العلاقات الجيو-إستراتيجية والسياسية الدولية

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

هل احتاج الشعب الإيراني إلى ثلاثة عقود من الزمن لتدرك حقيقة (ثورتها الإسلامية)، وبأنها لم تكن سوى انتقال بين أنظمة استبدادية بألوان مختلفة.
فثورة الخميني لم تكن إلا استمرارا وتكريسا لنظام دكتاتوري ولكن بصورة دينية-طائفية، توهم الشعب الإيراني بداية بمختلف أطيافه ( من فرس، كرد، عرب، آذريين، بلوش وغيرهم) بقدوم ساعة الخلاص والانفراج الديمقراطي وطي ملف القمع وكبح الحريات والانفتاح على كافة المكونات التي ساهمت مباشرة في اسقاط نظام الشاه، لكن زعيم الثورة انقلب مباشرة على كل الوعود والاتفاقيات المبرمة قبل الثورة وكشف بعجالة عن الوجه الاستبدادي (لثورته) وبدأ بحملة تصفيات واعتقالات للمعارضات السابقة وخاصة القوميات غير الفارسية، ثم عزز من آلياته القمعية ومؤسساته الحامية لها وغلفها بستار ديني على خلفية مذهبية (ولاية فقيهية) حالمة بامبراطورية ايرانية جديدة على اسس مذهبية بدأت تمتد في المنطقة وسخرت أجندتها ولوجستياتها في الملفات الحساسة والأكثر سخونة مثل( فلسطين،لبنان، العراق، افغانستان) ودعم الحركات الارهابية لمصلحتها والقيام بحملة تصفيات واغتيالات لخصومها السياسيين.
ولأن الانظمة المستبدة والقمعية تسعى دوما للتغطية على أوضاعها الداخلية المعلقة بكل تناقضاتها، فتقوم بخلق عدو ( خارجي) بل أعداء متربصين بالوطن ولذلك على الجميع التأهب والاستعداد للمعركة الكبرى وتعليق كل شيء وذلك لإلهاء الشعوب وهدر طاقاتها. وتقدم ذلك العدو في صورة الشيطان المهدد للوطن. وإضفاء صبغة دينية مقدسة على ( جهادها ) وتعبئة شعوبها لخدمة هذه الثقافة من خلال شعارات تحريمية براقة ( الجهاد في سبيل المقدسات الدينية خارج ايران، محاربة الشيطان الأكبر أميركا، القضاء على اليهود ورميهم في البحر ووووو)، الدخول في بازار المساومات الدولية للتطوير النووي من خلال أجندتها الاقليمية وعلى حساب دماء تلك الشعوب في سبيل الوصول لصفقات ومصالح ذاتية تدعم من نزعتها التوسعية وزيادة تدخلاتها الاقليمية.
هذا القناع والوجه الخارجي في صورة ( امبراطورية الخير) والمنقذ للمقدسات ومن خلال التصريحات النارية من حين لحين لأحمدي نجاد،كان يقابلها استبداد وقمع داخلي مع الارتفاع في مستوى البطالة والفقر بالاضافة للقمع الديني ذو اللون الواحد، فجاءت الانتخابات الاخيرة وعمليات التزوير التي حصلت والتشكيك في نزاهتها واعتراض ونشاطات التيار الاصلاحي، فكانت القشة بل الشرارة التي كشفت ذلك الكم من التناقضات والاحتقان داخل المجتمع الايراني التي حاولت المؤسسات الدينية والعسكرية للنظام تجميل وجهها واضفاء صبغة ( ديمقراطية دينية) عليها لامتصاص نقمة الشعب وكذلك التباهي بالنموذج الديمقراطي في الحكم. علما بان الصراع هو بين تلك المؤسسات ورموزها الدينية ضمن اطار ( مبادئ الثورة الاسلامية) و لا توجد بالاساس ديمقراطية دينية لأن الدولة كلها مختزلة في ولاية الفقيه وتوابعها،لأن جميع المرشحين ينتمون اليها ولكن صراع المصالح وزيادة حدة التناقضات بين تلك المؤسسات من دينية وعسكرية وأمنية وكان أخرها الانتخابات الاخيرة، التي عبرت بوضوح عن ما يعانيه المجتمع الايراني في الداخل وهذا ما لمسناه على شاشات التلفاز والمشاركة الكثيفة لكافة فئات الشعب الايراني في التظاهرات،وتلك الملايين التي خرجت الى الشوارع لتعبر عن غضبها ودعوتها الى التغيير ولم يكونوا فقط من انصار الموسوي الذي تفاجئ بهذا الغضب العارم والرغبة الجامحة لتغيير هذا النظام،فكانت ردود الفعل عنيفة من قبل النظام فرأينا كيف كان القمع والتعامل مع الشارع عنيفا ودمويا وكان هناك خوف من امتداد التظاهرات الى كافة ايران، فمنعت التغطية الاعلامية والتلفزيونية واوعزت للباسيج والحرس الثوري بالتدخل وقمع المتظاهرين وهي ثقافة (ثورية) للقمع تخرج أحمدي نجاد نفسه من لدنه بعد أن شارك في عمليات تصفية واغتيالات ومنها على سبيل المثال (اغتيال المعارض الكردي عبد الرحمن قاسملو في فيينا عام 1989 بعد وعد ايراني ببدء مفاوضات مباشرة،لكنها خانت الاتفاقية وكان نجاد من اللذين ساهموا في تلك الجريمة وهناك دعوى قضائية ضده في النمسا). إن العالم يترقب بكل اهتمام التطورات الاخيرة في ايران نظرا لتداخلات السياسة الايرانية وتفرعاتها في العالم وفي الشرق الاوسط خصوصا.
© منبر الحرية، 18 سبتمبر/أيلول 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

إن الحديث عن الوحدة في ملفات التاريخ اليمن وضميره تحمل معناً واحداً، أن مكنونات اليمن عندما تتضافر وتتآزر حضائره وقبائله وأماكنه  فإن يمناً آخر شهد له القرآن “وجئتك من سبأ بنبأ يقين”، وأذعنت له حضائر أُخَرْ “أهم خيرٌ أم قوم تبع”، هذا اليمن، الذي شهدت له حتى حضارات أخرى في العالم القديم،  يبقى هو الاستثناء…
الوحدة في التاريخ القديم
اليمن السعيد أو “أورابيا فليكس” حسب المؤرخين اليونان والرومان، يشمل جزئيه الجنوبي والشمالي وسلطنة عمان والمخلاف السليماني فتكون حدوده من مشارف مكة إلى إقليم ظفار جنوباً.
وهو ذاته من تناسلت بقيه حضاراته القديمة من لدن سبأ، ولذلك فدولة سبأ  تعتبر الدولة المحورية في مسيرة دول أخرى حتى القرن الخامس قبل الميلاد، ويعود أكبر تجلي للوحدة في عصر  سبأ في عهد أعظم ملوكها وهو “كرب إيل وتر بن ذمار” الذي تمكن من توحيد اليمن وسجلت انتصاراته وجهوده العمرانية على نقش سمي “نقش النصر”، رغم أن أول حكام سبأ يقال له قريب الوطر. ولذلك التوحد علاقة بألقاب الحكام في سبأ فمن لقب بالملك فهو من يحكم شعبا واحدا أو قبيلة واحدة  بينما المكرب فهو المجمع أو الموحد لعدة شعوب تحت حكمه، ويؤكد نقش بناء معبد بيت أكينو في أشور أن كرب آل وتار بن ذمار هو أعظم  ملوك سبأ حيث ذكر النقش أنه بعث بهدية إلى الملك الآشوري سنحريب، حوالي 685 ق.م، ويرَجَحْ أنه نفسه صاحب نقش صرواح الكبير الذي يفيد أن الملك كرب آل وتار قام بعدة حملات عسكرية داخلية خلال فترة حكمه يهدف منها إلى تثبيت السلطة المركزية لدولته وتأديب من خرج عنه، ويذكر النقش أنه كافأ الجهات التي بقت موالية مثل حضرموت وقتبان.
وكون الوحدة هي القاعدة فإن الدول التي وجدت إثر ضعف الدولة السبأية والتي كانت أحياناً تدور في فلك القرب والبعد من الدولة الأم، وفي عهد الدولة الحميرية التي ورثت مركزية سبأ حدث اندماج بين الكيانان الرئيسيان وهما “كتلة سبأ كهلان” وكتلة “حمير بنو ذي ريدان” وبالتالي ظهر اللقب الملكي “ملك سبأ وذو ريدان” في القرن الثاني قبل الميلاد ولعل أول من حمل هذا اللقب “الشرح يحصب الأول”، ولاحقاً تمكن “حميريو ذو ريدان” من  توحيد اليمن بأكملها تحت سيطرتهم بحلول القرن الثالث الميلادي في عهد “شمر يهرعش الثاني” الذي تلقب “بملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنه”، ويذكر نقش يمني أن عامل الملك (شَمّر) في صعدة ريمان ذو حزفر اشترك في حملات وجهها الملك كانت تصل إلى الحيرة، ويشهد نقش عامل شمر يهرعش على أن كل شبه الجزيرة العربية كانت امتدادا حيويا للدولة اليمنية،  بينما في عهد “أبي كرب أسعد بن ملكي كرب يهأمن” المشهور بأسعد الكامل أو التبع الأعظم، الذي حكم في القرن الرابع للميلاد وتلقب “ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنة وأعرابهم طودا وتهامة”، أما الطود فهو الحجاز كما يذكر ابن المجاور وتهامة هي كل الساحل الشرقي للبحر الأحمر، أي أن جميع الأعراب وهم القبائل البدوية في المشرق والحجاز وتهامة خضعت لحكمه، حتى أن سلطة وصلت إلى اتحاد كندة في وسط الجزيرة كمملكة تابعة له، وهناك من المؤرخين يرى أن إضافة ملك الأعراب في الطود والتهائم إلى لقبه، تعني أنه أصبح ملكا للجزيرة العربية كلها، وفي وادي مأسل الجُمْح بنجد قرب الّدّاودمي، عثر على نقش باسم أبى كرب أسعد، يذكر أنه حل غازيا مع ابنه حسّان في أرض معد وذلك يوافق ما ورد في كتب التاريخ والأخبار, وتذكر الأخبار أن اليمنيون تركوا الأصنام واعتنقوا اليهودية والمسيحية بعد اعتناقه لليهودية، ويرى أولو العلم أن أسعد الكامل هو المشار إليه بالقران “أهم خير أم قوم تبع”   وقد ارتبط بذكر هذا الملك مايشبه ملحمة تاريخية تمجد أعماله وفتوحاته، وتنسب إليه عددا من المدن التاريخية مثل ظفار وبينون وغيمان وخمر وغيرها، ولا زالت تنسب إليه الكثير من بقايا الآثار.
وعندما تتحقق الوحدة تنعكس آثارها التنموية فتزدهر الزراعة والتجارة العربية اليمنية وتقام منشآت عمرانية كبرى من طرق وسدود وشبكات ري ومعابد وقصور وتزدهر التجارة في ما كان يعرف بطريق البخور البري، ثم لاحقاً في الطرق التجارية البحرية، وما ارتبط بها من موانئ يمنية على بحر العرب والبحر الأحمر، والشيء الواضح في انه بحسب قوة وضعف السلطة المركزية وانسجام مكوناتها الداخلية يكون امتداد السلطة إلى الجزيرة العربية،  بينما في أواخر الدولة الحميرية أوصل والاختلاف اليمن إلى أن تفرق بين الأقيال والأذواء بعد سقوطها إثر الاحتلال الحبشي عام 525 ميلادية في عهد حكم يوسف ذو نواس من عائلة ذي يزن الحميرية، وبالتالي ذهبت ريحها.
الوحدة في تاريخ اليمن الوسيط
في ظل الإسلام كان اليمن جزءاً من الخلافة الإسلامية بانقساماتها وصراعاتها وما تلاها أو جاء خلالها من دول تحتفظ بالولاء الرمزي لدولة الخلافة، غير أن الإستقرار المتضمن مع توحيد اليمن تفيأته دولة بني رسول حيث أن مؤسسها الملك المنصور دانت لحكمه جميع جهات اليمن بما فيها القبائل والأئمة الزيدية، على عكس من سبقه، وبلغ ملوكها خمسة عشر تخلل دولتهم تمردات قوى مختلفة، أثمرت إنتهاء الدولة في 858هـ/1454م على أيدي الطاهريين بعد قرنين ونصف من الحكم.
حينها كانت الإمبراطورية العثمانية تكتسح العالم الإسلامي، وكان تطلعها لليمن تصنعه حملتها الأولى عام 945هـ التي قضت على طموحات الإمام شرف الدين الذي إتخذ المماليك مطية للقضاء على الطاهرين ومن ثم وراثة دولتهم بالإنتهاء من المماليك أنفسهم الذي أطلق عليهم وقتها “غزاة كرماء”، لكن بعد مايقارب مائة عام خرج العثمانيون بعد فترات من الإقتتال آخرها في زمن محمد إبن الإمام القاسم بن الهادي في 1045هـ/1635م، وبسبب تبوء الأئمة الزيديون للإقتتال مع العثمانيين تأسست دولة الأئمة الأولى (القاسمية) التي  استمرت 325 عاماً، وفيها  تمكن أحد أئمتها وهو المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم من توحيد اليمن بكامل مخاليفه التاريخية تحت حكمه وحتى مشارف مكة لفترة تزيد على الثلاثين عاماً، وبذلك تصير في تاريخها الوسيط قد وحدت مخاليفها تحت سلطة مركزية سبقتها، وحدة في زمن الرسوليين والصليحيين.
وبسبب تقاتل الأئمة واستشراء الظلم، من جهة وعودة الحملة العثمانية الثانية، ورغبة محمد علي باشا لتوحيد العرب تحت حكمه فعندما ضم الدولة السعودية الأولى وبدء تطلعه لضم اليمن احتل البريطانيون عدن لتأمين  مصالحهم التجارية وتطويقه ثانياً، الأمر الذي كان يؤدي إلى تفرق مخاليف اليمن،  فكان العثمانيون في الشمال على حساب دولة الأئمة التي أكلها الضعف والتصارع والبريطانيون في الجنوب.
وفي ظروف عالمية فرضتها نتائج الحرب العالمية الأولى من سقوط الرجل المريض ميتاً عام 1918م ومن ثم انسحابه عن اليمن، كان المخلاف العماني يتجه للإنسلاخ عن اليمن مسبقاً، إلا أن المؤسف حدوث تقسيم اليمن لأول مرة في تاريخه وفق صياغ قانون وتشريعي معترفاً به في القانون الدولي، بدءا ذلك بين عامي 1903، 1904م ليُضمن  لاحقاً في اتفاقية 1914م بوجود شطرين  منفصلين اقتضته مصلحة دولتان إحداهما دخيلة والأخرى محتلة، ولذا فإن لهذا التأسيس عاملاً جوهرياً في ذهاب المخلاف السليماني عن اليمن التاريخية.
الوحدة في تاريخ اليمن الحديث
بقي من اليمن التاريخي شطران شمالي ذو نظام جمهوري وجنوبي ذو نظام اشتراكي، ولذا فهما مختلفان فكرياً مما يزيد ذلك إلى شقة الانشطار الحدودي، لكن حلم اليمن الواحد ظل حاضراً رغم حروب حدودية بين الطرفين عامي 1972 و 1979م، حيث أن الجهود صوب الوحدة بمجهودات عربية كانت تتناهي صوب تقارب وحدوي، وأبرز خطوات هذه الفترة السبعينية، اتفاقية القاهرة في 28 أكتوبر 1972م، وثانيها بيان طرابلس الموقع عليه في 26 نوفمبر 1972م بين رئيسي البلدين لأجل وسائل تحقيق الوحدة، وثالثها كانت قمة الجزائر بين رئيسي البلدين في 4 سبتمبر 1973م والتي  شكلت أول مجلس مشترك للطرفين، وأخيراً لقاء الكويت الذي وقعت عليه في 30 مارس 1979م، إثر حرب ذات العام.
وبالفعل بعد ظهور الجدية في مضمار تحقيق الوحدة بعد لقاءات وحدوية بين بين الرئيسين علي عبدالله صالح وعلي ناصر محمد مع ظروف داخلية مناسبة لكنها تجمدت عام 86م إثر أحداث 13 يناير في الجنوب، التي أنتجت رئاسة للجنوب لعلي سالم البيض.
لكن عجلة التوحد بدأت بالتحرك بدءاً من العام 87م خاصة وأن ظروفاً دولية وداخلية خاصة مع تباشير انحسار الاشتراكية التي جعلت رغبة الطرفين نحو الوحدة، تتجلي سريعاً بلقاء عدن التاريخي في 30 نوفمبر 1989م، حيث جرى التوقيع على اتفاقية إعادة الوحدة، وريثما جاء الثاني والعشرين من مايو 90م تم الإعلان رسمياً عن دولة الوحدة، بعد مائة  وخمسين عاماً على تفرق مخاليف اليمن وحضائره مع الفارق بين هذا التفرق وبين تصدع سد مأرب الذي أفضى فقط تفرق أيادي سبأ،  وبين الفارقين بون كبير.
© منبر الحرية، 08 سبتمبر/أيلول 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

كثرت في واقعنا خلال السنوات القليلة الماضية الكتاباتُ والمحاضراتُ والأحاديثُ التي تنصبُ على العولمة . وللأسف الشديد فإنه باستثناء عددٍ قليلٍ للغاية من الآراء التي جاءت صائبةً وواقعيةً ، فإن معظم ما نُشر وقيل جاء متسماً بعيوبٍ فكريةٍ بالغة الخطورة . فالعولمةُ – في الحقيقة – تعني أن الحضارة الغربية ، والتي تجلس الآن على مقعد السائق بالنسبة للطور الحالي من أطوار المسيرة البشرية عازمةٌ على أن تقنن العديد من القواعد التي تنظم أكثر من مجالٍ من مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والقانونية والثقافية . فالحضارةُ الغربية المنتصرة ، والجالسة على مقعد القيادة (حالياً) عازمةٌ على أن تسير المعاملاتُ الاقتصادية والتجارية والصناعية والعديدُ من المسائل والشئون السياسية والقانونية والثقافية (ومن بينها حقوق المؤلف بالمعنى الواسع) وفق القواعد التي ترسخت في ظل الحضارة الغربية التي تبوأت مقعد القيادة على مستوى العالم خلال القرون الأربعة الأخيرة – وإن كانت قيادةُ هذه الحضارة قد إنتقلت من شرق المحيط الأطلسي إلى غربه خلال العقود الخمسة الأخيرة .
فإذا كان ذلك كذلك ، فإنه يكون من العبث حديث البعض (وممن لم يمارسوا في الحياة إلا القراءة والكتابة) عن العولمة ، وكأنها فكرةٌ مطروحةٌ للنقاش والجدل . فالواقعُ ، أن العولمة ليست “فكرةً” مطروحة للنقاش والجدل ، وإنما هي “أمرٌ واقع” تحاول الجهاتُ التي تتبوأ قيادة العالم الغربي ، والتي تتبوأ في نفس الوقت مقعد السائق – كما ذكرت – على مستوى المسيرة البشرية العالمية ، أمر واقع تعمل هذه الجهات (وأولها الولايات المتحدة الأمريكية) على فرضه وتعميمه بجوانبه الاقتصادية وبجوانبه الأخرى العديدة ومن أهمها الشق الثقافي والفكري.
وهكذا ، تكون العولمةُ أبعد ما تكون عن فكرةٍ مطروحةٍ للنقاش ، وإنما أشبه ما تكون بظاهرةٍ طبيعيةٍ كالزلازل أو البراكين التي من العبث أن نناقش هل هي أشياء جيدة أم سيئة ، والصواب أن نعمل على التعامل معها أفضل وأنجح تعامل ؛ لأن البشر يختلفون في مواجهة وكيفية التعامل مع الواقع ، ولكن المصيبة تكون كاملةً وشاملةً عندما يحاولون مناقشة أيقبلون أم يرفضون الزلازل والأعاصير والبراكين ، لأنهم من جهةٍ لا يملكون معطيات تغيير الواقع كما أن تركيزهم على محاولة التغيير المستحيلة تجعلهم لا يعملون في المجال الوحيد المتاح وهو التعامل الذكي والأمثل والأكثر مردودية وفائدة مع الواقع ومحاولة خلق هامشٍ جيدٍ لقيمتهم المضافة في ظل هذا الواقع ، والذي لم ولن يسألهم أحد (ممن يملكون المقادير) عن رأيهم فيه .
ولعل أبلغ ما كتب في هذا المجال هو ما كتبه أستاذٌ مرموقٌ للعلوم السياسية هو الدكتور/عليّ الدين هلال عندما قال: أن العولمة تشبه قطاراً تحرك بالفعل بينما لا يزال البعضُ يتساءل هل وجود وحركة هذا القطار شرعية أم لا ؟ بينما لا يوجد من سألهم عن شرعية وجود وحركة القطار كما أن سؤالهم (وكل قدراتهم) لا تملك أن تمنع وجود وحركة القطار بأي شكلٍ من الأشكال .
ومما يزيد الطينة بلة في هذا الصدد أن عدداً كبيراً من مثقفي العالم العربي من أصحاب الخلفية اليسارية ، وهو ما يملي على الكثيرين منهم أن يخلطوا بين (ما هو كائن) (وما ينبغي في عالم مثالي أن يكون) . وهي سمة من سمات الفكر اليساري لها نبلها وبعدها الإنساني والاجتماعي غير المنكور ، ولكنها سمة تضرب في عالم المستحيل والخيال بقدر ما تبعد عن عالم الواقع المحكوم بالحقائق والصراع . كذلك يزيد من تعقد الظاهرة التي يتناولها هذا المقال أن العقل العربي المعاصر يرى أن (القول) نوع من (الفعل) – والحقيقة على خلاف ذلك، فالقول مجرد قول والفعل أمر آخر . إلا أن الواقع المؤسف يؤكد أن ثقافتنا المعاصرة أصبحت تُضفي قدراً كبيراً من التقدير والاعتراف بالنبل على (القول) ناسيةً أن ما ينتظر في بعض المجالات هو (الفعل) ولا شئ سواه . وباختصارٍ شديدٍ ، فإن العولمة قد تكون شراً وقد تكون حقاً ممزوجاً بالباطل والإغراض ، وقد تكون امتداداً للهيمنة والسيطرة والنفوذ ، ولكنها في النهاية واقعٌ لا يجدي الجدل معه ، ومن غير المنطق والعقل مناقشته ، وإنما العمل الجاد والكفء والدؤوب والمنطلق من معرفةٍ ورؤيةٍ صائبة على التعامل المفيد مع هذا الواقع لأن مواصلة الشجب والرفض ستجعلنا نكرر مواقفنا الشهيرة وآخرها شجب الهجوم الأمريكي الأخير على العراق – وكأننا سُئلنا أو كأننا بشجبنا نملك ذرةً من القدرة على تغيير الواقع ، مثل الموقف الياباني من الولايات المتحدة ، ومثل الموقف الأوروبي أيضاً من الولايات المتحدة ، وهي مواقف لا تقوم على “الأقوال” وإنما “الأفعال” والأفعال المتسقة مع قواعد اللعبة وليس الأفعال الحمائية الخائبة .
ومن المؤكد أن كل النظم الحمائية التي عرفناها خلال العقود الخمسة الأخيرة في الحياة الاقتصادية سوف تُزال واحدةً بعد الأخرى وستكون قواعدُ اللعبة مختلفةً ، ولن يكون هناك شئ مفيد إلا نظام فعّال للتعامل مع الواقع الجديد – نظام من (الأفعال) ، وليس من (الأقوال) ومفردات الشجب والعويل ولطم الخدود والبكاء على اللبن المسكوب . ومن المؤكد أيضاً أن سدود وحوائط الحماية الثقافية سوف تخترق (شجب البعضُ العولمة أو لم يشجبوها) ولن يكون هناك وضع صحي وقوي إلا لأولئك الذين ركزوا جهودهم لا على رفض الظاهرة بل على التعامل الفعّال والمجدي والأكثر فائدة ومردودية معها .
وإذا نظرنا للأمور من جهةٍ هامةٍ أُخرى هي جهة “الإدارة” والتي هي مفتاح النجاح الوحيد للمؤسسات والمشاريع الاقتصادية التي تنتج سلعاً أو خدمات ، فإن المؤكد أن نموذج المدير الذي يرفض (بفكره أو بمفردات تكوينه الإداري) حقائق العولمة ، هذا النموذج لن يكون بوسعه الصمود أمام أمواج الواقع الجديد والتي ستكنسه كنساً وتلقي به في مكانٍ (ومكانةٍ) بالغيّ التأخر. أما النموذج الذي سينجح في تكوين قيمة مضافة لمشروعاته فهو النموذج الذي اعترف بالواقع وتمكن من مفرداته الإدارية بما يكفل لمؤسساته المنافسة وتحقيق عوائد معقولة دون أن تكنسه أمواج الواقع . وقد تبدو هذه الجزئية – للبعض – ذات أهمية متواضعة ، ولكن كاتب هذه السطور ومن خلال تجربة طويلة في عالم الإدارة في واحدة من أكبر المؤسسات الاقتصادية في العالم يعتقد أنها جزئيةٌ ذات أهمية وفائدة عملية قصوى بالنسبة للاقتصاد المصري في طوره الحالي . فكل الخبرات والقيادات الإدارية التي تفتقر للبعد الدولي بوجه عام ولا تستوعب بوضوح جوهر العولمة (كظاهرة يمكن التعامل معها ولكن يستحيل رفضها وإلغاؤها) هذه الخبرات والقيادات ستكون قادرة على قيادة مؤسساتها صوب النجاح المنشود والنمو المستهدف.
وإذا ابتعدنا قليلاً عن المجال الاقتصادي والمجال الإداري ، فإن نفس المنطق سوف ينطبق على مجالاتٍ أخرى عديدة كالتعليم والثقافة والإعلام . فقيادات هذه القطاعات أمامها طريقان : طريق يتبنى فلسفة “شجب العولمة” والوقوف أمامها وكأنها “فكرة رديئة مطروحة للجدل” وطريق آخر لا ينشغل باستحسان أو باستهجان “العولمة” لإيمان أصحاب هذه الطريق بأن العولمة (في كل الأحوال) واقع حادث وما يهم أصحاب هذه الطريق هو أن يكون لهم منهجهم في التعامل مع هذا الواقع وبأفضل السبل وأكثرها فائدةً ونفعاً . ولا شك أن سلوك الطريق الأولى سيأخذ المجتمع (فكرياً وثقافياً) إلى عزلة عن العالم وسيقيم بين عقول أبناء المجتمع والعالم الخارجي سدوداً عالية تحول دون التعامل مع هذا العالم الخارجي وتجعل لغة الحوار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعلمي والثقافي معدومة الوجود .أما الطريق الثانية فستقود المجتمع إلى نفس محطات التقدم والاستقرار والازدهار التي عرفتها المجتمعاتُ التي لم تغريها لغةُ التحدي (المستحيل) وبريق الكبرياء (الذي لا يمكن أن يتحقق بالكلمات والشعارات والمواقف الانفعالية) .
© منبر الحرية، 25 أغسطس/آب 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

إنها قصة مألوفة: فلإسرائيل وراعيتها العالمية علاقة متينة الوشائج. وقلّما يتذكرُ أحدٌ أن زمنا قد مرّ على البلدين لم تكن فيه عُرى العلاقة بينهما وطيدة. أما سرّ هذه الشراكة فهو تعاون البلدين القوي في احتواء تهديد الأنظمة والحركات الراديكالية في الشرق الأوسط.
وبعد سنوات من الاضطرابات السياسية والمشاكل الاقتصادية، أنتجت جولة انتخابات تاريخية عملية إعادة ترتيب في الدولة الراعية. فقد قام الرئيس المنتخب حديثا، ذو الشعبية الواسعة، ببعض الخطوات الجذرية نحو تحويل سياسة بلاده الخارجية، ولا سيما فيما يتعلق بالشرق الأوسط. حيث سحب قواته العسكرية من بلد عربي مُحتّل، ومضى إلى مسافات كبيرة في طريق تحسين أواصر العلاقات مع البلدان الأخرى في الإقليم.
وفي مواجهة هذا التغيير التاريخي، تزايد قلق إسرائيل حول ما إذا كان الرئيس الجديد سيواصل إدامة العلاقة المتينة الراسخة التي سعى أسلافه إليها، وأداموها. وعلى الرغم من قلقها المتزايد، فقد قررت الدولة اليهودية أن ترمي بنصيحة راعيتها عرض الحائط، وأن تَشُن ضربة عسكرية ضد بلد شرق أوسطي. فما كان من الرئيس الجديد للدولة الراعية إلا أن شجب واستنكر الهجوم، وبدأ مرحلة إنهاء التحالف الدبلوماسي والعسكري مع عميلهم في الشرق الأوسط. مما حدا بإسرائيل أن تبحث عن راع ٍ قوي جديد.
فعندما أتخذ الرئيس الفرنسي تشارلز ديغول بعض الخطوات لإنهاء التحالف مع إسرائيل، الذي امتد لعقدين من الزمن، عشية النصر العسكري الذي حققته الأخيرة في حرب الأيام الستة عام 1967، كان قراره قد أرسل موجات اهتزاز إلى كل العالم. فلطالما كانت إسرائيل وفرنسا صديقتين حميمتين منذ أواخر أربعينيات القرن العشرين، وقد تحوّلت علاقتهما إلى تحالف إستراتيجي مثمر عندما بدأ الضابط المصري جمال عبد الناصر، ذو الشعبية والكاريزما الكبيرين، بتقديم الدعم للمتمردين الذين يقاومون الحكم الاستعماري الفرنسي.
عام 1956، انضمت إسرائيل مع فرنسا وبريطانيا في خطة موسّعة مشؤومة للهجوم على مصر واستعادة قناة السويس بعد أن أممها عبد الناصر. فبالإضافة إلى تزويد إسرائيل بالتكنولوجيا الحربية المتطورة، بما في ذلك طائرات الميراج والميستر الفرنسية الصنع، قام الفرنسيون بمساعدة الإسرائيليين في بناء المفاعل النووي الإسرائيلي ومصنع المعالجة النووية. كان التحالف الفرنسي الإسرائيلي الذي هدف إلى احتواء القوة العربية الوحدوية المتنامية، كان عاملا رئيسا في تحقيق الأمن القومي الإسرائيلي في ذلك الحين.
غير أن انتخاب ديغول عام 1958 غيّر كل هذا. فقد فاجأ ديغول العديد من أنصاره ومؤيديه عندما اعتنق أجندة تحولّية في سياسة بلاده الخارجية، أدّت إلى منح الجزائر استقلالها عام 1962، فضلا عن عملية ترميم العلاقات مع مصر وبقية العالم العربي. ومع التوتر الذي زادت حدته في الشرق الأوسط عام 1967، ضغط ديغول على الإسرائيليين لمنعهم من مهاجمة مصر، وأعلن في الثاني من حزيران (يوليو) حصارا يحرم فيه إسرائيل من الأسلحة، قبيل اندلاع الحرب بثلاثة أيام. لقد لعب موقف ديغول عام 1967 في حرب الأيام الستة دورا في تنامي شعبية فرنسا في أوساط العالم العربي، بينما اتجهت إسرائيل نحو الولايات المتحدة للحصول على الدعم العسكري و الدبلوماسي.
فهل يستطيع الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن يلعب دور ديغول ٍ أمريكي؟ هل سيؤدي قرار إسرائيلي برفض نصيحة أوباما لها بعدم توجيه ضربة عسكرية ضد المواقع النووية الإيرانية المزعومة إلى إعادة تقييم تاريخي للعلاقات بين واشنطن وأورشليم؟
حذّرت المؤرخة مارغريت ماكميلان في كتابها الجديد الموسوم ’استخدامات التاريخ وسوء استخداماته‘ من أن التاريخ، في الوقت الذي يقدّم مقاربات نافعة لفهم الحاضر، فإنها – أي المقاربات- يمكن أيضا أن تؤدي إلى أخطاء جسيمة في الحكم أو التقدير.
إذن، ما الذي يميّز القضية الفرنسية عن الأمريكية؟ حسنا ً، من ناحية، إن السياسة الخارجية الأمريكية كانت تتأثر كثيرا بالقوة المستمدة من الرأي العام، ووسائل الإعلام، والكونغرس، أكثر مما هو الحال مع السياسة الخارجية الفرنسية التي تميل إلى كونها خاضعة لحسن تقدير السلطة التنفيذية القوية والمجموعات النخبوية. إن التوجه المناصر لإسرائيل بين أوساط الكونغرس الأمريكي قد لعب دورا كبيرا، وبشكل واضح، في تقييد أي رئيس أمريكي ومنعه من محاولة إعادة النظر في توجه السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. وعليه، فالتوقعات تفيد بأن الكونغرس سيلعب نفس الدور الراسخ في القدم إذا ما أقدم أوباما على أن “يحذو حذو ديغول.”
وعلى الرغم من هذا، فأن التغيرات الجذرية في العلاقات الفرنسية – الإسرائيلية في ستينات القرن العشرين تقدّم لنا قضية تعليمية في هذا الخصوص. فالعلاقات بين الأمم والدول، ولا سيما بين الدولة الراعية وعميلها، هي علاقات قابلة للتغيير، والعديد من الإسرائيليين يدركون هذا الأمر جيدا، كما اكتشفت من خلال زيارتي الأخيرة للإقليم.
في الواقع، إن التناظر بين ديغول و أوباما طُرح عدة مرات في المقابلات التي أجريتها مع المسؤولين والمحللين السياسيين الإسرائيليين، مما يعكس القلق المتنامي في إسرائيل، وعلى وجه الخصوص حكومة حزب الليكود بقيادة رئيس الوزراء بينامين ناتينياهو، من أن يكون الرئيس أوباما ينوي إعادة صياغة الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط.  والحق، أني خلال زيارتي، قد ذُهلت من حالة الحتمية التي يتقاسمها كل من الفلسطينيين والإسرائيليين من أن واشنطن ستتبنى في نهاية المطاف دورا ناشطا في حل الصراع على الأرض المقدّسة.
ولكن على الرغم من مثل هذه المخاوف من الطرف الإسرائيلي – وبارقة الأمل بين أوساط الفلسطينيين—فإن أوباما ومساعديه لم يصدروا حتى الآن أية خطة سلام شاملة في الشرق الأوسط، أو يتخذوا أية خطوات تنبئ بتغيّر تاريخي، على غرار ديغول.
كثيرا ما كرر الرئيس أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون المواقف الأمريكية، بما فيها حاجة إسرائيل إلى الانسحاب إلى حدود عام 1967 – مع بعض التعديلات الطفيفة—كجزء من الاتفاق العربي- الإسرائيلي، ومعارضة تأسيس المستوطنات اليهودية في الأراضي العربية المحتلة، ودعم فكرة أن تكون السيطرة على القدس، بما فيها الأراضي الدينية، مشتركة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
بالرغم من ذلك، فإن هناك إحساس مُدرك في واشنطن وفي عواصم الشرق الأوسط أن “شيئا ما” قد تغيّر في طريقة الولايات المتحدة. ولكن هذا “الشيء” يعكس تغيّرا في النبرة والأسلوب أكثر من كونه تغيّرا في الجوهر. كما أن هناك تناقض حاد أيضا بين أوباما وحكومة جورج دبليو بوش، التي  أكدت بقوة على الروابط الأمريكية – الإسرائيلية والمصالح المشتركة في محاربة التطرّف في المنطقة.  وبالمقارنة بالفنون البلاغية لمستشاري بوش من المحافظين الجدد، فإن فريق أوباما وإعادة صياغته لأهداف السياسة الأمريكية الراسخة يمكن أن يبدو، وبكل سهولة، على أنه يهزّ الأرض.
كما أن انتخاب بنيامين ناتينياهو رئيسا لوزراء إسرائيل قد وفّر لأوباما فرصة لخلق الإحساس بأن “شيئا ما” كان يتغيّر فعلا في طريقة الولايات المتحدة في التعاطي مع الشرق الأوسط. فلطالما كان ناتينياهو مفضّلا لدى المحافظين الجدد. وبعد سقوطهم المخزي من السلطة في الولايات المتحدة، بدا المحافظون الجدد وكأنهم حققوا نصرا سياسيا كبيرا في واحدة من القواعد الأمامية المتقدمة للإمبراطورية الأمريكية بفوز ناتينياهو وأنصاره من المحافظين الجدد، وكانت إدارة أوباما قادرة على تسويق رسالتها في التغيير في العالم العربي.
وتعود القضية السياسية والإيديولوجية بين ناتينياهو والمحافظين الجدد إلى عهد رئاسة ريغان والسنوات الأخيرة للحرب الباردة، عندما عمل ’بيبي‘ ممثلا لإسرائيل في الأمم المتحدة، ثم سفيرا لإسرائيل في واشنطن. وفي ذلك الوقت، كان الجيل الأول من مثقفي المحافظين الجدد – بما فيهم ريتشارد بيرل، جين كيركباتريك، إيليوت إبرامز، كينيث أيدلمان، وماكس كامبلمان – يشغل مناصب قيادية في السياسة الخارجية في إدارة ريغان. وبالنسبة لحزب الليكود الذي كان حاكما آنذاك، كانت سياسات الحزب الجمهوري تبدو وكأنها تمنح إسرائيل الوقت لإحكام قبضتها على الضفة الغربية وغزة، كما رأت واشنطن الصراع العربي الإسرائيلي من منظار الحرب الباردة، معرّفة الحركة القومية الفلسطينية على أنها مجرد امتداد للإرهاب الدولي الذي يرعاه الإتحاد السوفيتي.
وبانتهاء الحرب الباردة، عاد ناتينياهو إلى إسرائيل ليعمل أولا وزيرا للخارجية، ومن ثم رئيسا للوزراء. وقد أثبت مهارة في استبدال التهديد السوفيتي المحتضر ببعبع جديد من الشرق الأوسط، وإقناع العديد من الحلفاء الدائميين بأنه بعد ذهاب الإتحاد السوفيتي، بوسع إسرائيل حماية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط ضد القوميين العرب (كصدام حسين)، والإسلاميين الأصوليين (كملالي إيران)، ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي تحوّلت، في خضّم دوران حزب الليكود المحافظي الجديد، من جناح يساري راديكالي إلى مجموعة إسلامية إرهابية راديكالية. غير أن جورج دبليو بوش ومستشاريه الواقعيين في الشؤون الخارجية لم يشتروا هذه الحكاية ولم يقبلوها، وقرروا مجابهة حكومة الليكود في قضية المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية.
وبعد إعادة انتخابه عام 1996، قام ناتينياهو بزيارة رمز المحافظين الجدد ريتشارد بيرل في واشنطن. وبحسب الصحفي كريغ أنغير، كان موضوع حديثهم هو ورقة سياسة عمل كان بيرل وبعض المحللين الآخرين قد كتبوها لإحدى مراكز الأبحاث الإسرائيلية الأمريكية، وهو معهد الدراسات الإستراتيجية السياسية المتطورة. وقد اقترحت الورقة الموسومة “انكسار نظيف: إستراتيجية جديدة لحماية المنطقة” رؤية راديكالية جديدة في السياسة الإسرائيلية. فقد اقترحت الورقة أنه من خلال شن الحروب على العراق، وسوريا ولبنان، بوسع إسرائيل- بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية—أن تعيد تشكيل المشهد السياسي وبذلك تضمن أمنها.
لقد اجتمع ناتينياهو مع أوباما في وقت مبكر من هذا العام تحديدا بعد ثمان سنوات من طرح تلك الأفكار التي ساعدت على وقوع واحد من أسوأ الإخفاقات الإستراتيجية في تاريخ الولايات المتحدة—ألا وهو غزو العراق عام 2003. إن قولنا بأن أوباما، على خلاف سلفه جورج دبليو بوش، ليس لديه الكثير من الإهتمام في الإصغاء لمحاضرات رئيس الوزراء الإسرائيلي بشأن الشرق الأوسط، سيكون تصريحا مجافيا للحقيقة. وبدلا من ذلك، طالب أوباما ناتينياهو بوقف توسيع المستوطنات في  الضفة الغربية.
إن هذا الموقف العادل للولايات المتحدة أغضب ناتينياهو. فخلال زيارته إلى واشنطن، أكد الأخير أن الحاجة إلى التعامل مع التهديد المحتمل الذي تشكّله إيران النووية قبل اتخاذ الخطوات بشأن الصراع مع الفلسطينيين، وهو وضع رفضه أوباما الذي أكد على أن القضيتين يجب التعامل معهما بشكل متوافق.
وبينما أعلن ناتينياهو، وبتذمر واضح، أنه سيدعم خلق دولة فلسطينية محدودة – رغم أنها غير مقبولة من جانب الفلسطينيين — كانت الحكومة الإسرائيلية تواصل مقاومة الضغوط الأمريكية الرامية لإيقاف بناء المستوطنات اليهودية. بقي بعض المحللين السياسيين غير واثقين من أن القائد الإسرائيلي راغب فعلا في تبنّي حل الدولتين، أو أنه يحاول كسب الوقت، ليس إلا.  وعلى كل حال، فإن الحكمة التقليدية في إسرائيل تقول بأن المواجهة بين ناتينياهو وأوباما ستودي بالحكومة الإسرائيلية الحالية إلى الإنهيار، وإلى حدوث انتخابات جديدة في إسرائيل، مما يجبر واشنطن على البدء بضغطها الدبلوماسي نحو السلام الإسرائيلي الفلسطيني.
في الحقيقة، لا الإسرائيليين ولا الفلسطينيين— بقياداتهم المنقسمة بشكل حاد—يمتلكون قادة يتمتعون بالكاريزما والسلطة الكافيتين للقيام بالخيارات الصعبة التي يمكن أن تضع المجتمعين على طريق المصالحة، حتى وإن كانت مصالحة شكلية مصطنعة.
هل يستطيع الرئيس أوباما أن يملأ الفراغ في إسرائيل وفلسطين والبدء في الضغط على الجانبين للنظر في مسألة اتخاذ بعض الحلول الوسط حتى وإن كانت مؤلمة؟ هل ستكون المملكة العربية السعودية، ومصر، والدول العربية الأخرى، قادرة على دعم الأمريكان إذا ما قرروا القفز في المياه الباردة لعملية السلام في الشرق الأوسط؟ وهل ستحاول إيران وحلفاؤها في المنطقة إجهاض الجهود الأمريكية، أو يقرروا الإنضمام إلى الجوقة التي تقودها أمريكا؟ وهل سيكون لدى أوباما القاعدة السياسية الرصينة لمواجهة المجموعات القوية التي تساند ناتينياهو في واشنطن؟
هذا بعض من الأسئلة التي تدور في خلد المراقبين في الشرق الأوسط، وكذلك في الأماكن الأخرى، وهم ينتظرون من أوباما إطلاق مبادرته حول الشرق الأوسط، والتي طال انتظارها، في الشهور القليلة القادمة. ولكن القلق الرئيسي الآخر—بالرغم من النوايا الحسنة للرئيس أوباما —  هو ما إذا كان تآكل القوة الإستراتيجية والاقتصادية الأمريكية قد يضع بعض القيود الهائلة على قدرة الرئيس على تحويل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وجلب السلام إلى الأراضي المقدّسة.
© منبر الحرية، 4 أغسطس/آب 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20101

التأريخ الذي يتحدث عنه الناس في كل مكان لم يكتب بعد، وحين يكتب سيتعلم أحفادنا أنّ كلّ ما ورثوه ليس أكثر من خرافات واساطير.
يجب أن نتفق أولا أنّ الحضارات تكمل بعضها على مدى التأريخ.
ويجب أن نعترف ايضا أنّه لم يصلنا شيء يدل على الحضارة العربية، فالمدنيات العربية التي قامت قبل الاسلام (السبأية والحميرية ودولة الغساسنة والمناذرة وغيرها) لم تخلف ما يدل على تحضر ولم تصنع حضارات أورثت العرب المعاصرين شيئا من تمظهرها، كل ما بنيت عليه حضارة العرب هو إسلامي، نشأ بنشوء الدول الاسلامية المتعاقبة  ورفده الاف المبدعين من العرب وغيرهم ممن إشتملت عليهم امبراطوريات الاسلام المتعاقبة.
آخر امبراطوريات المسلمين كانت الدولة العثمانية ( 1299-1924) والتي سادت منطقة الشرق الاوسط وأسيا الوسطى والحجاز والشام وشمال افريقيا بالأضافة الى السودان والصومال وأوروبا الشرقية علاوة على النمسا وايطاليا واليونان. حين انهارت هذه الامبراطورية المترامية ألاطراف لم تخلف سوى ولايات بدائية قبلية وأمارات بدوية، وبقي منجزها الحضاري محصورا في تركيا نفسها وبشكل لا يتعدى المساجد العثمانية وتركة ثقيلة من الإرث الاداري  المتخلف الفاسد.
مصانع الكولونيالية
واصطلح على تسمية القرنين السابع عشر والثامن عشر بعصور الإستعمار الكولونيالي ( وهو مصطلح ملتبس في الغالب يرتبط في اذهان العرب وغيرهم بمفاهيم الإستعباد وانعدام السيادة، في حين أن معنى “إستعمار البلاد” بالعربية هو اعمار البلاد ونشر التمدن فيها فكيف روّج السياسيون العرب المتخلفون مطلع القرن العشرين أن الاستعمار يعني الإستعباد؟).  بعد أن رفعت الحرب العالمية الأولى أوزارها أدرك ألاوروبيون وهم من حاولوا استعمار دول العالم عدم جدوى نشر التمدن والحضارة والديمقراطية بالقوة، فقرروا أنّ يصنعوا من الولايات والامارات التي خلفها العثمانيون دولا على نمط الدول العصرية الحديثة، ومضوا ليصنعوا في تلك الأصقاع كيانات سياسية قد تنجح في خلق تنافس سياسي داخل تلك الكيانات بما يحتمل أن يتنج عنه دولا متحضرة قد تلحق بركب الحضارة. بدأوا بتركيا مركز الأمبراطورية حيث جاءوا بكمال اتاتورك وعلموه كيف يخرج بعقول الناس عن 7 قرون من فساد وتخلف السلاطين بأن يخاطب فيهم الشعور القومي، وهذا ما كان، فنشأت تركيا الحديثة التي يحاول الأسلاميون اليوم العودة بها الى عصور السلاطين، الا أن جنرالات الجيش الذين طبختهم افران “الأستعمار” ما برحوا السد المنيع الذي يتصدى لمحاولات العثمنة.
النفط يخلط الاوراق
جاء النفط ليضيف الى مفهوم الدول التي صنعها الاستعمار عنصرا لم يكن في الحسبان، اذا أضحت معظم الكيانات المتخلفة البدائية فجأة مجتمعات غنية لامدنية، الأمر الذي دفع بأوروبا الى أن تستعجل نضوج طبخة الدول الجديدة، فسارع البريطانيون والفرنسيون بالذات في تشكيل دول الخليج لتظهر المملكة العربية السعودية الى وجه الصورة، ثم تعاقبت الكويت والبحرين وقطر والامارات وعمان لأعلان استقلالها ( أي خروجها من مصانع الاستعمار وهي لمّا تزل بعد فطائر لم تنضج!)، فيما لم تقع اليمن في دائرة اهتمام المستعمرين سوى في اجزائها الجنوبية المطلة على مضيق عدن، وغادرها الأنجليز عام 1967 لأسباب جيوسياسية تتعلق باغلاق قناة السويس عقب حرب الايام الستة . وصنع البريطانيون والفرنسيون من الشام والهلال الخصيب دول العراق العربي وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين وقسمّوها بما يضمن لكل منها منفذ بحري وما يتناسب مع علاقاتها بدول الجوار. ثم التفت “المستعمران ” بمصانعهما الى افريقيا فصنعوا مصر العربية وتونس والجزائر وليبيا والمغرب ( ولم يجدوا في المغرب ما يمكن أن يصنع دولة بمعنى الكلمة فتركوه ملتبسا بأرض شاسعة إنقسمت فيما بعد الى موريتانيا والصحراء الغربية ومملكة المغرب)، كما صنعوا السودان الكبير ودول القرن الافريقي الذي صارعتهم عليه بتخلفها الرث الأمبراطورية الأثيوبية وآخر اباطرتها “هيلاسي لاسي” – وهو اسم مسيحي يعني بالأثيوبية الثالوث المقدس-. ثم تعاقبت دول افريقيا كلها دون استثناء في الخروج من مصانع الأستعمار( وهنا كان للأسبان والبرتغاليين والهولنديين مصانعهم التي ساهمت في صنع الدول!) لتصبح 51 دولة لا يجمعها سوى التخلف والفقر والحروب الاهلية و حكام جلّ اهتمامهم أنّ يجمعوا الأموال من خزائن ” مشاريع الدول”.
واستمر مشروع صناعة الدول وامتد الى عمق آسيا الشاسعة، فصنع “المستعمرون” اندونيسيا وتايلاند وكوريا الجنوبية وبورما والفليبين وهونغ كونغ وتايوان وماليزيا وسنغافورة وافغانستان، فيما لم يهتموا بالنيبال ومنغوليا وتركوا فيتنام وكوريا الشمالية وكمبوديا ولاوس للشيوعيين كي يجربوا أن يصنعوا فيها دولا على طريقتهم. فخرجت علينا كوريا الشمالية -التي انخفض فيها معدل اعمار الناس الى 42 سنة! -بمشاريعها النووية، وطلعت فيتنام ولاوس بتصدير الخادمات والأيدي العاملة الأرخص في العالم.
وطلعت ناضجة من المصنع دولة الهند التي سرعان ما انفصل عنها المسلمون ليقيموا بنغلاديش وباكستان وهما كيانان ما برحا يطوران قدراتهما الحربية لحروب لا يعلم الا الله متى تبدأ ومتى تنتهي، كما اقاموا دولة الشاي في سيلان(سيريلانكا لاحقا) التي تمزقها الحروب الاهلية صراعا على مزارع الشاي ونشر الاسلام منذ قيامها حتى اليوم . أما الهند فمضت قدما وقد تأهلت لتصبح دولة عصرية في مصنع بريطاني بامتياز،وأضحت اليوم واحدة من أكبر وأقوى اقتصاديات العالم.
العالم الجديد
ولو التفتنا الى الأمريكتين فأن “مصانع الاستعمار” هي التي انتجت الولايات المتحدة الامريكية في امريكا الشمالية، والتي هي في الحقيقة 52 دولة اتفقت على الاتحاد في القرن الثامن عشر متأثرة الى حد كبير بمباديء الثورة الفرنسية ومختارة ان تتبنى لغة المنشأ، فصارت الانجليزية لغة البلاد الرسمية رغم ان سكانها جاءوا بدءا من كل اوروبا. كما اقتسم ” المصنعان” صناعة دولة كندا التي هي نموذج متواضع عن الولايات المتحدة الامريكية ما زالت الانجليزية والفرنسية لغتيها الرسميتين. اما المكسيك وهي موطن حضارة عريقة تعرف ب”الأزتيك” فقد خضعت لمدة 300 عام للأستعمار الأسباني، ثم قرر المستعمرون (قبل عصر الدول) في عام 1810 منحها الاستقلال لتصبح جمهورية المكسيك، إحدى أقدم الجمهوريات في العالم، لكنها ولدت خديجا وما زالت حتى اليوم تضج بالمشكلات والفقر وتخضع في الغالب لسلطة مناطقية تحددها العصابات، وفقدت لغتها الأم لتتبنى لغة المنشأ الأسبانية.
وفي امريكا الوسطى والجنوبية، لم يختلف الوضع كثيرا فقد صنعت مصانع اسبانيا والبرتغال ( ويلاحظ أنّ المانيا لم تكن دولة استعمارية على امتداد تأريخها وقد تفسر هذا حقيقة أنّ الالمان أنفسهم لم يصلوا الى مفهوم الدولة الحديثة الا في وقت متأخر)، فاحتل البرتغاليون البرازيل 500 عام وصنعوا منها دولة كبيرة رخوة، واحتل الأسبان الارجنتين وبيرو وبوليفيا وتشيلي لثلاثة قرون ليصنعوا منها دولا لا تقوى على أن تكون عصرية وبقيت مذبذبة بين الحداثة وبين روح المستعمرات الموروثة. وتنافست مصانع اسبانيا الخائبة مع مصانع البرتغال المتخلفة على صناعة الدول الاخرى في اورغواي وبارغواي والهندوراس وفنزويلا والاكوادور وسورينام وترينداد وتوباغو، وغويانا، وجاءت كل الطبخات التي تمت قبل قيام عصر الجمهوريات بنتائج مخيبة للآمال، أما كوبا فقد حاول الشيوعيون أن يصنعوا فيها دولة، ونجحوا في أن يضعوا لها رئيسا ما زال يحكم البلاد منذ استقلالها عام 1958، وقد أورث أخيه مؤخرا لكي يتولى عنه الحكم بالنيابة، لتصبح حين وفاته جمهورية شيوعية وراثية، تؤرّق الولايات المتحدة وتقض مضجعها بسياراتها المتحفية التي تنتمي الى خمسينات القرن الماضي ولا يستطيع الناس استبدالها لأن الحكومة لا تجيز التعامل مع الغرب!!
اما دويلات امريكيا الوسطى( هندوراس، جامايكا، غواتيمالا، كوستاريكا، بليز، بنما، السلفادور، نيكاراغوا) فقد جمعها مشروع دولة اقترحه الأسبان في القرن التاسع عشر،عرفت تلك الدولة ب(الولايات المتحدة في امريكا الوسطى)،الا أنها عاشت ثماني أعوام فقط لتسلم الدويلات الى مافيا الموز والمطاط والمخدرات والدعارة.
في أقصى جنوب الكرة الارضية قارة صغيرة تدعى”استراليا” تضم دولتين، “استراليا” و”نيوزيلنده” كلاهما تتكلمان الأنجليزية وكلاهما من دول الكومنولث، فهذه القارة باكملها بريطانية بامتياز.
ومن تم يمكن أن نعرف من صنع تأريخ العالم الحديث، ومن يكتب الآن مستقبله، إنها ليست الولايات المتحدة الامريكية، بل أوروبا التي لم تعد تحتاج الى قوات عسكرية لتثبّت الاوضاع في كل العالم، فكل دول العالم تقريبا صنعت في مصانع أوروبا، والولايات المتحدة الامريكية ليست استثناء. والسيادة والاستقلال الذي يتشدق به قادة كل هذه الدول ونخبها السياسية هو بركة المصانع الكولونيالية، لكن الجحود صفة بشرية ترمي بصاحبها الى مفاوز مجهولة في مغامرات لا تنتهي في الغالب الا بكوارث، وهذا حال عالمنا اليوم وغدا.
© منبر الحرية، 4 آب-أغسطس 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

جاءت التطورات السياسية في منطقة الخليج العربي بعد احتلال العراق والتلويح الأمريكي باستخدام القوة ضد إيران باعتبارها الطرف الثاني على قائمة “دول محور الشر” الأمريكية سابقاً ، بالتزامن مع انتفاضة العرب في الاحواز (أو الأهواز) في عام 2003م ، إثر الاعتداءات المهينة التي تعرض لها العرب هناك على يد الشرطة الإيرانية التي أباحت لنفسها حجب الحياة والحرية عن الأقلية العربية في الاحواز بعد تواصلهم الإعلامي مع أشقائهم العرب في المنطقة ، وانفتاحهم على الفضائيات العربية والدولية التي بدأت تتعرف شيئاً فشيئاً على قضيتهم .
ومجمل تلك التطورات إضافة إلى فشل مؤتمرات القمة العربية في وضع حلول علاجية للمشاكل العالقة بين العرب وإيران ، تؤكد من جديد على عمق الهوة القائمة في الحوار العربي – الإيراني حيال العديد من القضايا العالقة بينهما بدءاً من قضية الجزر الإماراتية التي تحتلها إيران (جزيرة طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى) ، ومروراً بقضية عربستان (الاحواز) الغائبة عن ساحة النظام الإقليمي العربي والشرق الأوسط برمته ، وصولاً إلى خطر التسلح الإيراني في المنطقة الذي يشكل عامل تهديد قائم لدول الخليج لعربي، رغم ما تشهده المنطقة من تغيرات استراتيجية عميقة تبعد احتمال أي تصادم إيراني – خليجي في ظل الهيمنة الأمريكية على أجندة توازن القوى في الخليج العربي .
وقد مثّل المناخ السائد في العلاقات العربية الإيرانية ، عاملاً في إثارة ملحة حول سر غياب قضية عربستان (الأحواز) عن دائرة الاهتمام العربي والدولي ، خصوصاً وأن الأوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية في الإقليم كانت ولا زالت مضطربة نتيجة لعوامل عدة أهمها التفاعلات الصراعية بين إيران والعراق ، والتي بلغت ذروتها إبان حرب الثماني سنوات ، والمقاومة المتواصلة التي يبديها شعب عربستان -الذي يعد أكبر الشعوب العربية في الخليج العربي بعد الشعبين العراقي والسعودي ، حيث يزيد تعدادهُ على عشرة ملايين نسمة – في وجه السياسات الإيرانية الهادفة إلى طمس هويته الثقافية والقومية .
وبدأ قصة معاناة الإقليم في العشرين من نيسان عام 1925م عندما قامت إيران الشاه باحتلال إقليم الأحواز (عربستان)، بعد أن تم استدراج الشيخ خزعل الكعبي حاكم الإقليم إلى فخ نصب له من قبل قائد الجيش الإيراني الجنرال زهدي من أجل إجراء مباحثات ، إلا أن الجنرال زهدي قام باعتقال الشيخ خزعل وتم إيداعه سجون طهران مع مجموعة من مرافقيه حتى عام 1936 حيث تم اغتياله هناك .
ومنذ احتلال الأحواز وحتى اليوم كانت-ومازالت- قضية عربستان أو الاحواز القضية العربية والإقليمية والدولية المغيّبة عن خارطة الشرق الأوسط تارة للطمس الثقافي والقومي الذي تُمارسه إيران ضد هذا الإقليم والعرب القاطنين فيه ، وتارة للتجاهل الإعلامي العربي والدولي لهذا الإقليم العربي ، وتارة للظروف الإقليمية والعربية التي كانت منشغلة في قضايا أخرى على حساب هذه القضية المهمة في إطار النظام الإقليمي العربي ، الأمر الذي نجم عنه في نهاية المطاف أن يشارك عرب الاحواز أشقائهم العرب في كل همومهم ومشاكلهم وأحزانهم ويتظاهرون مع كل هبوب أزمة عربية هنا أو هناك ، مقابل تناسي وإغفال عربي رسمي وشعبي لقضيتهم هناك حيث التجاهل والمعاناة والتخلف الثقافي والتغريب القومي الذي تُمارسه السلطات الإيرانية ضدهم .
ومنذ اليوم الأول للاحتلال قامت الثورات الأحوازية في مواجهة المحتل الإيراني الذي مارس سياسة الأرض المحروقة التي كان يتبعها الاستعمار في ذلك الوقت ، فقاموا بتدمير القرى والمدن العربية الأحوازية وتم إعدام الشباب الأحوازي دون أي محاكمة أو فرصة للدفاع عن أنفسهم من أجل إرهاب باقي الأهالي . وحتى الآثار لم تنجو من التدمير والتخريب من أجل طمس هوية الأحواز العربية وإنهاء ارتباطها التاريخي بعروبتها وربطها بالتاريخ الفارسي ، فعمدت إلى تزوير التاريخ والادعاء بحقها بالأحواز التي غيرت أسمها إلى الأهواز، كما قامت بتغيير أسماء المدن العربية إلى أسماء فارسية فالمحمرة العاصمة التاريخية للأحواز سموها خورمشهر وعبادان إلى آبادان والحوزة إلى الهويزة حتى الأحواز تم تسميتها بخوزستان، كل ذلك ضمن سياسة التفريس المتبعة ، ولم تنجو الأسماء الشخصية من التفريس فكل الأسماء العربية تم تحويلها إلى أسماء فارسية ولم يعد من حق أي أسرة أن تسمي أولادها إلا بأسماء فارسية.
ولم تكتفي الحكومات الإيرانية بذلك بل سعت لعملية التهجير للقبائل العربية المقيمة في الأحواز إلى مناطق الشمال الإيراني واستجلاب سكان هذه المناطق إلى الأحواز وإسكانهم فيها كما مارست سياسة التجويع للشباب الأحوازي نتيجة انعدام فرص العمل ومن أجل إجباره على الهجرة نحو الداخل الإيراني وبالتالي يتم إبعادهم عن وطنهم وأهلهم وانتمائهم ولصقهم بمناطق جديدة بعادات وأعراف أخرى ، أو الهجرة خارج البلاد وفقدهم لهويتهم العربية من خلال ارتباطهم بمعيشتهم وهمومهم الخاصة .
وقد أصدرت الحكومة الفارسية بعد احتلال الأحواز واثناء أسر الشيخ خزعل في طهران أصدرت بيانا ادعت فيه أن الشيخ خزعل هو الذي أصدره بعد وصوله طهران ، وقد جاء في البيان ما يأتي:
1- يتنازل أمير عربستان الشيخ خزعل المحيسن عن الحكم الى ابنه جاسب المحيسن
2- يحق للدولة الإيرانية أن تشرف على الحكم الداخلي في عربستان .
3- تقطع عربستان علاقاتها الخارجية مع الدول الأخرى التي كانت قد عقدت معها معاهدات تجارية أو أقامت معها علاقات سياسية .
فقد كان لعربستان بالفعل علاقات سياسية وتجارية مع دول عربية وأجنبية عديدة منها: العراق والإمارات العربية في الخليج وبريطانيا وروسيا وتركيا ، إضافة إلى إيران .
ويمكن القول أن أسباب نكبة الأحواز ، تتمثل في عاملين : الأول داخلي والثاني خارجي.
أما العامل الداخلي : فيتمثل في ضعف بنية أبناء الأحواز بما أصابهم من فقر وجهل ومرض وانخفاض مستوى المعيشة وانعدام الوعي السياسي والاجتماعي في زمن إمارة البوكاسب الكعبية وعدم الشعور بالمسؤولية نتيجة النفوذ الاجنبي من جهة ، والحيف الذي لحقهم من حكم الشيخ خزعل وحاشيته من جهة أخرى.
أما العوامل الخارجية : فقد تظافرت في عدة عوامل للإطاحة بأمارة الأحواز العربية ، ومن أهم هذه العوامل:
1- ظهور النفط في الأحواز سنة 1908م .
2- وصول الشيوعيين بقيادة لينين الى السلطة في روسيا عام 1917، مما يشكل ذلك تهد يدا لمصالح الغرب في الأحواز ومنطقة الخليج العربي .
3- ظهور رضا خان بهلوي في السلطة في فارس والذي يمثل العنصرية الفارسية المعادية للقومية العربية، حيث عمل ما بوسعه لإزالة كل أثر عربي في الأحواز (عربستان)، كما فصل كل الروابط والوشائج العربية التي تربط الأحـواز بالوطن العربي .
4- تأييد الإنكليز للاحتلال الفارسي لقطر الأحواز حيث ساهم الى حد كبير في نكبة العرب الأحوازيين وقد اعترف بذلك الإنكليز أنفسهم .
5- الموقف المتفرج الذي وقفه الحكام العرب لامارة الأحواز (عربستان) بسبب السيطرة البريطانية، وهو ما أعتبر مساهمة غير مباشرة في نكبة الأحواز مستقبلاً .
وفي عام 1979م قامت الثورة الإيرانية التي ساهم فيها الشعب العربي في عربستان وكان هدفها الخلاص من حكم الشاه الذي احتل عربستان وهجّر شعبها العربي واستولى على ممتلكاتهم بالقوة ، ووضعوا كامل ثقلهم على النظام الخميني الإسلامي الجديد الذي سيقيم موازين الحق والعدل ويمنح الإقليم حريته واستقلاله الذاتي –كما توهموا- ، وكانت مساهمتهم فعّالة في إضرابات عمال النفط التي شلت قدرات نظام الشاه وعجلت بسقوطه ، ولكن لم تمضِ شهور حتى اندلعت المواجهات بين أبناء عربستان والنظام الثوري الإسلامي الجديد ، وذلك بعد ان رفض الاعتراف بحقوقهم القومية والثقافية التي انتهكها نظام شاه، ومن ثم ارتكب حاكم الإقليم الجنرال (احمد مدني) في أيار 1979م مجازر بشعة راح ضحيتها مئات من أهالي مدينتي المحمرة وعبادان الذين قاوموا محاولة السلطات الإيرانية إغلاق المراكز السياسية والثقافية العربية في الإقليم ، وشهدت عربستان اثر ذلك اعدامات عشوائية ، ونفي زعيمها الروحي “أية الله آل شبير الخاقاني” إلى قم حيث توفي في ظروف غامضة .
وفي عام 1985م تجددت الثورات والانتفاضة الداخلية في عربستان ، حيث قامت انتفاضة شعبية عارمة في كل أنحاء الإقليم احتجاجاً على مقال نشر في صحيفة إيرانية وجّه إهانات جارحة للعرب في الإقليم بشكل خاص والأمة العربية بشكل عام ، سيما وان هذه التوترات والمواجهات جاءت في ظل الحرب العراقية – الإيرانية التي أخذت بعداً قومياً وثقافياً.
وفي عام 1994م اندلعت مواجهات دامية بين قوات الأمن الإيرانية وبين العرب الذين صُودرت أراضيهم في إطار مشروع قصب السكر في الإقليم ، والتي قتل وجرح فيها العشرات من أصحاب الأراضي ، وفي سابقة غير مسبوقة أحدثت تطوراً غير متوقعاً على سير القضية الأحوازية ، عيّن الرئيس الإيراني الإصلاحي (محمد خاتمي) وزيراً من العرب ، وهو الأميرال (علي شمخاني) الذي شكّل حالة استثنائية في الجمهورية الإسلامية حيث أنه من القلة العربية الأحوازية التي تسلمت مناصب حكومة عليا في إيران .
ومع مطلع عام 2000م وقعت مصادمات عنيفة بين قوات الأمن والمتظاهرين العرب الذين احتجوا على تزوير نتائج الانتخابات البرلمانية ، واندلعت مواجهات دامية بين قوات الأمن وأهالي مدينة عبادان الذين تظاهروا احتجاجاً على تلوث مياه الشرب والتي خلّفت عدداً كبيراً من القتلى والجرحى .
وفي كانون الأول من عام 2002 وحتى بداية كانون الثاني من العام 2003م، شهدت عربستان أو الاحواز فصل أخر من فصول المواجهة العنيفة بين قوات الأمن الإيرانية والاحوازيين هناك ، فقد اتهم رئيس المحاكم في مدينة الاحواز المحلات التي تمت مداهمتها بأنها تبيع الأقراص المضغوطة والأشرطة العربية المبتذلة وغير المسموح بها وفقا لقوانين الجمهورية الإسلامية في إيران ، وقد شملت المداهمات التي قامت بها قوات الشرطة، دخول بعض البيوت ومصادرة “أطباق الستالايت” التي توجد بكثرة ليس في بيوت العرب فحسب بل وفي بيوت غير العرب أيضا.
وكانت أخر انتفاضات الاحوازيين تلك الانتفاضة التي اندلعت في 15 إبريل 2005 على إثر تسرب وثيقة منسوبة لمكتب الرئيس الإيراني في ذلك الوقت محمد خاتمي وتنص على ضرورة تفريس ثلثى سكان الأحواز وتوزيعهم على مختلف المناطق الإيرانية ، وهى الوثيقة التي تؤكد الحكومة الإيرانية أنها مزورة ، بينما يقول الناشطون الأحوازيون أنها حقيقية.
وتكتسب قضية الاحواز العربي اليوم، بعد تفاقم الصراع الدائر على أرض العراق المحتل، أهمية خاصة لدى المحتل الإيراني ، فالمؤسسات الإيرانية تشارك بشكل مباشر في احتلال العراق وتساهم إلى جانب قوات الغزو الأمريكية والبريطانية في محاربة الشعب العراقي ، كما تقوم إيران عبر بعض القوى العراقية الشعوبية في تدمير مقدرات وإمكانيات الدولة العراقية وإبادة سكانه ، وتعمل وعملائها العراقيين على تمزيق هذا البلد العربي وتقسيمه لدويلات لإفشال أي جهود ممكنة لتوحده من جديد ، وبالتالي إضعاف مقاومة الشعب الاحوازي على الجانب الآخر من ساحل الخليج من تحقيق حلم الاستقلال والانفصال عن بلاد فارس .
فالأحواز الوطن العربي التوأم للعراق المحتل أصبح من أهم ساحات الصراع العربي – الإيراني، ومن خلال شعبه وأرضه يقرر مستقبل تلك العلاقات المزمنة والمتوترة باستمرار ، ويجب على الدول العربية أن تدرك حقيقة أن تحقيق استقلال العراق التام وحل قضية الاحواز العربية بشكل كامل وإعادة الجزر الإماراتية المحتلة وتحجيم دور التدخل الإيراني في الشؤون العربية ، هي السبل الكفيلة لحوار عربي – إيراني يؤسس لتحالف استراتيجي بينهما.
خلاصة القول مما سبق ، أن التاريخ السياسي لعربستان تاريخ حافل برفض الخضوع أو الاعتراف بالحكم الإيراني عليه ، لإدراك العرب الاحواز حقهم التاريخي والثقافي والقومي في عروبة هذا الإقليم ، وحقهم في تقرير المصير والاستقلال عن الجمهورية الإيرانية التي لم تختلف في عنفها وسلوكها البشع مع العرب هناك عن نظام الشاه الذي أباح لنظامه البائد القتل والتنكيل والسحل بأبناء عربستان دون وجه حق ، ولعل ما يطلبه أهل عربستان هو فقط الوقوف والتضامن معهم كأضعف الإيمان ، وان لم يكن من باب العروبة والقومي ، فمن باب الشعور الإنساني البحت على الأقل .
© منبر الحرية، 31 يوليو/تموز 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

الحقد الديني ليس كمثله شيء في كثافته وعمائه وتأثيره الرهيب على وعي المتدين. ليس كمثله شيء في حماقته وجنونه وتعصبه. فتخيلوا إذن ذلك حين يكون هذا الحقد قوام الشعور السياسي لسلطة دينية تحتكر في نفسها شرعية السماء! كيف لها أن تحترم اختلاف الآخرين عنها سياسياً ومعتقداً؟ كيف تُعامل الآخرين، أفراداً وجماعات، دون تمييز حين تكون الهويّة الدينية قاعدةً لتصنيف الناس لديها؟
إيران، الدولة والمجتمع، تمثل ترسانة هائلة من العقائد التاريخية والثقافات العرقية المتنوعة. وتاريخها مفعم بالتحولات الفكرية والسياسية والمذهبية. ولم يكن بوسعها يوماً أن تكون غير ذلك بسبب من مكانتها الحضارية والجغرافية. وحينما شرع الإيرانيون بالتخلص من طغيان الشاه (16- كانون الثاني 1979) قَدِم رجل ملتحي وطموح، من أصول هندية، وراح يفرض نظاماً فجّاً متغطرساً ولامعقولاً على الحياة. أخذت المدينة كلها تغرق في الظلام والكآبة. فقد امتطى عربة الدين التي تجرها خيول المتعصبين. وجعل الشعب الإيراني يفقد عقله، جعله يهذي، وقاده إلى الهلاك!!! كما كان المخلوع محمد رضا بهلوي يقول وهو في حيرة من أمره ومصيره.
شكّل الإرث الديني والمذهبي للفرق الإمامية خلاصة سياسية لخطاب الخمينية. إذ عمد روح الله المصطفى إلى استلهام التراث الفقهي والسياسي للفرق المهدوية- الإمامية بهدف التأسيس لشرعية سياسية جديدة، وسعى إلى التماه مع الرؤى الميثولوجية الخلاصية بغرض اكتساب القداسة التاريخية. ومن هذا المنطلق أقام بنى سياسية ومؤسسات كُرّست بشرعية دينية، هيمنت على كل مناح الحياة.
في المبدأ فإن التشيّع نسق ديني سياسي خالص، وهو متخم بالمطالب الأيديولوجية والدنيوية المباشرة، وإن تلبس بلبوس التصورات الأخرويّة. ولهذا لم يكن عسيراً على قائد الثورة الطموح تأسيس نظام كليّ القدرة والقداسة تحت وصايته المطلقة، ومتمركز حول إرادته الذاتية، التي عدّت إرادة متعالية ومقدسة لارادّ لها، باعتباره التشيّع خميرة أيديولوجية لخطابه الثوري.
وفي هذا السياق يعدّ مفهوم” ولاية الفقيه” الذي جاء به الخميني تعبيراً عن هذا الطموح السياسي الصرف، الذي لا لبس فيه، لاحتكار السلطة، وإن اتخذ صيغة دينية أراد بها الخميني  أن تكون ذا سند أو مصدر إلهي يتعدّى إرادة البشر والتاريخ.
فصّل الخميني في كتابه” الحكومة الإسلامية” رؤيته في” ولاية الفقيه” وقصد بها أن يتقلّد المجتهد أو مرجع التقليد، أو نائب الإمام، أو المرشد جميع سلطات المهدي وصلاحياته الدنيوية حتى يتجلّى الأخير للبشر في آخر الزمان. وتنطوي هذه العقيدة على نوعٍ من التفويض الإلهي للمهمة الكوزمولوجية المقدسة للإمام الغائب للكائن الإنسان الذي يباشر الإمامة باسم المهدي.
وعبر هذا التفويض يستحيل الفقيه إلى إمام معصوم وحاكم منزّه، لا تناقش أوامره ووصاياه، التي تغدو مقدسة كذلك بالنسب. إذ طالما أن الإمامة ليست بالاختيار أو الانتخاب، وإنما هي من عند الله، فهي لأجل ذلك معصومة بالنسب المتتابع، وعليه لم يكن اعتباطاً إدعاء الخميني أن روح الله حلّت فيه، وبالتالي فإن إرادته تمثل تجسيداً للإرادة الإلهية.
إنه، على حدّ تعبيره في” كشف الأسرار”، ينوب مناب الإمام الغائب. فهو الحاكم والرئيس المطلق، له ما للإمام في الفصل في القضايا، والحكم بين الناس. والرادّ عليه كالرادّ على الإمام، والرادّ على الإمام كالرادّ على الله تعالى، وهو على حدّ الشرك بالله.
برغم هذا، يعتبر المستحكمون برقاب الشعوب الإيرانية كل التهريج السياسي والانتخابي القائم ديمقراطية من طراز خاص، ديمقراطية إسلامية مشفوعة ببركة السماء. ويتجاهل هؤلاء واقع أن فلسفة الديمقراطية تقوم على القول بالمصدر البشري الدنيوي للسلطة، وبأن القرار الإنساني الحرّ هو مبدأ كل قيمة سياسية أو أخلاقية. وأن لكل نظام اجتماعي أصلاً إنسانياً دنيوياً.
هذه الفلسفة تتعارض تماماً مع العقيدة الدينية الراسخة، التي تقول بالمصدر الإلهي للحكم والوصاية السماوية. و هي ترفض النظر، من هذا الموقع، إلى رعايا الدولة على قاعدة المساواة في المواطنة وفي الحقوق الطبيعية التي تفرضها صفتهم كبشر، والتي تكمن في طبيعة الإنسان بالذات. فحسب الكائن أن يكون إنساناً حتى تكون له تلك الحقوق وهي حقوق سابقة على أي انتماء أو وضع ديني أو قومي. وبما أنه لا يمكن لأي إنسان أن يكون إنساناً أكثر من سواه أو أقل، وبما أن صفته كإنسان لايمكن استعارتها أو التخلي عنها، مثلما أفادنا فلاسفة الحق الطبيعي، فإن كل فرد يحمل في ذاته حقه كإنسان وهذا الحق واحد لجميع الناس، بصرف النظر عن هويتهم الدينية أو القومية. هذه القناعة تتنافى مع النظرة الدينية السابقة لمصدر الحكم والغاية منه، بل وحتى مع التصور الديني للإنسان. فإذا كان النظام الديمقراطي هو شكل الحكم الذي يجسد المساواة في شعب من المواطنين، فإن الأيديولوجية والمؤسسة الدينيتين تقولان بالنظام القائم على شعب من المؤمنين وتفرضان نمطاً معيناً من الطاعة هي طاعة ” مافوق الدولة”. وكل من يتعارض في إيمانه أو رأيه مع النسق المعتقدي السائد ويختلف عنه يصبح كافراً ويغدو خارج نطاق الرعاية ويحكم عليه بالحجر.
لا ينبغي أن نتوهم بأي حال أن المساواة ممكنة في ظلّ سلطة دينية تتكئ على شرعية ماورائية ولاهوتية مجردة، وأن الديمقراطية ممكنة طالما أن هناك إرادة مطلقة تتعدى الإرادات جميعها، وإن المواطنة ممكنة في ظلّ تعريف الأفراد بموجب هوياتهم الدينية أو المذهبية أو عقائدهم. إذ لا تعود العلاقة السياسية المجردة بين المواطنين الأحرار والمتساوين ممكنة، وإنما تستحيل إلى علاقة بين رعايا قوامها الإيمان الشخصي والشعور اللاعقلاني، وتعدّ الريبة الدائمة والكراهية وغياب التسامح ناظماً لها. وتغذي السلطة الدينية هذه الانفعالات، وتميل عادة إلى توجيه الأفراد بهذا المنحى بعيداً عن مبادئ  العقل. بحيث تستحيل الاختلافات السياسية لديها إلى مجرد اختلاف في الإيمان الديني،  وتغدو المعارضة السياسية في نظرها مروقاً دينياً وهرطقة، تجابه عادة  بالقسوة والعنف الذي يغذيه الحقد الديني لدى السلطة. التي لا يعود لها من عمل سوى إرهاب المختلفين عنها سياسياً وردعهم وترويعهم دون رحمة.
© منبر الحرية، 04 يوليو/تموز 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

لا ريب في أن الإضطرابات والتداعيات التي تلت الإعلان عن نتائج الإنتخابات الرئاسية في جمهورية إيران الإسلامية تستقطب الإهتمام العالمي، الرسمي والإعلامي، ليس فقط بسبب الأهمية الجيوستراتيجية لإيران في منطقة تعد الأخطر والأكثر أهمية وإستعداداً للإلتهاب، ولكن كذلك بسبب تواصل طهران في في مشروعها النووي على نحو يوحي بالتحدي لإرادات الغرب بقيادة واشنطن، وبالرعب لإسرائيل التي تستشف بعداً عسكرياً من وراء المشروع النووي الإيراني المتواصل. ولكن إضافة إلى هذه الإعتبارات جميعاً، لم تبدو على الأوضاع الداخلية أية إشارات تنذر بعدم الإستقرار وبالفوضى اللامحدودة منذ إستتباب الوضع العام هناك بأيدي ثيوقراطية راسخة ومتنفذة. إلاّ أن المهم في سياق ما جرى من إضطرابات غليان في شوارع طهران عبر الأيام الأخيرة لا يمكن، برأيي، أن يسّوق على أنه “ثورة ثانية” أو “خضراء”، كما تحاول بعض وسائل الإعلام تصوير الأمر وتسويقه بطريقة تخدم أهدافاً سياسية،  باعتبار “إيران العصية على شروط الإذعان”.
أما الحديث عن ثورة جديدة، تذكيراً بالثورة الإسلامية بقيادة آية الله الخميني، فإنه ضرب من ضروب الآمال المتمادية بالتفاؤل التي قد تقود الغرب إلى مفاجآت جديدة ومزعجة بقدر تعلق الأمر بالسياسات الإيرانية وبتمسك طهران بمشروعها النووي. لفظ ثورة revolution، بالمناسبة، يمكن أن يعني “دورة” (بالنسبة للعجلة في الفيزياء الآلية)، لذا يكون إفتراض وجود ثورة إنما هو إفتراض مبتنى على حدوث دورة، بحسب المنظور التاريخي الواسع: بعد ثلاثين سنة من تفجر الثورة الإسلامية. وهنا تكتمل فكرة الدورة الزمنية حيث تبرز الحاجة للتغيير أو للإنقلاب على الثابت الهامد على نحو 360 درجة، إذا ما إستخدمنا المصطلح الفيزيائي. إن هذا النوع من التفكير الذي هو في جوهره نمط من أنماط التمني المضاد للمشروع النووي الإيراني إذ أنه يراهن على ثمة تغيير جذري يجري داخل إيران، وهو تغيير سيكفي الآخرين شر القتال والإحتكاك، هذا التفكير يؤسس نفسه أو آلياته على ما شاع في الصحافة العالمية والعربية، حول الشأن الإيراني، عن ثمة تنافر بين الإصلاحيين reformists والمحافظين conservatives.
هذا التنافر المفترض صحيح ومقبول؛ ولكن بحدود، إذ يمكن للمرء أن يختزل الصراع داخل إيران اليوم بوصفه صراعاً بين فئتين: فئة الشبيبة المتطلعة للمستقبل وللتحرر على أنواعه، وهي فئة ذات طاقات مهولة، وبين فئة “العلما” Ulma، باستخدام المصطلح الإنكليزي، حيث انقلبت الموازين والقيم بين عام 1979 والعام الجاري: عام 1979 كان هناك ثمة إئتلاف أو تحالف بين الشبيبة والعلماء، وكان ذاك تحالفاً قوياً بسبب إحتماله لحيوية وعنفوان الشباب، سوية مع توازن ومنطق ورشد العلماء. لاحظ أن العلماء، سنة 1979، كانوا يمثلون قوة تقدم بوصفهم الرأس الصاعد لفكرة التغيير من خلال إنهاء إمبراطورية أسرة “آريامهر” ممثلة بتاج محمد رضا بهلوي.
لقد كمنت جذور الثورة الإسلامية آنذاك في فكرة مقاومة رمي الشاه نفسه ودولته بأحضان العالم الغربي تحت شعار وفلسفة التغريب Westernization، على نحو يذكرنا بسياسة كمال أتاتورك الذي وضع تركيا على أعتاب التغريب ومن ثم الإغتراب، باعتبار ان التغريب إنما هو مرادف للتحديث! كان العلماء آنذاك يمثلون قوة ثورية أو قائدة للثورة، وكان الشباب يمثلون مادة الثورة الأساس ووقودها الذي قدم نفسه ضحية لسطوة نظام بوليسي كان يعد نفسه “شرطي الخليج” آنذاك، باعتباره يمتلك “رابع” أقوى جيش في العالم. كانت الثورة عام 79 مبتناة على فكرة مقاومة تغريب إيران الإسلامية، لذا فانها وجدت نفسها في أحضان العلماء في نهاية المطاف، وحتى اللحظة.
إن ما يجري اليوم من إضطرابات الآن يقدم نوعاً من أنماط التكرار التاريخي، إذ يقدم الشباب (بمشاركة نسوية واضحة المعالم) مادةً ووقوداً لنوع جديد من التغيير، الذي يرنو إلى التفتح على العالم الخارجي، الغربي خاصة، عبر التفاعل والتناقل والتلاقح، الأمر الذي تحاول الإدارات الغربية تشجيعه وتغذيته إعلامياً واعتبارياً من خلال التركيز على الأدوات التي وفرها الغرب للشبيبة الإيرانية من أجل إختراق النظام الثيوقراطي وأدواته البوليسية (من هذه الأدوات: الإنترنيت والهواتف النقالة والرسائل القصيرة من بين أدوات أخرى). العالم الغربي، ومعه إسرائيل، يريدان تعميق الشرخ أو الطلاق بين الشباب والعلماء، أي بين تيار “الإصلاح” وتيار “المحافظة”، على عكس ما جرى عام 79 حيث كان التحالف بين الشبيبة والعلماء هو محور الثورة الإسلامية وورقتها الرابحة: وهي الثورة المضادة للتغريب. اليوم يحدث شيء معاكس، إذ يبدو أن الثورة الإسلامية قد حقنت الشعب الإيراني بجرعة زائدة من “المحافظة” (لمقاومة التغريب) د رجة إنقلاب الدواء إلى داء، حيث راح الشباب يطالبون بالتغريب والتحديث ومد الجسور الثقافية والإقتصادية مع العالم الخارجي بطريقة أو أخرى.
لذا فان ما جرى في شوارع طهران خلال الأيام القليلة الماضية إنما يمثل ردة فعل لجرعة المحافظة التي قدمتها الثورة الإسلامية بطريقة بدت وكأنها قطعت الجمهورية الإسلامية عن محيطها الكوني وكذلك عن محيطها الإقليمي.
ان الشعب الإيراني هو واحد من الشعوب الحيوية والقادرة على الإبداع، باعتبار تراثه العريق وحضاراته القديمة، لذا فانه شعب قادر على اختيار الطريق الصحيحة التي تقوده لأن يكون عنصراً فعالاً وبنّاءً في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي الذي هو الآن بأمس الحاجة للإستقرار وللعلاقات الندّية والسلمية الواعدة حيث إمكانية إحالة هذا الخليج من منطقة قابلة للإلتهاب إلى منطقة ترفل بالسلام والتعاون والأمن والإستقرار.
© منبر الحرية، 30 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

بعدما مرّت منطقة الشرط الأوسط بفترة انتقلت فيها عدوى الخطابات من مسؤول إلى آخر، تتوّجت بخطاب الرئيس الأمريكيّ باراك أوباما في القاهرة، ثمّ خطابات عديدة تلت خطابه، فيما يشبه الحمّى الخطابيّة، التي كانت استعراضيّة أكثر منها واقعيّة، حيث بدت المنطقة على مفترق خرائط طرق خطابيّة، تضع النقاط الرئيسة، ومناهج العمل المحتمَلة، لتوجّه ركب الشعوب المغلوبة على أمرها..
كانت مرحلة الخطابة السابقة، التي حفلت بالكثير من المثاليّات التي يستحيل أن تسمو إليها السياسات التي تُوصَم بأنّها تنطلق دوماً من المصالح فقط. جاءت بعدها مرحلة التأنّي والتدبّر ثمّ الكتابة والتحليل، وها نحن نجد – وهذا احتمال – أنّ بعضها بدأ يتجلّى واقعيّاً على الأرض، فخطاب الرئيس أوباما بدأ يؤتي أُكُله في إيران، كأنّما وجد الإيرانيّون في كلماته دافعاً للمطالبة بالحقوق المهضومة، المذابة في بوتقة الإسلامويّة الفارسيّة، أو لربّما هكذا شاءت المصادفات التاريخيّة، أن يسبق أحدها الآخر، كي يُنسب إليه.. أو لربّما، وهذا احتمال آخر، أنّ ما كانت إدارة بوش قد خصّصته من مبالغ ضخمة، قبل سنوات، لإثارة الأقلّيات في إيران قد بدأ ينتج تداعيات سيكون لها تأثيرها الخطير في مستقبل إيران التي ظلّت منظومتها الأمنيّة عصيّة على الاختراق طويلاً..
مع الوقائع الخطيرة على الأرض، تتناسى السلطات الإيرانيّة ممثّلة بالمرشد الأعلى للثورة، الأسبابَ الرئيسة، لتلتفت إلى اتّهام الغرب علناً بالتدخّل، تمهيداً لتفتيت إيران، وهذا ما كان مُبطَّن الخطاب، علاوة على التهديد والوعيد اللذين كان الخطاب/ الخطبة، مشبعاً بهما.. عدا القدسيّة المضفاة على كلّ رؤاه التي تأتيه من علياء مظنون.. وهو بذلك لا يتّهم الغرب، بل يخوّن شريحة كبيرة من أبناء الشعب؛ شعبه، رفضت الانقياد للتزوير الذي قرّرت التشهير به وفضحه.. كما أنّه يتناقض في جوهره مع نفسه، عندما وصف المرشّحين كلّهم بالأهليّة والاستحقاق، لكنّه تعدّى الافتراض إلى نفي الاعتراض، ووجوب القبول بالنتائج، والاعتماد على الوليّ الذي يكون ملاذ المعترضين. كما جاء وصفه للمتظاهرين بالمشاغبين، تتويجاً لنجاد، وتمجيداً لسياساته المتّبعة، والمستقبليّة.
بمقارنة جسامة ما يحدث على الأرض في إيران، مع ما ينقل منها وعنها، فإنّ وسائل الإعلام لا تتمكّن من الحصول إلاّ على النذر اليسير، حيث مشاهد قليلة، صور محدّدة، مقاطع فيديو قصيرة، تهرَّب، بطريقة أو بأخرى، لتنقل جانباً من الواقع الذي يبحر فيه الإيرانيّون.. صور قتلى وجرحى وانفجارات، تذكّر بالحرب الكارثيّة على غزّة، أو بصور التفجيرات المتكرّرة في العراق، مع اختلاف بين الأطراف هنا، حيث الاقتتال الدائر، يشكّل شرارة للحرب الأهليّة التي تكاد أن تبدأ، ولا تتوانى السلطات الإيرانيّة عن تخوين «المارقين»، واتّهامهم بالعمالة للغرب، ذلك أنّهم يحتجّون على القداسة التي تُضفَى على كلّ الأفعال والتصرّفات التي تصدر عن الإمام، الذي لم يعد معصوماً عن الخطأ عند هذه الفئة التي توصَم بالضلال والإرهاب..
الصور والمشاهد التي تعرض جانباً ممّا يجري في الشارع الإيرانيّ، تمثّل اختراقاً للمنظومة الإيرانيّة التي تعتبر بمثابة حصن حصين ظلّ عصيّاً على الاختراق طويلاً، ثمّ جاءت الدعوات الإصلاحيّة والانفتاحيّة من قلبه، ساعية إلى تغيير تفترضه المستجدّات..
اختلف التعامل والتعاطي من قبل وسائل الإعلام مع الأخبار القادمة من إيران، لكنّها التقت في نقطة المنع المفروضة على كلّها، بقي الإنترنيت سيّد الحدث، ذلك لتحرّره الجزئيّة من الرقابة المُحكَمة، فنقلت معظم وسائل الإعلام أخبارها وصورها عن موقع «تويتر»، هذا مع الحرص الدؤوب من السلطات الإيرانيّة على تصدير الأزمة، ونقل الجمرة التي رقدت تحت الرماد، لتحرق بها أعداءها..
جنّيّ القمقم الإيرانيّ ينعتق من إساره، تتحوّل إيران إلى ملعب للأحداث لا لاعب بها، أو متلاعب، أو محرّك لها عن بعد في الساحات الإقليميّة التي كانت تدير فيها حروبها من خلف حجاب..
هل ما نشهده اليوم من صور الحرائق والنيران والتفجيرات والرصاص والدماء هي ثورة على الثورة.. أم أنّ النظام الإيرانيّ أصلب من «المؤامرات»..؟!
ذاك القمقم الإيرانيّ المغلق على الأسرار، المسكون بالمحظورات، انكشف، فهل يروَّض الجنّيّ القابع فيه، أم أنّه قد تحرّر ولن يعود إلى سجنه..؟!
© منبر الحرية، 28 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

أصبحت الفكرة التي مفادها أن العالم سيتعرض بصورة متزايدة لأعاصير و عواصف و فيضانات مهلكة نتيجة لزيادة معدلات الإنبعاث الحراري العالمي فكرة مترسخة في أذهان الرأي العام، تعززها في ذلك برامج سينمائية مثل فيلم آل غور “حقيقة غير مريحة” و قصص الرعب التي تطلقها جماعات الخضر. و لكن المعلومات المتراكمة على مدى قرن من الزمن بشأن الوفيات و الأضرار الناجمة عن قسوة المناخ و الحوادث المرتبطة بالطقس تتناقض مع هذه المزاعم. الأسوأ من ذلك هو أن الأفكار المقترحة لخفض معدلات الحرارة العالمية تمثل وصفة لكارثة حقيقية.
إن إمكانية التوصل إلى إتفاقية حول المناخ (والتي سيتم التفاوض عليها في وقت لاحق هذا العام في كوبنهاغن) تبشر بالتزام  البلدان الغنية اليوم بتحويل أجزاء كبيرة من إلتزاماتها بخفض الإنبعاثات الحرارية إلى البلدان النامية.  و تتمسك البلدان النامية من جهتها بإنشاء صندوقٍ برأسمال يبلغ عدة ملايين من الدولارات تموله البلدان المتقدمة لمساعدتها على تكييف أوضاعها بهذا الخصوص. و تستند وجهة النظر هذه، التي تحظى بتأييد العديد من سكان البلدان المتقدمه بدافع من إحساسهم بالذنب، إلى أن هذه الأموال تعتبر ديناً مستحقاً للبلدان النامية لأن البلدان المتقدمة هي المسؤولة عن معظم الإنبعاثات الحرارية (غازات الدفيئة) في الغلاف الجوي.
و أدت الآمالُ بالاستحواذ على حصةٍ من هذه المبالغ الكبيرة إلى تشجيع وكالاتٍ إنتهازية تابعة للأمم المتحدة إلى الانضمام إلى قائمة المنذرين بالتغيير المناخي. و لكن تصرفاً كهذا من جانب هذه الوكالات يحطُّ من قيمة المهمات التي تقومُ بها: فهو يجعلُها  تنخرط في قضية التغير المناخي علمنا بأنها ستعملُ على التخفيف من حدةِ مشاكلَ عالمية حقيقية إذا ما نفذت المهام المنوطة إليها على  أكمل وجه. في حين أن تخفيف حدة التغير المناخي لا يؤدي سوى إلى الحد من مشكلةٍ إفتراضية. ما يحدث في واقع الأمر هو أن هذه الوكالات تضحي بعصفور حقيقي في اليد مقابل عصفور على الشجرة – عصفورٌٍ قد لا يكون له وجودٌ حتى على الشجرة.
لنتوقف قليلا عند الاجتماع الذي عقده البرنامج العالمي للأمم المتحدة لتقليل مخاطر الكوارث في جنيف في الأسبوع الماضي. أكد جونسون هولمز، نائب الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية و رئيس الإستراتيجية الدولية للأمم المتحدة لتقليل المخاطر في الخطاب الافتتاحي  “بأننا نعرف بأن التغيرات المناخية ستؤدي إلى الزيادة في تردد و حدة مخاطر الطقس و المناخ.”
و لكن إذا كانت تغيرات المناخ قد زادت حقاً في تردد و حدة مخاطر الطقس و المناخ، فإنه ليس هناك من دليل على ذلك يستند إلى البيانات الطويلة الأمد بشأن الوفيات الناجمة عن كوارث كهذه. بل إن المعدل العالمي السنوي للوفيات الناجمة عن حالات كهذه قد إنخفض في الواقع بنسبة 95% منذ عشرينات القرن الماضي بالرغم من تضاعف سكان العالم ثلاث مرات منذ تلك الفترة. و قد إنخفضت الوفيات التي تسببت بها موجات الجفاف، و التي تشكل 59% من حصيلة الوفيات الناجمة عن سوء المناخ و الطقس منذ عام 1900 حتى عام 2006، بنسبة 99,9% منذ عشرينات القرن الماضي. أما الوفيات الناجمة عن الفيضانات، و التي تشكل 35%  أخرى من أرقام الفترة بين 1900 – 2006 فقد إنخفضت بنسبة 99%.
بيد أن السيد هولمز كان على حق عندما أكد خلال الاجتماع بأن: “الكوارث تؤدي إلى الفقر و الفقر يؤدي إلى كوارث أشد سوءاً.”. التركيزُ على الحد من التغيرات المناخية، و الذي تهلل له منظمات الأمم المتحدة، سيكون لسوء الحظ ذو تكلفة باهظة على البلدان النامية، حتى لو تم، خلافاً للبلدان المتقدمة، إعفاؤها من خفض انبعاث غازات الدفيئة.
السبب في ذلك هو أن البلدان النامية في عالم اليوم المعولم تستمد جزءاً كبيراً من مداخليها عن طريق التجارة و السياحة والتحويلات المالية و الاستثمارات المباشرة من البلدان المتقدمة. و لذلك فإن أي لدغة إقتصادية لهذه الأخيرة ستشعر بها البلدان النامية.
و لذلك فإن إفقار البلدان الغنية سيؤدي أيضاً إلى إفقارٍ إضافي للبلدان الفقيرة التي ليست لها القدرة على تحمل نتائج كهذه. ونختم بالتذكير بمقولة السيد هولمز أن “الفقر يؤدي إلى الكوارث الأشد سوءاً”.
*الدكتور إنديور إم. غوكلاني هو مؤلف “الوفيات و معدلات الوفيات بسبب قسوة الطقس: مؤشرات أميركية و عالمية، 1900-2006” متخصص في شؤون تغيرات الطقس و التنمية الاقتصادية و التطورات التكنولوجية و التكنولوجيا الحيوية و التنمية المستدامة.
© منبر الحرية، 26 يونيو/حزيران 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018