الإصلاح الاقتصادي

peshwazarabic9 نوفمبر، 20100

كان الإنسان في  العهود السابقة، في أوربا مثلا في القرون الوسطى تحديدا، يعيش حالة مزرية من الفقر المدقع، أو يعيش حالة الكفاف في أفضل حالاته، وكانت الإقطاعيات المجاورة تعيش حالة من النزاع الدائم، والغزوات، واعتبرت مثل هذه النزاعات، والحروب، في فترات خلت من التاريخ أمرا واقعا،  وضرورة، بل كان هناك من يشيد بحسناتها..
لكن الحالة بدأت بالتحسن ولو بشكل بطيء، بعد القرن السادس عشر، إثر التبادل التجاري بين الدول، وشاعت حالة الاعتماد المتبادل، فالتجارة خففت من الاحتقانات فيما بين الدول، بل ربما قلنا أن التجارة شرعت بإرساء أسس السلام بينها…
ثمة حكاية طريفة من القرن السادس عشر تقول : بينما كانت السويد والدانمرك في نزاع دائم، أقام مزارعون من البلدين على الحدود نقاط  التقاء تجارية، وأرسوا السلام  فيما بينهم، بالضد من رغبات حكام البلدين، عندما أخذوا يتبادلون المواد والبضائع، فيقايضون ( اللحم والزبدة، بالسمك والبهارات) لذلك شاعت نادرة تناقلها شعب البلدين تقول : ( أرسى الثور السلام )  فالثور هو عدة  المزارعين، وهو أيضا من عناصر قوى الإنتاج المهمة في ذلك العهد..
إن النمو الحقيقي والتحسن الملحوظ في أوربا، بدأ منذ القرن التاسع عشر، جرّاء الثورة الصناعية، حيث كان المزيد من الإنتاج، والتوسع في حجم الادخار، وتوظيف تلك الادخارات بإدخالها في حيز الاستثمار، كل هذا إلى جانب أسباب أخرى لا سيما السياسة الاقتصادية المتبعة، والتي سنوضح طبيعتها بعد قليل، كل هذا، دفع أوربا إلى النهضة الحقيقية بخطا وئيدة، لكن ثابتة.. هذا عن العالم الأوربي، عالم الغنى، فكيف كانت حال النمو والتنمية، بالنسبة لعالم الفقر.
إن النموّ في البلدان الفقيرة، ولنأخذ الهند مثالا، إذا لم يتحقق بمعدلات جيدة نسبيا، لكن النتيجة دفعت الإنسان الهندي في المحصلة، للبحث عن عمل، والتحرر من سطوة الإقطاعي، الذي ظلّ يتحكم في مصيره ومصير الملايين من أمثاله، حتى المرأة التي كانت عالة على أهلها، قابعة في البيت حبيسة المنزل، تابعة لمعيلها، أتيحت لها فرص العمل، بعيدا عن عبودية الزوج والأهل؛ كما صارت الأسر ترسل أبناءها للمدارس.. لهذا حق لبعضهم القول، من أن النمو يبقى أجدى وسيلة،  وأفضل سبيل لتجاوز حالات الفقر.
ترى أية سياسة اقتصادية ينبغي أن تتبع، حتى يكتب لتلك السياسات النجاح في التنمية، ومعالجة مسألة الفقر، وتوفير الثروة.؟ هذا هو السؤال المهم والأساسي المطروح، وهو غاية هذا  النص الذي بين أيدينا في التناول والمعالجة.
أمامنا نموذجان للاقتصاد: الاقتصاد الرأسمالي، أي اقتصاد السوق، أما الثاني فهو اقتصاد التخطيط المركزي، النموذج السوفييتي.. فلو أخذنا شعب بلد واحد في بلد منقسم، تتوزع شعوبه على النموذجين، ثم وقفنا على النتائج، نستطيع أن نستخلص بعض الأفكار ونخرج بالتالي بنتيجة ما؛ فالاقتصاد الرأسمالي، أي اقتصاد السوق، يدخل في إطارها ألمانيا الغربية، في حين أن ألمانيا الشرقية، أو ألمانيا الشيوعية، تدخل ضمن اقتصاد التخطيط المركزي، النموذج السوفييتي، وهما بلد واحد ينقسم، أو يتوزع شعبا وأرضا بين النموذجين كما قلنا، وكوريا الجنوبية الرأسمالية، إلى جانب كوريا الشمالية الشيوعية، مثال ثالث وأخير، تايوان الرأسمالية، والصين الشيوعية؛ كانتا من قبل كيانا واحدا، يمثلهما مركز واحد  ولنتأمل الآن في النتائج، نتائج السياسات الاقتصادية المتبعة في كل بلد..
لقد شهدت ألمانيا الرأسمالية ( معجزة اقتصادية) في الوقت ذاته كانت ألمانيا الشيوعية تنحدر نحو الفقر، كما أن  كوريا الرأسمالية عرفت تطورا اقتصاديا وتكنولوجيا هائلا، تعرض في ذات الحين اقتصاد كوريا الشيوعية، إلى ركود ثم الميل باتجاه الانهيار.. وفي حين كانت الصين الشيوعية تعاني من الفقر والمجاعة، شهدت تايوان تطورا هائلا، مما حدا بالصين أخيرا مضطرة إلى فتح أسواقها أمام عالم التجارة والاستثمار.. ولا ننسى النموذج السوفييتي في أوربا الشرقية كيف أنه انهار بالكامل، حيث شمل الانهيار الاتحاد السوفييتي وكافة دول أوربا الشرقية.. وهنا حق القول، من أن السياسة الاقتصادية للرأسمالية (السوق الحرة) هي التي كسبت الرهان، وانتصرت على اقتصاد التخطيط المركزي، الذي اندحر أي اندحار..!
عمد كثير من القادة اليساريين بغية التخفيف من وطأة الفارق الكبير بين بلدان النموذجين ــ الاقتصاد الحر, والتخطيط المركزي ــ إلى الترنم بهذه المقولة، في الاقتصاد الحر، حيث البلدان الرأسمالية ( الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا ).
من خلال قراءتي للأدبيات الماركسية، لا تجد في هذه المقولة سوى نصف الحقيقة، صحيح أن الأغنياء يزدادون غنى، لكن أيضا أشار ماركس بالتحسن الذي يطرأ على وضع الطبقات الدنيا أيضا؛ لكن ربما أن نتفق بأن البون، أو الفارق بين الطبقتين، يزداد اتساعا، لكن القول بأن الفقراء يزدادون فقرا، فهذا لا يقره الواقع، وإلا فلماذا يدعو بليخانوف إلى التنمية الرأسمالية لتحسين وضع الطبقات الدنيا، فقد قال في عام 1883: ( نحن لا نعاني في روسا من نمو الرأسمالية، بل نعاني من عدم كفاية نموها ) وبعد أكثر من عقدين عاد لينين ليكرر نفس الكلام، ويمضي به أكثر وضوحا، عندما قال ما معناه من إن معاناة الشعب الروسي ليست بسبب الرأسمالية في روسيا، وإنما بسبب تأخر الرأسمالية فيها، ونحن مع تطور الرأسمالية بشكل مطلق ودون تحفظ، إن هذا الكلام  يستدعي منا أن نقف عنده ونتمعن فيه عندما يقول: ونحن مع تطور الرأسمالية  على الإطلاق.. فماذا يعني هذا الكلام، أنه يعني فسح المجال أمام القطاع الخاص الرأسمالي، أي أصحاب الملكيات الخاصة للتنمية الرأسمالية والاستثمار، وتقديم التسهيلات اللازمة لهم، أي ( دعه يعمل، دعه يمر ) تلك المقولة الاقتصادية القديمة، أو الترنيمة المعروفة، والتي أثبتت جدواها ومثال دول النمور الآسيوية ماثل لعيان، فقحط الأرض، وفقرها لم يحولا دون تنميتها أمام الإرادة الحرة…
علينا أخيرا إدراك أهمية الاقتصاد الحر، وبالتالي ضرورة فسح المجال أما الناشطين اقتصاديا للعمل بكامل الحرية وألا نقيدهم بمركزية السلطة، بقراراتها المتشددة إذا أردنا لبلدنا الازدهار ولشعبنا الوفرة والعيش الكريم
© معهد كيتو، منبر الحرية، 9 ديسمبر 2008.

peshwazarabic9 نوفمبر، 20100

تراجعت أسعار المواد الغذائية في الشهور الأخيرة بعد أن وصلت إلى أعلى مستوياتها هذا العام. ومع ذاك، ما تزال الأمم المتحدة تحذر من أزمة غذاء يمكن أن تلقي بأكثر من مئة مليون فرد  في براثن الفقر المدقع.
فهل يجب أن يبقى الغذاء غاليا علما أن عدد البشر في تزايد مستمر ونمو دخلهم الفردي يرفع من معدلات الاستهلاك الفردي؟ تؤكد منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة في آخر تقرير لها أن قرابة مليار فرد يعانون من نقص في التغذية. فهل يحتم عليهم قدرهم البقاء جائعين؟  كلا على الإطلاق.
خلال النصف الأخير من القرن العشرين، تنامى عرض المواد الغذائية على نحو أسرع من تنامي الطلب، فتراجعت الأسعار الحقيقية للحبوب بمعدل 75%. فهذا التراجع خفض التكاليف الغذائية علما أن النظام الغذائي البشري يتكون من أكثر من 60% من الحبوب. أما في الآونة الأخيرة، فقد بدأ النمو السكاني بالتباطؤ، غير أن الطلب على المواد الغذائية مازال يشهد ارتفاعا سريعا نتيجة ارتفاع المداخيل. وبحلول عام 2050، ربما يتزايد الطلب على المواد الغذائية إلى ما بين 60% و100%. فان لم نقم بزراعة وإنتاج المزيد من المواد الغذائية في الهكتار الواحد واستغلال المزيد من الأراضي، ستستمر الأسعار في الارتفاع.
إن الارتفاع الحالي للطلب على المواد الغذائية كان أمرا متوقعا. بل أنه، وكما قال جاك ديوف، المدير العام لمنظمة المواد الغذائية  والزراعة التابعة للأمم المتحدة: “كان متوقعا، وقد تنبأنا به، وكان يمكن تفاديه… ولكن العالم فشل في ذلك.” ولكن لا يجب إلقاء اللائمة على “العالم”: فاللوم يقع على الحكومات المنفردة، ولا سيما في البلدان الأكثر فقرا، حيث أقامت الكثير من العوائق الضخمة بوجه حركة المواد الغذائية ، مما أبقى الأسعار مرتفعة.  حيث أن نسبة المبادلات التجارية في ما بين الدول الإفريقية لا تتجاوز 15% فقط من حجم مبادلاتها الكلية . أما التعرفة الجمركية في البلدان الفقيرة  فمعدلاتها أعلى مما هي عليه في البلدان المتطورة. ففي جنوب الصحراء الإفريقية، يبلغ معدل التعرفة على الواردات الزراعية 33%. كما أن التدابير التنظيمية المتفاقمة، والشريط الأحمر، والتأخيرات عند نقاط التفتيش الجمركي والفساد، تزيد الوضع سوءً. وبما أن هذه العوائق ترفع أيضا تكاليف المدخلات (inputs) ، فان المنتجين المحليين يصبحون غير قادرين على الاستجابة لارتفاع الطلب على المواد الغذائية.
أوكرانيا هي خير مثال على بلد يمتلك إمكانات زراعية ضخمة ولكنها بقيت غير مستغلة. فإذا تحسنت جودة الزراعة وتم استعمال مدخلات أفضل، كالأسمدة، يمكن لأوكرانيا أن تضاعف محاصيلها الزراعية الحالية، و ستصبح قادرة على تصدير من 50 إلى 80 مليون طن إضافي من الحبوب في العام الواحد. وهذه الكمية تكفي، من حيث القيمة الغذائية للحبوب، لإطعام 50 مليون شخصا في الصين. أما في الهند، حيث معدل الاستهلاك اقل مما هو عليه في الصين، فهي تكفي لإطعام 100 مليون نسمة.
تعتبر الأراضي الأوكرانية أراض خصبة قابلا للزراعة حيث كان هذا البلد من بين رواد العالم في ميدان الزراعة في منتصف ثمانيات القرن التاسع عشر. وأصبحت أوكرانيا بعد ذلك  الممول الغذائي للاتحاد السوفيتي. وعلى الرغم من الإرث الشيوعي، فأوكرانيا مازالت  بلدا مصدّرا للمواد الزراعية. ولكن التدخلات الحكومية و فرض نضام الحصص على للصادرات أبقى معدلات الأسعار المحلية منخفضة بشكل مصطنع، مما بدد كافة محفزات وطموح المزارعين.
و الأرجنتين مثال مشابه لأوكرانيا من حيث إهدار و تبذير إمكانياته الزراعية. حيث أن زراعة  15 مليون هكتارا، بدلا من التسعة ملايين هكتار التي تزرع حاليا يمكن أن تنتج 30 مليون طنا إضافيا من الحبوب للتصدير كل عام. وبوسع هذا الرقم أن يغذي 30 مليون نسمة في الصين، أو 60 مليون في الهند، لسنة كاملة. ولكن، هنا أيضا، يتراجع الإنتاج بسبب الممارسات السياسية لإدارة الرئيسة كريستينا فيرناندز. هذه الأخيرة اتبعت نهج الحكومات السابقة مستخدمة كافة المناورات التكتيكية المتوفرة لأجل إبقاء المواد الغذائية رخيصة مهما كانت التكاليف. ففي آذار (مارس) الماضي، تمت زيادة ضرائب الصادرات على العديد من السلع الغذائية، فوصلت نسبة الضريبة على فول الصويا، وهو أهم منتوج موجه للتصدير، إلى 45%.
لقد تسببت عدة عقود من ممارسة مثل هذه السياسات في تقليص حجم الأراضي المزروعة منذ بداية ستينيات القرن العشرين. كما أن السياسات الاقتصادية الانعزالية الرامية إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي أثبتت فشلها وخلقت مشاكل جمة لعديد من البلدان، لا سيما تلك التي لا تتوفر على إمكانات ضخمة كأوكرانيا أو الأرجنتين. كما أن نيجيريا، والسنغال، ومالاوي قد لهثت خلف سراب هذه السياسات، في حين أن العديد من بلدان جنوبي الصحراء الكبرى تفخر فعلا بكونها “مكتفية ذاتيا”. فكانت النتيجة انخفاضا خطيرا للاستهلاك الغذائي الفردي.
في محاولاتها للإبقاء أسعار المواد الغذائية رخيصة تفشل الحكومات في إدراك أن الصادرات المقيدة والضرائب الزراعية تقلص من استثمار وإنتاج المزارعين. فالنتيجة هي ارتفاع شامل للأسعار.
لقد أدت ردود فعل الحكومات إزاء الأزمة الغذائية إلى نتائج عكسية: إذ قام أكثر من 30 بلدا بفرض قيود على الصادرات أو منعها كليا، مما ساهم في تفاقم ارتفاع أسعار المواد الغذائية . وخلاصة القول فإن تحرير التجارة وتحرير المزارعين من القيود المفروضة عليهم من قبل السياسيين يبقى السبيل الأنجع لتحقيق مصلحة المنتجين والمستهلكين في كل مكان.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

peshwazarabic9 نوفمبر، 20100

جرت العادة بعد كل أزمة مالية أن تتعالى الأصوات المطالبة بالمزيد من المراقبة وبالمزيد من التدابير التنظيمية لتفادي تكرار الأزمة مرة أخرى. ولكن بما إن الأزمات السابقة أنتجت ألاف الصفحات حول الإجراءات و التدابير التنظيمية الجديدة، فلماذا يا ترى لم تنجح كل هذه الإجراءات والتدابير في تفادي حدوث الأزمات من جديد؟

فبغض النظر عما يقوله النقاد، فإننا بعيدين عن تطبيق المبدأ الليبرالي “دعه يعمل دعه يمر”، إذ يكفي أن تنظر إلى المؤسسات الفدرالية الأمريكية في واشنطن العاصمة، لتجد أن 12.113 موظفا يعملون بتفرغ تام لتنظيم ومراقبة الأسواق المالية.والسؤال هنا، ما الذي فعلوه بكل تلك الصلاحيات والسلطات التي يملكونها؟…ارتكبوا الأخطاء!

كان السياسيون، والبنوك المركزية، والمُنَظِمون الأمريكيون تواقون إلى توسيع فقاعة الإسكان، شأنهم في ذلك شأن المضاربين. فقد قام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بتخفيض معدلات أسعار الفائدة من 6.5 إلى 1 بالمائة بين عامي 2001 و2003، مما أدى إلى ارتفاع أسعار المساكن. و ابتداءً من عام 1995، توعدت الحكومة البنوك وصناديق التوفير باتخاذ إجراءات تنظيمية وقانونية بحق من يمتنع عن تقديم المزيد من القروض للأحياء الفقيرة. حتى إن شركات حكومية كشركة “فاني ماي” استخدمت ضماناتها الرسمية لشراء المزيد من القروض الخطرة وتوسيع أسواقها الثانوية.

هل يكمن حل الأزمة فعلا في إعطاء المزيد من السلطة للأفراد وللمؤسسات التي أسهمت حدوثها؟

مشكلة الإجراءات التنظيمية هي أنها عادة ما تكون ردة فعل على الأزمة الأخيرة. فالجنرالات يخوضون حربهم الأخيرة وهم يحاولون على الدوام تجنب الأخطاء التي ارتكبوها في الماضي. وهكذا نحصل على قواعد جديدة لتجنب الأخطاء التي يدرك الجميع أن عليهم تفاديها. أما بالنسبة للأزمات المستقبلية المحتملة، فما تزال هي ومسبباتها بعيدة عن إدراكنا. و تدابيرنا التنظيمية قد لا تجدي معها نفعا، بل ربما ستزيدها سوءا.

فعلى سبيل المثال، بعد الكشف عن عدة فضائح محاسبية في بعض الشركات كشركة اينرون، تم اتخاذ ت المزيد من التدابير التنظيمية المحاسبية الصارمة. فقد أراد الجميع تجنب اينرون جديدة. وكنتيجة لهذه الإجراءات تم اعتماد مبدأ ” القيمة السوقية الحقيقية” والذي يعني أن على المؤسسات المالية أن تُقيِّم أصولها بالقيمة السوقية الحالية.

قد يبدو ذلك منطقيا، ولكن المشكلة هي انه عندما تصاب السوق بالفوضى والهلع فتضمحل السيولة ويغيب المشترين، سيكون السعر الذي يمكن الحصول عليه عند عرض الأصول في السوق منخفضا جدا. لذا فان جميع المؤسسات، وعلى نحو مفاجئ، ترى قيمة أصولها وهي تنخفض في وقت واحد. وإذا ما قامت بالبيع لأجل تعويض الخسارة، فأن الأسعار ستنخفض أكثر فأكثر، وستسمر الحسابات بإظهار الانخفاض في قيمة الأصول. والنتيجة هي إن البنك أو صندوق التوفير والذي كان يبدو مستقرا قبل أيام قليلة يمكن أن يصبح، وعلى حين غرة، مفلسا و عاجزا عن السداد.

حسب تصريح وليام آيزك، المدير السابق للشركة الفدرالية للتأمين على الودائع، انه لو كان مبدأ ” القيمة السوقية الحقيقية” موجودا في ثمانيات القرن الماضي، لانهارت جميع البنوك الكبرى في الولايات المتحدة، ولأصبح الركود (القصير الأجل) كسادا.

على حد قول ستيف فوربير، فان هذه الإجراءات التنظيمية و القوانين المحاسبية هي أشبه ” بمجابهة النار بالبنزين”. بعبارة أخرى، فان التنظيم الذي كان يراد منه حل مشكلة الأمس يمكن أن يصبح مشكلة وشيكة كبرى.

الأمر الوحيد الذي نعلمه علم اليقين هو أننا لا نعرف من أين سـتأتي المشكلة القادمة. والطريقة المثالية للاستعداد لها تقتضي أن نتحلى بالمرونة، و أن نتأكد من أن الأفراد والمؤسسات مستعدون للتعلم والتكيف فور توفر معلومات جديدة. فالإجراءات التنظيمية التي توصد الباب بوجه حل ما، أو تمنع تبني حلولا أخرى، يمكن أن تؤدي إلى تدني القدرة على اكتساب تلك المرونة.

و قانون ساربينز- اوكسلي لعام 2002 يعتبر نتيجة أخرى للفضائح المحاسبية. فقد ألزمت بموجبه الشركات الأمريكية باعتماد سياسة مراقبة داخلية صارمة، وإرسال تقارير مالية تفصيلية منتظمة إلى السلطات الفدرالية.  مما أدى إلى خلق تكاليف جديدة تكبدتها الشركات الأمريكية، وتراجع حجم الاكتتاب، وهجرة مدراء الشركات المتمرسين.

غالبا ما تتسبب التدابير التنظيمية وإجراءات المراقبة في مصاعب جديدة، وذلك حتى عندما تكون نوايا السياسيين حسنة. فالكثير من هذه الإجراءات يقدم بشكل يوهم الناس أن السياسيين قد قاموا بفعل شي ما، وبغض النظر عن فعاليتها وقدرتها على معالجة المشكلة أصلا.

وما هذا إلا إتباع للمنطق السياسي في المسلسل التلفزيوني البريطاني “نعم يا رئيس الوزراء” : (لا بد من فعل شيء ما. هذا شيء ما… إذن علينا أن نقوم به… )

إن هذا المنطق قديم قدم الأزمات، فبعد انفجار فقاعة شركة ساوث سي عام 1720، تسبب البرلمان البريطاني في تأجيل الثورة الصناعية من خلال إعاقة التشكيل الحر للشركات المساهمة لأكثر من مائة عام.

عندما يتخذ المنظمون والسياسيون التدابير التنظيمية لمواجهة آخر أزمة يواجهونها، فإنهم أيضا يجازفون، عبر تلك التدابير التنظيمية، بجعل الأزمة المقبلة أكثر قسوة وضراوة.

وبما أننا نجهل طبيعة الخطر الداهم القادم، فان التدابير التنظيمية المتخذة من أجل تفاديه يمكن أن تؤثر سلبا على الأسواق المالية وتجعلها غير قادرة على القيام بوظائفها بشكل فعال. وستكون تلك خسارة كبيرة. خسارة أسوأ بكثير من أية أزمة مالية يمكن أن تخطر ببالنا. ربما يكون شراء الأصول السيئة من المؤسسات المالية فكرة سيئة، وقد تُكلف الخزانة الأمريكية حوالي 700 مليار دولار، ولكن الأسواق المالية تُمكِّن اقتصاد العالم من خلق ضعفي هذا المبلغ كل أسبوع.

لقد أظهر المضاربون وبنوك الاستثمار على غرار السياسيين والمنظمين الاقتصاديين، اظهروا انه من الصعوبة الحفاظ على هدوئهم عندما تكون مبالغ كبيرة من المال في مهب الريح. ولكن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكون أكثر خطرا من الأزمات المالية هو طريقتنا في التعامل مع هذه الأزمات…

© معهد كيتو، منبر الحرية، 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2008.

هذا النص مقتبس عن المقالة الأصلية التي نشرت في صحيفة (ذي استوريليان) في 7 تشرين الأول (اكتوبر) 2008.

peshwazarabic9 نوفمبر، 20100

التاريخ العسكري يكتبه المُنتصرون. أما التاريخ الاقتصادي فيكتبه إلى حدّ ما البنوك المركزية. وفي الحالتين كليهما، عليك أن تأخذ آراء المسؤولين الرسمية بدرجة كبيرة من الحذر. ولسوء الحظ، فإن من الصعوبة بمكان أن تتغلب الحقائق على المعتقدات المزيّفة. وتلعب تلك الآراء المزيّفة دوراً بارزاً في الأبحاث المتعلقة بالسياسات الاقتصادية.

حتى نضع يدنا على الأوضاع الراهنة فيما يتعلق بالآراء التي تُطرح بشأن مجلس الاحتياط الفيدرالي، لا يوجد مكان أفضل لذلك من البدء فيما ذكره رئيس البنك السابق آلان غرينسبان في كتابه “عصر الاضطراب”. ووفق ما جاء في الكتاب، فإن الاحتياطي الفيدرالي كان على صواب في كل ما فعله غرينسبان خلال فترة ولايته: آب (أغسطس) 1987 – كانون الثاني (ديسمبر) 2006.

دعونا نأخذ نظرة أكثر تعمقاً. هل كانت هنالك أية أخطاء أو أنماط سياسات غير سوية خلال فترة ولاية غرينسبان؟ إن أسهل طريقة للإجابة على هذا السؤال هو قياس توجه نسبة النمو في المبيعات النهائية الإسمية للمشترين الأميركيين (إجمالي الناتج المحلي – الصادرات + الواردات – التغيرات في المخزونات) ومن ثم التفحص في الانحرافات عن ذلك التوجه.

خلال ولاية غرينسبان، نمت المبيعات الإسمية النهائية بمعدل 5.4% سنوياً. هذا يعكس مجموع النمو الحقيقي للمبيعات بمعدل 3% مضافاً إليه التضخم بمعدل 2.4%.

الانحراف الأول من هذا التوجه بدأ بعد فترة وجيزة من تولي غرينسبان رئاسة مجلس الاحتياط الفيدرالي. فاستجابة لانهيار السوق المالي في تشرين أول (أكتوبر) 1987، فتح البنك مفاتيح مضخة ماله، وعلى امتداد السنة اللاحقة ارتفعت نسبة المبيعات النهائية بـ7.5% وهو معدل أعلى من المعتاد.

بعد أن ذهب البنك المركزي بعيداً جداً، تحوّل ليعود مرة أخرى في الاتجاه المعاكس. وكان من نتيجة التشديد الذي فرضه الاحتياطي الفيدرالي حدوث تراجع اقتصادي معتدل في عام 1991، وما بين عام 1992 وحتى 1997 كان النمو في القيمة الإسمية للمبيعات النهائية مستقراً. بيد أن الانهيارات المتلاحقة التي لحقت ببعض العملات الآسيوية، والروبل الروسي، وإدارة صندوق الأمان الطويل الأمد، وأخيراً ما أصاب الريال البرازيلي، أدى كل ذلك إلى قيام البنك بضخ كمّيات زائدة من السيولة، الأمر الذي أدى إلى انتعاش في أرقام المبيعات الإسمية النهائية.

وقد أعقب ذلك دورة أخرى من التشدد من قبل الاحتياطي الفيدرالي ترافق مع انفجار فقاعات الأسهم في عام 2000 وانخفاض في النشاط الاقتصادي.

وكان آخر قفزة كبيرة في نسبة المبيعات النهائية الإسمية نتيجة لقيام الاحتياطي الفيدرالي بضخ سيولة في الأسواق لمعالجة مخاوف الانكماش المزيَّف الذي وقع عام 2002. في ذلك الوقت، كانت الزيادة السنوية في جدول الأسعار بالنسبة للإنفاق الشخصي الأساسي الاستهلاكي ينحدر إلى ما هو أدنى إلى 1%، بحيث أعطى إشارة بوقوع انكماش اقتصادي.

خلال ولاية غرينسبان، تبدو الحقائق واضحة: كان رد فعل مجلس الاحتياط الفيدرالي للأزمات الحقيقية أو المُفترضة رداً مبالغاً فيه وخلق ثلاث فقاعات للطلب في فترة ما بعد الأزمات. وقد تبع تلك الفقاعات تشديد في السياسة النقدية والذي كان ضرورياً للقضاء عليها.

إن الانكماش الحالي في الاقتصاد الأمريكي يحمل جميع علامات “الدورة الاقتصادية النمساوية”. في مثل هذا النمط من الدورات، فإن انتعاشاً في توفر السيولة يؤدي إلى ارتفاع في مستوى الأسعار ويؤدي في النهاية في زرع بذور دمارها—أي إلى حدوث انكماش اقتصادي.

الدورة الاقتصادية الأميركية والأوروبية التي جرت في أواخر 1920 وأوائل الثلاثينيات كانت نموذجاً للدورات النمساوية التقليدية. والازدهار الياباني، ثم الانهيار الذي وقع في أواخر الثمانينيات، كان أيضاً تجسيداً لشكل من أشكال الدورة النمساوية.

بموجب الدورة النمساوية، تلعب البنوك دوراً مفصلياً سواءً في الصعود أو في الهبوط. فعندما تتكشف دورة الهبوط، تبدأ أسعار الموجودات بالانكماش. ونتيجة لذلك، فإن رؤوس أموال البنوك تصبح مهددة وتجهد البنوك لإعادة بنائها.

يكون الاقتصاد مكشوفاً لما يسميه علماء الاقتصاد في المدرسة النمساوية بالانكماش الثانوي حيث تستدعي البنوك القروض وتُصبح متشددة في إعطاء تسهيلات مالية أخرى. أما العائلات فتُنتج صيغتها الخاصة بها حيث تُسيّل الموجودات الأكثر تعرضاً للخطر (مثل سندات الصناديق المشتركة) وتُحول موجوداتها إلى نقد وإلى سندات حكومية، وبالنسبة للاقتصاد بشكل عام، تُعاني الاستثمارات ويعاني الاستهلاك سواءً بسواء.

عندما يقع هذا السيناريو، فإن صفقة الإنقاذ التي يعمد الاحتياطي الفيدرالي إلى اتخاذها تصبح موضع شكّ ذلك لأن البنوك تُصبح أكثر تشدداً في إعطاء التسهيلات وتعمد إلى إعادة بناء أرصدتها وتستخدم السيولة المتوافرة لديها لشراء السندات الحكومية. وباختصار، فإن آلية خلق السيولة تتعثّر وتصبح غير قابلة للتنفيذ.

فإذا كان هنالك إمكانية بأن تفشل السياسة النقدية في إنقاذ الاقتصاد الأميركي المُنكمش، ماذا إذاً عن سياسة الدولة المالية؟ لقد وقّع الرئيس بوش على صفقة إنعاش للاقتصاد بقيمة 170 بليون دولار في 13 شباط (فبراير) الماضي. معظم ذلك المبلغ كان على شكل خصم ضريبي—شيكات من الحكومة. الفكرة وراء ذلك هي أن الناس سوف يتراكضون لإنفاق هذه الثروة التي نزلت عليهم وأن الاستهلاك سوف يشهد نشاطاً.

هنالك مشكلة فيما يتعلق بهذا النمط من السياسة المالية الكينزية. فالناس يُقيّمون استهلاكهم بالنسبة للمتغيرات في توقعاتهم البعيدة المدى أو مداخيلهم (الثابتة)، ولا يعطون سوى أقل اهتمام للتغيرات المرحلية.

ونتيجة لذلك، فإن الخصم الضريبي لمرة واحدة (مثل تلك التي حصلت في عام 1975) لا يؤدي إلى مزيد من الاستهلاك، ذلك لأنه لا يغير من مداخيل الناس الثابتة.

وحيث يغرق الاقتصاد الأمريكي، تُستخدم الوسائل النقدية والمالية لرفعه وانتشاله. ولكن هنالك أسباب قوية للشكّ في فعالية تلك العمليات الإنقاذية.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 27 آب 2008.

peshwazarabic9 نوفمبر، 20100

جرت العادة بعد كل أزمة مالية أن تتعالى الأصوات المطالبة بالمزيد من المراقبة وبالمزيد من التدابير التنظيمية لتفادي تكرار الأزمة مرة أخرى. ولكن بما إن الأزمات السابقة أنتجت ألاف الصفحات حول الإجراءات و التدابير التنظيمية الجديدة، فلماذا يا ترى لم تنجح كل هذه الإجراءات والتدابير في تفادي حدوث الأزمات من جديد؟
فبغض النظر عما يقوله النقاد، فإننا بعيدين عن تطبيق المبدأ الليبرالي “دعه يعمل دعه يمر”، إذ يكفي أن تنظر إلى المؤسسات الفدرالية الأمريكية في واشنطن العاصمة، لتجد أن 12.113 موظفا يعملون بتفرغ تام لتنظيم ومراقبة الأسواق المالية.والسؤال هنا، ما الذي فعلوه بكل تلك الصلاحيات والسلطات التي يملكونها؟…ارتكبوا الأخطاء!
كان السياسيون، والبنوك المركزية، والمُنَظِمون الأمريكيون تواقون إلى توسيع فقاعة الإسكان، شأنهم في ذلك شأن المضاربين. فقد قام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بتخفيض معدلات أسعار الفائدة من 6.5 إلى 1 بالمائة بين عامي 2001 و2003، مما أدى إلى ارتفاع أسعار المساكن. و ابتداءً من عام 1995، توعدت الحكومة البنوك وصناديق التوفير باتخاذ إجراءات تنظيمية وقانونية بحق من يمتنع عن تقديم المزيد من القروض للأحياء الفقيرة. حتى إن شركات حكومية كشركة “فاني ماي” استخدمت ضماناتها الرسمية لشراء المزيد من القروض الخطرة وتوسيع أسواقها الثانوية.
هل يكمن حل الأزمة فعلا في إعطاء المزيد من السلطة للأفراد وللمؤسسات التي أسهمت حدوثها؟
مشكلة الإجراءات التنظيمية هي أنها عادة ما تكون ردة فعل على الأزمة الأخيرة. فالجنرالات يخوضون حربهم الأخيرة وهم يحاولون على الدوام تجنب الأخطاء التي ارتكبوها في الماضي. وهكذا نحصل على قواعد جديدة لتجنب الأخطاء التي يدرك الجميع أن عليهم تفاديها. أما بالنسبة للأزمات المستقبلية المحتملة، فما تزال هي ومسبباتها بعيدة عن إدراكنا. و تدابيرنا التنظيمية قد لا تجدي معها نفعا، بل ربما ستزيدها سوءا.
فعلى سبيل المثال، بعد الكشف عن عدة فضائح محاسبية في بعض الشركات كشركة اينرون، تم اتخاذ ت المزيد من التدابير التنظيمية المحاسبية الصارمة. فقد أراد الجميع تجنب اينرون جديدة. وكنتيجة لهذه الإجراءات تم اعتماد مبدأ ” القيمة السوقية الحقيقية” والذي يعني أن على المؤسسات المالية أن تُقيِّم أصولها بالقيمة السوقية الحالية.
قد يبدو ذلك منطقيا، ولكن المشكلة هي انه عندما تصاب السوق بالفوضى والهلع فتضمحل السيولة ويغيب المشترين، سيكون السعر الذي يمكن الحصول عليه عند عرض الأصول في السوق منخفضا جدا. لذا فان جميع المؤسسات، وعلى نحو مفاجئ، ترى قيمة أصولها وهي تنخفض في وقت واحد. وإذا ما قامت بالبيع لأجل تعويض الخسارة، فأن الأسعار ستنخفض أكثر فأكثر، وستسمر الحسابات بإظهار الانخفاض في قيمة الأصول. والنتيجة هي إن البنك أو صندوق التوفير والذي كان يبدو مستقرا قبل أيام قليلة يمكن أن يصبح، وعلى حين غرة، مفلسا و عاجزا عن السداد.
حسب تصريح وليام آيزك، المدير السابق للشركة الفدرالية للتأمين على الودائع، انه لو كان مبدأ ” القيمة السوقية الحقيقية” موجودا في ثمانيات القرن الماضي، لانهارت جميع البنوك الكبرى في الولايات المتحدة، ولأصبح الركود (القصير الأجل) كسادا.
على حد قول ستيف فوربير، فان هذه الإجراءات التنظيمية و القوانين المحاسبية هي أشبه ” بمجابهة النار بالبنزين”. بعبارة أخرى، فان التنظيم الذي كان يراد منه حل مشكلة الأمس يمكن أن يصبح مشكلة وشيكة كبرى.
الأمر الوحيد الذي نعلمه علم اليقين هو أننا لا نعرف من أين سـتأتي المشكلة القادمة. والطريقة المثالية للاستعداد لها تقتضي أن نتحلى بالمرونة، و أن نتأكد من أن الأفراد والمؤسسات مستعدون للتعلم والتكيف فور توفر معلومات جديدة. فالإجراءات التنظيمية التي توصد الباب بوجه حل ما، أو تمنع تبني حلولا أخرى، يمكن أن تؤدي إلى تدني القدرة على اكتساب تلك المرونة.
و قانون ساربينز- اوكسلي لعام 2002 يعتبر نتيجة أخرى للفضائح المحاسبية. فقد ألزمت بموجبه الشركات الأمريكية باعتماد سياسة مراقبة داخلية صارمة، وإرسال تقارير مالية تفصيلية منتظمة إلى السلطات الفدرالية. مما أدى إلى خلق تكاليف جديدة تكبدتها الشركات الأمريكية، وتراجع حجم الاكتتاب، وهجرة مدراء الشركات المتمرسين.
غالبا ما تتسبب التدابير التنظيمية وإجراءات المراقبة في مصاعب جديدة، وذلك حتى عندما تكون نوايا السياسيين حسنة. فالكثير من هذه الإجراءات يقدم بشكل يوهم الناس أن السياسيين قد قاموا بفعل شي ما، وبغض النظر عن فعاليتها وقدرتها على معالجة المشكلة أصلا.
وما هذا إلا إتباع للمنطق السياسي في المسلسل التلفزيوني البريطاني “نعم يا رئيس الوزراء” : (لا بد من فعل شيء ما. هذا شيء ما… إذن علينا أن نقوم به… )
إن هذا المنطق قديم قدم الأزمات، فبعد انفجار فقاعة شركة ساوث سي عام 1720، تسبب البرلمان البريطاني في تأجيل الثورة الصناعية من خلال إعاقة التشكيل الحر للشركات المساهمة لأكثر من مائة عام.
عندما يتخذ المنظمون والسياسيون التدابير التنظيمية لمواجهة آخر أزمة يواجهونها، فإنهم أيضا يجازفون، عبر تلك التدابير التنظيمية، بجعل الأزمة المقبلة أكثر قسوة وضراوة.
وبما أننا نجهل طبيعة الخطر الداهم القادم، فان التدابير التنظيمية المتخذة من أجل تفاديه يمكن أن تؤثر سلبا على الأسواق المالية وتجعلها غير قادرة على القيام بوظائفها بشكل فعال. وستكون تلك خسارة كبيرة. خسارة أسوأ بكثير من أية أزمة مالية يمكن أن تخطر ببالنا. ربما يكون شراء الأصول السيئة من المؤسسات المالية فكرة سيئة، وقد تُكلف الخزانة الأمريكية حوالي 700 مليار دولار، ولكن الأسواق المالية تُمكِّن اقتصاد العالم من خلق ضعفي هذا المبلغ كل أسبوع.
لقد أظهر المضاربون وبنوك الاستثمار على غرار السياسيين والمنظمين الاقتصاديين، اظهروا انه من الصعوبة الحفاظ على هدوئهم عندما تكون مبالغ كبيرة من المال في مهب الريح. ولكن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكون أكثر خطرا من الأزمات المالية هو طريقتنا في التعامل مع هذه الأزمات…
© معهد كيتو، منبر الحرية، 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2008.
هذا النص مقتبس عن المقالة الأصلية التي نشرت في صحيفة (ذي استوريليان) في 7 تشرين الأول (اكتوبر) 2008.

peshwazarabic9 نوفمبر، 20100

الاقتصاد الأمريكي هو الآن في خضمّ أزمة مالية تقليدية جلبتها سياسات سيئة بالترافق مع تهاون لا يصدّق في مستوى الضمانات التي تتقاضاها المؤسسات المالية الأمريكية. الإخفاق الأكبر كان القرار الذي اتخذه ألان غرينسبان رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي في ذلك الوقت، بالإبقاء على نسبة الفوائد منخفضة جداً وعلى أمدٍ طويل. وقد أدّى ذلك إلى طوفانٍ تسونامي من الإقراض أغرق الاقتصاد بالمال الرخيص. دائنو الأملاك المرهونة بوجه خاص كانوا “يسبحون” بكميات هائلة من الأموال وكانوا يبحثون عن صفقات حيثما وجدوها. ومن هنا جاء المقترضون غير المؤهلين وأصبحوا “مؤهلين” نتيجة لتخفيض مستويات ضمانات الإقراض من ثم العمل بدونها.
وبتشجيع من البيانات التي كان يصدرها غرينسبان، أصبح اللاعبون في السوق يعتقدون بأن مرحلة نسب الفوائد المنخفضة سوف تستمر إلى ما لا نهاية. بيد أن تلك المرحلة جاءت إلى نهايتها، حيث أن الاحتياطي الفيدرالي وجد نفسه مرغماً على البدء برفع نسب فوائد الإقراض. وقد وجد المقترضون بأنه سوف يترتب عليهم دفع نسب أعلى من الفوائد على عقاراتهم المرهونة في المستقبل، فأخذوا يتخلفون عن الدفع. أولاً، توقفت أسعار السكن عن الارتفاع، ومن ثم أخذت بالانخفاض—وبشكل قوي في بعض الأسواق الملتهبة. والآن مضى حوالي سبعة أشهر في الدورة الجديدة لمرحلة الفوائد المنخفضة، ومع ذلك فلا يوجد أي أمل في الأفق لنهاية الأزمة المالية الطاحنة.
عاملان اثنان على الأقل ساهما في تشديد الأزمة. أولاً، عدة أدوات مالية فريدة خارجة عن المعتاد والتي رُبطت بشكل أو بآخر بأسعار السكن وقيم الضمانات التي أُعطيت الرهونات على أساسها. جاء تسعير تلك الأدوات المالية نتيجة لنماذج اقتصادية معقّدة ولم يكن نتيجةً لمعاملات السوق. وحيث أن قيمة المساكن والرهونات انخفضت، فإن أسعار تلك الأدوات المالية أصبحت أقرب إلى المستحيل. وكما تعلّمنا من حوادث سابقة، فإن تلك النماذج التسعيرية فشلت بسبب عدم دقّتها، وهي العنصر الأهم في أوقات الاضطراب المالي. إن عدم القدرة على تحديد سعرٍ لتلك الأدوات المالية قد فاقم من الخسائر التي تكبّدتها الشركات التي في حوزتها تلك الأدوات.
هناك مثل رائع موازٍ نراه في انهيار الاتحاد السوفييتي. وكما أوضح العالم الاقتصادي لودفيغ فون ميزس، قبل حوالي 100 عام، فإن التخطيط المركزي لا بد من أن يفشل حتماً لانعدام وجود أسعار سوق تُقرر تخصيص الموارد. أسعار السوق لا يمكن إلا أن تكون نتيجة لصفقات سوق فعلية ما بين المشترين والبائعين. المخططون يستخدمون معادلات رياضية لتقييم الموارد، وبالأخص رأس المال. والآن نرى أن فطاحلة الوول ستريت قد استوردوا التفكير السوفييتي في تخصيص رأس المال. فهل نستغرب عندما نرى أن سعيهم قد فشل؟
العامل الثاني الذي ساهم في انهيار أسعار المساكن كان نتيجة لالتزام الحكومة الفيدرالية بتوفير مساكن يستطيع المشترون تحمل أسعارها وقد وُضع الضغط على الدائنين، بترويج بيع المساكن إلى الجماعات ذوي المداخيل المنخفضة والذين لا يكونون مؤهلين لتلقي قروض عادية. تلك السياسة كانت مبنية على أساس الاعتقاد بأن هنالك جماعات من الناس كان بالإمكان أن تملك مساكن لها لولا وجود شكل من أشكال الانحياز الاقتصادي أو فشل في عوامل السوق. هذا الهدف الاجتماعي ورغبة الدائنين في كسب المزيد من الصفقات، اندمجا في رهونات غير كافية في ضماناتها.
لقد تعلمنا درسين من الاندفاع نحو توفير المساكن إلى من كانوا معتبرين غير مؤهلين لحيازتها. أولاً، عدد كبير منهم لم يكونوا من المُلاّك لأنهم كانوا عاجزين عن تملك المساكن. وفقط تحت المظلة المؤقتة من الظروف الملتهبة في أسواق الرهن العقاري أصبحوا يبدون وكأنهم يستحقون تملك المساكن. ثانياً، إن الناس اللذين لا يملكون من المساكن شيئاً لا يمكن أن يقال عنهم بأنهم مُلاّك. فعندما تُصبح الأمور صعبة، فإنهم ينسحبون. لقد كانوا من الناحية الفعلية مستأجرين ولم يكونوا مُلاّكاً.
سوف تنتهي الأزمة عندما يهبط سوق السكن إلى القاع، وعندما تستقر أسعار ضمانات الرهونات. كما يتوجب على البنوك أن يتخلوا عن ارتباطاتهم في الالتزامات المالية الفرعية الغريبة عن الإطار المتبع.
ومن واجب الاحتياطي الفيدرالي أن يفهم بأنه يواجه أزمة رأس مال، وليس أزمة سيولة. إن معدل أسعار الفوائد شديدة الانخفاض على أصول آمنة يدل على أن هنالك سيولة كبيرة في الأسواق المالية. ولا يجب على الاحتياطي الفيدرالي أن يُقدم مزيداً من رأس المال، فهذه هي وظيفة الأسواق وهي تقوم بعمل ذلك.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 9 تموز 2008.

peshwazarabic9 نوفمبر، 20100

هناك مصادرة يجري التسليم بها دون مساءلة، كأنها من البدائه ومن تحصيل الحاصل، هي القائلة بأن حرية السوق، التي ترتقي لدى دعاتها إلى مرتبة “أم الحريات”، ستجترح لا محالة، وقد سادت وتعولمت، على الصعيد الكوني ما سبق لها أن حققته، في مبتدئها، على صعيد أوطان الغرب وأممه، أي أنها ستكون قابلة الديمقراطية وشرطها الضروري.

يفترض الرأي هذا، بل يجزم، أنه يكفي ترك حرية المبادرة تفعل فعلها “يدا خفيّة” في المجال الاقتصادي، حتى تنجرّ عنها سائر الحريات الأخرى، من سياسية وسواها. في ماضي الرأسمالية ما قد يشهد بذلك والحق يُقال، إذ لا ينفك نشوء الديمقراطيات الحديثة واشتداد عودها، واستتبابها نظامَ حكم عُدّ الأفضل في تاريخ البشرية، عن تطور الرأسمالية واقتصاد السوق، بحيث كاد يتماهى المواطنُ الفاعل اقتصاديا، ذاتا مستقلة مبادِرة، مع ذلك الفاعل سياسيا، ذاتا حرة، طالما أنه يُفترض في الاقتصاد الحر أن يوفر فرصة الحراك والصعود الاجتماعيين للجميع، أقله نظريا، فأنهى حالة الجمود الطبقي التي كانت سائدة في الماضي، ترتهن الفرد (الذي لا تكاد تصح عليه هذه الصفة) إلى شرط الولادة، لا فكاك منه ولا مناص، كل في طبقته لا يبرحها.

كل ذلك صحيح وليس محل خلاف جدّي. المشكلة إذن ليست هنا، بل في النظرة الليبرالية المغالية التي أضحت سائدة، سيادة مطلقة تقريبا، والتي تضع السوق في مواجهة الدولة، وتفترض بينهما علاقة تنافٍ متبادل، أو عداء مستحكم، بحيث لا يمكن، وفق تلك النظرة، للدولة إلا أن تكون، لنزوعٍ فيها طبيعي ملازم، معرقلة للسوق حادّة من حريتها، ولا يمكن للسوق، بالمقابل وبالتالي، إلا أن تكون في حالة صدام مع الدولة، فلا تزدهر إلا بانحسارها.

والحال أن التاريخ لا يؤيد هذه النظرة، بل هو قد يفندها وقد يفيد عكسها. ذلك أن تطور الرأسمالية وتمكّنها قد تزامنا مع اشتداد سلطة الدولة واستفحال نفوذها واستفادا من تلك السلطة ومن ذلك النفوذ. إذ من المعلوم، إلى درجة البداهة والابتذال، أن الدولة الحديثة بلغت من السيطرة على حيزها الترابي ما لم يسبق لنظيرتها التقليدية، ما قبل الحديثة، أن حققته أو حلمت بتحقيقه. فهي قد ألغت كل سلطة لها موازية، وامتلكت من الوسائل، التقنية والإدارية، ما مكنها من التغلغل في كافة ثنايا المجتمع ومن توحيده حول سلطتها المركزية. تلك هي الدولة-الأمة، وهذه من اختراع الحقبة الرأسمالية، لا شك في ذلك ولا مراء. وخلال تلك الفترة، سارت تلك الدولة يدا بيد مع السوق، فهي إذ أحكمت سيطرتها على التراب الوطني إنما اجترحت سوقا وطنية ووحدتها وتولت حمايتها، وسهرت على مصالحها في الداخل، بأن ألغت كل ما من شأنه أن يعرقل تبادل البضائع، كما في الخارج، إن بالدبلوماسية وإن بالحرب. وهي إذ اضطلعت بدور لا يُنكر، وأحيانا حصري، في إقامة البنى التحتية، إنما أنشأت الوسائل الكفيلة بفرض مركزيتها، ولكنها في الآن نفسه خدمت اقتصاد السوق. والأمثلة على ذلك كثيرة. فحتى القرن التاسع عشر، كان لكل مدينة بريطانية توقيتها، إلى أن أدى تعميم شبكة سكك الحديد إلى اعتماد توقيت موحد على الصعيد الوطني، وحتى ثورة سنة 1789، وهي الثورة البورجوازية بامتياز كما هو معلوم، كانت فرنسا تعاني فوضى الموازين والمكاييل واضطرابها، حتى جاءت السلطات الجمهورية الجديدة وتولت تنظيمها وتوحيدها. وما ذلك إلا غيض من فيض.

الدولة لم تكن إذن هيئة مفارِقة للسوق معرقلة لها، على ما يقوله أو يوحي به غلاة دعاة السوق المعاصرين، أو هي ليست في تناقض معها أصلي وجوهري. بل أن الدولة، في صيغتها الغربية الحديثة، كانت إلى حد بعيد، دولة السوق، وإن عاندت هذه الأخيرة أحيانا في التفاصيل، بأن سعت إلى الاضطلاع بدور الناظم للحياة الاقتصادية، والاجتماعية تاليا، حفاظا على التوازنات الأساسية للمجتمعات، وقد تم ذلك دوما على نحو، جزئي أو آني، لا يخل بالنواميس المؤسسة لاقتصاد السوق، ولا ينال منها ناهيك عن إبطالها.

لذلك، فإن الخطاب الليبرالي المغالي، بإنكاره كل دور للدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، يبدو في أفضل حالاته وتجلياته، استئنافا لسجال لم يعد قائما أو لم تبق له من أسس موضوعية، يسحب على الدولة بإطلاق، ما كان يصحّ على دولة عينيّة، هي تلك التي كانت تجسيدا للتوتاليتارية، من شيوعية أو سواها، وكانت، بصفتها تلك تنطلق من رؤية أيديولوجية تجعلها تُقبل على الواقع فرضا وقسرا، تزعم التحكم في كل مناحيه وتوجيهها وفق مرجعية مفارِقة له، بما في ذلك الحياة الاقتصادية.

لم يبق راهنا من معترض على اقتصاد السوق، يدّعي فرض أو مجرد اقتراح نموذج بديل عنه، أو يتوهم اقتصاد الدولة منافسا له. مثل ذلك المنافس سقط منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الشيوعية، معسكرا وأيديولوجية، بل وبرهن على فشله قبل ذلك، وأضحى اقتصاد السوق الباراديغم الأوحد، تأخذ به حتى دول، شأن الصين، لا يزال يحكمها حزب شيوعي لم يتخل عن سطوته وانفراده، بل أن الدولة كانت، في ذلك البلد، المبادر والفاعل الرئيس في الانتقال إلى اقتصاد السوق. ربما تمثلت علة ذلك في أن الشيوعية تراجعت حتى حيث لم تنهر وظلت حاكمة مسيطرة، لأن النخب التي لا تزال تدين بها، اضطرت إلى الانتقال بها من التوتاليتارية، تُخضع الواقع في جميع مناحيه، بما فيه الحياة الاقتصادية، إلى رؤية تعتبرها صوابا مطلقا، إلى مجرد أداة لتأبيد الاستبداد، أي إلى مجرد أداة تسلط وانفراد بالحكم، تنحصر وظيفتها في ذلك دون ادعاء إنتاج المعنى.

لكل ذلك، ربما لم يعد مجديا وضع اقتصاد السوق مقابلا نقيضا للدولة بإطلاق، بل البحث في سبل التعايش بينهما، بما يمكّن الدولة من الاضطلاع بدورها الناظم في الحياة العامة، حكَما بين قوى المجتمع ومكوّناته، على أساس الديمقراطية، خصوصا حيث تخفق “اليد الخفية” للسوق في استخلاص النظام من الفوضى، وهي كثيرا ما تفعل، على ما دلت تجربة السنوات الأخيرة. وذلك موضوع يتطلب مزيدا من سبر، سنعود إليه في مساهمات لاحقة.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 23 نيسان 2008.

peshwazarabic9 نوفمبر، 20100

معهد كيتو، واشنطن
الخميس، 12 نيسان، 2007
12:00 مساءً

الدكتور يوسف بطرس غالي، وزير المالية، مصر

تمهيد مقدم من قبل إيان فاسكيز

مرحبا بكم في معهد كيتو.

أنا المدعو إيان فاسكيز أقوم بإدارة مركزنا فيما يخص حرية وازدهار العالم من هنا في المعهد.

لقد كانت مصر منذ مدة طويلة تتمتع بعلاقة خاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية وكانت تلعب دورا قياديا في الشرق الأوسط. ولهذا، عندما شرعت هذه الدولة (أي مصر) بإدخال بعض الأشكال من إصلاحات التحرير الاقتصادي، قام الكثيرون منا بالترحيب بتلك الإصلاحات لكونها دلالة إيجابية وخصوصا في منطقة متعثرة ومتخلفة من ناحية أي إصلاح اقتصادي يتم القيام به فيها. وإننا في معهد كيتو، حسبما يعرف البعض منكم، كنا قد نشرنا مع معهد فريزر الكندي ذلك التقرير الذي يحمل عنوان “الحرية الاقتصادية في العالم” والذي بموجبه احتلت مصر المرتبة الثمانين من بين الدول المائة والثلاثين في مجال الحرية الاقتصادية.

وإنه لمن دواعي سروري، وبشكل عفوي، أن أعلن عن أننا، بسبب العمل والجهد الذي بذله زميلاي توم بالمر وفادي حدادين، قمنا أيضا بنشر تقرير “الحرية الاقتصادية في العالم” باللغة العربية وقمنا بتوزيع ذلك التقرير في جميع أنحاء المنطقة. وطبعا، يقوم التقرير بإظهار العلاقة التجريبية المتينة جدا القائمة بين الحرية الاقتصادية ونمو الازدهار، وهي انه كلما كانت الدولة حرة بشكل أكبر من الناحية الاقتصادية كلما شهدت ازدهارا أكبر. إلا أن تقريرنا الأخير قد أظهر بان استخدام البيانات قد جرى لغاية العام 2004 وقد توقف عند ذلك العام.

وفي تلك السنة كان قد تولى المتحدث الذي سوف يتحدث إلينا هذا اليوم وزارة المالية في مصر ألا وهو يوسف بطرس غالي الذي أصبح وزيرا للمالية وتولى جزءا سابقا مما سماه هو باسم “الكتلة الحرجة” للإصلاحيين داخل الحكومة المصرية. ولقد كان حوالي ذلك الزمن عندما شرعت الحكومة المصرية بالبدء في دفع بعض الإصلاحات الجوهرية إلى الأمام بما في ذلك تعويم الجنيه المصري وخفض شديد في الضرائب المفروضة على الشركات والأشخاص بنسبة 50% وإجراء إصلاحات جمركية وأشياء أخرى أيضا. ومنذ ذلك الوقت، انتعش النمو الاقتصادي في مصر مرتفعا بنسبة وصلت إلى ما يقارب نسبة 5 في المائة أو نحوها، ثم إلى نسبة وصلت في الوقت الحالي إلى 7%.

أما في أيامنا هذه، فإننا سوف نسمع عن أشياء أكثر من ذلك حول إنجاز الإصلاحات في مصر وعن الأجندة المتبقية في هذا الصدد. كما أننا أيضا سوف نسمع عن مقدار ذلك النمو الاقتصادي الجاري الذي يمكن أن ينسب إلى الإصلاحات التي تمت مسبقا. ويشير يوسف بطرس غالي إلى أن هناك عناصر مكونة أخرى تعتبر ضرورية إذا كان على الإصلاحات الاقتصادية أن تحقق النجاح، وهي تشتمل على وجود صحافة حرة وعلى تحديدات يتم فرضها على السلطة. وكما ورد في كلماته، فان تحرير الاقتصاد سوف ينتقل بشكل حتمي إلى الدائرة السياسية، وإنني على ثقة بأننا كلنا مهتمون كي نسمع عن نشوء وتطور يتم في طبيعة المجتمع المصري وكيف أن بعض التغييرات قد أصبحت حقيقة بشكل دقيق بسبب العولمة.

وحسبما قمت بذكره آنفا، الدكتور يوسف بطرس غالي هو وزير المالية، وهو المنصب الذي تولاه منذ العام 2004 في الحكومة المصرية. ولكنه منذ وقت طويل قبل ذلك كان منهمكا في مراكز عليا في تلك الحكومة وهي مناصب لها تأثير على السياسة الاقتصادية. فقد كان وزيرا للتجارة الخارجية ووزيرا للاقتصاد وكان مستشارا اقتصاديا لرئيس الوزراء وكان محافظا للبنك المركزي المصري وكان كبيرا للاقتصاديين في صندوق النقد الدولي. كما انه يحمل درجة الدكتوراه في علم الاقتصاد من جامعة الـ(إم آي تي). وإنه لمن دواعي سروري أن أرحب بالدكتور يوسف بطرس غالي.

كلمة الدكتور يوسف بطرس غالي

سيداتي سادتي طاب مساؤكم.

إنه لشرف كبير لي أن تتم دعوتي لأتحدث أمام هذه المؤسسة المرموقة، ففي الوقت الذي كان يتم به تقديمي، تمت طمأنتي بأنه قد تم توفير كافة عناصر السلامة للتحدث علنا أمام الجمهور، وبالتحديد من ناحية جلوس الضيوف وعن وجود مسافة تبلغ المترين كحد أدنى تفصل بين هؤلاء الضيوف والمتحدثين وعن وجود مخرج سهل متوفر في حال عدم ميلهم وتأييدهم إلى ما سوف نقوله! ولكن، عند الأخذ بعين الاعتبار الجزء الأساسي من الفكر الذي تناصرونه أنتم وعند الأخذ بعين الاعتبار بوجهات نظر مثل هذه المؤسسة وكذلك، بشكل احتمالي، بوجهات نظر الحضور، فانني اعتقد بأنكم سوف تميلون وتؤيدون إلى ما سوف تسمعونه.

فقصة مصر الحديثة هي قصة بدأت منذ أواخر أعوام الثمانينات من القرن الماضي. فمصر كانت “دولة صناعية” وعلى وجه التحديد منذ أوائل 1800 ولغاية 1805، إلا أن وصولها إلى العصر الحديث المقرون بالفكر الحديث وبالرؤية التي تناصر كافة التغييرات التي طرأت على الفكر الاقتصادي كان قد تم في أواخر القرن العشرين، أي في أواخر الثمانينات من القرن العشرين عندما عملت أزمات ميزان المدفوعات على إجبارنا على أن ننظر ونلتفت إلى الطريقة التي يتم بها تسيير نظامنا الاقتصادي وأن ننظر ونلتفت إلى التوازنات الكلية وأن ننظر ونلتفت إلى الطريقة التي نقوم بها بإدارة الاقتصاد لدينا.

ولقد كان اقتصادنا وعلى مدى زمن طويل مغطى بقناع الحروب. ولغاية العام 1981 كان اقتصادنا اقتصاد حرب. وفي العام 1979 حيث تم توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” كان من الصعب أن يتم التركيز على أي شيء آخر غير اقتصاد الحرب. وبعد ذلك، ولكي يتم الخروج من وضعية اقتصاد الحرب، كان من المهم أن نقوم بالاستثمار في البنية التحتية التي كانت قد تهدمت ودمرت بالكامل بفعل سنوات من الحروب المستمرة التي امتدت إلى ما بين 30 إلى 40 عاما.

وبالنسبة للولايات المتحدة فقد قامت بلعب دور حاسم لم يتم إعطاؤه التقدير الذي يستحقه سواء في مصر أو هنا في الولايات المتحدة بخصوص مدى أهمية هذا الدور. فلم ينل هذا الدور ذلك الإعجاب الذي يستحقه في مصر بسبب ما يعلمه الجميع هنا، حيث أشاهد الكثير من الوجوه التي تحمل آثارا انتخابية متروكة على هذه الوجوه، ولكن، كما تعلمون فان جمهور العامة هو جمهور متقلب، يميل إلى النسيان بسرعة وبشكل خاص إذا كانت كل “الآثار” قد أضحت مدفونة تحت سطح الأرض. وعلى مدى سنوات طويلة، تم تمويل أنظمة معالجة المياه والصرف الصحي وشبكة الكهرباء لدينا، كل ذلك قد تم تمويله من قبل المساعدات الأمريكية، لكننا، إلى حد ما، لا نراها. وفي نهاية أعوام الثمانينات من القرن الماضي بدأت عملية الإصلاح.

وكما تم ذكره منذ دقائـق قليلة مضت، لم يكن لدينا وعلى مدى طويل من الزمن تلك الكتلة الحرجة من الاصلاحيين ليتم إنجاز ذلك الإصلاح بنجاح رغم المصاعب الموجودة. وقد قمنا فعلا بتحقيق مقدار كبير وجوهري من التغييرات، إلا أن تلك التغييرات لم تكن من ذلك النوع الذي يضمن لك حدوث “تفاعل نووي” وبأنه سوف يكون مخلدا بطريقة ذاتية.

وفي العام 1993 قمت بالانضمام إلى الحكومة المصرية وكنت على مدى زمن طويل الاصلاحي الوحيد في هذا النظام وكنت في بعض الأوقات مقبولا كمصدر من مصادر الأفكار “المسلية” وصاحب الاستطرادات المثيرة، وفي أحيان كثيرة ذلك المنحرف عن الموضوع بطريقة مثيرة، وإن لم يتم أخذ ذلك على محمل الجد! وفي مرات كثيرة جدا كانت الحكومة قد تبنت نصائحي وكان هناك أشياء جيدة قد حدثت. ولغاية العام 2004، عندما انتهى المطاف بالكثيرين من الاصلاحيين منا إلى الدخول في الحكومة، لم يكن قد تم تثبيت السببية التي تبين علاقة كل طرف بالآخر.

أما في الوقت الحالي، هناك الكثيرون الذين قد يسألون لماذا لم تحدث مثل تلك الأشياء قبل ذلك التاريخ. والسبب في عدم حدوث ذلك من قبل هو انه لم يكن بمقدورها أن تحدث، بما أن عملية النضوج وعملية تثبيت هذه الكتلة الحرجة من الاصلاحيين هما عملية طويلة المدى وتستغرق زمنا طويلا. فالأمر ليس مجرد أن تنهض من فراشك في أحد الأيام وبأن تقول “اسمحوا لنا بأن نضع عشرة اصلاحيين في الحكومة وبان ننظر ونرى ماذا سيحدث بعد ذلك.” يجب أن تنبت العملية من الأرض صعودا باتجاه الأعلى. وإن كان من الصحيح أن يقوم رئيس الجمهورية بتعيين رئيس الوزراء وان يقوم رئيس الوزراء بتعيين الوزراء، إلا أن عليه أن يشعر بالراحة والاطمئنان إلى أن الأساس الموجود في الاقتصاد، والتفكير في الاتجاه العقلاني في دولتنا، سوف يدعم مثل ذلك التغيير. وهذا ما حدث فعلا في العام 2004. فلم يعد يتم اعتباري بأن أكون الإصلاحي الوحيد في الدولة. وقد تعودت على أن يتم اعتباري “اليميني المتطرف” في الحكومة وإنني في الوقت الحالي أجد، وبطريقة مريحة، أن هناك أناساً وهم الذين يقفون إلى جانب يمينيتي يريدون أن يتم عمل الأشياء بشكل أسرع ويريدون أن يتم عمل الأشياء بشكل اعمق! وهم على علم بان ذلك سوف لن يحدث بالشكل السريع وبالشكل العميق حسبما يريدون هم منذ أن تبدأ الوهلة الأولى. ولكني سوف أدعهم يرتكبون أخطاءهم الشخصية وسيكون من الممتع أن تتم مشاهدتهم وهم يجربون ذلك فيما يخص الذهاب إلى اتجاه كنت في يوم ما قد دفعت باتجاهه ولمدى زمن طويل وأن لدي الرغبة في أن يمضوا قدما بشكل ابعد مما أظن بأنهم يستطيعون الذهاب إليه. وقد أكون أيضا مخطئا بشكل واضح، وبأنهم يستطيعون فعلا المضي قدما ابعد مما اعتقد بأنهم يستطيعون الذهاب إليه.

في الوقت الحالي، قمنا بتحقيق هذه الكتلة الحرجة. وقد أصبح لدينا نظام ذاتي الديمومة بالنسبة للإصلاحات. وإنني إذا نظرت إلى الموقع الذي نقف نحن عليه في الوقت الحالي فسوف يكون لدي اقتصاد ينمو بنسبة 7.1 % في النصف الأول من هذه السنة المالية [2007] التي ستبدأ في اليوم الأول من شهر تموز. وإننا نتطلع إلى نسبة 7% بخصوص الفترة المتبقية من هذا العام. وكان نمو اقتصادنا قد بلغ في السنوات الأربع الماضية بنسبة 3.5%، ثم انتقلنا من 3% إلى ما يقارب نسبة 4% ثم إلى نسبة تقارب 5% ثم إلى نسبة 6.8% في السنة الماضية، ونأمل أن تكون هذه السنة بنسبة 7%. ولم يعد النمو الاقتصادي ناجما عن مصدر وحيد منفرد؛ فالنمو ينجم عن تلك الاستثمارات المتزايدة وعن الاستهلاك المحلي المتزايد، وعن الصادرات المتزايدة وعن الاستثمارات الأجنبية المباشرة المتصاعدة.

وبالنسبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة، فسوف اقدم لكم مثالا، ولن أقوم بالفيض عليكم بالأرقام الإحصائية، وهو أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة كانت قد وصلت منذ أربع سنوات إلى 452 مليون دولار. أما في الوقت الحالي فقد بلغت في النصف الأول من هذه السنة المالية 7.1 مليار دولار، أي أن هناك شيءً ما قد حدث. فعندما يشعر المستثمرون بالأمان بما يكفي لأن يقوموا بوضع مبلغ يصل إلى 7 مليارات دولار في مصر، فإن ذلك يدل على أن هناك شيءً ما يجب أن يكون قد تحقق، وأن هناك شيءً كبيرا يجب أن يكون قد حدث. وسوف أخبركم في الدقائق القليلة القادمة ماذا حدث بالضبط. فقد سبق وأن ذكرت ذلك من قبل لمرة واحدة أو لمرتين عما يقوم المستثمرون باكتشافه، وهو الذي يحدث في مصر. وبما أنني أقوم بالتركيز بشكل رئيسي على السياسة الاقتصادية إلا أن هناك أشياء هامة جدا، وبمستوى مساو، تحدث في الجانب السياسي. ولكننا لم نكن جيدين جدا في الترويج لذلك، ولم نكن جيدين جدا في عرض وإبراز ما نقوم بعمله على كلا المستويين، الاقتصادي والسياسي، وبناء على ذلك، لم تكن الصحافة التي لدينا داعمة لذلك تماما. ويشكل ذلك خطئا، إلا أنه أمر سنقوم بالإثبات على كونه خطأ. وبالنسبة لميزان المدفوعات، فإن صادراتنا تنمو بنسبة تتراوح ما بين 30% إلى 40%، وأنها قد نمت في النصف الأول من هذه السنة المالية بنسبة 46%، وأنا أتحدث عن الصادرات غير النفطية، وان الحساب الجاري هو في وضع فائض.

الآن، وبالنسبة للخبراء الاقتصاديين من بين الحضور، فان وجود حساب جارٍ فائض لدى دولة نامية كمصر يعتبر أمرا غير جيد، فهو يعني أننا نقوم بالإقراض إلى بقية دول العالم. ونحن لم نصل لغاية الآن إلى هذه الدرجة من الغنى. فنحن نحاول أن ندفع الاقتصاد قدما وإننا نأمل أنه عندما نصل بالمعدلات الإجمالية إلى نسبة 8% أو 9% فسوف نكون قادرين على أن يكون لدينا عجز حساب جارٍ، وهذا ما يجب أن يكون لدينا. ويجب علينا أن نكون مقترضين من باقي دول العالم لتمويل نمو اكبر ولتطلعات اعظم وأن لا نكون مقرضين لباقي أوروبا، ولكن لغاية الآن نحن غير قادرين على دفع الاقتصاد قدما بالشكل الأسرع كي يتم استيعاب ذلك الفائض. وطبعا، كان ميزان المدفوعات أيضا فائضا وإننا عملنا على تراكم احتياطيات وصلت إلى ما يزيد عن 32 مليار أو 34 مليار دولار. ومنذ أربع سنوات مضت، توقفت تلك الاحتياطيات عند مبلغ 7 مليارات دولار وان تلك المليارات السبعة لم تكن في افضل الحالات أموالا سائلة تماما. أما في الوقت الحالي، فيوجد لدى سعر الصرف لدينا بيان حسابي والذي يشير إلى تدفق رأس مال ضخم إلى الداخل، مبرزا بذلك كافة مشاكل النجاح الذي تحقق أولا. وهناك نسبة تبلغ 22% من أوراق الديون الحكومية التي يتم إصدارها كل أسبوع مملوكة لأجانب يقومون بالدفع بالدولارات لامتلاك أوراق ديون حكومية مصرية بآجال استحقاق تمتد ما بين 3 أشهر و10 سنوات. وإننا في حقيقة الأمر على وشك أن نقوم بإصدار سندات حكومية مصرية بفئة الجنيهات المصرية يتم طرحها في الأسواق العالمية، وان الاستطلاعات التي تمت لدينا قد أظهرت بان تلك الأسواق سوف تكون مهتمة بشكل كبير جدا في مثل تلك السندات. كما أن الموازنة القومية لا تزال تقوم أيضا بإبراز ظهور أعراض تأجيلية بمدد تتراوح بين أربع أو خمس سنوات قبل العام 2004 يتم بموجبها تأجيل ظهور سنوات ركود تمتد ما بين أربع إلى خمس سنوات. وقد كان عندي عجز في الموازنة والذي ما يزال عجزا ضخما. وهناك نسبة الديون إلى الناتج المحلي الاجمالي، والتي لا تبعث على القلق، سوف تكون بحاجة إلى مراقبة، وان هناك إجراءات يجب اتخاذها إذا أردنا أن لا نتعرض للمشاكل على المدى المتوسط. وفي الوقت الحالي، فان نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الاجمالي هي في أدنى مستوى لها منذ أعوام الستينيات من القرن الماضي، عندما كان قد تحقق القيام بكافة أنواع الضم والدمج المناسبة.

كل ما انتم بحاجة إليه، هو أن تعرفوا طريقكم من خلال المؤسسات المصرية كي تكونوا قادرين على الحصول على العمليات الحسابية بالطريقة الصحيحة. وبشكل يماثل الكثير من الأمور التي تجري في الشرق الأوسط، فان الأشياء لا تبدو على الإطلاق كما هي عليه حالها في الوهلة الأولى. وهذا ينطبق على المؤسسات الاقتصادية في مصر. فهناك الكثير من الأمور التي تبدو وكأنها مستقلة، إلا أنها كلها تكون في حقيقة الأمر موحدة ومدمجة مع الموازنة القومية، عند قيامكم بالدمج السليم، بحيث يكون الناتج المحلي الاجمالي في أدنى مستوى له كما في أعوام الستينيات من القرن الماضي، وهو يعتبر أمرا صحيحا يتطلب منا أن نكون عنده بالنسبة لمستوى تنمية دولة كدولة كمصر. ولكن عجز الموازنة لا يزال مرتفعا بعض الشيء.

وبسبب الإيرادات أو المقبوضات غير الاعتيادية، قمنا هذا العام ببيع رخصة ثالثة لهاتف محمول من المتوقع أن يجني من 700 إلى 800 مليون دولار، وقد تم بيع الرخصة بمبلغ 3 مليارات دولار. وهذا عبارة عن إيراد مفاجئ غير متوقع سيعمل بطريقة تآلفية على خفض عجز الموازنة لهذا العام، وإننا نتوقع أن يكون بنسبة تقارب خمسة ونصف في المائة من الناتج المحلي الاجمالي، وهو رقم لا يعتبر بعيدا جدا عن عجز موازنة الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة للناتج المحلي الاجمالي منذ عام مضى أو منذ عام ونصف. وسوف يكون من غير المرجح أن نكون بعيدين جدا عن العجز الذي جرى هنا (في الولايات المتحدة) قبل عامين من الآن. ومع ذلك، سنقوم في السنة القادمة بالتمسك قدر الإمكان—وبشكل وثيق—بذلك العجز غير المتوقع، وهو على سبيل الذكر نسبة تتراوح ما بين 5.5 % إلى 6 % سوف تترجم إلى زيادة تصل فقط إلى 6.5 % في السنة المقبلة، هابطة من النسبة البالغة 10 % منذ عامين مضيا. وهذا يعني بان التغييرات الهيكلية التي قمنا بترسيخها في الاقتصاد قد بدأت تأتي ثمارها. وكانت الإصلاحات التي تمت في مصر شيئا كبيرا بحيث غطت تأليل الموازنة (أي بوضع آلية لها). وقد نأخذ هذه الأمور مع التسليم بصحتها في دول تعتبر اكثر تطورا. فعملية تأليل المدفوعات وتثبيت حسابات الخزانة (أي وزارة المالية) في البنك المركزي بغرض جمع كافة أموال جميع المؤسسات تعتمد على الخزانة بالنسبة لتمويلها، وكان ذلك قد أسهم بنقاط ذات نسبة سليمة بدون كسور بلغت 6 في المائة في الناتج المحلي الاجمالي من أموال كانت مبعثرة في كل مكان في الجهاز المصرفي وكانت في الحقيقة مملوكة للخزانة القومية. وقد قمنا بجلب هذه الأموال إلى البنك المركزي وقمنا باستخدامها للتخلص من المديونية المحلية، منتظرين أن يتم الاستفادة منها، وهي ممارسة معيارية تتم في الدول الأكثر تطورا تعمل على زيادة الوضوح والشفافية في تصنيف الموازنة.

ولغاية عامين مضيا، كان لدينا تصنيف عثماني للموازنة، والذي قد يكون واضحا وشفافا بالنسبة لمنجم تركي من مناجم أواخر القرن التاسع عشر، إلا أنه في الوقت الحالي سوف يبدو وكأنه قد أضاع الوصايا الأساسية الخاصة بالشفافية وبتسهيل الوصول إليها… إلخ. وقد ذهبنا إلى تصنيف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهو تصنيف عالمي تم تبنيه هنا في الولايات المتحدة الأمريكية وفي كل دولة أخرى. وقمنا بإجراء التغيير، كما ذُكر قبل دقيقة مضت، بحيث أجرينا تغييرا على ضريبة الدخل وقمنا بخفضها بمقدار النصف من 42 إلى 20%، وقمنا أيضا بالتخلص من كافة فترات الإعفاء الضريبي والإعفاءات الضريبية وأي إعفاء ضريبي آخر لأي شيء مهما كان. فكل من يشتغل ويعمل يجب عليه أن يدفع ضريبة. وكل من يحقق ويكسب مالا يجب عليه أن يدفع ضريبة. وكل من لا يحقق مالا فسوف يحصل على خصومات ضريبية مجزية في سبيل ترحيل خسائره… إلخ، ولكن يجب على كل فرد أن يقوم بدفع ضريبة. وقد اصبح نظامنا الضريبي في الوقت الحالي بسيطا، والذي كان تقريبا في السابق معقدا كتعقيد نظامكم! وأصبحت أشكال الضرائب اكثر بساطة وأصبحت العلاقة مع المكلفين بدفع الضرائب اكثر بساطة وقمنا بتغيير فلسفتنا حسبما سأقوم بإيجازه في الدقيقة القادمة. كما قمنا بتغيير الفلسفة القائمة بين المكلف بدفع الضريبة والخزانة. ويعتبر ما تم ذكره آنفا صحيحا بالنسبة إلى الجمارك. فقد اعتدنا على أن نتفاخر ونتباهى بان لدينا نظاما جمركيا هو الأكثر تعقيدا وغموضا في العالم! فهناك 27 شريحة جمركية وهناك 13.000 تصنيف جمركي. ومعظم الدول، بما في ذلك دولتكم لديها ما يقارب 6.000 إلى 7.000  تصنيف جمركي. وقد كان لدينا نظام تصنيف في منتهى الدقة اعتاد على أن يفقد الكثير من الموردين والمصدرين واعتاد على أن يكون أرضية تصلح لإنبات الفساد والغموض. ولقد ولى هذا كله وانتهى تماما وقد تخلصنا منه. وقمنا بخفض متوسط معدل الضريبة لدينا من متوسط يبلغ نسبة 14.9% في المقام الأول في شهر أيلول 2004 إلى متوسط معدل ضريبة بنسبة تبلغ 8.9%، وهو خفض بنسبة 40%، وقمنا بعد كذلك بخفض آخر على متوسط معدل الضريبة لدينا منذ 8 أشهر مضت من متوسط 8.9% إلى متوسط بنسبة 6.9%، وهو خفض بنسبة 25%. وإنني أتصور بأن هناك خفضا آخر سوف يتم في الأشهر العديدة القادمة التي قد تتراوح ما بين 12 إلى 18 شهرا وهو خفض يتم للمرة الأخرى لضمان ترسيخ انفتاح الاقتصاد المصري بشكل أبدي مقابل بقية دول العالم. ونحن نقوم بإصلاح الإعانات التي تتم في مجال الطاقة وبإصلاح النظام التقاعدي لدينا من خلال إصدار قانون تقاعد جديد. وسيكون ذلك مرة أخرى مستندا إلى المبدأ العصري الكامل الخاص بإدارة التقاعد وتشريعه. وسوف لن يكون هناك شيء غير اعتيادي في هذا الشأن، إلا أن في دولة كمصر سوف يكون ذلك غير اعتيادي نظرا لأنه سيعمل على ترسيخ حلقة واضحة وشفافة تربط بين قدرة المتقاعد على الادخار أثناء حياته الفعالة والنشطة ومكافأته التقاعدية، وهو مفهوم كان قد فقد صلاحيته في المجتمع المصري في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين.

والآن، ما هي المبادئ التي ستهيمن وستحكم كل ما تم ذكره؟ إنني على ثقة بأنكم قد نسيتم معظم الأرقام الإحصائية التي أبلغتكم بها قبل أن تغادروا هذا المكان! وإنني بحاجة إلى أن أترككم بحيث يكون لديكم تلك الأفكار التي تحكم وتهيمن على كل هذا والتي هي عبارة عن الجوهر الذي يعمل على دفعنا صباح كل يوم. وبشكل مخالف للقانون العام الشعبي، لا تقوم الأرقام الإحصائية بدفع معظم الاقتصاديين صباح كل يوم، بل يتوفر لديهم مفهوم معين، وهو عبارة عن فكرة يتمسكون بها ويقومون باتباعها ويتأكدون من قابليتها للتطبيق في كل مكان يذهبون إليه. ويوجد لدينا أربعة مبادئ هي التي تحكم العمل الاقتصادي والسياسة الاقتصادية في مصر هذه الأيام، وهي التي تقوم من الناحية الأساسية بإدارة التناقضات.

أولا، علينا أن نقوم بتوطيد وتثبيت عملية يتم بواسطتها إدارة التناقضات بغرض تحسين حاكمية نظامنا الذي يتطلب منا أن نوضح ما هي التناقضات، والتي تعتبر تناقضات بناءة وإيجابية بالنسبة لحياة اقتصادنا، وكيفية إدارتها من قبلنا. وثانيا، أن نحاول أن نبني نظاما للتوترات. وفي الوقت الحالي، قد يبدو كل هذا وكأنه غير اعتيادي وإنني قمت بصياغته وفق هذا الشكل في سبيل تذكره وعدم نسيانه من قبلكم وستكون هناك طريقة لكل ما سنقوم بعمله وتنفيذه بحيث تتجه إلى هذا النحو. وبناء على ذلك، سيكون علينا أن نحاول أن ننجز ذلك بطريقة قاطعة غير قابلة للتراجع. وهناك مبدأ الـ”أومليت” (أو عجة البيض): يجب عليك أن تتأكد من إدخال جميع البيض في خلطة “العجة” وإننا في حال حصولنا على تلك “العجة” فانك سوف تكون قد فقدت البيض كله ولن يكون بمقدورك أن تسترجع ذلك البيض. وهذا هو جوهر أي إصلاح يتم تنفيذه وهو جوهر الإصلاحات الأكثر نجاحا. وهناك أيضا مبدأ الاستدامة، حيث يوجد ارتباط بشكل واضح يربط فيما بينهما، حيث انه كلما كان لديك “عجات” اكثر في مجالات مختلفة في الاقتصاد كلما كان النظام اكثر استدامة. وبناء عليه، ستكون الحاكمية في الوقت الحالي مستندة إلى ثلاثة مبادئ أساسية هي: (1) أننا بحاجة إلى الحفاظ على النظام، وأننا بحاجة إلى توطيد وترسيخ عملية يتم بموجبها ضمان ذلك النظام، وأنا أتحدث عن النظام وفق مفهوم نظام الشرطة فقط حيث لا توجد هناك أعمال شغب ولا جرائم ولا قتل ولا سرقات… إلخ، وهو عنصر أساسي للحاكمية الرشيدة. ولكن بالنسبة لنظام وفق المفهوم الأوسع، وهو نظام وفق المفهوم الاقتصادي، فسوف يكون لديك آليات خاصة بتسوية المنازعات وآليات خاصة بتطبيق العقود وهي أشياء تسلمون بصحتها هنا، وهي أشياء تسلم الدول الأكثر تطورا بصحتها، ولكنها تعتبر أشياء أساسية بالنسبة لدولة مثل مصر لكي تكون قادرة على الازدهار بشكل دائم ومتواصل وقادرة على الازدهار وفق أسلوب قابل للاستدامة. ويجب أن يكون ذلك النظام وفق مفهوم يتمتع بتسجيل للملكية. وقد قمنا منذ فترة قصيرة بإصلاح قانون تسجيل الملكية، فقد كان تسجيل الملكية في السنوات العشرة أو العشرين أو الثلاثين الماضية يستخدم كوسيلة لفرض الضرائب. وكان من المعتاد أن تصل رسوم تسجيل الملكية لغاية 12% من قيمتها. أما النتيجة التي نجمت عن ذلك فهي عدم قيام أي فرد بتسجيل ملكية، وأن نقل الملكية والتفاعلات المتعددة—بالاضافة إلى تسوية المنازعات—التي تدور حوله قد أصبحت أمورا أكثر تعقيدا، وأن نظام تسجيل الملكية وفق المفهوم الاقتصادي للكلمة قد اختفى. فقمنا بخفض رسوم التسجيل من 12% من قيمة الملكية إلى 2.000 جنيه، وهو مبلغ أقل من 150 دولار بقليل. وبناء على ذلك، قمنا بترسيخ ذلك المبدأ الأساسي وهو أن تقوم كافة العناصر بضمان وجود نظام لديها—فيجب أن يكون هناك نظام للمعاملات ولتنفيذ الأنشطة الاقتصادية ولنقل المفاهيم من خلال سن التشريعات بشفافية، وأن يكون لديك سوق رأسمال واضح وموازنة مقروءة. وللمرة الثانية، حسبما قمت بذكره منذ دقيقة مضت، كان التصنيف العثماني للموازنة مبهما وغامضا بالكامل. وبالنسبة لي فقد واجهتني صعوبة فهم موازنتنا رغم كوني اقتصاديا محترفا، تدربت في جامعة ناجحة (نوعا ما!)، فكيف سيكون الأمر لذلك الشخص العادي الذي يمكن وصفه بأن لديه نوعا هامشيا من الاهتمام بالمسائل الاقتصادية! فالوضوح في الموازنة سوف يترجم إلى وضوح في التشريعات المصاحبة لها. وقد يقول الناس بأنني لا أفهم بمدى صلاحية هذا القانون لهذه الموازنة ولهذا السبب يجب علينا أن نقوم بتثبيت القانون. ويجب علينا أن لا نقوم بتغييرها بل أن نجعلها متاحة وقابلة للوصول فقط. وقد كانت إحدى المدائح الكبرى التي تلقيناها حول قانون الضريبة هو انه قانون واضح ومقروء. فالناس لديهم استيعاب وهم قابلون للفهم. وقد قمنا بجلب خبراء من صندوق النقد الدولي ومن البنك الدولي ومن الخزانة الأمريكية (وزارة المالية) بغرض سن مشروع قانون يمكن قراءته من قبل الناس العاديين ويمكن فهمه من قبل المكلف بدفع الضريبة العادي الذي يتوجب عليه أن يمتثل بالقانون وان لا يتطلب منه أن يوظف محاميا أو محاسبا خاصا بهذا المجال. ولحسن الحظ، وبمساعدة كافة أصدقائنا قمنا بإنجاز هذا كله.

ولكن كل ذلك ما هو إلا جانب من ترسيخ وتثبيت عملية النظام. إذ يجب علينا أن نتأكد بأننا نقوم ببناء حالة ووضعية بحيث تكون قوية ومؤهلة بما يكفي لتحقيق إنجاز ذلك النظام، الأمر الذي سينقلني إلى العنصر الثاني من عملية الإصلاحات الخاصة بنا. فهناك الفكرة الثانية التي تهيمن وتحكم إصلاحاتنا وهي التي تشكل جوهر التناقض الأول. وكعنصر ثاني، نحن بحاجة إلى أن نوقف افتراس الدولة. فالدول النامية التي تتم إدارتها بشكل مركزي تمتاز بوجود دولة قوية مفترسة قبل أن تقوم ببذل جهودها الخاصة بالإصلاح. فالدولة تعتاش بالافتراس بحيث تقوم بافتراس المكلفين بدفع الضرائب وتقوم بافتراس الإرباح وتقوم بافتراس الدخل وتقوم بافتراس الأنشطة الاقتصادية، وهي بشكل عام تقوم بافتراس كافة المجالات استنادا إلى الفرضية التي تقول بما أننا (أي الدولة المركزية) نقدم لك “كل شيء” فانك سوف لن تكون بحاجة إلى أن تعمل أي شيء خاص بك أنت، وبما “أننا سنقوم بعمل كل شيء لك” فإننا، بناء على ذلك، لنا الحق في الحصول على كل شيء لديك. وهذا المبدأ الذي قمنا بإبرازه والذي يخيف الناس في الوقت الحالي يتمثل في أنه في حال وجود دولة عندي بحيث تكون كبيرة بما يكفي لأن تقدم لك كل شيء أنت تريده فسوف يكون عندي أيضا دولة بحيث تكون كبيرة بما يكفي لأن تأخذ منك كل شيء لديك. وبناء عليه، سوف أكون بحاجة إلى تثبيت عملية التوازن الخاصة بذلك. فأن يكون لديك دولة بحيث تكون قوية بما يكفي لترسيخ النظام وللتجاوب مع متطلبات الشفافية والوضوح والتوافق والانسجام، لا يعني أن تكون قوية بما يكفي لأن تعتاش على افتراس الأعمال التجارية والأنشطة الاقتصادية، ولا أن تقوم بتثبيت معدلات ضريبية بنسبة 40%، ولا أن تسن قانونا يسمح بتطبيق أي نوع من أنواع تلك المعدلات، ولا حتى أن تفرض نظاما ضريبيا اكثر إزعاجا بحيث يستند إلى رسم الدمغة (أي الطوابع) على كل نشاط اقتصادي فردي يتم تحت الشمس. إن رسم الدمغة عبارة عن مفهوم ورثناه عن البريطانيين. ولقد نجحتم انتم هنا في التخلص منه بوقت مبكر تماما وكان قد استغرق وقتا أطول قليلا لدينا للقيام بمثل ذلك، وإننا في حقيقة الأمر لم نتخلص منه تماما بل قمنا بالتخلص من ثلثيه ولا يزال هناك ثلث متبقٍّ نعمل على جرجرته طيلة الوقت. ونأمل أن نكون قادرين على التخلص منه تماما في عقد السنوات المقبل. ولكن ذلك كله كان عبارة عن ضريبة افتراسية حيث انك إن أردت أن تتقدم بطلب زواج فسيكون عليك أن تقوم بالدفع، وإن أردت أن تتقدم بطلب طلاق فسيكون عليك أن تقوم بالدفع، وإن أردت أن تتقدم بتغيير عنوان معين لديك فسيكون عليك أن تقوم بالدفع! هذا هو جوهر الدولة الافتراسية.

لقد حان الوقت لإيقاف الافتراس، ليس فقط ضمن التشريع الذي يأخذ نسبة 40–50% من دخلك، أو ضمن رسم الدمغة، أو ضمن الضريبة على الملكية التي ما تزال تطبق لغاية هذا اليوم (وهناك مشروع قانون مطروح أمام مجلس النواب في الوقت الحالي) حيث تصل نسبة الضريبة لغاية هذا اليوم إلى 46% (ولقد دام ذلك بشكل مستمر وإلى الآن بحيث تجاوزت مدته 100 عام وقد تم قبولها كجزء من الحياة اليومية في مصر)، ففي الوقت الحاضر، لم يعد ذلك مقبولا، إذ يجب أن يتم تغييره، ليس لان النسبة البالغة 46% لم تعد تجدي أكثر، بل لان صورة الدولة المصرية يجب أن تتغير من دولة تعتاش بافتراس المواطنين إلى دولة تقوم بحمايتهم. ولقد تم اختراق هذا المفهوم في الجمارك وفي ضريبة الدخل وفي رسم الدمغة. إننا بحاجة إلى أن نتأكد بأنه قد تم اختراقه في كافة المجالات الأخرى.

يُعالَج النهج السلطوي البيروقراطي من خلال التخلص من افتراس المواطن أو المواطنة (في حياته أو في حياتها اليومية)، ومن افتراس الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية—كدمغة بيروقراطية أو طلب تقديم رخصة (أو سحبها). كل هذا يشكل نوعا من أنواع الافتراس، لا بل نوعا مكلفا لمعظم الاقتصادات. وبفعل تطوير قوى السوق وضمان أن يتم ردع أي نشاط افتراسي مباشرة من قبل السوق—بعد أن يتم رفع أسعاره وحشد التوريدات بشكل مكتظ… إلخ، فإننا سوف نضمن بان الدولة قد خرجت من موقفها الافتراسي ضد المجتمع.

الآن، هل مثل هذه الخصوصية هي التي تتناول الدولة المصرية؟ قد يكون صحيحا أننا نحمل معنا ممارسة مضى عليها 5000 سنة خاصة بالاقتصاد المركزي، إلا أنني أستطيع أن أؤكد لكم على أننا لم نكن أول من اخترع ذلك؛ فهو صفة من صفات الدول النامية وهو صفة من صفات الاقتصاد الموجه وهو صفة لا تتوافق مع نظام سوق حر ومفتوح وذاتي الاحوال.

وختاما، هناك عنصر ثالث من الإصلاح الذي قمنا به، وهو العنصر الذي يؤكد ويشدد على الكفاءة والأهلية. فإذا كان عندي دولة لا تقوم بافتراس مواطنيها، أي أنها لا يمكن أن تعتمد على عائدات افتراسية، فسيتطلب مني أن يكون عندي دولة ذات كفاءة وأهلية. وسيتوجب أن يكون عندي بيروقراطيون من ذوي الكفاءة والأهلية. والآن، قد يقول البعض بان من غير الممكن أن يتم ذكر الشخص المؤهل الكفؤ والشخص البيروقراطي في نفس الجملة! ولكني لا أتحدث عن الكفاءة العبقرية بل مجرد الكفاءة المعتدلة، أي الإدراك العام والقدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة. وهذا هو ما سيحدث، حيث نقوم بطريقة متصاعدة بحشد بيروقراطيتنا التي ما تزال، وبشكل معترف به، ضخمة جدا، من خلال قنوات ذات مسارات سريعة تضمن لك التحدث مع الشخص الكفؤ المؤهل، وتلقّي النصيحة المناسبة، والقيام في نهاية المطاف بحل مشكلتك.

وفي هذا الشأن، ننتقل إلى تناقضنا الرابع، وهو مجال جهدنا وتوترنا الرابع؛ التحدي الرابع الذي سيقوم بدفع إصلاحاتنا التي نقوم بتنظيمها ومأسستها، والذي هو بالتحديد عملية توزيع الدخل. فاقتصاد دولة كدولة مصر، لديها سكان يبلغ عددهم 72 مليون نسمة، والتي قام اقتصادها بالبدء بالقفز في غضون فترة تتراوح ما بين سنتين إلى ثلاث سنوات من معدل نمو يبلغ 3% إلى معدل نمو يبلغ 7%؛ اقتصاد يلتفت نحو تفاوتات وتباينات متصاعدة تتم في الدخل. وهذا أمر طبيعي. وهذا جزء لا يتجزأ من تلك العملية الانتقالية، والتي لا تكون على وجه الخصوص باتجاه مصر، بالرغم من أن لدينا عددا أقل من الحمايات والوقايات ضد هذا النوع من الظواهر، وبناء عليه، فهي سوف تحدث في مصر بطريق تكون أكثر تطرفا. ولكن توجه الفقراء سوف يكون إلى عدم انتقالهم إلى الفقر الأشد، لذا فإن دخل كافة الأفراد بموجب هذا المفهوم المطلق سوف يرتفع، إلا أن دخل الأغنياء سوف يزداد بشكل أسرع من دخل الفقراء، وبالتالي، سيكون الفقراء قد أصبحوا إلى حد ما أكثر فقرا، وبذلك سوف لن يكونوا مسرورين. وبموجب التعبيرات المطلقة، سوف يتم وبشكل أكثر فأكثر توفير المياه المعالَجة لتغطي الأسر في مصر، وسوف يتم تعزيز التأمين الصحي بحيث يغطي الناس أكثر فأكثر، وسوف يطرأ تحسن على مستوى المعيشة لديهم. ولكن، سوف تزداد مثل هذه الأشياء التي تتاح أمام الأفراد الذين تكون مستويات دخلهم مرتفعة وبشكل أسرع، الأمر الذي يعني أن الناس سيشعرون بالفقر بدرجة اكبر، أي أن التباينات والتفاوتات في الدخل سوف تزداد وتتصاعد. وبناء على ذلك، ونظرا لأن هذه الأطراف التي لديها القدرة الأكبر على الاستفادة من انفتاح السوق في اقتصادنا هي تلك الأطراف التي لديها القدرة الأكبر على استغلال قوى السوق في سبيل منفعتها الخاصة، ونظرا لان تلك الأطراف التي سوف تستهويها هذه التغييرات بدرجة أقل هي تلك الأطراف التي لديها القدرة بدرجة أقل على فهم قوى السوق أو على استغلالها لمنفعتها الخاصة. بناء على ذلك، سوف نكون بحاجة إلى التدخل—وهنا يكمن التناقض—بطريقة لا تلحق الضرر بقوى السوق التي تعتبر جوهر نمونا. وسوف يكون علينا أن نكون قادرين على التدخل وعلى إعادة توزيع الدخل دون أن يؤثر ذلك على قوى السوق نفسها التي عملت على خلق سوء توزيع الدخل، وسيكون مطلوبا مني، وللمرة الثانية، أن أعود إلى نقطتي الثالثة، وهي أننا سنكون بحاجة إلى أناس كفؤين ومؤهلين لديهم القدرة على القيام بذلك. كما سنكون بحاجة إلى أناس لديهم فهم بقوى السوق بالتدخل، ولديهم فهم بالتفاعل بين الجانبين، بحيث يتمكنون من التدخل دون أن يغامروا بذات العملية التي كانت السبب في نمونا.

والآن، قد يبدو لكم مثل ذلك وكأنه شيئا مجردا، لكني أستطيع أن أؤكد لكم وأطمئنكم على أنني أعيش ذلك كل يوم، وأنني أراه في كل قرار أقوم باتخاذه وفي بعض الأحيان في القرارات التي تكون غير واضحة، والتي تكون مطموسة غير بائنة. ولأنها تتناول تلك المسائل التي تكون دقيقة جدا، وغير جوهرية جدا، فهي تجعلني أتساءل قائلا: “ما الشيء الذي يتوجب مني أن أقوم به؟”. ولكي أجيب على هذا التساؤل، سوف أقوم بشكل غريب بما فيه الكفاية باللجوء إلى الأبعاد التالية: هل ذلك الشيء سوف يؤدي خدمة لأحد؟ وهل ذلك الشيء سوف يلحق الضرر بأحد؟ وإن كان ذلك الشيء سوف يلحق الضرر، فسوف لن أقوم بعمله.

والآن، فقد ذكرنا، أنتم وأنا، بان لدينا تلك الكتلة الحرجة من الاصلاحيين في نظامنا، ولكننا بحاجة إلى ترسيخ عملية تضمن بموجبها تلك الكتلة الحرجة المقدرة على إدامة التفاعل. فالتفاعل النووي يكون فقط ذاتي الاستدامة بموجب جاهزية وتوفر تلك الكتلة الحرجة. والآن، وقد قمنا بضمان تلك الكتلة الحرجة، وبما أننا قمنا أيضا بضمان استدامة التفاعل النووي، فنحن سنكون بحاجة إلى أن نتأكد ونطمئن إلى أن التفاعل سيتم الحفاظ عليه وإدامته على الدوام بحسب نفس التفاعل. وفي أحيان كثيرة، يكون حجم ومقدار المشكلة التي نتعامل معها سببا في جعلك تضل طريقك. وهذا ما يجري. وإذا لم يكن قد حدث ذلك فعلا في مصر، فسوف يحدث في أية دول إصلاحية، لأنك عندما تفتح بوابات الطوفان فسوف يكون هناك الكثير من الأشياء التي سوف تحدث في نفس الوقت، وفي حال عدم قيامك بتحقيق الحد الأدنى من مستوى الفني (الموظف) الكفؤ ليكون في متناول يدك فسوف يغمرك ذلك الطوفان.

ولقد تعودنا على أن يغمرنا الفيضان. فقبل أن نبني السد العالي تعودنا على أن يكون لدينا فيضان كل عام، وبالتالي، يوجد عندنا نوع معين من التقارب والألفة الطبيعيين من ناحية التعامل مع الفيضانات، لكنه لا يزال غير سهل وغير واضح—ولا يسير فوق خط مستقيم. وكما يعرف معظمكم، فأقصر مسافة تصل بين نقطتين في السياسة الاقتصادية لا تكون في معظم الأحيان خطا مستقيما. فهناك طريق منحنية قد تعتبر في معظم الأحيان أقصر الطرق. وبشكل يماثل معظم الدول النامية التي تقوم بتطبيق هذا النوع من الإصلاح، سوف تكون الدائرة الشعبية المخصصة لذلك دائرة صغيرة. وقد لا يعمل حشد السكان الواسع الانتشار على دعمنا. والسبب في ذلك ليس لأن هؤلاء السكان هم ضد الانفتاح ولا لأنهم ضد التحرر، بل ببساطة لأنهم ضد عدم اليقين. أنظر إلى روسيا، هل يود أي فرد فيها بحسب تفكيره وعقله الصحيحين أن يرجع إلى النظام الشيوعي؟ ومع ذلك، قد يكون لديك أناس سوف ينشدون العودة إلى يقين النظام الشيوعي وإلى يقين نظام يتواجد به مدير مركزي ولا يتواجد به قوى سوق غير قابلة للتنبؤ ولا أحداث عشوائية اعتباطية تصيب أعمالك التجارية. ولا يعتبر ذلك صفة من صفات اقتصاد السوق ولا يعتبر صفة مقبولة من قبل الناس بشكل عام، وبشكل خاص مجموعات الدخل المتدنية والمحرومين وهم لدينا بأعداد كبيرة. هؤلاء يفضلون اليقين. وفي مصر يوجد للإصلاح الاقتصادي دائرته الشعبية (الانتخابية) ولديه دائرة كبيرة بشكل يكفي للقيام بتخليد ذلك الإصلاح. ولكنك عندما تسأل فردا على مستوى الشارع وهو مستوى القطاع الجماهيري بحيث تقول له “ماذا تريد”، فسوف يقول لك “أريد اليقين” وأريد السلامة وأود أن أتخلى عن دخل قد يكون إلى حد ما مرتفعا مقابل دخل يكون أكثر أمنا وسلامة، ودخل يكون أكثر قابلية للتنبؤ.

هذه هي المشكلة التي نواجهها في معظم الاقتصادات التي تعتمد على السوق. فنحن ليس بمقدورنا أن نوفر اليقين. بمقدورنا أن نوفر نموا ومستقبلا أفضل، وتعليما ورعاية صحية أفضل لأطفالنا، ولكن ليس بمقدورنا أن نوفر اليقين. بمقدورنا أن نقلل من العشوائية في حياتنا إلى حدها الأدنى، ولكننا لا نستطيع أن نوفر اليقين. ولهذا السبب، لا يوجد لدينا دائرة شعبية واسعة النطاق بالنسبة للإصلاح على مستوى الشارع. فقد كنت منذ بضعة أشهر أتحدث مع عدد من الزملاء في الحكومة البريطانية وكان حديثي حول الإصلاحات التي كان توني بلير يتولاها في الأيام الأولى لحكومته الليبرالية، وحول مقدار الصعوبات التي واجهتها. وفي الوقت الذي كنا نتحدث به عن الإصلاحات القائمة في اقتصاد المملكة المتحدة واقتصادنا في مصر—وهما بمستويين مختلفين بشكل كبير جدا—فقد واجهتنا نفس المشاكل. ومن بين تلك المشاكل الرئيسية، هناك مشكلة الافتقار إلى الدائرة الشعبية. وانتم تذكرون كيف أن حزب العمال قد تولى الحكومة بتحقيق انتصار كاسح، وأنه في الانتخابات الثانية قد حقق للمرة الثانية انتصارا كاسحا. ومع ذلك، فان الإصلاحات التي تولاها، بغض النظر عن مقدار إيجابيتها وعن مقدار نفعها بخصوص فعالية الاقتصاد البريطاني، لم تكن إصلاحات ذات شعبية. وهذا هو نفسه ما حدث بالنسبة إلينا.

والآن، هل هذا سيعمل على إحباط همتنا؟ لا. وهل سيعمل على إقلاقنا؟ لا. فهو الذي سوف يسهم في حياة يومية أكثر حيوية، تشرح وتوضح ما نقوم بعمله، وتقدم العذر في بعض الأحيان عما نقوم بعمله، أو، في حالات أكثر ندرة، تعمل على إرباك وتشويش إجراءات معينة لم تكن واضحة بشكل مباشر، وهي التي سوف يستفيد المواطنون من ثمارها اعتبارا من بضعة أشهر أو من بضعة سنوات فصاعدا. ويجب النظر إلى الملاحظة الأخيرة بعين الحذر. فنحن غير جيدين جدا في إبراز ما نقوم بعمله لكم، وكيفية قيامنا بعمل ذلك. وأنا لا أتحدث عن خطابي هذا بل أتحدث بشكل عام، وبناء عليه، سوف تجدون الصحافة وقد تناولت الإصلاحات في مصر سواء كانت في المجال السياسي أو في المجال الاقتصادي على كونها في الغالب إصلاحات سلبية. وأنا لا أقوم بالتساؤل حول آراء المعلقين الذين سيكتبون عما نقوم بعمله، لكني أقوم فعلا بالتساؤل حول قدرتنا على إبراز ما نقوم نحن بعمله. أما بالنسبة للشيء الذي نقوم بعمله في مصر فهو شيء ثوري، سواء كان على الجبهة الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية. ولسوء الحظ، فان الشيء الذي لم نقم بعمله هو إقناع الناس بان ما نتخذه من إصلاحات هو حقا ثوري. وبما أن الزمن ينقضي ويمر وبما أن مواردنا تزداد فإننا سنكون قادرين على أن نقحم في الميدان أولئك الإصلاحيين الضروريين بما فيه كفاية السوق—كما هو الحال لدى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وجنوب شرق آسيا.

إن ما يحدث في مصر قد تم اختباره وتجربته بشكل مسبق—ومن ثم اعتماده—من قبل المستثمرين في جميع أنحاء العالم، وسيتم في وقت قريب جدا اعتماده والموافقة عليه من قبل الكثيرين من أصدقائنا في جميع أنحاء العالم.

الشكر لكم جزيلا.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 7 آذار 2008.

peshwazarabic9 نوفمبر، 20100

هل هبط الدولار أم صعد اليورو؟ ذلك، من غير ريب، هو الشيء نفسه والذي يتم النظر إليه من جوانب مختلفة. ولكن، قد يتم في أحيان كثيرة جدا النظر إلى الموضوع من مجرد جانب واحد. فعند النظر إلى عملة الدولار الأمريكي وحدها فسوف يقوم الكثيرون من الخبراء الاقتصاديين بإلقاء اللوم على بنك الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) بخصوص خفض أسعار الفوائد. ولكن، عندما يتم النظر من الجانب الآخر، قد يتساءل المرء لماذا لم تقم بنوك مركزية أخرى بخفض أسعار فوائدها.

لا تعتبر العملة الصاعدة بحكم الضرورة علامة تشير إلى وجود قوة اقتصادية. فقبل وأثناء الكساد الاقتصادي الذي حدث في العام 2001، قام الدولار الأمريكي بالصعود بشكل حاد. وبدءا من شهر آذار 2000 ولغاية كانون الثاني 2002، كان المؤشر التجاري المرجح لقيمة الدولار مقابل 26 عملة قد صعد بنسبة وصلت 10.5 % بينما كان سوق الأسهم والاقتصاد في حالة تعثر.

وفي الرسم البياني الذي تم عرضه في صحيفة “الايكونوميست”، العدد 5–11 آب 2007، تم الإثبات بأن “الدول التي كانت عملاتها قد كسبت الكثير ]مقابل الدولار[ هي اقتصادات ذات عملات أسعار فوائدها مرتفعة مثل تركيا والبرازيل ونيوزيلندا، أو أنها دول منتجة للسلع مثل كندا، أو مزيج من كليهما مثل أستراليا”.

قد تقوم أسعار الفوائد المرتفعة بدعم عملة معينة لمدة وجيزة من خلال جذب “أموال هاربة” دولية. إلا أن أسعار الفوائد المرتفعة بإفراط، كتلك الموجودة في تركيا والبرازيل، تعتبر من الناحية النموذجية أحد أعراض السياسة النقدية المعرضة للتضخم التي تتطلب علاوة شديدة المخاطر.

وفي كندا، كان الصعود المذهل في الدولار الكندي قد ارتبط بشكل وثيق بأسعار النفط أكثر من ارتباطه بأسعار الفائدة بالرغم من أن بنك كندا قام فعلا برفع أسعار الفوائد في شهر تموز، تماما قبل أن يبدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي بتحريك أسعار الفائدة نحو الهبوط.

وفي الوقت الذي تكون فيه أسعار النفط والذهب تحلق عاليا، سيكون بإمكان مصدري النفط والذهب—مثل كندا—أن يقايضوا سلعهم مقابل تكنولوجيا وخدمات أمريكية إضافية. مثل هذه “الشروط التجارية” المحسنة سوف تعمل على صعود الطلب العالمي بالنسبة لموجودات دول منتجة للسلع، ووفقا لذلك، على صعود عملاتها.

وبطريقة مماثلة، تقوم عملات الدول المصدرة للسلع بالهبوط عندما تهبط أسعار تلك السلع. فعندما هبطت أسعار النفط في أوائل العام 1986، وفي أواخر العام 1998، وفي العام 2001، هبط الدولار الكندي بدرجة كبيرة، حتى وإن كانت أسعار فائدة البنك المركزي السائدة في كندا أعلى منها في الولايات المتحدة.

ماذا عن اليورو؟ في الوقت الحالي، تعتبر أسعار الفائدة التي قام البنك المركزي الاوروبي بتحديدها هي تقريبا نفسها كما في الولايات المتحدة. إلا أن ذلك يشكل أمرا جديدا تماما. وبعد شهر حزيران 2006، توقف بنك الاحتياطي الفيدرالي عن رفع أسعار الفائدة، لكن البنك المركزي الأوروبي استمر في دفع أسعار الفائدة نحو الصعود. ونتيجة لذلك، ضاقت الفجوة بين أسعار الفائدة الأمريكية والأوروبية في أول الأمر، ثم بعد ذلك اختفت لدى قيام بنك الاحتياطي الفيدرالي بالإراحة. وبشكل لا يبعث على الذهول، قام اليورو بالصعود.

وقد عمل الصعود الأخير في اليورو على إشراك أعمال مراهنات على توقعات بأن بنك الاحتياطي الفيدرالي سوف يقوم قريبا بخفض أسعار الفائدة مرة أخرى، بل أيضا بأن لا يحذو البنك المركزي الأوروبي حذوه. ومع ذلك، كان البنك المركزي الأوروبي على الدوام يقوم باتباع حركات أسعار فائدة بنك الاحتياطي الفيدرالي بالرغم من كونها حركات بطيئة تماما. ولم يقم البنك المركزي الأوروبي بالبدء في خفض أسعار الفائدة لغاية شهر أيار 2001، أي بعد قيام بنك الاحتياطي الفيدرالي بذلك بخمسة شهور. ولم يقم البنك المركزي الأوروبي بوضع أسعار فائدة فوق نسبة 2% لغاية شهر كانون الأول 2005، أي بعد قيام بنك الاحتياطي الفيدرالي بذلك بسنة واحدة.

وفي الأحداث التي وقعت في الماضي بخصوص أسعار النفط المرتفعة في الأعوام 1974 و1980 و2000، قامت كافة البنوك المركزية الكبرى برفع أسعار فوائدها بشكل جماعي. وكان ذلك ينتهي على الدوام بحدوث كساد عالمي، يعقبه وبشكل متأخر، حدوث تخفيضات كبيرة في أسعار الفائدة. وبعد الارتفاع الحاد في النفط في الفترة الممتدة ما بين شهر آب وتشرين الثاني 1990، عندما كان سعر الفائدة على أرصدة البنوك فوق 8%، أخفق البنك الاحتياطي الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة بشكل كبير إلى ما بعد سنة واحدة من انتهاء الكساد.

يجب على أولئك الذين يطالبون بأسعار فائدة بنوك مركزية مرتفعة عند ارتفاع أسعار النفط أن يدركوا بأن مثل تلك السياسات قد أدت في الماضي إلى أسعار فائدة تراوحت ما بين 1%–2% بعد سنتين أو ثلاث سنوات (وكانت على سبيل الجدال منخفضة جدا ومتأخرة جدا) من حدوث انتكاسات صناعية عالمية خفضت أسعار النفط تخفيضا شديدا.

وفي هذه المرة، كان بنك الاحتياطي الفيدرالي هو السبّاق في التخلي عن توجه قديم واهن، وبشكل أحادي الجانب. وكان ذلك قد أثر بشكل واضح على أسعار الصرف. وبالرغم من ذلك، فان هذا لا يعني بالضرورة بأن هناك بنوك مركزية أخرى قامت باتباع مسار أكثر حكمة وعقلانية.

هناك جانبان لكل سعر صرف عملة. وربما قد حان الوقت بالنسبة للجانب الآخر، وبشكل بارز من جانب البنوك المركزية في أوروبا وكندا والمملكة المتحدة لكي تقوم بأخذ دورها في خفض أسعار فوائدها حتى وإن قام بنك الاحتياطي الفيدرالي بعدم المشاركة بذلك.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 5 شباط 2008.

peshwazarabic9 نوفمبر، 20100

يصيب الجوع المزمن حوالي 850 مليون شخص في العالم، بينما يتسبب الجوع والفقر معاً بحصد أرواح 250 ألف شخص يومياً. لتذكيرنا بهذه المأساة غير المقبولة، قامت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة بالاحتفال بيوم الغذاء العالمي الشهر الماضي رافعة شعار “حق الحصول على الطعام”.

لكن، كان يجب على المنظمة التركيز على الحقوق التي تهم “المزارعين الذين لا يملكون أراض وسكان الأحياء الفقيرة في المدينة والأشخاص شديدي الفقر” وإعطاؤهم حق التملّك ونقل الملكية والحق بالمتاجرة بحرية محلياً وعالمياً.

النوايا الحسنة ليوم الغذاء العالمي فشلت في تحديد الأسباب الحقيقية للجوع، والمجاعات والفقر. وتساءل المدير العام للمنظمة جاك ديوف “إذا كان عالمنا ينتج طعاماً كافياً لإطعام جميع السكان، فلماذا هناك 854 مليون شخص لا يزالوا ينامون ومعدهم فارغة؟” الجواب هو سياسات الحكومات الهدّامة.

باسم المزارعين الذين يعيشون حياة الكفاف والجائعين، قامت حكومات كثيرة بالسيطرة على الزراعة فقط لتدميرها وتركها بلا أرباح. هيئات تسويق الغذاء والعوائق التجارية لحماية الإنتاج الوطني والتعرفة الجمركية العالية كلها جعلت المزارعين أشد فقراً وقللت المحاصيل الزراعية وآذت المستهلكين.

تمنع هذه العوائق المزارعين من بيع إنتاجهم بربح، وبالتالي تجعل كلاً من المزارع والمستهلك يعانون من الجوع. أثناء أزمات الغذاء والمجاعات، يصبح الضرر الذي تسببه العوائق الاعتباطية على الصحة والحياة واضحاً. أثناء المجاعة التي حدثت في كينيا السنة الماضية، كانت المحاصيل ذات وفرة في الجزء الغربي من البلاد، بينما كان الناس متضورين جوعاً في الشمال. هذا شيء ليس نادر الحدوث، وللأسف سيتكرر إلى أن يُسمح للأسواق بالعمل وأن تتحرر من سياسات الحكومات.

كما أن العوائق التجارية تمنع المزارعين من الوصول إلى التكنولوجيا الزراعية، كالمبيدات والسماد والبذور المهجنة التي يمكنها أن تحد من العمل الشاق إلى حد كبير وتحسين المحاصيل الزراعية. ففي الموسم الزراعي الواحد يستغرق المزارعين الموجودين في جنوب الصحراء الكبرى ما بين 60 و120 يوماً لتنظيف الحقل من الأعشاب الضارة.

في الحقيقة، لا يوجد مكان يضع تعرفة جمركية لاستيراد المنتوجات الزراعية أعلى من تلك التي في جنوب الصحراء الكبرى حيث معدل ارتفاع الأسعار وصل 33.6%—أي بعيدة عن متناول من هم في أمسّ الحاجة إليها؛ وهم الـ70% من الناس الذين يعيشون من إنتاج الأرض.

يكلف السماد الإفريقيين ستة أضعاف السعر العالمي. قام رؤساء الدول والحكومات لأكثر من 40 دولة ممن هم أعضاء في الاتحاد الإفريقي بالموافقة على “إجراء فوري لإزالة الضرائب والتعرفات الجمركية عن السماد ومواده الأولية”، وذلك في قمة أبودجا في حزيران 2006. وقد مضى أكثر من سنة وما زال لا يوجد هناك أي تقرير يدل على التحسّن، وما زالت العوائق التجارية على كل المنتوجات من بين الأعلى في العالم.

يصيب الجوع كل قطاعات الحياة—من دون غذاء كاف، يصبح الناس غير قادرين على العمل وعلى تربية عائلاتهم وعلى الذهاب إلى المدارس، وأيضاً غير قادرين على مقاومة الأمراض. إن أفضل طريقة للوصول إلى الأمن الغذائي هي التأكيد على حرية الناس وحقهم في تأمين الغذاء لأنفسهم ولعائلاتهم. ويتوجب على الحكومات ليس فقط وقف التدخل بالزراعة ووهم الاكتفاء الذاتي، بل يجب عليها أيضاً أن تدرك أن الإنسان يكون أكثر قدرة ومسؤولية عندما يكون حراً.

الحق في التملّك وتبادل الأموال سيشجع المزارعين على استثمار وقت ومال أكثر في أرضهم. وسيزداد عدد المزارعين الذين يستخدمون التكنولوجيا الزراعية إذا كانوا واثقين من أنهم سيحصلون على عوائد من استثمارهم. التملّك الآمن للأرض سيتيح أيضاً للمزارعين أخذ قروض بنكية باستخدام أرضهم كضمان. هذا سيتيح لهم الاستثمار لتحسين عملهم الزراعي، للبدء بمشاريع جديدة أو ببساطة توفير الصحة الجيدة والتعليم والرفاه لعائلاتهم.

إن دعم حقوق الملكية وتمكين الناس من العمل في مشاريع من أجل بيع المنتجات والخدمات سيقلل من الجوع بشكل كبير. قد تبدو هذه السياسات غير مرتبطة بموضوع الغذاء، لكنها مرتبطة جداً بحريّات المزارعين لإنتاج الطعام وجني المال. وبالمقابل، فإن التدخل المستمر من الحكومات والوكالات العالمية ترك المزارعين جوعى وغير منتجين، مما يتسبب أيضاً بملايين الجوعى من الناس.

منظمة الأغذية والزراعة على حق عندما تقول “إنه على الحكومات خلق بيئات ملائمة وآمنة ومستقرة وحرة ومزدهرة، بحيث يقوم الناس بإطعام أنفسهم بكرامة”. لكن، هذا يعني زيادة سيطرة الناس على حياتهم وأرضهم وعملهم، دون سيطرة الحكومات.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 29 تشرين الثاني 2007.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018