شؤون سياسية

peshwazarabic13 ديسمبر، 20100

يمثل الإعلان العالي لحقوق الإنسان، بوصفه أحد المصادر الرئيسية التي تنهض عليها النظرية العامة لحقوق الإنسان في عالمنا المعاصر، الخطوة الأولى المهمة التي خطاها المجتمع الدولي على طريق ترسيخ الاهتمام بحقوق الإنسان والحقوق الأساسية اللصيقة بالشخصية الإنسانية، والذي مهد إلى سن قواعد واتفاقيات جيدة ولاحقة تجاوزت خلو الإعلان العالمي من بعض الحقوق.

peshwazarabic13 ديسمبر، 20100

ساد العقل الأوربي الأمريكي في العالم بعد حقبة من السبات الطويل نحو ألف عام، امتدت من سقوط الإمبراطورية الرومانية، والتي أرّخ لها بحدث تاريخي هام هو سقوط مدينة روما عام 476م  بيد البرابرة، وحتى العصر الحديث عصر النهضة والتنوير، الذي تبدأ انطلاقته كما هو متفق عليه نحو عام 1500م مع بعض الاختلافات في التحديد، ولتتصدر بالتالي الحضارة البشرية من حينها، وتستمر إلى يومنا هذا..
جاء تسيّد الغرب هذا بعد مخاض عسير، وسعي محموم من القوى المطاحة بها لتوقيف عقارب الزمن، وكأن التاريخ ينبغي أن يتوقف عندها، وهذا دأب القوى التي استنفدت فرص بقائها، وبالتالي تعـذرُ القدرة على التواصل والاستمرار في مفاصل التحولات الاجتماعية تاريخيا…
تجلت ديناميكية العقل الغربي (الأوربي الأمريكي) في ملاحظة أن العالم في تحرك وتغير دائمين، وبالتالي لا بد له من رصد هذا الواقع المتغير، برؤية ومنظور جديد، وهذا لا يكون بالاكتفاء بما قاله السلف، فجاء السعي للتوفيق بين العلوم العقلية والعلوم النقلية، أي إيلاء الاهتمام بالأولى، وغربلة الثانية، أي عرضها للنقد، لتجاوز ما يمكن تجاوزه، والبناء على ما يمكن الاستفادة منه..
إن أيّ واقع جديد ينبغي مواجهته بأسلحة جديدة، وقبل أيّ شيء لا بد من قراءة الواقع، ودراسته، ومن ثم البحث عن طرق معالجته، والغرب في العصر الحديث دشـّن ثورته على الواقع في البدء بتحطيم سطوة الثنائي الإقطاع والكنيسة، وبالتالي الفصل بين الدين والدولة، (ما لله لله وما لقيصر لقيصر)..
كما توجه الغرب باتجاه رصد الطبيعة والمجتمع والإنسان الفرد، بعد اغتنام  تركة واسعة من الثقافة ورثوها عن الإغريق والرومان، فدعوا لبناء جنة لهم على الأرض على شاكلة جنة السماء، فرأوا ذلك لا يتحقق إلا عبر التقدم المطرد، في حقول التنمية البشرية والاقتصادية والثقافة، والنهل من العلوم الحديثة، فجاء الحث على انتشار حركة العلمانية، وبهذا تم اختفاء كثير من القيم طواها الزمن مع استهلال العصر الحديث، لتنفتح الطريق أمام إرساء قيم جديدة، فقد تمت مواجهة القديم بنزع إهاب القداسة عنه، وجلال الخضوع له، والتشديد والتأكيد على قيمة الإنسان، ومحوريته في الحياة، ووجوب تحريره من طلاسم السلف، وسلطان رجال الكنيسة، وترك المجال له بحرية في إطار علاقته بربه، بعيدا عن التعصب، والانقياد الأعمى، وما يسبب ذلك بالتالي من شلل فكري..
كان لا بد في هذا التوجه، من القضاء على سلطة النبلاء، والثورة ضد العبودية واسترقاق الإنسان، والحد بداية من سلطة الكنيسة..
منذ القرن السادس عشر أي بداية العصر الحديث، ناسب الغرب العقل والعلم، باعتبارهما سلاحا ذا قيمة لا يضاهيه أي سلاح، فبهما يمكن للغرب من تخطي الحاضر المثقل بأغلال الماضي، ومواكبة ركب التقدم الحضاري، فإذا ما اعترضهم إشكال ما، مثلا معضلة اجتماعية أو اقتصادية، فسرعان ما تلتئم مؤسساتهم بمختلف مناهلها الفكرية والسياسية، للكشف عنها، والخروج بمعالجة مناسبة..
كما أعار الغرب أهمية كبيرة للأفكار، فرأى فيها قوة حافزة تهيئ الفرد والجماعة في كيفية مواجهة الواقع، وإيجاد حلول لمشكلاته، رغم ما أشيع عن بعض المفكرين، أن لا تأثير للأفكار في حفز الناس ودفعهم نحو المطالبة بحقوقهم، أو دفعا لعدوان، ونقول هنا، إذا كانت المظالم دفعت الفرنسيين باتجاه ثورة 1789 فإن أمثال فولتير وجان جاك روسو قـد بينوا، ومهدوا بفكرهم، ورصدهم للواقع الفرنسي آنذاك، كيفية مواجهتها، فلا يمكن فصل الفكر عن الواقع، ولا قراءة الواقع دون خلفية فكرية، فكلاهما الفكر والواقع متلازمان، وأيضا فالمظالم تحفز الناس نحو التمرد والثورة، وهنا يأتي الفكر كرداء مناسب للثورة..
ثم ما الذي حدا لويس السادس عشر في سجنه وهو ينتظر قضاء المقصلة قبل إعدامه، أن يقول بعد أن قرأ لفولتير وروسو :(هذان الرجلان هما اللذان دمرا فرنسا) وكان يقصد تدمير النظام الملكي في فرنسا، ما كان ليقول ذلك لولا تأثير أفكارهما واستحواذها على عقول الناس وأفئدتهم..
في هذا المدار وتساوقا مع الفكر الغربي، ظهرت حركة فكرية في الغرب عرفت بالعقلانية أو الحركة العقلانية، وهي بمثابة مجموعة من الأفكار، تعين الإنسان لفهم واقع الحياة، وحقيقة الكائنات، وهذا البعد والغوص في التفكير أبعد المفكر العقلاني عن العقيدة المسيحية التقليدية، فهذه النزعة ترى أن بمقدور العقل معرفة جانب من تدبير الله في إدارة الكون، رغم هذا فقد برزت أشكال عديدة من الدعوات سعت للتوفيق بين العقلانية والمسيحية، لكن في الحقيقة أن العقلانية نبذت كل ما هو غيبي، أو خارق للعادة، فأبقى على ما هو قابل للفهم والتعليل، فإيمانهم بالعقل لا يحده شيء، الم يقل المعري قبل نحو ألف سنة..
(أيـّها الغــرُّ إن خصصتَ بعقل ****** فاتّبعه “فكل عقل نبي”)
وهذا مكيا فللي يشاطر العقلانيين رأيهم في رفضه عن وجود شيء خارق للطبيعة، وأن الله بمنأى من أن يتدخل في شؤون العباد..
أولى الغرب أيضا اهتماما كبيرا للعلوم الطبيعية، فأنشؤوا أكاديميات بهذه الغاية، كما وجدت جمعيات علمية للغرض نفسه، وعزا بعضهم هذا التقدم الهائل إلى العامل الاقتصادي، والأعمال التي يديرها الرأسمالي، فضلا عن ازدياد الثروة، لكن كل هذا كان مرتبطا بالعلم، فالعلوم الطبيعية تأتي انعكاسا للبيئة الاجتماعية وبالتماشي مع مستوى من تطورها، فقد أدرك الغرب حقيقة العلاقة بين العلوم الطبيعية، وبين درجة من تطور الفرد وحريته، فوجد بتوفر الحرية للأفراد والمؤسسات، يعني مزيدا من التقدم العلمي، ومن هنا جاء التركيز على خصلة الحرية، وفي خضم هذا الصراع ظهرت الليبرالية كمذهب جديد، ومن أهم سماتها في جانب العقيدة المسيحية دعوة الليبرالية إلى حرية المعتقدات بين من يؤمن ومن لا يؤمن، وأثرت عنها عبارة شاع انتشارها تقول: (كل حرٌّ في دينه) أي الليبرالية في الدين، وعنت الحرية في ممارسة المعتقدات الدينية، وأيضا الحرية بين الإيمان والإلحاد..
بمضي الزمن ازداد عدد المتعلمين، وتحقق كثير من التقدم، فتنبه الغرب لرسالة الإنسان في هذا الكون، وقدروها، وكيف أنها تناقض الجانب التقليدي في العقيدة المسيحية، ورأوا أن اضطراد التقدم، يقودهم حتما إلى الوفرة والسعادة، وزوال كثير من الرذائل والآثام، حيث طغت نظرة أخلاقية، هي أقرب بالجانب السمح في الديانات الثلاث اليهودية، المسيحية، الإسلام، وكان الهادي في كل هذا هو العقل، وعلى العموم حقق الغرب ما عملوا من أجله، من تقدم في مختلف الميادين، فضلا عن الوفرة، والسعادة، والحرية..
إن شعوب بلدان العالم الثالث تأثرت كثيرا بالعقل الغربي، وتفاعل مع منجزاته في شتى الميادين، في الحياة، والعلم، والسياسة، كما أبهر بسحر الدولار، ونمط الحياة في تلك الأصقاع البعيدة، فضلا عن الحرية في العلاقات الاجتماعية والممارسة السياسة، وانسحب التأثير على عقول الأجيال، عبر وسائط الاتصالات العديدة، من السينما،  فالتلفاز، والزيارات، وأخيرا الإنترنيت.. حيث أصبح العالم بمرأى أعين الجميع..
إننا في العالم العربي إذا فكرنا في نقل شعوبنا إلى مصاف الأمم المتقدمة، استذكرنا الماضي، وذرفنا الدموع لزوال تلك الأمجاد، فلم نزل نعيش في الماضي، الماضي الذي لن يعود، وهذا تعبير على عجزنا، أما أن نفكر بالمستقبل والأخذ بأسباب التقدم، فهذا غير متفق عليه، فمن جانب لا نولي العلم الأهمية اللازمة، ولا نحن بمعرض فك القيود عن حريات الناس، ولسنا بصدد إنشاء جمعيات أو مؤسسات البحث العلمي، فمازلنا نختلف في مسألة شرعية كالتيمم..
إن الإبداع لا يأتي في ظل الجوع والكبت وغياب الحرية، والمهاجرون من سكان العالم العربي الذين يعيشون في الغرب ربما يقدر ذلك.
‎© منبر الحرية،9 دجنبر/كانون الأول 2010

حواس محمود13 ديسمبر، 20100

دأب القول السياسي العربي  في صورة عامة منذ أكثر من خمسين عاما على الضرب على الوتر الخارجي: الامبريالية، الرجعية، الصهيونية، ومن ثم الاحتلال الأمريكي للعراق، العولمة، الهيمنة الغربية، صدام الحضارات ..الخ.
وتجاهل عن سابق إصرار وتصميم كل ما يتعلق بالداخل العربي من تنمية، إعلام، ثقافة، بحث علمي، بيئة، صحة، تكنولوجيا، وحريات التعبير، وحرية الصحافة، والأحزاب …الخ.
هذا هو المشهد الذي صيغت فيه التعابير والمقولات والشعارات التجييشية والتحريضية والشعبوية، ومن خلال إعلام إما رسمي لخدمة الأنظمة،  أو خاص مأجور ومدفوع الثمن من شركات ومقاولين وتجار يخدمون بشكل أو بآخر مصلحة الأنظمة العربية السائدة، وبخاصة تلك الأنظمة التي كانت تدعي الثورية والاشتراكية والتصدي والمجابهة والممانعة، إلى غيرها من التسميات الصارخة والفارغة كالطبل الأجوف في بحر من حراك وحركة عالمية تكنولوجية معرفية متسارعة الإيقاع.
بعد كل تطورات الحالة الإقليمية والعالمية، تأخذ الضرورة الموضوعية حاجتها إلى عملية فك الارتباط بين المتطلبات الديمقراطية الداخلية لكل دولة أو قطر في العالم العربي وشعارية التحديات الخارجية. بعد أن وصلت الدول العربية إلى حالة من الأزمة المتفاقمة المستعصية على الحل بفعل أن إفرازات الدكتاتورية هي التي أنتجت مرض الاستبداد المزمن، الذي وللأسف تشربت شعوب المنطقة من مياهها الآسنة فاستمرأت هذا الاستبداد وتحت وقعه الشديد ارتأت النوم العميق في سبات طويل طويل، بغض النظر عن التفكير في  أي نهضة أو نهوض أو مقاومة أو حركة أو تحرك أو هبة أو صعود.
ما نشهده الآن في بعض الدول العربية وما شهدناه في السنوات القليلة الماضية يؤشر بشكل واضح أزمة نظام الحكم العربي وأزمة الجماهير المستسلمة. نظام الحكم أزمته هي تأبيد الحكم وتوريثه، وأزمة الجماهير هي الرضوخ للأمر الواقع تحت ضغط القمع والفساد، ماذا حدث  في العراق، أليس الاستبداد الذي جاء بالاحتلال نقول ذلك بصورة مختصرة لنبتعد قليلا عن جدل الحدث العراقي وتشابكاته وتعقيداته الكثيرة، والسودان الذي وصل إلى درجة أن رئيس السودان نفسه يقر بأنه إذا صوت الجنوب السودانيون بالانفصال فإنه يكون أول المعترفين بالكيان الجديد، ماذا لو كانت السودان دولة ديمقراطية هل كان الجنوب السودانيون يفضلون الانفصال؟ لست ضد الاستقلال من حيث المبدأ، ولكنني أشير إلى غياب الديمقراطية التي تستوعب التنوع ضمن الوحدة، وفي اليمن لماذا الجنوبيون ينزعون للانفصال أليس الاستبداد نفسه الذي يدفعهم لذلك؟.
والبارحة عندما كان الكرد يطالبون بالحكم الذاتي والآن الفيدرالية، ماذا لو كانت العراق دولة ديمقراطية تحقق المساواة بين العرب والكرد، وتمنع الاستئثار بالقرار وتضطهد الأقليات والقوميات المتواجدة في العراق.
نحن نصل في النتيجة إلى الضرورة الموضوعية لفك الارتباط بين واقعية المتطلبات الداخلية بشتى المجالات، وشعارية التحديات الخارجية التي أضرت بالاستحقاق الداخلي وشوهت لوحة المجتمعات العربية وضربت البنى التحتية في دول العالم العربي، وجعلت العالم العربي يقف بامتياز في نهاية قاطرة التقدم والتطور في العالم.
© منبر الحرية،7 دجنبر/كانون الأول 2010

عزمي عاشور6 ديسمبر، 20101

يرتبط وجود  الدولة ككيان جغرافي وبشري بمجموعة من الوظائف التي تبدو بديهية، إلا أن الفشل في أداءها أو القيام بها بالشكل الأمثل  يكون كارثيا،  يأتي في مرتبتها الأولى الوظيفة الإنمائية التي تتحدد ملامحها في قدرة الدولة على تهيئ الحرية، والإطار المؤسسي القادر على تحقيق نهضة تنموية بتعظيم وتوظيف القدرات والموارد الطبيعية والبشرية بمنهج وأسلوب عصري، يؤدى إلى الارتقاء المعيشي والتعليمي والثقافي لمواطني هذه الدولة والانتقال بهم من وضعية التخلف إلى وضعية التقدم. ثانيهما الوظيفة الأمنية سواء كان الأمن في شكل جيش قوى يحمى حدود هذا الوطن من الطامعين في أراضيه، أو في شكل جهاز أمن داخلي يستطيع أن يحافظ على أمن المواطنين معليا من قيمة القانون وتنفيذه على الجميع دون تفرقة أو محاباة لفرد أو فئة على حساب أخرى. هذا فضلا عن وظائف أخرى كثيرة تجسد مفهوم الدولة التنموية يأتي على قمتها وظيفة الاندماج القومي، والتي تكون من محصلتها أن يشعر أفراد الوطن بكيان الوطن الفوقي على الجميع والذي  يترجم في عملية تفاعلية من البشر ومؤسساتها  بحيث تعم فائدتها على الجميع دون تمييز .
فالملامح المحددة  لشكل الدولة في العصر الحديث  تظهر في مدى قدرتها على إعلاء قانونها ومؤسساتها على قوانين هذه  الجماعات والإثنيات الفئوية بداخلها،  بشكل لا يخلق تميزا لفئة على حساب أخرى، وإنما  ينم عن العدالة وتحقيق المساواة أمام مبدأ المواطنة الذي يتساوى عنده الجميع. والدول التي يوجد بها مشاكل كثيرة متعلقة بقضايا الإثنيات  والتنوع الديني  كانت قدرتها على ترجمة هذا المتغير إلى منجي لها من كوارث قد تؤدى إلى مجازر أو إبادة جماعية يقوم بها البشر تجاه بعضهم البعض. والمثال الأوضح على تطبيق هذا المبدأ يظهر في دولة الهند  التي استطاعت رغم كبر عدد السكان المتنوع اثنيا ودينيا والذي تجاوز المليار نسمة، يقع70 % منهم تحت خط الفقر، من إعلاء مفهوم المواطنة بترجمته في مؤسسات الدولة وقوانينها وخلق ما يشبه المواطن الهندي الواحد بصرف النظر عن  إثنيته أو دينه .
والناظر إلى الكثير من المجتمعات العربية بات يلحظ مؤشرات كثيرة تنم على أن الدولة الوطنية لم تبن بعد، على الرغم من مرور كل هذه السنين من التجربة والممارسة للحكم الوطني، وهو الأمر الذي يطرح التساؤلات الكثيرة حول هذا التأخر. فبات هناك ما يشبه التراجع في مفهوم الدولة في مقابل نمو وازدياد قوة تنظيمات وجماعات قد تكون فئوية أو دينية، تأخذ شكل موازى ومضاد في الغالب للدولة وظائفها. وهي كلها مؤشرات إن دلت على شيء فهي تدل على خلل كبير مرتبط بأن الدولة كمفهوم وممارسة لم يقم تحقيقه على أرض الواقع  والأمثلة كثيرة هنا، إلا أنه تبقى هناك أمثلة لنماذج أولها يمثل نماذج حرجة والأخرى يمثل مؤشر إلى أنه في حالة استمرار الأوضاع  بهذا السوء سوف تتحول إلى هذه الحالة التي تفضي إلي انهيار الوطن.
أولا: النماذج الحرجة تتمثل في حالة العلاقة ما بين الدولة اللبنانية والتنظيمات والفصائل التي تعيش في داخلها، فهناك ما يشبه الفصائل الموازية للدولة ليس على مستوى المضمون وإنما في مستوى أداء الوظائف  من القيام بالوظائف الأمنية، ليس في الداخل وإنما على الحدود أيضا في شكل  ينم على عدم الاعتراف بشكل ما بمفهوم الدولة اللبنانية، هذا ناهيك عن حالات الانقسام الأخرى التي يزرعها بداخل المجتمع مثل هذا الوضع من  تنميط  الشعب  اللبناني في  شكل انتماءات دينية وإثنية تعلو أو تهدم بالأساس كل ما يتعلق بمفهوم الوطن بمؤسساته. يجسد هذه الحالة بشكل عملي حزب الله في لبنان الذي أصبحت ممارسته الموازية والمضادة بطبيعة الحال  للدولة اللبنانية واضحة للعيان. لعل آخرها دعمه للأمين العام السابق للأمن العام اللبناني اللواء المتقاعد جميل السيد وتنسيقه لاستقبال رئيس الإيراني لزيارة لبنان ليس عن طريق البرتوكولات المتعارف عليها، وإنما على طريقة برتوكول اللادولة في أن يستقبل فصيل مناوئ داخل دولة رئيس دولة، وما يحمله ذلك من دلالات أبرزها هو عدم الاعتراف بالدولة ومؤسساتها وأنه فوقها …، وبروز مثل هذه النماذج في دولة ممثلة في لبنان من شأنها أن يجعلها دائما دولة في مهب الريح في سبيل أن تكون بؤرة لتنظيمات مسلحة تتقاتل فيما بينها، الأمر الذي قد يؤدى بها في النهاية إلى أن تصبح أحد الأحياء التابعة لدولة أخرى أكثر تنظيما في الجيش وقدرة  على إدارة الحكم، ولتكن في ذلك إسرائيل التي حاولت مرارا احتلال لبنان في السابق.
ثانيا: النماذج التي من الممكن  أن تتحول إلى حالة حرجة، ومعظم الدول العربية ليست ببعيدة عن هذه الحالة. فعلى سبيل المثال، الدولة  المصرية على الرغم من كونها  تتميز عن باقي الدول العربية في كونها استطاعت بعد فترة الاستقلال أن تخلق ما يشبه الاستمرارية  في نخبتها حيث عمليات انتقال السلطة كانت تتم بشكل سلمى من نخبة سابقة رحلت إلى نخبة تالية، في حالة ندر أن وجدت في النظم الجمهورية العربية الأخرى التي كانت تنتقل فيها السلطة عن طريق انقلابات..، وهو الأمر الذي خلق بشكل ما قدر من المؤسساتية ظهرت  تطبيقاتها في وجود مؤسسة قضائية كل يوم تصدر أحكاما قضائية  لا تفرق فيها بين وزير وغفير على حد تعبير  المصريين،  وعلى الرغم من كل ذلك تستشعر الآن أن ثمة  أمور تحدث قد تؤدى إلى أضرار جسيمة في المستقبل،  وهي المتمثلة في بروز أيضا أدوار موازية لدور الدولة ليس بمثل الحالة اللبنانية، وإنما بشكل آخر ينم أنه ثمة مشكلة في حاجة إلى حل، أبرزها في هذه الحالة  الوضع السياسي للكنيسة القبطية التي تحولت لأن تكون وطنا موازيا للدولة، فالفرد الذي ينتمي إليها دينيا باتت هي الملاذ له، وليست مؤسسات الدولة،  عندما يقع عليه ظلم. تتعدد هنا الأسباب  ربما أبرزها خفوت دور الدولة كمفهوم وممارسة للوطن وبروز أداور موازية أخرى قد تكون في الكنيسة أو في المسجد أو في عمليات الاحتقان الطائفي التي تغذيها رموز التطرف الديني لدى الجانبين، ومن ثم لا يلبث أن يتحول موضع تحول ديانة شخص إلى مشكلة تهز المجتمع أو تصريح يقال بشأن الآخر إلى موضوع تظهر فيه المظاهرات وتعلوا أصوات الغضب. يحدث هذا في ظل أولويات أخرى غائبة كان من الضروري البحث والتظاهر من أجلها، كل ذلك مؤشرات لا تعكس قوة للمجتمع ولا قوة للدولة الوطنية بقدر ما تعكس قوة للفئوية والطائفية على حساب الوطن والمجتمع الذي يشكل الحضن الآمن للجميع من عنف الداخل وتهديدات الخارج.
*كاتب ومدير تحرير مجلة الديمقراطية بمصر
‎© منبر الحرية،3 دجنبر/كانون الأول 2010

peshwazarabic6 ديسمبر، 20101

حملت اللغة العربية إبداع العرب الوحيد ألا وهو الشعر قبل الدعوة الإسلامية و منحها القرآن التقديس فيما بعد لتكون لغة إعجازية مقدسة، وعند القرون الثلاثة الأولى بعد الدعوة مُنحت العربية مهمة أخرى لتكون وعائاً للفكر الإسلامي الفلسفي الوليد وكذلك لغة النهضة العلمية الوليدة. و مع التراجع الفكري و الركود العلمي ارتدت العربية لتبقى وعاءً مقدسا فقط.
دخل العرب القرن العشرين عراة لا يملكون من مقومات الحضارة شيئأً حتى لغة الشعر إبداعهم الوحيد كانت قد ماتت قبل الدخول، و بعد محاولات التململ العربي للنهوض من الغفوة اكتشف العرب وجود ما يسمى بالعلم و التكنولوجيا واكتشفوا كذلك عجز لغتهم عن استيعاب ما وجدوه بعد هذا السبات العميق. هكذا وجدت اللغة المقدسة عجزها عن استيعاب ما وجده قومها لذا لامتهم  وعكست ألمَها مما هي عليه على لسان شاعرهم حافظ إبراهيم و مما قالته اللغة المحنطة:
وسعت كتاب الله لفظا و غاية          وما ضقت عن أي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة      و تنسيق أسماء لمخترعات
لا شك في أن حافظ إبراهيم الذي اعتمدته اللغة للكلام عنها لم يكن على دراية بماهية لغة العلم المعقدة و متطلباتها و ربما اللغة المسكينة التي تخلى عنها أهلها وحنطوها لم تكن لتعرف حقا ماذا حل بها و كيف تم تحنيطها من قِبل أبنائها.
لقد كتب العرب والمسلمون علومهم الطبيعية في فترة النهضة اليتيمة (700م-1000م) باللغة العربية رغم أن الكثير من العلماء لم يكونوا عربا. لقد دخلت اللغة العربية وقت ذاك طورا جديدا من تاريخها و هو الطور الثالث. قبل الدعوة الإسلامية كانت اللغة لغة الإبداع الشعري وهو الإبداع الوحيد (ربما عرفوا النحت و لكن لم يصلنا منه شيئاً) الذي عرفه العرب قبل الإسلام  و هذا هو طورها الأول و بعد الدعوة أصبحت اللغة المقدسة التي جاء بها القرآن و هذا هو الطور الثاني لها. حتى العصر العباسي لم يكن للعرب عهد بالفكر الفلسفي والعلوم وما أن انفتحت الحضارة العربية على الأمم الأخرى أخذت باستيعاب تجارب الشعوب وكانت التراجم التي قام بها اليهود و المسيحيون والصابئة وقت ذاك جهدا عظيما يصعب تقديره قاد اللغة العربية لتدخل طورها الثالث. منذ ذلك العهد و اللغة العربية استوعبت الفن و الفكر و العلم. وقت ذاك لم تكن هناك طباعة أو مؤسسات نشر متخصصة.
في تلك الفترة اليتيمة من التاريخ كانت بغداد و القاهرة والأندلس مراكز الإشعاع العالمي و كانت اللغة العربية لغة الحضارة السائدة. استوعبت اللغة العربية الشعر والفكر والدين و العلوم. و ما تزال حتى وقتنا الحاضر الكثير من مصطلحات العرب القديمة مستخدمة في بعض العلوم.
ومع بداية تلاشي النهضة العلمية (حوالي 1000م) أخذت اللغة تتقوقع ضمن الإطار الديني و الأدبي و مع الاحتلالات الأجنبية المتكررة و التي كان آخرها الاحتلال العثماني تلاشت حتى القدرة الأدبية للغة لتتحول إلى مجرد لغة مقدسة. بعد سقوط الدولة العثمانية  بدء التململ العربي للاستيقاظ من الكارثة و كان للغة هي الأخرى تلك المحاولة للاستيقاظ. خلال النصف الأول من القرن العشرين عاد للأدب العربي البعض من رونقه وعادت العربية إلى طورها الأول. وما أن أدركت عمق الكارثة الفكرية والعلمية وعدم القدرة على استرداد طورها الثالث عاتبت العرب على لسان شاعرهم .
نحن الآن في عام 2010 م و ليس 800م و علوم اليوم ليست مثل علوم الماضي، الاختلاف ليس كميا فقط وإنما نوعيا و منطقيا. اليوم يجب أن نتسائل هل العربية يمكن أن تكون لغة علم كما كانت؟
قد يبدوا تبرير قابلية اللغة على استيعاب وصف آلة أو البحث عن أسماء لمخترعات يعطيها القابلية لتكون لغة للعلم تبريرا ساذجا و سطحيا. وهذا ما هرول وراءه الكثير من اللغويين والمجمعيين العرب لاشتقاق مصطلحات عربية مقابلة لمصطلحات العلوم المعاصرة ووضعوا القواميس لها، لقد كان ركضهم  وما يزال وراء سراب، لأن العرب الآن ليسوا منتجي علم بل متقبلين لبعض مما يُنتج وما على اللغويون إلا متابعة ما يستجد للبحث عما يرادفه و بصورة مستمرة و دائمة. إن لغة العلم ليست مجرد وعاء استيعاب لنقل ما هو موجود. للغة العلم الحديثة مميزات كثيرة منها:
أنها لغة حية علميا و هذا يعني أنها الوعاء الأول للناتج العلمي. البحوث الجديدة أول ما تكتب تكتب بلغة العلم المقبولة عالميا. إنها اللغة التي تنتج مصطلحات جديدة يتم الترجمة عنها باستمرار، فلغة العلم يجب أن تكون لغة منتجة للمصطلح إضافة لكونها قابلة للترجمة، والمصطلح العلمي يكون واحدا رغم اختلاف المترادفات التي قد تبدو متشابهة.
أنها لغة واسعة الانتشار علميا وليس المقصود هو عدد المتكلمين بها بل عدد مراكز البحوث التي تعتمدها، وعدد الدوريات التي تصدر بها وعدد الكتب التي تكتب بها والمؤتمرات التي تعتمدها كلغة مقبولة .
أنها اللغة التي تجمع ما بين القدرة على التوضيح مع استخدام الرمز (الحروف والعلامات) لكتابة العلاقات العلمية والرياضية.
أنها اللغة التي تتعامل بها مؤسسات نشر عالمية وبذلك يكون مطبوعها متوفر ومتراكم ويمكن الرجوع له كمصدر دائم. وهذا يعني أن هذه اللغة تغوص في تاريخ التخصص العلمي لتوفير المعلومة المطلوبة.
لقد بدء النشر العلمي الأكاديمي في حدود القرن السابع عشر  وما زال متواصلا من دون انقطاع وبتراكم هائل من الخبرات خلال هذه الفترة الزمنية. خلال هذه الفترة استطاعت اللغة الانكليزية من التوائم مع الكتابة و الطباعة العلمية، كما أن تقاليد النشر العلمي تأسست خلال هذه المدة التي كان العرب فيها منقطعين عن الحضارة العالمية. كما أخذت بالتشكل طريقة الصياغة اللغوية للحقائق العلمية و طريقة كتابتها. و توجد الكثير من الدراسات حول قدرة اللغة في استيعاب العلوم.
حاليا اللغة الانكليزية تتصدر اللغات العلمية العالمية بسبب سعة انتشارها كما توجد العديد من اللغات العلمية شبه العالمية مثل الفرنسية و الألمانية وهناك لغات علمية اقل انتشارا مثل اليابانية و الصينية…. وعالمية اللغة تنشئ من عمق اهتمام مجتمعها بها. ونتيجة سعة وانتشار الناتج العلمي فإن اللغة الانكليزية العلمية أخذت بالتوسع وقبول مصطلحات ورموز من لغات أخرى.
لقد كان الروس ضمن الفترة السوفيتية ينشرون بحوثهم بلغتهم، وهذا يعني أن المنظومة العلمية الروسية كانت كاملة وتحوي مؤسسات نشر علمي من كتب ومجلات بحثية. وبغية الاستفادة من البحوث السوفياتية اهتم الغرب في تأسيس مؤسسات متخصصة في ترجمة المنشورات العلمية الروسية كي يكون الغرب على قدم المساواة مع ما يكتشفه السوفيات.
مما تقدم نجد أن لغة العلم ليست مجرد وعائاً يمكن تبديله بالترجمة بل مؤسسات ضخمة توفر لقرائها البحوث السابقة والحالية إضافة إلى توفيرها الكتاب العلمي (الأكاديمي) بمستوياته المختلفة.
كانت أول تجربة عربيه حاولت أن تمنح اللغة العربية صفة لغة العلم في العصر الحديث هي التجربة المصرية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. لقد كانت على ما يبدو من ضمن الحماسة القومية أكثر من كونها خطة مدروسة. لقد أصدرت القاهرة مشروع “الألف كتاب” وهو مشروع ترجمة كتب عالمية مختارة للغة العربية. لقد كانت تجربة مفيدة للمثقف العربي إلا أنها لم تتطور لأنها كانت أعجز من أن تتمكن من توفير المراجع العلمية المختلفة الاختصاصات. إضافة إلى مشكلة المصطلح العلمي الذي اختلف العرب على ترجمته كل دولة على هواها. ومشكلة استخدام الرمز العلمي والرياضي. مثل هذه المشاريع قد تفيد في نقل المعرفة لرجل الشارع و للمثقفين عموما ولكن  ليس الباحث الذي هو بحاجة دائمة لمتابعة تخصصه و التطورات التي تحصل. الباحث العلمي عليه أن يكتب إنتاجه بلغة يفهمها العالم كما هو بحاجة إلى قراءة ما ينتجه الآخرون.
ظهرت محاولات أخرى مختلفة في الكثير من الدول العربية، ولكنها جميعا محاولات متلكئة محلية الطابع  رعتها السياسة و الأيديولوجية الحاكمة أكثر من كونها ضرورة اجتماعية. كما قام الكثير من الأساتذة العرب بتأليف أو ترجمة الكثير من الكتب العلمية، كما سبق لي شخصيا وأن أصدرت كتابا علميا باللغة العربية ولكن كل هذه الجهود لا يمكن أن تواجه الكم الهائل من الانجاز العلمي العالمي المتسارع يوميا. وكما يختلف الساسة العرب في مواقفهم فإن المجامع العلمية العربية التي ركضت وراء ترجمة المصطلح العلمي اختلفت فيما بينها، فهناك ترجمة مصرية وأخرى عراقية وأخرى سورية … للمصطلح الواحد. مثلا مصطلح (Momentum) تمت ترجمته بالزخم وكمية الحركة و العزم و هكذا الحال مع باقي المصطلحات. في حين نجد الشعوب الناطقة باللغة الانكليزية تستخدم جميعها نفس المصطلح.
عهدنا الحالي ليس هو عهد المأمون العباسي الذي أسس بيت الحكمة وقام بترجمة الكتب المختلفة إلى العربية. العالم الآن أكثر وأكثر تعقيدا مما كان عليه وقت ذاك ولكن للأسف ما زال هناك الكثير ممن يعتقدون أن الزمن قد توقف منذ قرون. إن تجربة المأمون كانت رائدة في زمانها أما الآن فنحن بحاجة إلى تجارب أخرى وليس استنساخ تجربة ماتت وبلت وأصبحت ذات قيمة تاريخية فقط. ترجمة الكتب العلمية على المستوى الجامعي مسألة غاية في التعقيد فهناك عدد هائل من التخصصات وفي كل تخصص هناك على الأقل مستويين من الكتب،  كتب الدراسات الأولية وكتب الدراسات المتقدمة. بالإضافة للكتب فإن الباحثين قلما يحتاجون الكتب قدر احتياجهم للمجلات (الدوريات) العلمية التي تنشر البحوث أولا بأول. إنه من الظلم والاستخفاف التشبه بتجربة المأمون الآن.
في زيارة لإحدى الدول العربية دهشت عندما وجدت الكثير من الأطباء الشباب  هناك لا يملكون القابلية على تبادل المعلومة العلمية الطبية الانكليزية بيسر إلا بعد ترجمتها للغة العربية. كم ستكون الأمور صعبة في حالة المتابعة العلمية للتخصص الأعلى، لأن جميع المنشورات البحثية المتخصصة لا تصدر باللغة العربية وليس هناك إمكانية لترجمة جميع المنشورات العلمية العالمية إلى اللغة العربية. إن تعريب العلوم قد يكون عبئا إن لم يكن كارثة لأنه سيقف حجر عثرة في سبيل التطور العلمي. الصين و دول أخرى تُدرس بلغتها الأم وذلك لإمكانياتها الكبيرة وعدم انقطاعها الحضاري الكبير الذي أدى إلى التراكم العلمي الهائل الذي يعانيه العرب.
على ذلك نجد أن اللغة العربية الآن ليست بلغة علم وهذا ليس لقصور ذاتي تعاني منه بل لقصور الإمكانيات العربية الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. الترجمة العلمية يجب أن تشمل الدوريات القديمة والحديثة والكتب الأكاديمية وبمختلف الاختصاصات. إن محاولة كهذه تتطلب تظافر جهد عربي كبير جدا ومؤسسات نشر متخصصة استثمارية وجيش هائل من المترجمين المتخصصين لكل مجال. إنه ولا شك مشروع خيالي. المشكلة الأساسية وراء ذلك كانت يوم تخلى العرب عن العلم منذ قرون وبذلك خنقوا لغتهم وحنطوها. فهل سيتمكن العرب المعاصرون من إعادة اللغة العربية إلى العلم؟
‎© منبر الحرية،29 نونبر/تشرين الثاني 2010

نبيل علي صالح6 ديسمبر، 20100

قطر دولة عربية خليجية حديثة العهد في كل شيء، باعتبارها إحدى المشيخات الخليجية التي استقلت في العقود الأخيرة من القرن الماضي، وأعطيت فيها كرسي الحكم لعائلة آل ثاني، وأميرها حالياً هو الشيخ حمد الذي تمكن من إبعاد والده عن سدة الحكم، بعد ثورة بيضاء بسيطة غير مكلفة تمت بمساعدة بعض الأصدقاء الدوليين من هنا وهناك في تسعينيات القرن الماضي..
ولا تزال هذه الإمارة تثير الكثير من الجدل والنقاش السياسي الحامي والساخن أحياناً-   خاصة بعد استلام الشيخ حمد دفة الحكم السياسي مع وزير خارجيته المعروف بمكره ودهائه وربما أريحيته السياسية!!- حول بعض مواقفها السياسية غير المتوازنة وغير الطبيعية بحسب المعايير التي يعتمدها هذا الفريق أو ذاك ممن يرفضون تلك السياسات، فمن فتح مكاتب تجارية إسرائيلية اقتصادية وبدء مرحلة وئام وشبه صلح وتطبيع اقتصادي مع إسرائيل (قيل أنه أقفل بعد عدوان غزة2009)، إلى إقامة أكبر قاعدة عسكرية أميركية على أراضيها (قاعدة السيلية)، إلى استضافة وإقامة مختلف الأساطيل العسكرية الأميركية والغربية، وتوقيع معاهدة دفاع مشترك مع أمريكا.. الخ، وفي نفس الوقت استضافة كثير من رموز وقوى ما يسمى بالمقاومة والممانعة العربية (قومية ودينية، علمانية وأصولية)، من الشيشان وغير الشيشان، إلى تبنيها ودفاعها عن كثير من مواقف إيران وصداقتها معها، إلى صداقتها مع حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية، إلى إنشائها لقناة الجزيرة الإعلامية الفضائية التي تعتبر –بحسب الكثير من المراقبين والخبراء- معقل من معاقل الفكر الأصولي بمختلف تياراته ومشاربه الدينية الإخوانية والقومية، وقد استطاعت هذه القناة وعن جدارة كاملة أن تحقق ما عجزت عن تحقيقه كل وزارات الإعلام العربية على مستوى النقاش والحوار حول قضايا وإشكاليات ثقافية وسياسية، كان الحديث عنها من المحرمات مما أهلها لتكون المركز الإعلامي العربي الأول، وهي تحتل إلى الآن على أقل تقدير المرتبة الأولى بين كثير من القنوات الفضائية على صعيد المشاهدة والاتساع والاستقطاب وسعة الانتشار.
ولكن وبالرغم من كل ذلك، تبدو قطر بالفعل –ربما بسبب الثروات والأموال الواقعة تحت سيطرة وهيمنة شيوخها وأمرائها، وربما بسبب عمق صداقتها مع الكبار دولاً وحكومات ومنظمات وشخصيات مؤثرة-  قادرة على ملاعبة هؤلاء الكبار في داخل ساحاتهم وملاعبه،م لا بل وتوجيه بعض الانتصارات واللكمات الخفيفة ولكن المؤثرة على وجوهم..
من هنا، ليس شيئاً بسيطاً أو قليل القيمة أن تفوز دولة وإمارة قطر العربية الخليجية الصغيرة بملف تنظيم كأس العالم لكرة القدم (مونديال 2022)..
وليس أمراً صغيراً أبداً أن تقتنص قطر ملف التنظيم (ممن؟) من فم الأسد الأميركي الجريح اقتصادياً والمتراجع سياسياً..
وليس أمراً هيناً أن تفوز هذه الإمارة بشرف التنظيم بعد منافسة حامية الوطيس مع العملاق الأمريكي، الذي لا تأتي قطر شيئاً تجاهه على أي مستوى من المستويات السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية..الخ.
وبالمقابل، إنه لأمر غير مفهوم أن يقول أوباما (رئيس أكبر وأعظم دولة في العالم نافست قطر على استضافة المونديال المذكور): “إن تنظيم قطر وعدم فوز أمريكا بلده بالتنظيم هو أمر سيء وخاطئ للغاية”.. بل كان من الضروري –قياساً بموقعه المتقدم على رأس كبار ساسة العالم- أن يهنئ ويبارك لقطر –كبلد من العلم الثالث- هذا الانتصار الكبير المتحقق للمرة الأولى في الشرق الأوسط، وأن يتقبل الخسارة الطبيعية جداً بروح رياضية، سيما وأن بلده سبق لها أن استضافت مونديال عام 1994م، ولكنها السياسة وقلة الحيلة وربما العجز، هي التي جعلته يتنقل من حالة فشل سياسية إلى حالة فشل أخرى في أكثر من ملف دولي، فمن خسائره المكلفة في أفغانستان والعراق إلى خسارته السياسية الانتخابية المؤلمة الأخيرة (خسر حتى مقعده كسيناتور عن ولاية الينوي).. ولا ندري ربما لا يكون محظوظاً فيخسر –كما تشي وتؤكد كل التقارير واستطلاعات الرأي- انتخابات عام 2012 الرئاسية، هذا إن تم ترشيحه أصلاً من قبل حزبه الديمقراطي بعد فشله الذريع في معالجة أكثر من ملف دولي، وعلى رأسه تحريك عجلة ملف السلام العربي الإسرائيلي المتوقف منذ عدة سنوات، ويبدو أن تكليف الرئيس السابق بيل كلينتون –المعتاد على سياسة الخسائر خاصة مع زوجته هيلاري- بترؤس الفريق المكلف بتقديم ملف أمريكا لاستضافة مونديال 2022، لم يكن ذا فأل حسن على أميركا .
ويبدو أن أمريكا قد تأثرت كثيراً بفعل أزمة الاقتصاد العالمي التي ضربت أرجاء العالم كله منذ العام 2008، وربما أن الذي زاد في تعميق جرحها ومآسيها، وفاقم مشكلاتها ومعاناتها دولياً هو زيادة حجم تدخلاتها السياسية والعسكرية المباشرة في كل مكان، مما جعلها تدفع الأثمان والتكاليف الباهظة في كثير من دول العالم نتيجة تلك التدخلات، فمن حرب أفغانستان إلى حرب العراق إلى أزمات السودان وأفريقيا إلى أوروبا وملف درعها الصاروخي، إلى العلاقات المتأزمة نسبياً مع روسيا البوتينية، إلى ملفات الشرق الأوسط المعقدة (ومناخاتها الحارة ما بين نسائم السلام ولهيب الحرب المتوقعة!!!)، أجل لقد تورطت أمريكا في ملفات عسكرية عديدة جعلتها تفتقد القدرة على إدارة شؤون العالم لوحدها منفردة كما كان يحدث في السابق..
وقد كان في السابق يسيطر نوع من التفكير السياسي في العالم مفاده أن الفشل الحتمي سيكون من نصيب أي موقع أو أية جهة تفكر –حتى مجرد تفكير- في مواجهة تلك القوة الأميركية الضاربة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً (يصل الناتج القومي الأمريكي إلى أكثر كمن 9  تريليونات من الدولارات سنوياً، وتبلغ ميزانية وزارة الدفاع لوحدها حوالي 700 مليار دولار!!) أو حتى على مستوى مجرد رفض تعاليمها وسياساتها وضغوطاتها..
وبالفعل، يبدو أن هناك من بدأ يتجرأ على ذلك حالياً، فمن تهريب مئات الوثائق العسكرية والسياسية بالغة السرية، ونشرها على موقع “ويكيليكس” الذي يديره صحفي استرالي ملاحق وهارب، إلى رفض روسيا إقامة درع صاروخي في مواجهتها، إلى تمرد كثير من القوى الدولية عليها هنا وهناك في العالم..
وهكذا وصلت الأمور إلى حد أن يرفض الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا FIFA) ملف استضافة أمريكا لمونديال2022  ويعطي الفوز إلى دولة قطر التي لا تشكل شيئاً تجاه أميركا في أي مجال من المجالات كما ذكرنا، لا بل ربما تكون المساحة التي تشغلها القاعدة العسكرية الأميركية المتواجدة في قطر والتي يمكن مشاهدتها من نوافذ قناة الجزيرة القطرية، أكبر من مساحة الدولة ذاتها!!..
أفتح هنا هلالين لأقول: عندنا مثل شائع يقول “عندما تسقط البقرة تكثر سكاكينها”.. ويبدو أن هذا المثل ينطبق إلى حد ما على الفيل أو الأسد الأميركي الجريح.. فـ”ويكليكس” تضربه بلكمات “وثائقية” من هنا كما أسلفنا، وقطر تلاقيها بضربة فنية محكمة من هناك.. مضافاً إلى ما تلقاه (ويتلقاه) هذا الفيل الجريح من ضرب عسكري في كل من أفغانستان والعراق، وضرب سياسي في الشرق الأوسط، وتركيا، وروسيا وأوروبا وغيرها..
وإذا ما سألنا: لماذا حققت قطر هذا الانجاز؟ وعلى ماذا ارتكزت؟ وماذا لديها من إمكانات وثروات؟
في اعتقادي يمكن القول، الدول نوعان على مستوى الحجم والإرادة السياسية، دول كبيرة الحجم والمساحة، ولكنها فاقدة للجدية والإرادة السياسية الحقيقية الحرة، ودول صغيرة بحجمها ومساحتها، ولكنها تمتلك وتحوز على رؤية سياسية مع إرادة سياسية حقيقية لتنفيذ تلك الرؤية بحسب إمكاناتها المتاحة، ويمكن أن توظفها في غير موقع وملف لتبرز قوة سياسية يمكن أن يعتد برؤيتها وبرأيها ووزنها المعنوي المهم والمؤثر في عالم الكبار، وهذا هو حال قطر، كما نعتقد ونخمّن، فقطر كدولة صغيرة لديها الكثير من الموارد والثروات، وتتميز قيادتها المنفتحة على العالم، بوجود العزم والإرادة السياسية الجدية للدخول في كثير من الملفات والتحديات وربما المغامرات هنا وهناك..
وهذا ما وفر لتلك الدولة الصغيرة الكثير من الراحة السياسية والاستقرار الأمني والفعالية الاقتصادية، بحيث تحولت إلى واحة خليجية آمنة تعيش حالة قوية من الرخاء والرغد والهدوء على كل المستويات والأصعدة، أي أن الهدوء السياسي ومحاولة تجفيف منابع التوتر مع الدول المجاورة والبعيدة، وعدم مخاصمة أحد، حتى إسرائيل، أعطى ووفر لها الوقت والزمان اللازم للانتباه والالتفات إلى الداخل للعمل والبناء والإنجاز والتشييد وهذا ما أهلها لتكسب استضافة كأس العالم للعام 2022..
وفي أول تصريح لأمير قطر الشيخ حمد بعد الفوز بالاستضافة قال: “هذا اليوم هو من أحلى أيام العرب، ونتمنى أن توفق قطر لتنظيم البطولة بنجاح، ليفرح كل أبناء الدول العربية الذين سيأتون إلى قطر خلال البطولة، لقد كانوا يعتبرون أن قطر لا تستطيع فعل أي شيء لأنها دولة صغيرة مساحة وسكاناً، واليوم أثبتنا لهم أن قطر قادرة على أن تفعل أي شيء”..
طبعاً هذا التفوق القطري لم يقتصر فقط على الولايات المتحدة، بل تعداه إلى أكبر دول العالم اقتصاداً ومساحة وسكاناً، كاليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا.
وملف قطر الذي تم إعداده -لمن يريد الاستزادة المعلوماتية طبعاً- يتضمن تقديمات استثنائية شبه إعجازية، تقدم للمرة الأولى في تاريخ كأس العالم بحسب تأكيد وإشادة كل المراقبين والخبراء في عالم كرة القدم، حتى أنه تم بالفعل تجاوز عثرة درجات الحرارة المرتفعة خلال الصيف في تلك الإمارة، وذلك عبر تجهيز الملاعب -المنوي إنشاؤها لاحقاً- بأجهزة تبريد عالية الجودة وصديقة للبيئة (بفضل استخدام التكنولوجيا المتطورة التي جعلت نسبة الانبعاث الكربوني صفر بالمائة 0 %)، وذلك بفضل التقنيات المستدامة وأنظمة التبريد في الملاعب ومناطق التدريب والمتفرجين، حيث سيكون بمقدور واستطاعة اللاعبين والإداريين والجماهير التمتع ببيئة باردة ومكيفة في الهواء الطلق لا تتجاوز درجة حرارتها 27 درجة مئوية، إضافة إلى إقامة بنية تحتية مجهزة بأحدث المواصفات والتقنيات، إلى شبكات للمترو والقطارات تصل قطر بجيرانها بسهولة وأمان، ناهيك عن إمكانية مشاهدة3  مباريات يومية لمن يرغب وهو أمر غير مسبوق. من دون أن ننسى سهولة إقامة المنتخبات المشاركة والجماهير القادمة من الخارج، وعدم تكبدها مشقات السفر من منطقة إلى أخرى..
هذا وقد رصدت قطر ميزانية ضخمة بعشرات مليارات الدولارات لتنفيذ كل ما قدمته في ملفها على الأصعدة كافة، وستقام مباراتا الافتتاح والختام على استاد “لوسيل” الذي لم يبدأ العمل فيه حتى الآن، وتتسع مدرجاته لـ86  ألف متفرج، وسيكون محاطاً بالمياه وستستغرق عملية بنائه 4  سنوات، إذ من المتوقع انتهاء العمل فيه عام 2019م.
ووفقا للملف القطري، ستعمل قطر على تجديد 3  استادات وبناء 9  استادات أخرى، وستتوزع ملاعب البطولة على سبع مدن قطرية..
وإذا ما أردنا أن نتحدث عن الاستثمارات والمنافع والعوائد الاقتصادية التي ستنجم عن استضافة قطر للمونديال العالمي المذكور في العام 2022، فقد أشارت تقارير خبراء الاقتصاد إلى أنه ستتحقق حالة نمو غير مسبوقة في اقتصاديات رياضة كرة القدم في المنطقة إجمالاً يبلغ حجمه 14 مليار دولار.
وفوز قطر بشرف تنظيم الحدث العالمي الكبير سيرفع قيمة حقوق البث التلفزيوني في المنطقة بنسبة 30%  لتصل إلى 550  مليون دولار.
وهكذا يظهر لنا أن تنظيم كأس العالم ليس فقط مجرد حدث رياضي عابر يأتي ويذهب، ويتسابق فيه اللاعبون لركل كرة صغيرة هنا وهناك من ملعب أخضر لا تتعدى مساحته أكثر من 32  ألف متر مربع، بل أصبح هذا الحدث كرنفالاً دولياً وحدثاً عالمياً وكونياً بامتياز ذي أبعاد اقتصادية وعوائد مادية كبيرة على البلد الذي يحظى بشرف تنظيمه أيضاً، فضلاً عن كونه حواراً حضارياً عملياً بين كثير من شعوب وحضارات وثقافات العالم التي تتفاعل إنسانياً وتتواجد عملياً في موقع واحد وبقعة جغرافية واحدة تتبادل من خلالها الأفكار وتتلاقح المفاهيم، ويطلع فيها الناس -من مختلف المشارب والانتماءات والحضارات- على عادات وطبائع وثقافات بعضهم البعض في وحدة إنسانية متنوعة جميلة،وهذا ربما له آثار إيجابية على مستوى المساهمة في تخفيف حدة التوتر والتباعد بين الشعوب والأمم المختلفة، بما يؤدي لاحقاً إلى تحقيق مزيد من التواصل البشري الذي يلغي الفواصل والحدود والتمايزات..
نعم، لقد أصبحت كرة القدم لغة عالمية مثل الموسيقى (لغة العالم)، لأن اللعب الجميل الانسيابي في الملعب هو مثل الموسيقى العالمية الكلاسيكية يفهمها الجميع، ويعشقها الجميل، لأن الجمال بعد إنساني..
وما حدث من خلال الموافقة على ملف قطر لاستضافة مونديال 2022م، هو نوع من الدخول الآسر إلى التاريخ المستقبلي الكوني ومن أوسع الأبواب الإنسانية، وهو نوع من العملقة الاستثنائية، وقطر اليوم باتت مثل عروس تتهيأ وتتجهز للتزين بكل ألوان وتنوعات وجماليات العالم لتزف إلى عريسها القادم في العام 2022  بأبهى حلة وأجمل عنوان..
أخيراً، مبروك لقطر الفوز بالاستضافة التي ستدخلها مع المنطقة العربية عموماً باباً جديداً من أبواب الحضور العالمي المطلوب لما بعده أيضاً، ولعلها تفتح كذلك كثيراً من الأبواب والنوافذ المغلقة في عقول وطرائق تفكير مجتمعاتنا العربية المهمومة والمهمشة والمغيبة التي لا تزال تعتاش أو تعيش على أضغاث أحلام الفوز والانتصار التاريخي المجيد الدائم على الآخر في كل شيء، وتدّعي أشياء وأمور ليست فيها، ولا قبل لها بها، وربما تحفز تلك الاستضافة -والدخول للعصر الكوني من باب كرة القدم- العقول النائمة المقفلة على أفكارها وتعقيداتها وعقمها وشبه عجزها عن الانفتاح على الحياة والعصر والإنسان الآخر..
وهكذا ربما نحقق بالرياضة، ما عجزنا عن تحقيقه بالسياسة، وقد نحقق بالاقتصاد ما عجزنا وفشلنا –كنظم وتيارات- عن تحقيقه بالوسائل والآليات السياسية، وفي ظني أن حالة الجمود السياسي والتخشب الثقافي التاريخي العربي -على مستوى انعدام آفاق التغيير وفقدان آمال الإصلاح السياسي والعملي المعرفي والعلمي في عالمنا العربي-   ليس له من حل سريع وفوري إلا من خلال إغراق تلك المجتمعات العربية بثقافة الحرية واقتصاد الرفاه بما فيها إغراقهم بما يمكن أن نسميه بالاقتصاد الرياضي..
جربوا هذا الحل، لعل وعسى!؟.. وربما يكون مدخلاً فعالاً لحلحلة الكثير من تعقيدات وعلائق السياسة العربية المتخبطة التي عجز الجميع –موالاةً ومعارضةً- عن فك رموزها وطلاسمها وعقدها ومبهماتها التاريخية والمعاصرة..
‎© منبر الحرية،5 دجنبر/كانون الأول 2010

peshwazarabic6 ديسمبر، 20100

كيفما التفتنا إلى محيطنا العربي نجد عالماً متشابهاً في الاتجاهات ويمر بنفس الخصوصيات والصعوبات. ويمثل العالم العربي واحة ثقافية واحدة (مليئة بالتنوع والاختلاف). ولو نظرنا إلى الحركات السياسية: إسلامية أو وطنية وقومية أو إصلاحية وشعبية لوجدنا هموماً متقاربة وصعوبات متشابهة. لكن هذا كله واجه تحدياً كبيراً في الممارسة والتطبيق، إذ واجهت الدول العربية مصاعب جمة في البناء الوطني المحلي وواجهت في نفس الوقت واقعاً ذاتياً وآخر إقليميا لم تعرف كيف تتعامل معه بإبداع وعصرية. وبينما عكست الفكرة الإسلامية والقومية السابقة (بأبعادها السياسية) طبيعة التواصل العربي العربي والعربي الإسلامي، إلا أن وصول الفكرتين إلى أزمات، بالإضافة إلى تعمق أزمات الدول والأقطار المختلفة، يتطلب من العرب البحث عن طرق جديدة. إن دعوات الإسلاميين للاستنارة من عصور اندثرت قابلتها دعوات القوميين بضرورة التوحد، ولكن الحقيقة الغائبة في الوسط بقيت في الإدارة والقيادة والتعليم والمشروع الوطني والتجديد والبرامج والتفاعل مع الاختلاف والتنوع والإيمان بحقوق الآخرين وحرياتهم. في الطريق العربي الجديد يجب أن يتنافس العرب مع بعضهم ومع الآخرين في المجالات التي يجب على العرب إتقانها: العلم والتكنولوجيا، الإدارة والثقافة والاقتصاد والحقوق والحريات والمساواة وصناديق الاقتراع. الطريق الجديد يجب أن يكون خالياً من «العسكرية» والديكتاتورية الفردية التي أدت إلى الكثير من كوارثنا.
ويتضح أيضا أن حرب العراق منذ ٢٠٠٣ هي كبانوراما ما بعد الحرب الأولى عام ١٩١٨ وسايكس بيكو الشهير الذي جاء معها. وقد يصح القول بأن العالم العربي يعيش مرحلة خاصة لها صفات تجمع بين الفوضى والعنف كما تجمع بين الغضب والرفض وتصادم الحضارات وتصادم الأفكار، لكن كل هذا بإمكانه أن يتحول إلى فرصة لإعادة النظر والتساؤل والبناء على ما يبدو أنه تهدّم أو في طريقه إلى السقوط. وفي هذا تتداخل المشاهد: فقد نشاهد مزيداً من العنف في العراق قبل أن نشاهد هدوءاً واستقراراً، كما قد نشاهد مزيداً من الإرهاب في العالم العربي قبل أن نرى بوادر إصلاح يمتص الإرهاب ويحوّله إلى البناء والإنجاز والحريات والحقوق، وقد نشاهد الكثير من الفوضى في دول عربية عديدة قبل أن نتوصل إلى ضرورات النظام والتطوير والمساءلة. إن هذه المرحلة تحمل في طياتها الكثير من الاحتمالات. إذ قد تأخذ العالم العربي نحو مزيد من الصراع وتعميق الخلافات الداخلية والدولية في ظل التفتت والخسائر، ولكنها في نفس الوقت قد تقودهم نحو نقيض ذلك لو أحسن بعض العرب التعامل مع مقدماتها واستغلال بعض فرصها.
إننا نمر في مرحلة تشعر فيها الدولة في معظم الأقطار العربية أنها محاصرة من الداخل والخارج، وأنها في نفس الوقت لا تقوى على القيام بدورها اتجاه مواطنيها في المجال الأمني والإنجازي والسياسي والحياتي، فالدولة في البلاد العربية هي الطرف الأكثر عجزاً بعد أن ساهمت على مدى عقود عدة في دفع الشعوب نحو حالة من الاتكالية والتفتت والضعف. الدول العربية في هذا أصبحت ضحية نفسها وما زرعته على مدى العقود الماضية. في المشهد العربي نشاهد ضعف الإنجازات، ونشعر بعمق الفساد المرتبط أيضا بعدم الثقة بالمستقبل وبضعف القيم المهنية والأخلاقية، كما نواجه وضعاً يحتوي على خطوة ايجابية في الصباح مقابل خطوة سلبية في المساء. ألا يجب أن نتساءل كيف تحوّلنا من القومية الجامعة الشاملة وحركات القوميين العرب والناصريين ثم حركات الإسلاميين القائلة بقوة الإسلام، إلى قبائل وطوائف وفئات يخاف كل منها الآخر؟ ألا نتساءل كيف تحولنا من العروبة إلى الأقطار المستقلة إلى حكم الفرد بلا شعوب وبلا مجتمع مدني وبلا مشاركة وبلا تعددية صادقة؟ ما يقع في دول عربية عدة من العراق إلى اليمن ومن مصر إلى لبنان، وفي دول إسلامية على رأسها أفغانستان وباكستان يؤكد بأننا نعاني نقصاً كبيراً في التعامل مع العصر الحديث وفي استيعاب أسس بناء الدول والمجتمعات المنجزة.
لقد أصبحنا في المرحلة الأخيرة ضد كل شيء: ضد أنفسنا وضد بعضنا البعض، ضد السنة وضد الشيعة وضد المسيحيين وضد الدين والحريات وأميركا والمرأة والشباب والإسلام والعروبة والحكومات والعولمة، والقرارات الدولية، وضد الغرب. ولكننا لسنا مع أي شيء. أصبحنا ضد من يختلف معنا ويختلف عنا ولكننا لسنا مع احد ولسنا مع أنفسنا قبل كل شيء. لهذا بالتحديد نتواجه اليوم مع حقيقتنا فلا تعجبنا، ونتواجه مع مرآتنا فلا نحب ما نراه، وعندما نسمع صدى أصواتنا نكتشف الكثير عمّا حل بنا. اليوم نمر في ممر تاريخي ضيق، وتعصف بنا رياح عاتية لم نستعدّ لها.
كيف نخرج من هذه الشرنقة، وكيف يكون مستقبلنا خارج أليافها؟ كيف نغير من حالنا وكيف ننطلق من جديد؟ أسئلة ستشغلنا في سنواتنا القادمة. المنطق العربي الذي ميزنا في حدته ولفظيته وعلو نبرته واستفراده يحتاج إلى مراجعة صادقة اليوم. يحتاج عالم العرب إلى وقفة مع الذات. علينا أن نتساءل: هل وصل العرب إلى قاع القاع أم أننا سنشهد مزيداً من الهبوط؟
قد يكون الحائل بين مستقبل يسير هبوطاً وبين مستقبل يسير صعوداً مرتبطاً بمقدرة العرب أفرادا ودولاً، مجتمعات وشعوباً، على إحياء الروح النقدية وإحياء روح التساؤل والمراجعة وفوق كل شيء استعادة الحرية التي فقدتها الأجيال العربية طوال العقود السابقة. آن الأوان للتساؤل: أليست مشكلتنا حتى اليوم مرتبطة بضعف مقدرتنا على الترابط الخلاق مع الاتجاهات الكونية وفي تقدير المواقف وفي التنظيم وأسلوب القيادة وفي الرؤية والأهداف والأولويات؟ وهل هذا ممكن بلا حريات وبلا ثقافة تسنده وروح عصرية تغنيه؟ لا ينقص شعوبنا الاستعداد للتضحية كما تؤكد أحداث العقود الماضية ومواجهة حركة «حماس» لإسرائيل في غزة وحرب لبنان عام 2006 بينها وبين «حزب الله» وعشرات الحروب والمعارك مع إسرائيل ومع بعضنا البعض، لكن تنقصنا إدارة التحالفات وبناء الإجماع وتطوير الحريات ومبادئ المساواة والإنجاز والقبول بالآخر ضمن مجتمعاتنا وفي العالم الأوسع. نتساءل كيف حصدنا عكس ما ضحينا من أجله؟ فهل المشكلة في الأهداف، أم في التقدير، وهل هي في البرامج أم في القيادات أم هي في الثقافة الأوسع ونقص الحريات وضمور الآراء المختلفة وإبعاد المخالفين في الرأي ومحدودية السياسة التي أسسناها إلى يومنا هذا؟

المصدر: الحياة
‎© منبر الحرية،18 نونبر/تشرين الثاني 2010

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

لا يكل صديقي “صابر أيوب” من شكر الله شكراً كثيراً وحمده بُكرةً وأصيلاً، لأنه ما زال يحتمل ما يتعرض له من مواقف وأحداث دون أن يستسلم لليأس والإحباط كما فعل زميله “عبد الحميد” الذي ألقى بنفسه من أعلى أحد الكباري إلى قاع النيل.
وعبد الحميد –لمن لا يعرف- شاب مكافح، فقد تحمَّل بنفسه توفير مصاريف دراسته حتى تخرج في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتفوق.. ونال شهادة تقدير (الطالب المثالي) في دورة تشجيع العمل الحر، وشهادة أخرى لمشاركته في منتدى الشباب بقرطاج ممثلا لبلاده، وثالثة من دورة تكنولوجيا المعلومات، ورابعة في تنظيم دورة تأهيلية للالتحاق بالسلك الدبلوماسي، وكان على وشك مناقشة رسالة الماجستير، وجميع أساتذته يقدرونه ويتوقعون له مستقبلا عظيما.
لهذا تصور أن بمقدوره أن يتقدم للالتحاق بوظيفة “ملحق تجاري” بوزارة الخارجية. ومن المصادفات الجديرة بالملاحظة أن بقية المتقدمين لشغل هذه الوظيفة كانوا من الحاصلين على الدورة التأهيلية للالتحاق بالسلك الدبلوماسي، التي نظمها وشارك فيها محاضراً، لذا كان طبيعياً أن يتخطى الامتحان التحريري والشفوي بجدارة، بيد أنه الوحيد من بين 43 متقدما الذي رسب في النهاية. وفي كشوف النتيجة المعلقة على الحائط الخارجي ظهر اسمه كاملا: “عبد الحميد علي شتا”، وبجواره السبب الوحيد بارزاً في صلافة: “غير لائق اجتماعياً”!!
… بعد تعرُّضه لهذه الصدمة وُجدت جثته في قاع النيل.
انشغل الناس بهذه الحادثة ثم -كما يحدث في كل قضايانا المصيرية- تضاءل هذا الاهتمام إلى أن طواه النسيان، واستمرت الأمور على وتيرتها الرتيبة إلا مع صديقي الذي ظل يتذكر الحادث المؤلم، وفي كل مرة يأخذ شهيقاً عميقاً ويحتفظ به في صدره لفترةٍ ثم يطلقه زفرةً حارةً ويكرر في حسرةٍ: “ليت زميلي عبد الحميد عاش في زمن الجواري والعبيد، فكم من جارية مجهولة النسب وصلت بذكائها أو بجمالها أو بمجرد إجادتها للعزف والغناء، إلى سدة الحكم والرياسة، وكم من عبد لا يعرف أسياده هويته شق طريقه بنباهته وشجاعته حتى أصبح قائدا للجيوش أو حاكما للبلاد أو مؤسس دولة تستمر بعد موته لأجيال وأجيال”..
ثم يبدأ صاحبي صابر في سرد المواقف المشابهة التي تعرض لها، فقد حاول في صباه أن يلتحق بـ “الثانوية العسكرية” لكي يسهل عليه بعدها التقدم لإحدى الكليات “السيادية”، وعجز وقتها عن الحصول على “تزكية” رغم تفوقه الدراسي وارتفاع لياقته البدنية وإجادته للعديد من الرياضات.. ورغم حصوله على الثانوية “العامة” بمجموع كبير جعله من بين العشرة الأوائل على مستوى الجمهورية عاوده حنينه الأول ففشل ثانية للسبب نفسه فاضطر لمواصلة الدراسة في كلية مدنية لا تحتاج لـ “كارت توصية”. وتفوق كعادته وظل يتقدم لأي وظيفة يسمع عنها ودائما كان يسبقه إليها من هم أعلى منه في طبقات الهرم الاجتماعي.
ما حدث مع عبد الحميد، وما زال يقع مع صابر، هو الوجه الآخر لحوادث “التوريث” المتجذرة في حياتنا اليومية دون أن ينكرها أو يلتفت لوجودها أحد. وهذا الوجه يترتب بالضرورة على الوجه الأول، فمعنى أن يحصل شخص ما على وظيفة لا يستحقها، أن هناك من كان يستحق هذه الوظيفة وتم حجبها عنه أو منعه من الوصول إليها، حتى أصبح أمثال صابر وعبد الحميد يشكلون نسبة كبيرة من أبناء الوطن منهم من قضى نحبه، ومنهم من تأقلم مع الظروف القائمة، ومنهم من اختصر الطريق فاحترف التسول أو بيع السلع التافهة، ومنهم أيضا من سوَّغ لنفسه طرق الانحراف وبرع فيها لأن النابغ أينما توجهه الأحداث لا يعدم الحيلة.
وللتوريث في حياتنا بوجهيه (منح من لا يستحق، ومنع من يستحق) مظاهر كثيرة يتناقلها الجميع ولا ينكرها أحد وتتمتع بقوة أعلى من قوة القانون.
من بين هذه المظاهر أن بعض المؤسسات الحكومية تعطي لأبناء العاملين فيها أولوية مطلقة في شغل ما يشغر بها من وظائف، وهناك ما يعرف بـ “الإعلانات الداخلية” عن الوظائف المطلوب شغلها، وبالطبع لا يعلم بهذه الإعلانات إلا العاملون داخل هذه الهيئة أو تلك الإدارة، وبالتالي لن يخبروا بها إلا أقرب الأقربين، ناهيك عن الانتهاء من اختيار المحظوظين قبل الإعلان الشكلي عن الوظيفة التي كانت شاغرة.
وهناك عائلات شهيرة في أكثر من “جمهورية” عربية لا يخلو منها أي تشكيل وزاري، وبعض الدوائر الانتخابية تظل حكرا على عائلات بعينها لا ينازعها عليها أحد، وأحياناً يتم تقسيم المقاعد النيابية في هذه الدوائر بين عدد محدود من العائلات، وفي الساحة الإعلامية تتعاقب الأجيال وتبقى أسماء معروفة للمتابع البسيط. ولا يمنع ذكر أمثلة لهذه الأسماء إلا الحرص على عدم شخصنة القضية.
وبعيدا عن الكليات السيادية –إن صح هذا التعبير الذي وصفها به صاحبنا- حدث غير مرة، في أكثر من كلية -وبشهادة أشخاص عدول- أن قرر مجلس أحد الأقسام عدم تعيين معيدين لمدة ثلاث سنوات لتفريغ هيئة التدريس حتى يضمن أحد المسؤولين النافذين تعيين نجله الذي التحق بهذا القسم وهو لا يزال في الفرقة الأولى.
ولا تختلف شروط الالتحاق بسلك القضاء عن مثيلتها في السلك الدبلوماسي ولا في الكليات السيادية، ولا المؤسسات الرسمية.
وثمة نوع آخر من أشكال التوريث يختلف قليلا عن الأنواع السابقة بغياب عصبية النسب واعتماد التوجه الأيديولوجي –إن صح الوصف ووُجد الموصوف- ويتمثل في سيطرة بعض التنظيمات السياسية أو الجماعات الدينية على بعض القطاعات فيقتصر إسناد الوظائف فيها على “الرفاق” أو “الإخوة” –بحسب الجبهة المهيمنة- ولا يحق لمن عداهم الوصول إلى هذه الأماكن، وهو ما يُطلَق عليه لفظ “الشللية”.. ويظهر هذا النوع من التوريث أكثر ما يظهر -للأسف الشديد- في المؤسسات الإعلامية والثقافية..
لا تقتصر خطورة هذه السلوكيات على ما يلحق بالأفراد المحرومين من غبن وظلم، إنما تمتد إلى ما يلحق بالمجتمع من خسائر نتيجة حرمانه من جهود وكفاءات وعقول ومهارات تم استبعاد أصحابها من العمل في أماكن تحتاج لإمكاناتهم.
يبقى السؤال الملح: ما مستوى أداء أي شخص قَبِلَ أن يبدأ حياته العملية بهذه الطريقة المشبوهة، وما مدى إخلاصه لأبناء المجتمع الذين خطا فوق رقاب بعضهم ليصل إلى ما وصل إليه؟
أما مناوئو توريث رئاسة الجمهورية فعليهم أن ينظروا للصورة بكل تفاصيلها وأن يعلنوا موقفهم صراحة، دون مناورة، من أشكال التوريث البغيضة على جميع المستويات وليس فقط على مستوى الإمامة الكبرى..
‎© منبر الحرية،24 أكتوبر/تشرين الأول 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20101

شفيق ناظم الغبرا * وعماد عمر **
في الظلمة العربية الحالكة، يساهم الإعلام العربي المتنوع بصورته المرئية وبتنوعاته عبر الإنترنت (الإعلام الإلكتروني) والصحافة والمدونات و»اليوتيوب» والشبكات الاجتماعية في إحداث تغيرات نوعية لمصلحة المعرفة والتنوير. فإلى جانب تقديمه وعلى مدى أكثر من عقد للمادة الإعلامية المسلية يقدم الإعلام العربي الصاعد معلومات وافرة تميل إلى الدقة والعلمية، وتوفر مساحة رأي ورأي مضاد تلامس الخطوط الحمراء التي رسمتها الأنظمة السياسية. فهو يناقش عبر برامجه السياسية والاجتماعية بانفتاح مضطرد حقوق الإنسان وحقوق المرأة، وعلاقات الطوائف وحقوق الأقليات والديمقراطية وتداول السلطة والمسائل الاجتماعية والدينية الحساسة. هذا الإعلام يتوسع كل يوم ويشرك باضطراد قاعدة أكبر من الجمهور العربي في نقاشاته وبرامجه بخاصة في ظل مجانيته وسهولة وصوله إلى القطاعات الشعبية. بل وصل الأمر أن الدول الرئيسية في العالم بدأت هي الأخرى إعلاما تلفزيونياً ناطقاً بالعربية كما فعلت فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وتركيا وروسيا وكوريا الجنوبية.
وعلى رغم تمويل القطاع الخاص العربي والحكومات العربية لهذا الإعلام الجديد، إلا أن تنوع الأجندات واختلاف وسائل الإعلام، ساهما في إضعاف التوجهات التي تمثلها كل وسيلة إعلامية مما عاد بالفائدة على المواطن والفرد المشاهد. فبإمكان كل فريق في العالم العربي مهما بلغت معارضته أن يوصل رسالته إلى جمهوره عبر وسائل الإعلام المختلفة. وما لا نراه في «الجزيرة» نتابعه في «العربية»، وما لا نلتقطه في المحطات المصرية نلمحه في «المستقبل» و»المنار» اللبنانيتين. هذا الانفتاح الإعلامي أعطى المساحة للمشاهد الذي ينتقي وفق ما يريد.
ويتجه الإعلام العربي في مرحلته الجديدة نحو التخصص. فهناك محطات سياسية وإخبارية إلى جانب الموسيقية، وهناك محطات خاصة بالمرأة إلى جانب محطات اقتصادية وتاريخية ودينية ووثائقية وأخرى شبابية وصحية ودراما وكرتون وغيرها. لقد أصبح كل هذا صناعة متكاملة وبنكهة شرقية عززت صناعة الدراما ودور البحث وإعادة اكتشاف التاريخ والتوثيق.
سابقاً، لجأ الكثير من العرب إلى الإعلام الإسرائيلي الموجه وهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، لاستقاء المعلومات عن الدول العربية والانقلابات والثورات والاتهامات والحروب، بل عرف جيلنا والجيل الذي سبقنا نبأ سقوط الضفة الغربية وغزة والقدس وسيناء والجولان عام 1967 من الـ «بي بي سي» وليس من إعلامنا العربي. حتى بين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر كانت متابعة الإعلام الإسرائيلي تعود لضعف صدقية الإعلام العربي بعد هزيمة 67. ولكن يمكن القول أن تأثير الإعلام الإسرائيلي على الجمهور العربي قد تلاشى في السنوات العشر الماضية لمصلحة متابعة «الجزيرة» و «المنار» و «العربية» وغيرها.
ويلعب الإعلام العربي دوراً أهم في الصراع العربي- الإسرائيلي، وتجلى ذلك بعد عملية اغتيال المبحوح في دبي حيث استثمر قائد شرطة دبي، ضاحي خلفان، الإعلام العربي بما فيه إعلام دبي لكشف تفاصيل العملية التي قام بها الموساد الإسرائيلي. بل أدى ذلك إلى قيام أزمة دبلوماسية بين إسرائيل والغرب. وقد عبرت هذه الفعالية الإعلامية عن نفسها في حرب غزة التي بدأت في كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨ والتي انتهت إلى تقرير غولدستون الذي شكل سابقة مهمة في إدانة الهجمات الإسرائيلية على المدنيين الفلسطينيين. وينطبق الأمر نفسه على الاعتداء الإسرائيلي على لبنان في 2006، حيث تغيرت النظرة في الإقليم إلى حصانة الجيش الإسرائيلي.
إن كل ما وقع من تغيرات في الإعلام العربي أدى إلى تطوير مهنة الصحافة العربية وخلق احترام جديد لها. لم يعد الصحافي والإعلامي مضطراً لأن يهجو ويمدح لحساب أجهزة ودول كما كان حال الصحافة في الستينات والسبعينات من القرن العشرين. فالصحافي العربي أكثر استقلالية من السابق وقادر على الانتقال من محطة إلى أخرى بسهولة ويسر وفق قناعاته. بل إن عدداً من الصحافيين يعمل لأكثر من وسيلة إعلامية في الوقت نفسه بينما ينشىء مدونته الخاصة ويعبر عن رأيه في وسائل إعلام دولية. كما أن بعض الصحافيين العرب ترك مؤسسات إعلامية مؤثرة كتسجيل موقف ورفض لسياسة المؤسسة.
وقد نتج من هذه الاستقلالية بروز رموز إعلامية عربية ذات صدقية ومكانة في الساحة العربية، بل إن بعض هذه الرموز يكتسب قيمة تتجاوز المؤسسات التي يعمل فيها. والأهم أن المرأة العربية وجدت مكاناً بارزاً لها في الإعلام العربي، فهناك رموز نسائية مؤثرة وقيادية في هذا الإعلام. هذه القيادية التي تبرز عبر وسائل الإعلام مرتبطة بتعطش العرب إلى الرموز نتيجة غياب الحريات والديمقراطية. هناك شوق بين الجمهور العربي للرأي الجريء والمقنع. بل يعزز هذه الرمزية قيام صحافيين عرب بتقديم حياتهم ثمناً لعملهم الصحافي الميداني في أماكن النزاع والحروب في العقد الماضي.
هذا لا يعني بالضرورة خفوت صوت الإعلام الموجه وإعلام التبجيل والهجاء، وقد يكون السبب في ذلك أن ظروف الصراعات في المنطقة تسيّس المجتمعات إلى جانب غياب الديمقراطية. إن التناقض بين الانفتاح وقبول الآخر وبين الانغلاق سيبقى عنصراً مؤثراً في الإعلام العربي ما يعكس طبيعة المجتمعات العربية وواقع أنظمتها السياسية في هذه المرحلة.
إن عددا من المظاهر السلبية لا زالت مستشرية في الإعلام العربي مثل سيطرة «الشللية» و«التحزب الضيق»، بالإضافة إلى انتشار حالة تعال من قبل بعض وسائل الإعلام إداريا على الإعلاميين وحقوقهم ودورهم. فالكثير من أمراض الإدارة المنتشرة في العالم العربي مثل المزاجية في صنع القرار، وعدم إشراك القطاعات الأساسية والفاعلة وصانعي الحدث في القرار تؤدي إلى ضيق في صفوف الإعلاميين. وبما أن الإعلامي هو الأساس في عملية صناعة الإعلام فمن الصعب نجاح الإدارة الإعلامية من دون مشاركة فاعلة للإعلاميين في طريقة الإدارة وفي حماية حقوقهم وصون تصوراتهم.
وقد نتج من قوة الإعلام العربي الإقليمي، إعلام محلي خاص ذو نكهة مستقلة على حساب الإعلام الحكومي الذي يزداد ضعفاً. ويمثل الإعلام المحلي الخاص والذي يركز على القضايا المحلية في كل من مصر والكويت ولبنان وفلسطين والعراق مثالاً واضحاً لهذه الظاهرة المتنامية. وبعض الإعلام المحلي الخاص لا يتعدى بثه حدود منطقة كما يحدث اليوم في فلسطين في مناطق السلطة الفلسطينية. هذا مؤشر ايجابي وعنصر مساعد للتنمية والوعي المحلي.
وفي ظل الإعلام الجديد لم يعد المنع الرسمي الذي تمارسه الحكومات إلى يومنا هذا بحق المفكرين أو الكتاب أو المؤلفين قابلاً للتحقيق. فبعض اشد المعارضين يمكنه إلقاء محاضراته كاملة عبر وسائل الإعلام فيراها كل من يريد كما فعل نصر حامد ابوزيد عندما منع من زيارة الكويت، وما قد تمنعه «الجزيرة» تبثه «العربية» وما تمنعه «العربية» تبثه «الجزيرة» أو «بي بي سي» او «ال بي سي» ومحطات «روتانا» أو «اوربت». وبالطبع هذا يعني أننا نزداد تقبلاً للرأي الآخر مهما كان غريباً عنا.
وعلى رغم التمويل الخليجي لهذا الإعلام إلا أن الخبر الخليجي وتغطية الشأن الخليجي هي الأقل في وسائل الإعلام العربية. وربما يقع هذا لأن الأحوال تبدو مستقرة في منطقة الخليج نسبة إلى الأحوال في فلسطين ولبنان والعراق واليمن وإيران، أو قد تكون بسبب شدة الحساسية في دول الخليج لما يقال في العلن ويكتب. إن المرحلة القادمة يجب أن تتضمن تثوير طريقة تناول الخبر الخليجي الذي يخص القادة والمسؤولين والأوضاع والسياسات والمجتمعات والاقتصاد والأحداث في دول الخليج. فهناك بالتأكيد أحداث تقع في هذه الدول ترقى إلى مستوى الخبر والحدث العربي والدولي.
الإعلام العربي قادر على التأثير عربياً بما لم يتوقعه أي من الحالمين بهذا الإعلام المفتوح، كما انه بدأ يؤثر على صياغة الخبر العالمي الخاص بالعالم العربي. لهذا سيستمر الإعلام جاذباً للممولين والمستثمرين الجدد، ومعه سيزداد دور الإعلام المتخصص، وسيمس كل أشكال الإعلام المكتوب والإلكتروني والمسموع والمرئي. في المرحلة القادمة سيتعزز دور المؤسسة الإعلامية المتعددة الأشكال والوسائط وسيساهم هذا في بناء المعرفة اللازمة لمجتمعات تريد هذه المعرفة. وسيستمر الصحافيون في التنقل بين المؤسسات الإعلامية حفاظاً على استقلاليتهم كما سيتعزز دور الرموز الإعلامية. في البلاد العربية الحاجة ماسة إلى إعلام مستنير يدفع بمشروع التنمية والارتقاء إلى الأمام. في الإعلام العربي الجديد قوة صاعدة تترك أثرا يتجاوز ما قد تراه أعيننا.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
** كاتب فلسطيني متخصص في الإعلام
‎© منبر الحرية،20 أكتوبر/تشرين الأول 2010

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

يعتبر بعض المثقفين والنخب الفكرية والسياسية أنّ الأديان والطوائف والعشائر والقبائل –بفكرها وأعرافها وأنماطها السلوكية- تقف على تضاد (وطرفي نقيض) مع صيغة الدولة الحديثة باعتبارها مؤسسة متكاملة الأبعاد والجوانب. وتبعاً لذلك فإن هذه الانتماءات ما قبل الوطنية والقومية (والتي ترتد بحسب زعمهم إلى منطقة القاع الحضاري الماضوي الجامد للأمة) تشكل –بمجملها- حواجز ومعيقات عملية تحول دون الانتقال إلى المجتمع المدني وحكم دولة القانون والمؤسسات التي تشكل غاية الاجتماع المدني الإنساني، حيث ستصر تلك الانتماءات على التمظهر –الإرادي أو القسري- في داخل ثنايا مؤسسات هذا المجتمع، بما يمكّنها من الظهور والحضور المتواصل في مختلف جوانبه وامتداداته، وبالتالي ستؤول إليها في النهاية دفة السيطرة على الدولة الناظمة لحركية المجتمع بمختلف مواقعه ومؤسساته وهيئاته.
والأمر الذي نستغربه كثيراً في طبيعة هذا الطرح -وغيره من الطروحات المتماهية فيه أو المتوازية معه- هو إصراره الشديد على الخلط وعدم التمييز والتفريق بين الدين كحالة حضارية، وتجربة إنسانية لها مكوناتها الروحية -بالغة الرقي والتكامل- في الفكر والإحساس والممارسة، وبين الطائفية (والقبلية و…) كحالة عشائرية ليست من الدين في شيء. فالدين له مضمون ثقافي وروحي واجتماعي يتصل بالحياة وبالتحديات والمخاطر المتنوعة التي تواجه الإنسان فيها في قضايا الوعي والمسؤولية، والحرية والحق والباطل، والظلم والعدل، وما إلى ذلك. ويوجد لهذا المضمون خطاب عملي يريد من خلاله أتباع هذا الدين -وهذا من حقهم بالطبيعة والفطرة- تحشيد الناس حول فكرته الحضارية في سياق عملية الإصلاح والتغيير. تماماً مثل أي فكر أو تيار آخر يريد أن يدعو إلى مبادئه وطروحاته، ويخاطب الجمهور عارضاً عليه أفكاره ومفاهيمه التي ينبغي ألا تتناقض لدى الجميع (من أتباع الحركات العلمانية أو الدينية) –في العمق الفكري والعملي- مع صيغة الدولة الحديثة (القائمة على العلمنة والحرية والمسؤولية وتداول السلطة والدعوة السلمية الحضارية)، باعتبارها (أي الدولة) أهم ظاهرة اكتشفها أو توصل إليها الإنسان في سياق سيرورته التطورية ووعيه لوجوده الذاتي والموضوعي.
وهنا نلاحظ أن كل خطاب تغييري (أو إصلاحي) لابد أن ينطلق في الحياة من خلال وجود قواعد ومرتكزات ثقافية حياتية إنسانية، الأمر الذي يلزمه -بحكم ضرورة امتداده إلى الساحة الحياتية العامة- بأن يأخذ ببعض الأساليب والأجواء السياسية والاجتماعية، عندما تتصل قضية السياسة بقضية المصير الإنساني. أما الحديث عن ماضوية وجمود الانتماء والخطاب الديني عند بعض المثقفين فإنه يشبه تماماً الحديث عن ماضوية وجمود الخطاب السياسي والاجتماعي المعبّر عن مضمون ثقافي معين خاص بهذا الطرف أو ذاك، ألا يمكننا الحديث مثلاً عن جمود وماضوية الخطاب الفكري عن الحركات والتيارات التي تتبع المنهج والأيدولوجيا المادية الديالكتيكية التي مضى عليها أكثر من مائة عام، خصوصاً وأن تطبيقاتها على الأرض ألحقت دماراً هائلاً بالإنسان والواقع، وكلفت البشرية كثيراً من الدماء والدموع، ثم إن الماضي -أساساً- هو تجربة أناس عاشوا قبلنا فانطلقوا من خلال ظروفهم الموضوعية الثقافية والبيئية، وأوضاعهم الخاصة والعامة ليكسبوا فكراً وعلماً وتاريخاً. أي ليكون لهم حضور ودور معين بين باقي الأمم والحضارات، ولذلك فإن الماضي شأنهم هم وليس شأننا، إلاّ بمقدار ما يحتاجه الحاضر من الماضي، باعتبار أن الماضي قد يختزن في داخله بعض القضايا المهمة والأفكار الحقيقية التي تتصل بالحياة، وبأساس وجود الإنسان فيها. لأنها من خصوصيات الحياة، وليستْ من خصوصيات الزمن في عناصره الذاتية الضيقة والمحدودة. فالحياة تحتاج إلى أن تعطى بعض الأفكار في جميع مراحلها. ولذلك فإننا لا نستطيع أن نعتبر فكر المفكرين وثقافة المثقفين الذين قدموا لها تلك الأفكار فكراً وثقافةً ماضية، لأنه توجد أفكار من الماضي يمكن أن تكون صالحة للحياة في مدى الزمن كله، بحيث يكون الماضي مجرد حينٍ أو ظرف لها. فقيم ومبادئ العدل والحرية والعلم والتطور والتنمية، قيم ثابتة، ولكن مفاعيلها متغيرة وهي تكاد تكون هوية ثابتة في أي مجتمع حديث ومتطور.
ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أنّ هناك معارف وأفكاراً تنطلق من خصوصيات زمانية ومكانية. أي أنها تخص الذين سبقونا في فكرهم وحياتهم وتجاربهم وخبراتهم بما يجعل إعادة إنتاجها أمراً مستحيلاً. ولكن تتم إعادة درسها وتحليلها وتفكيكها من باب التذكرة وأخذ الدروس والعبر التي يمكن أن تقدمها لإغناء تجارب الحاضر. أي أن نجعل من الماضي ساحة للدرس والاعتبار على المستويين السلبي والإيجابي، وهو مجرد إطار للفكرة وللحركة في الواقع.
وهذا الوعي الفعال بمكتسبات وأعمال الماضي لا يمكن أن يقودنا إلى تقديس أفكاره بما يحتويه من عناصر القداسة التي لا تتصل بزمن معين، ولكنها تتصل -كما ذكرنا- بالحياة. فأفكار “الحرية” و”العدالة” و”التقدم” هي قيم ثابتة ومقدسة في كل طور ودور.
من هذا المنطلق نحن نؤكد على أن تلك الانتماءات التي تعتبر -على حد زعم تلك النخب- “ماضوية” و “ما قبل وطنية أو قومية”، يمكن أن تكون سبباً وجيهاً للتوحد والتنوع الإيجابي المثمر، بما يغني المشروع الاجتماعي والثقافي لمجتمعاتنا العربية الغنية بالتنوعات الفكرية والاثنيات والقوميات والأديان والمذاهب المتعددة، مثل الحديقة الغناء الممتلئة بكل أنواع الزهور والرياحين والورود. وبما يزوده بالكثير من عوامل استمراره. ويوجد في داخل تاريخنا الحضاري العربي ما يعزّز بالوقائع هذا الاعتقاد.
وهذا الأمر لا يقتصر-في اعتقادي- على عالمنا العربي، إذ أنّ الأمم جميعاً مكونة من أقوام وشعوب وقبائل ذات منظومات قيم وثقافات ومذاهب دينية وانتماءات قبلية متباينة جداً، ومع ذلك فقد استطاعت تلك الأمم بناء مراكز إشعاع حضارية إنسانية، على ما هي عليه من طوائف وقبائل ومذاهب، تماماً كما تمكن العرب من ذلك في العصر الوسيط.
ولذلك فقد آن الأوان كي تتخلص تلك النخب الثقافية –التي ليس لها جذور حقيقية في داخل تربة وكيان الأمة الثقافي والاجتماعي- من هاجسها وعقدتها النفسية التي تستمر من خلالها في تخويف المجتمع والناس عموماً من (الخطر الشديد؟!) الكامن وراء تلك الانتماءات المتهمة دائماً في نظرها. وكذلك عليها أن تدرك معنا حقيقة أساسية، وهي أن التعدد أمر طبيعي في داخل التركيب والتكوين الاجتماعي، ويمكن أن يكون حالة إثراء وغنى روحي وثقافي للمجتمع، وهو –بالتالي- لا يمكن أن ينتج الانقسام وينذر بكارثة التفكك إلا إذا تمّ توظيفه سياسياً من قبل بعض الأطراف من هنا وهناك، وخصوصاً طرف النظم والسلطات الحاكمة التي نشأت أصلاً على قاعدة تمكين العصبيات المحلية -على مستوى الطائفة والقبيلة والعشيرة- من كيان سياسي تتوسع وتمتد به حدود سيطرتها وتحكمها إلى كامل المستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. وقد أفضى ذلك إلى تشكيل أنظمة سياسية تأخذ “بالديكور” و”الموزاييك” السياسي الحديث مع إبقائها ومحافظتها -ضمنياً، وفي العمق- على مصالح المشايخ والزعماء والعشائر والقبائل.
ويبدو لنا أن حلّ هذه الإشكالية لا يكمن في تطبيق الحالة الاندماجية والتجانسية الواحدة -إذا صح التعبير- باعتبارها تفتقر للأساس الموضوعي في المقدمة والنتيجة. بل في البدء الفوري بإجراءات تحويل السلطة إلى ملكية عامة من حق المواطنين جميعاً، وإعادة السياسة إلى موقعها الحقيقي في المجتمع، و بحيث تكون (هذه السلطة) قابلة للتداول السلمي فيما بين أبنائه، و من دون وجود عراقيل أو خطوط حمراء قد تتستر وراء شعارات المحافظة، والانغلاق، و..الخ، بما يؤدي إلى تفكيك حالة التعبئة النفسية والاحتقان العصبوي في داخل المجتمع الأهلي، من خلال فسح المجال لها لتعبر عن ذاتها بالحوار الواعي والعقلاني البعيد عن أدنى حالات الخوف أو التخويف من الآخر. باعتبار أن السبب الجوهري الذي أدى إلى نشوء العصبيات -وتوظيفها سياسياً- يتحدد من خلال قيام نظام السلطة الحاكمة في اجتماعنا السياسي العربي والإسلامي (منذ التاريخ الباكر) بالهيمنة والتسلط، واستخدامه لأدوات القمع والفرض المختلفة، واستبعاده للجماعات الاجتماعية الأخرى. الأمر الذي يولّد لدى هذه الجماعات -المقصيّة والمحرومة من حق المشاركة في صنع السياسة وتداول السلطة– شعور بالقهر والظلم في توزيع السلطة، والاستفادة منها، مما يدفعها للانكفاء، والانعزال، والتفكير بالعمل تحت الأرض، أو على الأقل التقوقع على همومها، وعصائبها الذاتية، وهواجسها المرضية، بما يضمن لها الدفاع –بالحد الأدنى– عن وجودها.
ولاشك بأن إفلاس الفكر السياسي العربي المعاصر-تحديداً فكر النخب السياسية وكثير من المواقع الثقافية المرتكز أساساً على ثقافة سياسية مضى زمنها، وأصبحت عبئاً ثقيلاً على الواقع- هو السبب الكامن وراء إعادة إنتاج وصياغة أمثال تلك الأزمات والكوارث التي لاتزال تستنزف الجسد العربي. ولذلك لابد من البدء الفوري بإنتاج ثقافة سياسية جديدة تبنى على معايير وأسس واقعية وإنسانية، تضمن للفرد حرياته الفكرية والسياسية كاملة، وتضع الشروط المعنوية والنفسية والسياسية التي تحمي هذا الفرد المستقل، وتقوم عليها فكرة المواطنة والحكم الصالح. ومالم تبدأ الدولة العربية السير على هذا الطريق الواضح والصريح فإن أزمتها -التي تمثلت في إرادتها القسرية الهادفة لبناء مواطن مستقل ومتحرر من ضغط المجتمعات المتخلفة والعصبيات الجزئية المتحكمة– ستستمر وتتوالد ذاتياً بمظاهر وألوان جديدة متنوعة تقف على رأسها أزمة التطرف والعنف الرمزي والمادي التي ستزداد من جانب بعض الحركات الدينية أو من جانب بعض الحركات العلمانية، لأن العنف يستولد العنف، والظلم ينبئ بفيض من الكوارث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
© منبر الحرية، 8 أكتوبر/تشرين الأول 2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018