نبيل علي صالح

نبيل علي صالح2 أبريل، 20110

إن المثقف العربي كفاعل تاريخي في حقل الثقافة وإنتاج المعرفة مسؤول بصورة مباشرة عن نهضة واقعه ومجتمعه، أي أن له دوراً محورياً ورئيسياً في عملية استنهاض المجتمعات العربية من غفلتها وتخلفها وشبه تقهقرها وارتكاسها الوجودي الشامل......

نبيل علي صالح13 مارس، 20112

يبدو أن ما قامت به نظم الحكم العربية العتيقة العفنة، من ممارسات وسلوكيات القهر والظلم والفساد والاستبداد والاستبعاد السياسي وغيرها من ارتكابات غير إنسانية بحق شعوبها ومواطنيها لم تعد تجدي نفعاً مع شعوب خرجت كالمارد من القمقم، بل كانت تلك المآسي والمظالم والضغوطات السياسية والاقتصادية التي مورست عليها أكبر دافع ومحرض على سلوك طريق التغيير والثورة ومحاولة بناء دول عصرية مدنية مؤسساتية حديثة..
وبالفعل، فقد ملت ويئست هذه الشعوب -التي كان يقال عنها حتى وقت قريب بأنها شعوب مسترخية مستكينة نائمة راضية بالقهر والعذاب والاضطهاد السياسي- من تكرار واجترار تلك الصور والكليشيهات والأعلام والخطابات الطنانة والشعارات الفارغة ذاتها على مدى عقود وعقود، والتي لم تبنِ دولة قانون وعدل ومؤسسات حقيقية أكثر مما بنته من أجهزة إكراهية تمارس العنف المادي والعضوي والقهر والطغيان القائم على حكم فردي أوحد مطلق..
وعندما نستمع إلى بعض وليس (إلى كل) خطابات وأقوال وتحليلات هؤلاء الدمى الديكتاتورية المصابة بمرض جنون العظمة والسلطة والعز والجاه الفارغ، لا نستغرب أبداً ما فعلوه وارتكبوه بحق شعوبهم من أعمال وحشية وشنيعة على مدار أكثر من ستين سنة مضت من مناخات وأجواء القهر والفقر والظلم والاستبداد، منذ زوال عصر الانتدابات الخارجية عن بلداننا العربية في المشرق والمغرب وتحت مرأى ومسمع (وربما موافقة) الإدارات السياسية الغربية الرافعة دوماً لشعار حقوق الإنسان والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة..
فقد استلمت الحكم بعد ذلك مجموعة من النخب العسكرية المتريفة -القابضة بقوة على مفاصل المجتمع والدولة- بالاستناد إلى ما كان يسمى “بالمشروعية الثورية الانقلابية”، فنزل هؤلاء القادة العسكريون سحقاً ونهباً وكراهية بالإنسان والمدنية، وكانت نتيجة أعمالهم السابقة بناء دول تحديثية (غير حديثة!) لا تعترف بالفرد ولا بحقوقه ولا بإنسانية وجوده، بل كانت تريده –وهذا ما تحقق لها طيلة الفترة السابقة- مجرد آلة جامدة لا حس ولا وعي ولا عقل ولا كرامة له، ينفذ ولا يعترض، يطيع بنعم دائمة ولا يقول لا.. وإذا ما حاول إبداء أية ممانعة ولو فكرية ليعبر من خلالها عن بعض ما يجول في نفسه أو خاطره من أفكار واعتقادات لا تناسب النخبة الحاكمة، فإن العزل والسحق والسجن وربما القتل هو مصيره المحتوم الذي ينتظره.. هذا ما حدث في معظم إن لم يكن في كل الدول العربية..
والقذافي –كأحد هؤلاء الحكام المستبدين العرب، وكممثل وعميد حقيقي رائع لهم، ومعبر حي عنهم- لا يجد في مجمل قاموسه السياسي وميراثه الدولتي الطويل بعد 42 سنة متواصلة من حكمه الثوري الغاشم بحق ليبيا والليبيين –الذي لم ينمو ويخضر إلا دماءً وعنفاً وتسلطاً وتجبراً- أي كلام يخاطب به شعبه سوى كلام التهديد والوعيد، وتخيير شعبه بينه وبين الفوضى والدمار والحرب الأهلية.. فأية فاشية هذه، وأية عقلية بدائية لاإنسانية هذه.. ومن أية عجينة صنعت هذه الشخصية المعقدة وشديدة التركيب التي تعاني كما يتضح من جنون العظمة ومن نقص هائل في الصفات والأخلاق الإنسانية النبيلة..
وبعد استماعنا لخطاب هذا القذافي الدموي الذي طلب من جيشه ضرب شعبه ومقدرات ومنشآت بلده بالقنابل والطائرات والصواريخ فضلاً عن الرصاص الحي، مما جعل الناس هناك في ليبيا يترحمون على أيام الاستعمار الخارجي، تذكرنا أيضاً خطابات كثير من الزعامات الفرعونية والديكتاتورية العربية وغير العربية ممن أدمنت على الحب والهوس المجنون بالسلطة وعدم القدرة على تركها أو التحرر منها إلا بقوة النزع والضرب على الرأس من الأعلى، كما أنها تذكرنا بخطابات الفاشيين وملوك أيام زمان  ممن كانوا يصورون أنفسهم آلهة يجب التعبد في محرابها والتمسح بها ليلاً ونهاراً..
وهذا هو والي المدينة المنورة زمن معاوية حالم بلاد الشام، يوجه كلاماً قاسياً يستحقر من خلاله إرادة الناس في صلاة الجمعة قائلاً لهم بحضور معاوية وابنه يزيد وباقي أطقم الحكم والدولة: “أمير المؤمنين هذا (وأشار إلى معاوية)، ومن بعده هذا (مشيراً إلى يزيد)، ومن أبى فهذا (مشيراً إلى السيف الذي بيده)؟!!..
طبعاً هذه هي العقلية الاقصائية التسلطية التي مضى عليها زمن طويل منذ أن حول معاوية الدولة والإسلام ككل إلى ملك عضوض يعض عليه بالنواجذ، ويضحي في سبيله بالغالي والرخيص، حتى بالأولاد.. حتى أن هارون الرشيد قال ذات مرة لولده المأمون الذي كانت له منذ أيام والده رغبة جامحة بالسلطة والعرش: “والله لو نازعتني فيه (يعني بالملك) لأخذت الذي فيه عيناك”.!؟..
ومن له تلك الأيام المجيدة في تاريخنا العربي (التليد!) الذي قام وشاع على ثقافة تاريخية اتباعية تقليدية تلغي العقل والتفكر والتحرر وتدعو وتمارس عبودية الشخصية وتمثل قيمها وسلوكيتها حتى لو كانت غير إنسانية، وهذه الثقافة ذاتها هي التي أنتجت وأنجبت، وقبل ذلك مهدت الأجواء لولادة شخصيات أمثال معاوية، ويزيد، وصدام حسين، وزين العابدين بن علي والقذافي، وغيرهم كثير من زعامات الحكم السياسي العربي قديماً وحديثاً.
وهذا ما أدى لاحقاً –كنتيجة طبيعية لهشاشة البنية الفكرية والنفسية المولدة للنمو والتطور والإبداع الحياتي والمجتمعي- إلى ضعف مجال الاجتماع السياسي والديني العربي والإسلامي على حساب تقوية وتضخم مواقع الحكم الفردي، وتعقيم الحياة السياسية الحقيقية في بلداننا العربية.. وهذا ما أدى أيضاً إلى تهشيم البنية المجتمعية المدنية في عالمنا العربية التي يمكن أن يلجأ إليها أفراد المجتمع للتعبير عن معتقداتهم وقناعاتهم وآرائهم وأفكارهم، لأن هناك حالة ضعف أو تضعيف للأحزاب السياسية، مع أن وجودها الحقيقي كان يجب أن يؤدي ويساهم في تفعيل وتزخيم وتطوير الحياة السياسية لأي مجتمع من المجتمعات خاصة مع دورها في مراقبة الحزب أو السلطة القائمة وطرح بدائل عنها وما يمكن أن يثيره ذلك الجو والمناخ السياسي السليم والسلمي من تعميق لحالة التنافس والسجال والحراك السياسي المتقدم والحقيقي.
طبعاً هذا كله ليس موجوداً في دنيا العرب والمسلمين إلا فيما ندر، يعني أن هناك حالة غياب وتغييب قسري للحريات المتعددة من الحرية الشخصية إلى الحرية السياسية في ظل هيمنة قوانين الاستثناء والطوارئ، وهناك الهيمنة المطلقة لأجهزة الدولة على المؤسسات والمواقع الإعلامية التي تزيف الحقائق وتمنع الناس والنخب من قولها.. وهناك حالة انتشار وتفشي واسع لثقافة الفساد والإفساد، وهناك أيضاً تفشي لثقافة الخوف والتخويف.. إضافة إلى انعدام فرص العمل وتفشي العطالة والبطالة والفقر والتخلف المجتمعي العام (120 مليون أمي عربي لا يقرؤون ولا يكتبون ولا يعرفون فك الحرف)..
تصوروا أننا على أعتاب العقد الثاني من الألفية الجديدة، ولا يوجد في جعبة نظمنا الحاكمة شيء إبداعي فوق العادة يمكن أن تفاخر به وتقدمه لشعوبها بالرغم من توفر قدرات ووجود إمكانيات وطاقات هائلة وموارد طبيعية كبيرة في تلك الدول لم تستطع تلك النظم أن تبني وتطور وتراكم سوى في مداخيلها وثرواتها الخاصة على حساب الشعب كله.. حيث رأينا كيف أنه في الوقت الذي كان فيه الشعب الليبي يجوع ويعرى، كانت الأموال والموارد والثروة النفطية تضيع في جيوب القذافي وجيوب زبانيته وأولاده وبطانته الفاسدة..
من هنا لاحظنا أن الناس ضاقت بها الحياة والسبل من رؤية هذه الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بينها وبين تلك النظم ومن يدور في فلكها، كما أنها لم تعد تطيق أن تشاهد وتسكت عن تلك الفوارق المادية والمستويات المعيشية والحياتية بينها وبين باقي الدول في الغرب أو في تركيا أو غيرهما من الدول المتطورة والخادمة لشعوبها.. ولهذا فقد انطلقت تلك الجماهير الغفيرة وبصورة شبه عفوية –وليست مدفوعة لا بأجندة خارجية ولا بغيرها سوى بأجندتها الداخلية الخاصة- لتعبر عن ظلامتها وعما يجول في خواطر وقناعات الناس من ضرورة التغيير الجذري والثورة ضد هؤلاء الطغاة، الذين وصلت بهم الحدود أن يتفننوا في ممارسة السلوكيات اللاأخلاقية بحق شعوبهم من شراء القصور الباذخة  في أوروبا وأمريكا وأفضل منتجعات العالم، وترك مجتمعاتهم نهباً للفقر والجهل والتخلف..
ويبدو أن قطار التغيير يسير بسرعات كبيرة، وهناك محطات عديدة ستتحرك ليصل إليها بعد فترات زمنية غير طويلة.. وما يحدث في هذه الأيام من انتفاضات وثورات إنسانية غير أيديولوجية ليس إلا تعبيراً عن طموح الناس في بلادنا العربية للعيش الكريم أسوة بباقي خلق الله الذين يعيشون بهدوء وطمأنينة وحياة مستقرة هانئة ورغيدة بكل وعي وحرية في باقي بلدان العالم.. إنها بالفعل صرخة هذا الإنسان المصري الذي عبر واختصر كل ثورة مصر بثلاث كلمات: “إحنا عايزين نعيش”.. أو ذاك التونسي الذي عبر عن أن طموح ثورة تونس عنده تجلى من خلال أنه بات باستطاعته أن “يصرخ بحرية”!!..
إنها –أخيراً- صرخة الحرية المدوية التي تزلزل عروش الطغاة في كل مكان.. وقبلها تزلزل وتهز قلوبهم الصدئة المليئة بالحقد الأسود والأعمى على شعوبهم التي استحملتهم كل تلك السنوات والعقود العجاف!!..
© منبر الحرية،14 مارس/آذار 2011

نبيل علي صالح9 فبراير، 20112

لاشك بأن هناك دروساً عملية تعلمنا إياها جملة الأحداث والتحولات العربية المتلاحقة، ومن أبرزها وأكثرها أهمية وحيوية:
على مستوى الشعوب والأحزاب المساهمة في صنع التغيير:
الشعوب تملك طاقة جبارة لا يمكن لأحد أن يقف في وجهها وطريقها الهادر مهما بلغ من البأس والقوة والشدة والعنف، ومهما امتلك من أجهزة القمع والإكراه والعنف المادي والرمزي. وهذه الشعوب ربما تبقى لفترة من الزمن كامنة ومغيبة عن ساحة الفعل والتغيير الحضاري، ولكنها في لحظة ما تهب وتنطلق ككتلة واحدة نتيجة الإمعان في إهانتها وإذلالها وزيادة معاناتها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.. مما أوصل الأمور والأوضاع عامةً وسيوصلها –على الدوام- إلى حالة غير قابلة للتحمل من الضغط المنفجر في أية لحظة..
المطلوب الإسراع في إقامة مرحلة سياسية انتقالية تسبق الانتخابات الحرة التي يجب أن تؤسس لبرلمانات دستورية نيابية منتخبة طوعياً على قاعدة التمثيل النيابي الحر ومشاركة الناس في الترشح والانتخاب دون قيد أو شرط أو حصر أو حكر على أحد.. وبما يؤسس لاحقاً لأنظمة جمهورية تقوم على قاعدة بناء دولة مواطنة علمانية ديمقراطية صحيحة، تفصل بين سلطاتها الثلاث..
اعتماد صيغة سياسية منفتحة لتشكيل القوى والأحزاب السياسية بحيث تعمل تلك التيارات جميعها تحت سقف الحكم الصالح ومؤسسات الدولة الوطنية الديمقراطية، وعدم السماح بتشكيل أحزاب أصولية إلغائية، وإنما السماح بتشكيل أحزاب معتدلة على المستوى الديني تتبنى في داخل هيكليها الفكري والتنظيمي الفكر الديمقراطي، والتسامح والاعتراف بالآخرين حتى لو كانوا من المخالفين، والإيمان الكامل بالتداول السلمي للسلطة، وعدم تسييس الدين خاصة على مستوى إدعاء امتلاك الحقيقة المقدسة، وتبني خيارات وقرارات دينية مقدسة.. وهذه الأفكار السياسية والفكرية يجب أن تكون موجودة ليس فقط في صلب البنية الفكرية لتلك الأحزاب، وإنما في الدستور المقرر إعادة بنائه وكتابته أيضاً للوطن ككل..
على مستوى الأنظمة:
يقوم نظام الحكم العربي على بنية ثقافية ومفاهيمية صلبة ومتماسكة، عمادها الحكم الفردي المطلق أو شبه المطلق الذي يستمد جذوره من التاريخ البطولي المجيد المزعوم الحافل والمليء –كما يقولون ويتباهون!!- بالأمجاد الكبرى المرغوب استعادتها للحاضر.. ولا ينتهي مثل هذا النمط السياسي من الحكم إلا بزوال شخصياته ورموزه ونخبه وذهابهم القسري إلى القبر أو السجن أو المنفى.. أي أن تكلفة الخلاص من مثل هذه الحكومات الظالمة عالية جداً للأسف..
من النادر أن تجد نظاماً رسمياً عربياً -قائماً على حكم الغلبة والطغيان وقاعدة “الملك العضوض” التاريخية المعروفة منذ أيام معاوية- يمكن أن يقبل بنقل السلطة سلمياً، أو إحداث بعض الإصلاحات السياسية الجدية بصورة سلمية لوحده ومن دون إجباره على إصلاح ذاته، أو تغييره بالكامل، وسلوك طريق الإصلاح الجدي الحقيقي.. لأن مكاسب وامتيازات السلطة والحكم الفردي والاستئثار بجنة الملك –التي حققتها نظم الحكم العربية الملكية والجمهورية معاً- ليست مثار جدل أو حوار عند هؤلاء الحكام، وهم اكتسبوها وحققوها بقوة الأمن والجيش والعسكر، وبالتالي ليست لديهم القابلية للتنازل السلمي الطوعي عنها (بأقل الخسائر الممكنة)، وليسوا مستعدين أن يتركوها لشعوبهم إلا تحت الضغط والقوة والإكراه.. وهذا قانون فيزيائي معروف وهو “قانون الفعل ورد الفعل” الذي له تطبيقاته البشرية النفسية والمجتمعية التي يمكن أن تأتي تحت عنوان “ما أخذ بالقوة لا يسترد –في كثير من الأحيان- إلا بالقوة”..
على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً:
تضغط الدول الغربية –والولايات المتحدة على الخصوص- باستمرار لبناء ديمقراطية صحيحة –كما تقول وتؤكد نخبتها السياسية- في العالم العربي، وسبق لبعض السياسيين الغربيين أن أقروا واعترفوا بأن دعمهم للنظام الرسمي العربي طيلة أكثر من 65 سنة لم ينتج سوى موجة الأصوليات التي ضربتهم في عقر دارهم، وقد حان الوقت –بحسب تصريحات هؤلاء- للبدء بدعم فكرة الديمقراطية وتبني مشاريع الإصلاح السياسي، ومحاولة إلزام حلفائها في المنطقة بسلوك طريق التغيير السلمي قبل التغيير الدموي المكلف..
ومن باب الاستطراد قليلاً نذكر بأن تلك الدول والقوى العالمية الكبرى –خاصة الولايات المتحدة الأمريكية- التي تقوم على حكم المؤسسات والقانون والفكرة الديمقراطية والاقتصاد الحر..الخ، بحيث أنك يمكن أن تشاهد في مثل هذه النظم الديمقراطية عدة رؤساء على قيد الحياة خلال ربما عقد واحد من الزمن. إن تلك الدول تتعامل مع غيرها من القوى والبلدان على قاعدة المصالح السياسية وغير السياسية، ولا تتعاطى مع الأشخاص إلا بما يحقق لها مزيداً من المكاسب لبلدانها على مستوى السياسة والاقتصاد والأمن أيضا. وهي تبني مجمل تحالفاتها مع الأشخاص والنخب السياسية والأحزاب في العالم كله –وليس فقط في عالمنا العربي- على هذه القاعدة المعروفة أيضاً، وهذا أمر للأسف لا تدركه دولنا العربية وحكامنا وأحزابنا السياسية القائمة عندنا التي تعتقد بصورة خاطئة أن مجرد تلبية متطلبات وتحقيق بعض المكاسب والامتيازات لهذه الدولة الغربية أو تلك، فإن تحالفاً وثيقاً قام بينهما، وأن تلك الدولة لن تتخلى عنه في أوقات الشدة والمحن، وبدلاَ من أن يقوم الحاكم العربي مثلاً بالانفتاح على شعبه واستمداد القوة من مجتمعه ومن خدمته لناسه وجماهيره -من خلال تحقيق حاجاتهم كاملة خاصة السياسية والاقتصادية منها- يقوم للأسف بخدمة مصالح ورغبات وتلبية طلبات تلك الدول التي تتغير سياساتها بحسب ما تتغير مصالحها. إذاً البوصلة هنا في تحريك دفة السياسية الدولية هي المصلحة والمكاسب المتغيرة والتحالفات المتحركة، وهذا ما رأيناه من خلال تعاطي الدول الكبرى -خاصة الولايات المتحدة- مع كل من أزمتي الحكم في كل من تونس ومصر، فبعد أول يوم من الضغط الشعبي المتواصل على نظام حسنى مبارك، وقفت وزيرة الخارجية الأميركية لتقول بأن نظام مصر ثابت ومستقر، ولكن بعدما اقتنعت هذه الإدارة الأميركية بأن التغيير كبير وقادم لا محالة، وهي مسألة وقت قصير ليس إلا… بدأت بتغيير موقفها وموقعها من حكم مبارك –الذي كان من أهم أصدقاء الغرب في المنطقة، ورجل السلام العربي الإسرائيلي- بصورة متدحرجة ومن ثم سريعة خلال ساعات وليس أيام حتى وصلنا إلى سماع نداء بإحداث التغيير الفوري “الآن”.. وليس غداً من الرئيس أوباما ونائبه بايدن، وقادة الاتحاد الأوروبي الذين كانوا حتى الأمس يثقون ثقة عمياء بالرئيس حسني مبارك (حليف الولايات المتحدة في المنطقة، والداعم لسياساتها وقطب في ما صار معروفاً بـ”محور الاعتدال العربي”).. وفي ظني أن هذا السلوك السياسي العالمي المعروف مسبقاً للجميع، يجب أن يكون درساً ودافعاً قوياً لباقي الحكام والزعامات والأحزاب السياسية العربية (حتى هذه “الأحزاب الجديدة”-القديمة التي ركبت موجات التغيير العربي مؤخراً بصورة انتهازية غير أخلاقية!!) كي تقتنع بأن من يحاول أن يتغطى باللباس الغربي -الأميركي تحديداً- يبقى عرياناً أمامهم وأمام شعبه ومجتمعه .. وأن لا بديل عن الانفتاح الكامل على شعوبنا ومجتمعاتنا العربية .. وأن كل ما تقوم بها أميركا من أعمال وممارسات وضغوطات وتوجيهات ونداءات وغيرها –على مستوى المنطقة العربية الإسلامية على وجه الخصوص- تريد من خلاله التوفيق بين حماية سياساتها ومصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية، وبين إصرارها على نشر ثقافة ومشروع الديمقراطية كحل وحيد تريد من خلاله إرساء فكرة تداول السلطة وأن من حق الشعوب أن تنعم بالحريات العامة..
ولكن السؤال المهم الذي يمكن طرحه هنا على خلفية ما سبق:
هل يمكن اعتبار الغرب عموماً صادقاً في توجهاته السياسية لدعم فكرة الديموقراطية والإصلاح السياسي في العالم العربي؟ وهل يمكن أن تنجح الولايات المتحدة في هذا المسعى التوفيقي الصعب بين دعوتها ومصالحها؟ خاصةً مع وجود تيارات وقوى إسلامية وقومية (يسارية وغير يسارية) تعادي الولايات المتحدة، وتستمد شرعيتها من العداء الشديد لقيم وأفكار الغرب الحداثوية والتنويرية، وتقوم في داخل بنيتها الفكرية على قاعدة مواجهة سياسات أميركا في العالم كله..
وهل ستنجح الولايات المتحدة في تحقيق التوازن والموائمة الناجحة بين دعمها للحريات والديمقراطية في العالم العربي، وبين تحقيق مصالحها الإستراتيجية الكبرى التي يقول قسم كبير من العرب والمسلمين هنا بأنها تأتي على حساب نمو وتطور وبناء مجتمعات عربية قوية وناجحة؟..
ومن باب التذكرة ليس إلا.. لا نعتقد أن الإدارة الأميركية ستنسى ما مر عليها من تجربة مرة عاشتها سابقاً في إيران زمن جيمي كارتر، عندما وقف “الأميركان” يومها إلى جانب التغيير السياسي، تحت ضغط الشارع طبعاً، وأيدوا شعارات حقوق الإنسان، الأمر الذي تسبب لهم لاحقاً في سقوط حليفهم الشاه الذي كانوا طالبوه بالتغيير الديمقراطي (لم يرضوا حتى بأن تحط طائرة حليفهم السابق الشاه على أرضهم!! فمات على أرض مصر زمن السادات)، ولكنهم واجهوا مداً شعبياً ثورياً رافضاً لهم ولسياساتهم، دعم فكرة إرساء قيم وثقافة وسياسة جديدة بالكامل تقوم على إلغاء الفكرة الديمقراطية، وتبني نظام ولاية الفقيه الدينية الثورية، وإقامة نظام ديني ثيوقراطي كما تصفه دوائر الثقافة الإيرانية والكثير من أبناء الثورة السابقين ممن رفض أو نقد أو تمرد على بعض أو كثير من مفردات تلك الثقافة الدينية؟!!.
..أخيراً لا بد من التأكيد هنا على أن هذا الجيل العربي الذي ولد واستفاق وعاش في كنف أنظمة القهر والاستبداد، وسمع وشاهد الرموز والأسماء ذاتها الممثلة لتلك الأنظمة على مدار عقود عديدة مضت، هذا الجيل ينشد الخلاص حالاً، ويرفع شعار “كفاية”.. وهو يطمح للتغيير والإصلاح الحقيقي على ضوء ما يشاهده من أفكار وثقافة الحداثة السياسية الديمقراطية في غير بلد عالمي.. بينما هو لا يزال يعيش تحت وطأة نظم عتيقة متهالكة ضعيفة فشلت في كل شيء، وهي بالكاد تقدم لقمة خبز لمواطنيها، لا بل وتمنن عليهم هذا اللقمة المغموسة بالكثير من الذل والعار والإهانة.. أقول إن هذا الجيل العربي الكبير من المحيط إلى الخليج المنطلق كالنهر الجارف طالباً للتغيير الحقيقي المنشود، يبدو لي ضائعاً ومشتتاً وقابلاً للاندراج في أية أيديولوجية غير عاقلة، خاصة في ظل هيمنة نظام فكري للاعتقاد إطلاقي وحدّي وقصووي يعمل –هذا النظام العقائدي القديم- على تجديد نفسه بألبسة وتجميلات ديكورية مزيفة، وبصورة تابعة غير مستقل، وهو نظام بعيد عن العلم ومنطق التجربة، وقيم التطور والحداثة الإنسانية، كالنظام أو الإيديولوجية الدينية الأصولية الإلغائية الكارثية عليه وعلى مجتمعاته التي يريد إصلاح أحوالها ومواقعها.. إنه جيل لا يزال يحمل في داخل وعيه وثقافته بعض البذور والطبائع الإقصائية للآخر.. وهذا ما رأيناه وشاهدناه وسمعناه في بعض أمكنة التظاهر في تونس ومصر..
والخشية كل الخشية أن تركب تلك العقلية صهوة الإصلاحات المنشودة، وتستثمر موجة الإصلاح العربية المتسارعة لصالح برامجها السلطوية التي لا تختلف كثيراً عن برامج النخب السياسية العربية البالية التي تريد إقصائها عن الحكم..
وكلمة أخيرة نقولها لمن تبقى من النظم والحكومات العربية الراهنة:
أيها الحكام العرب: أنتم في موقع المسؤولية الكبرى، التفتوا إلى شعوبكم الجائعة ومجتمعاتكم المقهورة.. أصلحوا الحال قبل أن يفوت الأوان!!… والحاكم منكم هو بمثابة الأجير عند الأمة يمكن لها أن تواجهه وترفضه وتسقطه متى شاءت، خاصةً عندما يعجز عن تحقيق متطلباتها وأمنياتها في إقامة مجتمعات حقيقية يسودها التسامح والعدل والحرية والأمن..
‎© منبر الحرية،7 فبراير/شباط 2011

نبيل علي صالح1 فبراير، 20110

لا أحب كثيراً استعمال أو سماع لغة الشعارات التعبوية أو رؤية مشاهد التحريض والتحشيد العاطفي البلاغي من هنا وهناك، ولا أتفاعل إيجاباً مع مصطلحات التحريض والإثارة الدارجة هذه الأيام في مناخنا الإعلامي والسياسي العربي المليء عن آخره بعناصر ومسببات الأزمات والانقسامات العمودية والأفقية، كما أنني لا أريد لمجتمعاتنا العربية الغارقة في فوضاها وأمراضها المستعصية من المغرب إلى المشرق أن تبدأ رحلة العلاج منها باستخدام أدوية فاسدة ووصفات طبية وهمية لتصبح حالتها مثل ذاك الغريق الذي يخشى على حياته الغرق فيتعلق بقشة عائمة على السطح ظناً منه بأنها خلاصه، وهذه الخشية التي أشعر بها ناتجة عن أن بلادنا العربية فيها من القابليات الفطرية والاستعدادات الذاتية ما يدفعها إلى الدخول في ما يشبه الحروب الأهلية القبلية يمكن أن تأتي على الأخضر واليابس في كثير من تلك البلدان خاصةً مع دخول كثير من عناصر الشغب ومثيري الفوضى ممن يخرجون فقط في لحظات الأزمات ليبدؤوا بتقيؤ كم هائل من ألفاظ التحريض والفتنة والحقد الأعمى الأسود على المجتمع ومنشآت ومؤسسات وأملاك الناس التي دفع الناس في بلداننا العربية دماء قلوبهم عليها.
طبعاً هذا لا يعني أنه ليس من حق الناس الاعتراض السلمي الهادئ والعقلاني على أوضاعها المعيشية والسياسية الصعبة والمعقدة التي آلت إليها ممارسات سنوات طويلة من عهود القمع السياسي والتشبيح الاقتصادي المافياوي للدولة التسلطية العربية، كما أنه لابد من الاعتراف –وهو ما يجب أن تقوم به وتمارسه الآن وقبل أي وقت آخر حكومات العالم العربي ونخبه السياسة الحاكمة- من أن الشارع العربي بطوله وعرضه لم يعد قادراً على تحمل هياكل الحكم السياسي العربي القديمة والرثة البالية، ولم يعد يمتلك أعصابه لضبط نفسه أو تحمل مزيد من الضغوطات الهائلة التي تمارسها بحقه نخب سلطوية سياسية واقتصادية واجتماعية عربية فاسدة ومفسدة ذات تفرعات وتشابكات وارتباطات داخلية وخارجية مع كثير من مراكز القوى ومافيات المال العربية والدولية، وذلك بسبب ثقل وتزايد حدة ملفات الأزمات المتصاعدة والمتوالية التي تسببت بها سوء قيادة وإدارة الحكم العربي لمجتمعاته، والذي الذي لم يتمكن طيلة عقود طويلة من الزمن من إيجاد حلول ناجعة لمشاكل البطالة والعطالة وانعدام فرص العمل وانسداد آفاق التغيير السياسي والاقتصادي وغيرها، ويظهر أمامنا أن من يقوم ويتحرك في هذا الشارع هم أفراد متنورون وجامعيون غير مؤدلجين، وينتمون بغالبيتهم إلى الطبقة الوسطى المتعلمة والمثقفة، يرغبون ويطالبون بإجراء إصلاحات جذرية حقيقة وليست مزيفة في بنية وجوهر الحكم والنظام السياسي العربي الرسمي الذي عجز عن النهوض بواقع المجتمعات العربية بالرغم من طول فترة بقائه ووجوده في سدة الحكم منذ أكثر من ستين عاماً بعد حدوث موجة الاستقلال الشكلي عن الانتدابات الخارجية واستلام نخب وقيادات (وطنية!) لدفة الحكم الرسمي.
ويبدو أن الإعلام المتعدد والمتنوع العابر للقارات وثورة الاتصالات والمعلومات الحديثة المتجددة قد فعلت فعلها بعد أن أصبحت بمتناول الجميع كباراً وصغاراً، ومن خلالها بات بإمكان الفرد العربي أن يقارن بين حالته ووضعه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وبين وضع وحالة المواطن الآخر في أي بلد أوروبي ليجد الفرق الكبير ويشاهد العجب العجاب، والسلطات الحاكمة لم تعد قادرة –عن طريق أجهزتها الإكراهية المتعددة الهائلة التي تتكلف عليها من أموال الناس، وليس لها من وظيفة سوى مواجهة وقتل وسحل طالبي التغيير كما لاحظنا في تونس ومصر- على حجب المعلومة الصحيحة والصورة الواضحة والحقيقة المرة المتمثلة بفشل تلك النخب عن قيادة الناس إلى شاطئ وبر الأمان السياسي والاجتماعي، وحالة هذه المجتمعات الراهنة تمثل أسوأ ما يمكن أن يصل إليه أي مجتمع، فمن حالة الضغط السياسي والاستبداد والقمع وكم الأفواه ومنع الحديث عن أوضاع الناس الحقيقية ومصائرها المرتهنة المهددة، إلى تردي أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية، إلى فشل خطط ومنظومات وبرامج التنمية الخمسية وغيرها التي دفع الناس أثمانها وتكاليفها الباهظة من عرق جبينهم ومن جيوبهم ومستقبلهم، إلى انعدام فرص تشغيل الشباب العاطل عن العمل والواقف على رصيف الانتظار السلبي في الشوارع، الخ….
وفي ظني لم يكن سبب أو علة حدوث واندلاع تلك الانتفاضات التي قام (ويقوم) بها كثير من أبناء الطبقة الوسطى والفقيرة عائداً فقط إلى مناخ الاستبداد والقهر السياسي القائم فقط، وإنما ينضاف إليها سبب آخر هو روايات وقصص وأفلام ومسلسلات الفساد وملفات الإفساد الاقتصادي الكثيرة التي أزكمت أنوف الناس في مجتمعاتنا العربية، وتهريب العملات للخارج، وبتبييض الأموال ومراكمة الثروات، وبناء طبقات مالية فاحشة الغنى تعيش في أبراج عاجية، وتملك أرقاماً خيالية من المال بالعملات الصعبة، بينما يعيش باقي الناس في المجتمعات حالة من الفقر الشديد يضطرون معها للعيش في المقابر وتحت الأرض، والعمل بأي شيء (حتى على مستوى “التنكيش” والبحث في حاويات ومستوعبات القمامة و”الزبالة”) لتأمين لقمة عيش لأبنائهم وأسرهم المعدومة.
ويمكننا القول هنا بأن ظاهرة الفساد في بلادنا العربية عموماً باتت ذات جذور عميقة ضاربة في داخل بنية مجتمعاتنا، وشديدة البروز والانتشار فيها تتلقى الدعم والإسناد، وتحظى برعاية من مواقع كبيرة بحجمها المادي والمعنوي، ولا نغالي إذا ما شبهنا الفساد المستشري في أوساط مجتمعاتنا كالمارد أو كالغول الذي يريد التهام ما تبقى من موارد وثروات عالمنا العربي والإسلامي.
ويظهر لنا أن كل ما قامت به نخب الحكم في كثير من بلداننا العربية من إصدار قوانين لمواجهة ثقافة الفساد وإسقاط المفسدين، أو ما قامت به من تحديثات لاستيعاب واحتواء أزماتها المعيشية والاقتصادية لا يعدو أن يكون أكثر من قشور وأشكال خاوية وخالية من أي معنى حقيقي وفعلي، بدليل الارتفاع المتواصل في أرقام ومعدلات الفقر الشديد في تلك البلدان، وبقاء جيوش الجامعيين العاطلة عن العمل في شوارع الانتظار السلبي، ويبدو لي أن تلك المجتمعات لا تزال تعتاش على ما يسمى بـ”الحداثة الرثة” الاستهلاكية (التحديث العلمي عبر شراء آلات ومصانع ووسائل جديدة وحديثة، مع بقائها متأخرة معرفياً وتقنياً بالمعنى البنيوي الـتأسيسي)، وبالتالي فإن الأزمات والتعقيدات ستبقى تتوالد فيها، خاصة على مستوى وجودها وفعاليتها الحضاري، وعلى مستوى ضآلة فرصها في تطبيق مشروعها الحضاري التاريخي التنويري، وهي تتمظهر من خلال ما تكابده من مشقات ذاتية وموضوعية وما تعايشه من تحولات وأوضاع صعبة ومتردية أوصلت بلداننا إلى الدرك الأسفل، أو إلى حافة الهاوية على مختلف الأصعدة وفي مختلف الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وعلى امتداد الوطن العربي كله.
من هنا لا علاج حقيقي فعال ومنتج لأزماتنا المتتالية والتي ستتصاعد لاحقاً بوتائر وأشكال وتعابير شتى، سوى بأن تبادر وتقوم نظم الحكم العربية (والمؤمن من اعتبر بغيره قبل أن يصل البل إلى ذقنه) وقبل أن تنشب حروب أهلية فيها، بالعمل الفوري على إيجاد معالجة وحلول متكاملة لأزماتنا ومشاكلنا المتفاقمة، وخاصة منها وعلى رأسها، إشكالية السياسة القائمة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية عموماً (إشكالية الحكم والديمقراطية والحريات وملفات الإصلاح السياسي الحقيقي وليس الزائف)، ومن دون التركيز على هذا الجانب السياسي الذي بات يشكل قاعدةً أساسية للحكم الرشيد الناجع الصحيح، سنبقى نلف وندور في حلقة مفرغة، ولن يحقق أي مشروع مكافحة فساد، أو إصلاح اقتصادي جدواه ونجاعته المطلوبة، بما ينسجم مع متطلبات تقدم وتنمية وتطور البلاد لمواجهتها التحديات المنتصبة أمامها، ولنستفيد من إنجازات التقدم والتطور الذي يشهده العالم المتشابك والمتداخل المصالح.
ولكن السؤال أو الأسئلة المحورية الرئيسية هنا:
هل لدى النخب العربية القائمة والحاكمة حالياً نوايا جدية للإصلاح والتغيير؟ وهل باستطاعتها أصلاً البدء بإجراء التغيير الحقيقي؟ وهل من مصلحتها تحقيق التغيير الحقيقي أم إبقاء الأحوال والأمور على حالها؟، وهل يمكن أن تبادر تلك النخب –من دون ضغط أو قسر- للبدء بالإصلاحات والتحولات الجدية المنشودة دون تدفيع المجتمعات الأثمان والتكاليف الباهظة للتغييرات النوعية المطلوبة؟، أسئلة مهمة تبحث عن إجابات حقيقية، ويبدو أمامنا أن الوقائع للأسف لا تبشر بالخير، فبعد مضي عقود طويلة على وجود النظام والحكم الرسمي العربي لم يحدث التغيير إلا تحت ضغط الشارع.
‎© منبر الحرية،30 يناير/كانون الثاني 2011

نبيل علي صالح14 يناير، 20110

لا تزال ما سميت بـ “فضيحة ويكليكس” تحوز على الاهتمام الأكبر والحيز الأهم من أحاديث الناس ونشرات الأخبار في عالمنا حالياً. وربما سيمضي وقت طويل قبل أن يبدأ الناس بنسيان هذه الجرعات الوثائقية –إذا جاز التعبير- التي تلقوها مؤخراً حول عدد من الأحداث والشؤون السياسية والاقتصادية التي تم تسريبها من خلال نشر وثائق سرية عائدة لوزارة الخارجية أو وزارة الدفاع الأميركية (سربت بداية 450 ألف صفحة، ولاحقاً نحو 250 ألف صفحة.. والحبل على الجرار..)، وهذه الوثائق والبرقيات المسربة تمثل –بشكل أوبآخر- تصورات وآراء وتحليلات لعدد من السفراء والدبلوماسيين وخبراء السياسة الأمريكية، حول عدد كبير من الأحداث العالمية والشؤون الدولية المتعلقة بهذه الدولة وذاك الزعيم، وبهذا الموقع أو تلك الشخصية السياسية..الخ. وقد ألقت تلك الوثائق الضوء على الكثير من المعطيات والوقائع حول الحرب في كل من العراق وأفغانستان، وحول طبيعة السياسة الخارجية لبعض القوى الدولية الكبرى كأميركا وفرنسا وبريطانيا، وأيضاً روسيا والصين وحتى إيران وبعض دول الخليج العربي.
وفي ظني أن من أهم أسباب انكباب الناس على متابعة وملاحقة أخبار تلك الوثائق، وما تضمنته من روايات وفضائح وممارسات شنيعة، هو أن مجتمعاتنا البشرية باتت –من جراء قيام الدول كلها وخاصة الكبرى منها باعتماد سياسة الكواليس واللعب تحت الطاولة- غير قادرة في كثير من الأحيان على فهم وملاحقة سياسات حكوماتها اتجاه كثير من الأحداث والتحولات والمتغيرات الدولية، وخاصة ما يتصل منها بشؤونها الداخلية، كما أنها ملت من سياسة الكواليس وما يجري وراء الستار وما وراء الكاميرات من صفقات وعقود وبيع وشراء وغيرها، وهي وجدت في تلك الأوراق والوثائق المسربة ما يمكن أن يشبع نهمها وفضولها وشبقها لمعرفة بعض الحقائق والخفايا المتعلقة بمجتمعاتها وكيفية تفكير قادتها وزعاماتها، وموقفهم من بلدانهم، وماهية نظرتهم لأبناء مجتمعاتهم.. ووالخ.. خاصة في دول العالم العربي والعالم الثالث عموماً، حيث أن السياسة الحقيقية الرسمية المعتمدة من قبل حكام تلك البلدان هي السياسة المحجوبة عن الناس التي تتم خلف جدران ونوافذ مغلقة كلياً، والبعيدة عن التصريحات المعلنة الطنانة الرنانة التي لا انعكاس إيجابياً لها على الحياة الداخلية لتلك المجتمعات.. بل على العكس من ذلك، يعلم المواطن أو الفرد العربي (فالمواطنية شبه معدومة في عالم العرب والمسلمين) أن العالم الداخلي الحقيقي للكثير من قياداته ونخبه الحاكمة سياسياً والممسكة بمفاصل وركائز مجتمعه اقتصادياً واجتماعياً، هو عالم مليء بالأسرار والأحجيات والتعقيدات، ولا يمكنه الإطلاع حتى على أجزاء يسيرة وبسيطة منه إلا من خلال تلك التسريبات التي يمكن أن تحدث بين الفينة والأخرى من خلال ما تطلقها المواقع الدولية في العالم الديمقراطي الغربي هنا وهناك.. لأن ما يجري في داخل القصور والغرف الرئاسية المغلقة لكثير من الأمراء والملوك والحكام العرب هو شيء سري للغاية خاص بهم، ولا علاقة للشعب والناس به لا من قريب أو بعيد، لا من حيث الأموال المصروفة والإنفاقات الهائلة غير المحسوبة، ولا من حيث طبيعة المداولات والقرارات المصيرية المتخذة في غير مكان وموقع، والتي قد يلعبون من خلالها بمصائر شعوبهم وأمن ومستقبل مجتمعاتهم، كما هو حاصل بالفعل.!!..
إن الناس في مجتمعاتنا العربية والإسلامية تريد أن تعرف فعلاً حجم الفضائح والصفقات والارتكابات والتورطات التي تفضح زعامات وشخصيات بلدانها المرموقة (السياسية والاقتصادية) التي تقول لها معسول الكلام في العلن وأمام الكاميرات، وتتحدث نقيضه وراء الكواليس عند عقد الاجتماعات مع دبلوماسيي وقادة الدول الكبرى..
لقد أضحى عالم الإنسان المعاصر –نتيجة أخبار وصور الدمار والعنف والحروب وسياسات الحجب والإخفاء وممارسة سياسة الكذب على الناس والشعوب- عالماً مضجراً ومزيفاً، وأصبح المسرح الكوني الإنساني مملاً بلا معنى وآفاق مفتوحة، وهو لا يزال يبتعد شيئاً فشيئاً عن الرؤية الهدفية والغائية الإنسانية التي محورها وأساسها خدمة الإنسان ومحاولة بناء عالم إنساني أرقى وأمثل وأكثر شفافية ووضوحاً ومصداقية، عالم يستطيع فيه كل إنسان أن يعرف ويطلع على كل ما يجري حوله من تحولات وأحداث تتعلق بمصائره الكونية بشكل واضح، خاصة ما يجري من تلك الأحداث خلف الكواليس المظلمة والغرف المغلقة والأقبية والمطابخ السرية الخاصة بكيفية صناعة القرارات الدّولية.
وقد أثبت هؤلاء الناشرون لتلك الوثائق فعلاً لا قولاً -وبقطع النظر عن كيفية وآليات تسريبها، ومن ساعدهم في الوصول إليها، وعن القصدية أو العبثية في نشرها- أن الديمقراطية لا تزال هي الفكرة الإجرائية الأصح والأحسن لإدارة الشأن العام، وبناء مجتمعات متطورة، وأنها النظام الأكثر ضمانة في العالم لمعاملة الناس بصورة يمكن معها تحريض وإثارة أجمل ما فيهم من خصال وقيم وطاقات بهدف العمل المنتج الخلّاق، ودفعهم للبناء الإيجابي، ومعاملتهم بشيء من الوضوح والشفافية والصدق.
وأن من حق هؤلاء الناس جميعاً أن يطلعوا على حقائق واستراتيجيات سياسات حكوماتهم، وطبيعة تفكيرها، وأن يعوا طبيعة تفكير قادة بلدانهم بعيداً عن سياسات الحجب وإجراءات المنع وآليات الرّدع المتبعة حتى الآن، لأن النظام الديمقراطي القائم أساساً على الحرية ومشاركة الناس في صنع القرار السياسي لبلدانها من خلال النواب والممثلين المنتخبين ديمقراطياً- لا يجتمع أبداً، بل يتناقض كليةً مع ممارسة سياسة إخفاء مئات آلاف الوثائق المتعلقة بمصيره ومستقبل مجتمعه، والتي تكلفه (كناخب) أو كدافع ضريبة مليارات الدولارات من جيبه وعرقه وجهده.. وهو يحتاج باستمرار –وهذا حق له يضمنه الدستور الديمقراطي- إلى أن توضح له حكوماته سياساتها الخارجية، والمواقع التي تقوم بصرف أموال الدولة فيها بكل شفافية ومصداقية كما ذكرنا.
‎© منبر الحرية،14 يناير/كانون الثاني 2011

نبيل علي صالح6 ديسمبر، 20100

قطر دولة عربية خليجية حديثة العهد في كل شيء، باعتبارها إحدى المشيخات الخليجية التي استقلت في العقود الأخيرة من القرن الماضي، وأعطيت فيها كرسي الحكم لعائلة آل ثاني، وأميرها حالياً هو الشيخ حمد الذي تمكن من إبعاد والده عن سدة الحكم، بعد ثورة بيضاء بسيطة غير مكلفة تمت بمساعدة بعض الأصدقاء الدوليين من هنا وهناك في تسعينيات القرن الماضي..
ولا تزال هذه الإمارة تثير الكثير من الجدل والنقاش السياسي الحامي والساخن أحياناً-   خاصة بعد استلام الشيخ حمد دفة الحكم السياسي مع وزير خارجيته المعروف بمكره ودهائه وربما أريحيته السياسية!!- حول بعض مواقفها السياسية غير المتوازنة وغير الطبيعية بحسب المعايير التي يعتمدها هذا الفريق أو ذاك ممن يرفضون تلك السياسات، فمن فتح مكاتب تجارية إسرائيلية اقتصادية وبدء مرحلة وئام وشبه صلح وتطبيع اقتصادي مع إسرائيل (قيل أنه أقفل بعد عدوان غزة2009)، إلى إقامة أكبر قاعدة عسكرية أميركية على أراضيها (قاعدة السيلية)، إلى استضافة وإقامة مختلف الأساطيل العسكرية الأميركية والغربية، وتوقيع معاهدة دفاع مشترك مع أمريكا.. الخ، وفي نفس الوقت استضافة كثير من رموز وقوى ما يسمى بالمقاومة والممانعة العربية (قومية ودينية، علمانية وأصولية)، من الشيشان وغير الشيشان، إلى تبنيها ودفاعها عن كثير من مواقف إيران وصداقتها معها، إلى صداقتها مع حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية، إلى إنشائها لقناة الجزيرة الإعلامية الفضائية التي تعتبر –بحسب الكثير من المراقبين والخبراء- معقل من معاقل الفكر الأصولي بمختلف تياراته ومشاربه الدينية الإخوانية والقومية، وقد استطاعت هذه القناة وعن جدارة كاملة أن تحقق ما عجزت عن تحقيقه كل وزارات الإعلام العربية على مستوى النقاش والحوار حول قضايا وإشكاليات ثقافية وسياسية، كان الحديث عنها من المحرمات مما أهلها لتكون المركز الإعلامي العربي الأول، وهي تحتل إلى الآن على أقل تقدير المرتبة الأولى بين كثير من القنوات الفضائية على صعيد المشاهدة والاتساع والاستقطاب وسعة الانتشار.
ولكن وبالرغم من كل ذلك، تبدو قطر بالفعل –ربما بسبب الثروات والأموال الواقعة تحت سيطرة وهيمنة شيوخها وأمرائها، وربما بسبب عمق صداقتها مع الكبار دولاً وحكومات ومنظمات وشخصيات مؤثرة-  قادرة على ملاعبة هؤلاء الكبار في داخل ساحاتهم وملاعبه،م لا بل وتوجيه بعض الانتصارات واللكمات الخفيفة ولكن المؤثرة على وجوهم..
من هنا، ليس شيئاً بسيطاً أو قليل القيمة أن تفوز دولة وإمارة قطر العربية الخليجية الصغيرة بملف تنظيم كأس العالم لكرة القدم (مونديال 2022)..
وليس أمراً صغيراً أبداً أن تقتنص قطر ملف التنظيم (ممن؟) من فم الأسد الأميركي الجريح اقتصادياً والمتراجع سياسياً..
وليس أمراً هيناً أن تفوز هذه الإمارة بشرف التنظيم بعد منافسة حامية الوطيس مع العملاق الأمريكي، الذي لا تأتي قطر شيئاً تجاهه على أي مستوى من المستويات السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية..الخ.
وبالمقابل، إنه لأمر غير مفهوم أن يقول أوباما (رئيس أكبر وأعظم دولة في العالم نافست قطر على استضافة المونديال المذكور): “إن تنظيم قطر وعدم فوز أمريكا بلده بالتنظيم هو أمر سيء وخاطئ للغاية”.. بل كان من الضروري –قياساً بموقعه المتقدم على رأس كبار ساسة العالم- أن يهنئ ويبارك لقطر –كبلد من العلم الثالث- هذا الانتصار الكبير المتحقق للمرة الأولى في الشرق الأوسط، وأن يتقبل الخسارة الطبيعية جداً بروح رياضية، سيما وأن بلده سبق لها أن استضافت مونديال عام 1994م، ولكنها السياسة وقلة الحيلة وربما العجز، هي التي جعلته يتنقل من حالة فشل سياسية إلى حالة فشل أخرى في أكثر من ملف دولي، فمن خسائره المكلفة في أفغانستان والعراق إلى خسارته السياسية الانتخابية المؤلمة الأخيرة (خسر حتى مقعده كسيناتور عن ولاية الينوي).. ولا ندري ربما لا يكون محظوظاً فيخسر –كما تشي وتؤكد كل التقارير واستطلاعات الرأي- انتخابات عام 2012 الرئاسية، هذا إن تم ترشيحه أصلاً من قبل حزبه الديمقراطي بعد فشله الذريع في معالجة أكثر من ملف دولي، وعلى رأسه تحريك عجلة ملف السلام العربي الإسرائيلي المتوقف منذ عدة سنوات، ويبدو أن تكليف الرئيس السابق بيل كلينتون –المعتاد على سياسة الخسائر خاصة مع زوجته هيلاري- بترؤس الفريق المكلف بتقديم ملف أمريكا لاستضافة مونديال 2022، لم يكن ذا فأل حسن على أميركا .
ويبدو أن أمريكا قد تأثرت كثيراً بفعل أزمة الاقتصاد العالمي التي ضربت أرجاء العالم كله منذ العام 2008، وربما أن الذي زاد في تعميق جرحها ومآسيها، وفاقم مشكلاتها ومعاناتها دولياً هو زيادة حجم تدخلاتها السياسية والعسكرية المباشرة في كل مكان، مما جعلها تدفع الأثمان والتكاليف الباهظة في كثير من دول العالم نتيجة تلك التدخلات، فمن حرب أفغانستان إلى حرب العراق إلى أزمات السودان وأفريقيا إلى أوروبا وملف درعها الصاروخي، إلى العلاقات المتأزمة نسبياً مع روسيا البوتينية، إلى ملفات الشرق الأوسط المعقدة (ومناخاتها الحارة ما بين نسائم السلام ولهيب الحرب المتوقعة!!!)، أجل لقد تورطت أمريكا في ملفات عسكرية عديدة جعلتها تفتقد القدرة على إدارة شؤون العالم لوحدها منفردة كما كان يحدث في السابق..
وقد كان في السابق يسيطر نوع من التفكير السياسي في العالم مفاده أن الفشل الحتمي سيكون من نصيب أي موقع أو أية جهة تفكر –حتى مجرد تفكير- في مواجهة تلك القوة الأميركية الضاربة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً (يصل الناتج القومي الأمريكي إلى أكثر كمن 9  تريليونات من الدولارات سنوياً، وتبلغ ميزانية وزارة الدفاع لوحدها حوالي 700 مليار دولار!!) أو حتى على مستوى مجرد رفض تعاليمها وسياساتها وضغوطاتها..
وبالفعل، يبدو أن هناك من بدأ يتجرأ على ذلك حالياً، فمن تهريب مئات الوثائق العسكرية والسياسية بالغة السرية، ونشرها على موقع “ويكيليكس” الذي يديره صحفي استرالي ملاحق وهارب، إلى رفض روسيا إقامة درع صاروخي في مواجهتها، إلى تمرد كثير من القوى الدولية عليها هنا وهناك في العالم..
وهكذا وصلت الأمور إلى حد أن يرفض الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا FIFA) ملف استضافة أمريكا لمونديال2022  ويعطي الفوز إلى دولة قطر التي لا تشكل شيئاً تجاه أميركا في أي مجال من المجالات كما ذكرنا، لا بل ربما تكون المساحة التي تشغلها القاعدة العسكرية الأميركية المتواجدة في قطر والتي يمكن مشاهدتها من نوافذ قناة الجزيرة القطرية، أكبر من مساحة الدولة ذاتها!!..
أفتح هنا هلالين لأقول: عندنا مثل شائع يقول “عندما تسقط البقرة تكثر سكاكينها”.. ويبدو أن هذا المثل ينطبق إلى حد ما على الفيل أو الأسد الأميركي الجريح.. فـ”ويكليكس” تضربه بلكمات “وثائقية” من هنا كما أسلفنا، وقطر تلاقيها بضربة فنية محكمة من هناك.. مضافاً إلى ما تلقاه (ويتلقاه) هذا الفيل الجريح من ضرب عسكري في كل من أفغانستان والعراق، وضرب سياسي في الشرق الأوسط، وتركيا، وروسيا وأوروبا وغيرها..
وإذا ما سألنا: لماذا حققت قطر هذا الانجاز؟ وعلى ماذا ارتكزت؟ وماذا لديها من إمكانات وثروات؟
في اعتقادي يمكن القول، الدول نوعان على مستوى الحجم والإرادة السياسية، دول كبيرة الحجم والمساحة، ولكنها فاقدة للجدية والإرادة السياسية الحقيقية الحرة، ودول صغيرة بحجمها ومساحتها، ولكنها تمتلك وتحوز على رؤية سياسية مع إرادة سياسية حقيقية لتنفيذ تلك الرؤية بحسب إمكاناتها المتاحة، ويمكن أن توظفها في غير موقع وملف لتبرز قوة سياسية يمكن أن يعتد برؤيتها وبرأيها ووزنها المعنوي المهم والمؤثر في عالم الكبار، وهذا هو حال قطر، كما نعتقد ونخمّن، فقطر كدولة صغيرة لديها الكثير من الموارد والثروات، وتتميز قيادتها المنفتحة على العالم، بوجود العزم والإرادة السياسية الجدية للدخول في كثير من الملفات والتحديات وربما المغامرات هنا وهناك..
وهذا ما وفر لتلك الدولة الصغيرة الكثير من الراحة السياسية والاستقرار الأمني والفعالية الاقتصادية، بحيث تحولت إلى واحة خليجية آمنة تعيش حالة قوية من الرخاء والرغد والهدوء على كل المستويات والأصعدة، أي أن الهدوء السياسي ومحاولة تجفيف منابع التوتر مع الدول المجاورة والبعيدة، وعدم مخاصمة أحد، حتى إسرائيل، أعطى ووفر لها الوقت والزمان اللازم للانتباه والالتفات إلى الداخل للعمل والبناء والإنجاز والتشييد وهذا ما أهلها لتكسب استضافة كأس العالم للعام 2022..
وفي أول تصريح لأمير قطر الشيخ حمد بعد الفوز بالاستضافة قال: “هذا اليوم هو من أحلى أيام العرب، ونتمنى أن توفق قطر لتنظيم البطولة بنجاح، ليفرح كل أبناء الدول العربية الذين سيأتون إلى قطر خلال البطولة، لقد كانوا يعتبرون أن قطر لا تستطيع فعل أي شيء لأنها دولة صغيرة مساحة وسكاناً، واليوم أثبتنا لهم أن قطر قادرة على أن تفعل أي شيء”..
طبعاً هذا التفوق القطري لم يقتصر فقط على الولايات المتحدة، بل تعداه إلى أكبر دول العالم اقتصاداً ومساحة وسكاناً، كاليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا.
وملف قطر الذي تم إعداده -لمن يريد الاستزادة المعلوماتية طبعاً- يتضمن تقديمات استثنائية شبه إعجازية، تقدم للمرة الأولى في تاريخ كأس العالم بحسب تأكيد وإشادة كل المراقبين والخبراء في عالم كرة القدم، حتى أنه تم بالفعل تجاوز عثرة درجات الحرارة المرتفعة خلال الصيف في تلك الإمارة، وذلك عبر تجهيز الملاعب -المنوي إنشاؤها لاحقاً- بأجهزة تبريد عالية الجودة وصديقة للبيئة (بفضل استخدام التكنولوجيا المتطورة التي جعلت نسبة الانبعاث الكربوني صفر بالمائة 0 %)، وذلك بفضل التقنيات المستدامة وأنظمة التبريد في الملاعب ومناطق التدريب والمتفرجين، حيث سيكون بمقدور واستطاعة اللاعبين والإداريين والجماهير التمتع ببيئة باردة ومكيفة في الهواء الطلق لا تتجاوز درجة حرارتها 27 درجة مئوية، إضافة إلى إقامة بنية تحتية مجهزة بأحدث المواصفات والتقنيات، إلى شبكات للمترو والقطارات تصل قطر بجيرانها بسهولة وأمان، ناهيك عن إمكانية مشاهدة3  مباريات يومية لمن يرغب وهو أمر غير مسبوق. من دون أن ننسى سهولة إقامة المنتخبات المشاركة والجماهير القادمة من الخارج، وعدم تكبدها مشقات السفر من منطقة إلى أخرى..
هذا وقد رصدت قطر ميزانية ضخمة بعشرات مليارات الدولارات لتنفيذ كل ما قدمته في ملفها على الأصعدة كافة، وستقام مباراتا الافتتاح والختام على استاد “لوسيل” الذي لم يبدأ العمل فيه حتى الآن، وتتسع مدرجاته لـ86  ألف متفرج، وسيكون محاطاً بالمياه وستستغرق عملية بنائه 4  سنوات، إذ من المتوقع انتهاء العمل فيه عام 2019م.
ووفقا للملف القطري، ستعمل قطر على تجديد 3  استادات وبناء 9  استادات أخرى، وستتوزع ملاعب البطولة على سبع مدن قطرية..
وإذا ما أردنا أن نتحدث عن الاستثمارات والمنافع والعوائد الاقتصادية التي ستنجم عن استضافة قطر للمونديال العالمي المذكور في العام 2022، فقد أشارت تقارير خبراء الاقتصاد إلى أنه ستتحقق حالة نمو غير مسبوقة في اقتصاديات رياضة كرة القدم في المنطقة إجمالاً يبلغ حجمه 14 مليار دولار.
وفوز قطر بشرف تنظيم الحدث العالمي الكبير سيرفع قيمة حقوق البث التلفزيوني في المنطقة بنسبة 30%  لتصل إلى 550  مليون دولار.
وهكذا يظهر لنا أن تنظيم كأس العالم ليس فقط مجرد حدث رياضي عابر يأتي ويذهب، ويتسابق فيه اللاعبون لركل كرة صغيرة هنا وهناك من ملعب أخضر لا تتعدى مساحته أكثر من 32  ألف متر مربع، بل أصبح هذا الحدث كرنفالاً دولياً وحدثاً عالمياً وكونياً بامتياز ذي أبعاد اقتصادية وعوائد مادية كبيرة على البلد الذي يحظى بشرف تنظيمه أيضاً، فضلاً عن كونه حواراً حضارياً عملياً بين كثير من شعوب وحضارات وثقافات العالم التي تتفاعل إنسانياً وتتواجد عملياً في موقع واحد وبقعة جغرافية واحدة تتبادل من خلالها الأفكار وتتلاقح المفاهيم، ويطلع فيها الناس -من مختلف المشارب والانتماءات والحضارات- على عادات وطبائع وثقافات بعضهم البعض في وحدة إنسانية متنوعة جميلة،وهذا ربما له آثار إيجابية على مستوى المساهمة في تخفيف حدة التوتر والتباعد بين الشعوب والأمم المختلفة، بما يؤدي لاحقاً إلى تحقيق مزيد من التواصل البشري الذي يلغي الفواصل والحدود والتمايزات..
نعم، لقد أصبحت كرة القدم لغة عالمية مثل الموسيقى (لغة العالم)، لأن اللعب الجميل الانسيابي في الملعب هو مثل الموسيقى العالمية الكلاسيكية يفهمها الجميع، ويعشقها الجميل، لأن الجمال بعد إنساني..
وما حدث من خلال الموافقة على ملف قطر لاستضافة مونديال 2022م، هو نوع من الدخول الآسر إلى التاريخ المستقبلي الكوني ومن أوسع الأبواب الإنسانية، وهو نوع من العملقة الاستثنائية، وقطر اليوم باتت مثل عروس تتهيأ وتتجهز للتزين بكل ألوان وتنوعات وجماليات العالم لتزف إلى عريسها القادم في العام 2022  بأبهى حلة وأجمل عنوان..
أخيراً، مبروك لقطر الفوز بالاستضافة التي ستدخلها مع المنطقة العربية عموماً باباً جديداً من أبواب الحضور العالمي المطلوب لما بعده أيضاً، ولعلها تفتح كذلك كثيراً من الأبواب والنوافذ المغلقة في عقول وطرائق تفكير مجتمعاتنا العربية المهمومة والمهمشة والمغيبة التي لا تزال تعتاش أو تعيش على أضغاث أحلام الفوز والانتصار التاريخي المجيد الدائم على الآخر في كل شيء، وتدّعي أشياء وأمور ليست فيها، ولا قبل لها بها، وربما تحفز تلك الاستضافة -والدخول للعصر الكوني من باب كرة القدم- العقول النائمة المقفلة على أفكارها وتعقيداتها وعقمها وشبه عجزها عن الانفتاح على الحياة والعصر والإنسان الآخر..
وهكذا ربما نحقق بالرياضة، ما عجزنا عن تحقيقه بالسياسة، وقد نحقق بالاقتصاد ما عجزنا وفشلنا –كنظم وتيارات- عن تحقيقه بالوسائل والآليات السياسية، وفي ظني أن حالة الجمود السياسي والتخشب الثقافي التاريخي العربي -على مستوى انعدام آفاق التغيير وفقدان آمال الإصلاح السياسي والعملي المعرفي والعلمي في عالمنا العربي-   ليس له من حل سريع وفوري إلا من خلال إغراق تلك المجتمعات العربية بثقافة الحرية واقتصاد الرفاه بما فيها إغراقهم بما يمكن أن نسميه بالاقتصاد الرياضي..
جربوا هذا الحل، لعل وعسى!؟.. وربما يكون مدخلاً فعالاً لحلحلة الكثير من تعقيدات وعلائق السياسة العربية المتخبطة التي عجز الجميع –موالاةً ومعارضةً- عن فك رموزها وطلاسمها وعقدها ومبهماتها التاريخية والمعاصرة..
‎© منبر الحرية،5 دجنبر/كانون الأول 2010

نبيل علي صالح21 نوفمبر، 20100

الجزء الثالث
وفي الإجابة على الأسئلة التي طرحناها سابقاً نرى أنه ومن أجل أن تكون ثقافتنا إنسانية متسامحة ومنفتحة وذات طابع عالمي -بمعنى وصولها إلى كل الناس كما هي في المضمون الروحي الإنساني البعيد عن جو السياسة والمساومات- فإنه يجب أن نقدمها بمعاني وتعابير وحلّة جديدة، وبحسب مستوى الفهم والإدراك عند الأجيال الحاضرة والقادمة، كما يجب أن يتناسب خطابنا مع المستوى العلمي والرقي المدني الذي حققته البشرية في عالم اليوم. فالثقافة الثابتة والمقولبة –كما هي ثقافتنا حالياً- لا تصلح للحياة والإنسان، والمجتمع الذي يبقى منغلقاً على ذاته سينقرض لا محالة مع مرور الأيام وتقدم العصور.
وفي ضوء ذلك ينبغي على من يدعو ويمثل الإسلام سلوكاً وفكراً، نصاً وروحاً وعملاً، أن يحسن عرض أفكاره وقيمه ومثله ومبادئه وأخلاقه على مختلف المواقع بأسلوب جذاب وشيق وجميل.. وهذا يتطلب بدوره من المثقف والداعية الديني المنفتح والمتمسك بالخطاب العقلاني والفكر الإنساني:
1. الاستفادة من أجواء وقوانين العصر (ومنها هذه العولمة الإعلامية الهائلة، وثورة المعلومات الاتصالية الخارقة، وارتباط مصائر العالم بأهداف إنسانية واحدة)، حيث أن الإسلام دين إنساني عالمي ختم الله به الرسالات والنبوات، وجعله صالحاً لما تبق من عهود وعصور كما يعتقد ويدعي أصحابه وأتباعه، وهذا ما يحتم عليهم (على أتباعه ودعاته ونخبه ورموزه) أن يدعو إلى القيم الدينية الإنسانية بلغة العصر، وأن يواكبوا كل المتغيرات والمستجدات حفاظاً على أصالة الفكر وحيوية المعرفة الإسلامية وصوناً لهذه الهوية من الضياع، روحاً وعقلاً على مستوى النص أو التأويل.
والهوية التي أعنيها هنا ليست هي الهوية الثابتة والجاهزة والمعبأة نفسياً وروحياً في نفوس الناس وفي عقولهم، وإنما هي كل تلك المبادئ والقيم المعنوية الإنسانية الأصيلة (من حرية وعدل ومساواة وإخاء، و الخ) والنقاء الروحي الإسلامي المنطلق من فكرة المحبة لله، وفي الله، ومن أجل الله، التي –على ما يبدو- أصبحت آخر هموم دعاة الفكر والخطاب الإسلامي المعاصر الذين استغرقوا  في السياسة والتنظيمات السياسية والعقائديات الدينية ونسوا أو تناسوا أهمية الروح والعامل الروحي كأحد أهم مضامين ومكونات الفكر الديني. مما أول هؤلاء –المتأسلمين- إلى ما يشبه التخشب والجمود العقلي والفكري، في ظل وجود مناخ إسلامي عارم مسيطر على مجتمعاتنا العربية والإسلامية يتعيش على الفوضى الفكرية والمفاهيمية التي يروج لها دعاة ورسل الوعظ والفقه المسجدي العتيق المستند على الظاهرات الخارجية، ومن دون أن يكون عنده أدنى اهتمام بحقائق المعرفة الإنسانية التي هي أساس وجود الإنسان في هذه الحياة.. فالهوية الأساسية المقصودة هنا هي هذه الروح الإنسانية الصافية المركوزة في كينونة الإنسان، والتي تحتاج إلى عوامل مؤهبة خارجية لاستثمارها في البناء والعمل والنماء المادي الحضاري لما فيه خير وصلاح البشرية جمعاء.
2. محاولة التجديد في أبنية الدين الفكرية وبلورة صيغ معرفية عملية يمكن أن تقدم الإسلام كفكر حي معاصر ومواكب للحياة والعصر، وبصورة تجعل منه موضعاً للاستقطاب الروحي والمفاهيمي، ونقصد بهذه الصيغ أو الأفكار ما يتناول قضايا العصر، ومستجدات الأحداث، إذ علينا أن نواكب التطورات العلمية والفكرية والثقافية، وذلك عبر إبراز وتوضيح الرأي الديني الصحيح تجاه مختلف قضايا الفكر والمعرفة والثقافة المعاصرة.
3. التمسك بقيم المواطنة والعلمنة والمدنية.. أي عدم تسييس الدين وعدم تديين السياسة في كل ما يتعلق بطبيعة علاقة رجل الدين (والمثقف الديني) بالمحاور السياسية، واقتصار الارتباط بينهما (بين المثقف والسياسة) على مستوى التواصل مع العناوين الخارجية بما ينفع مصلحة المجتمع والناس.. ولا نقصد هنا ابتعاد رجل الدين عن الحياة العامة، وإنما أن يشارك فيها من موقعه كمواطن فقط، وليس كرجل دين يريد فرض قواعده وانتظاماته ومعاييره الدينية المقدسة على الناس والمجتمع وباقي التيارات.
4. ربط المثقف النقدي -سواء أكان قومياً أم ليبرالياً أم شيوعياً أم دينياً- بقضايا الحياة والعصر المتحرك والمتغير بعيداً عن لغة الايدولوجيا الشمولية والقناعات المزيفة، بما يمكن أن يؤدي لاحقاً إلى تحريره من سيطرة العقلية الدوغمائية المزيفة التي ساهم أصحابه في وصول مجتمعاتنا إلى ما هي عليه الآن من دمار فكري وأخلاقي مريع نتيجة هيمنة أفكارهم المعلبة وتصوراتهم الحالمة المغرقة في رومانسيتها.
والانطباع الجوهري الذي يمكن أن يتركه لدينا مثل هذا التفكير والرؤية الدوغمائية هو أن الخلل والعلة ليست في الواقع دائماً، بل هي –في كثير من الأحيان- في طبيعة الأفكار المتحجرة، والعقول القاصرة لأصحابها من ذوي النضالات الدونكيشوتية الفاشلة، حيث أن هؤلاء يؤمنون بأن العلة في الواقع دوماً. ولذلك فهم يسعون –وهنا أصل الداء، ومكمن العلة الجوهرية- إلى تجيير وكسر الواقع، ومطابقة وقائعه مع مقولاتهم المتكلسة البائدة من دون وجود أدنى استثمار وتوظيف للمنهج العقلي العلمي في وعيها وإدراكها وتحليلها والوصول إلى نتائج ميدانية بشأنها.. الأمر الذي سيؤدي  –كما أدى سابقاً وحالياً- إلى أن يصبح المثقف (وكذلك السياسي) ضحية أفكاره، وتقاليعه النضالية بحيث يظهر عملياً في الواقع وهو يعمل ضد مبادئه وقناعاته وأهدافه التي يزعم الدفاع عنها وحراستها، والتي كلفته –وكلفت المجتمع- كثيراً من الدماء والدموع.
وأخيراً أقولها نصيحةً لي وللآخرين أنه يجب علينا -في داخل اجتماعنا الديني والسياسي- أن نعمق إحساسنا بوجودنا الحي والفاعل من خلال تركيز الحس النقدي الذاتي لأفكارنا واعتقاداتنا. لأنه من غير وجود بنية نقدية جديدة، وتراكم نقدي ذاتي جذري يطال باستمرار الثقافة والمثقف والسياسة والسياسي والدين والتدين، فإننا لن نستطيع تطوير أنفسنا ومجتمعاتنا التي طالها الخراب منذ عهود طويلة. ومن غير حرية في الفكر والتعبير والنقد لن نتحرر جميعاً من هذه الأوهام الشعاراتية التي حبسنا أنفسنا في داخلها، وقولبنا المجتمع لأطرنا وتصنيفاتنا الضيقة التي سببت لنا كل هذا الدمار والخراب السياسي والاجتماعي والمفاهيمي، والتأخر الكبير في الفكر والممارسة.
وعندما نبدأ جميعاً –كمثقفين وسياسيين- بالتحرك على هذا الطريق الطويل والصحيح، يمكن أن نصدق أفكارنا، ونصدق أنفسنا، ونصدق بعضنا البعض.
© منبر الحرية ، 16 ماي /أيار2010

نبيل علي صالح21 نوفمبر، 20100

الجزء الثاني
لقد ساهمت الأجواء السلبية الضاغطة على الحركات الإسلامية، في اعتماد كثير من تلك الحركات والمنظمات الأمنية على طرق ووسائل العنف والإرهاب المدمر غير المشروع، كالتفجير وخطف الطائرات والشخصيات، وممارسة الاغتيالات والتصفيات الجسدية، وو..الخ. وذلك في سياق وجود مناخات ضاغطة وظروف قاهرة مضادة، بررت لأولئك المنظمين في تلك الحركات –كما يتحدثون ويعتقدون- استخدام وسائل العنف في مواجهة السياسات الظالمة (والمخالفة لأبسط مبادئ الحق والعدالة والقانون) التي تتبعها الدول (والقوى) العظمى ضدهم، والتي تستخدم (هي نفسها) الوسائل ذاتها وبطرق رسمية (مبررة دولياً!)، خفية حيناً وظاهرة أحياناً (خصوصاً بعد أن بدأت الولايات المتحدة بشن حربها الدولية على الإرهاب بعد أحداث 11سبتمر 2001م) فتكون القضية هي أن الإرهاب يحارب بعضه بعضاً على حساب المجتمعات المفقرة والمستضعفة..، نعم هناك تأثير كبير للعوامل السياسية والظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة في بلداننا لعبت دوراً حاسماً في ولادة وتغذية مواقع ومناخات العنف والعنف المضاد في مجتمعاتنا..، لكن لا يمكننا التعميم هنا، إذ أن اعتبار العنف عندنا بكليته –خصوصاً عنف الجماعات الإسلامية المتطرفة- وليد ظروف سياسية واقتصادية صعبة يعيشها هؤلاء المتطرفون، هو نصف الحقيقة، وهو يجانب الصواب، والدليل عليه أننا عندما نراجع أدبيات كثير من تيارات وجماعات الإسلام السياسي (السلفي السني تحديداً) نجد أن لديها تأصيلاً دينياً للعنف والإرهاب، تحصنه بنصوص وأحاديث دينية مقدسة، وتبرره وتعززه بسلوكيات وأفعال قادة وزعماء التاريخ الإسلامي. الأمر الذي يجعلنا نصل إلى نتيجة مفادها: أن عنف وإرهاب تلك الجماعات المتشددة هو عنف ابتدائي “أصيل”، وليس عنفاً طارئاً وناتجاً عن ضغط العوامل الاقتصادية أو السياسية..، وكمثال على ذلك نذكر من تاريخنا القديم الخوارج الذين عاثوا فساداً وقتلاً وتدميراً وإرهاباً في مجتمعهم الإسلامي الوليد، ووصل الأمر برئيس الدولة آنذاك (الخليفة الرابع) علي ابن أبي طالب أن قاتلهم وحاربهم وسحق تمردهم العنيف على الدولة والمجتمع.. ليس لاختلافهم معه في الرأي والفكر وهو ممن اعتاد لغة الحوار والمدارة والتواصل، وإنما لأنهم تحولوا إلى الجلافة والاستعلاء والعناد وركوب الرأس، فحولوا الخلاف مع علي –الذي عاملهم في البداية معاملة حسنة، وسمح لهم بالدعوة والاختلاف السلمي الحضاري معه في الرأي والتوجه طالما لم يبدؤوه بقتال- إلى قاعدة عنف وإرهاب ودمار ألحقت بالناس والمجتمع الدمار والويلات.
طبعاً لم يكن في ذلك الزمن القديم (قبل حوالي 1400 سنة) أي وجود إمبريالي أو صهيوني أو ماسوني أو..الخ، حتى يبرر عنف الخوارج بالضغوطات الدولية والسياسات الظالمة للدول المهيمنة الكبرى. بل كان هناك عنف يستند إلى مفهوم “الحاكمية”، ويعتمد على تطبيق مبدأ “الأمر بالمعروف ومقاومة المنكر” بالطريقة التي فهمها الخوارج. وانتقلت لاحقاً –مع بعض التعديلات- إلى كثير من الزعامات والتيارات الفكرية الدينية، فأدت إلى ما أدت إليه من فتن واضطرابات وانقسامات أصابت عالم الإسلام والمسلمين في صميم وجودهم المعنوي والمادي.. حتى وصلنا إلى عصورنا المتأخرة حيث فاجأتنا ظروف جديدة وتحولاتسياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية غير مسبوقة طرأت على العالم العربي من استعمار دولي واستبداد سياسي وفكري محلي، كان لهما بالغ الدور والتأثير في تركيز مقولة ومفاهيم وأساليب العنف والعنف المضاد في منطقتنا.
في مثل هذه الأجواء ولدت ونشأت الحالة الإسلامية الجديدة التي هي بصورة أو بأخرى امتداد لسابقاتها من الحركات والتيارات الأيديولوجية. حيث كان العنف فيه هو السمة الأساسية الغالبة على مناخ الولادة، وهو الممثل الوحيد لكل الحركات والملامح.
أي أن الأصولية الإسلامية انطلقت في أجواء ولادة المشروع الإسرائيلي وقيام دولته في المنطقة على قاعدة العنف والتشريد والإرهاب المدمر، واستخدام كل الأساليب الوحشية والهمجية ضد الشعب العربي الفلسطيني، لتكون هذه الدولة “دولة وظيفية” بامتياز.
وبالتالي فإن ما نراه أمامنا الآن -من عنف وعنف مضاد مستمرين منذ عقود طويلة- لا يمكن إرجاعه مطلقاً إلى الدين الإسلامي بالذات، بالرغم من وجود الكثير من العناصر المسلمة التي دعت إلى تبني خيار العنف، ومارسته، بل وتورطت -مع الآخرين- في تنفيذ سياسات وأعمال إرهابية بحق بعض المواقع المحلية والدولية كما ذكرنا في أمثلة سابقة.
ولذلك يمكن أن نقرر هنا بأن العنف حالة طارئة انطلقت في الواقع العام من حالة انفعالية موجودة في العالم كله (خصوصاً في العالم الثالث)، تمظهرت –في أحد أشكالها وتعابيرها- من خلال هذا التحدي القائم في مواجهة السياسات الاستعمارية الأميركية والإسرائيلية في المنطقة.
ونحن هنا حقيقةً لا نبرر ولا نحكم وإنما نصف ونعاين استشراء حالة العنف الدموي في منطقتنا العربية. وإذا كانت السياسات الغربية المنحازة تتحمل  المسؤولية عن تلك الحالة وهي فعلاً كذلك، فإن المسؤولية الأكبر تقع لا محالة على كاهل أهل الداخل من العلماء والسياسيين والمفكرين ومختلف التيارات والأحزاب..
من هنا نحن نعتبر أن اتهام الغرب للإسلام بأنه “دين التطرف والعنف”، ليس صحيحاً، وهو اتهام ينطوي على دعاوي مزيفة، والغرب ليس صادقاً على الإطلاق في رفضه لمسألة العنف. لأنه يرفض العنف الذي يقف في وجه تحقيق مصالحه وسياساته الإستراتيجية، ولا يرفض أبداً العنف إذا كان موجهاً ضد خصومه ومناوئيه، بل يدعمه ويوظفه لصالحه.. وهذا ما عشناه ولاحظناه سابقاً في دعم أميركا المطلق للمجاهدين الأفغان في حربهم ضد الوجود الشيوعي (السوفييتي السابق) في أفغانستان، مع أنها كانت حركة إسلامية متعصبة، تمثل عنفاً بالغاً وشديداً. ولكنها سرعان ما انقلب السحر على الساحر، وأصبح حلفاء الأمس أعداء اليوم عندما نال أمريكا ما نالها من عنفهم وإرهابهم الدامي في كل من منهاتن وواشنطن.
ولكننا في كل تلك المناخات السلبية السائدة والمهيمنة علينا، نسأل كيف يجب أن نتعامل مع هذه الأحداث والوقائع الجديدة، وفي كل يوم هناك جديد؟ وماذا ينبغي علينا فعله من أجل مستقبل أوطاننا وشعوبنا المستضعفة والمفقرة التي تعاني من التعصب والتطرف والتخلف الفكري والاقتصادي؟ وكيف نستفيد من كل هذه التطورات العلمية والتقنية لصالح تجديد خطابنا الفكري الموجه لنا وللآخرين؟ وبأية لغة عملية ندعو ونتحاور، بلغة الأقدمين الذين عاشوا في السابق وكانت لهم أعمالهم وممارساتهم وكسبهم الفكري والعملي؟ أم بلغتنا الحاضرة، لغة التواصل والتعارف والحوار وتثبيت قيم الإنسانية الأصيلة، حيث أن الديانات هي في الأصل –أو هكذا يجب أن نفهمها ونؤولها- دعوات للسير على طريق المبادئ والرؤى الإنسانية من حرية وعدل ومحبة وتسامح؟!..
© منبر الحرية ، 15 ماي /أيار2010

نبيل علي صالح21 نوفمبر، 20100

الجزء الأول
لا تزال وثائر الضجة القوية المثارة حول واقع الحركة الإسلامية –في طبيعة مضمونها الفكري والتاريخي وأسلوبها الحركي ومفاهيمها السياسية المختلفة- تتصاعد في أكثر من موقع ثقافي واجتماعي وسياسي يتحرك هنا وهناك، في ما يثار حالياً من حديث واسع ومتواصل في العالم كله عن التطرف والتعصب والعنف والإرهاب الذي أصبح –على ما يظهر في مختلف الدوائر السياسية ووسائل الإعلام الغربية- سمة لازمة لهذه الحركة في محتواها الفكري، وآليات عملها الحركية المتعددة في سياق الحياة العامة وعلى المستويين الداخلي والخارجي..
ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أن هذا الجدل الإعلامي عن الإسلام (المتطرف) لا يتوافق أبداً مع ما عرف عن طبيعة الإسلام المعتدل في ذاته، في انفتاحه، وتسامحه، ومرونته، وإيمانه بالحوار الهادئ العقلاني والمتوازن.. نعم توجد هناك كثير من الحركات والنخب الإسلامية التي سبق لها أن ارتكبت بعض الأعمال اللاإنسانية المنافية لأبسط قواعد ومبادئ الأخلاق عن طريق أفراد مسلمين منظمين (وموظفين) سياسياً لديها، مما قد يسيء إلى تلك الصورة الناصعة عن واقعية الإسلام المعتدل، ويساهم في تثبيت الصورة المشوهة والمعروفة عن المسلم لدى الشعوب والحضارات الأخرى، ولكن ذلك ليس قاعدة عامة يمكن أن يؤسس عليها في ما يتعلق بتكوين صورة جلية عن حقيقة وجوهر الدين الإسلامي كرسالة إنسانية، محورها الإنسان (العادل مع ذاته ومع الآخرين انطلاقاً من إيمانه بالله كقاعدة روحية وإيمانية).
وحتى تكتمل الصورة هنا لا مناص من الإشارة إلى أن كثيراً من تيارات الإسلام السياسي، أو ما عرف بـ”تيارات الصحوة الإسلامية” سبق أن تعرضت (ويتعرض قسم منها حالياً) إلى قمع سياسي وأمني كبير من قبل كثير من حكومات ونظم المنطقة العربية والإسلامية أكثر مما تعرضوا له وواجهوه في بلاد الغرب (الكافر!!؟=كما يقولون) الذي فروا إليه للتنعم بمناخات الحرية الكاملة عنده هرباً من الضغوطات والملاحقات والتشريد والقتل، حيث وصل هذا العنف الدموي حد شن حروب إلغاء واجتياح بلدان بأكملها تحت مسمى مكافحة “الإرهاب الأصولي الإسلامي”، والقضاء على بذور “التطرف الدينية”، الأمر الذي استدعى من تلك التيارات ردود أفعال تدميرية فانطلقت لتكفر مجتمعاتها وحكوماتها ولتعلن الجهاد ضد بلدانها، فدخلنا في دوامة لا منتهية من العنف والعنف المضاد، ومن الصراعات والانقسامات الفكرية والاجتماعية والسياسية، وبدل من أن تتجه بلداننا نحو الاهتمام بقضايا التطوير الاقتصادي والإصلاح السياسي والتنمية البشرية للنهوض بواقع الإنسان والمجتمعات العربية والإسلامية (التي هي أحوج ما تكون للنهوض والبناء والإصلاح العقلي والفكري) انحرفت النخب والسلطات السياسية باتجاه الصدام والمواجهة، وصبت كامل جهودها وطاقاتها في سبيل القضاء على ما تطلق عليه “التطرف والإرهاب الأصولي”، الذي كان العنوان الظاهر لمحاربة وسحق كل أنواع المعارضات السياسية والفكرية الأخرى من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وهانحن الآن جميعاً نتحرك في أتون شبه حروب أهلية وانقسامات داخلية عربية-عربية بعضها معلن وبعضها الآخر مخفي كالنار تحت الرماد ينتظر شرارة التفجر الأولى.
طبعاً أنا أميل هنا إلى جانب الحسم الإيجابي المباشر في رفضي لصورة الإسلام العنيف والمتطرف التي يحاول الكثيرون إبرازها وتعميمها حالياً في أصقاع العالم كله، وأعتقد أنه بإمكاننا وعي وفهم الإسلام من داخله كدين قادر على تحريض أجمل ما في المسلمين من طاقات إبداعية، وتحشيد طاقات الناس عندنا في طريق الإصلاح والتنمية البشرية والمجتمعية، وذلك عبر التجديد والإصلاح العقلي في بنية الدين الفكرية والمفاهيمية، لأننا مهما حاولنا القول باستحالة الجمع بين الدين والحياة أو بين الدين والواقع العملي للناس فإننا سنبقى بنلف وندور في حلقة مفرغة، وسنظل في حالة من الجدل والسجال الفكري العقيم غير المنتج، ونحن هنا لا نقصد تديين الحياة والسياسة والواقع، بل إننا نصر على علمنة الدولة والنظام السياسي وعدم تدخل الدين أو اشتغاله في آليات الحكم السياسي، ونصر أكثر على ما أسميناه في بعض دراساتنا بـ”العلمنة المؤمنة” –إذا صح التعبير، أي عدم رفض الدين من جهة، وعدم السماح للمتدينين بالسيطرة على السياسة والواقع من جهة أخرى. فمن حق رجل الدين أن يمارس السياسة من موقعه كمواطن حر ومسؤول تجاه وطنه ومجتمعه وأمته، وليس من موقعه كداعية أو كرجل دين يعتقد بأفكار ومعارف مقدسة فوق الواقع والحياة. أما أن يفرض رجل الدين رأيه وقناعاته الدينية المقدسة على غيره من أفراد المجتمع، أو أن يمارس المتدين السياسة من موقع المقدس، فذلك أمر مرفوض بالمطلق، لأن السياسة اشتغال بالنسبوي المتغير، والدين حالة راقية من المقدس الروحي، فليس للسياسة شأن به لأن ساحتها الحياة المتغيرة، وهي عبارة عن مجموعة من آليات العمل والمنافذ العملية التي يسمح بها القانون لخدمة الناس وتلبية احتياجاتهم ومحاولة حل مشاكلهم، والفضاء الاجتماعي المدني (ذي المنشأ العلماني) مفتوح على مصراعيه، ومناخ الحرية يسمح للجميع بأن يعبروا عن طروحاتهم وأفكارهم بما لا يتعارض مع مصالح الناس وطموحاتها في البناء العقلي والعلمي وتأمين متطلباتها الوجودية الأساسية. نعم يمكن للدين أن يمارس دوراً توجيهياً وترشيدياً ومعنوياً من خلال القيم والأخلاق العليا ذات المنشأ الديني. أما أن يتدخل الدين بالسياسة فذلك تدنيس لعظمة الدين، وقتل لمنطق السياسة باعتبارها مساومات وتجادلات وصراعات ومساجلات تداخلها اشتراطات نسبية وفنون حكم أرضية وقيم نسبوية وغايات ومقاصد نفعية.
واستكمالاً لما تقدم أطرح بعض الأسئلة الهامة والضرورية التي تتصل بصلب الموضوع، مدار البحث والتحليل: هل يمثل الطرح الإسلامي حالة تطرف وإرهاب أم حالة اعتدال وسلام؟!. أي هل يمكن أن يقبل الدين الإسلامي –وهو دين التسامح والعقل- باستخدام وسائل وأدوات الضغط والقوة من عنف وإرهاب ضد المدنيين والأبرياء، وضد قيم الإنسانية التي هي نفسها قيم الأديان السماوية كلها؟!. أم أن التأويلات الإسلامية –وغير الإسلامية- للنصوص التاريخية هي التي تقدم لنا الإسلام بهذه الصور النمطية المشوهة والمنحرفة؟!. ثم ما هو المقياس الموجود حالياً لدى النخب السياسية والثقافية في توصيفها للإسلام بصفة التطرف أو صفة الاعتدال؟!. هل هي الظروف والوقائع الراهنة المحاصرة في حسابات الواقع الزمنية، أو هي المتغيرات والتحولات المتسارعة في آفاق المستقبل والغيب؟!..
لاشك بأن العرب يعيشون في العصر الراهن –وفي كثير من مواقعهم ومحاور امتداداتهم- وضعاً صعباً لا يحسدون عليه أبداً كما ذكرنا آنفاً والواضح هنا أنه -وبغض النظر عن هذا الضغط ولغة التآمر السياسي والاقتصادي والإعلامي الدولي اليومي على بلاد الإسلام والمسلمين، والتي تعمل ليلاً ونهاراً على إملاء شروطها، وفرض هيمنتها وتحكمها بثروات وموارد العالم الإسلامي الهائلة، وتوصيف هذا الدين توصيفاً سلبياً من خلال اعتباره دين الإرهاب والتطرف والعنف- أقول: أنه بغض النظر عن ذلك كله، لا يمكن للعرب والمسلمين أن يتهربوا من تحمل المسؤولية الأكبر عن ذلك، إذ أن كثيراً من مفكرينا وعلمائنا وسياسيينا ساهموا بفعالية في إعطاء الآخرين تلك الصورة السوداوية عنا، بل وثبتوها بقوة داخل أذهانهم ومدركاتهم.
-صحيح أن الإسلام لا يرى أن العنف هو الأسلوب الأوحد للصراع في خط التحدي ورد التحدي، بل يطرح –بدلاً عنه- أسلوب الحوار والرفق والتسامح باعتبار ذلك هو القاعدة والأصل في مواجهة المشاكل في اتجاه الحل، من خلال الآية: “ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة..”.
وصحيح أيضاً أن الإسلام يعتبر أن الأسلوب العملي الأنجح والأكثر فعالية ومصداقية في العمل السياسي هو الأسلوب الذي ننفتح من خلاله –بوعي وإدراك وصدق- على الآخرين، لنحول حتى الأعداء إلى أصدقاء، وذلك من خلال الآية: “ولا تستوي الحسنة والسيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم”.
-وصحيح أن الإسلام –كفكر أيديولوجي- يطرح مشروعه الثقافي والسياسي بالوسائل الحضارية الإنسانية السلمية في مواجهة الطروحات والمشاريع الفكرية والسياسية الأخرى، من دون أن يجد لنفسه في ذلك أي بادرة تطرف في الشكل والمضمون (ومن دون أن يكون بحاجة له طالما أن المناخ سلمي وعقلاني وهادئ وآمن ومستقر)، ويرى أن حريته (كمشروع حضاري يمارس عملية الدعوة والتبليغ) هي جزء من حرية الآخرين المطلوبة لهم والضرورية لإنعاش واقع مجتمعاتهم وأوطانهم.
-وصحيح أيضاً أن الإسلام يعمل (من خلال تربية الفرد المسلم) على تأصيل الاستقلال في نطاق الشخصية الإسلامية الواعية في حياة الأمة، وتربية المسلمين جميعاً على أساس مبادئ وقيم الإسلام النقي والصافي في فكره وروحه وحركته، بحيث تبرز التمايزات والفواصل الروحية والعملية بين الإسلام وبين التيارات والقوى الأخرى.
إن كل ذلك صحيح، ولكن الواقع السياسي الإقليمي والدولي الموضوعي فرض نفسه بقوة -من خلال معادلاته وتنوعاته وضغوطاته- أمام الواقع الداخلي الذي تعيش فيه الحركة الإسلامية وباقي تيارات وقوى الأمة الأخرى من اليمين واليسار، ليكون موقع هذه الحركة مواجهاً تماماً لكل الدول والمشاريع والمحاور السياسية والاقتصادية في العالم التي تعمل باستمرار على تشويه صورة هذه الحركة في وجدان الرأي العام الإسلامي من جهة، والرأي العام الدولي من جهة ثانية، وذلك عبر التركيز الدائم على المفردات السلبية داخل مواقع الحركة الإسلامية، وهي مفردات ووقائع صحيحة في الأغلب، ولم تمارس تلك الحركات الأيديولوجية –وعلى رأسها الحركات الإسلامية- أي نقد موضوعي مهم ونوعي بشأنها إلا فيما ندر، مما جعل المواقع الفكرية والسياسية الكبرى في العالم تستفيد من تلك النقائص والثغرات القائمة والموجودة أصلاً لتثير أجواء العاطفة الإنسانية المضادة كجزء من الحرب الدولية المفروضة أصلاً على الإسلام.
© منبر الحرية ، 13 ماي /أيار2010

نبيل علي صالح21 نوفمبر، 20100

يؤكد الإسلاميون –في كل نتاجاتهم الفكرية- على أن الدين الإسلامي يقدم نفسه للناس جميعاً –وعلى اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم– على أساس أنه مشروع تغييري حضاري وإنساني كبير، ينطلق من موقع الثقافة والفكر ليصل إلى مواقع السياسة والاجتماع والاقتصاد. أي أنه يمتد –في سياق رؤيته الشاملة– بامتداد الوجود الإنساني في الحاضر والمستقبل على المستويين الحضاري والجغرافي.
ويحاول أتباع هذا المنهج الفكري التغييري، إبراز دور هذا الدين في الحياة من حيث كونه دعوة عالمية لبناء الحياة والوجود على قيم العدل والحق والمبادئ الإنسانية الفاضلة الأخرى..
لكننا، وبغض النظر عن طبيعة تلك الأفكار التي تسيطر عليها نزعة رومانسية حالمة بعيدة عن الواقع البشري النسبي المتغير، كباقي الأفكار الأيديولوجية التي مرت علينا وحكمت مجتمعاتنا، نعتقد أنه يجب على رموز وعلماء ومفكري هذا الدين –باعتبار أنه رسالة إنسانية قبل أي شيء آخر- سلوك طريقين رئيسيين:
الأول: الانخراط الميداني في الحياة والواقع، والانف
تاح على الفكر الآخر والتواصل والاحتكاك مع باقي الحضارات والمذاهب المؤيدة له، أو المناقضة لطروحاته. أي السير عملياً وليس نظرياً فقط على طريق الانفتاح على قيم العصر وأخلاقه العملية المتغيرة.
والثاني: طريق التجديد والاجتهاد الديني واعتماد طريق العلم والعقل كأساس للنهوض والتعمير والبناء، لأن ذلك هو الذي يحقق لهذا الدين امتداداً ووجوداً واستمرارية في ساحة الوجود والمنافسة الحضارية السلمية الشاملة..
وقد يتحدث البعض عن وجود صعوبات ميدانية عديدة يمكن أن تقف حائلاً أمام تحقيق تلك الأهداف الكبرى، ولكننا نعتبر -من جانبنا- أنه بمقدورنا تنفيذ كثير من تلك الطموحات والمشاريع المستقبلية المنشودة على المستوى السابق بالرغم من تراكم كثير من الضغوطات والعقد والعراقيل هنا وهناك، وبالرغم من حالة التخلف المركب الذي نعترف بوجوده، والمتمثل في الأمور التالية:
أ‌-                  أزمة الهوية:
لا جدال في أن المشروعية الحضارية والثقافية للأمة ترتكز على قاعدة الدين الإسلامي، وبهذه الخلفية الفكرية استطاعت هذه الأمة أن تنجز استقلالها وتتحرر من الاستعباد والاستعمار. فالعرب والمسلمون قاوموا جميعاً كل أنواع الاستعمار تحت راية الإسلام، وحتى الحركات الوطنية الاستقلالية العلمانية كانت ترفع رايات الجهاد والإسلام، والتي مكنتها من حشد التأييد والدعم والأنصار لها بين صفوف مجتمعاتها.
لكن دراسة وتحليل واقع تلك المجتمعات حالياً، وانفتاح أنظمتها التحديثية على حداثة القشور الغربية لم يعوض الأمة –كما يقول دعاة الفكر الإسلامي- عن هويتها الأصلية الحقيقية المتمثلة في وجود هذا الدين (الإسلام). فالمد الوطني والقومي لم يسهما أبداً في بلورة هوية واضحة، لأنه كان دائماً مشروعاً توليفياً وتلفيقياً جمع المتناقضات في بوتقة واحدة.
ب‌-              التخلف المجتمعي العام:
وهو ما يمكن ملاحظته والوقوف أمامه من خلال مراجعة مجمل الأفكار والمذاهب والتيارات الفكرية التي كانت سائدة (وربما لا يزال بعضها قائماً حتى الآن) والتي فشلت –بحسب الإسلاميين- في إيصال المجتمعات العربية والإسلامية إلى مواقع وأعتاب الحداثة الحقيقية، بل إن ما حدث –من تطورات وجهود تنموية– اقتصر على مجموعة تغييرات شكلية غيرت مواقع السطح، ولم تصل إلى أعماق المجتمع.
ت‌-              غياب وتغييب الرؤى الاستراتيجية للمستقبل:
وهذا ما نلاحظه من خلال عدم وجود رؤية علمية وموضوعية للغد لدى معظم القوى والنخب الفكرية والسياسية الحاكمة. وتتمظهر هذه الحالة عملياً من خلال انعدام الوعي والرؤية الواقعية للمستقبل.
وقد وجدنا أن تلك النخب كانت عاجزة عن فهم وإدراك حجم الأحداث والتحولات المتسارعة التي ضربت العالم كله بعد مرحلة الحرب الباردة. فكانت قراءتها متسرعة ومرتبكة وغير واضحة، وبخاصة في المجال الاقتصادي، حيث نرى أمامنا الآن أن الدين الخارجي للدول العربية يقدر بحوالي (350) مليار دولار أميركي، كما تبلغ فائدة هذا الدين سنوياً أكثر من (22) مليار دولار. ولذلك لا عجب أن تتسع دوائر الفقر والمعاناة والحرمان واليأس في مجتمعاتنا كلها. خصوصاً بعد حدوث أزمة الأسواق المالية الدولية وتأثر كل القطاعات الأخرى المرتبطة معها بصورة سلبية للغاية.
ث‌-              التعصب والانغلاق:
تعاني مجتمعاتنا العربية والإسلامية من هيمنة أفكار وطروحات انغلاقية قديمة موروثة من عهود التخلف الفكري والسياسي، وهي لا تزال حاضرة بقوة حتى الآن، حيث نجد أنه لا يزال ممنوعاً على الكتاب والمفكرين المتنورين معالجة تلك الأفكار التراثية ونقدها أو إعادة هضمها وتمثلها بصورة إيجابية، وكأن الانغلاق والتعصب يعطي الفكر قوةً وتجذّراً في ساحة المواجهة الحضارية، في الوقت الذي يحتاج العام إلى من يوسع رقعة النقد للأفكار والمفاهيم، ويرسخ مبدأ الانفتاح على الآخر.
وفي هذا المجال، تشكل القضية الأخيرة (قضية انفتاح الفكر الإسلامي على الحياة والعصر، وتواصله معهما) ضرورة ذاتية وموضوعية في آن معاً، باعتبار أن هناك وجوداً كمياً ونوعياً هائلاً لمجموعة من المعطيات والمضامين الفكرية الذاتية الخاصة بالدين الإسلامي نفسه، لا يمكنها أن تنمو وتتصاعد من دون تفاعلها المتوازن مع الآخر، وفهمها له، وانفتاحها عليه، من موقع ذاتية الانتماء، وعمومية المعنى والهدف، وليس من موقع موضوعية التحدي والاستجابة فحسب..
ضمن هذا الإطار، من الطبيعي أن تظهر أمام هذا المشروع الثقافي كثير من المشكلات الجديدة، والقضايا العصرية الراهنة والمستقبلية، والتي تتمثل في كيفية إيجاد سبل التخاطب والتواصل مع ثقافة الآخر الذي بات يفرض نفسه علينا الآن من خلال ثوراته العلمية والمعلوماتية والتكنولوجية الحديثة (مجتمعات الثورة المعلوماتية) التي عممت ذاتها الثقافية والحضارية على مستوى العالم، وعلى حساب باقي ثقافاته، وخصوصاً الثقافة والحضارة الإسلامية، بما أدى إلى تهميشها، وجعلها عديمة الفاعلية والجدوى في العمق والامتداد. الأمر الذي يتطلب من المشروع الثقافي الإسلامي لهذه الحضارة استيعاب الواقع الموضوعي الجديد المرتبط بعنصري الزمان والمكان، وإبداع القواعد النصية الخاصة به، خصوصاً وأن هناك تأثيرات عملية سلبية لا بد أن تنجم عن تلك الثورات، في ما يتعلق بآليات التنميط الثقافي والحضاري القسري أحياناً التي يستخدمها الآخر في عمله الدائم على تعميم نموذجه الحضاري على الثقافات الحية الأخرى.
من هنا نحن نعتقد أن التحديات الأساسية الحاضرة التي تواجه الفكر الإسلامي المعاصر -على مستوى دوره النوعي الكبير المتمثل في عمله الدائم على قضايا بناء الذات المسلمة- تنحصر في ثلاثة مظاهر حضارية روحية ومادية، هي العولمة، والهويات الثقافية، ومجتمع الثورة المعلوماتية..
ولذلك فإنه من الضروري جداً بالنسبة للفكر الإسلامي المعاصر الوعي بهذه الوقائع الجديدة، ودراستها، وتحليلها، واتخاذ المواقف الفعالة بشأنها، على اعتبار أن هناك ظروفاً مستجدة مختلفة تحكم تلك الوقائع، وتؤثر في صياغة المشهد الثقافي المستقبلي برمته على مستوى ضرورة نقد هذا الفكر وتقييمه وطرح رؤى وأفكار جديدة ترتب أولوياته وخطوط عمله في المدى الزمني القريب والبعيد، بحيث ذلك يؤدي إلى إعادة التأسيس الجديد لمشروع النهضة العربي والإسلامي.
© منبر الحرية ، 10 ماي /أيار2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018