شؤون سياسية

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

يعاني الوطن العربي من ظاهرة الأقليات التي وصلت إلى مرحلة خطيرة تهدد أمن العديد من أقطاره واستقراره، وهذه الظاهرة  هي –بلا شك- انعكاس لتعدد الهويات والانتماءات.
ولا شك –كذلك- أن ثراء المنطقة العربية بجماعاتها الثقافية فرض التمييز بينها استنادا إلى معايير شتى وفي مقدمتها معيار الدين واللغة. وتفاقمت خطورة هذه الظاهرة نتيجة عمليات الفصل والتجزئة التي مارسها الاستعمار الغربي في المجتمعات العربية، واستغلاله العديد من الجماعات الطائفية والعرقية من خلال منحها امتيازات خاصة أصبحت بمثابة الحقوق المكتسبة التي تسعى هذه الجماعات للحفاظ عليها، وزاد من حدة المعضلة عدم سعي النظم السياسية العربية  إلى الحكم على أساس المشاركة التي تأخذ في الاعتبار فئات المجتمع كافة، الأمر الذي زاد من مخاوف الأقليات في تلك النظم ودعا بعضها  إلى التمرد على أوضاعها.
وقد لاحظنا أن النظم السياسية العربية فشلت في توحيد الوطن العربي  في دولة قومية واحدة، بنفس الدرجة التي لم تنجح فيها الجهود حتى في توحيد جزء من أقطار الوطن العربي. لأن الفكر القومي لم يتناول عدة مسائل حيوية في الواقع العربي وهي ذات تأثير كبير على توحيد أقطاره ومنها موضوع الأقليات. فعلى الرغم من أن 85% من سكان الوطن العربي يشكلون مجموعة متجانسة لغويا ودينيا وثقافيا إلا أن هناك عدة تكوينات بشرية تختلف عن هذه المجموعة سواء في الدين واللغة والسلالة والثقافة. والفكر القومي لم يتعرض للدور الاجتماعي لهذه الأقليات بشكل متعمق ولم يحاول التعرف على مشكلاتها وهمومها، ولم يأخذ موقفا صريحا من رغباتها المشروعة في الحفاظ على تكاملها. كما لم تنجح النظم العربية  التي تعاني من تلك الظاهرة في التوصل إلى أشكال ملائمة للعلاقة بين الدولة والمجتمع (بتكويناته الاثنية المتعددة) حيث ظلت هذه الظاهرة موضع شد وجذب بين الجانبين بكل ما يترتب في أحيان كثيرة على هذه التوترات من انتكاسات سلبية على الاستقرار السياسي والأمن القومي. ففي دولة البحرين التي تعاني من انقسام طائفي بين سنة وشيعة، وانقسام طبقي على أسس طائفية يشكل السكان من ذوي الأصول العربية نحو 95 % من إجمالي السكان كما أنهم مسلمون. وفي  السودان  هناك تنوع اثني كبير، فهناك تعدد ديني بين مسلمين ومسيحيين ووثنيين، وهناك نحو 597 قبيلة و57 جماعة عرقية، وتعدد لغوي يربو على 400 لغة  ولهجة مختلفة.  ويصفه البعض بأنه نموذج مصغر لكل القارة الإفريقية وقد انعكس ذلك بوضوح في الانقسام بين مواقف القوى الجنوبية وبين الحكومة المركزية. وهناك نماذج أخرى في المنطقة العربية. إلا أن الجامع بين كل تلك الحالات – مع اختلاف الدرجة- أن الأقليات في المنطقة العربية يحملون أنظمتهم السياسية مسئولية تعميق شقة الخلافات  والانقسامات القائمة بين الجماعات المختلفة فيها وقيامها باتباع أسلوب سلطوي في استيعاب أقلياتها، وفرض الاندماج عليها بالقوة. مع وجود قناعة لدى النخب الحاكمة العربية بضرورة التلازم بين الإجماع السياسي من ناحية والإجماع الفكري والديني من ناحية أخرى، وبالتالي رفض الاعتراف بالتنوع والتعددية القائمة في مجتمعاتها. وقد ترجمت هذه النخب قناعاتها تلك في أساليب معالجتها لمعضلة الأقليات من خلال اتباعها سياسات الاعتقال والنفي، وإعادة التوطين خارج نطاق التمركز  الجغرافي للأقليات، والتضييق الثقافي والاقتصادي عليها، والحد من تمثيلها في مؤسسات السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية والأمنية، وتفضيلها لخيار القوة المسلحة باعتباره الحل الحاسم والسريع لهذه المشكلات.
وقد نتج عن تلك الممارسات بروز النزعات الانفصالية لدى الأقليات في بعض المناطق العربية، واستخدامها أساليب العنف والقوة لتغيير الأنظمة السياسية القائمة، الأمر الذي أدى إلى إطالة أمد النزاع والحيلولة دون التوصل إلى رؤية مشتركة لطبيعة العلاقة بين الجماعة المسيطرة والأقلية. وقد لاحظ عدد من المحلليين أن ظاهرة الأقليات في المنطقة العربية تتفاقم في الدول العربية التي تتمتع بموقع جغرافي استراتيجي يشكل ملتقى لخطوط  المواصلات الدولية، سواء في منطقة الخليج كما في حالة البحرين أو في إفريقيا في حالة السودان، وشكل ذلك العامل الجغرافي علاوة على العوامل الأخرى دافعا للتدخل الخارجي في الشئون الداخلية لتلك الدول تحت مبررات عديدة منها حق الدفاع عن الأقليات. وربما كان لمساحة القطر العربي اثر بارز على طبيعة مطالب الأقليات. حيث شكلت المساحة الشاسعة للسودان ووجود الأقليات في أقاليم  محددة نسبيا إلى بروز العديد من الدعوات لإعادة النظر في توزيع السلطة تبدأ بأشكال المطالبة بالحكم الذاتي وتمر بالفيدرالية وتنتهي بالانفصال. وفي المقابل شكلت المساحة الضيقة لدولة مثل البحرين قيدا على طبيعة المطالب التي تقدمها الطائفة الشيعية حيث ركزت على الدعوة للإصلاح السياسي والاقتصادي وفتح باب المشاركة السياسية والتعددية أمام فئات المجتمع، والمساواة في توزيع الموارد السياسية والاقتصادية، ولم تبرز أي دعوة إلى تبني مشاريع الحكم الذاتي أو الانفصال لعدم قابلية هذه المشاريع للتنفيذ.
ورغم أن حالة السودان هي الحالة الأوضح في التعدد والتنوع إلا أن هذا لا يعني شيئا في حد ذاته، أو تقطع يقينا بأن هذا التنوع هو بالضرورة ابتلاء للسودان، بل على العكس فانه في التاريخ السوداني ما يشهد بأن هذا التنوع والتعدد كان أحيانا عنصر إثراء وإغناء، ففي ظل مملكة الفنج في سنار ( في الثامن عشر ) تجسد التعايش السلمي بين الإسلام والوثنية لاسيما أن حكام سنار ( المسلمين ) كانوا من أصول قبلية زنجية وثنية. أكثر من ذلك فان احد جوانب المعضلة الجنوبية السودانية تنبعث من الجهل بخصوصية الديانات الإفريقية إسلامية كانت أو مسيحية، وهي الخصوصية التي تؤمن بمبدأ التفاعل الايجابي السمح بين عناصرها بعضها البعض، فتمكن رئيس مسيحي من تولي سلطة الحكم في بلد مسلم ( ليبولد سنجور في السنغال ) مثلما تدفع رئيسا كاثوليكيا لدولة مسيحية للتنازل عن السلطة لخلف مسلم ( الرئيس جوليوس نيريري في تنزانيا). لكن بقصور في فهم ظاهرة التنوع الثقافي في السودان والاستجابة لمقتضياتها، تعاملت النخبة المثقفة عموما وتلك الحاكمة منها خصوصا مع مفردات هذا التنوع على أساس الازدراء، فهي تشير للمتمردين ” بالعبيد ” أو ” الفروخ ” الطامحين لحكم البلاد، وتتعامل مع أهل دارفور على أنهم ” غرابة ” أي غرباء وتطلق على جماعاتهم التي تلف العاصمة ” الحزام الأسود ” ، وبذلك لا عجب أن أصبح شرق البلاد وغربها وجنوبها عبئا ثقيلا على كل الحكومات السودانية المتعاقبة منذ الاستقلال وحتى الآن، وان كان الجنوب هو الأسوأ. وما ينطبق على السودان قد يصبح عبرة لأقطار عربية أخرى تستهين بالتنوع والتعدد داخل بلدانها ليصبح مصدر قلاقل وتوتر.
© منبر الحرية،20 شتنبر/سبتمبر 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

الثقافة نتاج مجتمعي يبدعه الأفراد فهي تتطور باستمرار، وهي ممارسة فاعلة وسلوك معرفي وحضاري نابع من منظومة القيم والأفكار المتوارثة، وهي مزيج من أمجاد الماضي وإرهاصات الحاضر أي أنها متجذرة في الواقع والتاريخ.
ولقد تخطى الإنسان صيرورته التاريخية من وضع “طبيعي” شيئاً فشيئاً إلى أن توصل إلى هذا الوضع الاجتماعي المعقد والمتقدم، وبينما كانت القوى الطبيعية العمياء والموضوعية تمارس ضرورتها مباشرة وبصورة مادية على الإنسان، فان الشروط الاجتماعية التي يخضع لها الإنسان في بيئته هي من نوع معنوي وسيكولوجي مباشر، أو غير مباشر، وتنتج له انعكاسات متنوعة ، وخيارات تكاد تكون حرة بالنسبة له.
من هذا الموقف بالذات تنشأ الحاجة إلى الثقافة وهو في الوقت نفسه الشرط الحقيقي للثقافة، علماً أن الثقافة الإنسانية تزداد تعقيداً ورقياً كلما ازدادت شروط بيئته الاجتماعية رقياً وتقدماً.
إن الحرية والثقافة هي من بين الحقوق الإنسانية، أي الحقوق التي يبدو الارتباط فيما بينها أكثر بروزاً، فكل منهما يقبل اختياراً وبالتالي هناك إمكانية للرفض، فهما لا يقبلان التقيد بالشكليات، سواء أكان الاختيار سياسياً أو دينياً أو إيديولوجياً أو اقتصادياً بعض الشيء.
وإن الشيء الذي لا مراء فيه هو أن الثقافة يجب أن تمثل مستوى معيناً من المعارف لتستحق تسميتها ” ثقافة “، كما أنه لا شك في أن هذا المستوى يجب أن يقود إلى التميز عن الآخرين.
على أنه من المؤكد أن في هذه الدرجة العليا من الثقافة توجد بعض أجزاء من ظلال وبعض أجزاء من نور: فالرجل المثقف، باعتباره قد بلغ مستوى أعلى من المستوى المتوسط لا يسطع الإشعاع بالضرورة  في جميع مجالات الفكر.
وان المثقف هو الذي يشعر بالارتياح في جميع الموضوعات التي تعترضه، ويتجنب أن يؤخذ على حين غرة إذا كان أحد هذه الموضوعات غريباً عنه بعض الشيء، ومن الطبيعي بلا ريب أن تكون لدى الإنسان المثقف نقاط قوة ونقاط ضعف، كون العلم والمعرفة والتعليم، وبدرجة أدنى التربية والتأهيل، هي شروط ضرورية للثقافة، لكنها شروط غير كافية إطلاقا.
كما يجب عليه أن يحتفظ بهامش من التواضع المناسب، هذا التواضع الذي يقع تحت تجربة قاسية في العالم الحديث المتعطش ” للشهرة ” أو ” نصف الشهرة “.
فالمقولة القديمة تحتفظ مع هذا بقوتها وهي أن الإنسان يجب أن تكون له أفكار واضحة حول كل شيء، أو كما قال ( باسكال ) في كتابه ” الأفكار ” : ” إنه لمن الأجمل والأفضل أن نعرف بعض الشيء عن كل شيء من أن تعرف كل شيء عن شيء واحد”.
فالإنسان وحده يمتلك الصفات الأولى التي تجعل منه كائناً قادراً على أن يتجاوز ذاته، وبالتالي أن يثقف نفسه، وهذه هي مفاتيح الأشكال العليا لتطوره، وعلى هذا، فهو لن يبق سلبياً وإنما فاعلاً إيجابياً ومصمماً على الارتقاء بالثقافة أكثر من ارتقائه من أجلها، فسيستعمل في سبيل ذلك مواهبه الشخصية، مساهماً بهذه الصورة وبشكل حاسم في استخلاص أفضل النتائج مما اكتسبه.
© منبر الحرية،13 شتنبر/سبتمبر 2010

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

لم تتمكن تجليات الروح المتسامحة والعقلية الحضارية المنفتحة التي ظهرت في التاريخ الإسلامي عند بعض حركات التنوير العقلي من التغلب والانتصار على روح “الملك العضوض” ومشروع “الدولة-القبيلة” التي كانت –على ما ظهر لاحقاً في أحداث وتواريخ ومشاكل وتحديات عصفت بعالم الإسلام والمسلمين- متأصلةً في النفوس والأرواح وعصيةً على التغيير والإصلاح الحقيقي، والتي مثّلتها كثير من زعامات الحكم الإسلامي على طول مسيرة التاريخ الإسلامي.
وقد قامت “الدولة-القبيلة” التي أسستها روح القهر والطغيان وعقلية التغلّب والغصب في عالمنا العربي والإسلامي –والمازالت مستمرة بصور وأشكال شتى حتى عصرنا الراهن- بتحقيق كثير من المنجزات (العظيمة!!)، نذكر منها هنا:
1-بناء دولة الفرد وليس دولة الأمة، والعمل على إحداث قطيعة شبه كاملة بين الدولة والمجتمع ككل، الأمر الذي حول الدولة العربية الإسلامية (التاريخية والراهنة) إلى دولة نخبوية فوقية تخص النخبة السياسية الحاكمة، في تأمين متطلبات وجودها واستمرارها، بعد أن فشلت في مجرد التحول –استجابة لتغيرات الواقع- إلى دولة مواطنيها الأحرار الشرفاء، بل بقيت –بالنظر لبنيتها المؤسساتية الهشة- عاجزة كلياً عن إقامة دولة العدل والمؤسسات والدستور، أي أنها لا تزال دولة منفصلة كلياً عن المجتمع المهمّش والمدمر والمقصي والمستبعد كلياً عن ساحة الفعل والإبداع والإنتاج والتشارك الحضاري، والدليل على ذلك: انتشار مختلف مظاهر الاهتراء السياسي والاقتصادي والأخلاقي والديني الواسع في كثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية الحديثة، نتيجة هيمنة واقع الحطام واليأس وانسداد آفاق الإصلاح ونفاذ الطاقات، وتعاظم المشاكل، واشتداد التوترات، وضعف إمكانيات التقدم والتراكم الأمر الذي أدى إلى استمرار المشكلات البنيوية وبقاء الأزمات، وتنامي آلية العنف المادي والرمزي.
2-عجز الدولة العربية عن إقامة علاقات قانونية وطبيعية متوازنة مع الناس وعموم الجماهير الواسعة المستبعدة والموجودة خارج دائرة السلطة أو الحكم.
وقد قاد هذا النزوع السلطوي المجنون للنخب الحاكمة -في رغبتها العارمة البقاء في الحكم واستمراريتها على رأس السلطة وتحكمها بمفاصل القرار من أقصاه إلى أقصاه- إلى تزايد الرغبة الشعبية في تدمير البنى الوطنية نتيجة انعدام حس المسؤولية تجاه الوطن والقانون والنظام الاجتماعي ككل، ويبدو لي أن السبب الأساسي وراء هذا التوجه اللامسؤول لدى قطاعات واسعة من الناس يعود إلى نزع السياسة من المجتمع باعتبارها فاعلية اجتماعية ومجتمعية حرة، ومجالاً عمومياً للمجتمع، وهي أحد أرقى الأشكال التنظيمية لوحدة المجتمع، الأمر الذي أدى إلى تغييب قسري كامل لدور هؤلاء الناس في بناء مجتمعاتهم والمشاركة في تحمل مسؤوليات هذا البناء.
3-انعكاس البنية الدولتية الهشة على الحراك السياسي الخارجي لتلك الدول حيث تتجه الأمور على هذا الصعيد –وكنتيجة لعدم شرعية النخب- إلى مزيد من الانكسارات والهزائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية على مستوى فساد التخطيط السياسي العام والخاص، وعقم الممارسة السياسية العملية، وسوء استخدام العمل الإداري اليومي (تفشي الفساد الإداري). وبناء حداثة ديكتاتورية غير عقلانية مستهلكة، وغير قادرة على النمو أو الإنتاج.
4-ضعف إمكانيات الإصلاح والتطوير ذاتياً وموضوعياً، بما فيها عدم وجود رغبة حقيقية لدى تلك النخب القبلية الحاكمة لتغيير أو إصلاح الواقع بنيوياً، بل وعملها الدؤوب على مواجهة أي تغيير سياسي أو ثقافي يمكن أن يفكر فيه أبناء المجتمع ونخبته المفكرة.
والسؤال المطروح الآن: طالما أن ممكنات التغيير وآفاق الإصلاح السياسي العربي الراهن صعب ومعقد وشبه مستحيل، أليـس من الأجدى والأكثر فائدة الاشـتغال على بناء ثقافة الإصلاح والوعي الوطني الحقيقي المسؤول بين الناس؟!! أي إعادة الاعتبار لمفهوم حب الوطن وتعميق الحس الوطني المسؤول بين الناس قبل النخب الحاكمة؟!! فالناس تغيرت سلباً من حيث طبيعة استجابتها للعمل الوطني، وأضحت –نتيجة هيمنة قرون طويلة من الاستبداد السياسي والثقافي والمجتمعي- مستنكفة عن ممارسة السياسة وضعيفة الصلة والارتباط الحي بمعايير الفعل الوطني، وبالتالي غير قادرة على إحداث أي تأثير في السياسات القائمة والمطروحة والمفروضة عليها التي تخصها.
إنني أعتقد -إتماماً للحديث السابق- أن الذي يعيق المسيرة عن التقدم في هذا الاتجاه حالياً، ويقف في وجه حدوث كل تلك الطموحات والآمال الواسعة في ولوج العالم العربي والإسلامي العصر الحديث -علمياً وحضارياً وتقنياً- لا يقتصر على بعد أو مستوى واحد، بل يتعداه إلى جملة مسببات خاصة وعامة، ففي المجال الأول يمكن العثور في كثير من زوايا ثقافتنا الدينية والاجتماعية الموروثة على كم كبير من الأنماط الفكرية والأنساق التعبيرية العملية التقليدية، التي تحولت إلى دين قائم بحد ذاته يعاند ويواجه قيم الدين الحقيقية على مستوى الفكرة والسلوك والتطبيق. وهذا النوع من حالة اللا توافق الثقافي ولّدت في داخل الأفراد المؤمنين بها والمنتمين إليها نوعاً من التناقض اللامنظور بين الأعراف والعادات (التي أضحت نوعاً من النصوص الدينية بحكم العادة والألفة والممارسة)، وبين الواقع الخارجي المختلف كلياً أو جزئياً عن تصورات الذات الفردية. وهذا بحد ذاته سيؤثر سلباً على حركية الفرد، ويعطل عنده حركة العقل والتفكير والإبداع، وسيحوله إلى مجرد آلة منفعلة غير فاعلة على الإطلاق.
وبالتالي لا نستطيع أن نحمل النخب الحاكمة مسؤولية كاملة على هذا الصعيد، وبالطبع هي ليست حزينة على ضياع مجتمعاتها وبقائها في حالة من اللامستقبل واللاوعي، لأنها مستفيدة من بقاء هكذا أمور على ما هي عليه.
ولا شك أنها تعمل على تعميق تلك المشاكل والأزمات التي تواجه مجتمعاتها، حيث أن من يفكر بذاته وينعزل عن الناس وينغلق على همومه وامتيازاته ومكاسبه الخاصة، لا يمكن أن يفكر مطلقاً بهموم وحاجات المجتمع إلا بالحد الأدنى الذي يحافظ من خلاله على وجوده، واستتباب المواقع، وثبات الأحوال على ما هي عليه.
من هنا تأتي مسؤولية المثقف في أن يقوم بدور حامل المصباح الدال به على طريق الخلاص الفردي والجماعي، وذلك من خلال عمله على تنوير الرأي العام بكل ما من شأنه أن يساهم في بناء الوعي الفعال لدى أفراد الأمة لمواجهة وإسقاط ثقافة القطيع والامعية وتفكيك العقليات القبلية التي تسببت في تفشيل التنمية والتقدم، وتصحيح المفاهيم الخاطئة المتداولة عن السلطة وتوزيع الثروة والأموال، والمساهمة الفعالة في تمكين الأمة من ممارسة حق النقد البناء، ومواجهة محاولات تزييف الوعي الفعال بالحياة والواقع.
بهذا الوعي يمكن بناء نهضة حقيقية تسعى إلى التنوير والإصلاح، وتقوم أساساً على فهم الدين فهماً صحيحاً يتوافق مع العقل الحاضر، ويكون لعنصري الزمان والمكان حضوراً أساسياً في مجمل اجتهاداته وتأويلاته. وبما يتناقض كلياً مع ما نراه ونعاينه في عالمنا العربي والإسلامي حالياً، من انتشار أفكار الشعوذة والعادات والتقاليد والخرافة والأساطير، واعتبارها من صلب رسالة الإسلام، وهي ليست من الدين في شيء.
إن النهضة تقوم وتنبثق من خلال وجود رؤى فكرية للواقع القائم مع أفعال وإجراءات ميدانية لاستدراك سلبياته وبناء مواقعه المستقبلية، والمثقف هنا تكون وظيفته مثل الطبيب (طبيب حضارات)، وعليه واجب تشخيص العلة، وهي واضحة ومكشوفة كما أسلفنا سابقاً، ويمكن التعبير عنها مجدداً من حيث أنها أزمة ثقافية ومعرفية بامتياز قبل أن تكون أي شيء آخر، وبمقدار ما يكون تشخيص أسباب المرض عميقاً وصحيحاً، بمقدار ما يكون وصف الدواء المناسب سهلاً وناجحاً، وبمقدار ما يكون الشفاء منه أمراً ممكناً.
© منبر الحرية،30 غشت/آب 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

عند قراءة تاريخ الإنسان، قراءة دقيقة وبتمعن، والنظر للإنسان ذو الحوامل المعرفية التي تحمل في طياتها الكثير من الإشكاليات، تظهر قضية الخوف، تلك التي قال عنها ديورانت في كتابه قصة الحضارة: (الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وتتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها)، فإشكالية الخوف بين الشرق والغرب، حيث يولد التساؤل من رحم الخوف: لماذا الخوف لدى الشرق هو دائماً عامل ودافع للتراجع والتخلف؟، بينما الخوف في الغرب كان  العامل الداعم في عملية التطور والازدهار؟.
من هذا المنطلق نجد بأنه ثمة عوامل لإشكالية للخوف، وثمة علاقة بين الخوفين بشكل يثير السخرية والدهشة، رغم التبيان بين الخوفين في مراحله البدائية، من خلال الماورائيات في تفسير مسيرة الكون، هذه الدهشة التي تمت بين الخوفين والشرخ الواسع بينهما، توصل لعدم قبول الغرب هجرة الشرقيين إليه، ومخاوف الشرق من توافد الغرب إليه، فمشكلة وإشكالية الخوف قائمة بين الشرق والغرب بحد ذاته، فالخوف في الشرق  مخاوف مركبة ( مخاوف ذات موروث ثقافي – مخاوف ذات أبعاد دينية – ومخاوف من الأنظمة الحاكمة في الشرق ذات الطابع الاستبدادي )، رغم ما يملكه الشرق من إرث حضاري والذي ساهم في وقت ما في خدمة البشرية في الفلك والرياضيات والهندسة، إلا أن تلك المخاوف استطاعت أن تجعل الفرد في الشرق أسير تلك المخاوف، فالخوف من الموروث الثقافي مثلا في الشرق جعل الفرد لا يستطيع الغناء خارج ذاك السرب الذي ينتمي له ولا بمقدوره التمرد على ذاك السرب بأن يحلق خارجه، ولأنه على يقين بأنه إذا طار خارج السرب، سوف يرميه العقل خارجاً، وعلى اعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي، سيبقى وحيدا يضربه هاجس الجنون وهو في عزلة اجتماعية، ويأتي العامل الديني والذي يحتوي في طياته الموروث الثقافي والاجتماعي المسيطر على العقل الجمعي الشرقي والذي ينظم ويرتب الحياة في الشرق ويتدخل في أبسط تفاصيل الحياة لدى الشرق، حتى يصبح الفرد أسير المعتقد الديني، وبأن هناك حياة غير التي نحياها ستعوضنا عن ملذات الحياة. إنها ( الجنة – حيث الرفاهية التامة وكل ما نشتهي )، وبالتقاء المخاوف ذات الطابع الديني مع مخاوف الموروث الثقافي في الشرق يظهر الخوف الأكبر ألا وهو الخوف من السلطة، ومخاوف الشرق من أنظمتها الحاكمة والتي تستثمر جميع المخاوف لتنفرد بتسلطها على شعوبها، الأنظمة ذات الطابع الاستبدادي والتي تكون البديل المفكر عن شعوبها بل وحتى المسؤولة عن أحلامها.
الخوف من السلطة من المخاوف التي اختزلت جميع المخاوف لتستمر على حساب شعوبها، إنها السلطة التي تعتقد أنها هي الحاكمية على الأرض وشرعيتها مستمدة من الآلهة، فسيطر الخوف على الفرد الشرقي من السلطة، حتى بات لا يستطيع أن يحاور ذاته بصوت خافت، خاصة وأن السلطة تترقب أبسط تفاصيل حياته التي تتعارض مع بقائه.
فمخاوف الشرق التي ذكرت كانت عاملاً هاماً في تخلفه وعدم مواكبته حركة العالم، وبينما الشرق يتنقل بين مخاوفه وبشكل اعتيادي حتى أصبح هناك ألفة بين الذات الإبداعية والخوف، نجد بأن الشق الآخر للشرق، ألا وهو الغرب وعلاقته مع الخوف، فالخوف لدى الغرب كان داعماً دائماً وأبداً للتقدم والتطور والازدهار.
يتجلى الخوف في الغرب بمخاوف (بيئية – الأوبئة – لغوية – انقراض الحيوانات وووووووووإلخ) وهو ما جعل هذا الخوف يساهم في جعل العقل الغربي يتحرر من خوفه الداخلي وربطه بعامل التطور، وإعطاءه الدافع لعملية التحليل والتركيب حتى تتمكن من التفسير، ففي الغرب الخوف من الكوارث البيئة مثلاً تدعمه ليعطي كل ما لديه من معرفة، واضعا بذلك آليات وقرارات مدروسة لتجاوز الكارثة البيئية التي تهدد مستقبلهم للخطر، الغرب يستهلك الملايين من الدورلات ليحمي حيوان من الانقراض، ومستعدين دائما لوضع -في شرائعهم ودساتيرهم- فوانيين تحمي حتى الحيوانات من التعرض للأذى، فكيف يكون الفرد لدى الغرب إذ كان دستورهم يحمي الحيوان؟. ومن مخاوف الغرب أيضاَ الخوف من اندثار لغة من لغات العالم وليس غريباً على الحكومة البريطانية التي تعزز تعدد الثقافات أن تحمي الأثينيات والأقليات العرقية والدينية  كلغة الغال حيث أنفقت الحكومة البريطانية ما يعادل 250 مليون جنيه كي لا تزول لغة كلغة الغال .
فالخوف إذن لدى الغرب من الكوارث الطبيعية والبيئية والإنسانية كان داعما لفهم الحياة وازدهارها، مما جعلت الفرد الغربي يتحرر من مخاوفه ليبني عليها أمل جديد للحياة البشرية والاستمرار الطبيعي ولجميع كائناته، وهذا ما يجعل الخوف للغرب قوة داعمة للتطور، ومن خلال ما سردناه من إشكالية الخوف في الشرق والغرب والفرق الواسع بين الخوفين، ظل الخوف الأول والذي أسر فرده داخل مخاوفه ومخاوف مجتمعه، ذات الجذر والموروث الديني والثقافي وبتاالي كان الخوف في الشرق عاملاً لتخلفه وعدم تفسيره لمخاوفه، بينما كان الثاني محرراً لفرده من مخاوفه والتي كانت كما تطرقنا إليها ذات الحامل (بيئي – طبيعي – وبائي –وووإلخ)، داعماً لتطور الحياة في الغرب ، فشتان ما بين الخوفين.
© منبر الحرية،25 غشت/آب 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20101

عندما تطرح مسألة الديمقراطية على بساط الجدل في المداولات السياسية بين فرقاء عددين ومن مشارب سياسية مختلفة، لاشك أنك سوف تصطدم بإشكالات عديدة، تتمثل برؤى مختلفة بحيث ترى أن موقف أي فريق يتأسس وفقا لموقعه السياسي أو الأيديولوجي وحتى الاجتماعي والاقتصادي، بالمقابل فقد يتناول بعض رجالات الفكر المسألة – ربما –  بمنطق معرفي وبالتالي بمعالجة موضوعية، ومن غير ريب سوف تختلف النظرة والقراءة للديمقراطية بين مجتمع تقليدي كالمجتمعات العربية، ومجتمع منتج للحداثة، كالمجتمع الغربي، فالديمقراطية هي نتاج وحصيلة المجتمع في درجة من تطوّره، وهي تأخذ شكلا يتناسب مع هذه الدرجة من التطور، وهي ليست كيانا خاصا منفصلا عن جسم الدولة ولا عن كيان المجتمع.
إن الديمقراطية بغض النظر عن أصلها اليوناني، هي اليوم بصيغتها المتبلورة جاءت مع الحداثة، وهي عنت فيما عنته التمثيل السياسي في تسيير شؤون الدولة، ومن الطبيعي أن تقضي الحالة بالتعددية السياسية، وكان الحامل الاجتماعي للديمقراطية، هو الطبقة البرجوازية، فقد كانت غداة الاستقلال لم تزل تتمتع بتأثير واضح في حركة المجتمع، رغم أنها كانت في بداية تحوّلها وتكوّنها، لكن هذه الفاعلية أو التأثير جاء وأده مبكرا من خلال الحركات الراديكالية من قوميين ويساريين الذين قادوا الثورات الوطنية حتى تم التحرير، ومن ثمّ قاموا بانقلابات عسكرية فيما بينهم، وسعوا لإلغاء دور البرجوازية في حلبة الصراع الدائر واتهامها كمطية للمستعمر الأجنبي في سياق نضالهم (الاشتراكي) الموهوم، وأيضا من خلال مناداتهم بشعار الوحدة العربية الشعار الوجداني الأثير الذي استحوذ على أفئدة ملايين العرب من المحيط إلى الخليج، ومازال إلى اليوم من يمشي في مناكب هذا الشعار العاطفي لكن في ظروف جديدة ووعي جديد لحقيقة المناداة والمتاجرة بهكذا شعارات، وفي المحصلة كانت النتيجة أو الغاية هي القضاء على حيوية البرجوازية، وإلغاء دورها، وبالتالي تغييب الديمقراطية، والحيلولة دون قيم الحداثة، وكل هذا بالنتيجة يمهد الطريق أمام القوى الأصولية الإسلامية التي يمهد سبيلها دعم الدولار النفطي، وبالتالي خلق هوّة بين المجتمع والدولة وتحكم الدولة بمصير الشعب، دولة من فريق صغير مستبد طاغ يتفرد بالسلطة، دولة ديكتاتورية بما للكلمة من معنى، وبالمقابل كنت تجد المجتمع المدني في حالة ضعف غير متماسك وفراغ سياسي وفي حال تبعية لرموز السلطة أكثر من تمتعها بالاستقلالية مع هشاشة القوى السياسية داخل المجتمع حيث لا تتمتع بفاعلية تذكر، في حين أن غرامشي كان يعتبر مؤسسات المجتمع المدني بمثابة (الأداة الأساسية لإصلاح فساد المجتمع السياسي وإعادة بنائه على أسس أخلاقية وإنسانية..) لكن كثير من قوى المجتمع المدني غالبا ما تكون مقصية في الدول القمعية عن الحيز العام.
إن الديمقراطية كمفهوم ينبغي أن تتجذر في المجتمع البشري أولا كشكل من العلاقات البينية بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، قبل أن تتمثل بالعلاقة بين الدولة والمجتمع، كونها بالأساس نبتة اجتماعية تجود بها عقول الناس في حالة من استعصاء العلاقات بين الكيانات الاجتماعية، من جانب آخر فالديمقراطية (هي الشكل الطبيعي لممارسة الطبقة البرجوازية لهيمنتها الطبقية حسب تعبير مهدي عامل)، أي أن الإدارة السياسية للدولة التي تشغلها البرجوازية تعود لهيمنة البرجوازية في مجال التنمية والإنتاج، والاقتصاد عموما، فبالهيمنة الاقتصادية تأتي الهيمنة الطبقية، ومن هذا الوضع تتولد الديمقراطية كحالة من العلاقات الطبيعية، فإذا ما انتفت هذه الهيمنة، تنتفي الديمقراطية أيضا لأن المجتمع البرجوازي برأي ماركس هو الذي يحافظ على تماسك الدولة، وبالمقابل فإن أحزاب البرجوازية الصغيرة عندما تتمثل بالسلطة تنتهي بالتحنط في أجهزة تابعة للدولة تفقد دورها النضالي الذي عرف به في يوم من الأيام، حينما تخطف البرجوازية الصغيرة دفة السلطة في غفلة من الزمن، كما أن الانقلابات العسكرية التي قام بها بعض الضباط ظهرت لنا فيما بعد أنها كانت تجارب فاشلة، وما رفعت حينها من شعارات فضفاضة كانت للاستهلاك والتعمية، فمضمون تلك الشعارات كانت بحاجة إلى كفاءات فكرية، وللأسف كثير من رواد النهضة راحوا خلف الخطاب القومي والشعارات القومية، وراحوا يكبلون أجهزة الدولة بعقيدة سياسية أو دينية، فقطعوا بالتالي الطريق أمام نهوض البرجوازية الديمقراطية كشكل طبيعي للتقدم الاجتماعي، كونها أيضا الحامل الأكيد للديمقراطية، فالثورة البرجوازية في مرحلة ما ضرورية ومهمة لكي يتسنى لها كنس كل بقايا الماضي المتخلف.
المصيبة تكمن في أن الأنظمة العربية تحول دون ترسيخ الديمقراطية كمبادئ أولية في الواقع السياسي العربي بالاحتكام مثلا لصناديق الاقتراع في حال اختيار الحاكمين. لكن المصيبة الكبرى في هذا السياق أن مجتمعاتنا العربية أيضا لا تتقبل الرأي الحر أو الديمقراطية في تناولنا لتراثنا الديني مثلا بالنقد والتحليل، والدولة ربما لضعفها تبدي شيئا من التراجع الخجول أمام المد الديني الأصولي، فلا تظهر كحاضنة لجميع فئات المجتمع بغض النظر عن الدين الذي يعتقد به هذا الفرد أو ذاك، مثلا لا تجد قبطيا واحدا في البرلمان المصري، والدولة المصرية لم تحل دون محاكمة الدكتور نصر حامد أبو زيد، ولا حتى مواجهة التهديد، فهاجر مضطرا ليموت في بلاد الاغتراب مأسوفا عليه، وكان الأولى بالمختلفين معه فكريا أن يواجهوا الفكر بالفكر، لا الفكر بالمدفع، وكان على الدولة أيضا لا التغاضي، بل كان عليها ردع المعتدي.
لإرساء أسس الديمقراطية في أي نظام، لا بد من تفعيل مؤسسات الدولة، والفصل بين السلطات المختلفة، وترسيخ شأن القوانين واحترامها، من هنا يمكن أن نمضي نحو التحول الديمقراطي  بثقة، مع وجوب إيلاء جانب التنمية البشرية والاقتصادية الأهمية الأولى، فضلا عن ترسيخ مبدأ المساواة واحترام حرية الفرد وحقوقه على أساس المواطنة بصرف النظر عن انتماءاته السياسية أو العرقية أو الدينية أو المذهبية، وأي نظام في أية دولة ينشد الديمقراطية كمبدأ لا بد أن تكون الحكومة فيها حكومة الشعب حسب تعبير الرئيس الأمريكي الأسبق حيث يقول : (إن الحكومة الديمقراطية حكومة الشعب، من الشعب، لمصلحة الشعب).
علينا أيضا التنبه هنا من أن ترسيخ الديمقراطية في الدول والمجتمعات يتطلب بداية درجة من تطور المجتمع، وجود قيادة مخلصة ومؤمنة بالديمقراطية كحالة بديلة لما هو متداخل من الأطروحات الأخرى، ولا بد من توسيع مجال مشاركة سائر التنظيمات السياسية المختلفة، والقبول بحكم الأكثرية، لا بد من انتشار التعليم وإشاعة ثقافة الديمقراطية وبانتشار الثقافة الديمقراطية سوف تنتشر العلمانية على نطاق واسع، لأنها تقوم على المحاكمة العقلية، والثقافة الديمقراطية تبيح لها هذا المحظور، أو هذه اللفظة الرجيمة بلغة الأصوليين الإسلاميين.
وثمة من يقول أن الديمقراطية لاتناسب هذا الواقع أو ذاك، ربما جرّاء زعزعة كراسيهم أو عروشهم، إذا كانوا من المتنفذين وأصحاب امتيازات تدرّ عليهم ما تدرّ. إن أية إشكالية في الديمقراطية يمكن أن تعالج من خلال مزيد من الديمقراطية وليس بنفيها.
إن الديمقراطية هي الإكسير الناجع لكثير من الأدواء في المجتمع والدولة، كما قلت في مقالة سابقة، وإن أية ذريعة أخرى تناقض مبادئ الديمقراطية إنما الغاية منها هي إدامة الاستبداد والتسلط إلى أبد الآبدين.
© منبر الحرية،22 غشت/آب 2010

عزمي عاشور18 نوفمبر، 20100

بعدما كانت أوروبا في الماضي مسرحا لحربين عالميتين في النصف الأول من القرن العشرين راح ضحيتهما  الملايين من الأبرياء، أصبحت  الآن أرضا للتعاون والتكامل فيما بين دولها، فقد تعلمت  دول هذه القارة العجوز المتعددة اثنيا ولغويا الدرس جيدا  في أن  لغة المصالح هي خير رابط بين شعوبها، وان وجود التنظيمات الدولية  ليس كافيا في حد ذاته لمنع الصدام، فوجود عصبة الأمم، على سبيل المثال،  بمبادئها السامية لم يحل دون قيام  الحرب العالمية الثانية، ومن ثم كان البحث عن شكل مؤسس يشكل حائط صد يمنع اندلاع  الحروب بقدر الإمكان. وقد  وجد المخلصون من الساسة الأوروبيون ضالتهم في إقامة اتحاد تعاون تكاملي يرتبط بالواقع أكثر مما يرتبط بالأفكار المثالية،  فجاء إنشاء الاتحاد الأوروبي بنواته الأولى في عام 1957  القائمة فلسفته بربط الدول الأوروبية فيما بينها في تفاعلات وتعاملات اقتصادية، تكون له فوائد مضاعفة  تعمم على الدول التي تدخل هذا الاتحاد، واستطاعت  هذه الدول على مدار الخمسين سنة الماضية أن تضع الشروط وتهيئ الظروف لانتقال الدول الأوروبية من وضعية اقتصادية وسياسية متدهورة إلى وضع أفضل لتلحق بدول  هذا الاتحاد   وتستفيد من  نفس المزايا الاقتصادية التي سبقتها إليه هذه  الدول.
وإذا كان هذا النموذج التكاملي قدم دليل عملي في قدرته على منع الحروب حتى بين المختلفين دينيا واثنيا ولغويا مثل حالة الاتحاد الأوربي، إلا انه  في المقابل  نجد أن غياب مثل هذه  النوع من التكامل في مناطق  أخرى من العالم كان سببا  في قيام  النزاعات، بالأخص في المنطقة العربية والقارة الإفريقية  التي لم تستطع دولها بعد أن تخلق لنفسها إطار اقتصادي تعاوني وتكاملي  فيما بينها،  على غرار دول الاتحاد الأوربي حتى وان كانت هناك مشاريع واتفاقيات لذلك، إلا أنها تكون  على الورق ولا تمت للواقع بصلة،  وفي الآونة الأخيرة برزت على سطح الأحداث توترات بين دول حوض النيل بسبب أن دول المنبع ، إثيوبيا  وكينيا  واغندا وتنزانيا  وبروندى ورواندا، وقعت اتفاقية فيما بينهما بدون دولتي المصب مصر والسودان في  أن يكون لهم الحق في إقامة مشروعات دون الرجوع إليهما، وقد يبدو هذا حق مشروع في الاستفادة من مياه النيل التي تمر بأراضيها،  إلا أن عملية الانفراد بالاتفاقيات والمشاريع دون بقية دول المصب قد يكون  فيه  سوء نية  الإضرار بمصالح  هذه الدول التي ارتبطت حياتها عبر آلاف السنين بمياه النيل، الأمر الذي خلق ما يشبه الحق والميراث التاريخي  في مياه النيل، ومن ثم  باتت إقامة أي مشاريع من شانها أن تؤثر حاليا أو مستقبلا على كمية المياه الذاهبة إلى دول المصب على الرغم من وجود اتفاقيات دولية  تنظم  العلاقة فيما بين دول  حوض النيل وبالأخص  اتفاقية عام 1929 وعام 1959.  وعند النظر إلى الأمور  بشكل واقعي بعيدا عن التفسيرات القانونية  والحقوق التاريخية  -التي ترى الدولة المصرية أنها مكتسبة- نطرح السؤال التالي:  إذا كان نهر النيل يشكل سواء  من منابعه في وسط إفريقيا أو من الهضبة الأثيوبية  ومرورا بالسودان،  أهمية إستراتيجية للدولة المصرية  بمثل هذا الشكل،  فهل  الدولة المصرية قامت بدورها في الحفاظ على هذه الأهمية الإستراتيجية لنهر النيل ؟
لقد تعاملت الدولة المصرية على مدار الفترات الماضية مع  ملف حوض النيل بنفس المنطق الذي تعاملت به في قضايا كثيرة، وشهد تراجعا لدورها فيه سواء في الساحة العربية أو في الساحة الإفريقية،  إلا أن المشكلة بالنسبة لدول حوض النيل تبدو مختلفة تماما. حيث أن أي نزاع مع أي دولة  قد لا يسبب أضرار مثلما يسببه النزاع مع دول حوض النيل، فالنزاع مع دولة مجاورة نهايته قطع العلاقات أما مع دول حوض النيل  فمعناه قطع المياه، ومن هنا ليس من العيب مراجعة السياسة التي اتبعتها الدولة المصرية في الماضي، فالأمر في هذه المرة لا يقل خطورة عن الاعتداء على أراض مصرية،  وهذه ليست دعوة للدخول في نزاعات بقدر ما هي دعوة لإعادة التفكير في مداخل واقعية تضمن حلول ترتبط بتحقيق مصالح لدول حوض النيل دون  التعدي على حقوق مصر المائية في دول حوض النيل.
وفي هذا الإطار هناك ثلاث مداخل مختلفة  تشكل طريق مناسب  يجنب الدخول في صراعات  ويعمم الاستفادة من الإمكانيات الاقتصادية الموجودة في دول حوض النيل،  وهي المدخل الدولي international approach ، والمدخل الإقليمي  the regional approach ، ثم المدخل المحلي the local approach  .
وعلى الرغم من أهمية المدخل الدولي والمتمثل في جهود المنظمات الدولية كالبنك الدولي واليونسكو وغيرها من المنظمات المعنية بأزمة المياه في المنطقة، إلا أن قيمتها الأساسية تكمن في أنها مدخل مساعد للمدخلين الآخرين: الإقليمي والمحلي  في أن يفعلا من قدراتهما لحل أزمتهما المالية، وعلى الرغم من أهمية المدخل المحلي والمعني بكل دولة على حدة في قدرتها على ترشيد واستخدام وسائل أفضل في تعاملها مع المياه، إلا أننا نجد أن المدخل الإقليمي هو الأقرب والأنسب  في حل المشكلات المائية سواء المتعلق بها بالأمن الغذائي والندرة المائية، أو حتى المتعلق بالصراعات السياسية الناتجة عن هذا الأمر والذي عن طريقه  أيضا يمكن توظيف المدخلين الآخرين الدولي والمحلي في نطاقهما.
والمدخل الإقليمي المقصود هنا  هو منهج الإقليمية الجديدة القائم على إقامة المناطق الاقتصادية المشتركة أو المترابطة economic package. والمبني بالأساس على هدف أساسي هو تناسي الخلافات السياسية في مقابل المغريات الاقتصادية الناتجة عن هذا التعاون، وتكمن أهمية هذا المدخل التعاوني في انه قائم على وجود خطر مشترك قد يهدد حياة الجميع في هذه الحالة (أزمة المياه )، والتي ينتج عنها صراعات سياسية. ومن اجل تجنب ذلك توجد عن طريق هذا المدخل إمكانية استبدال الصراع، الذي يصعب معه حل المشكلة، بالتعاون والاندماج في تكتلات اقتصادية ويساعد على نجاح ذلك في حالة دول حوض النيل، على سبيل المثال،  هذا التنوع الجغرافي لدول الحوض والذي يجعل منها منطقة اقتصادية ناجحة، وفي هذه الحالة عندما يشعر كل طرف انه في حاجة إلى الطرف الآخر وانه يستفيد منه اقتصاديا بالتعاون معه  فسوف يفاضل بين هذه المزايا وبين الدخول في صراعات حتى لو كانت على المياه، لان عملية التكامل هذه سوف تدفعهم في هذه الحالة إلى البحث عن حلول  لمشكلة المياه فيما بينهم رغبة في  تعظيم الاستفادة من المزايا الاقتصادية.  وفي هذا الإطار يمكن تفعيل  المداخل الأخرى، فمثلا  المدخل الدولي قد يمكن من الاستفادة بالمساعدات والخبرات التي تقدمها المنظمات الدولية في هذا الشأن،  ويمكن تفعيل أيضا  المدخل المحلي في أن يكون هناك ما يشبه الإستراتيجية لكل دولة في أن تحاول أن تعظم من استفادتها من حصتها من المياه وتقليل الفاقد منها على قدر الإمكان بالوسائل المتاحة، والعمل على استحداث وسائل أخرى سواء في أساليب الري أو في طريقة نقل المياه من المجرى المائي مع  المحافظة على المجرى من التلوث من الاستخدامات البشرية  السلبية، حيث كل هذه المهام التي قد تتم داخل كل دولة على حدة من المكن أن تقنن في شكل تعهدات لدول التجمع الاقتصادي فيما بينها  في إطار التعاون القائم فيما بينها، ومن هنا فالإطار التعاوني والقائم بالأساس على أسس منفعية واقتصادية، يشكل المدخل الأنسب لحل الكثير من المشكلات المتعلقة بالأزمة المائية بجوانبها المختلفة سواء الندرة المائية أو الأمن الغذائي أو حتى الصراعات السياسية الناتجة عن ذلك.
© منبر الحرية،16 غشت/آب 2010

حواس محمود18 نوفمبر، 20100

التصفيق هذه الكلمة ذات الإيحاءات والمدلولات والمعاني والممارسات المتباينة والمختلفة عبر التاريخ وحتى يومنا الراهن، ولكن الأشد إيلاما في ثنايا هذه الكلمة أو في مكنوناتها المستترة، ومهما كانت أسباب نشوء هذه الظاهرة إلا أنها في أيامنا المعاصرة تحولت إلى ظاهرة قهرية بامتياز فحيثما وجدت دكتاتورية أو استبدادا مستفحلا تجد تصفيقا حادا أو صامتا ومهما يكن شكل التصفيق لكنه موجود بقوة، وهذا التصفيق يأخذ طابعا قهريا خنوعيا استسلاميا حتى في جانبه الانتهازي الوصولي لانتفاع مكتسبات وقتية من الطاغية أو المستبد الذي يدرك أسباب  هذه الانتهازية، لكنه يحبذها ويؤيدها لأنها تخدم استدامته في الحكم والسيطرة والنفوذ.
التصفيق لمحة تاريخية :
يعد التصفيق سلوكا قديما يعود إلى فترات زمنية موغلة في الماضي، حيث تدل الحفريات والبحوث الآثارية على تلمس آثار ودلائل وجوده في تلك الفترات من خلال النقوش المصرية والتي تشير إلى المصريين وهم يمارسون عملية التصفيق بالترافق مع طقوس احتفالية كالغناء والرقص.
يشير الدكتور عماد عبد اللطيف إلى أن اليونان من أقدم شعوب الأرض التي مارست عادة التصفيق وذلك بقيامهم – كما المصريين- بطقوس احتفالية غنائية ورقصية ومسرحية. وعندهم شاع المصفق الذي يصفق بأجر ( المأجور) أي الذي يصفق بمقابل مالي، وكان هذا يحصل أثناء عرض المسرحيات للحضور وتأجير فئات من الناس تمارس التصفيق للمسرحيات أمام لجان التحكيم التي تقوم بتقييم المسابقات المسرحية.
وتذكر المصادر التاريخية ولع نيرون طاغية روما بالتصفيق، كما أن التصفيق قد انتقل من شعب إلى آخر فلقد انتقل إلى العبرانيين من خلال الحضارتين الفرعونية واليونانية. 
وتعود علاقة  العرب بالتصفيق إلى عصور ما قبل الإسلام.كما عرف التصفيق كممارسة شعائرية تؤدى أمام الحرم المكي، واستخدم في صدر الإسلام أداة للتشويش على المسلمين في بداية دعوتهم، ويذكر بعض المؤرخين أن مجموعات من القريشيين الذين كانوا يعارضون دعوة الرسول محمد، كانت تلجأ إلى التصفيق تشويشا وضجيجا للسعي من أجل عدم استطاعة الرسول إبلاغ دعوته الدينية إلى الناس، وذلك من أجل عدم التأثر به وبدعوته للدين الجديد، وقد يكون التصفيق عند بعضهم ممارسة طقوسية للتقرب من الله.
التتصفيق  كظاهرة قهرية :
شاع التصفيق في قصور الخلفاء والملوك والسلاطين والولاة، وكان  تعبيرا عن قوتهم ومكانتهم وجبروتهم، فالذي يجلس على عرش الحكم عندما يصفق فهذا يعطي إشارة شديدة الترميز لاستحضار قوى سحرية، قد لا تكون أقل قوة من الساحر الحقيقي، عندما يصفق الملك فتحدث أشياء جديدة أمامه وعلى ساحات الرقص واللهو والمجون، فقد تظهر راقصة تخلب قلوب الحضور أو قد تنكشف موائد كبيرة ومتطاولة تشتمل على كل لذيذ  وطيب، وقد يبرز سيف بتار يقطع رقاب بعضهم، إذن فما بعد التصفيق يأتي شيء مفاجئ غير معروف، فإما تأشيرة فرح وسعادة  أو ترميزة قرح وحزن.
وعند العرب إذا قام أحدهم بعمل ما يحتاج لجهد جماعي وحين تعرضه لسؤال أحدهم هل أنجزت العمل الفلاني؟ يسارع بالإجابة بمثل (اليد الواحدة لا تصفق). في إشارة واضحة إلى حاجته إلى مؤازرته من قبل الآخرين.
ومن طرائف التصفيق أنه عندما يلعلع صوت الخطيب أو المحاضر أو المغني تجتاح القاعة موجة تصفيق حادة، يشارك بها كل الحضور حتى الذين لم يسمعوه جيدا والدليل على صدق ما نقول تكرار ظاهرة أن يقوم أحدهم أو بعضهم بعد مشاركتهم بالتصفيق بالسؤال لزميله الجالس إلى جانبه ماذا قال الخطيب أو المحاضر أو المغني !!.
وقد يكون التصفيق عملية غير بريئة، هذا ما يبينه مثل فرنسي يقول : ” يظل الطفل بريئاً حتى يتعلم التصفيق!).
كما أن كلمة  التصفيق قد تحمل في ثناياها مدلولات وإيحاءات وترميزات إلى ما يشبه الصفقة وهذا ما كان  يحدث عند اليونانيين وبخاصة في قاعات المسارح بين الحضور وأصحاب المسرحيات  كما ذكرنا آنفا.
بالانطلاق مما سبق نجد أن التصفيق وبصورة خاصة في الزمن المعاصر يلعب دورا قهريا كبيرا وبخاصة في المجتمعات الشرقية، وبصورة أكثر تخصيصا في العالم والإسلامي فلقد مرت شعوب العالم العربي، وبخاصة في مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر بمراحل ساد فيها التصفيق الآلي الصاخب والقوي، والذي جاء بفعل العاطفية والشعارية  والتجييش ربما لم تشهده أي شعوب أخرى في العصور الحديثة. هذا التصفيق-  وبخاصة للزعماء – جاء بعد احتلال فلسطين والحروب التي خاضها العرب 48، 67، 73، 82، يضاف إلى ذلك غزو النظام العراقي للكويت عام 1990، الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988، حرب الخليج الأخيرة 2003، حرب تموز 2006.
فبروز الزعماء العرب كجمال عبد الناصر كان مترافقا مع جمهور قطيعي شعوري عاطفي مغيب العقل، تحركه الخطب اللهابة والتهديدات النارية، ” سنرمي إسرائيل بالبحر”، ” لا صوت يعلو فوق صوت المعركة “، ” لتتقشفوا من أجل فلسطين ومعركة العرب المصيرية الكبرى “.
والمفارقة الكبرى أن تتماهى الشعوب العربية حتى الآن  إلى هذه الدرجة القصوى مع المستبد الذي أتقن لعبة العزف على وتر القضايا الكبرى كقضية فلسطين التي ترتبط بمسألة عادلة وظلم ممارس من قبل قوة أخرى هي القوة الإسرائيلية، بمعنى أن فلسطين أضحت قضية مقدسة تدغدغ مشاعر العرب من المحيط إلى الخليج، واستطاع الحاكم العربي المستبد ركوب الموجة بالتركيز على فلسطين كقضية العرب الأولى وإهمال قضايا التنمية والحرية والديمقراطية، حتى أن العديد من المعارضين للمستبد العربي كانوا ضحايا المتاجرة بقضية فلسطين، فالذين أعدموا بالعراق في السبعينات أعدموا بحجة أنهم جواسيس لإسرائيل، وحدثت أمور مماثلة في دول عربية أخرى مواجهة أو غير مواجهة لإسرائيل، إن أحكام الطوارئ والقوانين العرفية لا زالت تمارس  في معظم الدول العربية، وهي قد أتت بحجة أن الدول العربية تواجه إسرائيل فيمنع الناس من التظاهر أو التعبير عن المعاناة الداخلية، علما أن هذه الأحكام غير موجودة في إسرائيل نفسها، الدول العربية رفعت شعارات عديدة كالوحدة والحرية والاشتراكية، وهي قد فشلت فيها فشلا ذريعا  ورغم ذلك صفق لها كثيرا، ولا زالت تمارس أقسى صنوف القمع والترهيب بحجج وذرائع شتى.
إن حالة التخلف في الميادين كافة في العالم العربي يتم تغطيتها إعلاميا بتصفيق عجيب، فالأنظمة العربية بحسب التصفيق الممارس أنظمة وطنية وشرعية،  والحكام العرب رموز مقدسة، على الإعلام  العربي عدم استهدافهم باعتبارهم أولياء الله في الأرض، وهم لذلك محصنون شعبيا تخلفيا، وهم أنفسهم يقولون شعوبنا لا تستحق الديمقراطية لأنها غير واعية بالديمقراطية، وهي لم تبلغ سن الرشد الديمقراطي وبالتالي فهي تستحق التصفيق وبالتالي الاستعباد والاستذلال إلى أن تصل هذه الشعوب إلى الوعي بالديمقراطية!، ولكن السؤال كيف ستصل هذه الشعوب إلى الوعي بالديمقراطية وهي مغيبة عن الديمقراطية وممارس عليها آليات الاستبداد والدكتاتورية في التعليم والثقافة والتنمية والإعلام.  وهي مملوكة للحاكم المستبد وتبث كل سموم الاستبداد والقمع والطغيان بصورة ممنهجة ومستمرة.
فتصفيق الجماهير  رغم المعاناة والقهر وعدم فهم آلية العمل الاستبدادي الممارس، هو ظاهرة تدل على غباء المصفق وجهله، فهولا يدري ( إلا الانتهازيين منهم ) أن هذا التصفيق يساهم في  إدامة القمع والتنكيل وكل الإجراءات  التعسفية والضغطية والعنفية والتعذيبية ضدهم.
إن الحاكم العربي المستبد ما أن يتحدث ببضع كلمات عاطفية حماسية حتى يأتيه صدى كلماته تصفيق حاد مجلجل،  وإن كان يخطب في قاعة فان التصفيق المقابل لكلماته يحدث ضجة وصخبا وصدى كبيرا، وإذا كان قد قيل أن العرب ظاهرة صوتية ( المقصود بها الكلام دون الفعل) فإنهم بالتصفيق ظاهرة قهرية.
المراجع :
1- د. عماد عبد اللطيف ” لماذا يصفق المصريون ”
2- منتدى الضياء الإسلامي – أبي الحسن”  صوت سحري في عالم البشر ”  31-1- 2009
3- موقع أدب وفن سعيد الجريري  ” التصفيق بالعدوى وأشياء أخرى ” 13-9-2008
4- موقع شروق كتاب حول تاريخ ظاهرة التصفيق في مصر   3- 6- 2010
© منبر الحرية،13 غشت/آب 2010

إدريس لكريني18 نوفمبر، 20100

أمام الوضعية المأزومة والحرجة التي وصل إليها ملف قضية الصحراء، نتيجة استحالة تطبيق خيار الاستفتاء، وازدياد المخاوف من انهيار اتفاقيات وقف إطلاق النار المبرمة بين الجانبين (المغرب والبوليساريو) وإمكانية اندلاع مواجهة عسكرية بين الطرفين من جديد، وذلك بعد استقالة مبعوث الأمين العام الأممي المكلف بملف القضية السيد “جيمس بيكر”، كان من اللازم والضروري البحث عن سبل جديدة تمكن من إيجاد حل يحظى بموافقة الطرفين.
فالأمم المتحدة لم تخف رغبتها في الإسراع لإيجاد حل لهذه المعضلة التي كلفتها كثيرا من الوقت والإمكانات، كما أن بعض القوى الدولية الكبرى كالولايات المتحدة وبعض دول أوربا، ومن باب اهتمامها بالموقع الاستراتيجي للمنطقة وتنوع مكوناته الاقتصادية، أصبحت مقتنعة تمام الاقتناع، بأن مكافحة ما تسميه “إرهابا”، يتطلب احتواء مناطق التوتر ومواجهة الانفلاتات الأمنية وبخاصة بعد ظهور “قاعدة المغرب الإسلامي” وتمركزها في المنطقة.
وبخاصة وأن هذه الأخيرة توجد على مقربة من أوربا وقبالة القارة الأمريكية وبمحاذاة منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، المعروفة بتوتراتها ومشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية..
في ظل هذه الأجواء التي طبعها الجمود، قام المغرب بطرح مبادرة الحكم الذاتي، كاقتراح يستلهم عمقه من تجارب ومقاييس دولية عديدة متعارف عليها في هذا الشأن.
والحكم الذاتي هو نظام يستمد مقوماته من القانون الدستوري للدول، اعتمدته العديد من الدول كسبيل لتحقيق التنمية ولتدبير بعض الاختلافات العرقية أو الثقافية.. داخل بعض الأقاليم، عبر منحها استقلالا لممارسة مجموعة من الصلاحيات في إطار لامركزية سياسية، تحت إشراف السلطة المركزية، الأمر الذي يجعل منه حلا توفيقيا يوازن بين مطالب الاستقلال من جهة ومطالب فرض السيادة الكاملة من جهة أخرى.
إن الممارسة الدولية تحفل بتجارب نموذجية رائدة في هذا الشأن، سواء داخل الدول البسيطة كفرنسا وإسبانيا.. أو المركبة كبريطانيا وألمانيا.. والتي أثبتت نجاعتها على مستوى تدبير العديد من الصراعات الإقليمية أو العرقية المزمنة وتحقيق التنمية.
وإذا كان المغرب كدولة بسيطة قد اختار اللامركزية في بعدها الإداري منذ عدة سنوات، فإنه من خلال هذا المقترح يحاول توسيع وتطوير هذه اللامركزية الإدارية إلى لامركزية سياسية في هذه المنطقة.
وتشير المبادرة ضمن مقتضياتها إلى أن المغرب “يكفل من خلالها لكافة الصحراويين مكانتهم اللائقة ودورهم الكامل في مختلف هيئات الجهة ومؤسساتها، بعيدا عن أي تمييز أو إقصاء”، كما أن الفقرة 27 منها تنصّ على أنه: “يكون نظام الحكم الذاتي للجهة موضوع تفاوض، ويطرح على السكان المعنيين بموجب استفتاء حر، ضمن استشارة ديمقراطية..”.
وجاء أيضا في المادة 28 من المشروع أنه سيتم “مراجعة الدستور المغربي وإدراج نظام الحكم الذاتي فيه، ضمانا لاستقرار هذا النظام وإحلاله المكانة الخاصة اللائقة به داخل المنظومة القانونية للمملكة”.
ويبدو أن نظام الحكم الذاتي المقترح في حالة الموافقة عليه، سيطبق في المنطقة بشكل خاص، حيث سيستثني باقي المجال الترابي الذي سيظل خاضعا للقواعد الإدارية القائمة (الجهوية، اللامركزية، اللاتركيز).
ويلاحظ أن المشروع لم يتحدث بتفصيل عن محددات الحكم الذّاتي، بقدر ما حدّد توجّهاته العامة، وهو وإن كان يحرص على سيادة المغرب في الأقاليم الصحراوية، من خلال احتفاظ الدولة بمجموعة من الصلاحيات السيادية المرتبطة بالعلم والنشيد الوطني والعملة والاختصاصات الدستورية والدينية للملك والدفاع والعلاقات الخارجية..، فهو ينصّ على مجموعة من الصلاحيات الحيوية والهامة التي ستخول للسكان، مع تخصيص مجموعة من الموارد المالية، بما سيضمن للساكنة هامشا مهمّا لتدبير شؤونهم المحلية، عبر مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية خاصة..
كما أنه تضمن عددا من الركائز والمقتضيات التي تحرص على صيانة حقوق وحريات الساكنة، وتضمن ممارستها. ويلاحظ أيضا أن المشروع أشار بشكل مكثف ضمن فقراته إلى التفاوض، فهو يتأسس في جزء كبير منه على الحوار، حتى أنه لم يشر بتفصيل مدقق إلى الاختصاصات التي ستخول للسكان في هذا السياق، ويبدو أن واضعي المشروع كانوا على وعي بهذا الأمر، وذلك لإتاحة الفرصة في هذا الصدد لما قد يتم بلورته من معطيات ومقترحات تفصيلية ستثريه وتعززه، من خلال المفاوضات المباشرة بين الطرفين.
ومن ناحية أخرى، حاول المقترح المغربي استحضار الخصوصيات الاجتماعية والثقافية للمنطقة في كثير من بنوده (الفقرات 12 و19 و22 و25 و26 من المشروع).
كما نص على إمكانية عرض الصيغة النهائية المتفاوض بشأنها منه على استفتاء حرّ أمام السكان، كشكل من أشكال تقرير المصير الذي يستمدّ أساسه من الميثاق الأممي (الفقرة الثانية من الفصل الأول) وقرار الجمعية رقم 1415.
ويبدو هذا الطرح موضوعيا وواقعيا إذا ما استحضرنا أن العديد من المبادئ التي أقرّها القانون الدولي من قبيل عدم التدخل في الشؤون الداخلية والمساواة في السيادة.. تطورت ولم تعد بالقداسة والصرامة التي كانت عليها سابقا، نتيجة لمجموعة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أفرزها تطور العلاقات الدولية في العقدين الأخيرين. فهي (التحولات) تتيح التعامل مع مبدأ تقرير المصير بنوع من المرونة والواقعية، لأن الحكم الذاتي يمكن أن يشكل امتدادا لتقرير المصير، إذا ما مورس الحكم الذاتي في إطار ديمقراطي وضمن اختصاصات حيوية وهامة..
ولعل هذا ما دفع المبعوث الأممي السابق إلى الصحراء “فان فالسوم” الذي تابع تطورات الملف ووقف على خلفياته لأكثر من ثلاث سنوات، إلى التعبير صراحة في تقريره المقدم إلى مجلس الأمن عن عدم واقعية إنشاء كيان مستقل في الصحراء.
إن الانفصال هو أحد المظاهر المتعددة لحق تقرير المصير، لأن هناك سبلا أخرى تجد أساسها في القانون الدولي بإمكانها تحقيق أهداف وغايات هذا المبدأ، والحكم الذاتي يعد من أهم هذه المظاهر الناجعة، وتبدو موضوعية هذا الطرح في ضوء الحقائق والوقائع التي تجسدت في المنطقة على امتداد أكثر من ثلاثين سنة.
لقد لقي المشروع استحسانا كبيرا من قبل مجموعة من دول العالم، بما فيها بعض القوى الدولية الكبرى كالولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا.. وهو استحسان يترجم الشعور بواقعية وموضوعية هذه المبادرة، وبخاصة وأن المجتمع الدولي أصبح أكثر وعيا واقتناعا بأهمية وضرورة حسم هذا المشكل الذي أضحى من بين أقدم النزاعات التي خلفتها مرحلة الحرب الباردة، وكلّف شعوب المنطقة والمنتظم الدولي الكثير..، كما أن مجلس الأمن أشاد بدوره بهذه المبادرة واعترف بجديتها، بل إن المجلس في قراراته التي أعقبت طرح المبادرة(القرار 1754 بتاريخ 30 أبريل 2007 والقرار 1783 بتاريخ 31 أكتوبر 2007، والقرار 1813 بتاريخ 30 أبريل 2008، والقرار 1920 بتاريخ 30 أبريل 2010)، وإن أشار إلى التزامه بمساعدة الطرفين على التوصل إلى حل سياسي عادل ودائم “يكفل لشعب الصحراء الغربية تقرير مصيره”، فقد ظلّ يؤكد على أهمية التفاوض بين الطرفين وعلى ضرورة بلورة حل مقبول لدى الطرفين.
إن استمرار التوتر في هذه المنطقة الحيوية لن يكون في صالح أي طرف، فخيار التسوية السلمية والبحث عن حل واقعي مقبول لدى الطرفين يفتح آفاق واسعة من التنسيق والتعاون، تفرضه التحديات الدولية الراهنة التي تؤكد يوما بعد يوم أن مناطق التوتر والصراع، تفرز تداعيات اجتماعية وسياسية واقتصادية.. خطيرة تتجاوز الحدود.
ومعلوم أن المشكل فوت فرصا عديدة على المنطقة المغاربية برمتها، فهو أثر بشكل سلبي ملحوظ في مسيرة المغرب العربي في زمن أصبح فيه التكتل أمرا ملحا، وأسهم في تنامي المشاكل بين المغرب والجزائر..، كما كانت كلفته الاقتصادية على دول المنطقة ضخمة جدّا.
© منبر الحرية،27 تموز/يوليو  2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

لنبدأ من عبارة لكم عشيّة أحداث 11 أيلول الإرهابيّة في أمريكا مازلت أتذكّرها، كتبتم حينها في جريدة (الحياة) تقولون بأنّ تبرّؤ الرأي العام العربيّ من الإرهاب موقفٌ طفوليّ… وفي موضع آخر كتبتم: أسامة بن لادن، قبل أن يكون صنيعة المخابرات المركزية الأمريكية، رجلٌ منّا وقد صنعته نظمنا الاجتماعيّة…أين هي مسؤوليّة الشعوب العربيّة والإسلاميّة من المدّ الأصوليّ التكفيريّ و التدميريّ في المنطقة؟
ج1-ينبغي تصحيح العبارة هنا. عندما نقول مسؤوليتنا، فنحن لا نقصد الشعوب بالمطلق لأنّ هذا لا معنىً له، إنّما نقصد مسؤولية المؤسسات التي أقَمنا عليها اجتماعَنا، كما نقصد الاختيارات الكبرى التي اعتمَدتْها النّخب الاجتماعيّة المسيّرة للمجتمع والموجِّهة له على المستويات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والدينيّة معاً. فهذه المؤسّسات والاختيارات التي تمثّلها والتوجّهات التي تفرض عليها من قبل النّخب هي التي تحدّد إطار عمل الشعوب والأفراد، وغاياتهم وأساليب عملهم واختياراتهم المُحتَملة ووسائل تحقيقهم لغاياتهم. وإذا فسدت المؤسسات أو فسدت الاستراتيجيّات التي تسيّرها، فسد المجتمع نفسه، فسارَ نحو الصراع أو العنف والاستثمار في القيم السلبيّة، أو نحو الفوضى والاقتتال. فالشعوبُ محكومةٌ بمؤسّساتها والمشاريع الجمعيّة التي تندرج فيها والقيم التي تحرّكها، وليس بموروثها البيولوجيّ أو الثقافيّ. ولا ينبغي أن نتردّد في تأكيد فساد مؤسساتنا، وأكاد أقول جميعاً، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والدينيّة معاً. وهذا الفساد هو المسئول في الوقت نفسه عن تحويل البلدان إلى مزارع إقطاعيّة يعبث بها أمراءٌ من دون ثقافة ولا ضمير، حسب أمزجتهم الشخصيّة، خارج أيِّ مفهوم للسياسة والقانون والدين والأخلاق والإنسانيّة.  بقدر ما هي مسؤولة، أعني المؤسّسات الفاسدة، عن تفجير ينابيع الحقد والانتقام وإرادة تدمير المجتمع والانقلاب عليه لدى فئات لم تعد تحتمل النظام، ولكنها لا تعرف وسائل ولا طرقاً أخرى لمواجهته غير ما يستخدمه هو ضدّها. حركات التمرّد والانتقام والعصيان وحمل السلاح هي الابن الشرعيّ لنُظُم العسف والفساد و الإهانة والطغيان. ومصيرهما معلّقٌ واحده بالآخر.
2- هناك مفارقة كبيرة تبدو لي عند الحديث عن الديمقراطية في سوريا، فللوهلة الأولى يبدو وكأن هاجس الانتقال/التغيير الديمقراطيّ في سوريا هو”مالئ الدنيا وشاغل الناس” في حين أن أغلبية الشعب السوريّ لا تكترث لهذه القضيّة التي تبدو مركزيّة في خطاب المعارضة السوريّة(الذين ليسوا سوى مجموعات صغيرة  نجت بأعجوبة من مذبحة السياسة حسب تعبيركم في “الاختيار الديمقراطي”)، ناهيك عن تخوّف قطاعات واسعة  في سوريا،  مواطنين عاديين وناشطين في حقل الشأن العام، من أنّ البديل القادم للنظام القائم حالياً سيكون إمّا الفوضى(الحرب؟؟!!!) الأهليّة أو إسلام سياسيّ متشّدد(استبداد دينيّ إسلاميّ مذهبي الطابع)  أو مندوبي حكومات غربيّة(عملاء)….. ما بين اللامبالاة الشعبيّة و”الحياديّة السلبيّة” لآخرين وعداء الكثيرين للديمقراطيّة من جهة وحماس النشطاء السياسّيين والمثقّفين الوطنيّين لشعار الديمقراطيّة من جهة أخرى..، هل هو “الخوف والهروب من الحرية”  بتعبير إريك فروم، السّاكن في البنية الثقافيّة والسيكولوجيّة لإنساننا المُستعبَد هو الذي يقف خلف هكذا مواقف؟! وكيف يمكن تعزيز ثقة الناس بقبول عقدٍ اجتماعيّ سياسيّ جديد يؤسّس لسورية المستقبل بدلاً من نظام الاستبداد والفساد والتفكّك الاجتماعيّ والانهيار الاقتصاديّ؟
ج2- سكوت الناس وشلل إرادتهم لا يرجعان لخوفهم من الحريّة، كما يخاف الأسير الذي اعتاد الأسر من الخروج من قفصه. ربّما كان الأمر أعمق من ذلك. فالشعوب العربيّة والإسلاميّة لم تعرف الحرّيّة، ولا اختبرت ممارستها، بالمعنى السياسيّ والمدنيّ الحديث الذي نستخدمها به اليوم، أي من حيث هي حقوقٌ وممارسات فرديّة ومشاركة في تقرير الشؤون العموميّة. فهذا المعنى هو ثمرة الحداثة السياسيّة التي جعلت الشعب مصدر السلطة وأسّست لشرعيّة شعبيّة للسياسة، أي انتخابيّة ديمقراطيّة، بعد أن كانت شرعيّة ملكيّة تبقيها حكراً على الحاكم الملك أو السلطان. وباستثناء فترات قصيرة ومتقطّعة لم تعرف مجتمعاتنا حياة سياسيّة ديمقراطيّة فعليّة ولا سَنَحَت لها الفرصة لتمثّل قيم الحرّيّة بمعانيها المدنيّة والسياسيّة. بقينا ننظر إلى الحرّيّة من منظار الشريعة والعرف أيْ بوصفها صفة الشخص غير المملوك من غيره، أي عكس العبد والرقيق. ولذلك لا يبعث الحُكم الديكتاتوريّ مهما استمرّ وبالغ في تعسّفه على الشعور بانعدام الحرّيّة، فنحن نبقى من الناحية الشرعيّة أحراراً، ولا يثور الرأي العام ضده إلاّ عندما يرتبط بالظلم، فلهذا الأخير مدلولاً واضحاً وسلبيّاً في الثقافة والوعيّ الإسلاميّين. بل إن الديكتاتوريّة لا ترى كديكتاتوريّة، ولا تعبر هذه اللفظة عن شيء مهم في الوعي السّائد العام. إن المدلول الديكتاتوريّ يجد تجسيده في مصطلحات التعسّف والطغيان والفساد. فإذا لم تترافق السلطة المطلقة بالفساد لا نسميها ديكتاتوريّة، ونتسامح كثيراً مع تغييبها الحرّيّات، بل ربما نظرنا إليها كسلطة ايجابيّة إذا ارتبطت بالتطبيق الدّقيق للشريعة أو القانون واحترمت قاعدة الإنصاف في تعاملها مع الأفراد فلم تميّز بينهم. وهذا هو مضمون النظريّة الشّهيرة للمستبدّ العادل  الذي كان يطالب به المصلحون الكبار في العصور الإسلاميّة، بما في ذلك في عهد الإصلاح الدينيّ الأخير في أواخر القرن التاسع عشر. وأعتقد أن أغلبية النخب العربيّة والإسلاميّة لا تزال تعتقد حتى اليوم، بسبب عدم ثقتها بالشعب وجهلها العميق بمعنى الحرّيّات المدنيّة والسياسيّة هي نفسها، بأن حكم المستبدّ المستنير خيرٌ من حكم الديمقراطية الذي ربّما أتى بحكومات تقليديّة معادية للحداثة والتجديد.
والواقع أننا لم نعرف في مجتمعاتنا معنى السياسة الحديثة من حيث هي مشاركة لجميع أعضاء المجتمع في تقرير الشؤون العموميّة. لقد كُنا معتادين، مثلنا مثل شعوب العالم جميعاً في القرون الوسطى، على تسليم أمرنا لأسيادنا، ملوكاً أو أمراء أو أعيان، في الشؤون العموميّة، شؤون الحرب والسلام والحكم والقضاء، وربّما حتى الآن، بينما نعتمد في تنظيم شؤون حياتنا الخاصّة في كل ما عدا ذلك على تقاليدنا الدينيّة أو العرفيّة أو الاثنين معاً.
من الطبيعي في هذه الحال أنْ لا يحرّك شعارُ الحرّيّاتُ الفرديّة، الذي يعني المشاركة في تقرير الشؤون العموميّة، الأغلبيةَ الشعبيّة التي لم تؤمن يوماً أنّ من حقّها التدخّل في ما هو من اختصاص الأعيان. بل ربما كان مثل هذا الشعار سبباً في تنفيرها من السياسة لأنّه يبدو وكأنه شرك تستخدمه النخب السياسيّة المثقّفة والحديثة لدفعها إلى الوقوف في مواجهة السلطة وتعريضها لانتقام هذه الأخيرة العنيف. وحتّى أولئك الذين استبطنوا معنى الحرّيّة الفرديّة، وهم أقلية، لا يتجرّؤون على المطالبة بها لأنهم يدركون أنه لا أملَ في تحقيقها في النظم السياسيّة العربيّة الرّاهنة، وأنّ المجاهرة بها يمكن أنْ تعرّضهم لانتقام الحكّام تماماً كما كان الأقنان يتعرّضون للموت إذا اعترضوا على سياسات أسيادهم الإقطاعيّين أو ارتفعوا بتفكيرهم إلى مستوى مناقشة أحكامهم السياديّة.
لكنّ القول أنّ قلّة من النخب السياسيّة والثقافيّة الحديثة هي التي تملك الحسّ العميق بمعنى الحرّيّات الفرديّة، بقدر ما تطمح إلى المشاركة السياسيّة، والمعاملة على قاعدة المساواة ورفض العبوديّة، لا يعني أنّ قضية الحريّة لا تعنى إلاّ النخب المثقّفة الاجتماعيّة والسياسيّة، ولا تفيد غيرها. إنّ إقامة نظام مدنيّ قائم على احترام الأفراد ومشاركتهم جميعاً في الحياة السياسيّة، وتطوير وعيهم المدنيّ وتعميق شعورهم بالمسؤوليّة عن مجتمعهم وما يحصل فيه، عن حالته وتقدّمه ومستقبله ومصيره، لا يشكّل اليوم النظام الوحيد القادر على بناء جماعة سياسيّة حيّة وفاعلة ومبدعة فحسب، قادرة على التفاعل والتعاون والتواصل مع المجتمعات المحيطة بها والدفاع عن نفسها ومصالحها. إنّه يشكّل أكثر من ذلك شرط ولادة مفهوم المصلحة العموميّة، أي نشوء رؤية وطنيّة تساعد الفرد على النّظر أبعد من مصالحه الشخصيّة المباشرة ليأخذ بالاعتبار مصالح الآخرين أولاً، وليضع مصلحته الفرديّة ضمن قاعدة القانون الذي يشكّل مصلحة عموميّة، لأنّه لا بقاءَ للمجتمع من دونه، ثانياً. نظام الحرّيّة هو وحده الذي يمنع من استفحال الأنانيّة البغيضة وما يرتبط بها وتحميه من قيم الوصوليّة والانتهازيّة والمحسوبيّة، أي يخلق داخل كل فرد وعياً بأنه جزءٌ من كلٍّ، وأنّ الحفاظ على توازن الكلّ الاجتماعيّ وانسجامه هو شرطٌ لاستمراره في تحقيق مصالحه الخصوصيّة. وليس هناك أكثر دلالة على ذلك مما نشهده من ارتباط واضح داخل النظم الاستبداديّة بين إلغاء الحرّيّة وانعدام المسؤولية وسيطرة المصالح الأنانيّة التي تتسبّب في تدمير المؤسسات وتعميم الفساد والظلم والاقتتال معاً.
أما تأسيس عقد جديد ينقل المجتمع من الديكتاتوريّة والفساد نحو حياة ديمقراطية حقّة فهو مرتبط بمجموع العملية التحويليّة التي نسمّيها معركة الديمقراطيّة. وهي في نظري معركة تاريخيّة تستدعي الاستثمار الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ والاقتصاديّ الطويل، الذي يتطلّب جهداً متواصلاً وإراديّاً كبيراً من قبل النخب الاجتماعيّة وفي طليعتها المثقّفون، تتناقض كلّياً مع الانقلابات العسكريّة التي عرفناها في السابق، ولا تقتصر على انتظار انهيار النظام الاستبداديّ أو الانقلاب عليه. إنّها ترتبط بإعادة بناء الوعي ومنظومة القيم وترميم قنوات التواصل والتفاعل والتضامن بين أفراد المجتمع، وقبل ذلك، بين أفراد النخبة الاجتماعيّة. ومن دون ذلك لن يجلب الانقلاب على الوضع الاستبداديّ إلاّ وضعاً استبدادياً آخر شبيهاً به أو قريباً في صورته منه. فالديكتاتورية ليست انعكاساً لإرادة شخصيّة من قبل القائمين عليها، حتى لو ظهرت وكأنّها كذلك، ولكنها قائمة على شروطٍ موضوعيّة وذاتيّة ومرتبطة ببيئة فكريّة وثقافيّة وسياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة أيضاً. فشبكات المصالح الأنانيّة وما تتميّز به من بُنيات خاصة، هي التي تخلق المستبدّ الحاكم بأمره، وليس العكس. لذلك إنّ الخروج من الديكتاتورية لا يتحقّق إلاّ بتغيير يشمل جميع الأفراد ومستويات الحياة الاجتماعيّة، فهو مسؤولية الجميع، وفي مقدمتهم النخب الاجتماعيّة. والطريق  إليه هو تربية الناس وكلّ فرد على مبادئ المسؤوليّة، أي إدراك ترابط مصالح الفرد الخاصّة بمصالح الأفراد الآخرين، واستعداده للمشاركة في حمل المسؤوليّة. بل إنّ الديمقراطية ليست شيئاً آخر سوى مشاركة الجميع في تحمّل مسؤولية تقرير مستقبلهم المشترك. إذا وصلنا إلى هذا الموقف ونمّينا هذا الاستعداد عند الأفراد أصبحنا واقعاً، أو من حيث الواقع، مجتمعاتٍ ديمقراطيّة. فقاعدة الاستبداد الكبرى ومورده هو الاستقالة السياسيّة، أي التخلّي عن المسؤوليّة وتحييد الفرد لنفسه عن التفكير والعمل في الشؤون العموميّة.
3- ثمّة التباسات عديدة حول مفهومَيْ الديمقراطيّة والليبراليّة نظريّاً وإجرائيّاً وقد توسّعتم في هذا الموضوع….في حين أن نقاشاً مشابهاً دار حول العلاقة بين الديمقراطيّة والعلمانيّة في سوريا… هل صحيحٌ أنّ العلمانيّة يجب أن ُتطرح الآن بالترافق تماماً مع الديمقراطيّة، أم أنّ العلمانيّة كمطلب سياسيّ واقعيّ عند البعض وشعار برّاق بلا روح ومضمون ثقافيّ ديمقراطيّ عند آخرين، يجب أن يؤجّل لمصلحة أولوية إقامة نظام ديمقراطيّ أولاً…؟
ج3-لا ديمقراطية من دون “علمانية”، أي من دون قبول الأفراد بمبدأ الاحتكام للرأي في تقرير كل ما يتعلق بالشؤون العموميّة، بما في ذلك في القوانين والتّشريعات التي تحكم النّظام الاجتماعيّ. إذا فَرض فريقٌ على المجتمع مبدأ آخر غير الرأي في معالجة الشؤون العموميّة، لم تعد هناك ديمقراطية وإنّما نظامٌ مرهون بالنصوص المقدّسة التي يحتاج تفسيرها إلى تفاهم واتفاق مسبق بين جميع أصحاب العقيدة الدينيّة الواحدة، وهو أمرٌ مستحيل لأنّ الاختلاف في التأويل هو جوهر الحياة الفكريّة، وهو واقع الحال اليوم في كلِّ مجتمعات العالم وجماعاته الدينيّة. ولا أعني هنا بالنصوص المقدّسة الإلهيّة منها ولكن المنزّلة من قبل الحكّام الذين يؤلّهون أنفسهم أيضاً، حتى لو وسموها باسم العلمانيّة، كما حصل مع النظم الشيوعيّة. فقد كانت قوانينها توصف بالعلميّة، أي التي لا تخطئ، والتي لا يمكن أن يكون موقفنا إزاءها وإزاء منتجيها من العباقرة الأفذاذ، إلاّ موقف التسليم والاقتداء. ونستطيع أن نقول الشيء نفسه تجاه بعض الترسيمات القوميّة التي يعتبرها أصحابها ثوابت لا تناقش ولا يمكن للمواطنين، قلّة كانوا أم كثرة، التشكيك في صلاحيتها أو حتى طرحها على النقاش.
لكن تأكيد هذا المبدأ أو التوقف عنده لا يحلّ المشكلة أبداً. ذلك أنّ الاستخدام السياسويّ، والتعبئة التي حصلت في الصراعات الطويلة السابقة بين الأحزاب والفرق السياسيّة المتنازعة، قد غيّرا معنى العلمانية، بالمفهوم الذي ذكرته للتوّ، أي إنزال كل ما يتعلّق بتنظيم المجتمع من قواعد ومؤسسات ومبادئ وقيم، إلى مستوى الرأي والقبول بتعريضه لنار العقل الكاوية. فأصبح البعض ممّن يدافع عنها يطابق بينها وبين نزع الدين السماويّ من المجتمع أو السياسة بمعنى النشاط الاجتماعيّ اليوميّ، وأخذ البعض الآخر ينظر إليها في مواجهة الفريق الأول على أنها مرادفة للكفر والتخلّي عن الدين وأي إيمان واعتقاد، أو على الأقل تحييد الدين من حيث هو التزام عقائديّ وأخلاقيّ، عن الحياة العامة، وبالتالي الانحطاط بالإنسان الآدميّ في نظر هؤلاء إلى مستوى البهيميّة. هكذا صارت العلمانيّة سلاح أولئك الذين يريدون وضع حدٍّ لنفوذ الدين السماويّ وما يرتبط به من تقاليد محافظة في المجتمع، وصار التشهير بها وتشويه معناها وربطها بالدعوة إلى انعدام الدين والأخلاق ومساواة الإنسان والحيوان سلاح أولئك الذين يريدون تطبيق الشريعة الدينيّة وإقامة السلطة العادلة والأخلاقيّة. وشيئاً فشيئاً تحوّلت إلى مصدر إضافي للنزاع والصدام وسوء الفهم والقطيعة داخل قطاعات الرأيّ العام بدل أن تكون إطاراً لتجاوز اختلافاتهم العقائديّة، لا إلغائها، في سبيل توحيد كلمتهم وإرادتهم السياسيّة. وعمل تشويه معنى العلمانيّة وإفساد مضمونها ودلالاتها عبر هذه المعركة السياسيّة والاستخدامات الأداتيّة على إساءة سمعتها، وقاد إلى تحييدها من النقاش السياسيّ، أو استبعادها الإراديّ من قبل قسم كبير من أصحاب الرأي الديمقراطيّ والقوميّ، لتجنّب النزاعات العقائديّة الثانويّة، والاحتفاظ بأمل توسيع قاعدة التفاهم بين الأطراف والتيارات الاجتماعيّة على اختلاف فلسفاتها، خاصة بعد فساد المصطلح واختلاط مدلولاته. وهو ما كانت الحركة الوطنيّة قد فعلته منذ بداية القرن التاسع عشر عندما رفعت شعار “الدين لله والوطن للجميع”، من دون أن تغامر بفتح النقاش النظريّ الضروريّ لتأصيل المصطلح وتأسيسه في الفكر والثقافة العربيّة الحديثين. فبقي لذلك عائماً ومائعاً من دون معنى واضح ولا مدلول دقيق، وبالتالي موضع نزاع مستمرّ.
ليس هناك حلٌّ لهذا الاختلاط الهائل الذي ارتبط بمفهوم العلمانيّة وصبغ طريقة تعامل الأطراف السياسيّة المختلفة معه، وتحميله معاني متباينة ومتناقضة تكاد تقضي عليه، إلاّ بالعودة إلى الموضوع والقبول بفتح النقاش المعلّق أو المؤجّل منذ عقود حول العلمانيّة وإعادة تعريفها وتحديدها، في إطار بناء ثقافتنا السياسيّة الديمقراطيّة الجديدة المنشودة. فإذا حرّرنا معنى العلمانيّة من استهداف الدين السماويّ خصوصاً، كما أوْحَت به أو نشرته بعض العقائديات الماركسيّة واليساريّة والتحديثيّة عموماً، واستبعدنا التأويلات اللاإنسانيّة واللاأخلاقيّة  التي درجت عليها ولا تزال بعض التيارات السلفيّة الإسلاميّة، لن يبق منها سوى ما ذكرناه. أعني لن يكون للعلمانيّة معنىً آخر مختلف عن معنى المدنيّة، بما تعنيه المدنيّة من أسبقيّة الاعتماد على الرأي، أي من إخضاع جميع القرارات والأحكام المتعلّقة بالشؤون العامة للنقاش الحرّ والعقلانيّ بين ممثلي الشعب. والتأكيد على استخدام الرأي وإعمال الفكر في كل ما يتعلق بالشؤون العموميّة، أي السياسيّة، والمجتمع الحديث هو مجتمعٌ سياسيّ أساساً، لا يمكن أن تنفي الدين ولا حقّ المتدينين في استلهام القيم الدينيّة عند صوغهم لآرائهم وأفكارهم السياسيّة. فليس هناك مبدأ سياسيّ أو اجتماعيّ يمكن أن يستبعد الدين أو أن يقرر استبعاده من أن يكون مورداً للأفكار والقيم التي تحرّك المؤمنين وتوجّه تفكيرهم وأعمالهم وسلوكهم. إنّ ما يستبعد هو فرض الرأي، سواء أكان من استلهام الدين أو العقل، على الآخرين، وعدم القبول بقاعدة سيطرة الأغلبيّة على الأقليّة. لكن هذه السيطرة لا تعني سوى حقّاً مؤقّتاً سياسيّاً، لا يصبح شرعيّاً إلاّ بقدر ما تضمن الأغلبيّة احترام رأي الأقليّة،  ولا تقوم بما يحرم هذه الأقليّة نفسها من التحوّل، عن طريق  النقاش والحوار والنشاطات السياسيّة والثقافيّة القانونيّة، إلى أغلبية سياسيّة.  والخلاصة أنّ الديمقراطيّة لا تقوم من دون علمانيّة. لكنّ العلمانيّة لا تعني تبنّي عقيدة لا دينيّة ولا استبعاد الدين من الحياة العامة ولا تقييد الحرّيّات الدينيّة. إنّها تعنى حياد الدولة ومؤسّساتها تجاه الأديان والعقائد وعدم انخراطها فيها أو الاعتماد عليها للتغطية على سياستها غير المقبولة أو لخرق الشرعيّة الديمقراطيّة.
4-هناك حساسية فائقة لدى البعض من أن أي دعوة للديمقراطية في سوريا تعني بالضرورة سيطرة الإسلاميين المتشدّدين على نظام الحكم في البلاد…بالمقابل نجد أن الديمقراطيّة كنظام وثقافة لا تتمتّع بسمعة طيّبة ورصيد كبير في أوساط الإسلام السياسيّ بشكل عام….كيف نفسر هذا الالتباس والتناقض وما المخرج من هذه الإشكاليّة؟
ج4- ليس هناك تناقض بالضرورة. الفرق الإسلاميّة المتشدّدة الحديثة يمكن أن تستخدم أساليب حديثة لتحقيق أهداف قديمة. ويمكن أن تُستخدم الديمقراطيّة لبناء سلطة معادية لها. وهي ليست الفرق السياسيّة الوحيدة التي تفعل ذلك. فالفاشيّة فعلته من قبل. لكنني لا أعتقد أن الانتخابات الديمقراطيّة تعني بالضرورة سيطرة الإسلاميين، وأقل من ذلك الإسلاميين المتشدّدين. ربما كان ذلك مُحتَملاً منذ عقدين. وهو محتملٌ في مجتمعات تعاني من أزمة وطنيّة حادّة ودائمة كما هو الحال في فلسطين أو في العراق. لكن في الظروف الطبيعيّة، وفي بلدان تتمتّع بالحدّ الأدنى من الاستقرار لا يطمح الإسلاميّون بالحصول على أكثر من ثلث المقاعد في أي مجلس نيابيّ مُحتَمل، هذا في أحسن الأحوال. لكن لنْ يحصل المتشدّدون ربّما على خمسة بالمائة كأقصى حد. وأمامنا أمثلة كثيرة في كل الدول العربية التي حصلت فيها انتخابات مثل مصر وبعض دول الخليج والأردن والمغرب الأقصى وحتى الجزائر وتونس. لكنّ الإسلاميّين الذين سيفوزون ليسوا بالضرورة من النوع المنغلق الذي يرفض التفاهم مع قوى أخرى غير إسلاميّة. فهم يعرفون اليوم أنه ليس بإمكانهم حكم البلاد لوحدهم.
لكن ما هو أهمّ من ذلك هو أن أيّ انتخابات تقوم في سياق عملية انتقال مدروسة من حكم الحزب الواحد إلى حكم تعدّديّ لا تقوم ولا ينبغي أن تقوم عبر انقلابٍ عسكريّ وإنّما من خلال عملية سياسيّة يتم فيها التوافق بين القوى السياسية على شروط المرحلة الانتقاليّة، وبالتالي أيضاً على صوغ قانون للانتخابات يراعي مصالح الجميع ويمنع الانفراد أو الإجحاف بحقّ القوى المختلفة. ويشكّل هذا التفاهم ضمانة قويّة ضدّ الانحرافات أو المخاطر المُحتَملة لسيطرة الإسلاميين. بالإضافة إلى أنّ مؤسسات الجيش والأمن في جميع البلاد العربية تشكّل، كما هو الحال في تركيا، معقلاً للتيّارات غير الدينيّة. وليس من المطلوب حلّها للقيام بالانتقال نحو الديمقراطيّة.
بالعكس، إن تأجيل الانتقال هذا، بما يرافقه من تراكم التوتّر والضغط والاحتقان،  هو الذي يضاعف من مخاطر الانفجار والانتقال من دون تفاهم نحو حكم تعدديّ يصبح فيه الأكثر قدرة على تعبئة المشاعر الطائفيّة هو الحكم في اللعبة الانتخابيّة. إنّ ترك الأمور للصدف هو بالضبط الذي يهدّد باستلام الإسلاميين المتطرّفين بالفعل، وليس تنظيم الانتقال من خلال عملية تفاهم وطنيّ وتحوّل تدريجيّ مضبوط ومتّفق عليه. والقصد لو كانت هناك إرادة تحوّل ديمقراطيّ بالفعل، لحصل ذلك من دون أي مخاطرة، و لَكَان من السهل جداً التوافق على مراحل انتقاليّة تمنع أيّ انزلاق أو انحراف.
© منبر الحرية،15 تموز/يوليو  2010
(هذا  النصّ جزء من حوار نشر في مجلة الحوار”ثقافية فصلية حرّة، تصدر في سوريا”)

حواس محمود18 نوفمبر، 20100

من المؤسف والمؤلم حقا أن الاستبداد أضحى سمة من سمات المجتمعات العربية، ذلك أن ديمومة الاستبداد عبر التاريخ العربي الإسلامي منذ معاوية بن أبي سفيان وحتى معاويات القرن العشرين والواحد والعشرين في العالم العربي هي بمثابة واقع الحال المستعصي على التحول والتبدل.
فبعد أن رحل الاستعمار من العالم العربي في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم استلمت طغم عسكرية زمام الحكم في البلدان العربية ونادت بشعارات  قوموية وصفق لها الجمهور كثيرا وازداد الوهم بقدرتها على تحرير فلسطين، ولكن الهزائم تلو الهزائم لاحقتها لكنها رغم كل ذلك بقيت صامدة وسيدة مستبدة جاثمة على صدور الموطنين من المحيط إلى الخليج فارضة أحكاما عرفية وقوانين طارئة مكبلة الحريات الأساسية ومعيقة التطور الطبيعي والتحول الاعتيادي لهذه المجتمعات مما أوقعها  في شباك الاستبداد الذي أفسح المجال كثيرا أمام الفساد وذلك كشرط أساسي لديمومة الهيمنة والسيطرة. وادعت هذه الأنظمة أن الجماهير ليست واعية وهي لا تستحق الديمقراطية والإصلاح لذلك فهي البديل الأبدي الذي لا يمكن أن يتزحزح، وعندما لاح أفق التغيير من الخارج في المثال العراقي بإسقاط صدام حسين الذي كان نموذج الاستبداد العربي بامتياز هاجت هذه الأنظمة وماجت ووضعت العصي في عجلة أي تغيير يأتي من الخارج فوقفت مساندة للإرهاب بعد أن كانت متحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأخرى في الحرب ضد الإرهاب (حرب أفغانستان) وبالتالي أعطت صورة مشوهة لنموذج التغيير الديمقراطي في العراق( طبعا لا ننسى الأخطاء الأمريكية في هذا المجال ) وذلك بالوصول إلى نتيجة صادمة ومحرجة وهي إما  أن يكون هناك استبداد في العالم العربي أو القتل والتفخيخ والتفجير وعدم الاستقرار، فغدا الاستقرار ميزة الاستبداد، الاستقرار الذي يؤمن الأرضية المهيئة للفساد وذلك لأن الفساد ينتعش في جو الحروب والاقتتال  والإرهاب، وهكذا أوصلت الأنظمة العربية عبر جهودها الحثيثة لترسيخ سيطرتها واستمرارها في الحكم وعبر وسائل الإعلام التي تحولت إلى ناطق رسمي باسمها وباسم استبدادها، أوصلت الشعوب العربية إلى قناعة بقبول الأمر الواقع وهو الاستبداد والفساد وخراب البلاد والعباد، وسادت وتسود هذه المجتمعات ثقافة اليأس  والبؤس والقنوط، وكثرت موجات الهجرة إلى الدول الغربية للبحث عن ملاذ آمن من عصي وسياط هذه الأنظمة وقمعها وإفقارها للناس، ناهيك عن حجم الدمار البنيوي الكاسح الذي يضرب المجتمعات العربية التي أضحت فريسة لهذه الأنظمة الكابوسية القابعة على صدور المواطنين، ولم يعد هناك ثمة تفكير بأي طريق خلاصي لا من الداخل ولا من الخارج، في حالة هي أشبه ما تكون بنومة كهف طويلة طويلة ولا يعرف من الذي سيوقظ هذه المجتمعات، بعد أن ترسخ لديها قناعة بديمومة الفساد والاستبداد.
© منبر الحرية ، 13 يوليو / تموز 2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018