شؤون سياسية

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

دائما عندما تطرح مشكلة الفساد في العالم العربي، تطرح كقضية جزئية قابلة للحل بفعل إجراءات إدارية بحتة تتمثل بمحاسبة موظفين، ووضع قوانين وتفعيل قضاء و..، أي أن موضوع الفساد  مازال يحارب بطريقة إدارية، بعيدا عن النظر إليه كمسألة سياسية تدخل ضمن إطار ما يمكن تسميته بناء الدولة الوطنية القادرة أو السير باتجاه بنائها على الأقل.
وجهة النظر السائدة عربيا في مقاربة الفساد تقول بأن الفساد مشكلة كغيرها من المشاكل الإدارية التي تهدد كيان الدولة والسلطة التي تسعى بصدق لمحاربته، ولكنها لا تمتلك الآليات اللازمة لذلك، بسبب عدم تبلور مفهوم واضح للدولة وبسبب غياب الوعي، وتصل وجهة النظر هذه إلى نتيجة مفادها أن السلطة خاصة في الأنظمة الشمولية تريد محاربة الفساد، ولكنها لا تستطيع وتقف عاجزة أمام تغوله وتمدده في كل شرايين الدولة التي اختزلت بمجرد سلطة بعض الأجهزة.ولكن النظر إلى وجهة النظر السابقة من زاوية نقدية، ربما توضح لنا  أن وجهة النظر السابقة والإصرار على تعميمها شعبيا لتكون مقبولة ومغطاة معرفيا يجعل من وجهة النظر هذه – في أحد وجوهها –  نوع من أنواع الفساد المعرفي الذي تعممه السلطات وأركانها وأزلامها من أشباه المثقفين لإعطاء شرعية ما لأنظمة مستبدة تجعل من الفساد وتعميمه لعبتها المفضلة، في تدجين وتخريب وتركيع وتقطيع أوصال المجتمع الذي تحكمه ،ليغدو قطيعا بحق، فاقدا لكل مقومات النهوض والمقاومة تجاه من ينتهكوه ويسرقوا قوته هذا من جهة ، ومن جهة أخرى تعمل وجهة النظر السابقة عبر تعميمها وترويجها على أنها المقاربة الصحيحة للفساد على إخفاء وتغطية الفساد الحقيقي  مرتين، مرة عندما تغطيه معرفيا بعدم النظر إليه كما هو، أي تعميم الوعي الكاذب والواهم به على أنه هو الصحيح، ومرة عندما تحجب النظر عن الترابط القائم بين الفساد والأنظمة الشمولية، ترابطا يكاد يكون أبديا وفق عقد مقدس غير معلن، بحيث يمكن القول أن الاستبداد لا يستمر دون وجود أجهزة ترعى الفساد وتعممه، ترعاه وتستخدمه مرتين أيضا، مرة لتحقيق مصالح شخصية للأشخاص الممسكين بزمام الأمور( ثراء غير مشروع وجنس ومناصب) ومرة لتحقيق أمن النظام الشمولي، وهكذا يتداخل الفساد الشخصي مع الفساد العام في جدلية معقدة ومتراكبة على أكثر من مستوى، جدلية لا يمكن فهم آلياتها وتركيبتها بسهولة، جدلية لا تسمح لنظيف يد أن يستمر في سلطة أو منصب، لأنه يغدو معيقا لآلية عمل النظام نفسه.
ونظافة اليد هذه أكثر ما تربك النظام الشمولي وتحيره، فهو من جهة بحاجة إلى أشخاص نظيفي اليد ليكونوا واجهة تغطي استبداده وفساده ،  ومن جهة أخرى وهي الأهم أنه بحاجة لهم لإدارة اقتصاد أنهكه الفساد ووصل مرحلة الترنح، هكذا يجد نفسه مضطرا بحكم الحاجة إلى الاستعانة بهم، ولكن إلى حين فقط، لأن الإجراءات التي سيتخذها الخبراء النظيفي اليد، ستعمل في مرحلة أولى على كشف فساد بعض الرؤوس والإطاحة بها وليس للنظام الشمولي في هذا مشكلة أبدا، لأن مصلحته هي الأهم، ولكن بعدها ستمس هذه الإجراءات البنى والأسس التي يقوم عليها النظام ككل، وخاصة الأجهزة التي ترعى أمن النظام وتحميه(لأنها كما قلنا هي شريك أساسي في الفساد بشكل شخصي وبشكل عام)، وهنا يجد النظام نفسه محاصرا بين من يرعون أمنه و”فساده” ويخربون اقتصاده بذات الوقت، الأمر الذي يدفعه إلى إنهاء المرحلة واختزال محاربة الفساد بإطاحة بعض الرؤوس التي تكون كبش فداء المرحلة.
هكذا إذن يستخدم النظام الشمولي الفساد كأداة لإفساد المجتمع وتفتيته حتى يمكن السيطرة عليه وإخضاعه، والنظام يتمنى لو يستطيع أن يبقي بيدق الفساد بيده وحده، ولكن إحدى صفات الفساد أنه كالزئبق لا يمكن إمساكه، ينتشر في كل أنحاء المجتمع وينشر قيمه الخاصة به، لنجد بعد فترة أن الفئات الأكثر تضررا من الفساد هي من يدافع عنه ويشرعه، ويصبح الفساد قيمة مجتمعية كاملة، ويصبح الناس عبيدا له مرتهنين لقيمه باحثين عن الثراء السريع بأية وسيلة، لتغيب قيم العمل والجد وتحل محلها الوصولية واللصوصية المشروعة، وهذا يؤدي في النهاية إلى تدمير مؤسسات القطاع العام وخسارتها لأنها تصبح محكومة بإدارة فاشلة وناهبة يضاف لها عمال لا يعنيهم ربحت المؤسسة أم خسرت، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى خلق دولة مشوهة ومعطوبة تعاني من أزمات وانسدادات بنيوية عميقة في كل مستوياتها.   ويمكن القول أيضا أن الفساد  كالماء يتسرب بين الشقوق، بما فيها شقوق النظام نفسه، فيملأها وينخرها إلى أن تحين لحظة الهتك الكبرى فيسقط كل شيء، لنجد أن الفساد حربة بيد النظام ولكنها أيضا حربة ضده على المدى الطويل، إذ يعمل خصوم الأنظمة الشمولية على استخدام هذا الفساد لتوجيه حربته نحو نحرها.
ربما يساعدنا ما سبق في فهم بعض أسباب فشل كل حملات الإصلاح التي تعلن بين حين وآخر، وبشكل خاص نفهم سبب فشل وجهة النظر القائلة بإصلاح الأنظمة الشمولية من داخلها، لأن الإصلاح الذي يطرح بشكل إداري بعيدا عن نقد المنظومة السياسية القائمة، وطبيعة الدولة، سيكون فاشلا، لأن الإصلاح لا يمكن أن يكون جزئيا، لا بد له أن يكون كليا، ينطلق من مقاربة أسباب العطب بشكل جوهري وواضح ، أي لابد من المعاينة بشكل كلي لا جزئي لأعطاب الأنظمة وهو غير ممكن في النظام الشمولي.
يمكن الخلوص إلى نتيجة مفادها أن الفساد يعمل في خدمة الاستبداد ويسعى إلى تمكينه من السيطرة على مجتمعه وخنق قواه الحرة عبر تجريدها من كل وسائل مقاومتها المدنية، ليغدو الفساد شرطا واجبا لاستمرار الاستبداد دون أن يكون الاستبداد شرطا واجبا لاستمرار الفساد لأن الفساد مرض ينتشر حتى في الدول التي تملك ديمقراطيات عريقة، ويتمثل الفارق بين الأنظمة الشمولية والديمقراطية في مقاربة الفساد، بأن الأولى لا يمكن مقاربة الفساد فيها إلا من وجهة نظر سياسية وكلية، بينما في الثانية يكتفى بالنظر إليها كمشكلة إدارية وجزئية.
© منبر الحرية،05 تموز/يوليو  2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

لا خلاف على أنّ هناك خلل عميق يؤثر على مسيرة التنمية في دولنا العربية عامة والمغرب العربي خاصة، كما أن هناك شبه إجماع بأن الإصلاح المنشود لإزالة هذا الخلل وإذكاء نهضة حقيقيّة، لابد وأن يبدأ بالإصلاح السياسي، إلا أننا غالبا ما نجد أن هذا الإصلاح في عمومه قد يتناول الشكل دون المحتوى فنعود إلى سيرتنا الأولى.
وهذا العجز والإعاقة التي ميزت مسلسل التنمية في دولنا ما هو إلا انعكاس عن سوء استغلال “الثروة البشرية”، وهي حقيقة لا يمكن إنكارها، فالتنمية الشاملة بحاجة لجهود أبناء المجتمع بكامله، فكلما عملت الدولة على تنمية قدراتهم عن طريق التأهيل والتدريب المستمر والإدماج كلما تقدمت اقتصاديا اجتماعيا وثقافيا . .
وفي هذا الصدد يمكننا التساؤل عن أعداد المعاقين في مجتمعاتنا؟؟ كما أذكر أنه كلما كانت أعداد المعاقين كبيرة كلما ضعفت الإمكانات التنموية في المجتمع، لأن الإنسان هو محور التنمية ومبتغاها .
هناك من سيذهب للقول بأن هذه المشكلة مطروحة عالميا، وقد عملت الأمم المتحدة على خلق آليات دولية للدفاع عن حقوق المعاقين وحرياتهم الأساسية، وأبرزها المنظمة العربية الإفريقية الدولية لحقوق المعاقين.
فهل تم فعلا العمل من أجل إدماج هذه الفئة الفاعلة في مجتمعاتنا؟؟
أحيانا يبدو لنا أن أعداد المعاقين في أوطاننا بسيطة بسبب أننا لا نراهم كثيرا من حولنا وحتى عندما نصادفهم فإننا نقصفهم بتلك النظرة التقليدية والصور النمطية.
إنهم بشر مثلنا لم يختاروا إعاقتهم بأنفسهم ولا يمكن تغييبهم عنا بسب إهمال المسؤولين في توفير خدمات ومرافق لتسهيل تنقلهم وممارسة حياتهم بشكل أفضل.
سنتوقف وقفة تأملية في حياة شاب مغربي يدعى “محمد العاطفي” الذي اختار طواعية عرض تجربته الشخصية عبر مرحلتين عاشهما في حياته قبل الإعاقة وبعدها ، يقول :
(أنا لم أختر إعاقتي لكنها كانت قضاءا وقدرا إثر سقوطي من علو 16 متر من موقع عملي كتِقْنِي في شركة للاتصالات بتونس “ويف يو” التي لم تعوضني لأنه لم يكن لي تأمين طيلة ثلاث سنوات التي عملت فيها معهم.
ورغم كل المجهودات والعمليات لتثبيت الفقرات التي كسرت في عمودي الفقري لم تعط أية نتيجة، أنا الآن أعاني من شلل نصفي وبدون عمل كما أني في طور الانفصال عن زوجتي حاليا.
فجأة وجدت نفسي مغيّبا ومهمشا عن الحياة العادية، لا أقوى حتى على قضاء أبسط حاجاتي اليومية، تخيل نفسك أنك كلما أردت الخروج من البيت لا تستطيع إلا بمساعدة أحدهم.
أشتكي من كل ما تشتكون منه أنتم وأكثر، فكيف أتقّبل نظراتكم المليئة بالشفقة ..؟؟ بل هناك من يرى أن ذوي الاحتياجات الخاصة هم مجموعة من المتسولين…!! قد نتفق على أننا كلنا نعاني من غياب الحقوق والحريات، لكن حتما التعامل اللّاإنساني والتمييز لا تبرير له سوى أننا نعيش أزمة قيم ومبادئ.
كما أتوجه إلى هيئة الطرق والمواصلات لتأخذ بعين الحسبان في منظومة النقل كل ما من شأنه أن يوفر الاستخدام السلس من ممرات خاصة وحافلات مزودة بمدخل خاص، ومساحة للمقعدين وعلامات وأزرار خاصة بالمكفوفين، وكل ما من شأنه تخفيف العراقيل والصعوبات عنا، لنتمكن من قضاء حاجاتنا بأنفسنا ونؤدي دورنا بشكل لا تصبح معه الإعاقة هي التغييب أو الانعزال).
إن معظم الدول العربية لها اهتمام محدود بذوي الاحتياجات الخاصة، نظرا لانعدام الحريات وحقوق الإنسان وانتشار الفساد، وأيضا اعتبار الحكومات لمواطنيها بأنهم رعايا لا قيمة إنسانية لهم، وتغاضيها عن تنفيذ برامج تنموية وصحية بحجة ضعف الموارد والإمكانات المالية. ونظرا للتحولات السريعة اليوم في المجالات الطبية والتربوية والاجتماعية لابدّ من دعم الجهود الجادة وتوحيدها من أجل الاتفاق والتنسيق للحد من هذا المشكل، وتوفير مناخ من العدل الاجتماعي والإنساني ليحصل كل فرد على حقوقه المشروعة دون تمييز ونقصان.
© منبر الحرية ، 2تمّوز /يوليوز 2010

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

لاشك بأن تحديد مسؤوليات واقع التردي والضياع والتخلف العربي القائم حالياً، ليست من المهام الصعبة والشائكة في ظل توافر إمكانات الرصد والمتابعة والوعي الدقيق لمجمل مشاكلنا الداخلية والخارجية الراهنة التي باتت –بالرغم من تحديدنا لها- عصية على الإصلاح والتغيير..
ويمكن الاستنتاج مباشرة ومن دون أية مواربة أو أدنى شكوك –حيث أن الوقائع والدلائل والشواهد العملية في عالمنا العربي والإسلامي أبلغ وأوضح من أية محاولة لحجبها- إن العرب لم يتمكنوا بعد من تكوين وإقامة دول مؤسساتية ونظم حكم قانونية حقيقية بالمعنى العملي والاصطلاحي للكلمة، وأن الواقع الراهن عندنا يعبر أصدق تعبير عن فشل نخبنا السياسية الحاكمة في الوصول إلى بناء هيكلية عملية واضحة عن مفهوم الدول المدنية الحديثة بالمعنى الثقافي والسياسي العملي.
..ويبدو أن لهذا الاستنتاج ما يؤيده في واقعنا العربي، فنحن لا نزال نعيش في ظل نظم “أهلية-قبلية” عتيقة غير مدنية (بالمعنى السوسيولوجي)، يمارس فيها الحاكم “الأعلى-الفرد” حكماً شبه مطلق، بعيد عن منطق العصر والتطور والحداثة السياسية وغير السياسية، ولا مكان فيه لأية منهجية تفكير علمية رصينة، ولا يعلو فيه سوى صوت الماضي والسلف بقرقعات سيوفه وتروسه التي انتقلت –بفعل قوة حضور وسطوة الأعراف والتقاليد والقيم المحافظة- من أيدي الزعامات القبلية القديمة إلى أيدي الخلف من النخب السياسية التقليدية والقبلية الجديدة التي يحكمها قانون البقاء والمصلحة والنزوع السلطوي الدفن، ويتحكم بوجودها فكر ومناخ الاستبداد التاريخي المقيم.
وفي سياق رفض تلك النخب القبلية العربية لمنطق وقانون التغير ومحاربتها لسنة التحول والتداول السياسي والاجتماعي الطبيعي -استجابةً لمنطق تغير الحياة وتطور الإنسان، ومنعها لأية محاولة يمكن من خلالها تشييد البنى الأساسية لإقامة مجتمع مدني متطور- فقد وصلت بها الأمور أن تقف بقوة حتى في وجه أي عامل تقدم علمي أو تقني (وليس سياسياً فقط)، وتمنعه من النفاذ أو الدخول إلى المجتمعات إذا كان يمكن أن يشتم من دخوله أية رائحة للتغيير أو أي حراك بسيط قد يفضي إلى حرف للأوضاع القائمة، أو تغيير بالأفكار ومن أي نوع كان، في العقلية أو السلوك أو التوازنات الاجتماعية أو السياسية.
ولا تزال تلك النخب القائمة تعمل –في سياق إحكام قبضتها على مجمل الحياة العامة في معظم البلاد العربية، وإسقاط أية محاولة لتغيير أو إصلاح الوضع العام على أي مستوى من المستويات التي تهم واقع وحياة ومعيشة مواطنيها ومجتمعاتها- على تكريس ثقافة الفساد والإفساد كجزء من سياسة المواجهة بينها وبين بعض مختلف الفئات الاجتماعية المتضررة والمختنقة الساعية بأي ثمن للتغيير والضاغطة بشدة على النظام، مما يجعلها تخصص قسماً كبيراً من موارد الدولة وإمكانات المجتمع المادية والمالية والبشرية الهائلة المتوافرة من أجل تكريس وجودها، وحماية مصالحها وصون امتيازاتها، وضمان بقائها واستدامة سطوتها وانفلاتها من عقال القانون والمحاسبة والمساءلة، وقيامها بفرض حال الاستقرار والثبات (أي فرض الثبات والموت) بالقوة المادية العارية أو بقوة الأمر الواقع والعنف الرمزي، وسد كل منافذ التغيير، وإحباط أي أمل بإصلاح الحال المعقد القائم..
وهكذا لم يبقَ هناك، في معظم البلاد العربية والإسلامية، أي هامش لتحقيق أي لون من ألوان الاستثمار الحاضر والمستقبل في مجمل الرأسمال الروحي والمادي لمجتمعاتنا، لا في الإنسان (من خلال فكره وعقله وطاقاته ومواهبه) ولا في الواقع والطبيعة (إبداعات واكتشافات وإنتاجات مختلفة). لأن الإنسان العربي منكفئ عن ساحة العمل والإنتاج والإبداع، ومستغرق في هموم معيشته وتأمين متطلبات وجوده الأساسية من مأكل وملبس ومشرب، ولا يهمه أي شيء آخر سوى تأمين لقمة الأكل لأسرته وأبنائه (اللهم أعطنا خبزنا كفاف يومنا).. وهذا هو ما أوصلته إليه قرون طويلة من ممارسة الظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وسياسة التهميش وإلغاء الآخر.
من هذا المنطلق فإن الأمل بحدوث تطورات حقيقية سياسية واجتماعية وعلمية وصناعية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية عموماً، يمكن أن تستجيب لتحديات الحياة في الوجود المؤثر والفاعل،مرهون -ليس فقط بمدى قدرتنا الفكرية والعملية على الاستجابة الفاعلة لتلك التطورات- وإنما مرهون، أيضاً وبشكل أساسي، إلى ضرورة إحداث تغييرات هائلة على صعيد الحكم وإشكاليات السلطة والمشاركة والحرية .. الخ. لأن الأصل في إحداث أي تغيير حقيقي هو في امتلاك القدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة المسؤولة والمعبرة عن طموحات الناس والمنسجمة مع تطورات وتغييرات الحياة الدولية.. وهذا التغيير المطلوب لن يتحقق لوحده بقدرة سماوية، بل لا بد من إرادة جماعية فاعلة لتحقيقه، حيث أن النخب الحاكمة –على وجه العموم- ليست لها أية مصلحة في عملية الإصلاح، فضلاً عن كونها أصلاً نظماً محافظة وتقليدية وغير قادرة على مجرد التفكير بالتغيير، ولا تمتلك الحد الأدنى من الإرادة الجدية والفاعلية العملية لإحداث التغيير أو الإصلاح المنشود، بسبب انغلاقها ومركزيتها وتغييب قوى التأثير عليها من خلال ما قامت به –وعلى مدى العقود الماضية- من سحق للمجتمعات، وتحطيم منظم للموارد والقدرات والطاقات.
من هنا فإن استثمار تطورات الحياة والاستفادة المثلى من أي تقدم علمي يمكن أن توفره الحضارة الحديثة لن يكون متاحاً أمام مجتمعاتنا وأفرادنا إلا إذا ساهمنا وشاركنا جميعاً –بصورة وبأخرى- في إنتاجه وإبداعه وتمثله عملياً، ومن باب أولى فهمه ووعيه على المستوى المعرفي والثقافي.
وأما على صعيدنا نحن كمجتمعات عربية هشة ومخلخلة المكونات والبنى التحتية، فإنه لا يمكن أن نطور العلم وننتج منجزاته الحديثة، في ظل تحكم سطوة العرف والتقليد الأعمى لسنة الآباء والأجداد، واتساع عقلية القبيلة المنزرعة فينا والمتحكمة بوجودنا ومصائرنا، والتي يعمل أصحابها على تدمير أي فرصة لربط -مجرد ربط- البلاد العربية والمسلمة عموماً بتيارات التقدم العلمي والتقني.. بل على العكس من ذلك، إنها تعمل على ترسيخ كيانها الذاتي البدائي، وتكريس طبيعة نموذجها السياسي الثابت وعديم الفائدة والجدوى والهدف، وحفظ بقاء النظم ولو كان ذلك على حساب مجتمع أو أمة بأكملها.
وبالنتيجة تكون المجتمعات العربية هي التي تدفع الثمن والتكلفة الباهظة التي تترتب على سلوك تلك السياسات الفاشلة والعقيمة للنظم السياسية الضعيفة الأفق القائمة، والتي تستمر في وجودها على قاعدة تعقيم الإنسان العربي وشل قدراته وسحق طاقاته، والتي ليس لها مبرر وجود سوى خدمة مصالح الفئات والطبقات والأفراد والنخب العصبوية التي تسيطر عليها وتتحكم بمقدراتها.
..ولا شك بأننا عندما نضع السلطات السياسية الشمولية القبلية في موضع المسبب الرئيسي لأزمة الوجود العربي المتخلف الراهن –والتي تتوالد عنها مشاكل وتحديات متلاحقة باستمرار- فإننا لا نعفي ثقافتنا السائدة حالياً –باعتبارها امتداد لثقافة الأمس إلى اليوم- من المشاركة في تلك المسؤولية.. فالحكام هم جزء من مجمل المشهد العام لمجتمعاتنا وحضارتنا وثقافتنا، كما أنهم صورة عنا في مواقع الحكم والقرار الأعلى. وإذا ما افترضنا وصول أي حزب آخر معارض إلى سدة الحكم في عالمنا العربي والإسلامي، فهل ستختلف النتائج التي سيحققها، عما هو سائد حالياً من كوارث سياسية واقتصادية واجتماعية في ظل هيمنة الثقافة التاريخية المتخلفة ذاتها، وفي ظل سيطرة عقلية التقليد والإتباع والامعية نفسها؟!!..
© منبر الحرية ، 30 يونيو / حزيران 2010

عزمي عاشور18 نوفمبر، 20100

إن السياسة في‏ ‏المجتمعات‏ ‏العربية‏ ‏‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏كونها ‏تأخذ‏ ‏ ‏‏الشكل‏ ‏الغربي‏ ‏في وجود مؤسسات سياسية،  ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏في‏ ‏تفاعلاتها‏ ‏لا‏ ‏تعبر‏ ‏عن‏ ‏مضمونها، ‏وقد‏ ‏يكون‏ ‏هناك‏ ‏مبرر ‏لكون‏ ‏ ‏الثقافة‏ ‏هنا‏ ‏مختلفة‏ عن‏ ‏الثقافة‏ ‏في‏ ‏الغرب‏، ‏وبالتالي‏ ‏فجوهر‏ ‏العملية‏ ‏السياسية‏ ‏يأتي‏ ‏مختلفا‏‏، وهذا‏ ‏أمر‏ ‏مقبول، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الأمر‏ ‏يتعدى‏ ‏هذا‏  الشكل عندما  يتعلق ذلك ‏ باستقرار‏ ‏هذه‏ ‏المجتمعات‏ ‏ويعوقها‏ ‏عن‏ ‏عملية‏ ‏التنمية‏ ‏والتقدم‏‏.‏ ‏فتصبح‏ ‏‏قيم ‏ ‏العدالة‏ ‏والحرية‏ ‏وتفعيل‏ ‏القانون ‏‏ مغيبة، وتصبح ثقافة البشر خالية من روح هذه القيم، فلا تجد إخلاصا في عمل ولا صدق في مقولة ولا قانون لا يحتمل الموائمات، ولا يسري على الجميع بدون استثناءات.‏  ‏وعملية انتقال السلطة  لا تعدم وجود مثل هذه الثقافة  المشوشة التي لا تعترف بضعف إمكانياتها وتقبل الهزيمة لتستطيع أن تقوي من نفسها، لذلك  نجدها تلجأ لحيل غير مشروعة لتجور على قيمة العدالة
.
‏فالعدالة‏ من المنظور السياسي  ‏تقتضي‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هناك‏ ‏نظام‏ ‏سياسي‏ ‏حر‏ ‏منتخب‏ ‏ومرضي‏ ‏عنه‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏أفراد المجتمع، ‏أما‏ عدم وجود  ‏‏هذا‏ ‏النظام‏ ‏فيعني‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏خللا‏ ‏يهدد‏ ‏هذه‏ ‏القيمة‏ ‏والخطورة‏ ‏هنا‏ ‏لا‏ ‏تكمن‏ ‏في‏ ‏أن‏ ‏رأس‏ ‏السلطة‏ ‏غير‏ ‏مرضي‏ ‏عنه‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏المجتمع،‏ ‏وإنما‏ ‏تكمن‏ ‏في‏ ‏مأسسة‏ ‏المجتمع‏ ‏بنهج‏ ‏يعمل‏ ‏وفق‏ ‏منطق‏ ‏غياب‏ ‏العدالة‏، ‏فمثلا‏ ‏نجد‏ ‏أنه‏ ‏على‏ ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏وجود‏ ‏المناصب‏ ‏السياسية‏ ‏المرتبطة‏ ‏بالنظام ‏كالوزراء‏ ‏وما‏ ‏شابه‏ ‏ذلك‏، ‏وهم‏ ‏في‏ ‏ذلك‏ ‏سلطة‏ ‏تنفيذية‏، ‏نجد‏ ‏في‏ ‏هذه‏ ‏المجتمعات‏ ‏نفوذ‏ ‏لمناصب‏ ‏غير‏ ‏رسمية‏، ‏وهذا‏ ‏في‏ ‏حد‏ ‏ذاته‏ ‏قد‏ ‏يبدو‏ ‏مقبولا‏ ‏في‏ ‏النظم‏ ‏السياسية‏ ‏الديمقراطية‏ ‏على‏ ‏اعتبار‏ ‏كونهم‏ ‏يعملون‏ ‏من‏ ‏الخلف‏ ‏لمستشارين‏، ‏وبالتالي‏ ‏الذي‏ ‏يظهر‏ ‏في‏ ‏الصورة‏ ‏هو‏ ‏صاحب‏ ‏المنصب‏ ‏التنفيذي، ‏وهو‏ ‏الذي‏ ‏له‏ ‏الكلمة‏ ‏الأولى‏ ‏والأخيرة‏ ‏في‏ ‏موقعه، ‏ إلا أن الصورة  تبدو مثيرة للشفقة والسخرية معا ‏ في مجتمعاتنا عندما‏ ‏نرى ‏أن‏ ‏كل‏ ‏هؤلاء‏ ‏قد‏ ‏يبدون‏ ‏تابعين‏ ‏ومسخرين‏ ‏لمن‏ ‏لا‏ ‏منصب‏ ‏رسمي‏ ‏له‏ ‏بشكل‏ ‏يجلي حقيقة الثقافة السياسية، ‏وهو ما ‏يطرح‏ ‏التساؤل‏ ‏هل‏ ‏ ‏قيم‏ ‏‏كالعدالة‏ ‏واحترام‏ ‏القانون‏ ‏لها وجوه أخرى؟‏‏  وهل السياسة في المجتمعات العربية  في طريق استخراجها مفاهيم جديدة  تعكس هذا التفاعل الموجود على ارض الواقع؟، وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى مستقبل عملية انتقال السلطة في المجتمعات العربية  عبر طريق التوريث  في النظم الجمهورية، فإذا كان الواقع العربي شهد وجود حالات نادرة لانتقال السلطة عبر التوريث، إلا أن الواقع العملي يشهد بعد مرور عشر سنوات  أن النظم غير الملكية بصدد تهيئة المجتمع مؤسسيا وسياسيا لتقبل انتقال السلطة على نفس النهج من الأب إلى الابن، ولكن السؤال كيف يتم تهيئة الواقع لخلق الشرعية على أمر غير مشروع؟  وهذه العملية لها مرحلتين
:
أولا :المرحلة الأولى وهي التي تشكل محاولة إعطاء أبوة لجنين غير شرعي، فإذا كانت  المؤسسات السياسية  داخل الدول العربية  تأخذ شكلا ديكوريا، إلا أنها في نفس الوقت  تشكل واقع مهيمن ومسيطر في وجود رئيس للدولة ومجلس وزراء ولسلطات من تنفيذية إلى تشريعية وقضائية، أي أن السلطة، مع سلطوية النظام تمارس بشكل ما عبر هذه المؤسسات، وبالتالي فعملية تداول السلطة والمواقع بين السلطات الثلاث تخضع لمعايير متعارف عليها، يوجد فيها حد أدنى من الموضوعية سواء في اختيار منصب رئيس الوزراء  من قبل رئيس الجمهورية أو حتى المجالس التشريعية، فاختيار النواب في حده الأدنى يتم وفقا لنتائج الانتخابات، بصرف النظر عن نزاهتها أم لا، المهم هناك وسيلة، هذا فضلا على أن السلطة القضائية تخضع أيضا لتراث من الممارسة للعدالة والقانون يضمن لها النزاهة في حدها الأدنى، أما فيما يتعلق بانتقال السلطة عن طريق رئيس الجمهورية، فيبقى هو الجانب المظلم، حيث لم تستطع  هذه المجتمعات أن تخلق تراثا مؤسسيا وثقافيا داخلها لتداول السلطة وفق ما تقتضيه قواعد الدستور والقانون، بالأخص في المرحلة التي ارتبطت ببناء الدولة الوطنية عقب حصول هذه الدول على الاستقلال، نتيجة لأسباب عديدة، أهمها أن انتقال السلطة عبر هذه الفترة كان يأتي نتيجة لعملية انقلاب حالة دولة العراق التي شهدت أكثر من انقلاب قبل أن يستقر الحكم في يد صدام حسين وأيضا بالمثل  سوريا. وثانيا طوال  فترة حكم  النخبة التي جاءت نتيجة انقلاب، (نموذج معمر القذافي 1969-حتى الآن)، ونموذج علي عبد الله صالح  في اليمن 1979-حتى الآن، ثالثا، انه حتى في الحالات التي كان يتم فيها انتقال السلطة سلميا مثل حالة الدولة المصرية التي جاءت عقب ثورة يوليو 52،  كان  ذلك يتم في إطار نخبة النظام وفق قواعد بيروقراطية وسلطوية،  عن طريق  تولي نائب الرئيس المنصب بعد عملية استفتاء  شكلي تتحكم فيه الدولة على شخصه بعد فراغ المنصب (الرئيس السادات 1970 وحالة الرئيس مبارك 1981)، وبالتالي تراث انتقال السلطة  في الحالات الثلاث لا يعبر بشكل كبير عن وجود تراث سلمي لانتقال السلطة،  وتفاعلات السياسة بهذا الشكل على مدار الستين سنة قد افرز في الوقت الحالي نمطا جديدا، يتمثل في انتقال السلطة إلى الأبناء عن طريق خلق وضع خاص من رحم ديكتاتورية هذا النظام لمن يرونه مؤهلا لخلافة الأب حتى لو كان ذلك بتسخير إمكانيات الدولة الرسمية لخلق حالة شرعية لهؤلاء الأبناء، وكل ذلك بالنسبة للدولة السلطوية تقدر عليه.
ثانيا : الموائمة مع الطرف الخارجي، كما هو معروف فإن انتقال السلطة بهذا الشكل يثير حفيظة الخارج، بالأخص الدول التي لها مصالح في المنطقة، وتخشى من سريان الفوضى التي تؤثر على مصالحها، ومن هنا فهذه النظم تعمل حساب  للطرف الخارجي والذي ليس وضعه بجديد في المنطقة، فهو يلعب هذا الدور منذ عهد الاحتلال في أواخر القرن التاسع عشر، ومن ثم كان من الضروري وجود مخرج لإرضاء وطمأنة الطرف الخارجي  يأخذ أحد احتمالين كلاهم مر: الأول يتمثل في تقديم تنازلات من اجل تمرير التوريث بشكل لا يثر حفيظة الطرف الخارجي، قد تكون هذه التنازلات ثوابت وطنية. والثاني هو أن يتم تهيئة المجتمع قانونيا ومؤسسيا لإخراج  انتقال السلطة بشكل مرضي لجميع الأطراف، وهو أمر لا تقتدر على فعله غير النظم الديكتاتورية التي تهيمن على مجتمعات ضعيفة، في أن توجد انتخابات، وهي لعبة هذه النظم التي أثبتت كل الانتخابات والاستفتاءات التي أجريت على مدار الخمسين سنة الماضية أن نتيجتها تأتى وفقا لرغبة الحاكم وليس وفقا لرغبة الشعب إلا فيما نذر، ومن هنا يتقدم المرشح المهيأة له الظروف السياسية والأمنية بشكل طبيعي ضمن  مرشحين كومبارس آخرين لإحباك العملية التي مقاليدها بيد النظام وليس بيد أصوات البشر الذين يختارون.
إن خطورة هذا الوقع لانتقال السلطة حتى لو جاءت بشكل سلمى تكمن في أنها تخلق ثقافة جديدة داخل هذه المجتمعات، فمنطق الحق لن يذهب لمن يستحقه وفق من العدالة وإنما وفق منطق النفوذ، ومن ثم تصبح مثل هذه الثقافة وكأنها عرف وشيء طبيعي أن يوالى الأقارب أقاربهم، فنجد التوريث يدخل كل شريحة في المجتمع  فأصحاب النفوذ في المهن الأخرى يورثون أبنائهم بالطرق غير الشرعية أماكنهم مثل الجامعات وغيرها
إن فراغ السلطة في المجتمعات العربية يعد كارثة تفوق وجود السلطة في شكل ديكتاتوري وسلطوي، ومن هنا فإن مأسسة المجتمعات العربية لتهيئة انتقال السلطة من رئيس إلى آخر باتت من  الشأن العام الذي يهم جميع الأفراد عامتهم ونخبتهم، فمثل هذا الأمر بات ليس من  الأسرار العليا  التي لا يجوز الحديث فيها، وإنما أصبح للجميع الحق في معرفة مصير ما سوف يؤول إليه مستقبل بلدهم  والطريقة المثلى لاختيار من يحكمهم.
© منبر الحرية ، 28 يونيو / حزيران 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

من  الواضح  أن  بوسع  الدولة  أن  تكون  دولة  سلطة  سياسية  حاكمة،  دون  أن  تكون  دولة  مواطنين  إذا  لم تعترف  بأن  مهمة  النظام  السياسي،  هي  الاهتمام  بمصالح  المحكومين  ورعايتها  وبتنمية  الدور  السياسي للمواطن،  وضمان  مساهمته  الحرة  بوصفه  فاعلا  سياسياً . إذ  ينبغي  أن  يشعر  المواطنين  أنهم  يساهمون في  بناء  الحياة  والمجتمع  السياسيين،  فإذا  لم  يتعمق  لديهم  هذا  الشعور  بالانتماء  إلى  المجتمع السياسي  والدولة،  وإنما  إلى  أسرة  فقط،  أو  قرية،  أو  طائفة،  أو  عرق،  أودين،  فإن  هذا  الوعي  بالانتماء  الأخير يترسخ  على  حساب  شعورهم  بالمواطنة  العمومية  والمشتركة
.
تقاس المساهمة السياسية للمواطن بمعايير واضحة تتعلق بقدرته السياسية على التعبير عن آرائه بحرية وبترجمة قناعاته السياسية وتجسيدها خلال العمل الفردي أو الجماعي المنظم، وبدرجة تأثيره على آليات عمل النظام السياسي وقراراته، و تحكمه بسلوك ممثليه. فبمقدار ما يمتلك المواطن الوعي السياسي والأدوات والوسائل التي تتيح له ترجمة هذا الوعي في سلوك حرّ بعيد عن الإكراه، تكون البيئة السياسية هي الأمثل. وقد وجد الفلاسفة السياسيون أمثال لوك Locke ومل Mill وتوكفيلTocqueville  وغيرهم أن هذه المعايير هي أساسية لنظام ديمقراطي ناجح قائم على التعددية وحرية التعبير وحقوق الأقليات.
المشاركة السياسية الحرة والطوعية للمواطنين، هي شرط أساس لأي نظام سياسي حديث كفَ عن أن يكون مستبداً وبالياً. وقد أظهرت التجربة التاريخية للعديد من المجتمعات أن حيوية الأخيرة، وتماسكها واستقرارها، رهين بدرجة الإسهام السياسي والمبادرة لدى المواطنين. بينما يفسّر هشاشة النظام السياسي وعدم استقراره وضعف المجتمع المدني بعزوف الأفراد أو منعهم عن المشاركة السياسية، وتحاشيهم المساهمة وليس العكس. لقد مثل النظام العراقي البائد نموذجاً حيّاً لهذا الموقف. إذ اعتقد أن من شأن القمع وسلطة الخوف وحدهما أن توحدا المجتمع، فحوله إلى عبد لقوته المتعسفة. وقد  أفضى ذلك إلى تدمير روح الاجتماع الإنساني بالذات، فتحول المجتمع في أحسن أحواله إلى جمهرة قلقة وعدمية، محتقنة ومفككة، تسودها الكراهية وعدم الثقة.
يتعلم المواطن في زمن الاستبداد والقهر أن يكون سلبياً إلى أقصى درجة، وخلق الرعب لديه نوعاً من العدمية السياسية واللامبالاة، التي كرست الاغتراب الداخلي وعمقت من تصدع الوحدة السياسية والاجتماعية المطلوبتان إزاء أيّ تحدّ خارجي. ومن هنا أخفقت جيوش صدام الجرارة في الإنابة عن المجتمع دفاعاً عن نظامه وعن سيادة البلاد. إن الدرس الرئيس، الذي يمكن استخلاصه من التجربة العراقية هو، أن أقدام الطغاة والمستبدين هي التي تمهد الطريق أمام الغزاة حينما تجعل من أعناق مواطنيهم موطأ لها وتروضهم على الخنوع والذل.
لا يستطيع النظام السياسي الدفاع عن المجتمع وحمايته من دون مواطنين أحرار يستشعرون حريتهم، مهما ادعى ذلك. فالنظام الذي يؤثر القمع يولّد الخوف في  الأذهان ويخلق مقداراً كبيراً من عدم الثقة، ويؤدي كل ذلك، في نهاية المطاف، إلى القطيعة بينه وبين الأساس الاجتماعي لشرعيته وبقائه.
إن النظام السياسي الذي لا يثق بالوعي السياسي الوطني لمواطنيه، ليس له أن يفرض وعياً وطنياً مشتركاً بالقوة من دون أن يغامر بإثارة العداء والكراهية نحوه. إن عملية التعبئة الأيديولوجية التي تبدو مفروضة هنا، لا تخلق شعوراً وطنياً مشتركاً وفاعلاً، ومن  ثم عوضاً من أن تحقق تواصلاً سياسياً محتملاً بين النظام السياسي والمجتمع المدني، فإنها تحدث صدعاً بين الطرفين. إنها في أحسن الأحوال تجعل المجتمع يتحرك ويتكلم بشعارات لا تتفاعل ووعي أفراده وضمائرهم.
إن من شأن الكوابيس الأيديولوجية، التي تنجم عن تماهي المجتمع والدولة مع أيديولوجية حزب حاكم، أن تضعف الشعور بالمواطنة لدى الأفراد وتخنق لديهم كل ابتكار أو تنوع خصب في الرؤى، وتقيّد روح المبادرة. فالمجتمع الديمقراطي الحديث في أبرز تعريف له، هو المجتمع الذي يشرك أكبر تنوع ثقافي ممكن وتنوع في الآراء مع أوسع استخدام ممكن للعقل، مع ضمان أكبر قدر ممكن من الاحترام للتطلعات الفردية والجماعية، ودون اللجوء إلى أي شكل من أشكال العنف أو القهر أو الإقصاء..
من جانب آخر، فإن الاعتقاد بأن المصلحة الوطنية تقتضي هذا التماهي بين المصادر الثلاث، إنما يقوض كل أساس سياسي أو قانوني لمعارضة تعسف السلطة، ويطيح بكل إمكانية لتصحيح مثالبها وتعويضها، وبالتالي يعدّ العدة لشرْعنة أخطائها، بجعلها القاعدة الناظمة للحياة السياسية. فيصير لزاماً على الدولة إذا شاءت أن تكون وطنية وديمقراطية حقاً، أن تعترف لمواطنيها بحقهم في   المعارضة ضمن إطار القانون، بالأسلوب الفردي أو الجماعي. فلا تقوم الدولة فقط بتحديد سلطتها على هذا النحو، وإنما تفعل ذلك من موقع وعيها بأن شرعية نظامها السياسي واستمراريته مرهونتان بدرجة تفاعلها وتواصلها مع المجتمع المدني، وبقوة الأخير ومقدار تأثيره.  فإذا لم تفعل ذلك، فإن ادعائها بأن شرعيتها مستمدة من تمثيل مواطنيها يعد نفاقاً بلا طائل..
إن اجتماع المساهمة السياسة للمواطنين مع تحديد السلطة وتقييدها  بوساطة الحقوق الأساسية، يعدّ الأساس الراسخ لأي نظام سياسي حديث، الذي بدونه لا تكون الدولة دولة مواطنين أحرار. لكن يتعين أن يتوج كل ذلك غياب مبدأ مركزة السلطة ونفي كل صفة جوهرية عنها، بوصفها حزب واحد، تنطق باسم الشرعية الأخلاقية والسياسية للمجتمع. الأمر الذي يمكن ترجمته بشكل ملموس في التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرّة ونزيهة تعتمد رغبة الأغلبية قانوناً لها.
© منبر الحرية، 28 يونيو / حزيران 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20101

وفق ماكس فيبر  يكون النظام الحاكم شرعيا عند الحد الذي يشعر مواطنوه أن ذلك النظام صالح ويستحق التأييد والطاعة[1]، وأحد مصادر الشرعية السياسية لنظم الحكم  ما يسميها فيبر العقلانية القانونية الداعية إلى اعتماد قواعد مقننة لتحديد واجبات وحقوق منصب الحاكم، ومساعديه وطريقة ملء المناصب وإخلائها وانتقال السلطة وتداولها وممارستها وهو تحديد واضح ومفصل للحقوق والواجبات، يجعل مبادرات الحكم قابلة للتوقع لأنها مشروطة في أصولها وفي نتائجها بشبكة من القوانين المعروفة والمتفق عليها. أما ايستون فقد أطلق صفة ” البنيوية” في محاولة لتأكيد دور المؤسسات وأهمية عملية المؤسسات. ووصف صموئيل هانتيجتون هذه العملية بأنها مسار تكتسب فيه المؤسسات والمعاملات القانونية استقراراً وقيمة لذاتها (3)
مأسسة العملية السياسية تعنى احتواء عملية صنع واتخاذ القرارات السياسية ضمن إطار المؤسسات السياسية، مما يسهل على النظام السياسي اكتساب قدر يعتد به من الشرعية السياسية . ذلك أن التنظيم المؤسس للعملية السياسية بقدر ما يمكن المبادئ  والقيم الديمقراطية للممارسة السياسية فإنه يفيد في تحقيقه خصائص عديدة منها : قانونية العملية السياسية  إذا تمكنت المؤسسات من أن تنظم عملها شبكة معقدة ومحكمة من الضوابط والتوازنات، وتعمل وفقا لأحكام محددة وأسس للتوظيف والتمويل وتقويم الأداء، وتخضع لمقاييس معروفة وعلنية للنجاح والفشل وضوابط للمراقبة والمحاسبة وقواعد للتنسيق بينها. وعقلانية العملية السياسية، ذلك أن المؤسسات والمناصب تسمح في إطارها بالعمل على أساس الكفاءة المهنية، مما ينعكس مباشرة على واجباتها تجاه المواطنين.علاوة علىعمومية العملية السياسية حيث يلغى العمل المؤسسي بالاعتبارات الشخصية واعتماد اعتبارات المواطنة ويركز عليها .وأخيرا استقرار العملية السياسية لأن العمل في المؤسسات لا يتأثر بتغير الأفراد . ويمكن إنتاج القرارات الحكومية والعمل على تنفيذها إذا ما تمتعت بالدعم الذي تقدمه المؤسسات المركبة والقوية. ويربط بين وجود المؤسسات والعمل على تقوية الدولة من خلال علاقة تبادلية لفاعليته ، فالدول عديمة المؤسسات تكون على العكس دولاً ضعيفة وسيئة، لأنها عاجزة ولا تستطيع السيطرة لضمان المصالح الخاصة والعامة . وبناء المؤسسات السياسية لا يمثل استجابة لمطالب المشاركة السياسية وحدها، بل هي أداة للحفاظ على الاستقرار السياسي من جراء التهديد الذي يتعرض له بفعل اتساع حجم الضغط الموجه نحو النخب الحاكمة من جانب القوى الاجتماعية الساعية للمشاركة السياسية .
ولا تكاد تخلو دولة عربية من وجود مؤسسات حيث تتعدد الأحزاب السياسية في بعض الدول العربية وتنتخب فيها مجالس نيابية، ولكن يشوب البيئة التي تقوم فيها هذه الأحزاب وعملية انتخاب هيئة المجالس وأدائها وبخاصة دورها الرقابي نقائص تقلل من قيمتها كمكون عضوي في نسق النظام السياسي . والمعروف أن الانتخابات تدار إلى حد كبير من قبل السلطة المهيمنة في المجتمعات النامية، ومنها الدول العربية فتمارس السلطة التنفيذية التدخل في عملية الترشيح بداية وتؤثر جوهريا في مجريات عملية الانتخابات بكاملها، وتتعرض الانتخابات لأنواع متباينة من الإفساد، ومن بينها توظيف الحظوة من السلطة والمال وانتهاك الحقوق بل تقوم مؤشرات على معالجة النتائج محلياً ومركزياً . وفي أحيان أخرى يصدر القضاء أحكاماً ببطلان الانتخابات في بعض الــدوائر، ولكنها لا تنفذ وتتحول المجالس النيابية إلى ما يشبه إدارات متدنية الكفاءة للسلطة التنفيذية تتوسل لرضاها بأن تأتمر بأمرها، ولا ينتظر من مثل هذا المجالس أن تمارس جدياً دورها الأصيل في الرقابة على للسلطة التنفيذية . وبالنسبة لمؤسسة القضاء ، فيلاحظ أن الدساتير غالباً ما تضم نصوصا نبيلة مستمدة في الغالب من مصادر أجنبية ولكن كثيراً من نصوصها يبقى حبراً على ورق وكثيراً ما يعطل العمل بالقوانين العادية، وتفرض حالة الطوارئ لسنين طوال وتسن القوانين لصالح الاستبداد، وقد لا تنفذ القوانين الحامية للحريات حتى وإن حكم بها القضاء، ويعانى سلك القضاء في بلدان المنطقة من مشكلات عديدة تقلل من هيبته، وفي النهاية من استقلاله وفي مقدمة ذلك تعمد الحكومة عمداً الإحجام من تنفيذ أحكام الجهات القضائية والتحايل على استقلال القضاء  .
إن الدرس الذي تستخلصه من واقع تتبع خبرات مسالك النظم العربية ، أن هناك علاقة جد وثيقة بين درجة مؤسسات المنظمات والإجراءات السياسية والقدرة على التكيف مع المتغيرات الخارجية والتحديات الداخلية بنجاح  والتعامل مع قوى التغيير بفاعلية والاحتفاظ في ذات الوقت بتوازن النظام السياسي
© منبر الحرية ،24 يونيو / حزيران 2010


[1] Max Weber The Theory of Social and Economic Organization translated by AM. Henderson      and Talcott parson Edited with an introduction by Talcott parcons(New York Oxford Univ Press 1947 pp 120-126).
(3) Samuel p .Huntington , political order in changing societies (New Havern ct: Yale unin press,1968)p.24

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

مازال فهمنا قاصرا حول مسألة الديمقراطية، فلا توجد مؤشرات توحي للنظم الديمقراطية بأنها دخلت في صلب حياتنا اليومية، رغم أن معظم مؤسستنا وأحزابنا الايدولوجية تنتهي أسمائها  ( بالديمقراطية ) إلا أنها تبقى حبراً على ورق، طالما لم نستطع أن نقوم بعملية التحول إلى الديمقراطية( قولاً وممارسةٍ)، وأن نشعر بانتمائنا إلى الوطن، وأن نمارس وطنيتنا  بموجب أخلاقيات الهوية والانتماء
.
الانتخابات احتلت الجانب الهام ببعده السياسي للديمقراطية. فممارسة الانتخابات بشكل ديمقراطي كما يقال تركت للمواطن الإحساس أنه مواطن وهو مصدر السلطات، ولو أنه يعي جيدا أنها فترة وجيزة تنتهي كقيمة  سياسية، وينتهي حلمه معها .
الديمقراطية وبموجبها تتحقق المساواة والعدالة الاجتماعية والتي بدورها تحقق للمواطن الاستقرار والأمن، كل هذه الأحلام الجملية تنتهي بمجرد انتهاء العملية الانتخابية، ولمسنا ذلك من خلال التجارب الانتخابية في أكثر من مكان. مع أن الانتخابات كانت تبدو ديمقراطية حسب آراء وتقارير المراقبين الدوليون لعمليات انتخابية مثلما  حصل في( فلسطين، مصر، العراق….الخ)
أسئلة مشروعة
ويبقى التساؤل القائم وهو مشروع إلى متى نتكلم ولا نفعل إلا القليل؟، إلى متى نبقي عملية استيراد المفاهيم مثلها مثل بضاعة ستوك؟ لعدم قدرتنا على تسويقها في سوقنا الاجتماعية، ورغبتنا الفطرية بالهوية والانتماء لمجتمعاتنا؟، هذه الأسئلة تبقى في نسق التساؤل، ونبقى نستورد المفاهيم  من دون أن نستطيع أن نطبعها ونجعلها في صلب حياتنا اليومية
.
وصحيح أن الانتخابات تلبي الجانب المرتبط بعلاقة الفرد بالدولة والعكس أيضاً، خالقة بذلك الجانب السياسي للديمقراطية، حيث يعطى الفرد المنتمي إلى الدولة صفة المواطنة، والتي بموجبه يستطيع المواطن إفراغ كمونه السياسي بممارسة الانتخابات، متطلعاً لعلاقة بين الأفراد عن طريق المواطنة( الوطن للجميع)، ويكون طريقة لاتخاذ القرارات بمشاركة جماعية، فلا مواطنة دون الديمقراطية، ولا ديمقراطية دون المواطنة.
الديمقراطية تتعلق بكيفية اتخاذ القرارات، فاتخاذ القرارات بشكل ديمقراطي، أي وفقاً لرغبة الأغلبية، يعني بالضرورة أن تكون المجموعة التي يتخذ فيها القرار محدودة ومعروفة، أما الانتخابات السياسية فهي تتعلق بالدولة، أي أنها تهم مجموع المواطنين.
الديمقراطية لا تختزل بالانتخابات
إذا لم تحقق الديمقراطية سيادة القانون أي سيادة الشعب (القانون الذي يحوي الجميع تحت مضلته)، والانتماء للوطن، وإذا لم يكن القانون فوق الجميع على الحاكم والمحكوم، والكل متساوون ومتحابون في المجتمع، وإذا لم تحقق المساواة والعدالة بين الجميع، فكيف يتم الاستقرار والأمن؟ معادلة الديمقراطية لا تتحقق إلا  بثالوث (الحرية والمساواة والعدالة)، فلن يكون هناك شيء نستطيع أن نقول عنه بأنه نظام ديمقراطي وبامتياز.
فكيف لنا أن نقول عن نظام أو دولة تقوم بعملية الانتخابات ولو بشكل شبه ديمقراطي بأنه ديمقراطي؟، ومن خلال هذا التساؤل نستطيع الاشارة إلى أن الديمقراطية لا تختزل فقط بالعملية الانتخابية  كما هو دارج لدينا، فشعوبنا لم تتشرب بعد النفس الديمقراطي، فكيف أكون مواطناً ديمقراطيا مع أنني محروم من أبسط  حقوقي العامة وحرياتي، سواء كانت الحقوق سياسية أو مدنية أو ثقافية أو اجتماعية، وطالما مازلنا في عصر يردد الشعارات التي يخدم بها جهة صناع القرار في الدول ذات النظم الاستبدادية الذي بدوره يختزل الديمقراطية والانتخابات في شخصه، فهو الديمقراطي وهو الذي يعرف مصلحة المجتمع كله.
متطلبات الانتخابات الديمقراطية
من متطلبات العملية الانتخابية أن تكون حرة ونزيهة، وأن لا تكون هناك تجاوزات من قبل القائمين على العمليات الانتخابية في فرض سلطاتهم على الانتخابات، وأن تقوم بدورها المنوط إليها حسب المعايير والمواثيق الدولية، وأن تتمثل في الإطار الدستوري للنظام الديمقراطي. فمعيار قوة الانتخابات الديمقراطية، هو أن يكون للانتخابات مقاصد ووظائف ويترتب عليها مجموعة من النتائج الفعلية في نظام الحكم، وليست أن تكون هدفاً في حد ذاتها
.
معيار حرية الانتخابات الديمقراطية يتمثل في كون الانتخابات تُجرى في ظل قاعدة حكم القانون، وتتسم بالتنافسية، وتحترم الحقوق والحريات الرئيسية للمواطنين.
معيار نزاهة الانتخابات الديمقراطية، يعني أن الانتخابات تتم بشكل دوري ومنتظم، وتتسم عملية إدارتها والإشراف عليها وإعلان نتائجها بالحياد السياسي والعدالة والشفافية.
وعندما يكون القانون فوق الحاكم والمحكوم ، أي سيادة القانون ودولة القانون تتحقق المواطنة على أساس المساواة والكرامة والعدالة.
© منبر الحرية ،يونيو / حزيران 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

منذ سقوط الدكتاتورية وصفاء سماء البلاد من غيوم عبوديتها ووسائل استلاباتها النفسية والفكرية، لم تتحرك سائر القوى السياسية نحو ترصين المواقع المنتهكة بفعل تلك السياسات المبتذلة، وعلى عقود متعاقبة نخرت في العقول الذبيحة وشلت  الطاقات المتعددة قرباناً لوتد السلطة التي من اجلها سملت العيون، وتقطعت الأبدان وخلفت آثار ومخلفات بحاجة إلى جهود وطنية مخلصة وخالصة، لأن غسل أدران الماضي لهو من أولى الموجبات الوطنية.
وبرغم الماضي الثقيل الزاخر بألوان المعاناة، وشتى صنوف الآلام والتي تشكل منعطفاً حيوياً من أجل قراءته بوعي لفك التلازم القسري بين سياسة الجبر والإكراه، والتطلعات المشتركة للمكونات العراقية التي تعد إحدى ميزات تلك المراحل الغابرة، ففطنة النخب تغيب وتتغيب عن دروس كثيرة قريبة وبعيدة، وتلك مواصلة شاذة لواحدة من أسوء ممارسات الماضي المفضية إلى ضياع المشتركات المؤدية إلى التلاحم والحوار والمنطق العقلاني الذي يذلل الصعاب ويفك العقد المزمنة ومواريثها الكريهة.
افتقاد الأرضية المشتركة بين المكونات الاجتماعية العراقية مثلت حجارة سنمار في بناء الدولة العراقية في آب عام 1921، وحيث الحاضر الجديد حينها مثل امتدادا لماضي تعسفي بغيض، فعاشت دولة مهزوزة تمزقها الصراعات، وحبلى بأشكال المؤامرات التي استنزفت الموارد البشرية والاقتصادية وما تزال تداعياتها حتى اللحظة تساهم في تحطيم مجتمعي منظم، إلى جانب خسارة الطاقات الطبيعية والبشرية والتي شخصت العيون إلى الخارج في كل الاحتياجات والموارد، وتلك تبعية ذاتية بامتياز لم يفرضها محتل أو غاز، وساهمت في ضياع شيء من الاستقلال بالضرورة، وقيدت الإرادة بالحاجة. تلك إحدى محن الأمس أترى تنفع الذكرى ؟!. بناء هيكل أرتكازي لأصول المفاهمات ، والحوار، والتواصل أمر ضروري من أجل التطلع إلى المشاورة الخارجية البعيدة عن الواقع وحركته، والحاملة لمنظار يفتقر إلى جوانب القراءة المتعددة، كونها منطلقة من بعد أحادي بلغة المصالح والتي ما أكثرها في ظل سباق النفوذ المحموم، وحسابات مجريات الصراع،  بعد أن أصبحت البلاد ساحة مكشوفة لشتى أشكال المطارحة.
عقدة التشاور على طريقة استقدام آراء الآخرين لشجون داخلية تضيف منقصة جديدة لاستقلالية الرأي الحصيف، وغياب النظرة الموضوعية، ومراهقة سياسية تفتقر إلى النضوج والتحسب، فجوهر التشاور الخارجي في كل مكان أبدى وجهة النظر الوطنية إزاء قضايا إقليمية ودولية مشتركة، ورحلة بحث عن رؤية مشتركة، لكن تبني رأي الآخرين من خارج السور العراقي في قضية وطنية هي لعبة خطرة، وفي نفس الوقت مضحكة، وهي إحدى العقد التي عاني منها العراق كثيراً، وحيث عدد من ساساته في عهديه الملكي والجمهوري صرحوا بأنهم أقدموا على اتخاذ قرارات ظالمة لمكونات عراقية بناء على متطلبات سياسية تم إملائها من الخارج وآخرهم  رأس النظام المخلوع.
في تاريخ العراق السياسي ثمة أسلوب للتعبئة لأهداف تتنافى مع أهداف ومصالح المجتمع، لكنها ظفرت بشيء من المقبولية والتدافع، لاعتمادها  العزف على أوتار العاطفة وشبوبها على أنغام أيديولوجية، وطروحات فكرية، ومواقف متصيدة في المياه العكرة، فهل من مصلحة لتوظيفها مجدداً ونحن نتحدث عن عراق جديد ؟!. وما الجديد إذ يتم بعث القديم بثوب مهلهل جديد لا تغيير فيه سوى شخص الفاعل وهويته، والتي  ما عادت تتماشى مع الإيقاع السياسي المتغير دورانه في أرجاء المعمورة، ألا يكفي أنها تذكر البلاد والعباد بماضي بغيض وفصل مسرحي مخادع.
في مجرى المشهد السياسي وتداعياتة المتدحرجة لا تلوح في الأفق أية شاردة أو واردة على جهود متجهة نحو صياغة أرضية جامعة بمفردات وطنية تنأى بأوضاع البلاد  المزرية، وتتجه نحو درء مخاطر المهاترات الفوضوية، والعنتريات البائسة، والانتباه إلى أوضاع البلاد التي مازالت ترزح تحت ثقل مواريث السياسات السابقة، وآثار الحروب الكارثية، والتدمير والتي لم تمتد إليها يد الإعمار والبناء، بل أضافت الأوضاع الجديدة بأخطائها وحداثتها، ولغة السلطة ومكاسبها هماً جديداً لم تألفه من قبل، ولا ندري لم التهديد والوعيد في بيوت الزجاج ؟!.
غياب وحدة المواقف والاتفاق عامل في تعليق العديد القضايا الوطنية وملفاتها وتعريضها للتدويل والمحاكاة الخارجية التي لا تنظر بعين الوطن، فضلا عن إساءتها إلى تاريخ  البلاد الحافلة أرضها بإرث حضارات مشهودة، ومن هنا أهمية إدراك القوى السياسية لتولي معاولها شطر الحفريات السوسيولوجية والسياسية من اجل انتزاع المشتركات من بطون التاريخ بدلا من صراع الديكة، فهذا أجدى وأنفع. ارتهان الحاضر بإرادة محاصرة من شأنها جر البلاد إلى أتون دوامات موجعة، لا تستطيع منه فكاكا في المنظور القريب، وآية ذلك لغة التهديد والخطابات النارية برهن المكاسب السلطوية، والتي تتحدث عن الرجراج الذي سيطال الاستقرار السياسي، وكأن الاستقرار المهزوز المتحقق قد امتلك زمام المبادرة نحو بلاد أكثر أمناً ورخاءا.  لكن في لغة السياسة الدارجة لم يسمع أحد بارتهان أمن المجتمع لغايات سياسية من قبل قواه السياسية وهي سابقة تسوقها الفصول المرة من التجربة العراقية الجديدة التي تفتقر في بعض مفرداتها من قبل البعض إلى الحياء المجتمعي والخجل الأخلاقي.
تتوالى الأشهر فيما الفرقاء السياسيون بانتظار نتائج القرعة عسى أن تميل الكفة لأحدهم وسط تناسي ساذج للمتطلبات الدستورية ومحدداتها العددية بشأن تشكيل الحكومة وما يتطلبه ذلك من تحالفات. لاشك بأن هنالك مساجلات منتظرة، ومناظرات عقيمة حال ظهور النتائج، بدلا من التفكير الجدي لإيجاد مخارج للحالة الراكدة التي تشير إلى توقف استثنائي غير مقبول على طريق مواصلة المشوار الديمقراطي، والسير الحثيث نحو إيجاد المزيد من فرص الحلول المتاحة والبدائل المقبولة، كي تستقيم حالة البلاد والعباد.
أن يتم تبني المواقف التصعيدية الصلبة ، والدخول في معمعات متواصلة، وتأجيج نيران التراشق السياسي ستولد أزمة سياسية تقود دوامة الدوران في الحلقات المفرغة، والتي لا تعكس سوى اللامبالاة اتجاه ما يجري على أرض الواقع من كوارث مزرية، تتعلق بأبعاد سياسية ، واجتماعية ، واقتصادية حافزة لخلق إشكاليات معيقة لبناء الشراكة المفترضة بين المجتمع والنخب السياسية من أجل مصداقية المشروع السياسي، ونيله الثقة المطلوبة والتي تفصح عن نفسها من خلال العزوف عن المشاركة في الانتخابات وبنسبة وصلت إلى 40%  بشكل تدريجي ومتصاعد. فقدان الثقة  وضياع المعايير مؤشر يستهدف ركن البناء الأساسي في العملية السياسية الديمقراطية وهو المجتمع، وما يدفع ذلك إلى تكسرات ومشكلات بعضها خارج عن السيطرة. إن البلاد بحاجة حقيقية إلى تفهم وإدراك النخب السياسية إلى متطلبات المرحلة وضروراتها وحساسيتها ومقابلة ذلك بما تقتضيه من تضحية، ففي خميرة الفوضى وأطنابها يخسر الجميع المباراة  بحسرة وندم، ولينظروا في تواريخ الأيام السالفة، ولغة البارحة، وحجم الوعود، وعسى أن يستقيم الجدل وتصحو  الحالة.
© منبر الحرية ، 31 ماي /أيار2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

في دولنا العربية نحظر تولى المناصب القيادية بالمؤسسات القومية بعد سن الستين، و تخرج كثير من توصيات المؤتمرات على التأكيد على هذه النقطة لإعطاء فرصة للكوادر الشابة لتولي هذه  المناصب، و ضخ دماء جديدة في شرايين مؤسساتنا المتصلبة فيما يعرف اصطلاحياً ب ( تداول السلطة ) ،  لكن هل منا من توقف عند عبارة  ستون عاماً قليلاً ليسأل ماذا تعني تحديداً لمسئول في منصب قيادي؟!
رجل زادت خبرته التراكمية بصورة طردية مع زيادة أعباءه الصحية التي ستؤدي بدورها إلى خلل غير مقصود في إدارته لمنصبه، و خاصة إذا كان يعاني من أمراض الشيخوخة و هذا من بديهيات الطبيعة.
و طبقاً لعلم الفسيولوجيا فالشيخوخة هي عملية بيولوجية حتمية تمثل ظاهرة من ظواهر التطور أو النمو التي يمر بها الإنسان، إذ أنها تعني مجموعة من التغيرات المعقدة في النمو والتي تؤدي مع مرور الزمن إلى تلف التركيب العضوي في الكائن الحي وبالنهاية إلى موته.
ولقد اختلفت الآراء كذلك في الوقت الذي تبدأ فيه الشيخوخة.
وتتخذ الإحصائيات سن الخامسة والستين قاعدة الشيخوخة، حيث تفترض أن معظم جماعة المسنين توجد فوق هذه السن ولا توجد تحتها.
وكلمة المسن في اللغة تعني:  الرجل الكبير ، ولذلك يقال أسنّ الرجل إذا كبر.
وفي الاصطلاح :  هو كل فرد أصبح عاجزاً عن رعاية وخدمة نفسه إثر تقدمه في العمر وليس بسبب إعاقة أو شبهها، وإن كانت بعض المنظمات الدولية تعرفه تعريفا إجرائيا تسهيلا للتعامل فتقول المسن هو (من تجاوز عمره الستين عاما).
و يوجد عدة تصنيفات للمسن ومنها:
المسن الشاب والذي يبلغ من العمر 60-74 سنة.
المسن الكهل والذي يبلغ من العمر 75-84 سنة .
من العمر 84 سنة  فأكثر . المسن الهرم والذي يبلغ
وتختلف المصطلحات المستخدمة لوصف كبار السن اختلافا كبيرا، حتى في الوثائق الدولية. فهي تشمل : (كبار السن) و (المسنين)، و(الأكبر سنا). و(فئة العمر الثالثة) و (الشيخوخة)، كما أطلق مصطلح (فئة العمر الرابعة) للدلالة على الأشخاص الذين يزيد عمرهم على 80 عاما.
وتستخدم الأمم المتحدة مصطلح (كبار السن) وهو التعبير الذي استخدم في قراري الجمعية العامة 47/5 و 48/98. ووفقا للممارسة المتبعة في الإدارات الإحصائية للأمم المتحدة، تشمل هذه المصطلحات الأشخاص البالغين من العمر 60 سنة فأكثر، (تعتبر إدارة الإحصاءات التابعة للاتحاد الأوروبي أن (كبار السن) هم الذين بلغوا من العمر 65 سنة أو أكثر، حيث أن سن الـ 65 هي السن الأكثر شيوعا للتقاعد).
وأشار تقرير السكرتير العام للأمم المتحدة عن المسنين 1973م، والذي وضع بناءا على قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 2842 إلى وجود اختلاف في الأفراد بالنسبة لشيخوختهم، فالبعض تبدأ عليه مظاهر الشيخوخة في سن 45 سنة بينما تبدو لدى البعض في سن 75 ويبقى أغلب الناس فوق سن 65 سنة في بيوتهم ويعتبرون قادرين نسبيا على رعاية أنفسهم بالرغم من تناقص قدراتهم،
ومن الآثار المصاحبة للتقدم في العمر قلة حركة المسن مما يزيد من نقص المرونة. كل هذه العوامل تؤثر على حركة المريض، وتعوقها خاصة في منطقة الرقبة والجذع والحوض ويؤدي أيضا إلى تهديد توازنه، ومع تقدم السن يقل سمك غضاريف المفاصل وتتآكل وتصبح حركتها مؤلمة.
أما التغيرات الجسمية غير المرئية فمنها ارتفاع ضغط الدم والإصابة بمرض السكر وغير ذلك من الأمراض غير المرئية:
عدم سهولة الانتقال من مكان لآخر
الشعور بالإرهاق والتعب الدائم
الإحساس  المتزايد بالألم
فقد القوة والاحتمال
عدم القدرة على التركيز
وأما التغيرات النفسية أهمها القلق والخوف.
ومن أبرز مظاهر التغيرات العقلية نجد النسيان وضعف الذاكرة .
فيما يؤدي المسنون وظيفة اجتماعية حيوية، تتمثل في أبسط صورها في تقديم خبراتهم وإرشادهم لمن حولهم في كافة جوانب الحياة.
و في الوقت ذاته لا يعني ما قيل سابقاً عن الأمراض التي تصيب المسنين أن عليهم قصراً التقاعد في منازلهم، و لكن و بكل تأكيد هناك دور كبير عليهم أن يؤدونه بما يتناسب و المرحلة العمرية التي يمرون بها وهو التوجيه و الإرشاد للقيادات الشابة ممن تتوفر فيهم مقومات القيادة الرشيدة، وهذه الفلسفة التي نراها للأسف غائبة عن كثير من مؤسساتنا العربية فالخوف يتصدر الموقف من نقل خبرة الكبار للصغار و هذا خوف فسيولوجي طبيعي يجب قهره بقوانين صارمة تنظم هذه العلاقة في إدارة الهيئات و المؤسسات المختلفة في مجتمعاتنا العربية .
من خلال ما سبق كيف نتصور حال  أمم و شعوب يقودها حكام في سن قد تخطوا هذا السن الموضوع لإدارة شركات و مؤسسات كبرى بهذا الرصيد من التأثرات النفسية و العقلية البيولوجية السابق ذكرها، و التي من شأنها أن تؤثر على قدرة الحاكم على الإلمام الكامل بمشاكل شعبه، و تؤثر على اتخاذه قرارات تحافظ على كرامة محكوميه نظراُ لطبيعة هذه المرحلة التي يسيطر عليها الاستكانة و الخوف من الدخول في مخاطر أنفاق استرداد الكرامة الوعرة و الميل للسير في أمان خلف أذناب بائعي رايات السلام المزعوم .
فيما نرى أن كراسي السلطة في أوطاننا إرث مستحق  غير قابل للاسترداد،  و لا نعلم لماذا لم تأخذ الدساتير في دولنا العربية بعين الاعتبار تقدم العمر و ارتباطه بالقدرة والكفاءة على تسيير أمور البلاد وشئون العباد و اقتصرت في سن القوانين المرتبطة بسن التقاعد لعامة الشعب أليس أولى بالحاكم أن يتبع ؟!.
© منبر الحرية ، 22 ماي /أيار2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

بعد الرعيل الأول وقناعتهم الكاملة بالحرية كسبيل للتقدم، جاء رائدان للفكر العربي هما: السيد جمال الدين الأفغانى والشيخ محمد عبده .
وبالنسبة للأفغاني فعند بحث المناظرات الجدلية التي أسهم فيها بنصيب وافر ضد العالم الفرنسي ارنست رينان، والمفكر الهندي سيد احمد خان صاحب نظرية “النيتشارية “المتفرعة عن “البابية”، والمتصوف السوري الشيخ أبو الهدى الصيادي. هذه المناظرات تبين فهم السيد جمال الدين للإسلام، ويمكن حصر هذا الفهم في ثلاثة معان :
أولا- فكرة الوحدانية المطلقة التي تؤدى إلى فكرة المساواة بين البشر عند الله .
ثانيا – الإيمان بعقل الإنسان الذي يستطيع أن يدرك حقائق الكون، وذلك خلافا للهندوسية واليهودية اللتين لا تعترفان بهذه المساواة، كذلك المسيحية تنكر على البشر – ماعدا رجال الكنيسة – الفهم المباشر للحقيقة الإلهية. والإسلام وحده هو الذي يسوي بين الناس في القدرة على فهم أسرار الدين وحقائقه، لأن  الشريعة المنزلة على النبي العربي هي نفس قانون الطبيعة الذي يفهمه الإنسان من دراسته للكون .
أما ظهور الأنبياء بين الناس، فسببه أن الناس مع قدرة عقولهم على الوصول إلى حقائق الكون، فإن طبيعتهم البشرية لا تستطيع أن تطبق القرآن على جميع النظم في الحياة الحديثة، وإلا الحال هي الإشراف على التنفيذ وجبر الناس على مراعاة القواعد التي قضى بها العقل البشرى.
وينتج عن هذا أن باب الاجتهاد ينبغي أن يظل مفتوحا، وأن القرآن يجب أن يفسر تفسيرا عقليا منطقيا، وبهذا نستطيع أن ننفذ فهم العقل لهذه الحقائق. ويعتقد السيد  جمال الدين أن السر في قوة الأوروبيين لا يكمن في مسيحيتهم وإنما مرجعه أنهم نشأوا في إطار دولة قوية هي الدولة الرومانية، و أن ضعف المسلمين ليس سببه تدينهم بالإسلام، بل سببه أنهم لم يتبعوا تعاليمه إتباعا كافيا، وأن سر القوة كامن في الديانة الإسلامية التي تحث على الوحدة والتضامن .
ثالثا- هو أن الإسلام دين العمل والنشاط ، وبالتالي فإن المجتمعات لا تستقيم أمورها إلا بتنفيذ إرادة الله، وإرادة الله ماثلة في القرآن، فلو اتبع المسلمون ما في القرآن من تعاليم نفذوا إرادة الله، بشرط أن يكون تنفيذهم لها بمحض إرادتهم، وهذا هو معنى العمل والنشاط، أي العمل على تنفيذ إرادة الله تنفيذا اختياريا. والنتيجة التي يصل إليها السيد من هذا هي أن قوة المسلمين في اجتهادهم وسعيهم لا في تقليدهم .
وهذه المعاني الثلاثة هي نقطة البداية في تفكير ألمع تلاميذ السيد جمال الدين : الشيخ محمد عبده. فقد لاحظ – كما لاحظ أستاذه – تدهورا داخليا في المجتمعات الإسلامية لم يلحظ مثله في المجتمعات الأخرى. ولم يكن الشيخ معارضا للتقدم الذي منبعه الحضارة الأوروبية، إنما كان الخطر في نظره ناشئا عن نمو حركة مدنية في مجتمع جوهره غير مدني. وكان شغله الشاغل هو التوفيق بين قواعد الإسلام والحضارة الحديثة .
وتبدأ نظريته بالدفاع عن الإسلام الصحيح ، ومعنى الإسلام الصحيح في نظره ديانة تنظم سلوك البشر وتنير طريقهم في المشاكل الكبرى بالحياة ، ولا يتأتى هذا إلا بالكتاب المنزل والعقل . فالعقل هو الذي يدرك الرسالة الإلهية ، وما لا يستطيع أن يدركه فعلى النبي أن يعينه على فهمه ، وإذن فالاجتهاد أمر لابد منه . والمجتمع الإسلامي المثالي هو الذي يستند إلى الشرع والعقل في آن واحد ، فعلى المسلم الحق أن يستعمل عقله في العبادات والمعاملات حتى يدرك كلام الله إدراكا مستنيرا.
وحينما تفهم قوانين الشريعة الإسلامية فهما صحيحا وتنفذ تنفيذا بصيرا يزدهر المجتمع ويقوى. ويدلل الشيخ عبده على ذلك بأن العصور الإسلامية الأولى كانت قمة مجد الإسلام، ثم تدهور المجتمع الإسلامي بسبب البدع والمغالاة في التصوف. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى بسبب المبالغة في التمسك بشكليات الشرع لا بروحه وجوهره، كما حدث على أيدي الأتراك. وإذا أراد المسلمون أن يعيدوا مجد أسلافهم، فعليهم أن يعيدوا تأويل شريعتهم ويطبقوها على مشاكلهم الحديثة، مستنيرين في ذلك بمبدأين، مبدأ المصلحة، ومبدأ التلفيق –أي ذلك المبدأ الشرعي الذي يسمح للقاضي بأن يختار التأويل الشرعي الأنسب للظروف والحالات المعروضة أمامه،- ولو كان هذا التأويل لمذهب يخالف مذهبه – وعلى هذا فلابد من وضع قوانين إسلامية موحدة ذات نظام حديث، تستند إلى المذاهب الأربعة جميعها، مع الرجوع للقرآن والسنة وتقاليد السلف، ولا يقتصر الأمر هنا على مجرد الصحابة والتابعين، بل يشمل كذلك كبار الأئمة من علماء الكلام.
وعندما اتجه الشيخ محمد عبده إلى ميدان السياسة، شعر بأن الإصلاح المنشود يجب أن يبدأ في البيئة التي يعيش فيها وهي مصر، لذلك كان أغلب ما كتب في السياسة ينطبق على مصر، وقد كانت مصر في أمس الحاجة إلى تربية قومية صميمة، لذلك اتجه إلى إنشاء المدارس ، وكان على استعداد لأن يتعاون مع أية سلطة تساعده في تحقيق هذا الغرض، ومن هنا نشأ خلافه مع السيد جمال الدين، وعدم تحمسه للإسهام في الثورة العرابية .
© منبر الحرية ، 1 ماي /أيار 2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018