجة غير المسبوقة من السرعة في تداعي الأحداث وتلاحقها.
السمة الثانية : وتتجلى في خاصية الثورة العلمية والتكنولوجية التي أغرقت “المجتمعات” بالسلع والأجهزة والمعدات ووسائل إنتاج وتوزيع واستهلاك العلم والمعرفة .
السمة الثالثة : وتكمن في تزايد الاعتماد الدولي المتبادل، سيما مع تصاعد ظاهرة الشركات المتعددة الجنسيات، إذ أصبح من الشائع اليوم أن نجد العديد من المنتجات الصناعية (سيارات، أجهزة إلكترونية ، حاسبات آلية…الخ) يتم تجميع مكوناتها في أكثر من دولة بحيث تقوم كل واحدة منها بالتركيز على/أو بالتخصص في صنع أحد هذه المكونات فقط.
هذه السمات الكبرى هي التي مأسست “لأطروحة” النظام الدولي المعاصر وكرست له بالتأكيد كمرجعية أولى في العلاقات الدولية “الجديدة”.
ما يقدم إشكالية البحث في هذا الموضوع ، ليس تبني هذه الأدبيات للنظام الجديد ، فقد تبناه جانب كبير منها وعارضه جانب آخر وتحفظ على طرحه جانب ثالث، ولكن توظيف تكنولوجيا ووسائل الإعلام والاتصال للترويج للنظام الجديد أثناء تغطيتها وتضليلها لكل ما يمت بصلة لمصالحها الاسترايتجية، كما هو في حرب الخليج الثانية والثالثة وأحداث 11 أيلول 2001م ، حتى بات الإعلام السياسي وثيق الصلة بالإعلام الحربي أو العسكري ، فهو موظف لخدمة الأغراض السياسية والعسكرية على حدٍ سواء ، في ظل الأزمات أو الحروب والنزاعات .
والبحث عن الإعلام السياسي في ظل النظام الدولي الجديد بعد انتهاء الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج الثانية لا يعني أن النظام الدولي والإعلام السياسي قد “مُؤسس” لهما نشأة وتشكلا، واستقرت مكوناتهما البنيوية ليصبحا مرجعية أولى في العلاقات الدولية .
فما يهم من خطاب النظام الدولي الجديد (والإعلام السياسي أحد مكوناته البنيوية الأساسية) ليس هيكله ولا مستوى التزام الدول به كمرجعية لهذه العلاقات ، ولكن ما يهم بالأساس ، تداعياته ودرجة احترام القيم التي تبناها واضعوه.
فعلى الرغم من تقلص الخطاب الإعلامي السياسي (الذي ساد طيلة حرب الخليج وبعدها) على إثر انهزام جورج بوش في الانتخابات الرئاسية، فإن الظروف الدولية التالية للحرب والراهنة لا تزيده إلا تكريسا على مستوى الممارسة لا فيما يخص العلاقات السياسية بين الدول فحسب، ولكن أيضا اعتبارا للعلاقات الاقتصادية والإعلامية الدولية السائدة.
لقد بلغت قناعة الولايات المتحدة بأهمية وفعالية الإعلام بشكل عام ، والسياسي بشكل خاص  أن صرفت النظر في عام 1990م عن المضي في استكمال خطة لتطوير الصاروخ (أم-أكس) التي تتكلف 1.8 بليون دولار ، في الوقت الذي قبلت أن تنفق مبلغ 2.3 بليون دولار على مشروع لتطوير أداء إذاعة صوت أمريكا لكي تُسمع في جميع أنحاء العالم بصورة أكثر قوة وتأثيراً .
وفي حرب الخليج الثالثة ، أطلق البعض عليها الحرب الإعلامية أو حرب الخطاب السياسي الإعلامي ، لكثرة ما شهدت من نزاع وتنافس بين وسائل الإعلامي السياسي العربي والغربي في تقديم الحرب كلٌ على هواه وأدلجته السياسية الخاصة ، فعلى الرغم من التدفق الهائل للأخبار والمعلومات والتقارير بالصوت والصورة وبشكل دوري ومستمر ، الا أكثر ما امتاز فيه الإعلام السياسي في هذه الحرب ، خاصة الغربي والأمريكي ، هو ممارسة التضليل والتوجيه باستعمال التقنية السمعية والبصرية الحديثة ، مما أفقد المشاهد والقارئ العربي والغربي المصداقية في العديد من وسائل الإعلام الأمريكية ولغربية وبض العربية ، بعدما انكشفت الحقيقة بالواقع ، وتبين أن معظم ما كان يُبث لم يكن سوى من باب “الدعاية السياسية والتضليل الذكي” .
وعلى عكس التغطية الإعلامية لحرب الخليج الثانية عام 1991م ، والتي احتكرت فيها شبكة “سي إن إن” (CNN) المشهد الإعلامي السياسي ، ونجحت بأن تراقب الصورة المتدفقة من أرض المعركة ، بل على حد الكاتبة الأمريكية “سوزان سونتاغ”  “حولت الحرب الى لعبة فيديو شغلت البلاد وأثارت المهتمين بالتكنولوجيا” ، فان التغطية السياسية والعسكرية لحرب الخليج الثالثة اتسمت بعد أحاديتها ، إذ لم تنفرد وسائل إعلام معينة بالتغطية ، ولم تعد المعلومات والأخبار حكراً على المصادر الغربية التي سيطرت على الساحة الإعلامية الدولية لعقود ، وان كان هذا الجانب الإيجابي في تطور وسائل الإعلام العربية ، خاصة السياسية المتخصصة منها ، فان الجانب السلبي قد برز بوضوح عند اختلاف المشهد السياسي والدرامي للحرب بين الإعلام السياسي العربي وقرينه الغربي ، حتى بدا للعيان ان كل منهما يُغطي حرباً أخرى غير التي تجري رحاها في العراق .
يتضح مما سبق دور وأثر الإعلام في السياسة المحلية والدولية في ظل النظام الدولي الجديد الذي كرّس أهمية الإعلام السياسي في خدمة أهدافه واستراتيجياته الجديدة ، وسعى الى الاعتماد على الإعلام كسلاح أكثر فعالية من اللجوء الى القوة العسكرية والعنف ، بل وسلاح أكثر خطورة من السابق باعتباره يعتمد على وسائل الإقناع والترغيب والترهيب والتضليل والخداع بصورة تبدو للعيان أنها الواقع أو الحقيقة .
© منبر الحرية، 10 نوفمبر/تشرين الأول2009

عزة الحاج سليمان17 نوفمبر، 20100

كثرت في السنوات الأخيرة الأحداث والمواقف التي تعرض موضوع المحاكم الدولية في الأوساط العربية، كوسيلة بديلة عن المحاكم الوطنية لتحقيق عدالة لا تثق الأطراف المعنية في الوصول إليها، في ظل القوانين والأنظمة القضائية المحلية. وهذا يأتي بموازاة تأسيس المحكمة الجنائية الدولية في العام 1998 في إتفاقية روما بحضور 120 دولة، والتي دخلت موضع التنفيذ في الأول من تموز/يوليو 2001  بعد أن صادقت عليها 60 دولة، وما زالت تشهد ارتفاعاً في عدد الدول التي تنتمي إلى هذه الاتفاقية حتى أصبحت 110 دول في 9 تموز/يوليو 2009. بدأ الاهتمام الدولي بمحاكمة الجرائم الخطيرة بعد الحرب العالمية الثانية حيث تمت محاكمة الضالعين بهذه الجرائم في تلك الحقبة السياسية. وفي ظل ازدياد الجرائم ذات الطابع الدولي والجرائم الارهابية والحروب والانتهاكات بحق الشعوب، ازداد الاهتمام الدولي أو حتى الداخلي بهذا النوع من العدالة الدولية. فما هو مفهوم هذه المحاكم وما هي الغاية منها؟ وكيف ترانا، نحن المواطنين العرب، نتلقاها ونواجهها أو نخضع لها؟
نشير في البداية إلى الجرائم الدولية التي تعد الأشد خطراً والتي تهدف المحاكم الدولية إلى ملاحقة مرتكبيها، وهي: جرائم الإبادة وجرائم العدوان وجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، حسب صلاحيات المحكمة الدولية الجنائية التي حددت أركانها. ويمكن أن تتوسع هذه اللائحة حسب صلاحيات كل محكمة خاصة على حدة.
تهدف المحكمة الجنائية الدولية إلى ملاحقة أخطر الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي وإلى مقاضاة مرتكبيها على نحو فعال من خلال تدابير تتخذ على الصعيد الوطني ومن خلال تعزيز التعاون الدولي، كما جاء في ديباجة النظام الأساسي لاتفاقية روما، وذلك بما لا يتناقض مع نظام الامم المتحدة، وهي بالتالي تهدف إلى وضع حد لإفلات مرتكبي هذه الجرائم، التي تمس الأسرة الدولية، من العقاب. وتعتبر هذه المؤسسة محكمة دولية دائمة ومستقلة، على خلاف المحاكم الخاصة التي تنشأ في ظل أزمة معينة ولملاحقة المجرمين في حالة خاصة دون غيرها، وتنتهي صلاحياتها بانتهاء مهمتها.
قبل إنشاء هذه الهيئة الدولية، كانت معاقبة مرتكبي هذه الجرائم تتم من خلال محاكمات خاصة، مثل محكمتي طوكيو ونورنبورغ بعد الحرب العالمية الثانية، أو المحاكم الجنائية الخاصة التي تتأسس لمعاقبة جرائم ارتكبت في ظرف معين ولحالة خاصة، مثل محكمة روندا أو يوغوسلافيا السابقة أو سيراليون أو غيرها…
إلا أن تأسيس محاكم دولية خاصة بقي إجراء معتمداً ولو بعد تأسيس المحكمة الدائمة المذكورة، خاصة في ظل ارتكاب جرائم من هذا النوع في الدول التي لم توقع على إتفاقية روما، وغالباُ ما يتم ذلك من خلال قرار في مجلس الأمن، ضمن نطاق الأمم المتحدة إذاً. هذا مع العلم أن المحكمة الجنائية الدولية أنشئت بشكل مستقل عن الأمم المتحدة، رغم أن دوراً أساسياً أعطي لمجلس الأمن في تحريك الدعوى في ظل تلكؤ الدول عن ذلك أو تهربها من خلال رفض التوقيع على هذه المعاهدة. نذكر مثالاً على ذلك المحكمة الخاصة بلبنان لملاحقة مرتكبي اغتيال الرئيس الاسبق للحكومة.
بيد أن هذه الظاهرة المتعلقة بالمحاكم الخاصة لم تكن لتبقى خاضعة للمؤسسات الدولية، بل أصبحت وسيلة لتنفيذ قرارات دولية بعيداً عن مجلس الأمن، ويظهر بذلك التطرف باستخدام مفهوم العدالة. ونذكر مثلاً عن ذلك محاكمة الرئيس العراقي الأسبق.
نشير هنا إلى أن الجرائم التي تسعى هذه المحاكم إلى مقاضاة مرتكبيها، وخاصة المحكمة الجنائية الدولية، غالباً ما تتجاهلها الانظمة الداخلية للدول نظراً لاتخاذها الطابع الدولي. لذلك يجب على الدول الموقعة على اتفاقية روما أن تتخذ التدابير المناسبة لإدخال نظام المحكمة ضمن قانونها الداخلي بشكل لا يعيق دور هذه الهيئة. وذلك بغية تحقيق هدف المجتمع الدولي من جعل المحكمة الجنائية الدولية محكمة ذات صلاحية دولية.
وهذه الهيئة لا تتناقض مع سيادة الدول إذ إنها غير معنية بملاحقة جرائم في دول أو لمصلحة دول لم توقع على اتفاقية روما. كما وأنها لا تلاحق جرائم موضوع دعوى جنائية محلية في إحدى الدول الموقعة عليها. وهي تتكامل مع الأنظمة القانونية الداخلية للدول المنتسبة إليها والتي تلتزم بالمساعدة أو بالملاحقة على أراضيها.
ولكن يبقى لهذه المحكمة صلاحيات معينة ومجال واسع في تطبيق قواعدها يفترض على الدول المنتمية إليها احترامها، وذلك تحقيقاً للغاية التي أنشئت من أجلها وعدم خضوعها للسلطات المحلية التي ربما هي التي تخرق حقوق مواطنيها. فهي تسعى، من حيث المبدأ، إلى تحقيق المساعدات الانسانية والحماية الجسدية للأشخاص ومن خلال ذلك يتم تحقيق السلام الدائم. نذكر سابقة في تاريخ المحاكمات من حيث عدم الأخذ بعين الاعتبار الحصانة التي تحمي رؤساء الدول الذين لما تنته صلاحيتهم بعد. فقد صدر عن الغرفة التمهيدية الاولى للمحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني الذي رفض الالتزام بها.
نعود إلى إمكانية تحريك الدعوى العامة أمام هذه الهيئة الدولية. فإضافة إلى الوسيلة الأولى المتعلقة بطلب الدولة المعنية، فإن تحريك الدعوى العامة يتم في الحالات الأخرى، بناء على قرار صادر عن مجلس الأمن.
من هنا يطفو شيء من الشك حول إبعاد هذه المحاكمات عن السياسات الدولية والوقوع مجدداً في فخ الاستنسابية المرتبطة بمؤسسة دولية فقدت التمثيل العادل لشعوب العالم ووقعت تحت استئثار الفيتو الدولي وما يستتبع ذلك من خدمة للمصالح السياسية الدولية.
وقد شهدنا فراغاً كبيراً في تحقيق العدالة مثالاً على دور مجلس الأمن، نذكر منها ارتكاب اسرائيل جرائم في حروبها على لبنان أو على فلسطين، حيث رفض مجلس الأمن اتخاذ قرار لملاحقة هذه الأعمال. نلفت الانتباه إلى أن دولة لبنان لم تطلب ذلك رسمياً من المحكمة الدولية ولما تصبح بعد عضواً في اتفاقية روما.
غير أن صائغي إتفاقية روما سعوا إلى إعطاء الدول فرصة لإبعادهم عن هذه الاستنسابية من خلال دخولهم في الهيئة (المحكمة الجنائية الدولية) وتوقيعهم على الاتفاقية ما يعطيهم حق المطالبة بالعدالة التي انتموا إليها. إلا أنه، من ناحية أخرى وفي حالة مشابهة للجرائم الاسرائيلية في لبنان، طالبت السلطة الفلسطينية بمعاقبة مرتكبي الجرائم التي نفذتها اسرائيل في غزة، غير أن صفة “السلطة الفلسطينية” أو “دولة فلسطين” غير المؤكدة رسمياً بمفهوم القانون الدولي العام، بقيت عائقاً أمام ملاحقة هذه الجرائم من المنظمة التي تسعى لحماية الإنسانية. نشير إلى ان الاجتهاد الدولي أعطى فلسطين صلاحيات الدولة في العديد من المواقف والحقوق.
إذاً، فإن القانون الدولي أعطى للدول حق تقرير معاقبة الجرائم التي ارتكبت على أرضها، بإعلان إرادتها عن ذلك من خلال انتسابها للمحكمة، أو بالعودة إلى مجلس الأمن مرة أخرى للمطالبة بإنشاء محكمة خاصة، في ظل منظومة الأمم المتحدة. وفي مواجهة ذلك، تظهر مشكلة إرادة الشعوب والدول ومدى تطابق هاتين الحالتين في ظل أنظمة لا تمثل شعوبها وتدعي الديمقراطية من خلال انتخابات تبعد كل البعد عن مفهوم الاختيار الحر والمعايير العلمية والقانونية والطبيعية والدولية للانتخابات الحرة والنزيهة.
هذا إذا سلمنا جدلاً أن قرار التوقيع على المعاهدة والالتزام بها أو طلب تشكيل محكمة دولية موجهاً إلى مجلس الأمن، صدر عن مؤسسة لها الصفة التمثيلية بغض النظر عن كيفية حصولها عليها. ولكننا نجد أحياناً أن القرار الصادر عن الدولة تم اتخاذه في ظل أزمات سياسية داخلية تطرح العديد من الإستفهامات حول شرعية الطرف الذي يتخذ هذا الاجراء، ومدى قبول الشعب له. هذا ما رأيناه عند الطلب من مجلس الأمن تشكيل محكمة دولية للنظر في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري والازمات السياسية التي دارت في ظلها. أو ما نراه حالياً يصدر عن نظام الحكم العراقي بالتهديد بمحكمة دولية ضد طرف ما… مع العلم بأن الاطراف المتنازعة تتهم بعضها بشكل متبادل بارتكاب جرائم سواء داخلية أو جرائم دولية.
وقد واجهنا في عالمنا العربى انتهاكاً لهذه المفاهيم المنظمة دولياً من حيث المبدأ، خاصة في محاكمة الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين التي اعتبرت “عاراً في تاريخ المحاكم الدولية”، بغض النظر عن أحقية الشعب العراقي بالمطالبة  بالعدالة وتطبيق القوانين على ما اعتبر جرائم ارتكبت في ظل النظام الاسبق: فإن طبيعة إنشاء هذه المحاكمة وممارستها مهامها ينأى بها عن مفهوم “العدالة الدولية” التي يسعى إليها أو كما يفهمها القانونيون الجنائيون الدوليون، كمؤسسات دولية تسعي لمعاقبة منتهكي حقوق الشعوب، إذ اعتبروا أن أبسط شرط للحيادية لم يكن متوفراً من خلال وجود المحكمة على مسرح الحرب القائمة، وكونها قررت من مرجع لا يمثل المجتمع الدولي، بل سياسة إحدى الدول. فهذا المثل لم يكن ليعتبر إلا سابقة تتناقض مع مفهوم العدالة الجنائية الدولية، رغم الترحاب بها والتغني بنتائجها في بعض الأوساط السياسية العربية. فأين نحن من مفاهيم القانون العلمية، ومفاهيم العدالة الانسانية،  في دول خلطت العلم بالمصالح السياسية؟
إن المحكمة الجنائية الدولية تنظر إذاً في الجرائم الدولية الأكثر خطراً، وقد حددت لها مفاهيم وأركاناً انطلاقاً من احترام مبدأ الشرعية – شرعية الجرائم وشرعية العقوبة – القاعدة الأساسية في القانون الجنائي. وتلتزم كل محكمة خاصة بحدود الجرائم كما يتم وصفها في نظامها التأسيسي تطبيقاً للقاعدة نفسها.
هذا مع العلم بأن مفهوم بعض هذه الجرائم التي تدخل ضمن صلاحية المحكمة الدائمة، تم تحديده بشكل مستمر عبر المحاكم الجنائية الخاصة التي شكلت والتي يطلب تشكيلها، إذ أعطيت تعاريف ضيقت أو وسعت إطار الجريمة حسب طبيعة المحكمة الخاصة وحسب أسباب إنشائها. من هنا نفهم المعايير المختلفة للمعاقبة والملاحقة والتي تتباين حسب الضرورات التي تطلبت إنشاء محكمة خاصة، والتي يمكن أن تكون موضوعية علمية تتعلق بطبيعة الافعال التي ارتكبت في الدولة طالبة المحكمة، كما يمكن أن تكون استنسابية تفصل على مقاسات غير موضوعية وتهدف مسبقاً إلى ملاحقة أشخاص محددين. وهنا تظهر الخطورة في اللجوء العشوائي للمحاكمات الدولية، التي أصبحت وسيلة التهديد السهلة وغير المبررة في المجتمعات السياسية العربية. فهل ترانا نفهم معنى وهدف القانون الدولي الجنائي أم أنه وسيلة تستخدم في ظل الافراط في الجهل والعشوائية؟
هذا مع العلم بأن القوانين الدولية لم تحدد بشكل حاسم مختلف المفاهيم التي يمكن مواجهتها في مثل هذه الظروف، ونأخذ مثلاً مفهوم الارهاب، وهو الفعل الأكثر مواجهة في ظل الجرائم الدولية، ما يترك إمكانية الخروج عن المعايير العلمية القانونية والعودة مجدداً إلى المعاني والأهداف السياسية لهذه الحالات. وذلك، خاصة  في ظل النزاعات الناشئة حول حق الشعوب بالمقاومة والمنظمات الارهابية المجهولة أو المعلومة المصادر والتمويل.
غير أننا من ناحية أخرى نلتمس بعض مؤشرات الموضوعية والمحافظة على السيادة، عندما تسعى الدولة طالبة المحكمة الخاصة إلى تطبيق قوانينها الداخلية عندما تنص على هذه الجرائم، كما هي الحال بالنسبة للمحكمة الخاصة بلبنان، لمعاقبة قتلة الرئيس الحريري.
إضافة إلى ذلك، فإن المحكمة الجنائية الدولية تظهر نوعاً من صمام الأمان من ناحية تحديد دورها في ملاحقة الجرائم الأكثر خطراً والتي عمدت في اتفاقية روما إلى تعريفها وتحديد أركانها وتطبيقها على الدول التي وافقت على الخضوع لأحكامها. وبذلك فإن الدول عند إنشاء اتفاقية روما قد عرّفت جرائم الإبادة وجرائم العدوان وجرائم الحرب والجرائم ضدّ الانسانية، وأخضعتها لصلاحياتها دون غيرها من الأفعال المشبوهة الأخرى والتي يمكن أن تخضع لتوصيف قانوني مختلف.
وبالتالي لا بد من الإشارة إلى أن العدالة الدولية لا يمكن أن تكتفي فقط بنظام المحكمة الجنائية الدولية التي تعاقب الجرائم الأكثر خطراً، وتبقي للمحاكم الوطنية دوراً في ملاحقة المتهمين الموجودين على أرضها، وبذلك يظهر التكامل بين النظام الجنائي الدولي والوطني.
فإذا كانت بذلك تسعى “دول القانون” إلى تأسيس مجتمع يرقى بالقانون ويرتقي به، فأين نحن الشعوب والدول العربية من هذه المنظومة، عندما تكون مؤسسات الدولة بذاتها خاضعة لحكم الطوائف أو الأطياف المختلفة التي تتألف منها الحياة السياسية الداخلية، أو لسلطة المال والسلطة والمحاصصات السياسية. نعطي مثلاً على ذلك ما بات معروفاً عن اعتقال الضباط الأربعة، المتهمين بالضلوع باغتيال رئيس الوزراء الأسبق، لعدة سنوات من دون دليل وبناء على تحقيقات أقل ما يمكن وصفها بأنها مشبوهة أو كاذبة، تطبيقاً لاستنسابيات خاصة وتحقيقاً لمصالح سياسية داخلية وربما خارجية، بغض النظر عن تورطهم أم لا بذلك.
وإذا كانت أركان الجرائم ضد الانسانية تتطلب، بناء على المادة 7 فقرة 2- أ من اتفاقية روما “هجوماً موجهاً ضد أي مجموعة من السكان المدنيين” مفسرة ذلك بأنه: ” نهج سلوكي يتضمن الارتكاب المتكرر للأفعال المشار إليها في الفقرة الاولى ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، عملاً بسياسة دولة أو منظمة تقضي بارتكاب هذا الهجوم أو تعزيزاً لهذه السياسة”،
فإن هذه الجريمة تتطلب ارتكاب أفعال متعددة ذات طابع دولي كما هي الحال في مختلف الجرائم الدولية، تمس مجموعة من المواطنين وتهدف إلى تحقيق خطة جرمية محددة، وليس بالضرورة أن يكون البلد في حالة حرب كما هي الحال في جرائم الحرب ولا أن تهدف إلى الاضرار بشعب او عرق أو طائفة … محدّدة كما هى الحال في جرم الإبادة. فإننا إذا نظرنا إلى جريمة اغتيال الحريري، ترانا نجد أنظار القانونيين متجهة إلى المحكمة الخاصة بلبنان وإلى الوصف الذي سيعطى لهذا الفعل: هل هو يجمع أركان الجريمة ضد الإنسانية، أو أنه عمل إرهابي مستقل، أو مجرد جريمة اغتيال تخضع بالتالي للمحاكم الداخلية ذات الصلاحية العادية، وبالتالي إلى ضرورة تشكيل محكمة دولية في ظل ذلك. وعلى هذا، ينتظر القانونيون المتخصصون ما سيصدر عن المحكمة الخاصة بلبنان، وإلى البصمة التي ستضيفها إلى القانون الجنائي الدولي من خلال الوصف الجرمي لمثل هذه الأفعال، وذلك كجزء من تطور الحياة القانونية الدولية التي تعتمد على الاجتهاد والعرف وإن لم تكن مصادر ملزمة ولكنها تبقى ذات قيمة معنوية. فاين هو لبنان بسياسته ومواطنيه من دور المحكمة التي أصبحت وسيلة التهديد الداخلية والتهكم بأمان الشعب، بدل أن تكون مصدراً للقانون والعدالة بغياب الدولة القادرة؟
في الخاتمة، وبعد تسليط الضوء على هذه المفاهيم والمؤسسات الدولية ودورها في حماية الأسرة الدولية من الأفعال الشائنة، نستنتج ضرورة التكامل بين الأنظمة الجنائية الدولية والداخلية، وكذلك ضرورة الدور المنوط بهيئة جنائية كالمحكمة الجنائية الدولية. وإذا كان من المستحيل فصل القانون الدولي عن السياسة الدولية، يبقى علينا أن نفهم مكامن الخطر ومصادر الثقة بهذه المنظومة، والتي ترتبط أيضاً بوعي الشعوب وارتقائها بممارسة ديقراطيتها. إن الثقة بهذه المنظمات هو السبيل الوحيد لتأسيس عدالة جنائية دولية تحمي الشعوب والمجتمع الدولي من ظلم أصحاب سلطة ما. تبقى المشكلة كامنة في الثقة بهذا المجتمع الدولي الذي تحوك مصيره سياسات الدول الكبرى والتي تبقى ضالعة بدور رئيسي، في إطلاق هذه الدعاوى. ويبقى للدول إمكانية نفاذها من هذا القرار في تنظيم شؤونها الداخلية واتخاذ قراراتها بما يتناسب مع إرادة شعوبها.
© منبر الحرية، 10 نوفمبر/تشرين الأول2009

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

تحتفل برلين ومعها العالم بذكرى 9 تشرين الثاني/نوفمبر بالذكرى العشرين لسقوط جدار برلين ، قد نوافق جميعنا على التداعيات الاستراتيجية الجغرافية التي تلت سقوط جدار برلين: بدأت الإمبراطورية السوفياتية تختفي ومعها بدأت الدول الدائرة في فلكها، ومن بينها ألمانيا الشرقية، الخروج من السيطرة السوفياتية.  وقد ساهم سقوط جدار برلين بدرجة كبيرة في سقوط النظام الشيوعي في الكتلة السوفياتية بكاملها. وقد شكل سقوط جدار برلين رمزاً دراماتيكياً للحرية التي استعيدت في تلك السنة العجائبية 1989، حينما أصبح الأمر الذي لم يكن من الممكن تصوره في الحياة السياسية في أوروبا الوسطى.
لقد سبق هذا الحدث عدة إرهاصات. فقد شارك الملايين من الناس في أوروبا الشرقية والوسطى في مظاهرات سلمية ضد أنظمة الحكم القائمة وبدت الشيوعية وكأنها تتلاشى.. و العملية بدأت بشكل واسع في آب/أغسطس 1980 عندما ألغى إضراب كبير في حوض إصلاح السفن في غدانسك شرعية ديكتاتورية الحزب الشيوعي، الذي كان يدعي أنه يمثل “ديكتاتورية الطبقة العاملة”. كان حدثاً استثنائياً. وشكّل ذلك أشد هزيمة معنوية للشيوعية.
بدأ تفكيك جدار برلين الحقيقي من هنا بالذات وفي ذلك الحين. وشكلت التسوية التي تم التوصل إليها في اجتماع الطاولة المستديرة البولندية والانتخابات شبه الحرة التي أعقبتها في حزيران/يونيو 1989 ضربات المطارق الثقيلة على النظم الشمولية.
تفكك الستار الحديدي قبل وقت طويل من تحطّم جدار برلين في تشرين الثاني/نوفمبر 1989. كان النظام الشيوعي في أوروبا الشرقية يعيش أيامه الأخيرة لسنوات عديدة. فقد خنقت أنظمة الحزب الواحد حقوق الإنسان والحريات السياسية وكانت عاجزة عن توفير الشيء الجوهري الرئيسي الذي يبرر الشيوعية: الأداء الاقتصادي. التفاوتات بين الشرق والغرب ازدادت وضوحاً خلال الثمانينيات من القرن العشرين، ولا سيما مع تكامل السوق الأوروبية الذي عزز ازدهار أوروبا الغربية في الحين الذي أظهر حلف وارسو الخاضع للسيطرة السوفياتية أنه لم يعد بديلاً موثوقاً لأوروبا الموحدة. لم يكن قد بقي لدى الشيوعية القوة اللازمة لمقاومة موتها. أثبتت الماركسية-اللينينية، المفلسة عقائدياً، وغير الكفؤة اقتصادياً، والبدائية سياسياً أنها تجربة أخرى وصلت إلى نهايتها. علاوة على ذلك، لم يعد لدى النظام السوفياتي الذي دعم حكومات وكيلة له عبر أوروبا الشرقية، الإيمان القوي أو الموارد للقمع القسري لتطلعات الشعوب “الشقيقة” نحو التعددية والاستقلال  القومي.
وكانت ألمانيا الشرقية (جمهورية ألمانيا الديمقراطية) في كافة مظاهرها دولة شيوعية، ومع ذلك كانت دولة فريدة نوعاً ما. كانت تحكمها حكومة غير كفؤة يديرها حزب معروف بالفساد، والمراقبة البوليسية لكل شيء، وأزمة اقتصادية تزداد خطورة. لكن الأمر الشاذ كان وجود الدولة الألمانية الأخرى، الديمقراطية والغنية، ووجود الحاميات العسكرية السوفياتية على أراضي جمهورية ألمانيا الديمقراطية. كان يقال في السابق إن بروسيا لم تكن دولة لها جيش بل كانت جيشاً له دولة. لم تكن جمهورية ألمانيا الديمقراطية دولة توجد فيها حاميات سوفياتية بل كانت دولة للحاميات السوفياتية. كان ذلك السبب والضمانة لوجود جمهورية ألمانيا الديمقراطية بذاته.
استنتج الحلفاء الغربيون بسرعة انه ما لم تكن ألمانيا ودول أخرى في أوروبا ديمقراطية ومزدهرة فإن القوة السوفياتية قد تتوسع عبر باقي القارة. ساهمت المساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة في ظل خطة مارشال، والتي بلغت كلفتها أكثر من 13 بليون دولار، في تأمين هذا الازدهار. لكن الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية الدائرة في فلكه رفضت المساعدات المقدمة بموجب خطة مارشال. وفي المقابل، بدأ الجيش الأحمر الموجود في منطقة الاحتلال السوفياتي بتفكيك المصانع والمنشآت الصناعية الألمانية الأخرى ونقلها إلى روسيا للتعويض عن الأضرار الهائلة التي ألحقها الجيش الألماني بالاتحاد السوفياتي.
لقد بقيت برلين الرمز والبؤرة الأكثر خطورة خلال الحرب الباردة، واستخدمت ككوة لهروب الألمان الشرقيين الذين أرادوا تغيير حياتهم من واحدة كانوا يعيشون تحت سيطرة ديكتاتورية تعاني من الضعف الاقتصادي إلى أخرى ينعمون فيها بالحرية وإمكانية الحركة في ألمانيا الغربية، التي كانت تتمتع آنذاك “بمعجزة اقتصادية” وباقتصاد سوق يتسم بالمسؤولية الاجتماعية.
في حزيران/يونيو 1989، فتحت الحدود فعلياً بين المجر والنمسا، و يعنى هذا أنه أصبح بإمكان الألمان الشرقيين، الذين كانوا يستطيعون بسهولة السفر إلى دولة المجر الشيوعية والصديقة، من الوصول إلى ألمانيا الغربية عبر النمسا بدون الحاجة إلى القفز فوق جدار برلين. لجأ ألمان شرقيون آخرون إلى سفارات ألمانيا الغربية في براغ وبودابست مصممين على البقاء في أرض السفارة إلى أن يتم تأمين وسائل دخولهم إلى ألمانيا الغربية. كان الألمان الشرقيون، يعرضون أنفسهم للخطر الواضح، ويسيرون في المظاهرات، إما في الخارج أو حتى بدرجة أكثر أثراً في شوارع وطنهم. في 9 تشرين الثاني/نوفمبر،  أصبح فتح جدار برلين إلى أول انتصار سلمي وناجح في النهاية للثورة الألمانية و انتصاراً للحرية والديمقراطية.
شكل سقوط جدار برلين فاتحة لحركة التحرير القومي لدول أوروبا الوسطى والشرقية من السيطرة السوفياتية. وفي حين ان الشيوعية لم تعد سوى كابوس يتلاشى تأثيره في هذه الدول.  ولكن كان لهدم جدار برلين وانتهاء الشيوعية أكثر من وجه واحد. تماماً كما ان المجزرة في ساحة السلام السماوي في بكين شكلت تأثيراً معادلاً مناقضا للانتخابات البولندية في حزيران/يونيو 1989 التي ألحقت الهزيمة بالشيوعيين، فإن الثورات المخملية في أوروبا الوسطى، كان لها ما يوازيها من أعمال موازية مظلمة ظهرت عبر الأحداث الدموية في رومانيا والحرب الطويلة في يوغوسلافيا السابقة. تلطخ القماش المخملي بالدم ولا تزال رائحة هذا الدم فوّاحة في أوروبا. فمسيرة الحرية في العالم هي مسيرة مضنية وقاسية.
سوف ينهمك المؤرخون طويلاً في مناظرات حول كافة الأمور التي ساهمت في هذا التحرير وكيف حدث، ولكن كان من الواضح أن سلسلة من العمليات المتسلسلة غير المتوقعة هي التي أحدثت هذا التحرر. كانت أحداث برلين رمزاً وواقعاً حقيقياً لانتصار المثل العليا : مثل التوق البشري الى فضاء  الحرية والتحرر ورفضه للشمولية وكافة ما يعوق حرية الانسان وابداعاته.
ومن هنا كان الامل كبيرا أن تمتد العدوى الديمقراطية الى الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي لم يحدث بعد…
© منبر الحرية، 8 نوفمبر/تشرين الأول2009

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

إن سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط غالباً ما تواجه ضغوطاً و توترات متضاددة. فيمكن للمتتبع للسياسة الخارجية الأمريكية أن يلاحظ  تحركات تهدف إلى إشاعة و تكريس الاستقرار السياسي من جهة ومحاولات تهدف  إلى تشجيع الإصلاح السياسي من جهة أخرى. أما التوتر الثاني فمرده الحاجة إلى تحديد ما إذا كان الأصح تركيز السياسات على الأنظمة أم على الجماهير. إذ على الرغم مما للولايات المتحدة من عظيم مصلحة في تحقيق الإصلاح السياسي في عموم المنطقة، فإن لها اهتمامات استراتيجية لا تقل شأناً بصدد الانعكاسات والآثار القصيرة المدى التي ستنجم عن تزايد المشاركة الشعبية. فالمستويات العالية من المشاعر المناهضة للولايات المتحدة  في مختلف أرجاء المنطقة  تعني أن أي انفتاح في الأنظمة السياسية في المنطقة قد يكون من نتائجه ظهور سياسات تعكس التوجهات الشعبية في صيغة علاقات أكثر تباعداً مع الولايات المتحدة. وأية تحركات في هذا الاتجاه يمكن أن تؤدي إلى تعقيد بلوغ الولايات المتحدة أهدافها الإقليمية، بالإضافة إلى الأهداف الأوسع التي ترمي إليها.
وإذا كان البعض يعلق أمالا على دور ما للرئيس أوباما في اشاعة التطور الديمقراطي في المنطقة، فإن  دور الأشخاص في العملية السياسية الأمريكية رغم أهميته الكبرى في التأثير على قرارات بعينها، فإنه يظل خاضعا للاعتبارات المؤسسية قبل أي شيء آخر. والمؤسسة هنا تعبير يراد به ذلك المزيج ما بين التوجه الفكري والتنظيم والأداء السلوكي استنادا إلى قناعات فكرية وأهداف بعينها فضلا عن توازنات كبرى تحكم علاقة هذه المؤسسة بغيرها من المؤسسات الأساسية.
ترى المؤسسة الأمريكية أن زيادة الإصلاح السياسي  في الشرق الأوسط قد تمكن مستقبلاً بعض الأصوات الجديدة  المعارضة من الاندماج بالحكومة. وبروز القوميين والإسلاميين، أو أي منهما، في حكومات منفردة قد يثير مشاعر الحذر والتطير لدى أنظمة الحكم الأخرى. وإذ يناضل صانعو القرار في الإدارة الامريكية  لإيجاد الموازنة الصحيحة بين الإستقرار والديمقراطية، تبقى تلوح على سياسة الولايات المتحدة تجاه المنطقة معالم التناقض في معظم الأحيان. فالشعارات الحماسية الداعمة للإصلاح السياسي في المنطقة كانت تطرح دائماً مصحوبة بتقبل السياسات اللاديمقراطية التي يمارسها شركاء الولايات المتحدة، مع التغافل في الوقت ذاته عن أية تطورات ديمقراطية تتحقق على أيدي الخصوم المتوقعين. وحين كان يتحتم على الولايات المتحدة أن تختار ما بين الديمقراطية والإستقرار الإقليمي كان خيارها شبه الثابت هو الاستقرار. وهذا الخيار كانت له انعكاساته على كلا الأنظمة الحاكمة والجماهير في المنطقة.
تفضيل الاستقرار على الدمقرطة جعل الولايات المتحدة تقف على نحو فعال في صف مصالح الأنظمة الشرق أوسطية أكثر منها في صف مصالح الجماهير. والمشاعر المناهضة لأميركا في المنطقة ليست بالظاهرة الجديدة. وقد جعلت هجمات 11 أيلول صانعي القرار في الولايات المتحدة أكثر تحسساً تجاه طريقة فهم الناس للولايات المتحدة ولسياساتها. وتواصل المؤسسة الأمريكية  إطلاق حملة من البرامج والنشرات الدعائية التي تمولها الحكومة الأميركية تهدف إلى شرح أسلوب الحياة الأميركية وعرض حياة المسلمين الأميركيين بشكل يبرز أجمل ما فيها. وقد افترضت هذه الاستراتيجية ضمناً أن العقبة الرئيسية التي تواجهها الولايات المتحدة في المنطقة هي العجز عن فهم القيم الأميركية والهوية الأميركية. أي أنها تخلص باختصار إلى أن العرب والمسلمين لو عرفونا على حقيقتنا لأحبونا، أو لقل ضيقهم بنا على أقل تقدير. إن العيب الرئيسي في هذا الافتراض، على ما يبدو، يكمن في أن المشكلة المركزية هي الخلاف مع الولايات المتحدة بشأن سياساتها، وليس النقص في المعلومات المتوفرة عن الولايات المتحدة.
ولكن لا ينكر أن سوء الفهم من شأنه جعل الأمور أسوأ بكثير. فالولايات المتحدة تنسب إليها غالباً أسوأ الدوافع على الإطلاق، ويندر أن تذكر واشنطن بخير على أية سياسة تتبعها حتى لو أدت إلى إنقاذ حياة المسلمين، مثل تدخلها في البلقان.
كما أن الولايات المتحدة تفضل الاستقرار على التغيير في الشرق الأوسط لقناعتها أن
القادة في المنطقة  يواجهون عددا من التحديات لحكمهم. و بوصف أكثر دقة، تحديات لقدرة الحكام على الاحتفاظ بروابط مع الولايات المتحدة أو تقوية هذه الروابط. فأن الأحزاب السياسية الوليدة، والصحافة التي تنعم بقدر أكبر من الحرية، وباقي عناصر المجتمع المدني النامي آخذة كلها في تقليص هيمنة الحكومات على السياسة بعد أن كانت في يوم ما هيمنة مطلقة بلا قيود. ويكون من نتائج هذا أن القادة يغدون أقل مرونة في سياساتهم الخارجية، وربما يأخذون في الاستجابة للضغوط الشعبية أكثر من ذي قبل.
ومن هنا فإن الولايات المتحدة لا تناصر-حتى-  اتخاذ اجراءات محدودة لتقاسم السلطة  لأن ذلك-من وجهة نظرها – يحمل معه محاذير تزايد المعارضة والتنظيمات المناهضة للأنظمة، وهذا قد يؤدي إلى تعاظم خطر حدوث تبدل الأنظمة أو زيادة زعزعة الاستقرار على الأقل.
كما ترى واشنطن أنه ستكون لعمليتي التحرر والدمقرطة آثار عميقة على الأمن  وعلى المصالح الأمريكية في البلدان التي تحكمها حكومات موالية للولايات المتحدة. وعلى الرغم من عدم توفر معلومات كافية، فإن استفتاءات أجرتها مؤسسات أمريكية ذات خبرة مثل  ( بيو ) أوحت  بأن الكثير من المواطنين في المنطقة يعادون سياسة الولايات المتحدة.
إن إتاحة المجال أمام مشاركة شعبية أكبر في صناعة القرار سوف تمكن هؤلاء المواطنين من الضغط على حكوماتهم لكي تعمل على الحد من تعاونها مع واشنطن، لاسيما فيما يتعلق بالسياسات التي تعتبر مؤيدة لإسرائيل. كما أن استمرار العنف في المناطق الإسرائيلية والفلسطينية من شأنه أن يزعزع الاستقرار أكثر فأكثر ويؤدي إلى توتر العلاقات بين الولايات المتحدة وأوثق حلفائها الإقليميين ويؤدي إلى انفضاض الأنظمة الصديقة من حول واشنطن.
© منبر الحرية، 20 سبتمبر/أيلول 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018