العلاقات الجيو-إستراتيجية والسياسية الدولية

عزيز مشواط11 مايو، 20110

ترسخت صورة الغرب الإيجابية في تمثلات أجيال كثيرة في العالم العربي. لكن يبدو أن هذه الصورة الوردية التي غزت المخيال الاجتماعي للإنسان العربي تتضرر في الظروف الحالية بشكل كبير أو على الأقل سينشأ جيل جديد لا يثق كثيرا في الغرب وخاصة حكوماته، حكومات يظهر يوما بعد يوم أنها تغض الطرف، بل منها من تورط في دعم أنظمة حكم أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها دموية إزاء مطالب الحرية والديمقراطية...

إن ما يحدث في العالم العربي بداية جديدة للقضية الفلسطينية، وهي بداية سعي لإعادة صوغ العلاقة بين العالم العربي وإسرائيل على أسس تتخلص من الاملاءات والشروط المجحفة ومنطق الغطرسة والاستيطان والإمعان في تهويد القدس واغتصابها.....

إدريس لكريني4 أبريل، 20110

إن التدخل الأممي في ليبيا فرضته عوامل إنسانية ومسؤولية أخلاقية للمجتمع الدولي، غير أنه وبالنظر إلى الموقع الاستراتيجي لليبيا وللإمكانيات النفطية التي تزخر بها، يبدو أن التحمس في التدخل بالصورة التي بدت على الميدان أخيرا ينطوي على عوامل مصلحية أكثر منها تحقيق السلم والأمن الدوليين وحماية الشعب الليبي.....

peshwazarabic22 فبراير، 20110

القوة والدور الإيراني :
تعتبر القوة من أهم ركائز السياسة الخارجية، ولعل أخطرها، والقوة هدف أسمى تسعى الدول إلى تحقيقه لضمان مصالحها القومية ومكانتها في النظام الدولي، ومن هنا، يصعب فصل القوة عن المصلحة باعتبارها العامل الحاسم في مكانة الدولة بالنسبة للدول الأخرى، والقوة تشمل عناصر مادية وأخرى معنوية: الأولى تتجلى في القدرة الاقتصادية، والقدرة الحيوية (الأرض والإقليم)، والقدرة العسكرية، والقدرة السياسية التي تشمل العناصر المعنوية: الإرادة القومية، والأهداف الإستراتيجية، والقدرة الدبلوماسية. والقوة قيمة نسبية، وتخص الكيف وليس الكم فحسب، ومعرفة حقيقة قوة دولة منوط بمقارنتها بدول أخرى، فقوة أو ضعف أي لاعب دولي مرتبط بقوة أو ضعف لاعب دولي آخر. وقد ذكرنا فيما سبق، أنه يتعين على الدول أن يكون لها إستراتيجية لسياستها الخارجية متوائمة مع واقعها وقوتها ووزنها الحقيقي، وما تمتلك من موارد، وإلا أصبحت سياستها الخارجية وحركتها الدولية مجردة إلى حد كبير من العوامل الفاعلية، أو أن تكون قوتها غير مستغلة. وبالنسبة لإيران فهي تقبع على موقعٍ استراتيجي في غاية الأهمية، ويغص بالثروات الطبيعية، وتمتاز بموقع استراتيجي حساس، فهي متاخمة لشبه القارة الهندية، وتتمتع بموقع حساس آخر على بوابات الخليج العربي، ولديها من الموارد الاقتصادية الكبيرة والمتنوعة: الفحم، الغاز الطبيعي، خام الحديد، الرصاص، النحاس، المنجنيز، الزنك، الكبريت، وقابعة على احتياطات نفطية ضخمة، وتبلغ مساحتها 1.648 مليون كم2، منها 1.636 مليون كم2 يابسة، و12000 كم2 مياه، ويبلغ تعداد سكانها 70 مليون نسمة تقريباً. لذا، فإيران تمتلك من المقومات ما يؤهلها بأن تصبح قطبًا إقليمًا فاعلاً رغم أنها بلد نامي. وهكذا فإيران تحوز على عناصر القوة، وتستثمر فعلا هذه العناصر في اجتراح دور إقليمي، وتسعى لأن تختط لنفسها خطا سياسيا واستراتيجياً يرمي إلى أن تصبح قوةً إقليمية مهابة الجانب. ولكن المشكلة بالنسبة لإيران هي أنها تسعى إلى دور في غاية الطموح من قبيل أن تصبح قوة عظمى كما يصرح نجاد دائما، وبالتالي فثمة معيقات كبرى تواجه هذا الدور الطموح وذات الكلفة العالية. وقبل أن نوضح ذلك لا بد من الإشارة إلى أن الدولة القوية تمتلك سيطرة أكبر على مصائرها من الدول الأقل قوة، لجهة امتلاكها للوسائل اللازمة لتنفيذ سياسات ناجعة. لذا خاضت إيران معارك ضاربة في سبيل استقلالها السياسي، وقرارها الذاتي، لإدراكها أن التقدم في ظل التبعية مستحيل، وبالتالي لابد من قطع الروابط العضوية التي تجعل البلد تابعاً للخارج حتى يحدث التقدم والاستقلال. وجدير بالملاحظة أن إيران تتفوق في جميع عناصر القوة على الدول العربية فرادة، وهو ما يؤدي إلى اختلال التوازن الاستراتيجي بين العرب وإيران. تركيا هي الدولة الوحيدة التي توازن إيران في مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، وتتفوق عليها في أكثر من مجال. وهو ما يعني أن الدولتين القويتين في المنطقة هما إيران وتركيا بجانب إسرائيل، وهو ما ينبئ بمستقبل استراتيجي لإيران في المنطقة وفي إطارها الإقليمي، يعكس موازين القوة وحقيقة ما تملكه من عناصر القوة. ولكن نجاح دورها منوط في المقام الأول بعدم تعريض مصالح الكبار في المنطقة للخطر، وألا يتعارض هذا الدور مع مصالح القوى العظمى. وهذه شروط في غاية التعقيد والصعوبة بالنسبة لإيران، فالحصار والعزلة المضروبة عليها منذ عقود طويلة مرده هو عدم قبول إيران بذلك، ويبقى السؤال هو: هل تستطيع إيران باجتراح تركيب مناسب يحافظ على دورها ودور القوى الكبرى؟ أم أن ذلك من الصعب في ظل إيديولوجيا الجمهورية الإسلامية؟ هذا التوازن الدقيق والمعقد يمثل المحك على نفاذ واستمرارية سياستها الخارجية.
تحدثنا فيما سبق أن إيران تقبع فوق مصادر هائلة من الطاقة، تساهم في استمرار عجلة النمو الاقتصادي العالمي وخاصة الصيني والياباني والأوروبي. وتزود إيران الصين بالنفط والغاز بما قيمته أكثر من 70 مليار دولار تساهم في تشغيل أكثر من 2300 منشأة صينية.‏ وغيرها من الدول التي تزودها إيران بالغاز مثل الهند واليابان أوكرانيا وأوروبا أرمينيا واذربيجان وجورجيا وتايوان -كوريا الجنوبية، ناهيك عن شبكات وخطوط نقل الغاز والنفط التي تربط إيران بغيرها من الدول مما يخلق مصالح متبادلة يصعب التنازل عنها مستقبلا. من المؤكد أن كل ذلك يعطي إيران قوة ودوراً ونفوذاً في المنطقة. زد على ذلك إصرار إيران على الاستمرار في عملية اكتساب التقنية النووية وتطوير عملية تخصيب اليورانيوم على أراضيها، فنجاحها في ذلك يضيف إلى عناصر قوتها الشاملة، ما يؤثر في تطوير وتفعيل دورها الإقليمي، وهو ما يزيد الشعور لدى الجوار بتفاقم الخطر الإيراني، ويجعل إيران دولة محورية في أي مشروع لأمن الخليج وقوة مرهوبة الجانب مقابل ضعف الاختيارات الأمنية والسياسية العربية، ويزيد من الفجوة والتباعد بين النظم العربية وقاعدتها الشعبية، وتمسى هذه النظم جثة هامدة متقدمة في الاهتراء.
التصورات الذهنية المهيمنة على الطبقة الثيوقراطية:
إن المحلل لقوة إيران، والتصورات الذهنية عن الدور الإيراني الإقليمي والعالمي، يلاحظ أن هناك موارد تساهم في إنفاذ بعض هذه التصورات، وإيران تستثمر فعلا هذه الموارد في إنفاذ مشروعها. ولكن بالضرورة ثمة معيقات تواجهها. أهمها الفجوة بين تصورات الدور وإمكانات تنفيذه. نعم تتوفر لدى إيران إرادة سياسية قوية، وهي ترغب في لعب دور إقليمي وعالمي طموح، كما يكرر احمدي نجاد في المحافل الدولية، وهي ترغب أيضا في إنشاء نظام دولي متعدد الأقطاب، تكون فيه إيران قطبا دوليا محوريا يتحدى الهيمنة الأمريكية أو هيمنة القطب الواحد، ولكن هناك فرق بين الرغبة والحقيقة. فهناك إشكالية في هذا الصدد. فإيران لديها موارد تؤهلها للعب دور إقليمي ومحوري، ولكن بخصوص التصور والتمثلات( الإيديولوجيا الحاكمة) التي تؤثر بالضرورة في نظام السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية، يكتنفها قدرا كبيرا من الـمبالغة. فهي تعمل على تعظيم الذات وتضخيمها، وترسم لنفسها دورا يفوق دورها كدولة دنيوية يقودها بشرٌ، فهذه الشمولية في التصورات تتضمن بالضرورة الفراغ، فهي تفترض أن العالمَ فراغٌ تسعى إيران لملأه. ففي التصورات الشمولية تنعدم الحركة وتستدعي السكون، لأنها مقاربات ذهنية ناجزة ومكتملة، لا تفترض التعددية التي تتضمن الحركة والسيرورة. ناهيك عن نزعة التوسع القومي. وهكذا تعتبر إيران نفسها مركزا يجب أن يدور العالم من حوله. هذه المركزية، التي تحطمت مع تفكيكية دريدا، ومع “ميكروفيزياء السلطة عند فوكو” (معزو عبد العالي، مجلة مدارات فلسفية، العدد 13). القوة عند فوكو- وبالتبعية المكانة والهيبة والسلطة- لا مركز لها، فهي متعددة، أي لا يمكن اختزالها في شكل محدد وإضفاء المركزية أو القداسة عليها كما تفعل إيران، فالسلطة في كل مكان، وهي في حالة سيرورة بلا ذات. هذه المركزية نراها في تصريحات القيادة الإيرانية من نجاد إلى خامنئي، وهي مركزية تفترض أن إيران هي المقر الثابت الذي يتشعب منه الفروع، تنطلق منها الشعاعات إلى بقية العالم. أي أنها مكتفية بذاتها، لا تستمد أي شيء من الغير. خذ على سبيل المثال “نظرية أم القرى”، النظرية التي ترمي إلى جعل قم وطهران هما أم القرى بدلاً من مكة، أي مركز العالم الإسلامية، وعاصمة لكل المسلمين، وسيكون فيها قيادة العالم الإسلامي، لتتزعم الأمة بزعامة ولاية الفقيه. أو ما يصرح به الرئيس الإيراني احمدي نجاد، عندما تكلم في نيويورك في أيلول من العالم (2005) أن إيران ” أمة تمتلك تاريخا من الحضارة يرجع لآلاف السنين. ويدين لنا العالم بالكثير من القيم الأخلاقية والإنسانية. وما زلنا نمتلك القدرة الكامنة لقيادة العالم إلى تلك القيم الطيبة. والشيء الوحيد الذي نريده لتحقيق هذا الهدف ليس فهم أنفسنا ولكن الإيمان بها”. ويكفي الدخول إلى موقع وزارة الخارجية الإيرانية على الانترنت، سوف نلاحظ عبارات تزخر بتصوير مكانة إيران وعظمة حضارتها ومدى تميز الإيرانيون وتفردهم عن العالم والحضارات الأخرى، وهم دائما يعطون ولا يأخذون، عطاءٌ دائمٌ وبلا حدود، كأنهم شريان حياة الأمم الأخرى ومصدرها الروحي. هكذا يصورون أنفسهم. وهي تصورات ترمي إلى تعظيم الذات الإيرانية، والرفع من شأنها ومكانتها، وهي تجد مكانة لها في أذهان الإيرانيين. وتظهر بشكل جلي في مدى اعتزاز الإيرانيين بحضارتهم وثقافتهم مثل: “إن النهضة الإيرانية من مراكز الحضارة الإنسانية في العصور التاريخية في قارة آسيا والعالم و تخطي بموقع مهم”، و”تتبوأ إيران مكانة متميزة في الشرق الأوسط بل في العالم اجمع”، “وزاد من أهميتها موقعها الحضاري العريق على امتداد التاريخ” و”هذا قيّض لإيران بان تزخر بتجربة حضارية راقية جعلها معلما للتقدم إنسانيا وسياسيا وثقافيا علي المستوي الوطني والإقليمي والدولي”. وهي تشيد بدورها وبقدراتها وطاقتها في مجال قطاع الصناعات الثقيلة والانجازات العلمية والتنموية والتكنولوجيا، “الأمر الذي بوأ بلادنا مكانة متقدمة سياسيا واقتصاديا وثقافيا و سياحيا وجعلها محط أنظار دول المنطقة والعالم، ورقما صعبا في جميع المعادلات الإقليمية والدولية”. وحتى في مجال الأدب والشعر فإيران تعظم من قيمة آدابها وشعرها فنقرأ مثلا: “بأن الشعر الإيراني القديم منه والحديث قدم صورا مشرقة وخلاقة”، وهو شعرٌ مميزٌ فنقرأ أيضا أن “الشعر الفارسي(… ) حفز الإيرانيين على سکب إبداعاتهم الشعرية في قوالب خاصة انفردوا بها “. وهم يعتبرون أنفسهم “أنهم اغنوا الحضارة الإنسانية “.
في ضوء ذلك، من الواضح أن هناك وعيا إيرانيا فيما يخص هيبة وموقع ومنزلة إيران بين الأمم، ويظهر ذلك من خلال المفردات التي يستخدمها قياداتها المفعمة بالإشارات إلى المساواة وعدم المساومة في المكانة. فمثلا يقول الرئيس الإيراني احمدي نجاد: إن منع إيران من تخصيب اليورانيوم سيمثل حالة من “التمييز النووي” التي تفرضها “بعض الدول القوية التي تستخدم منهجا تمييزيا”. ويقول أيضا: ينبغي “وجود حقوق متساوية للشعوب والأمم في العلاقات الدولية”، وهذا يعني أن” الوصول إلى تقنية سلمية لإنتاج الوقود النووي لا يمكن تقييده بالبعض الذين يحرمون معظم الأمم منها ويقومون بتشكيل احتكارها اقتصادية، ويستخدمونها كأداة لتوسيع هيمنتهم”. هذه الحالة من الإشارة إلى عدم المساواة والتمييز ضد إيران، لا تميز القيادة الإيرانية الحالية، بل موجودة عند القيادة الإيرانية منذ زمن بعيد.
فقد جادل محمد مصدق، الذي انقلبت عليه وكالة الاستخبارات المركزية (C.I.A)، للتخلص منه ومن حكومته إثر تأميمه شركة النفط الانجلو-إيرانية، إن التأميم عمل مبرر لأن الملكية البريطانية للشركة تفرض شكلا من “العبودية الاقتصادية على أمة مضطهدة”. هذه التصورات والتمثلات، تجد مكانة لها في أذهان الجماهير الإيرانية التي تشير دائما إلى المعايير المزدوجة حول برنامج إيران النووي، والتي وصلت إلى حد انتهاك كرامة البلاد.
وفي أعقاب إطلاق قمرها الاصطناعي أوميد، أشارت الصحافة الإيرانية إلى أمر حرصت على إظهاره وهو “أن الأمر يعود إلى الولايات المتحدة كي تندم على أخطاء الماضي، وأن تقبل الحقيقة أن إيران أصبحت قوة عظمى ذات تطور علمي عظيم دون مساعدة من الغرب” وأشارت أيضا: “إن إطلاق القمر الصناعي والبرنامج النووي الذي يثير قلق العالم، فكانا في نظرهم مصدر فخر، ورداً على العقوبات الدولية المفروضة على إيران لإرغامها على كبح طموحاتها النووية”. وفي زيارته الأخيرة إلى نيويورك ألقى احمدي نجاد كلمته أمام قمة قادة الدول على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، هاجم فيه الرأسمالية العالمية، وأننا “بحاجة إلى العودة إلى الخطة الإلهية وفطرتنا التي من أجلها خلق الإنسان والعودة إلى الحكم العادل والمنصف”، ” وان ثمة نوعين من الإدارة، الأولى أمريكية ثبت فشلها، والثانية إيرانية يمثلها ميثاق قورش والتعاليم الإسلامية السامية”، و”أن بلاده أصبحت القوة العالـمية الوحيدة إلى جانب الولايات الـمتحدة الأميركية، وأضاف: إن العالـم يدرك أن هناك قوتين فقط تتمتعان بأقوى نفوذ في العالـم، وهما الولايات الـمتحدة وإيران”.
من خلال ذلك يتجلى كثير من الأمور أهمها أن الصورة الذهنية الضخمة، التي تقترب إلى حد الأسطورة (أو الخرافة) منها إلى الحقيقة. والمهم هنا، بعد هذا الاستطراد، هو أن هناك فجوة بين هذه التصورات (الصور الذهنية عن الذات وبالتالي الدور) وبين موارد إيران. وهذا يترتب عليه كثير من المعضلات التي تؤثر سلبا على نظام سياستها الخارجية.
ولكن يمكن أن نفترض أن إيران لديها مقومات كثيرة، وتستثمر فعلا هذه المقومات والإمكانات، ولكن ثمة معيقات تواجهها، أهمها الفجوة بين تصورات الدور وإمكانات تنفيذه. فإيران قوية بالنسبة لمن ؟ فهل توازن إيران قوة الولايات المتحدة الأمريكية أو حتى فرنسا أو إسرائيل؟
رابعا، الهيبة والدور الإيراني:
بخصوص محدد الهيبة في السياسة الخارجية الإيرانية، نلاحظ أن موضوع التنمية في إيران، وسعيها الحثيث للحصول على الهيبة، تركز على التقنيات العسكرية والتقنية أكثر من تركيزها على تطوير مؤسساتها الدستورية والسياسية، واحترامها للديمقراطية، والتعددية السياسية، وحقوق الإنسان، واحترام الاتفاقيات الدولية. كل ذلك يضمن لها احترام المجتمع الدولي، فجميعها تشكل عناصر للهيبة والمكانة، التي تمثل قضية محورية في نظم السياسة الخارجية، فالاحترام الذي يمنحه المجتمع الدولي لدولة ما من الدول، لا يكون إلى باستدخال هذه العناصر في بنيتها الدستورية والسياسة. فمن خلال ذلك تحوز الدولة على السمعة الدولية والمكانة الحسنة والمرموقة. وهذا ما يجعل للدولة هيبة. وتركيا خير مثال على ذلك، من خلال الموقف الأمريكي والأوربي بخصوص الاستفتاء التركي. فالديمقراطية أصبحت أيقونة العصر، وبدونها لا يمكن لدولة ما أن تحوز على الهيبة والمكانة. فالتحول نحو الديمقراطية، لا يكفيه أصدر دستور وإجراء انتخابات. رغم أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في 12 حزيران- يونيو 2009، تعد العاشرة التي تجرى في إيران منذ قيام الثورة، هو دليل على حيوية النظام السياسي الإيراني، إلا أن ما جرى بعد الانتخابات افقد النظام هذه الحيوية، ونال من سمعة وهيبة إيران أمام العالم. فقد شكك في نتائجها ونزاهتها ليس من قبل خصوم إيران فحسب، بل من النخبة الإيرانية ذاتها، ومن أقطاب النظام أنفسهم، ومن داخل المؤسسة الدينية التي اعترتها الفرقة والانقسام. ناهيك عن تقريع النخب الإيرانية بعضها بعضا، والاتهامات المتبادلة بالغش والفساد والتزوير. فضلا عن الاعتقالات للمعارضين وتعذيبهم. فقد فضحت الانتخابات النخب الإيرانية أيما فضيحة، وكشفت عيوب النظام الإيراني، وهو ما شكل نقطة ضعف خطيرة مست هيبة الدولة ومكانتها الدولية، ونال من حيوية النظام السياسي الإيراني، وهو ما له تأثيرات جمة على سياسة إيران الخارجية. وهكذا، إذا كان للحالة الديمقراطية في إيران أوجه، فإن بها أيضا قسمات للدكتاتورية، مثل وضع المرشد صاحب الصلاحيات الواسعة جدا، وسيطرة وتحكم مجلس صيانة الدستور في العملية الانتخابية باختيار الشخصيات المرشحة للانتخابات الإيرانية البرلمانية والرئاسية. فضلا عن تقييد صلاحيات رئيس الجمهورية. بلا شك كل ذلك ينقص كثيرا من الديمقراطية الإيرانية، والنموذج الإيراني.
كما أن المأزق الداخلي للنظام سيؤثر على أولوياته في الخارج، وسيجد النظام نفسه أمام صعوبات جمة في بلورة الإجماع الوطني حول سياسته الخارجية في الوقت الذي يحتاج إلى هذا الإجماع كمعين وسند قوي له في الدفاع عن سياسته، وبخاصة الملف النووي الإيراني، في ظل ما يحاك لإيران من تربص.
وبالتالي يمكن القول على رغم ثراء التجربة الإيرانية، إلا أن ما يمكن استخلاصه منها لا يصلح بالضرورة للتعميم خارج نطاقها، وبخاصة أن نظامها جاء طبقا لنظرية الإمامة في الفقه الشيعي، والتي تتلاءم مع الشخصية الشيعية وتراثها الفكري والحضاري وثقافتها السياسية، وهكذا فهي تعكس خصوصية الحالة الإيرانية فحسب. لذا فإن هذا النموذج لا يصلح للتطبيق خارج نطاق الخصوصية الإيرانية. وهذا يضعف من إمكانية أن تكون إيران كمركز للعالم الإسلامي أو “أم القرى” حسب التعبير الإيراني. وهذا بالتأكيد يشكل نقطة ضعف في النموذج الإيراني، ونقطة ضعف أخرى في سياستها الخارجية، ويجعل طموحها يستنزف مواردها في مشروع وهمي وحلم لا يمكن أن يطبق. منذ الثورة الإيرانية حتى الآن هل أنجز هذا الطموح؟ أما النجاحات الخارجية التي تحققت في هذا الجانب فقد تحققت بفعل ظروف طارئة وحالة الفراغ والإحباط اللتان تسودان في المحيط الجيوسياسي لإيران .
تكشف الحركة الخضراء عن تحديات مباشرة أمام هيمنة الطبقة الثيوقراطية، وتفسيرها لما هو مقبول أو غير مقبول من سلوك وحريات اجتماعية وحرية رأي وصحافة، وأنماط حياة مبتغاة، ناهيك عن العولمة وأثرها على النظام السياسي الإيراني. هذه المتغيرات والمتطلبات الموصوفة بالحداثية، هل ستخضع لتكييف إسلامي شيعي؟ خصوصا وأنها المرة الأولى التي تخضع فيها المسألة الدينية في إيران لإعادة نظر، بل التجرؤ على الإمام الخميني وحرق صوره ووسم خامنئي بالدكتاتور والمحفظين بالجمود والفساد، وهو ما يعني أن رياح التغيير أصابت العمق الإيراني في محاولة للتخلص من آثار الجمود والتشدد، والإفلات من الأصولية التي افتقرت إلى صياغة نموذج تنموي شامل ومستديم. تطالب الحركة الخضراء بالاهتمام بأولويات المجتمع المدني، والتنمية الداخلية على جميع المستويات، فهذه الاحتياجات التي كشفتها المعارضة الإيرانية، بحاجة من الطبقة الحاكمة أن تعطيها الأولوية القصوى من الدخل القومي والصادرات والواردات، كأحد مطالبها التي كُشف عنها النقاب. وعلى إيران أن تدرك الهيبة لا تتحقق في الحصول على السلاح النووي فقط، بل في تحقيق التنمية ودمقرطة النظام، ومواكبة العصر ومتطلبات الحداثة السياسية. عند ذلك ستحقق إيران بالفعل الهيبة والمكانة المرموقة، لا عن طريق تصريحات نجاد عن قيادة العالم والإدارة الإيرانية، أو تصدير النموذج الإيراني للخارج، فكل ذلك لا نفع من ورائه، بل يستنفذ القدرات والموارد الإيرانية. إن الانطلاق لا يتم مما يقوله نجاد والقيادات الإيرانية، وما يتوهمونه، ويتصورونه عن دور إيران في قيادة العالم الإسلامي، لا، بل يتم من الانطلاق من الفعل الواقعي، والعمل على تطوير نظام الحياة الواقعي. إن من الأجدى لإيران أن تبدأ من هنا أي من العالم الواقعي، الايجابي بتطوير النظام بما يتوافق مع حاجات العصر ومتطلبات الجماهير المحرومة. هذا الفعل الرشيد للنظام هو المادة هي التي تحقق لإيران الهيبة والمكانة، لا التصورات الوهمية. فلا يمكن أن يتعاطى العالم مع اللا موجود، ويتجاوز الوجود الكائن، وعلى إيران أن لا تخرج ذهنا عن هذا، إن أرادت التقدم.
الخاتــمة:
قدمنا، في هذه الثلاثية، قراءة في السياسة الخارجية الإيرانية مع تقييم هذه السياسة ومقارنتها بالدول العربية المركزية في المنطقة. وذلك من خلال منظور متكامل، بغية فحص كافة المحددات التي تلعب دورا في تسيير دفة السياسة الخارجية. ومن هنا يتبين أن إيران أصابت في الكثير من الجوانب، وحققت نجاحات لا يمكن إنكارها في ظل بيئة دولية شديدة التعقيد التي تقبع فوقها إيران. حيث ركزت سياستها الخارجية على مواجهة التحديات الخارجية عبر منظومة متكاملة من الإجراءات. ركزت على تطوير قدرات إيران، في مجال التسليح، فضلا عن تنشيط العمل في برنامجها النووي، وتنمية اقتصادها. من خلال سياسة خارجية قائمة على بناء شبكة من الروابط والتحالفات الإقليمية والدولية، مما حقق لها امتلاك قدرة أكبر في مواجهة التهديدات المختلفة. وهو ما عزز مكانتها الإقليمية، فضلا عن حماية مصالحها الإستراتيجية، واستقلالها على المستويين الإقليمي والدولي. وتتبع في ذلك سياسة تتسم بالهدوء والحذر وسياسة النفس الطويل، والعمل دون كلل بحيث تحافظ على الاستمرارية وعدم الانقطاع ومن ثم البدء من الصفر كما هو الحال في النظم العربية، بل بتراكم الانجازات ونقاط القوة، بحيث لا تغضب الولايات المتحدة الأمريكية، القطب المهيمن، إلى الحد الذي لا يمكن أن تطيقه هذه الأخيرة، من خلال الحيلولة دون وصول أو دفع التناقض معها إلى الذروة، طبقا لمبدأ إن شدت واشنطن رخت طهران. فضلا عن استغلال البيئة الدولية، والتراجع الأمريكي لطرح مشروعها ودفعه بخطوة إلى الإمام. وهكذا، أصحبت إيران على صعيد منطقة الشرق الأوسط قوة عسكرية واقتصادية وتقنية. ولكن كما قلنا سابقا فإن القوة في الكيف وليس في الكم فحسب. أي انه على الرغم أن إيران قوة إقليمية عسكرية واقتصادية وتقنية، إلا انه عند مقارنة ذلك بدول أخرى خارج منطقة الشرق الأوسط تفقد إيران قوتها، ويتجلى ضعفها. فمثلا، على صعيد القوة الاقتصادية، لا تقارن باليابان، أو الصين، أو نمور أسيا (من كوريا إلى تايوان) أو أوروبا بما فيها ألـمانيا، أو حتى تركيا. أما على صعيد القوة العسكرية، فإنها لا تقارن القوى بروسيا، أو بريطانيا، أو فرنسا. هذه الدول النووية، ذات المكانة الدولية، والتي تتمتع بحق الفيتو في الـمنظمة الدولية. وقس ذلك في موضوع التحول نحو الديمقراطية، ومفاهيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان، وغيرها من مفاهيم العصر.
إلى جانب ذلك ثمة إخفاقات تكتنف سياستها الخارجية أهمها التصورات الذهنية الكبرى التي تعتور الدور الإيراني. فلا تزال تهيمن على العقل السياسي الإيراني فكرة المركزية والشمولية، ففي الوقت الذي فيه تتفكك هذه المفاهيم، وتنتفي فيه فكرة المركز والحقيقة المكتملة، لا تزال إيران تؤمن بهما في عصر ما بعد الحداثة. ناهيك عن عجزها حتى الآن عن تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة للمجتمع الإيراني. وهو المحك الرئيسي في تقييمنا لنجاح أو فشل أية سياسة خارجية، هو نجاحها أو فشلها في تحقيق تنمية مستدامة لمجتمعها. وعليه فإن إيران بحاجة لإعادة صياغة سياستها الخارجية في تركيب خلاّق ومبدع يواكب مفاهيم العصر واحتياجات البناء في الداخل، وهي احتياجات كشفت عنها المعارضة الإيرانية مؤخرا. وعليه، إن البنية الدستورية والمؤسساتية لإيران تواجه تحديات كثيرة داخلية، أي من القوى المجتمعية والحراك الاجتماعي. ومن الخارج، أي من النظام العالمي سواء من جانب الدول أو المؤسسات الدولية، أو من قوى عولمية ومنظمات غير حكومة. وهو ما يشكل تحديات كبرى أمام إيران. هذه التحديدات تدفع –بالضرورة- البناء المؤسساتي والدستوري في إيران إلى اجتراح الوسائل الملائمة للتعامل معها، حتى يستطيع النظام الاستمرارية والتكيف مع هذه التحديات. هل ستنجح البنية الدستورية والمؤسساتية للنظام في التعامل مع هذه التحديات؟. يمثل الإجابة الحاسمة على هذه السؤال مستقبل الجمهورية الإسلامية.
‎© منبر الحرية،11 فبراير/شباط 2011

نبيل علي صالح9 فبراير، 20112

لاشك بأن هناك دروساً عملية تعلمنا إياها جملة الأحداث والتحولات العربية المتلاحقة، ومن أبرزها وأكثرها أهمية وحيوية:
على مستوى الشعوب والأحزاب المساهمة في صنع التغيير:
الشعوب تملك طاقة جبارة لا يمكن لأحد أن يقف في وجهها وطريقها الهادر مهما بلغ من البأس والقوة والشدة والعنف، ومهما امتلك من أجهزة القمع والإكراه والعنف المادي والرمزي. وهذه الشعوب ربما تبقى لفترة من الزمن كامنة ومغيبة عن ساحة الفعل والتغيير الحضاري، ولكنها في لحظة ما تهب وتنطلق ككتلة واحدة نتيجة الإمعان في إهانتها وإذلالها وزيادة معاناتها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.. مما أوصل الأمور والأوضاع عامةً وسيوصلها –على الدوام- إلى حالة غير قابلة للتحمل من الضغط المنفجر في أية لحظة..
المطلوب الإسراع في إقامة مرحلة سياسية انتقالية تسبق الانتخابات الحرة التي يجب أن تؤسس لبرلمانات دستورية نيابية منتخبة طوعياً على قاعدة التمثيل النيابي الحر ومشاركة الناس في الترشح والانتخاب دون قيد أو شرط أو حصر أو حكر على أحد.. وبما يؤسس لاحقاً لأنظمة جمهورية تقوم على قاعدة بناء دولة مواطنة علمانية ديمقراطية صحيحة، تفصل بين سلطاتها الثلاث..
اعتماد صيغة سياسية منفتحة لتشكيل القوى والأحزاب السياسية بحيث تعمل تلك التيارات جميعها تحت سقف الحكم الصالح ومؤسسات الدولة الوطنية الديمقراطية، وعدم السماح بتشكيل أحزاب أصولية إلغائية، وإنما السماح بتشكيل أحزاب معتدلة على المستوى الديني تتبنى في داخل هيكليها الفكري والتنظيمي الفكر الديمقراطي، والتسامح والاعتراف بالآخرين حتى لو كانوا من المخالفين، والإيمان الكامل بالتداول السلمي للسلطة، وعدم تسييس الدين خاصة على مستوى إدعاء امتلاك الحقيقة المقدسة، وتبني خيارات وقرارات دينية مقدسة.. وهذه الأفكار السياسية والفكرية يجب أن تكون موجودة ليس فقط في صلب البنية الفكرية لتلك الأحزاب، وإنما في الدستور المقرر إعادة بنائه وكتابته أيضاً للوطن ككل..
على مستوى الأنظمة:
يقوم نظام الحكم العربي على بنية ثقافية ومفاهيمية صلبة ومتماسكة، عمادها الحكم الفردي المطلق أو شبه المطلق الذي يستمد جذوره من التاريخ البطولي المجيد المزعوم الحافل والمليء –كما يقولون ويتباهون!!- بالأمجاد الكبرى المرغوب استعادتها للحاضر.. ولا ينتهي مثل هذا النمط السياسي من الحكم إلا بزوال شخصياته ورموزه ونخبه وذهابهم القسري إلى القبر أو السجن أو المنفى.. أي أن تكلفة الخلاص من مثل هذه الحكومات الظالمة عالية جداً للأسف..
من النادر أن تجد نظاماً رسمياً عربياً -قائماً على حكم الغلبة والطغيان وقاعدة “الملك العضوض” التاريخية المعروفة منذ أيام معاوية- يمكن أن يقبل بنقل السلطة سلمياً، أو إحداث بعض الإصلاحات السياسية الجدية بصورة سلمية لوحده ومن دون إجباره على إصلاح ذاته، أو تغييره بالكامل، وسلوك طريق الإصلاح الجدي الحقيقي.. لأن مكاسب وامتيازات السلطة والحكم الفردي والاستئثار بجنة الملك –التي حققتها نظم الحكم العربية الملكية والجمهورية معاً- ليست مثار جدل أو حوار عند هؤلاء الحكام، وهم اكتسبوها وحققوها بقوة الأمن والجيش والعسكر، وبالتالي ليست لديهم القابلية للتنازل السلمي الطوعي عنها (بأقل الخسائر الممكنة)، وليسوا مستعدين أن يتركوها لشعوبهم إلا تحت الضغط والقوة والإكراه.. وهذا قانون فيزيائي معروف وهو “قانون الفعل ورد الفعل” الذي له تطبيقاته البشرية النفسية والمجتمعية التي يمكن أن تأتي تحت عنوان “ما أخذ بالقوة لا يسترد –في كثير من الأحيان- إلا بالقوة”..
على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً:
تضغط الدول الغربية –والولايات المتحدة على الخصوص- باستمرار لبناء ديمقراطية صحيحة –كما تقول وتؤكد نخبتها السياسية- في العالم العربي، وسبق لبعض السياسيين الغربيين أن أقروا واعترفوا بأن دعمهم للنظام الرسمي العربي طيلة أكثر من 65 سنة لم ينتج سوى موجة الأصوليات التي ضربتهم في عقر دارهم، وقد حان الوقت –بحسب تصريحات هؤلاء- للبدء بدعم فكرة الديمقراطية وتبني مشاريع الإصلاح السياسي، ومحاولة إلزام حلفائها في المنطقة بسلوك طريق التغيير السلمي قبل التغيير الدموي المكلف..
ومن باب الاستطراد قليلاً نذكر بأن تلك الدول والقوى العالمية الكبرى –خاصة الولايات المتحدة الأمريكية- التي تقوم على حكم المؤسسات والقانون والفكرة الديمقراطية والاقتصاد الحر..الخ، بحيث أنك يمكن أن تشاهد في مثل هذه النظم الديمقراطية عدة رؤساء على قيد الحياة خلال ربما عقد واحد من الزمن. إن تلك الدول تتعامل مع غيرها من القوى والبلدان على قاعدة المصالح السياسية وغير السياسية، ولا تتعاطى مع الأشخاص إلا بما يحقق لها مزيداً من المكاسب لبلدانها على مستوى السياسة والاقتصاد والأمن أيضا. وهي تبني مجمل تحالفاتها مع الأشخاص والنخب السياسية والأحزاب في العالم كله –وليس فقط في عالمنا العربي- على هذه القاعدة المعروفة أيضاً، وهذا أمر للأسف لا تدركه دولنا العربية وحكامنا وأحزابنا السياسية القائمة عندنا التي تعتقد بصورة خاطئة أن مجرد تلبية متطلبات وتحقيق بعض المكاسب والامتيازات لهذه الدولة الغربية أو تلك، فإن تحالفاً وثيقاً قام بينهما، وأن تلك الدولة لن تتخلى عنه في أوقات الشدة والمحن، وبدلاَ من أن يقوم الحاكم العربي مثلاً بالانفتاح على شعبه واستمداد القوة من مجتمعه ومن خدمته لناسه وجماهيره -من خلال تحقيق حاجاتهم كاملة خاصة السياسية والاقتصادية منها- يقوم للأسف بخدمة مصالح ورغبات وتلبية طلبات تلك الدول التي تتغير سياساتها بحسب ما تتغير مصالحها. إذاً البوصلة هنا في تحريك دفة السياسية الدولية هي المصلحة والمكاسب المتغيرة والتحالفات المتحركة، وهذا ما رأيناه من خلال تعاطي الدول الكبرى -خاصة الولايات المتحدة- مع كل من أزمتي الحكم في كل من تونس ومصر، فبعد أول يوم من الضغط الشعبي المتواصل على نظام حسنى مبارك، وقفت وزيرة الخارجية الأميركية لتقول بأن نظام مصر ثابت ومستقر، ولكن بعدما اقتنعت هذه الإدارة الأميركية بأن التغيير كبير وقادم لا محالة، وهي مسألة وقت قصير ليس إلا… بدأت بتغيير موقفها وموقعها من حكم مبارك –الذي كان من أهم أصدقاء الغرب في المنطقة، ورجل السلام العربي الإسرائيلي- بصورة متدحرجة ومن ثم سريعة خلال ساعات وليس أيام حتى وصلنا إلى سماع نداء بإحداث التغيير الفوري “الآن”.. وليس غداً من الرئيس أوباما ونائبه بايدن، وقادة الاتحاد الأوروبي الذين كانوا حتى الأمس يثقون ثقة عمياء بالرئيس حسني مبارك (حليف الولايات المتحدة في المنطقة، والداعم لسياساتها وقطب في ما صار معروفاً بـ”محور الاعتدال العربي”).. وفي ظني أن هذا السلوك السياسي العالمي المعروف مسبقاً للجميع، يجب أن يكون درساً ودافعاً قوياً لباقي الحكام والزعامات والأحزاب السياسية العربية (حتى هذه “الأحزاب الجديدة”-القديمة التي ركبت موجات التغيير العربي مؤخراً بصورة انتهازية غير أخلاقية!!) كي تقتنع بأن من يحاول أن يتغطى باللباس الغربي -الأميركي تحديداً- يبقى عرياناً أمامهم وأمام شعبه ومجتمعه .. وأن لا بديل عن الانفتاح الكامل على شعوبنا ومجتمعاتنا العربية .. وأن كل ما تقوم بها أميركا من أعمال وممارسات وضغوطات وتوجيهات ونداءات وغيرها –على مستوى المنطقة العربية الإسلامية على وجه الخصوص- تريد من خلاله التوفيق بين حماية سياساتها ومصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية، وبين إصرارها على نشر ثقافة ومشروع الديمقراطية كحل وحيد تريد من خلاله إرساء فكرة تداول السلطة وأن من حق الشعوب أن تنعم بالحريات العامة..
ولكن السؤال المهم الذي يمكن طرحه هنا على خلفية ما سبق:
هل يمكن اعتبار الغرب عموماً صادقاً في توجهاته السياسية لدعم فكرة الديموقراطية والإصلاح السياسي في العالم العربي؟ وهل يمكن أن تنجح الولايات المتحدة في هذا المسعى التوفيقي الصعب بين دعوتها ومصالحها؟ خاصةً مع وجود تيارات وقوى إسلامية وقومية (يسارية وغير يسارية) تعادي الولايات المتحدة، وتستمد شرعيتها من العداء الشديد لقيم وأفكار الغرب الحداثوية والتنويرية، وتقوم في داخل بنيتها الفكرية على قاعدة مواجهة سياسات أميركا في العالم كله..
وهل ستنجح الولايات المتحدة في تحقيق التوازن والموائمة الناجحة بين دعمها للحريات والديمقراطية في العالم العربي، وبين تحقيق مصالحها الإستراتيجية الكبرى التي يقول قسم كبير من العرب والمسلمين هنا بأنها تأتي على حساب نمو وتطور وبناء مجتمعات عربية قوية وناجحة؟..
ومن باب التذكرة ليس إلا.. لا نعتقد أن الإدارة الأميركية ستنسى ما مر عليها من تجربة مرة عاشتها سابقاً في إيران زمن جيمي كارتر، عندما وقف “الأميركان” يومها إلى جانب التغيير السياسي، تحت ضغط الشارع طبعاً، وأيدوا شعارات حقوق الإنسان، الأمر الذي تسبب لهم لاحقاً في سقوط حليفهم الشاه الذي كانوا طالبوه بالتغيير الديمقراطي (لم يرضوا حتى بأن تحط طائرة حليفهم السابق الشاه على أرضهم!! فمات على أرض مصر زمن السادات)، ولكنهم واجهوا مداً شعبياً ثورياً رافضاً لهم ولسياساتهم، دعم فكرة إرساء قيم وثقافة وسياسة جديدة بالكامل تقوم على إلغاء الفكرة الديمقراطية، وتبني نظام ولاية الفقيه الدينية الثورية، وإقامة نظام ديني ثيوقراطي كما تصفه دوائر الثقافة الإيرانية والكثير من أبناء الثورة السابقين ممن رفض أو نقد أو تمرد على بعض أو كثير من مفردات تلك الثقافة الدينية؟!!.
..أخيراً لا بد من التأكيد هنا على أن هذا الجيل العربي الذي ولد واستفاق وعاش في كنف أنظمة القهر والاستبداد، وسمع وشاهد الرموز والأسماء ذاتها الممثلة لتلك الأنظمة على مدار عقود عديدة مضت، هذا الجيل ينشد الخلاص حالاً، ويرفع شعار “كفاية”.. وهو يطمح للتغيير والإصلاح الحقيقي على ضوء ما يشاهده من أفكار وثقافة الحداثة السياسية الديمقراطية في غير بلد عالمي.. بينما هو لا يزال يعيش تحت وطأة نظم عتيقة متهالكة ضعيفة فشلت في كل شيء، وهي بالكاد تقدم لقمة خبز لمواطنيها، لا بل وتمنن عليهم هذا اللقمة المغموسة بالكثير من الذل والعار والإهانة.. أقول إن هذا الجيل العربي الكبير من المحيط إلى الخليج المنطلق كالنهر الجارف طالباً للتغيير الحقيقي المنشود، يبدو لي ضائعاً ومشتتاً وقابلاً للاندراج في أية أيديولوجية غير عاقلة، خاصة في ظل هيمنة نظام فكري للاعتقاد إطلاقي وحدّي وقصووي يعمل –هذا النظام العقائدي القديم- على تجديد نفسه بألبسة وتجميلات ديكورية مزيفة، وبصورة تابعة غير مستقل، وهو نظام بعيد عن العلم ومنطق التجربة، وقيم التطور والحداثة الإنسانية، كالنظام أو الإيديولوجية الدينية الأصولية الإلغائية الكارثية عليه وعلى مجتمعاته التي يريد إصلاح أحوالها ومواقعها.. إنه جيل لا يزال يحمل في داخل وعيه وثقافته بعض البذور والطبائع الإقصائية للآخر.. وهذا ما رأيناه وشاهدناه وسمعناه في بعض أمكنة التظاهر في تونس ومصر..
والخشية كل الخشية أن تركب تلك العقلية صهوة الإصلاحات المنشودة، وتستثمر موجة الإصلاح العربية المتسارعة لصالح برامجها السلطوية التي لا تختلف كثيراً عن برامج النخب السياسية العربية البالية التي تريد إقصائها عن الحكم..
وكلمة أخيرة نقولها لمن تبقى من النظم والحكومات العربية الراهنة:
أيها الحكام العرب: أنتم في موقع المسؤولية الكبرى، التفتوا إلى شعوبكم الجائعة ومجتمعاتكم المقهورة.. أصلحوا الحال قبل أن يفوت الأوان!!… والحاكم منكم هو بمثابة الأجير عند الأمة يمكن لها أن تواجهه وترفضه وتسقطه متى شاءت، خاصةً عندما يعجز عن تحقيق متطلباتها وأمنياتها في إقامة مجتمعات حقيقية يسودها التسامح والعدل والحرية والأمن..
‎© منبر الحرية،7 فبراير/شباط 2011

نبيل علي صالح14 يناير، 20110

لا تزال ما سميت بـ “فضيحة ويكليكس” تحوز على الاهتمام الأكبر والحيز الأهم من أحاديث الناس ونشرات الأخبار في عالمنا حالياً. وربما سيمضي وقت طويل قبل أن يبدأ الناس بنسيان هذه الجرعات الوثائقية –إذا جاز التعبير- التي تلقوها مؤخراً حول عدد من الأحداث والشؤون السياسية والاقتصادية التي تم تسريبها من خلال نشر وثائق سرية عائدة لوزارة الخارجية أو وزارة الدفاع الأميركية (سربت بداية 450 ألف صفحة، ولاحقاً نحو 250 ألف صفحة.. والحبل على الجرار..)، وهذه الوثائق والبرقيات المسربة تمثل –بشكل أوبآخر- تصورات وآراء وتحليلات لعدد من السفراء والدبلوماسيين وخبراء السياسة الأمريكية، حول عدد كبير من الأحداث العالمية والشؤون الدولية المتعلقة بهذه الدولة وذاك الزعيم، وبهذا الموقع أو تلك الشخصية السياسية..الخ. وقد ألقت تلك الوثائق الضوء على الكثير من المعطيات والوقائع حول الحرب في كل من العراق وأفغانستان، وحول طبيعة السياسة الخارجية لبعض القوى الدولية الكبرى كأميركا وفرنسا وبريطانيا، وأيضاً روسيا والصين وحتى إيران وبعض دول الخليج العربي.
وفي ظني أن من أهم أسباب انكباب الناس على متابعة وملاحقة أخبار تلك الوثائق، وما تضمنته من روايات وفضائح وممارسات شنيعة، هو أن مجتمعاتنا البشرية باتت –من جراء قيام الدول كلها وخاصة الكبرى منها باعتماد سياسة الكواليس واللعب تحت الطاولة- غير قادرة في كثير من الأحيان على فهم وملاحقة سياسات حكوماتها اتجاه كثير من الأحداث والتحولات والمتغيرات الدولية، وخاصة ما يتصل منها بشؤونها الداخلية، كما أنها ملت من سياسة الكواليس وما يجري وراء الستار وما وراء الكاميرات من صفقات وعقود وبيع وشراء وغيرها، وهي وجدت في تلك الأوراق والوثائق المسربة ما يمكن أن يشبع نهمها وفضولها وشبقها لمعرفة بعض الحقائق والخفايا المتعلقة بمجتمعاتها وكيفية تفكير قادتها وزعاماتها، وموقفهم من بلدانهم، وماهية نظرتهم لأبناء مجتمعاتهم.. ووالخ.. خاصة في دول العالم العربي والعالم الثالث عموماً، حيث أن السياسة الحقيقية الرسمية المعتمدة من قبل حكام تلك البلدان هي السياسة المحجوبة عن الناس التي تتم خلف جدران ونوافذ مغلقة كلياً، والبعيدة عن التصريحات المعلنة الطنانة الرنانة التي لا انعكاس إيجابياً لها على الحياة الداخلية لتلك المجتمعات.. بل على العكس من ذلك، يعلم المواطن أو الفرد العربي (فالمواطنية شبه معدومة في عالم العرب والمسلمين) أن العالم الداخلي الحقيقي للكثير من قياداته ونخبه الحاكمة سياسياً والممسكة بمفاصل وركائز مجتمعه اقتصادياً واجتماعياً، هو عالم مليء بالأسرار والأحجيات والتعقيدات، ولا يمكنه الإطلاع حتى على أجزاء يسيرة وبسيطة منه إلا من خلال تلك التسريبات التي يمكن أن تحدث بين الفينة والأخرى من خلال ما تطلقها المواقع الدولية في العالم الديمقراطي الغربي هنا وهناك.. لأن ما يجري في داخل القصور والغرف الرئاسية المغلقة لكثير من الأمراء والملوك والحكام العرب هو شيء سري للغاية خاص بهم، ولا علاقة للشعب والناس به لا من قريب أو بعيد، لا من حيث الأموال المصروفة والإنفاقات الهائلة غير المحسوبة، ولا من حيث طبيعة المداولات والقرارات المصيرية المتخذة في غير مكان وموقع، والتي قد يلعبون من خلالها بمصائر شعوبهم وأمن ومستقبل مجتمعاتهم، كما هو حاصل بالفعل.!!..
إن الناس في مجتمعاتنا العربية والإسلامية تريد أن تعرف فعلاً حجم الفضائح والصفقات والارتكابات والتورطات التي تفضح زعامات وشخصيات بلدانها المرموقة (السياسية والاقتصادية) التي تقول لها معسول الكلام في العلن وأمام الكاميرات، وتتحدث نقيضه وراء الكواليس عند عقد الاجتماعات مع دبلوماسيي وقادة الدول الكبرى..
لقد أضحى عالم الإنسان المعاصر –نتيجة أخبار وصور الدمار والعنف والحروب وسياسات الحجب والإخفاء وممارسة سياسة الكذب على الناس والشعوب- عالماً مضجراً ومزيفاً، وأصبح المسرح الكوني الإنساني مملاً بلا معنى وآفاق مفتوحة، وهو لا يزال يبتعد شيئاً فشيئاً عن الرؤية الهدفية والغائية الإنسانية التي محورها وأساسها خدمة الإنسان ومحاولة بناء عالم إنساني أرقى وأمثل وأكثر شفافية ووضوحاً ومصداقية، عالم يستطيع فيه كل إنسان أن يعرف ويطلع على كل ما يجري حوله من تحولات وأحداث تتعلق بمصائره الكونية بشكل واضح، خاصة ما يجري من تلك الأحداث خلف الكواليس المظلمة والغرف المغلقة والأقبية والمطابخ السرية الخاصة بكيفية صناعة القرارات الدّولية.
وقد أثبت هؤلاء الناشرون لتلك الوثائق فعلاً لا قولاً -وبقطع النظر عن كيفية وآليات تسريبها، ومن ساعدهم في الوصول إليها، وعن القصدية أو العبثية في نشرها- أن الديمقراطية لا تزال هي الفكرة الإجرائية الأصح والأحسن لإدارة الشأن العام، وبناء مجتمعات متطورة، وأنها النظام الأكثر ضمانة في العالم لمعاملة الناس بصورة يمكن معها تحريض وإثارة أجمل ما فيهم من خصال وقيم وطاقات بهدف العمل المنتج الخلّاق، ودفعهم للبناء الإيجابي، ومعاملتهم بشيء من الوضوح والشفافية والصدق.
وأن من حق هؤلاء الناس جميعاً أن يطلعوا على حقائق واستراتيجيات سياسات حكوماتهم، وطبيعة تفكيرها، وأن يعوا طبيعة تفكير قادة بلدانهم بعيداً عن سياسات الحجب وإجراءات المنع وآليات الرّدع المتبعة حتى الآن، لأن النظام الديمقراطي القائم أساساً على الحرية ومشاركة الناس في صنع القرار السياسي لبلدانها من خلال النواب والممثلين المنتخبين ديمقراطياً- لا يجتمع أبداً، بل يتناقض كليةً مع ممارسة سياسة إخفاء مئات آلاف الوثائق المتعلقة بمصيره ومستقبل مجتمعه، والتي تكلفه (كناخب) أو كدافع ضريبة مليارات الدولارات من جيبه وعرقه وجهده.. وهو يحتاج باستمرار –وهذا حق له يضمنه الدستور الديمقراطي- إلى أن توضح له حكوماته سياساتها الخارجية، والمواقع التي تقوم بصرف أموال الدولة فيها بكل شفافية ومصداقية كما ذكرنا.
‎© منبر الحرية،14 يناير/كانون الثاني 2011

إدريس لكريني12 يناير، 20110

بعد مرور أكثر من عقدين من الزّمن على انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، وما رافق ذلك من أحداث وتبدّلات دولية متسارعة، يبدو أن العالم لم يرس بعد على نظام واضح المعالم، بالرغم من التبشير الذي أطلقته الولايات المتحدة في بداية القرن الماضي ببزوغ "نظام دولي جديد".

نبيل علي صالح6 ديسمبر، 20100

قطر دولة عربية خليجية حديثة العهد في كل شيء، باعتبارها إحدى المشيخات الخليجية التي استقلت في العقود الأخيرة من القرن الماضي، وأعطيت فيها كرسي الحكم لعائلة آل ثاني، وأميرها حالياً هو الشيخ حمد الذي تمكن من إبعاد والده عن سدة الحكم، بعد ثورة بيضاء بسيطة غير مكلفة تمت بمساعدة بعض الأصدقاء الدوليين من هنا وهناك في تسعينيات القرن الماضي..
ولا تزال هذه الإمارة تثير الكثير من الجدل والنقاش السياسي الحامي والساخن أحياناً-   خاصة بعد استلام الشيخ حمد دفة الحكم السياسي مع وزير خارجيته المعروف بمكره ودهائه وربما أريحيته السياسية!!- حول بعض مواقفها السياسية غير المتوازنة وغير الطبيعية بحسب المعايير التي يعتمدها هذا الفريق أو ذاك ممن يرفضون تلك السياسات، فمن فتح مكاتب تجارية إسرائيلية اقتصادية وبدء مرحلة وئام وشبه صلح وتطبيع اقتصادي مع إسرائيل (قيل أنه أقفل بعد عدوان غزة2009)، إلى إقامة أكبر قاعدة عسكرية أميركية على أراضيها (قاعدة السيلية)، إلى استضافة وإقامة مختلف الأساطيل العسكرية الأميركية والغربية، وتوقيع معاهدة دفاع مشترك مع أمريكا.. الخ، وفي نفس الوقت استضافة كثير من رموز وقوى ما يسمى بالمقاومة والممانعة العربية (قومية ودينية، علمانية وأصولية)، من الشيشان وغير الشيشان، إلى تبنيها ودفاعها عن كثير من مواقف إيران وصداقتها معها، إلى صداقتها مع حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية، إلى إنشائها لقناة الجزيرة الإعلامية الفضائية التي تعتبر –بحسب الكثير من المراقبين والخبراء- معقل من معاقل الفكر الأصولي بمختلف تياراته ومشاربه الدينية الإخوانية والقومية، وقد استطاعت هذه القناة وعن جدارة كاملة أن تحقق ما عجزت عن تحقيقه كل وزارات الإعلام العربية على مستوى النقاش والحوار حول قضايا وإشكاليات ثقافية وسياسية، كان الحديث عنها من المحرمات مما أهلها لتكون المركز الإعلامي العربي الأول، وهي تحتل إلى الآن على أقل تقدير المرتبة الأولى بين كثير من القنوات الفضائية على صعيد المشاهدة والاتساع والاستقطاب وسعة الانتشار.
ولكن وبالرغم من كل ذلك، تبدو قطر بالفعل –ربما بسبب الثروات والأموال الواقعة تحت سيطرة وهيمنة شيوخها وأمرائها، وربما بسبب عمق صداقتها مع الكبار دولاً وحكومات ومنظمات وشخصيات مؤثرة-  قادرة على ملاعبة هؤلاء الكبار في داخل ساحاتهم وملاعبه،م لا بل وتوجيه بعض الانتصارات واللكمات الخفيفة ولكن المؤثرة على وجوهم..
من هنا، ليس شيئاً بسيطاً أو قليل القيمة أن تفوز دولة وإمارة قطر العربية الخليجية الصغيرة بملف تنظيم كأس العالم لكرة القدم (مونديال 2022)..
وليس أمراً صغيراً أبداً أن تقتنص قطر ملف التنظيم (ممن؟) من فم الأسد الأميركي الجريح اقتصادياً والمتراجع سياسياً..
وليس أمراً هيناً أن تفوز هذه الإمارة بشرف التنظيم بعد منافسة حامية الوطيس مع العملاق الأمريكي، الذي لا تأتي قطر شيئاً تجاهه على أي مستوى من المستويات السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية..الخ.
وبالمقابل، إنه لأمر غير مفهوم أن يقول أوباما (رئيس أكبر وأعظم دولة في العالم نافست قطر على استضافة المونديال المذكور): “إن تنظيم قطر وعدم فوز أمريكا بلده بالتنظيم هو أمر سيء وخاطئ للغاية”.. بل كان من الضروري –قياساً بموقعه المتقدم على رأس كبار ساسة العالم- أن يهنئ ويبارك لقطر –كبلد من العلم الثالث- هذا الانتصار الكبير المتحقق للمرة الأولى في الشرق الأوسط، وأن يتقبل الخسارة الطبيعية جداً بروح رياضية، سيما وأن بلده سبق لها أن استضافت مونديال عام 1994م، ولكنها السياسة وقلة الحيلة وربما العجز، هي التي جعلته يتنقل من حالة فشل سياسية إلى حالة فشل أخرى في أكثر من ملف دولي، فمن خسائره المكلفة في أفغانستان والعراق إلى خسارته السياسية الانتخابية المؤلمة الأخيرة (خسر حتى مقعده كسيناتور عن ولاية الينوي).. ولا ندري ربما لا يكون محظوظاً فيخسر –كما تشي وتؤكد كل التقارير واستطلاعات الرأي- انتخابات عام 2012 الرئاسية، هذا إن تم ترشيحه أصلاً من قبل حزبه الديمقراطي بعد فشله الذريع في معالجة أكثر من ملف دولي، وعلى رأسه تحريك عجلة ملف السلام العربي الإسرائيلي المتوقف منذ عدة سنوات، ويبدو أن تكليف الرئيس السابق بيل كلينتون –المعتاد على سياسة الخسائر خاصة مع زوجته هيلاري- بترؤس الفريق المكلف بتقديم ملف أمريكا لاستضافة مونديال 2022، لم يكن ذا فأل حسن على أميركا .
ويبدو أن أمريكا قد تأثرت كثيراً بفعل أزمة الاقتصاد العالمي التي ضربت أرجاء العالم كله منذ العام 2008، وربما أن الذي زاد في تعميق جرحها ومآسيها، وفاقم مشكلاتها ومعاناتها دولياً هو زيادة حجم تدخلاتها السياسية والعسكرية المباشرة في كل مكان، مما جعلها تدفع الأثمان والتكاليف الباهظة في كثير من دول العالم نتيجة تلك التدخلات، فمن حرب أفغانستان إلى حرب العراق إلى أزمات السودان وأفريقيا إلى أوروبا وملف درعها الصاروخي، إلى العلاقات المتأزمة نسبياً مع روسيا البوتينية، إلى ملفات الشرق الأوسط المعقدة (ومناخاتها الحارة ما بين نسائم السلام ولهيب الحرب المتوقعة!!!)، أجل لقد تورطت أمريكا في ملفات عسكرية عديدة جعلتها تفتقد القدرة على إدارة شؤون العالم لوحدها منفردة كما كان يحدث في السابق..
وقد كان في السابق يسيطر نوع من التفكير السياسي في العالم مفاده أن الفشل الحتمي سيكون من نصيب أي موقع أو أية جهة تفكر –حتى مجرد تفكير- في مواجهة تلك القوة الأميركية الضاربة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً (يصل الناتج القومي الأمريكي إلى أكثر كمن 9  تريليونات من الدولارات سنوياً، وتبلغ ميزانية وزارة الدفاع لوحدها حوالي 700 مليار دولار!!) أو حتى على مستوى مجرد رفض تعاليمها وسياساتها وضغوطاتها..
وبالفعل، يبدو أن هناك من بدأ يتجرأ على ذلك حالياً، فمن تهريب مئات الوثائق العسكرية والسياسية بالغة السرية، ونشرها على موقع “ويكيليكس” الذي يديره صحفي استرالي ملاحق وهارب، إلى رفض روسيا إقامة درع صاروخي في مواجهتها، إلى تمرد كثير من القوى الدولية عليها هنا وهناك في العالم..
وهكذا وصلت الأمور إلى حد أن يرفض الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا FIFA) ملف استضافة أمريكا لمونديال2022  ويعطي الفوز إلى دولة قطر التي لا تشكل شيئاً تجاه أميركا في أي مجال من المجالات كما ذكرنا، لا بل ربما تكون المساحة التي تشغلها القاعدة العسكرية الأميركية المتواجدة في قطر والتي يمكن مشاهدتها من نوافذ قناة الجزيرة القطرية، أكبر من مساحة الدولة ذاتها!!..
أفتح هنا هلالين لأقول: عندنا مثل شائع يقول “عندما تسقط البقرة تكثر سكاكينها”.. ويبدو أن هذا المثل ينطبق إلى حد ما على الفيل أو الأسد الأميركي الجريح.. فـ”ويكليكس” تضربه بلكمات “وثائقية” من هنا كما أسلفنا، وقطر تلاقيها بضربة فنية محكمة من هناك.. مضافاً إلى ما تلقاه (ويتلقاه) هذا الفيل الجريح من ضرب عسكري في كل من أفغانستان والعراق، وضرب سياسي في الشرق الأوسط، وتركيا، وروسيا وأوروبا وغيرها..
وإذا ما سألنا: لماذا حققت قطر هذا الانجاز؟ وعلى ماذا ارتكزت؟ وماذا لديها من إمكانات وثروات؟
في اعتقادي يمكن القول، الدول نوعان على مستوى الحجم والإرادة السياسية، دول كبيرة الحجم والمساحة، ولكنها فاقدة للجدية والإرادة السياسية الحقيقية الحرة، ودول صغيرة بحجمها ومساحتها، ولكنها تمتلك وتحوز على رؤية سياسية مع إرادة سياسية حقيقية لتنفيذ تلك الرؤية بحسب إمكاناتها المتاحة، ويمكن أن توظفها في غير موقع وملف لتبرز قوة سياسية يمكن أن يعتد برؤيتها وبرأيها ووزنها المعنوي المهم والمؤثر في عالم الكبار، وهذا هو حال قطر، كما نعتقد ونخمّن، فقطر كدولة صغيرة لديها الكثير من الموارد والثروات، وتتميز قيادتها المنفتحة على العالم، بوجود العزم والإرادة السياسية الجدية للدخول في كثير من الملفات والتحديات وربما المغامرات هنا وهناك..
وهذا ما وفر لتلك الدولة الصغيرة الكثير من الراحة السياسية والاستقرار الأمني والفعالية الاقتصادية، بحيث تحولت إلى واحة خليجية آمنة تعيش حالة قوية من الرخاء والرغد والهدوء على كل المستويات والأصعدة، أي أن الهدوء السياسي ومحاولة تجفيف منابع التوتر مع الدول المجاورة والبعيدة، وعدم مخاصمة أحد، حتى إسرائيل، أعطى ووفر لها الوقت والزمان اللازم للانتباه والالتفات إلى الداخل للعمل والبناء والإنجاز والتشييد وهذا ما أهلها لتكسب استضافة كأس العالم للعام 2022..
وفي أول تصريح لأمير قطر الشيخ حمد بعد الفوز بالاستضافة قال: “هذا اليوم هو من أحلى أيام العرب، ونتمنى أن توفق قطر لتنظيم البطولة بنجاح، ليفرح كل أبناء الدول العربية الذين سيأتون إلى قطر خلال البطولة، لقد كانوا يعتبرون أن قطر لا تستطيع فعل أي شيء لأنها دولة صغيرة مساحة وسكاناً، واليوم أثبتنا لهم أن قطر قادرة على أن تفعل أي شيء”..
طبعاً هذا التفوق القطري لم يقتصر فقط على الولايات المتحدة، بل تعداه إلى أكبر دول العالم اقتصاداً ومساحة وسكاناً، كاليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا.
وملف قطر الذي تم إعداده -لمن يريد الاستزادة المعلوماتية طبعاً- يتضمن تقديمات استثنائية شبه إعجازية، تقدم للمرة الأولى في تاريخ كأس العالم بحسب تأكيد وإشادة كل المراقبين والخبراء في عالم كرة القدم، حتى أنه تم بالفعل تجاوز عثرة درجات الحرارة المرتفعة خلال الصيف في تلك الإمارة، وذلك عبر تجهيز الملاعب -المنوي إنشاؤها لاحقاً- بأجهزة تبريد عالية الجودة وصديقة للبيئة (بفضل استخدام التكنولوجيا المتطورة التي جعلت نسبة الانبعاث الكربوني صفر بالمائة 0 %)، وذلك بفضل التقنيات المستدامة وأنظمة التبريد في الملاعب ومناطق التدريب والمتفرجين، حيث سيكون بمقدور واستطاعة اللاعبين والإداريين والجماهير التمتع ببيئة باردة ومكيفة في الهواء الطلق لا تتجاوز درجة حرارتها 27 درجة مئوية، إضافة إلى إقامة بنية تحتية مجهزة بأحدث المواصفات والتقنيات، إلى شبكات للمترو والقطارات تصل قطر بجيرانها بسهولة وأمان، ناهيك عن إمكانية مشاهدة3  مباريات يومية لمن يرغب وهو أمر غير مسبوق. من دون أن ننسى سهولة إقامة المنتخبات المشاركة والجماهير القادمة من الخارج، وعدم تكبدها مشقات السفر من منطقة إلى أخرى..
هذا وقد رصدت قطر ميزانية ضخمة بعشرات مليارات الدولارات لتنفيذ كل ما قدمته في ملفها على الأصعدة كافة، وستقام مباراتا الافتتاح والختام على استاد “لوسيل” الذي لم يبدأ العمل فيه حتى الآن، وتتسع مدرجاته لـ86  ألف متفرج، وسيكون محاطاً بالمياه وستستغرق عملية بنائه 4  سنوات، إذ من المتوقع انتهاء العمل فيه عام 2019م.
ووفقا للملف القطري، ستعمل قطر على تجديد 3  استادات وبناء 9  استادات أخرى، وستتوزع ملاعب البطولة على سبع مدن قطرية..
وإذا ما أردنا أن نتحدث عن الاستثمارات والمنافع والعوائد الاقتصادية التي ستنجم عن استضافة قطر للمونديال العالمي المذكور في العام 2022، فقد أشارت تقارير خبراء الاقتصاد إلى أنه ستتحقق حالة نمو غير مسبوقة في اقتصاديات رياضة كرة القدم في المنطقة إجمالاً يبلغ حجمه 14 مليار دولار.
وفوز قطر بشرف تنظيم الحدث العالمي الكبير سيرفع قيمة حقوق البث التلفزيوني في المنطقة بنسبة 30%  لتصل إلى 550  مليون دولار.
وهكذا يظهر لنا أن تنظيم كأس العالم ليس فقط مجرد حدث رياضي عابر يأتي ويذهب، ويتسابق فيه اللاعبون لركل كرة صغيرة هنا وهناك من ملعب أخضر لا تتعدى مساحته أكثر من 32  ألف متر مربع، بل أصبح هذا الحدث كرنفالاً دولياً وحدثاً عالمياً وكونياً بامتياز ذي أبعاد اقتصادية وعوائد مادية كبيرة على البلد الذي يحظى بشرف تنظيمه أيضاً، فضلاً عن كونه حواراً حضارياً عملياً بين كثير من شعوب وحضارات وثقافات العالم التي تتفاعل إنسانياً وتتواجد عملياً في موقع واحد وبقعة جغرافية واحدة تتبادل من خلالها الأفكار وتتلاقح المفاهيم، ويطلع فيها الناس -من مختلف المشارب والانتماءات والحضارات- على عادات وطبائع وثقافات بعضهم البعض في وحدة إنسانية متنوعة جميلة،وهذا ربما له آثار إيجابية على مستوى المساهمة في تخفيف حدة التوتر والتباعد بين الشعوب والأمم المختلفة، بما يؤدي لاحقاً إلى تحقيق مزيد من التواصل البشري الذي يلغي الفواصل والحدود والتمايزات..
نعم، لقد أصبحت كرة القدم لغة عالمية مثل الموسيقى (لغة العالم)، لأن اللعب الجميل الانسيابي في الملعب هو مثل الموسيقى العالمية الكلاسيكية يفهمها الجميع، ويعشقها الجميل، لأن الجمال بعد إنساني..
وما حدث من خلال الموافقة على ملف قطر لاستضافة مونديال 2022م، هو نوع من الدخول الآسر إلى التاريخ المستقبلي الكوني ومن أوسع الأبواب الإنسانية، وهو نوع من العملقة الاستثنائية، وقطر اليوم باتت مثل عروس تتهيأ وتتجهز للتزين بكل ألوان وتنوعات وجماليات العالم لتزف إلى عريسها القادم في العام 2022  بأبهى حلة وأجمل عنوان..
أخيراً، مبروك لقطر الفوز بالاستضافة التي ستدخلها مع المنطقة العربية عموماً باباً جديداً من أبواب الحضور العالمي المطلوب لما بعده أيضاً، ولعلها تفتح كذلك كثيراً من الأبواب والنوافذ المغلقة في عقول وطرائق تفكير مجتمعاتنا العربية المهمومة والمهمشة والمغيبة التي لا تزال تعتاش أو تعيش على أضغاث أحلام الفوز والانتصار التاريخي المجيد الدائم على الآخر في كل شيء، وتدّعي أشياء وأمور ليست فيها، ولا قبل لها بها، وربما تحفز تلك الاستضافة -والدخول للعصر الكوني من باب كرة القدم- العقول النائمة المقفلة على أفكارها وتعقيداتها وعقمها وشبه عجزها عن الانفتاح على الحياة والعصر والإنسان الآخر..
وهكذا ربما نحقق بالرياضة، ما عجزنا عن تحقيقه بالسياسة، وقد نحقق بالاقتصاد ما عجزنا وفشلنا –كنظم وتيارات- عن تحقيقه بالوسائل والآليات السياسية، وفي ظني أن حالة الجمود السياسي والتخشب الثقافي التاريخي العربي -على مستوى انعدام آفاق التغيير وفقدان آمال الإصلاح السياسي والعملي المعرفي والعلمي في عالمنا العربي-   ليس له من حل سريع وفوري إلا من خلال إغراق تلك المجتمعات العربية بثقافة الحرية واقتصاد الرفاه بما فيها إغراقهم بما يمكن أن نسميه بالاقتصاد الرياضي..
جربوا هذا الحل، لعل وعسى!؟.. وربما يكون مدخلاً فعالاً لحلحلة الكثير من تعقيدات وعلائق السياسة العربية المتخبطة التي عجز الجميع –موالاةً ومعارضةً- عن فك رموزها وطلاسمها وعقدها ومبهماتها التاريخية والمعاصرة..
‎© منبر الحرية،5 دجنبر/كانون الأول 2010

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

لا زالت تداعيات تعيين الرئيس الإيراني أحمدي نجاد لأربعة من المقربين منه أواخر الشهر الماضي في منصب “المبعوث الخاص” لكل من الشرق الأوسط وآسيا وبحر قزوين وأفغانستان تتفاعل في الداخل الإيراني. ويختلف مراقبون حول تفسير تحرّكات نجاد الأخيرة سيما وأنّها تطرح شكوكا حول نوايا الرئيس والهدف من هذه الخطوة وخطوات أخرى مماثلة كان قد اتّخذها سابقا.
ففي الوقت الذي ترى فيه بعض الأوساط أنّ هناك محاولات مستمرة من الرئيس الإيراني ليثبت للمرشد الأعلى بأنه قادر على التحرّك باستقلالية، تشير أوساط أخرى أنّ هناك وجود متنامي لحالة “نجادية” في النظام الإيراني تتضمن زرع الرئيس لمؤدين مخلصين له ومن دائرته الخاصة، والقريبة جدا منه في مراكز حساسة ومتعددة في النظام الإيراني بما يسمح له بممارسة صلاحيات أوسع بكثير مما ينص عليه أو يسمح به النظام الإيراني، ويضمن أيضا بقاء نفوذ أحمدي نجاد حتى عند خروجه من منصبه حال انتهاء ولايته.
ففي 22 أغسطس الماضي، قام الرئيس الإيراني بتعيين مدير مكتبه والشخصية الأكثر جدلا “اسفنديار رحيم مشائي” في منصب مبعوث خاص للشرق الأوسط، كما قام نجاد بتعيين نائبه ورئيس منظمة التراث الثقافي والسياحة الإيرانية “حميد بقائي” مبعوثا خاصا له لآسيا، ونائب المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني في الشؤون الإعلامية “أبو الفضل ظهرة واند” مبعوثا خاصا لأفغانستان، و”محمد أخوند زادة” لمنطقة بحر قزوين. ويحاول أحمدي نجاد استكمال حلقة المبعوثين من خلال تعيين اثنين في المنصب نفسه عن منطقة أفريقا وأمريكا الوسطى.
وعلى الرغم من أنّ نجاد يستند في تعيينه لهؤلاء الممثلين الخاصّين إلى المادة 127 من الدستور الإيراني التي تنص على أنّه: “في ظروف خاصة تخضع لموافقة مجلس الوزراء، يحق لرئيس الجمهورية أن يعيّن ممثلا خاصا عنه أو أكثر بسلطات محددة. وفي مثل هذه الحالات تعتبر قرارات هؤلاء الممثلين كقرارات رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء”، إلا أنّ خطوته هذه أثارت غضب العديد من مراكز القوى والنفوذ في النظام الإيراني، كما أشعلت نزاعا بين البرلمان والحكومة من جهة وبين الحكومة ووزارة الخارجية من جهة أخرى لتخطّيها الأصول القانونية.
المحافظون يهددون نجاد بتدابير تصعيديّة
فالمحافظون يصرون على ضرورة أن يتراجع أحمدي نجاد عن هذه الخطوة خاصّة أنّ الشخصيات التي قام بتعيينها مثيرة للجدل ولا تتمتع بالكفاءة المطلوبة. وقد وجّه 122 عضوا من أعضاء البرلمان المحافظين الأسبوع الماضي مذكرة إلى الرئيس الإيراني تتضمن رسالة تحذير، معتبرين أنّ ما قام به مخالف للقانون والدستور، وأنّه يجب عليه العودة عن قراره بتعيين الأربعة فضلا عن عزمه تعيين اثنين آخرين في منصب الممثل الخاص لرئيس الجمهورية، وإلا فإن تدابير أخرى ستتخذ لإجباره على العودة إلى القانون.
ويعتبر “مشائي” صهر الرئيس أحمدي نجاد والذي يوصف بمن قبل البعض بأنه “ليبرالي النزعة” ومن قبل آخرين بأنه “قومي الأيديولوجيا” هدفا محبّذا للمحافظين والمتشددين نظرا لمواقفه المستهجنة عادة. فقد سبق له وأن أعلن في العام 2008 عندما كان في منصب نائب الرئيس الإيراني لشئون السياحة والثقافة أنّ “إيران صديقة للشعب الإسرائيلي”، كما سمح بإقامة حفل حملت فيه اثنتا عشر فتاة إيرانية كن يرتدين اللباس التقليدي وهن يرقصن نسخة من المصحف على طبق، الأمر الذي أثار سخطا ضدّه خوفا من الاتهام بـ”اهانة القرآن الكريم”.
وأثار “مشائي” أيضا جدلا لموقفه المتراخي واللامبالي من الحجاب الإسلامي كما يتّهمه بذلك المحافظون. وقد أدّت مواقفه التي يصفها المحافظون بالـ”الاستفزازية والطائشة” إلى مطالبة أحمدي نجاد في يوليو 2009، بالتراجع عن قراره تعيين صهره في منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية.
وعلى الرغم من أنّ نجاد قاوم هذه الضغوط بداية ونفّذ قرار التعيين، إلا أنّه اضطر إلى التراجع بعد التدخل الشخصي للمرشد الأعلى الذي أصدر فتوى مكتوبة في هذا الشأن تفرض عليه التخلي عنه، فاستقال “مشائي” بعد ثلاثة أيام من تعيينه في منصبه آنذاك.
وزارة الخارجية تدخل على خط النزاع
ودخلت وزارة الخارجية متمثلة بوزير الخارجية “منوشهر متكي” على خط النزاع ، فرأت في خطوة احمدي نجاد تجاوزا لها وتهميشا لدورها بما يسمح بإنشاء سياسة خارجية مستقلة للرئيس موازية لسياسة وزارة الخارجية التي تمثّل الخط الرسمي للدولة، ويؤدي أيضا إلى تضارب في السلطات مع صلاحيات وزير الخارجية.
ويعتبر تعيين “بقائي” واحد من الأسباب الإضافية التي أثارت استياء وسخط وزير الخارجية. إذ أعلن الأول قبل أيام بأنّ رئيس الجمهورية أحمدي نجاد سيقوم قريبا بتعيين مبعوثين خاصّين لمنطقة أفريقا وأمريكا الوسطى، وهو الأمر الذي دفع وزير الخارجية إلى التصريح للإعلام بقوله “من غير الواضح ما هي الأسس أو الصلاحيات التي يتمتع بها “بقائي” أو الموقع الذي يخوّله الإدلاء بهكذا تصريحات”.
وسبق لـ”منوشهر متكي” وأن اضطر إلى الاعتذار علنا للمسؤولين الأتراك عن التصريحات التي أبداها نائب الرئيس “بقائي” الشهر الماضي عندما قال خلال مؤتمر عقد في العاصمة طهران بمناسبة الذكرى الـ 70 للغزو الذي تعرضت له إيران إبان الحرب العالمية الثانية، أنّ الأتراك ارتكبوا مذابح ضد الأرمن.
كما تسربت معلومات مؤخرا عن أنّ “متكي” سيستقيل إذا بقي الأمر على ما هو عليه بعدما حذّر في تصريح له في 7 أيلول/سبتمبر من أنّ إنشاء سياسات خارجية موازية سيؤدي إلى إضعاف الجهاز الدبلوماسي الإيراني. وعلى الرغم  من نفي الناطق باسم وزير الخارجية “رامين مهمان برست” هذه الأنباء، الاّ أنّ مصادر عديدة تؤكّد إمكانية أن يقوم أحمدي نجاد باستغلال الانشقاقات التي تحصل في الجسم الدبلوماسي وآخرها طلب ثلاثة دبلوماسيين إيرانيين في أوروبا اللجوء، وتوظيف ذلك على أنه دليل على فشل وزير الخارجية بما يمهّد لإبعاده واستبداله بمرشحين قريبين من دائرته الخاصة، قد يكون من بينهم الرئيس السابق لمركز الدراسات الإستراتيجية التابع للرئاسة ومحافظ مدينة أصفهان حاليا “علي رضا ذاكر أصفهاني” المعروف بقربه من “مشائي” ومن “محمد رضا رحيمي” النائب الأول لنجاد، و” مجتبی ثمرة هاشمي” أبرز مستشاري الرئيس الإيراني ونائب وزير الداخلية للشؤون السياسية.
ولا شك أنّ الصراع على السلطات في ظل سعي نجاد إلى توسيع دائرة أتباعه وخلق تياره الخاص داخل النظام بعيدا عن المؤسسة الدينية المتمثلة بطبقة آيات الله من دون أن يستغني عن المرشد الأعلى لما يملكه من نفوذ وقوة سيبقى مستمرا، خاصّة في ظل الحديث المتزايد عن طموح أحمدي نجاد لإيصال صهره في الانتخابات الرئاسية القادمة إلى سدّة الحكم على أمل أن يفتح ذلك بابا لعودته إلى الرئاسة مرة أخرى.
‎© منبر الحرية،16 نونبر/تشرين الثاني 2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018