علم الاقتصاد و التجارة الحرة

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

لأول مرة منذ 37 سنة، لم أُعلِّمْ خلال فصل الخريف الماضي. لا، إنني لم أتقاعد. لقد مُنحتُ إجازة تقديراً لخدمتي لدورتين اثنتين كرئيس للدائرة في جامعة جورج ميسن. الإجازة مُستحقة بعد الرئاسة—وهي وظيفة شبيهة برعاية القطط.
خلال فصول الخريف، فإنني، كمُخطَّط مُتَّبعْ، أُدرِّسُ تلامذة السنة الأولى لدرجة الدكتوراة في موضوع الاقتصاد الجزئي. ومدفوعاً من محبتي للتعليم، فقد قررت أن لا أترك العمل كلياً، بل إعطاء بضع محاضرات حول مبادئ الاقتصاد الأساسية للقرّاء. ولنسمي هذه المجموعة من المحاضرات “علم الاقتصاد للمواطن”.
أول درس في النظرية الاقتصادية هي أننا نعيش في عالم شُحِّ الموارد. الشح هو الحالة التي تتجاوز فيها متطلبات الإنسان الوسائل لتوفيرها لمن يرغب فيها. الرغبات والمتطلبات للإنسان يُفترضُ أن لا تكون محدودة، أو على الأقل، فإنها في كثير من الأحيان، لا تكشف النقاب عن محدوديتها. الناس دائماً يرغبون في الحصول على المزيد من أي شيء، سواء كانت سيارات أكثر، أو أكلاً، أو حُباً أو سعادة، أو سِلماً أو عناية صحية، أو هواءً أنقى، أو عطاءً خيرياً أكبر. إن قدراتنا ومواردنا لتلبية جميع رغبات الإنسان هي محدودة بالفعل. هنالك فقط كميات محدودة من الأرض والحديد والعمال وسنوات العمر.
القلة (الندرة) تسبب عدة مشاكل اقتصادية: ماذا يجب أن يُنتَج، ومن الذي سيحصل على ما يُنتَج، وكيف السبيل للإنتاج، ومتى يجب أن يُنتَج؟ على سبيل المثال، كثير من الأمريكيين، والأجانب أيضاً، يحبون أن يكون لهم منزل للسكن أو للإجازات، على امتداد الألف ميل من سواحل كاليفورنيا وأوريغون وواشنطن. وترغب شركات النقل البحري في استخدام جزءٍ من هذا الساحل كموانئ، ووزارة الدفاع الأمريكية تود استخدامها كمنشآت عسكرية. بكل بساطة، لا يوجد على الساحل ما يكفي لتلبية الرغبات والاستخدامات المنافسة. هذا يعني أنه يوجد نزاع حول ملكية الشواطئ واستخداماتها. لو كانت رغبات الإنسان محدودة، ولو كانت الموارد اللازمة لتلبيتها غير محدودة، لما كانت هنالك مشكلة اقتصادية، ولما نشأ نزاع.
وكلما كان هنالك نزاع، وَجَبَ إيجاد الوسائل اللازمة لحله. هنالك عدة طرائق لحل النزاع. أولاً، هنالك آلية السوق. وفي المثل الذي أوردته حول استخدامات الأراضي، فإن من يدفع السعر الأعلى هو الذي سوف يملك الأرض، ويقرر كيفية استخداماتها. ثم هنالك مراسيم الحكومة، التي تفرض من له الحق في استخدام الأرض، ولأي هدف. العطايا قد تكون الوسيلة، والتي يقرر بموجبها المالك عشوائياً لمن يعطي أرضه. وأخيراً، العنف، وهو وسيلة لحل مسألة من له حق استغلال السواحل—دعوا الناس يتسلحون ويقتتلون لتقرير ذلك.
في هذا المنعطف، قد يقول البعض، من منطلق إيماني أخلاقي: “العنف ليس الوسيلة لحل النزاع بأي شكل من الأشكال!”، وقد يكون ذلك مقبولاً. بيد أن القرار حول من له حق استعمال معظم سطح الأرض كان قد تقرر من خلال العنف (الحروب). حقي في الدخل الذي أكسبه يتقرر جزئياً من خلال التهديد بالعنف، وأعني بذلك حكومتنا، التي، ومن خلال القوانين الضرائبية، تقرر بأن المزارعين، والقطاعات الاقتصادية، والفقراء، لهم حقوق في دخلي. وفي الحقيقة، فإن العنف هو من الفعالية في حل النزاعات، بحيث أن معظم الحكومات ترغب في الاستئثار باستخدامه حصراً.
ما هي أفضل الطرق لحل النزاعات الناشئة عن مسألة ماذا يجب أن يُنتج، كيف ومتى ينتج، ومن هو الذي سيحصل عليه؟ هل هي آلية السوق، القوانين الحكومية، العطايا، أم العنف؟
الجواب هو أن النظرية الاقتصادية لا تستطيع الإجابة على مسألة تقييمية. المسائل التقييمية هي التي تتعامل مع ما هو أفضل وما هو أسوأ. لا توجد نظرية تستطيع الإجابة على مسائل تتعلق بما هو أفضل وما هو أسوأ. حاول أن تسأل أستاذ الفيزياء: ما هي الحالة الأفضل أو الأسوأ: الغاز المجمد، الغاز السائل أو حالة البلازما؟ إنه، على الأغلب، سوف ينظر إليك وكأنك معتوه؛ إنه سؤال سخيف لا معنى له. ومن ناحية أخرى، إذا سألت أستاذ الفيزياء ما هي أرخص وسيلة لدقِّ مسمار في لوحة، فإنه ربما يجيب بأنه الحالة الصلبة. إنها الحالة ذاتها بالنسبة للنظرية الاقتصادية. ونعني بذلك، أنه لو سألت معظم الاقتصاديين أية وسيلة لحل الخلافات ينتج عنها الخير والرخاء الأعظم، فإنهم، على الغالب سوف يجيبون بأن تلك الوسيلة هي آلية السوق.
جوهر الموضوع هو أن النظرية الاقتصادية موضوعية وغير تقييمية، ولا تستطيع أن تعطي أحكاماً تقييمية. النظرية الاقتصادية تعالج ما كان، وما هو الآن، وماذا سوف يصبح، وعلى النقيض من ذلك، فإن المسائل المتعلقة بالسياسة الاقتصادية هي تقييمية وغير موضوعية، وتعطي إجابات تقييمية—أسئلة مثل: هل يتوجب أن نحارب البطالة أم التضخم؟ هل يجب أن ننفق أموالاً أكثر على التعليم؟ وهل يجب أن تكون ضريبة الأرباح 15 أو 20%؟
قال أحدهم يوماً أنه لو جمعنا جميع علماء الاقتصاد في العالم وصففناهم جنباً إلى جنب، فإنهم لن يستطيعوا أبداً التوصل إلى نتيجة موحدة. علماء الاقتصاد هم مثل سائر الناس، وبالتالي فإن لهم آراء وقيم. وبذا، فإن معظم الخلافات بين رجال الاقتصاد تنبثق من الأحكام التقييمية. وخلافاً لذلك، هنالك اتفاق واسع حول جوهر النظرية.
الحقائق والمستويات
من المهم الفصل بين الأحكام غير التقييمية والأحكام التقييمية، لذا دعوني أتوسع. خذوا القول الآتي “إن أبعاد هذه الغرفة هي 30×40 قدماً”. هذا قول موضوعي. لماذا؟ لأنه لو كان هنالك أي اختلاف، فهناك حقائق تجريبية ومقاييس متفق عليها بشكل عام يمكن اللجوء إليهما لحل الخلاف، ونعني بذلك إخراج مسطرة قياس. قارن ذلك القول بالقول التالي: “كان يجب أن تكون مقاييس الغرفة 20×80 قدماً”. ولنقل أن شخصاً آخر اختلف وقال إن المقاييس يجب أن تكون 50×50 قدماً. ليست هنالك حقائق أو مقاييس متفق عليها لحل مثل هذا الخلاف. كذلك الحال، فلا توجد حقائق أو مقاييس يمكن اللجوء إليها لحل الخلاف حول ما إذا كان يتوجب أن تكون ضريبة الأرباح 15 إلى 20%، أو أن من الأفضل مكافحة التضخم أو البطالة.
الأهمية في معرفة ما إذا كان بياناً يعتبر موضوعياً أو تقييمياً هو أنه في الحالة الأولى هنالك حقائق لفض الخلاف، ولكن لا توجد مثل هذه الحقائق في الثانية، إنها مسألة رأي ليس إلا، ورأي إنسانٍ هو جيد مثل رأي إنسان آخر. وكإشارة لمعرفة ما إذا كان البيان تقييمياً هي لدى استخدام كلمات فيه مثل: “يجب” و”يتوجب”.
في مطلع كل فصل من فصول التعليم، فإنني أقول لتلامذتي بأن موضوع النظرية الاقتصادية سوف يعالج النظرية الاقتصادية الموضوعية وغير التقييمية. كما أنني أقول لهم بأنهم إذا سمعوني أتحدث عن بيان تقييمي دون أن أكون قد بدأت بالملاحظة بـ”أنه في رأيي”، فيجب عليهم في تلك الحالة أن يرفعوا أيديهم وأن يقولوا “بروفيسور وليامز: نحن لم نقرر أخذ هذا الدرس لكي تعبئ عقولنا بآرائك الشخصية وأن تُسمي تلك الآراء نظرية اقتصادية. مثل ذلك هو [تزييف أكاديمي]”. كما أنني أبلغهم بأنه في اللحظة التي يسمعونني أقول “في رأيي”، فإن عليهم التوقف عن كتابة الملاحظات لأن آرائي ليست ذات علاقة بموضوع الفصل ألا وهو—النظرية الاقتصادية.
وإنني أختم هذا الجزء من المحاضرة بإبلاغ تلامذتي بأنني لا أعني أن أطلب منهم تطهير مفردات لغتهم من الكلمات التقييمية الذاتية. مثل تلك الآراء أدوات مفيدة لخداع الآخرين، ولكن في عمل ذلك يجب أن لا يخدع الإنسان نفسه. تقول لوالدك بأنك في حاجة قصوى لاقتناء تلفون متنقل وأنه يجب أن يبتاعه لك. لا يوجد هنالك أي إثبات بأنك تحتاج بالفعل إلى تلفون متنقل. ذلك أن جورج واشنطن استطاع أن يقود أمتنا لهزيمة بريطانيا، أقوى قوة على الأرض في ذلك الزمان، دون أن يملك تلفوناً متنقلاً.
أنا شخصياً أعتقد بأن الاقتصاد موضوع مثير وذو قيمة. علم الاقتصاد، أكثر من أي شيء آخر، هو أسلوب في التفكير. الناس الذين وجدوا موضوع علم الاقتصاد في دراستهم الجامعية حلماً مزعجاً هم ببساطة لم يكن لهم أستاذ اقتصاد جيد. لقد أصبحت بروفيسوراً جيداً نتيجة وجود أساتذة مثابرين خلال دراستي المتقدمة في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجيلس. البروفسور آرمن ألكيان، وهو أستاذ اقتصاد متميز، كان يعطينا وقتاً صعباً في الصف. ولكن، في يوم من الأيام، كنا في حديث ودّي خلال اجتماعات دائرتنا الأسبوعية بين الطلبة والأساتذة، عندما قال لي: “وليامز، المقياس الصحيح لمعرفة ما إذا كان تلميذ قد استوعب موضوعه هو قدرته على شرحه لشخص آخر لا يعرف أي شيء عن الموضوع”.
هذا هو التحدي الذي أُحب: جعل درس الاقتصاد محبباً ومفهوماً.
البحث القادم في سلسلة “علم الاقتصاد للمواطن” سوف يكون أكثر إثارة. وسوف أتحدث عن أنواع السلوك التي يمكن تسميتها بالسلوك الاقتصادي.
هذا المقال بالتنسيق مع مجلة فريمان (أيار 2005).
© معهد كيتو، منبر الحرية، 14 كانون الأول 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

المقدمـة

منذ أربعين سنة الآن عرّف البروفيسور هايك بطريقة حاسمة الفهم الخاطىء الأساسي المتعلق باقتصاد الرفاه السائد. هذا الفهم الخاطئ، كما جادل هايك، كان مسؤولا عن الإخفاق في تقدير النقد لإمكانية التخطيط المركزي المستند إلى النظريات الاقتصادية العقلانية—وهو النقد الذي عبّر عنه بقوة ووضوح ميزس، والذي طوره أيضا هايك نفسه. وببساطة، وكما برهن البروفيسور لافوي (1985)، إن المضمون الحقيقي لدرس هايك وأهميته لم يتم استيعابهما من قبل اقتصاديي الرفاه الذين كتبوا حول جدال النظريات الاقتصادية الاشتراكية، بالرغم من أنه تم الإشارة إلى عمل هايك على نطاق واسع.
نحاول في هذا البحث أن نكرر عرض هايك ونطبق مفهومه فيما يتعلق بمشكلة المعرفة وتداعياتها بالنسبة إلى التخطيط الاقتصادي المركزي سواء كان شاملاً أو غير ذلك. وسنستشهد في الفقرات القادمة بصياغة هايك لمفهومه الخاص ونقدم بعض الملاحظات الخاصة به. في الأجزاء اللاحقة من هذا البحث سنبدأ من نقطة انطلاق مختلفة تماماً وبالتالي نصل إلى إعادة صياغة وتطبيق موقف هايك—بيان بعض الأبعاد الراديكالية نوعا ما لإعادة صياغتنا.
طبقاً لهايك (1945: 77-78):
يتم تحديد السمة الخاصة لمشكلة النظام الاقتصادي المستند إلى العقلانية بشكل دقيق من خلال حقيقة مفادها أن المعرفة المتعلقة بالظروف الواجب علينا استخدامها لا توجد أبدا في شكل متكامل أو مركز وإنما فقط كأجزاء متناثرة من المعرفة غير الكاملة والمتناقضة غالبا، والتي يمتلكها كل الأفراد على حدة. وبناءً على ذلك، فالمشكلة الاقتصادية للمجتمع لا تتمثل فقط في كيفية توزيع موارد معينة—إذا كان يقصد بـ”المعينة” أن تكون معطاة إلى فكر منفرد يقوم عمدا بحل المشكلة الناجمة عن هذه “المعطيات”—إنها مشكلة كيفية تأمين أفضل استخدام للموارد معروف لأي عضو في المجتمع، لغايات لا يعرف أهميتها النسبية إلا هؤلاء الأفراد. أو باختصار، إنها مشكلة الانتفاع من المعرفة التي لا تعطى لأي شخص بشكل كامل.
دعنا نسمي مشكلة المعرفة هذه (مشكلة المعرفة الخاصة بهايك). نلاحظ في هذه المرحلة الأولية من نقاشنا أن الموقف المحتمل بخصوص مشكلة المعرفة لهايك، وعلى الأقل للوهلة الأولى، أنها لا تجعل تفوق معيار الكفاءة الاجتماعي غير مقبول مباشرة. إنه من الصحيح، كما أوضح هايك، فإن طبيعة المعرفة التي تتميز بالانتشار تعني أن المشكلة الاقتصادية لا تكمن في توزيع “الموارد الموجودة”، حيث تعني “الموارد الموجودة” تلك الموارد الموجودة والمعروفة لفكر منفرد. في الواقع، فإن المعرفة بحد ذاتها هي مصدر شحيح. لذلك يمكن اعتبار مهمة المخطط المركزي في ظل مشكلة المعرفة الخاصة بهايك بأنها الاستخدام الأكثر كفاءة للمعرفة المتوفرة المنتشرة والموجودة في المجتمع في لحظة ما—مع تقييد إمكانية بلوغ هذا الاستخدام بالتكاليف المترتبة على الاتصال والبحث الضروري نظرا لانتشار المعلومات المتوفرة.
ولذلك قد يبدو أنه لا يوجد شيء يجعل مشكلة المعرفة الخاصة بهايك خارجة عن مجال التخطيط الاقتصادي. وكما يجادل البعض، فإن مشكلة المعرفة تقوم بتعقيد مهام التخطيط: إنها تقدم مصدرا جديدا ودقيقا ومعقدا (المعرفة)؛ وتثير الانتباه حول المميزات الخاصة لهذا المصدر (سمته المتشتتة)؛ وتستدعي الانتباه إلى نوع جديد من التكاليف المطلوبة للبحث والاتصال. ولكن كما قد يبدو، يمكن أن تندرج مشكلة المعرفة الخاصة بهايك تحت المشكلة العامة للاقتصاد المفهومة تقليديا بمصطلحات توزيع الموارد. إن الموضوع الأساسي لهذا البحث هو رفض هذا الفهم لنتائج مشكلة المعرفة الخاصة بهايك.[1]
سأناقش في هذا البحث أن مشكلة ضمان الاستخدام الأفضل للمعرفة المنتشرة لا يمكن في الواقع أن يترجم إلى قضية خاصة لمشكلة تأمين تخصيص أكثر فعالية لموارد المجتمع الأكثر شمولا. وسيلي ذلك أن التخطيط الاجتماعي، بميزاته الخاصة، غير قادر على توضيح مشكلة هايك—هذا التخطيط قادر فقط على أن يحبط ويعيق قوة السوق التلقائية القادرة على المشاركة في مشكلة المعرفة هذه. ومن المهم للتمكن من تطوير هذه المناقشات أن يتم تقديم “مشكلة معرفة” محددة لتبدو للوهلة الأولى أنها تختلف كلياً عن مشكلة المعرفة الخاصة بهايك.
الخطة الفردية ومشكلة المعرفة
في الحياة اليومية يستمر الإنسان بالتخطيط. وقد قام الاقتصاديون باستنباط أن الخطة الفردية تمثل البحث عن المزيد: فالمخطِّط مصمم على الوصول إلى الوضع الأمثل المحاط بالعوائق. هذا هو مفهوم القرار الاقتصادي الذي وضعه ليونيل روبنز بدقة متناهية في عام 1932، وتم تبنيه منذ ذلك الحين أساساً لنظرية الاقتصاد الجزئي. ونشير إلى أن هناك مشكلة حتمية محتملة للمعرفة التي تحيط بمفهوم الخطة الفردية.
تفترض فكرة الخطة مسبقا وجود كيان مُستهدَف—مثل منفعة أو ربح—يجب أن تتم زيادته للحد الأقصى. كما وتفترض وجود عوائق معروفة على الموارد. ووفقا لمصطلحات روبنز، فإنه يُفترض توفر كل من الغايات والوسائل. إنها المعرفة المفترضة من قبل المخطِّط لظروف التخطيط هذه التي تتيح للاقتصاديين فهم الخطة باعتبارها حل لمشكلة تحقيق الحد الأقصى المقيَّدة. يجب ملاحظة أن صلاحية الخطة تعتمد كليا على صلاحية الفرضية أن المخطِّط في الواقع يعرف الظروف المحيطة بقراراته المستقبلية بشكل دقيق. إذا لم يعرف المخطِّط ماذا يريد أن يحقق وما هي الموارد المتوفرة لديه أو ما مدى فعالية هذه الموارد بالنسبة للأهداف المبتغاة، فإن خططه لن تؤدي إلى أفضل النتائج مهما تمت صياغتها بشكل حذر.
يمكننا أن نعرِّف الآن مشكلة المعرفة المناسبة لكل خطة فردية: بسبب نقص في معلومات المخطِّط حول ظروفه الحقيقية يمكن أن تفشل خطته في تحقيق الهدف الأمثل. دعنا نسمي مشكلة المعرفة هذه بـ”مشكلة المعرفة الأساسية”. وهذا سوف يميزها عن ما أسميناه “مشكلة المعرفة الخاصة بهايك”. كما سيوضح ذلك ما نعنيه، حيث أن مشكلة المعرفة الخاصة بهايك يمكن أن تعتبر حالة خاصة لما أسميناه “مشكلة المعرفة الأساسية”.
بالتأكيد فإن ما أسميناه “مشكلة المعرفة الأساسية” تبدو للوهلة الأولى تتشابه بشكل طفيف مع “مشكلة المعرفة الخاصة بهايك”. فمشكلة المعرفة الخاصة بهايك تكمن في طبيعة المعلومات المتوفرة المنتشرة؛ وتكمن مشكلة المعرفة الأساسية في جهل الفرد بالظروف المتعلقة بحالته. علاوة على ذلك، سيُظهر المزيد من التمحيص لكل من مشكلة المعرفة الخاصة بهايك ومشكلة المعرفة الأساسية المعنى الهام الذي بسببه تُعتبر مشكلة هايك مشكلة أساسية. دعنا أولاً نوضح الفهم الخاطئ المحتمل المتعلق بمشكلة المعرفة الأساسية.
مشكلة المعرفة الأساسية واقتصاديات البحث

قد يبدو للوهلة الأولى أنه من الممكن الفرار تماما من مشكلة المعرفة الأساسية التي تحيط بكل خطة فردية عن طريق إضافة مراحل تخطيط جديدة. إذا كان هناك احتمال لإخفاق خطة ما بسبب عدم توفر أحد الموارد الضرورية، فإن هذا التهديد بالإخفاق لن يكون بالضرورة نهائيا؛ وقد يمكن تجنبه من خلال التخطيط التمهيدي الملائم للحصول على هذا المورد. وبدلاً من وضع خطة فردية موجهة إلى الإحراز الفوري للهدف النهائي، فإنه من الضروري أن نقدم أهدافا متوسطة نسعى إلى تحقيقها في سياق الخطط التمهيدية الإضافية. عندئذ، قد تتطلب مشكلة المعرفة الأساسية أيضا التخطيط التمهيدي الحكيم فحسب.
من هذا المنطلق، يبدو أن مشكلة المعرفة الأساسية تمثل النقص في الموارد المتاحة لمورد هام هو المعرفة. وقد يستدعي هذا النقص إجراء بحث مُنظَّم لاكتساب المعلومات المهمة. وقد يُعتقد أنه من الممكن الفرار من مشكلة المعرفة الأساسية على الأقل إلى نفس الدرجة التي يُمكن لأي مشكلة تنتج عن نقص في الموارد أن تجد مخرجاً منه. وللدرجة الجديرة بالاهتمام، قد تستطيع خطة بحث تمهيدية تغطية النقص في المعلومات الضرورية التخلص كليا من مشكلة المعرفة الأساسية. وللدرجة التي يُعتقد أن هذا البحث المكلف غير ذي قيمة، سيبدو أن مشكلة المعرفة الرئيسية تعبر فقط عن الصعوبات الشحيحة التي لا مفر منها والموجودة ضمن وضع المخطِّط. وبالنسبة لعالِم الاقتصاد، فإن مشكلة الشح التي لا مفر منها تعني أنه لا توجد أي مشكلة على الإطلاق بالمعنى المقصود.
وإذا كان من الممكن تجنب مشكلة المعرفة، فإنه سيتم (ومن المفترض أن يتم) الفرار منها؛ وعندما يكون من غير المجدي تجنبها، سيبدو أنه لا وجود لمشكلة المعرفة الأساسية على الإطلاق—حيث أننا قمنا بتعريف مشكلة المعرفة الأساسية على أنها الإخفاق في تحقيق الدرجة المثلى الممكن تحقيقها. إذا كان نقص المعرفة يجعل من غير الممكن تحقيق الدرجة الافتراضية المثلى، فإن ذلك لن يؤدي إلى إحداث مشكلة المعرفة الأساسية. وإذا كانت تكلفة اكتساب المعرفة مانعة، تكون عندها الدرجة الافتراضية المثلى، وإن كان يمكن تحقيقها، غير مثلى على الإطلاق.
لا يمكن لهذا الجدل أن يستديم. فمشكلة المعرفة الأساسية التي تحاصر بقوة كل خطة فردية بطبيعتها لا يمكن الفرار منها. ومن غير ريب، يمكن تصحيح العجز في المعرفة بواسطة البحث وأن المخطِّط المستقل سيأخذ بعين الاعتبار في تخطيطه التمهيدي ضرورة إجراء البحث أو عدمه. ولكن مشكلة المعرفة الأساسية—التي تشمل على إمكانية الإخفاق في إنجاز الأمثل الممكن تحقيقه—تبقى. في الواقع، إن إمكانية التخطيط التمهيدي لاكتساب المعرفة توسع فقط مجال مشكلة المعرفة الأساسية.
دعنا نأخذ بعين الاعتبار الفرد المشارك في خطة والذي يسعى لتحقيق هدف قيّم. دعنا نسمي هذه (الخطة أ). خلال وضع الخطوات المحددة اللازمة لمتابعة (الخطة أ)، يدرك الفرد بأنه يفتقد إلى أجزاء من المعلومات المطلوبة. وعليه، يُعِدّ خطة لتحقيق تلك الأهداف الأولية، ألا وهي أجزاء المعرفة المفقودة. دعنا نسمي خطة البحث هذه (الخطة ب). يمكن أن نعتبر أن (الخطة أ) قد توسعت (نتيجة الجهل) لتشمل التخطيط لإحراز الأهداف الأولية المطلوبة، وبذلك تكون (الخطة ب) مدمجة مع (الخطة أ) الموسعة. وقد نعرِّف الخطوات اللاحقة الواجب اتخاذها في سياق (الخطة أ) الموسعة—تلك الخطوات اللاحقة للحصول على المعلومات من (الخطة ب)—بـ(الخطة أ). ( تتألف (الخطة أ) من الخطوات التي من شأنها أن تشكل الخطة الأصلية (الخطة أ) التي تم تصورها لو كان المخطط لا يفتقد إلى المعلومات المطلوبة). ونلاحظ بأن مشكلة المعرفة الأساسية هي خطر محتمل لكل من (الخطة أ) و(الخطة ب). ومن المؤكد أن (الخطة أ) المشتملة على (الخطة ب) و(الخطة أ) عرضة لنفس نقاط الضعف لكل منهما.
حتى ولو نجحت (الخطة ب) في الحصول على المعلومات المطلوبة المثلى الممكن العثور عليها بالضبط (وكانت تستحق التكاليف المخصصة لهذا البحث)، فإن (الخطة أ) ستكون عرضة للمخاطر المتعلقة بمشكلة المعرفة الأساسية. وبالرغم من أن صانع القرار، وهو ينشد صياغة (الخطة أ)، أدرك أنه ينقصه بعض المعلومات المحددة، ولذلك شرع في وضع (الخطة ب) التمهيدية، قد يكون في الحقيقة يفتقر الى معلومات اكثر مما يعتقد. (الهام في الموضوع أن مثل هذه المعلومات التي لم تُحدد قد تكون على شكل شركة، ولكن من الخطأ أن نؤمن أو نعتقد بصلاحية المعلومات الخاطئة كليا). أضف إلى ذلك أن المخطِّط الفرد قد يكون مخطأ في اعتقاده بأن المعلومات الناقصة هي معلومات ضرورية لتطبيق (الخطة أ) . كما يمكن أن يكون مخطأ في اعتقاده بأنه يفتقد إلى تلك المعلومات، وفي الواقع، قد تكون هذه المعلومات في قبضته الآن.
على سبيل المثال، قد يعتقد المخطِّط بأن (الخطة أ)، وفي سياق اتصاله مع الشخص (س)، تتطلب معلومات متعلقة برقم هاتف (س)، وهي المعلومات التي يعتقد أنه يفتقدها، وعليه يقوم بتنفيذ (الخطة ب) للبحث عن رقم هاتف (س). ولكن الحقيقة يمكن أن تكون مختلفة جدا، وأن (س) هو الشخص الخطأ، أو قد تكون الحقيقة أن (س) هو الآن جالس مع المخطِّط، ولذلك لا حاجة لرقم هاتفه للخطة (أ). أو قد يكون المخطِّط لا يفتقد رقم هاتف (س) على الإطلاق، ويمكن أن يكون رقم الهاتف مكتوباً في قائمة معينة موجودة لديه قرب جهاز الهاتف الذي يستعمله. مع وجود احتمالات الخطأ المحض ضمن (الخطة أ) و/أو (الخطة ب)، حيث يكون المخطِّط غير مدرك بحجم جهله، فإن (الخطة أ) التي تحتوي على (الخطة أ) و(الخطة ب) قد تكون بعيدة عن الأمثل، وإن كانت (الخطة ب) ناجحة من حيث تحقيق أهدافها. إضافة إلى ذلك، يمكن أن تغفل (الخطة ب) طرقا متاحة وأكثر فعالية لتحقيق أهدافها (فعلى سبيل المثال هناك طرق للبحث ذات تكلفة أقل لم يكن الباحث مدركا لها).
خلاصة القول، فإن احتمال التخطيط للبحث عن المعلومات الناقصة لا يُنهي مشكلة المعرفة. أولاً: يمكن أن يتم البحث بدون المعرفة بأن هناك أساليب متوفرة ذات فعالية أكبر. ثانياً: المعلومات التي يتم البحث عنها قد لا تبرر تكاليف البحث لأن الحقيقة التي يجهلها المخطِّط هي أن المعلومات غير مهمة للوصول إلى أهداف المخطِّط النهائية. وثالثاً: بغض النظر عن المعلومات التي يدرك المخطِّط أنه يفتقدها والتي سيحاول البحث عنها، فإنه قد يفتقد إلى معلومات هو غير مدرك لها ولا يأخذها بعين الاعتبار للقيام بالبحث عنها.
التخطيط المركزي ومشكلة المعرفة
نحن الآن نقدر مفهوم هايك لمشكلة المعرفة المتشتتة التي تُظهر مهمة التخطيط المركزي على أنها مرتبطة بعمق وتعقيد مع مشكلة المعرفة الأساسية. دعنا نضع أنفسنا في مكان المخطِّط المركزي الذي يبحث جديا وبفكر أحادي عن الطريقة المحتملة الأكثر كفاءة لتخصيص الموارد.
وكمخطِّط مركزي، فالمهمة هي صياغة خطة للمجتمع بأسلوب مشابه لذلك الذي يتبعه الفرد في التخطيط لسياق أعماله. نحن نعد خططنا الاجتماعية وفقا لبعض الأهداف الاجتماعية المحددة وفي ضوء تصور معين لمجموعات الموارد الاجتماعية المتاحة.[2] إن هذا الإطار مناسب للتخطيط المركزي لكل من التخطيط الاجتماعي الشامل والتخطيط المركزي المصمم خصيصا لتكميل أو تعديل النشاط الاقتصادي اللامركزي بدلا من إحلاله كليا. هذا التشابه بين الخطة الاجتماعية والخطة الفردية يدفعنا لأن ندرك علاقة مشكلة المعرفة الأساسية بالخطة الاجتماعية بنفس الطريقة التي وجدنا أنها خطر حتمي لا مفر منه بالنسبة للخطة الفردية. ومفهوم هايك يجعلنا ندرك بأن الخطة المركزية قد تكون معرضة للمخاطر (التي تنتج عن مشكلة المعرفة الأساسية) والتي يمكن أن يتم التهرب منها بواسطة التخطيط اللامركزي.
ومن البديهي استنتاج أن الخطة المركزية معرضة بشكل حتمي لمخاطر مشكلة المعرفة الأساسية بناء على مفهوم مشكلة المعرفة الأساسية نفسها. ونظرا لأن المخطِّط المستقل قد لا يكون مدركاً لظروفه الحقيقية وكذلك قد يكون غير مدرك بجهله، قد تفشل أفضل خططه المصاغة بشكل جيد في الحصول على الأمثل. وقد يكون القائمون على التخطيط المركزي أيضا غير مدركين بجهلهم فيما يتعلق بالظروف الحقيقية المناسبة للتخطيط الاجتماعي. ويعمِّق فهمنا للنتائج الخاصة بالمعرفة المتشتتة تقديرنا لجدية وخطورة مشكلة المعرفة الأساسية، ويكشف النقاب عن كيفية إمكانية تخطي مخاطر هذه المشكلة تماما في ظل غياب وجود الخطة المركزية.
إن إدراك حقيقة تشتت المعرفة—وخاصة فيما يتعلق بمعرفة الظروف الخاصة بالوقت والمكان (هايك، 1945: 80)—يوضح فورا فهمنا لمشكلة المعرفة الأساسية التي تهدد الأشخاص المعنيين بالتخطيط المركزي. فبالنسبة للمخطِّط المركزي، تُستمد مشكلة المعرفة الأساسية من الاحتمال بأن ما يعتقده المخطِّط بالنسبة لظروفه يمكن أن يختلف عما كان يمكن أن يعرفه لو كان أكثر يقظة أو إدراكا للبيئة الحقيقية (بدون الإنفاق الإضافي للموارد). ويعتبر الاحتمال نفسه وثيق الصلة بالنسبة للمخطِّط المركزي، ولكنه يزداد بسبب المأزق الخاص الذي يواجهه المخطِّط المركزي. إن ما يعتقده المخطِّط المركزي عن الظروف ذات العلاقة يجب أن يشابه ما يعتقده عن توفر أجزاء المعرفة المتشتتة التي يمكن حشدها، بطريقة ما ومقابل تكلفة، لصياغة وتطبيق الخطة الاجتماعية. وهناك فرصة ضئيلة لأن يعرف المخطِّط المركزي أين يجد أو يبحث عن جميع عناصر المعرفة المتشتتة المعروفة في النظام الاقتصادي. وإضافة إلى ذلك، فإنه يبدو أن هناك فرصة ضئيلة لأن يكون المخطِّط المركزي مدركا تماما لطبيعة مدى الفجوات المحددة في معرفته بهذا الخصوص. ويمكن أن يدرك بشكل عام أنه جاهل لبعض الأمور، ولكن هذا لا يُعطيه أي تلميح للمكان الذي يجب أن يبحث فيه. وفي النهاية، لا يستطيع المخطِّط استغلال كافة المعلومات المتوفرة لديه. وبشكل واضح، فإن انتشار المعلومات يعتبر مسؤولا عن بعد جديد في تطبيق مشكلة المعرفة الأساسية.
لقد ذكرنا سابقاً بأن مشكلة المعرفة الخاصة بهايك، وبالرغم من كونها شيئا جديدا، يمكن أن تندرج ضمن المشكلة الاقتصادية العامة، التي تُفهم تقليديا وفقا للإنجاز الفعال في تخصيص الموارد المتوفرة (وبشمول المعلومات المتاحة كمورد هام متوفر). ويمكن الآن أن نرى كيف أنه من غير المناسب اعتبار أنه بإمكان المخططين المركزيين أن يتفقوا مع مشكلة المعرفة الخاصة بهايك من حيث التخطيط التقليدي لتحقيق النمط الأمثل المحاط بالصعوبات بالنسبة لتخصيص الموارد. إن الجهل غير المعروف، وهو صُلب مشكلة المعرفة الناجمة عن تشتت المعلومات، يتحدى إمكانية المطابقة الصارمة لخطة التخصيص (معيار بروكرستيان). وكما أن المخطِّط الفردي غير قادر على التشبث بشكل متعمد مع مشكلة المعرفة الأساسية المحيطة بعمليات صنع القرار، كذلك الأمر بالنسبة للمخطِّط المركزي: فهو غير قادر على تنفيذ تقنيات للتخطيط ليتفق بشكل متعمد مع مشكلة المعرفة الخاصة بهايك.
الأمر الذي يجعل نقد مشكلة المعرفة الخاصة بهايك للتخطيط المركزي مدمرا هو أنه في حالة نظام إدارة السوق القائم على التخطيط اللامركزي، تُبدَّد مشكلة المعرفة غير الواضحة التي يواجهها المخططون المركزيون من خلال إجراءات الاكتشاف التنافسية لأصحاب المبادرة.
إجراءات الاكتشاف التنافسية لأصحاب المبادرة

هناك فهم خاطئ متكرر لمشكلة هايك الخاصة بصنع القرار اللامركزي. وفي حالات كثيرة، تُعرض هذه الحالة على أنها تجادل بأن اقتصاد السوق اللامركزي ينجو من مشكلة المعرفة المتشتتة لأن الأسعار تنقل المعلومات إلى صناع القرار المعنيين بشكل دقيق (بحيث يستبدل ذلك الحاجة لديهم لمعرفة المعلومات المفصلة المتشتتة خلال النظام). يجب التأكيد على أنه، وبالرغم من وجود هذا السياق من الاستنتاج بشكل واضح في أعمال هايك، إلا أنه لم يستوفه حقه فيما يتعلق بالمعاني الكاملة المتضمنة في ذلك العمل.
إن المجادلة بأن أسعار السوق تعطي وتنقل المعلومات، متغلبة بذلك على مشكلة المعرفة المتشتتة، توضح مسألة الأسواق التي تعتمد على الفرضية المشكوك فيها والتي تنص على أن الأسواق تكون دائما متوازنة أو قريبة من التوازن. ويمكن أن ندّعي أنه عند ذلك التوازن فقط يتم توجيه المشارك في السوق تلقائيا، وبالاسترشاد بأسعار السوق، باتجاه تلك الأعمال التي ستتنسّق بمرونة مع أعمال جميع مشاركي السوق الآخرين.
إضافة إلى ذلك، فإن وضع فرضية أن الأسواق قريبة من التوازن هو (وبمعزل عن الأسباب الأخرى لعدم الشعور بالارتياح المتعلق بواقعية هذه الفرضية) بمثابة الاستجداء من مشكلة هايك للمعرفة المتشتتة بدلا من التغلب عليها. في خضم ما تم ذكره سابقاً، وكما تقدم ظاهرة المعلومات المتشتتة التحدي للمخططين المركزيين، فإنها تقدم إلى الأسواق تحديا مماثلا ألا وهو الوصول إلى منظومات أسعار السوق التي ستخلق توازنا بين العرض والطلب.
لا يتسنى لأحد حل مشكلة المعرفة المتشتتة عن طريق افتراض الأسعار التي ستولد القرارات المرغوبة بلطف. إن المعرفة المتشتتة هي السبب الحقيقي بأن أسعار السوق الموجودة غير قادرة على خلق توازن بين العرض والطلب في الأسواق وضمان عدم هدر الموارد. الحقيقة أن السوق يمتلك أسلحة لمكافحة مشكلة المعرفة المتشتتة (وإن لم يكن قهرها تماما)، وهذه الأسلحة متضمنة في طريقة عمل نظام التسعير، وليست موجودة في النظام الافتراضي لأسعار التوازن. إن أهمية الأسعار فيما يتعلق ﺒمشكلة المعرفة الخاصة بهايك لا تقع ضمن نطاق دقة المعلومات التي ينقلها توازن الأسعار فيما يتعلق بأعمال الآخرين الذين حصلوا على معلومات مشابهة. بل تتمثل أهميتها في قدرة الأسعار غير المتوازنة على تقديم فرص للربح الصافي يمكنها أن تجذب انتباه أصحاب المبادرة المتيقظين الذين يسعون إلى تحقيق الأرباح. ويعبر إخفاق المشاركين في السوق عن نفسه في تنسيق نشاطاتهم بسبب المعرفة المتشتتة من خلال منظمونات الأسعار التي تنبه أصحاب المبادرة كيفية تحقيق أرباح صافية.
هناك معرفة قليلة للطرق المحددة لفرص الربح التي تجذب انتباه أصحاب المبادرة. ولكن، مما لا شك فيه أن لهذه الفرص قوة مغناطيسية جاذبة. إن القول بأن إمكانيات الربح الصافي تجذب الانتباه لا يعني أن إدراك هذه الإمكانيات مضمون بعملية البحث المتأني والمكلف من جانب أصحاب المبادرة. بل يجب إدراك أن إغراء الربح الصافي هو الذي يجعل صاحب القرار يتجاوز حدود إطار الخطة الموضوعة، وينجو من مشكلة المعرفة المتشتتة التي تحيط بصُنع القرار الفردي. إن يقظة أصحاب المبادرة موجودة دائماً لتحل محل تخطيطهم الضيق ضمن إطار الفعل الإنساني الأوسع. وفي نفس الوقت الذي يقوم به الإنسان بعملية احتساب التخصيص الأمثل للموارد المتوفرة آخذا بالاعتبار النتائج المتنافسة، يكون متحفزا لأي شيء قد يوحي بأن الموارد المتاحة مختلفة عن تلك التي تم افتراضها، أو ربما يجب وضع مجموعة أخرى من الأهداف والسعي لتحقيقها.
ويتم الاستجابة إلى إشارات الربح الصافي الناتج عن الأخطاء التي تنشأ عن المعرفة المتشتتة المتوفرة في المجتمع عبر العنصر الربحي في أعمال الإنسان. هذه هي الخميرة التي تخمر عملية الاكتشاف التنافسية لأصحاب المبادرة والتي تُكشف النقاب للمشاركين عن المعلومات ذات العلاقة المنتشرة في السوق. وعليه، فإن هذه العملية التنافسية لأصحاب المبادرة هي التي تتماسك مع مشكلة المعرفة الأساسية التي تواجه سلطات التخطيط المركزي. وللمدى الذي يمكن أن يحل التخطيط المركزي محل عملية الاكتشاف لأصحاب المبادرة، سواء على صعيد التخطيط الشامل للمجتمع أو على صعيد تدخلات الدولة التدريجية في نظام السوق الحر، يقوم المخططون بخنق قدرة السوق على تجاوز مشكلة المعرفة الأساسية معرضين أنفسهم إلى المشكلة ذاتها. إن مصدر المشكلة هو المعرفة المتشتتة الخاصة بهايك: لا توجد أدوات للتخطيط المركزي يمكنه من خلالها أن يتدخل في مشكلة المعرفة المتشتتة، كما إن طبيعته المركزية تعني أن عملية اكتشاف السوق تواجه صعوبات كثيرة، هذا إن لم تتوقف تماماً.
الأسواق والشركات والتخطيط المركزي

منذ بحث رونالد كوز (1937) حول نظرية الشركات، تم إدراك أن كل شركة في اقتصاد السوق هي عبارة عن جزيرة لـ”التخطيط المركزي” المحلي في بحر من قوى السوق التنافسية الهائجة. ففي داخل الشركة، نلاحظ تنسيق النشاطات بواسطة التوجيه المركزي وليس من قبل تنافس السوق عبر آلية الأسعار. يوضح نقاشنا في هذا البحث القوى التي تتحكم في موقع الحدود التي تفصل عالم “التخطيط المركزي” عن نظام الأسعار التنافسية.
لاحظنا أن استبدال اكتشاف السوق (يقظة أصحاب المبادرة لفرص الربح) بالتخطيط المركزي يولد نطاق نفوذ جديد لمشكلة المعرفة الأساسية الناشئة عن تشتت المعرفة. وعليه، وفي إطار نظام السوق الحر، يتم شراء أية ميزة مستمدة من التخطيط المركزي (على سبيل المثال، تجنب الازدواجية التي “تهدر” الموارد والموجودة غالبا في حالات التنافس في السوق) بثمن مشكلة معرفة مُعززة. يمكن أن نتوقع توسعا تلقائيا للشركات إلى الدرجة التي تتوازن فيها المميزات الإضافية للتخطيط المركزي مع الصعوبات المتزايدة للمعرفة التي تنشأ من المعلومات المتشتتة. فعلى نطاق ضيق، يمكن أن تكون هذه الصعوبات الأخيرة غير مهمة بالدرجة الكافية للتعامل معها للاستفادة من التنظيم المنسق بشكل واضح. وقد تعني المعرفة المتشتتة على منطقة جغرافية أو مؤسساتية صغيرة وجود مشكلة المعرفة الخاصة بهايك، والتي لا تشبه المشكلة المتعلقة بمؤسسات كبيرة ومعقدة، والتي يمكن حلها من خلال البحث المتأني. ومع ذلك، وبعد نقطة معينة، فإن صعوبات المعرفة يمكن أن تقلل من أرباح الشركات الكبيرة جداً. إن التنافس بين الشركات ذات الأحجام والمجالات المختلفة سيؤدي إلى كشف النقاب عن الحد الأقصى للتخطيط المركزي.
من جانب آخر، إذا تم فرض التخطيط المركزي على نظام السوق الحر، سواء كان ذلك لاعتبارات شاملة أم لا، فإن هذا التخطيط سيشتمل في الغالب على مشكلة المعرفة إلى حد لا يمكن تبريره بواسطة أي مميزات يمكن أن تمنحها الأنظمة المستندة على المركزية. إن التخطيط المركزي الذي تنفذه الحكومة يُبعد أسلحة السوق العفوية الدقيقة لمصارعة مشكلة المعرفة. وهذا التخطيط المركزي، استنادا إلى طبيعته الذاتية وكذلك طبيعة مشكلة المعرفة، غير قادر على أن يقدم أي أسلحة بديلة.
الخـاتمة

يجب أن نتذكر أنه نظرا لطبيعة مشكلة المعرفة، لا يمكن معرفة مداها وخطورتها سلفاً. إن جزءا من المأساة المتعلقة بمقترحات السياسة الصناعية والتخطيط الاقتصادي هو أن المدافعين عنهما جاهلون تماما بمشكلة المعرفة—المشكلة الناجمة عن عدم إدراك الشخص بجهله.
“التخطيط الاقتصادي ومشكلة المعرفة”: تعليق
ليونيد هورويتز[3]

ملاحظاتي موجهة إلى القضايا التي أثارها تحليل البروفيسور كيرزنر، وليس إلى الاقتراحات المختلفة المطروحة حالياً حول سياسة صناعية قومية، إلا أنني آمل أن تكون لها علاقة كخلفية لتحليل تلك الاقتراحات. كذلك، وما دام أنني أعتزم الإعراب عن مخالفتي لبعض من النقاط التي أثارها البروفيسور كيرزنر، دعوني أؤكد بأنني أتعاطف كلياً مع نقطته الأساسية، ألا وهي: تشتت المعلومات بين وحدات اتخاذ القرار الاقتصادية والتي يطلق عليها “مشكلة المعرفة المتعلقة بهايك”، والقضية الناتجة عنها والتي تتمثل في نقل المعلومات بين مختلف الوحدات.
كثير من الأبحاث التي قمت بها منذ خمسينات القرن الماضي كانت مركّزة حول قضايا اقتصاديات الرفاه، من منظور معلوماتي. إن نظريات هايك (وقد حضرت صفوفه في جامعة لندن للاقتصاد خلال العام الأكاديمي 1938-1939) قد لعبت دوراً رئيسياً في التأثير على تفكيري وقد اعترفت بذلك التأثير. بيد أن آرائي تأثرت أيضاً من قبل أسكار لانج (جامعة شيكاغو 1940-1942) وكذلك لودفيغ فون ميزس، والذي شاركت في ندواته في جنيف خلال الفترة 1938-1949.
والآن، توجد أبحاث كثيرة في هذا الميدان. إن دراسة متأنية لهذه الأبحاث سوف ترينا، في اعتقادي، بأن الفقرات الافتتاحية في بحث البروفيسور كيرزنر (والقائلة بأن درس هايك لم يُستوعَب قط من قبل علماء اقتصاد الرفاه) لا ينطبق على علماء الرفاه في مجموعهم في زمننا الحالي، بغض النظر عما إذا كان ذلك ينطبق أو لا ينطبق على الأبحاث السابقة في هذا الميدان.
دعوني أوضح ها هنا بأنني لا أعتزم أن أجادل حول مزايا أو مساوىء ما يمكن أن يشار إليه بـ”التخطيط المركزي” أو”السياسة الصناعية”. وبدلاً من ذلك، فإن هدفي من ذلك هو إدخال بعض من الشك فيما يتعلق بالحجج المبسطة التي تستخدم في بعض الأحيان في هذا الحقل. أود القول بأن الورقة التي أمامنا—وعلى الرغم من كثير من رؤاها الثمينة—لا تقدم أساساً كافياً لتكوين حكم حول المزايا المعزوة إلى “السوق الحرة”، أو “التخطيط المركزي”، أوغيرهما من أشكال التدخل الحكومي في العملية الاقتصادية. (هذا هو حكم على غرار الأحكام القضائية الاسكتلندية: ليس “مذنباً”، وليس “غير مذنب”، ولكن: “غير مثبت على أنه مذنب”)! الحالة هي كذلك لأسباب عدة، بما في ذلك غموض التعابير المستخدمة، والافتراضات الكامنة التي تصور “البيئة الاقتصادية الكلاسيكية” (والتي ستحدد أدناه)، ومسألة الحوافز، والأحكام القيمية التي تتجاوز معيار الكفاءة.
إن تعابير مثل “التخطيط المركزي” و”السوق الحرة” لهما تفسيرات كثيرة. وعند تحليل مزايا ونقاط ضعف عملية السوق، من الأمور المهمة التمييز بين الأسواق الحرة التامة، وبين الأسواق الاحتكارية أو مجموعة من قلة من الاحتكارات، وغيرهما من الأسواق غير الحرة بالمعنى التام للتعبير. وعلى سبيل المثال، ففي صناعة تتميز بتناقص التكاليف تدريجيا، لن يستطيع البقاء في السوق سوى قلة من الشركات، على الرغم من حرية الدخول للسوق. مثل هذا السوق يمكن تسميته بـ”الحرة”، ولكنه يُميِّلُ احتكار القلة وليس سوق منافسة حقيقية.
إن نظرية اقتصاد الرفاه المعروفة تؤكد نظرية باريتو بالنسبة للكفاءة الأمثل لتوازن قائم في سوق تنافسية كاملة. ولكن، ليست هنالك أسس نظرية للجزم بأن أسواق الاحتكار أو أسواق احتكار القلة تؤدي إلى تخصيص كفءٍ للموارد المتاحة. وفي الحقيقة، فإن التحليل الأولي يظهر بأن أسعار الاحتكار الموحدة أو الأسعار الموحدة في إطار احتكار القلة هما، بشكل عام، أسعار غير كفؤة بمعايير باريتو.[4] يضاف إلى ذلك أنه في ظل ظروف تتسم بالمردود المتزايد، فإن توازناً تنافسياً تاماً، هو بشكل عام مستحيل التحقيق، ذلك لأن تعظيم الربح في ظل سقف محدد للأسعار سوف يستدعي إنتاجاً يتراوح بين الصفر أو إنتاجاً غير محدود. لذا، فإن من الصعب رؤية كيفية تبرير كفاءة السوق الحرة بوجود مردود متعاظم، سواءً تم تفسير المصطلح الأخير بالمنافسة الكاملة، أو، مجرد حرية الدخول.
إن الصعوبات المصاحبة للمردود المتعاظم تشكل فقط حالة خاصة من بين مشكلة أكبر وأهم، إذ إن نظرية ضمان الكفاءة الأمثل لتوازن قائم في سوق تنافسية تفترض غياب العوامل الخارجية، وتستبعد كذلك السلع العامة.[5]
يضاف إلى ذلك، كما رأينا أعلاه، فإن هنالك ظروفاً (مثل المردودات المتزايدة) حيث لا يمكن لأية مجموعة من الأسعار أن تحقق توازناً بين العرض والطلب؛ يستدل من ذلك بأن تنافساً متوازناً تاماً هو أمر مستحيل المنال. وهكذا، ومن أجل ضمان إمكانية وجود أسعار متوازنة—وتعرف من الناحية التقنية الفنية بوجود توازن تنافسي كامل—وكذلك التوازن التنافسي الكامل والأمثل، فإن النظريات ذات العلاقة تقدم مجموعة من الفرضيات، مستبعدةً عوامل مثل الآثار الخارجية، والسلع العامة، والمردودات المتزايدة، وتلك الأصناف من السلع العامة غير القابلة للقسمة، وغير ذلك. وعندما تستوفى جميع هذه المعطيات (مع استبعاد العوامل المقلقة)، فإننا نتحدث عن اقتصاد كلاسيكي أو مناخ كلاسيكي. لذا، فإن النظريات التي تضمن تحقيق التوازن التنافسي الأمثل تفترض وجود بيئة كلاسيكية.
من الناحية العملية، مع ذلك، فإن المرء كثيراً ما يواجه بيئات غير كلاسيكية. التلوث هو مثال على عامل خارجي سلبي مهم، بينما المعلومات المستقاة من الاختراعات الجديدة أو السرور الذي ينشأ من المؤلَّفات الموسيقية تدلل على عوامل خارجية إيجابية أو سلع عامة. الدفاع الوطني هو مثال آخر على سلعة عامة بالغة الأهمية. الجسور والسدود تجسد عدم القابلية للقسمة، وهنالك أمثلة عديدة على اقتصاديات الحجم—والمعروفة بالمردود المتصاعد (للحجم). إنني لا أعرف أي أساس للادعاء بأنه، في مثل هذه الحالات، فإن عمليات السوق الحرة (بغض النظر عن كيفية وصفها) توفر تخصيصاً مثالياً للموارد.
لقد اتضح من عدد من الدراسات (ماونت وريتر 1974؛ أوسانا 1978؛ هورويتز 1977) بأنه في البيئات الكلاسيكية، فإن آلية التسعير التنافسية المثالية تستخدم حداً أدنى من المساحة لنقل رسالتها؛ أي أنها تستخدم الحد الأدنى من المتغيرات لنقل المعلومات بين الوحدات الاقتصادية. وهذا يؤكد نظرية هايك فيما يتعلق بالكفاءة الإعلامية لآلية الأسواق. ولكن، فقد تبين بالأمثلة (هورويتز 1977؛ كالساميليا 1977) بأنه في غياب التحدب لسلسلة احتمال الإنتاج،[6] فقد يكون مستحيلاً إيجاد أية آلية لامركزية ذات كفاءة عند استخدام مساحة ذات أبعاد محدودة لنقل رسالتها.
وبالإضافة إلى الصعوبات في تحقيق الكفاءة في البيئات غير الكلاسيكية، علينا أن نلاحظ بأن الكفاءة هي واحدة فقط من بين المعايير الممكنة، والتي تبنى على أساسها الأحكام التقييمية حول النظم الاقتصادية. بعض الناس قد يكونون مستعدين للتضحية بالكفاءة في سبيل المساواة؛ فبالنسبة لهم، فإن حقيقة أن عملية السوق تحقق الكفاءة، قد تكون غير كافية—حتى لو افترضنا وجود بيئة أو مناخ كلاسيكي. بطبيعة الحال، فإن هذا التوجه لا يحتاج بالضرورة إلى التخلي عن عملية السوق، بل ربما تعزيز ذلك بوسائل مثل الضرائب والدعم المالي. وهكذا، يمكن وضع دور للحكومة على أسس تقييمية، حتى لو تم الاعتراف بأن التدخل الحكومي سوف يؤدي إلى تخفيض كفاءة النظام الاقتصادي.
كما إنني أرى مشكلة في ترويج حجج البروفيسور كيرزنر حول النظرية أعلاه، فيما يتعلق بالتوازن التنافسي الأمثل. إن الورقة أمامنا جازمة في تجنب الاعتماد على الأسواق التي تكون بالفعل في حالة توازن. ولكن في الافتراضات الكلاسيكية، فقط يكون التوازن التنافسي هو الذي يضمن الوضع الأمثل. لذا، فإن أفضل ما يمكن قوله بالنسبة لحالات فقدان التوازن أنها قد تتجه نحو التوازن. وفي الحقيقة، فإن دراسة اشتركت في كتابتها مع أرو وبلوك عام 1959، حددتْ مجموعة من الحالات، حيث كان مثل هذا التوجه نحو التوازن قائماً. ولكن أبحاثاً لاحقة (على سبيل المثال بحث سكارف 1960) قد كشفت النقاب عن أن هذا التوجه ليس موجوداً دائماً، حتى في حالات السوق التنافسية المثالية. وفي جميع الأحوال، فإن من الصعب رؤية كيف يمكن في غياب قوى الاستقرار الادعاء نظرياً بأن الأسواق تؤدي إلى الكفاءة.[7]
إن التأكيد الأساسي في دراسة كيرزنر هو حول ما يسميه المؤلف “مشكلة المعرفة الأساسية.” وإلى الحد الذي يتجاوز فيه هذا القول تشتت المعرفة وفق هايك، فإن “قضية المعرفة الأساسية” هذه تبدو، ببساطة، من منطلق أن معظم القرارات—سواءً من قبل المخططين أو الشركات أو الأفراد—لا بد أن تتم دون توافر معلومات كاملة ودقيقة. لا يوجد أي خلاف حول هذه النقطة. ولكن بعض المناقشات على ما يبدو توحي بأن مثل هذا الوضع من عدم اليقين يجعل اتخاذ أي سلوك عقلاني مستحيلاً منطقياً.
إنني لا أستطيع الاتفاق على ما تقدم. هنالك بالفعل نظريات متطورة حول السلوك العقلاني في حالات عدم اليقين، بما في ذلك نظرية البحث. إن نظرية القرار الإحصائية هي فقط واحدة من فروع هذا العلم. ولكن حتى إذا قبلنا بالصعوبات العملية لسلوكيات البحث الأمثل، فإن المرء يجد نفسه منساقاً إلى إطار ما يسمى بـ”العقلانية المقيدة” (سايمون 1972؛ رادنر 1975).
إنني، بطبيعة الحال، أوافق على أن الناس كثيراً ما يتصرفون من منطلق قناعات ليست صحيحة في الواقع. وفي أفضل الحالات، يكون أملنا أن يكون التصرف عقلانياً في ضوء التنبؤ بالمستقبل وليس من قبيل استرجاع الماضي. ولكن هذه المصاعب تواجه كل إنسان وليس القائمين على التخطيط وحدهم. صحيح أنه إذا كانت معلومات المخطِّط أو قناعاته مستندة إلى نقل غير كامل، فإن ذلك سوف يشكل مصدراً إضافياً للخطأ. ولكن تلك، مرة أخرى، هي مشكلة هايك!
وكما ذكر أعلاه، فإن آلية السوق تخفِّض بالفعل مساحة الرسالة المطلوبة، بيد أن ادعاءاتها قائمة على افتراض وجود بيئة كلاسيكية. ففي مناخات غير كلاسيكية، وحيث هنالك قيم مهمة غير قيمة الكفاءة في الأداء، فإن بالإمكان تقديم حجة بعدم كفاية عمليات السوق، وربما في صالح دور حكومي. ولكن لا يجوز أن يعتبر ذلك مرادفاً للتخطيط الحكومي. وفي الحقيقة، فإن هذا الدور يمكن أن يقتصر على تقدمة وتنفيذ ما يمكن تسميته بـ”قوانين اللعبة”. وبالأخص، قد يشمل ذلك خلق حقوق ملكية من خلال حقوق نشر أو براءة ملكية أو اختراع. إن خلق مثل هذه الحقوق يشكل تدخلاً حكومياً في عملية السوق الحر، ولكن لا يشكل ما أسميه بـ”التخطيط المركزي”. والصيغة الأخيرة ربما يجب أن تُخصَّص لنمط من التدخل الذي يمكن تسميته بـ”الاستهداف الجزئي”، والتي تكون السياسة الصناعية أو مراقبة الأسعار أو التقنين أمثلة عليها، والتي تتخذ الحكومات من خلالها قرارات تتصل بالإنتاج، والانفاق، وأسعار سلع معينة أو مجموعة من السلع.
ومع ذلك، فإن من المهم التمييز بين التخطيط المركزي الشمولي (الذي تجري محاولته في الاتحاد السوفييتي) من ناحية، وعناصر من تخطيط تلحق باقتصاديات السوق الحرة (كما نراه عادة في البلدان الغربية) من ناحية أخرى. هكذا، يجب أن نعترف بأن ما بين الاقتصاد الحر والاقتصاد المركزي الشمولي (الاستهداف الجزئي) مساحة من الاحتمالات الممكنة، بعضها يشمل استهدافاً جزئياً، وبعضها الآخر تدخلاً حكومياً بقوانين اللعبة (وبدون عنصر التخطيط أو الاستهداف الجزئي).
شخصياً، فإنني أتفق في الرأي مع البروفيسور كيرزنر بأن دولة كبيرة حديثة هي فوق الحجم الأمثل حتى تكون وحدة قابلة للاستهداف الجزئي. أسباب قناعتي—بالإضافة إلى حقل المعرفة الذي أشار إليه البروفيسور كيرزنر—لها علاقة بإحباط الحوافز الشخصية نحو الإبداع أو الكفاءة،[8] بسبب نمط تخطيط جزئي، كما هو الحال في الاتحاد السوفييتي أو الصين. ولكن ذلك لا يعني بأن النظام الحر يشكل حلاً عالمياً شاملاً.
وبالأخص، ما زال يتوجب تقديم الدليل (كما هو الادعاء في الصفحة 417) بأن “التنافس بين الشركات من أحكام ومجالات مختلفة تتجه نحو إظهار الحد الأمثل لمثل ذلك (التنظيم المركزي).”
ففي مناخ كلاسيكي ربما يكون ذلك صحيحاً، ولكن من حق المرء أن يتساءل، على سبيل المثال، عما إذا كان التوجه نحو الاندماج الذي يجري حالياً في الولايات المتحدة من شأنه منطقياً أن يدفع الاقتصاد إلى مزيد من الاقتراب من الأداء الأمثل. إذا كانت النتيجة هي الاحتكار، فإن عدم الكفاءة سوف تتبع.
دعوني أقدم اعتراضاً آخر حول الكلمة الختامية في دراسة كيرزنر، والقائلة بأن دعاة السياسة الصناعية أو التخطيط المركزي، إنما ينطلقون بالضرورة من انعدام الإدراك بمشكلة المعرفة (دعاتها المخلصون غير الواعين كلياً لمشكلة المعرفة). في رأيي، فإن انعدام تقدير أهمية الحوافز يشكل مسألة أكثر خطورة. (الصين هي مثل على اقتصاد يدار مركزياً، وقد اعترفَتْ بأهمية الحوافز وبمنافع الإدارة اللامركزية). إن بعض الدعاة يرون السياسة الصناعية كحل يأتي في المرتبة الثانية، بالنظر للعيوب القائمة في الأسواق المحلية والدولية، وعلى الرغم من الصعوبات الناشئة عن مشكلة المعرفة. يستطيع المرء أن يختلف مع الرأي القائل بأن هذه قضية تأتي في المرتبة الثانية، ولكن دون أن يُتهم دعاتها بعدم الوعي بمثالبها.
إن قضية الدور المناسب للأسواق وللتدخل الحكومي هي قضية معقدة، ومن وجهة نظري، فإن الحل لا يكمن في أيّ من الطرفين المتعارضين. التحليل الموضوعي، والذي تُعتبر دراسة البروفيسور كيرزنر مساهمة مهمة لها، يُظهر المزايا والنواقص للحلول القائمة على طرفي نقيض؛ إنه يشير إلى نقاط القوة في اقتصاد السوق، مثلما يشير إلى تلك النواقص التي تبرر البحث عن وسائل مؤسسية إضافية تشمل تدخل القطاع العام. والأرجح بأن الأجوبة لن تسر الأيديولوجيين في كلا النقيضين.
ملاحظات
[1] لقد عمّق هايك (1979: 190) فهمنا لمشكلة المعرفة المتشتتة والتي تذهب إلى حد أبعد من “الاستفادة من المعلومات المتعلقة بالحقائق الراسخة التي يمتلكها الأفراد.” هو الآن يؤكد على مشكلة استخدام القدرات التي يمتلكها الأفراد لاكتشاف المعلومات الراسخة. وهذا يقود هايك إلى توضيح أنه لأن الشخص “سيكتشف ما يعرفه أو يمكنه أن يكتشف ذلك فقط عندما يواجه مشكلة حيث سيساعده ذلك،” فإنه قد لا يكون قادرا أبدا “على أن ينقل كل المعلومات التي يحصل عليها.” لقد قام البروفيسور لافوي أيضا من خلال عمل له لم يتم نشره، وبناء على أفكار من أعمال مايكل بولاني، بالتأكيد على الصلة المتعلقة بالحقيقة الضمنية للمشكلة الاجتماعية للانتفاع بالمعرفة المتشتتة. إن البحث الحالي يتوصل إلى استنتاجات مماثلة ولكن من بداية مختلفة إلى حد ما.
[2] نتجنب هنا شرح أي من الصعوبات المعروفة المحيطة بـِ: (أ) مفهوم التسلسل الهرمي للأهداف الاجتماعية المشابه بتصنيف الأهداف الفردية؛ و(ب) المفاهيم ذات العلاقة بالكفاءة الاجتماعية والاختيار الاجتماعي.
[3] أستاذ روجنتس للاقتصاد في جامعة مينيسوتا.
[4] نظرية كوز، كما أفهمها، فقط تقوم باستكشاف أبعاد طرح فرضية مفادها أن العناصر الاقتصادية التي تمتلك المعلومات وتعمل في السوق دون قيود اقتصادية ستصل إلى تخصيص باريتو الامثل. بيد أن الأسعار الموحدة في ظل الاحتكار أو احتكار القلة لا تلبي هذه الفرضية.
[5] حسب التعريف المعتاد، السلع العامة هي ذلك الصنف من السلع أو الخدمات التي تتواجد باستعمالها من قبل الشخص (أ) لا يتعارض مع احتمال استعمالها من قبل الشخص (ب) (ويمكن للحكومة أو القطاع الخاص تزويد هذا الصنف من السلع).
[6] العوائد المتزايدة هي حالة خاصة لعدم انحداب سلسلة احتمال الإنتاج.
[7] إني أؤكد كلمة “نظريا” لأنه لا البروفيسور كيرزنر ولا أنا نحاول معالجة البيّنات التجريبية فيما يتعلق بالاداء الحقيقي للأنظمة الاقتصادية المختلفة.
[8] البروفيسور كيرزنر يعترف بدور الحوافز في البحث عن المعرفة. وإني اشير ها هنا إلى حوافز السلوك الكفؤ على ضوء المعرفة المتوفرة.
مجلة كيتو، المجلد 4، رقم 2 (خريف 1984).
© معهد كيتو، منبر الحرية 12 تشرين الثاني 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

المشكلة المطروحة للبحث
تتناول هذه الورقة تلك الممارسات للشركات التي تلحق تأثيرات ضارة بالآخرين. المثال النموذجي لذلك هو مصنع تؤثر الأدخنة المتصاعدة منه على المقيمين في المناطق المجاورة. وتنطلق التحليلات الاقتصادية لحالة كهذه عادة من الاختلاف بين المنتَج الخاص والمنتَج الاجتماعي للمصنع، ويسلك الاقتصاديون في ذلك إلى حد كبير المعالجة التي طرحها بيغو في اقتصاديات الرفاه. ويبدو أن الاستنتاج الذي يقود إليه هذا الضرب من التحليلات معظمَ الاقتصاديين هو أنه قد يكون من المرغوب به جعل مالك المصنع مسؤولاً عن الضرر الذي لحق بمن تأثروا بالدخان، أو، كبديل عن ذلك، فرض ضريبة على صاحب المصنع تتناسب مع كمية الدخان التي يطلقها المصنع ومساوية في قيمتها المالية للضرر الذي قد تسببه، أو أخيراً، عدم السماح بوجود المصنع في مناطق سكنية (ويفترض في أي مناطق أخرى تكون فيها للدخان تأثيرات ضارة على الآخرين). وفي رأيي أن الحلول المطروحة ليست ملائمة من حيث أنها تؤدي لنتائج ليست مرغوبة بالضرورة أو حتى عادةً.
الطبيعة التبادلية للمشكلة
لقد نزعت المقاربة التقليدية لحجب طبيعة الاختيار الذي يجب اللجوء إليه، والسؤال الذي يخطر في البال عادة هو بما أن (أ) يوقع ضرراً على (ب) فما الذي ينبغي فعله؟ كيف ينبغي لنا وضع قيود تضبط ممارسات (أ)؟ ولكن هذا خطأ، فنحن نتعامل مع مشكلة ذات طبيعة تبادلية، فتجنب إلحاق ضرر بـ(ب) سيلحق ضرراً بـ(أ). والسؤال الحقيقي الذي يجب طرحه هو: هل ينبغي لـ(أ) أن يلحق ضرراً بـ(ب) أو ينبغي لـ(ب) أن يلحق ضرراً بـ(أ)؟ المشكلة هي تجنب الضرر الأشد خطورة. لقد ضربت في مقالي السابق مثلاً على قضية صاحب مصنع للحلوى كان الضجيج والاهتزازات الصادرة من آلاته يزعج طبيباً أثناء عمله. تجنب إزعاج الطبيب سيلحق ضرراً بصانع الحلوى. والمشكلة التي تطرحها هذه القضية هي أساساً ما إذا كان سيكون من المجدي، إذا ما قيدنا أساليب الإنتاج التي يستخدمها صانع الحلوى، تأمين بيئة مناسبة للعمل الطبي على حساب تخفيض منتجات الحلوى. هناك مثال آخر توفره مشكلة الماشية الشاردة التي تتلف المحاصيل في الأراضي المجاورة. إذا لم يكن هناك مفر من أن تشرد بعض المواشي فليس بالإمكان تأمين قدر متزايد من اللحوم إلا على حساب انخفاض في المحاصيل الزراعية. إن طبيعة الاختيار واضحة: لحوم أو محاصيل زراعية. والجواب الذي ينبغي تقديمه غير واضح بالطبع إلا إذا عرفنا قيمة ما تم الحصول عليه إضافة إلى قيمة ما ضحينا به للحصول عليه. ومن الأمثلة الأخرى المثال الذي ضربه البروفيسور جورج جيه. ستيجلر حول تلويث جدول الماء. إذا افترضنا أن التأثير الضار للتلوث هو أنه يؤدي إلى نفوق الأسماك فالسؤال الذي يجب طرحه هو: هل قيمة الأسماك المفقودة أكبر أو أقل من قيمة المنتج الذي يؤدي إلى تلويث الجدول؟ غني عن القول تقريباً بأنه ينبغي النظر إلى هذه المشكلة من ناحية كلية ومن هوامشها.
نظام التسعير مع المسؤولية عن الأضرار
أقترح بدء تحليلي بدراسة حالة يفترض أن معظم الاقتصاديين يوافقون على إمكانية حل المشكلة فيها بطريقة مرضية تماماً: عندما يتعين على الجهة المسببة للضرر أن تدفع تعويضاً عن جميع الأضرار اللاحقة بينما يعمل نظام التسعير بسلاسة (هذا يعني بالضبط أن عملية نظام التسعير لا تكلفة لها أبداً).
قضية المواشي الشاردة التي تتلف المحاصيل الزراعية في الأراضي المجاورة توفر مثالاً جيداً للمشكلة المطروحة للبحث. لنفترض أن مزارعاً ومربي ماشية يعملان في ملكيتين متجاورتين، ولنفترض أيضاً أنه، وبحكم عدم وجود سياج بين الملكيتين، فإن زيادة في حجم قطيع مربي المواشي ستؤدي إلى زيادة الأضرار الكلية اللاحقة بمحصول المزارع. الذي يحصل للضرر الهامشي مع زيادة حجم القطيع مسألة أخرى. هذا يعتمد على ما إذا كانت المواشي في القطيع تميل لأن تتبع بعضها بعضاً أم التجوال جنباً إلى جنب، أو ما إذا كانت تميل لكثرة الحركة بازدياد حجم القطيع، وعوامل مماثلة أخرى. ليس ثمة قيمة مادية، للغرض المباشر لبحثي، لأي افتراض يتم الأخذ به بالنسبة للضرر الهامشي الناتج عن زيادة حجم القطيع.
أقترح، تبسيطاً للنقاش، استخدام مثال من الرياضيات. سأفترض أن التكلفة السنوية لإقامة سياج حول أرض المزارع هي 9 دولارات وأن سعر المحصول هو دولار واحد للطن. سأفترض أيضاً بأن العلاقة بين عدد مواشي القطيع والخسارة السنوية للمحصول هي على النحو التالي:

وفي ضوء أن مربي المواشي مسؤول عن الضرر الناتج فإن التكلفة السنوية الإضافية المفروضة على مربي المواشي إذا زاد من حجم قطيعه من رأسين إلى ثلاثة رؤوس هو 3 دولارات، وفي تقرير حجم القطيع يتعين عليه أن يضع هذا في حسابه إلى جانب تكاليفه الأخرى. أي أنه لن يعمد إلى زيادة حجم القطيع ما لم تكن قيمة اللحوم الإضافية التي سينتجها (بافتراض أن مربي الماشية يعدها للذبح) تزيد عن التكاليف الإضافية التي ستتبعها هذه الزيادة بما في ذلك قيمة المحصول الإضافي المُتلف. بالطبع إذا أمكن تقليل التلف باستخدام كلاب أو حراس أو طائرات أو أجهزة اتصالات لا سلكية أو أي وسائل أخرى فإن استخدام هذه الوسائل سيتم عندما تكون كلفتها أقل من قيمة المحصول والتي يجري استخدامها لمنع إتلافه. وفي ضوء أن التكلفة السنوية للسياج تبلغ 9 دولارات، فإن مربي القطيع الذي يرغب في أن يكون لديه قطيع يتكون من أربعة رؤوس أو أكثر من المواشي سيدفع تكاليف بناء وصيانة سياج بافتراض أن استخدام وسائل أخرى لتحقيق نفس الغرض لن تكون أقل تكلفة. عندما تتم إقامة السياج تصبح التكلفة الهامشية الناتجة عن مسؤولية الضرر صفراً باستثناء أن زيادة حجم قطيع المواشي ستتطلب سياجاً أقوى وبالتالي أغلى لأن عدداً أكبر من المواشي سيتدافع عنده في نفس الوقت. بالطبع، قد يكون من الأرخص لمربي المواشي عدم إقامة سياج ودفع تكاليف المحاصيل التالفة طبقاً لما ورد في مثالي الرياضي أعلاه عند استخدامه ثلاثة رؤوس ماشية أو أقل.
قد يتبادر للذهن بأنه طالما أن مربي المواشي سيدفع الأضرار عن جميع المحاصيل التالفة فقد يدفع هذا المزارع إلى زيادة المزروع في أرضه إذا كان مربي المواشي سيحتل الأرض المجاورة له. هذا غير صحيح. فإذا كان من الواضح أن المحصول يباع في ظروف منافسة صحيحة فإن التكلفة الهامشية ستكون مساوية لسعر الكمية المزروعة وأي توسع في الزراعة سيؤدي إلى تخفيض أرباح المزارع. وفي الحالة الجديدة فإن وجود تلف في المحصول سيعني بأن المزارع سيبيع كمية أقل في السوق ولكن إيراداته من محصول معين ستبقى كما هي لأن مربي المواشي سيدفع سعر السوق لأي كمية تالفة من المحصول. بالطبع إذا كان من المتعارف عليه أن تربية المواشي تؤدي إلى إتلاف محاصيل فإن إيجاد صناعة تربية مواشي قد ترفع سعر المحاصيل المعنية مما يجعل المزارعين عندئذ يزيدون من زراعاتهم. إلا أني أريد تركيز انتباهي على المزارع الفرد.
قلت سابقاً أن إشغال أرض مجاورة من قبل مربي مواشي لن يؤدي إلى زيادة كمية إنتاج المزارع، أو ربما لأغراض الدقة، زيادة الكمية المزروعة. الواقع أنه إذا كان لتربية المواشي أي تأثير فسيكون تخفيض الكمية المزروعة. السبب في ذلك أنه، وفي حالة أي قطعة أرض، إذا كانت قيمة المحصول التالف كبيرة بحيث تصبح الواردات من بيع الأجزاء غير التالفة من المحصول أقل من تكلفة مجموع تكاليف زراعة قطعة الأرض، فسيكون من المربح للمزارع ولمربي الماشية أن يعقدا صفقة تبقى فيها قطعة الأرض دون زراعة. يمكن إيضاح ذلك عن طريق مثال من الرياضيات. لنفترض مبدئياً أن قيمة المحصول التي يمكن الحصول عليها من زراعة قطعة أرض ما هي 12 دولاراً وأن التكلفة المترتبة على زراعة هذه القطعة هي 10 دولارات، فيكون الربح الصافي من زراعة الأرض هو دولارين، وسأفترض، لأغراض البساطة، أن المزارع يملك الأرض. لنفترض الآن أن مربي الماشية بدأ بعمله في القطعة المجاورة وأن قيمة المحصول التالف هو دولار واحد. في هذه الحالة يكون صافي ما يحصل عليه المزارع هو 11 دولاراً ثم يحصل على دولار واحد من مربي الماشية تعويضاً عن التلف الحاصل ويبقى الربح الصافي دولارين اثنين.
لنفترض الآن أن مربي الماشية وجد أن من المفيد له زيادة عدد قطيعه، حتى لو ارتفعت قيمة تعويض المحاصيل التالفة لجاره إلى 3 دولارات، وهذا يعني أن قيمة الإنتاج الإضافي من اللحوم يزيد عن التكاليف الإضافية بما في ذلك الدولارين الإضافيين المدفوعين لتعويض المحاصيل التالفة. ولكن مجمل التعويض عن التلف ارتفع الآن إلى 3 دولارات، وبقي الربح الصافي للمزارع نتيجة زراعة أرضه دولارين. سيكون مربي المواشي في وضع أفضل إذا وافق المزارع على عدم زراعة الأرض مقابل أي دفعة تقل عن 3 دولارات، وسيكون المزارع موافقاً على عدم زراعة الأرض مقابل أي دفعة تزيد عن دولارين. من الواضح أن هناك مجالاً لعقد صفقة متبادلة مرضية ستؤدي إلى التخلي عن الزراعة.[1] إلا أن الحجة نفسها تنطبق ليس فقط على زراعة كامل قطعة الأرض من قبل المزارع، بل على زراعة أي جزء منها. لنفترض، مثلاً، أن لقطيع الماشية مساراً محدداً إلى غدير ما أو مكان يستظل فيه. في حالة كهذه ستكون كمية التلف للمحاصيل الواقعة على جانبي هذا المسار كبيرة، وقد يجد كلاً من المزارع ومربي الماشية، تبعاً لذلك، أن من الأنفع لهما أن يعقدا صفقة يوافق المزارع بموجبها على عدم زراعة الأرض.
بيد أن ذلك يثير احتمالاً آخر. لنفترض أن هناك مساراً محدداً تماماً، ولنفترض أيضاً أن قيمة المحصول التي يمكن الحصول عليها من زراعة الأرض ستكون 10 دولارات ولكن تكلفة الزراعة ستكون 11 دولاراً. إذا لم يكن هناك مربي ماشية في الأرض المجاورة فستمرع الأرض خصباً عند زراعتها، أما بوجود مربي الماشية فمن الجائز جداً عند زراعة الأرض أن يتلف المحصول كله من قبل الماشية. في حالة كهذه يتعين على مربي الماشية دفع 10 دولارات للمزارع. صحيح أن المزارع سيخسر بذلك دولاراً، ولكن مربي الماشية سيخسر 10 دولارات. من الواضح أن هذه حالة لا يحتمل لها أن تستمر إلى ما لا نهاية لأن كلا الطرفين لا يرغبان في استمرار ذلك. سيكون هدف المزارع حث مربي الماشية على دفع مبلغ مقابل ترك الأرض دون زراعة. لن يستطيع المزارع الحصول على مبلغ أكبر من تكلفة إقامة سياج حول قطعته ولا مبلغٍ عالٍ جداً تجعل مربي الماشية يتخلى عن استخدام الأرض المجاورة. المبلغ الذي سيتم دفعه فعلاً سيعتمد على مدى براعة المزارع ومربي الماشية كمفاوضين. ولكن وحيث أن المبلغ لن يكون كبيراً بحيث يدفع مربي الماشية للتخلي عن هذا الموقع، وحيث أنه لن يختلف باختلاف حجم القطيع، فإن اتفاقية كهذه لن تؤثر على تخصيص الموارد ولكنها ستعمل فقط على تغيير توزيع الدخل والثروة بين المزارع ومربي الماشية.
أعتقد أن من الواضح أنه إذا كان مربي المواشي متحملاً لمسؤولية التلف الذي تسبب به وعمل نظام التسعير بسلاسة فإن انخفاض قيمة الإنتاج في نواحي أخرى سيؤخذ في الحسبان عند حساب التكلفة الإضافية الناتجة عن زيادة حجم القطيع. ستجري موازنة هذه التكلفة مقابل قيمة الإنتاج الإضافي من اللحوم كما أن تخصيص الموارد لتربية المواشي سيكون مثالياً في ضوء المنافسة المثالية في هذه الصناعة. ما هو بحاجة للتأكيد عليه هو أن انخفاض قيمة الإنتاج في نواحي أخرى والذي سيؤخذ في الحسبان عند احتساب تكاليف مربي المواشي قد يكون أقل بكثير من قيمة التلف الذي قد يسببه قطيع الماشية للمحصول في الأحوال العادية، لأنه قد يكون من المحتمل، نتيجة للتعامل في السوق، التوقف عن زراعة الأرض. هذا أمر مرغوب به في جميع الحالات التي يكون فيها التلف الذي يسببه القطيع والذي سيكون مربي القطيع مستعداً لدفع تعويض عنه، أكبر من المبلغ الذي سيدفعه المزارع لاستخدام الأرض.
في ظروف المنافسة المثالية تكون القيمة التي سيدفعها المزارع لاستخدام الأرض مساوية للفرق بين القيمة الكلية للإنتاج عند استخدام العوامل على هذه الأرض وقيمة المنتج الإضافي المتحصلة في أفضل استخدام مقبل لهما (وهو المبلغ الذي سيدفعه المزارع من أجل العوامل). إذا تجاوز التلف المبلغ الذي سيدفعه المزارع لاستخدام الأرض فإن قيمة المنتج الإضافي للعوامل المستخدمة في نواحي أخرى ستتجاوز القيمة الكلية للمنتج في هذا الاستخدام بعد احتساب قيمة التلف. يترتب على ذلك أنه قد يكون من المرغوب به التخلي عن زراعة الأرض وتوجيه العوامل المستخدمة في الإنتاج إلى أماكن أخرى.
إن إجراءات تتوخى فقط دفع تعويض عن تلف المحصول بسبب المواشي ولكن دون تفكير في إمكانية وقف الزراعة ستؤدي إلى استخدام ضئيل جداً لعوامل الإنتاج في تربية المواشي واستخدام كبير جداً لعوامل تربية المواشي. ولكن في ضوء احتمالات تعاملات السوق فلن تصمد حالة يتجاوز فيها تلف المحصول قيمة إيجار الأرض. سواءً دفع مربي المواشي للمزارع لترك الأرض دون زراعة أو قام هو نفسه باستئجار الأرض (إذا كان المزارع نفسه هو مستأجر الأرض)، فالنتيجة النهائية ستكون هي نفسها وسترفع قيمة الإنتاج للحد الأقصى. حتى عندما يكون هناك حافز لدى المزارع لزراعة محاصيل ليست زراعتها مربحة عند البيع في السوق فإن ذلك سيكون ظاهرة قصيرة المدى فقط وربما يكون متوقعاً منها أن تؤدي إلى اتفاقية يتم بموجبها التوقف عن الزراعة. سيبقى مربي المواشي في ذلك الموقع وستكون التكلفة الهامشية لإنتاج اللحوم هي نفسها كما كانت من قبل، وبذلك لا يكون لها أثر طويل المدى على تخصيص الموارد.
نظام التسعير دون مسؤولية عن الضرر
أعود الآن إلى الحالة التي، برغم أن نظام التسعير يعمل بسلاسة (أي دون تكاليف)، تكون فيها الجهة المسببة للضرر غير مسؤولة عن أي ضرر تسبب فيه. جهة كهذه ليست مسؤولة عن دفع تعويضات للمتضررين من نشاطاتها. أقترح بأن أعرض بأن تخصيص الموارد في هذه الحالة سيكون هو نفسه في الحالة التي تكون فيها الجهة المسببة للضرر مسؤولة عن الضرر الحاصل. وحيث أني بينت في الحالة السابقة بأن تخصيص الموارد كان مثالياً فلن يكون من الضروري إعادة الحديث في هذا الجزء من النقاش.
أعود إلى حالة المزارع ومربي المواشي. يعاني المزارع من مزيد من التلف لمحصول كلما ازداد حجم القطيع. لنفرض أن حجم قطيع مربي المواشي هو ثلاثة رؤوس (وهذا هو حجم القطيع الذي يجب عدم تجاوزه إذا لم يكن تلف المحصول سيؤخذ في الحسبان). في هذه الحالة سيكون المزارع مستعداً لدفع 3 دولارات إذا خفض مربي المواشي قطيعه إلى رأسين ولغاية 5 دولارات إذا أبقى رأساً واحداً وسيدفع 6 دولارات إذا تخلى مربي المواشي عن هذا النشاط تماماً. تبعاً لذلك فإن مربي المواشي سيتلقى 3 دولارات من المزارع إذا أبقى رأسين فقط في قطيعه بدلاً من ثلاثة رؤوس. هذه الثلاثة دولارات إذن هي جزء من تكاليف إبقاء الرأس الثالث. سواءً كانت الدولارات الثلاث هي مبلغ يتعين على مربي المواشي دفعه إذا أضاف رأساً ثالثاً إلى قطيعه (وهو ما سيحدث إذا كان مسؤولاً تجاه المزارع عن الضرر الواقع على المحصول) أو كانت مبلغاً سيتلقاه إذا لم يحتفظ برأس ثالث (وهو ما سيحدث إذا لم يكن مربي المواشي مسؤولاً تجاه المزارع عن الضرر الواقع على المحصول) فإن النتيجة النهائية لن تتأثر. في كلا الحالتين تكون الدولارات الثلاث هي جزء من تكلفة إضافة رأس ثالث من ضمن التكاليف الأخرى. إذا كانت الزيادة في قيمة الإنتاج من تربية المواشي عن طريق زيادة حجم القطيع من رأسين إلى ثلاثة رؤوس أكبر من التكاليف الإضافية التي سيتم تحملها (بما في ذلك 3 دولارات مقابل الضرر)، فإن حجم القطيع سيزداد. والعكس بالعكس. حجم القطيع سيبقى هو نفسه سواءً كان مربي المواشي مسؤولاً عن ضرر المحصول أم لا.
قد يحاجج البعض بأن نقطة البدء المفترضة—قطيع من ثلاثة رؤوس—هي نقطة جدلية، وهذا صحيح. ولكن المزارع لن يكون مستعداً لدفع أي مبلغ لتجنب تلف المحصول إذا لم يكن بوسع مربي المواشي التسبب في هذا التلف. على سبيل المثال، المبلغ الأقصى الذي قد يمكن حفز المزارع على دفعه سنوياً لا يمكن أن يتجاوز 9 دولارات، وهي قيمة التكلفة السنوية لإنشاء سياج. ولن يكون المزارع مستعداً لدفع هذا المبلغ إذا كان من شأنه خفض أرباحه إلى مستوى يجعله يتخلى عن زراعة قطعة الأرض هذه بالذات. زيادة على ذلك فإن المزارع لن يكون مستعداً لدفع هذا المبلغ إلا إذا كان مقتنعاً بأنه إذا لم يدفع أي مبلغ، فإن حجم القطيع الذي سيحتفظ به مربي المواشي سيكون أربعة رؤوس أو أكثر.
لنفرض أن هذا هو واقع الحال، وعليه فسيكون المزارع مستعداً لدفع ما يصل إلى 3 دولارات إذا خفض مربي المواشي عدد القطيع إلى ثلاثة رؤوس، ولغاية 6 دولارات إذا خفضه إلى رأسين ولغاية 8 دولارات إذا خفضه إلى رأس واحد ولغاية 9 دولارات إذا تم التخلي عن مشروع تربية المواشي. يلاحظ أن التغيير في نقطة البدء لم تغير من قيمة المبلغ الذي سيتوفر لمربي المواشي إذا خفض قطيعه إلى أي عدد. صحيح أن مربي المواشي يستطيع تلقي 3 دولارات إضافية من المزارع إذا وافق على تخفيض عدد مواشي قطيعه من ثلاثة رؤوس إلى رأسين وأن هذه الدولارات الثلاثة تمثل قيمة المحصول الذي سيتلف في حالة إضافة رأس ثالث للقطيع. ورغم أن قناعة مختلفة من جانب المزارع (سواءً كانت مبررة أم لا) حول حجم القطيع الذي سيحتفظ به مربي المواشي إذا لم يدفع له مقابل ذلك قد تؤثر على المبلغ الكلي الذي يمكن حفزه لدفعه، فليس صحيحاً أن هذه القناعة المختلفة سيكون لها أي تأثير على حجم القطيع الذي سيحتفظ به مربي الماشية فعلاً. سيكون هذا نفس الشيء إذا ما كان على مربي الماشية أن يدفع تعويضاً عن التلف الذي تسبب فيه قطيعه، حيث أن دفعة سابقة من مبلغ معين تساوي مبلغاً بنفس القيمة.
قد يخطر في البال أنه ربما كان في صالح مربي المواشي زيادة عدد رؤوس قطيعه عن الحجم الذي يريده بعد أن يكون قد تم التوصل إلى صفقة معينة لكي يحفز المزارع على دفع مبلغ أكبر. قد يكون هذا صحيحاً، ويماثل في طبيعته سلوك المزارع (عندما كان مربي المواشي مسؤولاً عن الضرر) في زراعة الأرض التي، وفقاً لاتفاق مع مربي المواشي، كان سيتم التوقف عن زراعتها (بما في ذلك الأرض التي لن تزرع أبداً في غياب تربية المواشي). ولكن مناورات كهذه إنما هي تمهيد لاتفاق ولا تؤثر على حالة التوازن القائمة منذ وقت طويل، وهي ذاتها سواءً كان مربي المواشي مسوؤلاً عن الضرر الذي توقعه مواشيه على المحصول أم لا.
من الضروري معرفة ما إذا كانت الجهة المسببة للضرر مسؤولة أم لا عن الضرر الناتج حيث أنه دون التحقق من هذا التحديد الأولي للحقوق فلن يكون هناك تعاملات ملحوظة لنقلها وإعادة جمعها. ولكن النتيجة النهائية (التي تعظم قيمة الإنتاج) تعتمد على الوضع القانوني إذا كان لنظام التسعير أن يعمل دون تكلفة.
إحتساب تكلفة معاملات السوق

وصل النقاش إلى هذه النقطة على افتراض أنه لم تكن هناك تكاليف تَدْخل في إجراء تعاملات في السوق. هذا، بالطبع، افتراض غير واقعي للغاية، فلكي يتم إجراء تعامل في السوق فمن الضروري معرفة من هو الشخص الذي ستتعامل معه وجعل الناس يعرفون بأنك ترغب في التعامل وبأي شروط، وإجراء مفاوضات تؤدي إلى عقد صفقة، وكتابة العقد وإجراء التدقيق الضروري للتأكد من الالتزام بشروط العقد وما إلى ذلك. هذه العمليات مكلفة جداً غالباً، ومكلفة بما فيه الكفاية على أي حال لدرجة إحباط عدة تعاملات كان يمكن أن تتم في عالم بنظام تسعير دون تكلفة.
عندما تناولنا، في فصول سابقة، مشكلة إعادة ترتيب الحقوق القانونية من خلال السوق، ذكرنا بأن إعادة ترتيبٍ كهذه ستتم من خلال السوق كلما كان من شأن ذلك أن يؤدي إلى زيادة قيمة الإنتاج. ولكن ذلك كان يفترض تعاملات في السوق دون تكلفة. ما أن تؤخذ تكاليف تنفيذ التعاملات في السوق في الحسبان حتى يصبح من الواضح أن إعادة ترتيب كهذه للحقوق لا يمكن أن تتم إلا عندما تصبح الزيادة في قيمة الإنتاج المترتبة على إعادة الترتيب أكبر من التكاليف التي تتطلبها الزيادة. إذا كانت أقل من التكاليف، فإن إصدار أمر قضائي (أو العلم بأنه سيصدر) أو مسؤولية دفع تعويضات عن الأضرار قد تؤدي إلى وقف نشاط ما (أو منع الشروع به) وهو النشاط الذي كان سيتم لو كانت تعاملات السوق دون تكلفة. في حالات كهذه يكون للتحديدات الأولية للحقوق القانونية تأثر على الكفاءة التي يعمل بها النظام الاقتصادي. فقد يؤدي أحد ترتيبات الحقوق إلى قيمة أكبر في الإنتاج من ترتيب آخر، ولكن ما لم يكن ذلك هو ترتيب الحقوق المقرر من قبل الجهاز القضائي، فإن تكاليف الوصول إلى نفس النتيجة عن طريق تبديل ودمج الحقوق من خلال السوق قد تكون كبيرة لدرجة تجعل من المحتمل عدم تحقيق هذه الترتيبات المثالية للحقوق والقيمة الأكبر في الإنتاج التي ستنشأ عنها. سنبحث في الفصل القادم الجزء المتعلق بالاعتبارات الاقتصادية في عملية تحديد الحقوق القانونية. أما في هذا الفصل فسأتناول التحديد الأولي للحقوق وتكاليف تنفيذ تعاملات السوق حسب الواقع.
من الواضح أن شكلاً بديلاً من النظام الاقتصادي الذي قد يحقق نفس النتائج بتكلفة أقل مما قد يتم تكبده باستخدام السوق سوف يؤدي إلى رفع قيمة الإنتاج. وكما وضحت قبل سنوات عديدة، فإن الشركة تمثل بديلاً كهذا لنظام الإنتاج عن طريق تعاملات السوق. داخل الشركة يتم وقف الصفقات الفردية بين مختلف العوامل المتعاونة في الإنتاج ويتم العمل بقرارات إدارية بدلاً من تعاملات السوق. بعد ذلك تجري إعادة ترتيب الإنتاج دون الحاجة لصفقات بين من يملكون عوامل الإنتاج. قد يكرس مالك يشرف على قطعة كبيرة من الأرض أرضه لاستخدامات متنوعة واضعاً في اعتباره تأثير التداخلات المتشابكة لمختلف النشاطات على الإيرادات الصافية للأرض وبذلك يجعل الصفقات بين من يقومون بالنشاطات المتنوعة مسألة غير ضرورية. إن مالكي بناية كبيرة أو عدة ملكيات متجاورة في منطقة معينة قد يتصرفون بنفس الطريقة. في النتيجة تحصل الشركة على الحقوق القانونية لجميع الأطراف ولا تتبع إعادة ترتيب النشاطات مسار إعادة ترتيب حقوق بموجب عقد بل نتيجة لقرار إداري يحدد كيفية استخدام الحقوق.
لا يعني ذلك، بالطبع، أن التكاليف الإدارية لتنظيم معاملة ما عن طريق شركة هي حتماً أقل من تكاليف تعاملات السوق التي تم إلغاؤها. إلا أنه عندما يكون من الصعب بصورة غير طبيعية صياغة العقود وأن تؤدي محاولة وصف ما اتفق أو لم يتفق عليه الأطراف (مثلاً كمية ونوع الرائحة والضجيج التي قد يحدثوه أو لا يحدثوه) إلى ضرورة إعداد وثيقة مطولة وعميقة التخصص، وعندما يكون من المرغوب به إعداد عقد طويل الأجل، كما هو مرجح، فليس مما يبعث على الدهشة ألا يكون بروز شركة أو تحديد نشاطات شركة قائمة حالياً هو الحل الذي يتم تبنيه في حالات عديدة للتعامل مع مشكلة التأثيرات الضارة. قد يتم تبني هذا الحل كلما كانت التكاليف الإدارية للشركة أقل من تكاليف تعاملات السوق التي ألغتها وكانت المكاسب الناجمة عن إعادة ترتيب النشاطات أكبر من تكاليف الشركة في تنظيمها. لا أحتاج للتوسع في فحص طبيعة هذا الحل حيث أني كنت قد شرحت ما ينطوي عليه في مقال سابق.
ولكن الشركة ليست هي الإجابة الممكنة الوحيدة على هذه المشكلة. فقد تكون التكاليف الإدارية لتنظيم التعاملات ضمن الشركة مرتفعة أيضاً خصوصاً عندما توضع عدة نشاطات مختلفة تحت سيطرة مؤسسة واحدة. في الحالة القياسية لإزعاجٍ ناجم عن الدخان، والذي قد يؤثر على عدد كبير من الناس يمارسون نشاطات مختلفة، فإن التكاليف الإدارية قد تكون عالية جداً بحيث تجعل من المستحيل أن ينحصر التعامل مع المشكلة في شركة واحدة. وأحد الحلول البديلة هو تدخل تنظيمي حكومي مباشر، فبدلاً من إيجاد تنظيم قانوني للحقوق يمكن تعديله بتعاملات في السوق، تستطيع الحكومة فرض أنظمة تنص على ما يجب فعله أو عدم فعله ووجوب إطاعة هذه الأنظمة. تبعاً لذلك، تستطيع الحكومة (بموجب نص قانوني أو على الأغلب عن طريق ترتيبات إدارية)، ومن أجل التعامل مع مشكلة التلوث الدخاني، أن تصدر مرسوماً مفاده السماح أو عدم السماح باستخدام وسائل إنتاج معينة (مثلاً، وجوب تركيب أجهزة منع انبعاث دخان أو عدم استخدام الفحم أو البترول) أو قد تحصر ترخيص نشاطات معينة في مناطق محددة (تنظيم مناطق).
الحكومة هي، على نحو ما، شركة كبيرة (ولكن من نوع خاص جداً) لأنها قادرة على التأثير على عوامل الإنتاج من خلال قرارات إدارية. إلا أن الشركة العادية تخضع لتدقيق عملياتها بسبب منافسة الشركات الأخرى والتي تستطيع إدارة نفس النشاطات بتكلفة أقل، وأيضاً بسبب أن هناك دائماً بديلاً هو تعاملات السوق مقابل التنظيم داخل الشركة إذا أصبحت التكاليف الإدارية كبيرة جداً. تستطيع الحكومة، إذا شاءت، تجنب السوق كلياً، وذلك ما لا تستطيعه الشركات أبداً. الشركات يتعين عليها عقد اتفاقيات سوق مع ملاك عناصر الإنتاج التي تستخدمها، بينما تستطيع الحكومة اللجوء إلى المصادرة والاستملاك وتستطيع أن تأمر بأن استخدام عوامل الإنتاج يجب أن تستخدم فقط بهذه الطريقة أو تلك. الأساليب السلطوية كهذه تخفف كثيراً من المشاكل (بالنسبة لمن يقومون بالتنظيم). إضافة لذلك، فَتَحْت تصرف الحكومة شرطة وأجهزة أخرى لتنفيذ القوانين والتأكد من تطبيق الأنظمة التي تصدرها.
من الواضح أن لدى الحكومة سلطات تمكنها من إنجاز أشياء بتكلفة أقل من المؤسسات الخاصة (أو على أية حال أي مؤسسة ليس لديها سلطات حكومية). إلا أن الجهاز الإداري للحكومة ليس مجانياً، بل الواقع أنه قد يكون باهظ التكلفة أحياناً. زيادة على ذلك فليس هناك سبب للافتراض بأن الأنظمة المحددة وأنظمة تحديد المناطق التي تضعها إدارة قابلة للوقوع في الخطأ وتتعرض لضغوط سياسية وتعمل دون تدقيق منافس ستكون دائماً وبالضرورة هي الأنظمة التي تزيد الكفاءة التي تعمل بها الأجهزة الاقتصادية. إضافة لذلك فإن أنظمة عامة كهذه والتي يجب تطبيقها على حالات متنوعة واسعة سيجري تطبيقها أحياناً في حالات من الواضح أنها غير مناسبة لها. بناءً على هذه الاعتبارات يمكن القول بأن التنظيم الحكومي المباشر لا يؤدي بالضرورة إلى نتائج أفضل من ترك المشكلة للحل بأدوات السوق أو الشركة. بيد أنه يمكن القول وبدرجة متساوية أنه ليس هناك سبب لأن لا يؤدي تنظيم حكومي مباشر كهذا، في بعض الأحيان، إلى تحسن الكفاءة الاقتصادية. يبدو ذلك محتملاً غالباً عندما يطال التأثير عدداً كبيراً من الناس، كما يحدث عادة في مثال الإزعاج الناجم عن الدخان، وحيث، تبعاً لذلك، قد تكون تكلفة معالجة المشكلة، عن طريق السوق أو عن طريق شركة، تكلفة عالية.
هناك، بالطبع، بديل آخر، لا علاقة له بالمشكلة على الإطلاق. وفي ضوء أن تكاليف حل المشكلة عن طريق أنظمة يصدرها الجهاز الإداري الحكومي ستكون مرتفعة غالباً (خصوصاً إذا كان مفهوم التكاليف يشمل جميع العواقب الناجمة عن انشغال الحكومة في هذا النوع من النشاط) فما لا شك فيه أن النتيجة ستكون هي الحالة المتعارف عليها وهي أن المكسب الذي سيتحقق عن طريق تنظيم الأعمال المنتجة للتأثيرات الضارة سيكون أقل من التكاليف التي تتحملها الحكومة في عملية التنظيم.
إن بحث مشكلة التأثيرات الضارة في هذا الفصل (حيث تؤخذ في الحسبان تكاليف تعاملات السوق) قاصر للغاية، ولكنه قد أوضح على الأقل بأن المشكلة هي مشكلة اختيار الترتيب الاجتماعي الملائم للتعامل مع التأثيرات الضارة. هناك تكلفة لجميع الحلول وليس هناك ما يدعو للافتراض بأن الدعوة لتنظيم حكومي تأتي ببساطة لأن السوق أو الشركة لا يستطيعان معالجة المشكلة بطريقة جيدة. لا يمكن التوصل إلى آراء مرضية حول السياسة الضرورية إلا من خلال دراسة متأنية حول الكيفية التي تعالج بها عملياً الأسواق أو الشركات أو الحكومات مشكلة التأثيرات الضارة. يتعين على الاقتصاديين دراسة أسلوب عمل الوسيط في جميع الأطراف معاً، وفعالية التعليمات المقيِّدة، ومشاكل شركات تطوير العقارات الواسعة، وعمليات تخصيص المناطق من قبل الحكومات، والنشاطات التنظيمية الأخرى. في اعتقادي أن الاقتصاديين ومقرري السياسات بشكل عام يميلون للمبالغة في تقدير الفوائد الناجمة عن التنظيم الحكومي. ولكن هذه القناعة، حتى لو كانت مبررة، لا تعدو أن توحي بأن من الضروري تقليص التنظيم الحكومي. إنها لا تبين لنا أين نضع الحدود الفاصلة، ويبدو أن هذا ينبغي أن يأتي عن طريق دراسة مفصلة للنتائج الفعلية لمعالجة المشكلة بطرق عدة. ولكن سيكون من سوء الحظ أن تتم هذه الدراسة بالاستعانة بتحليل اقتصادي خاطئ. الهدف من هذا المقال هو الإشارة إلى ما ينبغي أن تكون عليه المقاربة الاقتصادية لهذه المشكلة.
التحديد القانوني للحقوق والمشكلة الاقتصادية
بالطبع، لو لم تكن هناك تكلفة لتعاملات السوق، فكل ما يهم (بمعزل عن الأسئلة المتعلقة بالإنصاف) هو ضرورة تحديد حقوق الأطراف المختلفة بوضوح وأن يكون من السهل التنبؤ بنتائج الإجراءات القانونية. ولكن، وكما رأينا، فالموقف مختلف تماماً عندما تكون تعاملات السوق مكلفة للغاية بحيث يصبح من الصعب تغيير ترتيبات الحقوق كما حددها القانون. في حالات كهذه فإن المحاكم تؤثر مباشرة على النشاط الاقتصادي. تبعاً لذلك يبدو من المرغوب فيه أن تفهم المحاكم العواقب الاقتصادية لقراراتها وعليها أن تأخذ هذه العواقب في اعتبارها عندما تصدر قراراتها، طالما كان ذلك ممكناً دون خلق الكثير من الشك في الوضع القانوني نفسه. حتى عندما يكون من الممكن تغيير التحديدات القانونية للحقوق من خلال تعاملات السوق فمن الواضح أن من المرغوب به تقليل الحاجة لتعاملات كهذه وبالتالي تخفيض استخدام المصادر المطلوبة لتنفيذها.
إن دراسة شاملة للافتراضات المسبقة للمحاكم في النظر في قضايا كهذه ستكون في غاية الأهمية ولكنني لم أتمكن من محاولة البدء بذلك. مع ذلك فمن الواضح من خلال دراسة سريعة أن المحاكم قد أدركت غالباً الأبعاد الاقتصادية لقراراتها وأنها تعي (بأكثر من العديد من الاقتصاديين) الطبيعة التبادلية للمشكلة. إضافة لذلك فإن المحاكم تأخذ، بين حين وآخر، هذه الأبعاد الاقتصادية في الاعتبار إلى جانب عوامل أخرى عند اتخاذ قراراتها. الكتّاب الأمريكيون المختصون في هذا المجال يشيرون إلى السؤال بطريقة أكثر وضوحاً من الكتّاب البريطانيين. من هنا، واقتباساً من عالم الاقتصاد بوزنر عن الجنح، يمكن لشخص ما استخدام أملاكه الخاصة أو ممارسة أعماله الخاصة على حساب بعض الإزعاج لجيرانه. يمكن له تشغيل مصنع ينتج عن دخانه وضجيجه بعض الإزعاج للآخرين طالما أن ذلك يتم في حدود معقولة. فقط عندما تصبح الممارسات غير معقولة—في ضوء طبيعة استخداماته والضرر الناتج عنها—يصح اعتبارها مؤذية. كما قيل في قضية قديمة حول صناعة الشموع في إحدى المدن الصغيرة (فائدة الشيء تغطي على وجود الرائحة الكريهة): يجب أن يكون هناك في العالم مصانع، ومعامل صهر، ومصافي بترول وآلات تُصدر ضجيجاً وانفجارات حتى لو كان ذلك على حساب بعض الإزعاج لأولئك الذين يعيشون في الضواحي المحيطة وقد يطلب من المدعي قبول بعض الإزعاج المعقول من أجل الصالح العام.
لا يوضح عامة الكتّاب البريطانيين على هذا النحو بأن مقارنةً بين المنفعة والضرر الناتج تعتبر عنصراً في تقرير ما إذا كانت التأثيرات الضارة تعتبر مؤذية. إلا أنه يمكن العثور على وجهات نظر مماثلة وإن كان التعبير عنها أقل حدة. المبدأ القائل بأن التأثير الضار يجب أن يكون ملموساً قبل أن تتدخل المحكمة، يعكس جزئياً، دون شك، حقيقة أنه سيكون هناك دائماً تقريباً نوع من المكسب يوازن الضرر. ومن الواضح في تقارير قضايا الأفراد أن القضاة قد أخذوا في اعتبارهم الخسارة مقابل الربح عندما يقررون توجيه إنذار أو الحكم بتعويضات.
المشكلة التي نواجهها في التعامل مع تصرفات ذات تأثيرات ضارة ليست ببساطة مشكلة تقييد أولئك المسؤولين عنها. ما يجب اتخاذ قرار بصدده هو ما إذا كان المكسب من منع الضرر أكبر من الخسارة التي قد تلتحق بآخرين نتيجة لوقف العمل المنتج للضرر. في عالم توجد فيه تكاليف لإعادة ترتيب الحقوق التي أوجدها النظام القضائي، تقوم المحاكم فعلياً في القضايا المتعلقة بالإزعاج والأذى باتخاذ قرارات حول المشاكل الاقتصادية وتقرر كيفية استخدام الموارد. قيل بأن المحاكم تدرك ذلك وأنها غالباً ما تجري مقارنة، ولكن ليس بطريقة واضحة تماماً، بين الكسب الذي قد يتحقق والخسارة التي قد تحدث في حالة منع أعمال ذات تأثيرات ضارة. ولكن تحديد الحقوق جاء أيضاً لسن قوانين، وهنا نجد أيضاً دليلاً على تقدير الطبيعة التبادلية للمشكلة. وفي حين أن القوانين التشريعية تضاف إلى قائمة المزعجات، يتم استحداث قوانين للسماح قانوناً بأعمال قد يمكن اعتبارها إزعاجاً ضمن الأعراف والتقاليد. إن نوع الحالة التي قد يُطلب من الاقتصاديين النظر في ضرورة إيجاد تشريع حكومي تصحيحي لها هي، في الواقع، غالباً ما تكون قد برزت نتيجة لعمل حكومي. عمل كهذا ليس غير حكيم بالضرورة، ولكن هناك خطراً حقيقياً في أن تدخلاً حكومياً ممتداً في الشأن الاقتصادي قد يؤدي إلى حماية أكثر مما ينبغي للمسؤولين عن إنتاج التأثيرات الضارة.
معالجة بيغو في “اقتصاديات الرفاه”

رأس النبع في التحليل الاقتصادي الحديث للمشكلة المطروحة للبحث في هذا المقال هو كتاب بيغو:اقتصاديات الرفاه، وخصوصاً ذلك الفصل من الجزء الثاني الذي يتناول الاختلاف بين المنتجات النهائية على المستوى الخاص والمستوى الاجتماعي التي تحدث لأن فرداً (أ) في سياق تقديمه خدمة ما، مدفوعة الأجر، لشخص آخر (ب) يقدم أيضاً ودون قصد خدمات أو يلحق ضرراً لأشخاص آخرين (ليسوا منتجين لخدمات مماثلة) بطريقة تجعل من غير الممكن تقاضي الثمن من الأطراف المستفيدة أو تفرض تعويضاً نيابة عن الأطراف المتضررة. يقول لنا بيغو أن هدفه في الجزء الثاني من اقتصاديات الرفاه هو التأكد من المدى الذي تميل فيه حرية التصرف في سبيل المصلحة الذاتية، ضمن النظام القانوني الحالي، إلى توزيع موارد البلاد بأفضل طريقة مناسبة لإنتاج عائدات قومية كبيرة وإلى أي مدى تفيد إجراءات الدولة في إدخال تحسينات على الميول “الطبيعية”.
إذا أردنا الحكم على الأمر من الجزء الأول لهذا النص نجد أن قصد بيغو هو اكتشاف ما إذا كان بالإمكان إدخال أي تحسينات على الترتيبات القائمة حالياً التي تحدد استخدام الموارد. وحيث أن استنتاج بيغو هو أن بالإمكان إدخال تحسينات فربما كان المرء يتوقع منه الاستمرار بالقول بأنه يقترح عرض التغييرات المطلوبة لإيجاد هذه التحسينات. عوضاً عن ذلك فإن بيغو يضيف عبارة تضع الميول “الطبيعية” في تناقض مع إجراءات الدولة، والتي يبدو أنها تساوي على نحو ما بين الترتيبات الحالية والميول “الطبيعية” والإيحاء بأن المطلوب لإيجاد هذه التحسينات هو الإجراءات الحكومية (إذا كانت مجدية). هذا هو تقريباً موقف بيغو كما يستدل من الفصل الأول من الجزء الثاني.
يبدأ بيغو بالإشارة إلى “الأتباع المتفائلون للاقتصاديين التقليديين” الذين حاججوا بأنه يمكن تعظيم قيمة الإنتاج إذا امتنعت الحكومة عن أي تدخل في النظام الاقتصادي والترتيبات الاقتصادية إذا كانت تجري بصورة “طبيعية”. ويمضي بيغو إلى القول أنه إذا كانت المصلحة الذاتية تروج الرفاه الاقتصادي فذلك لأن المؤسسات الإنسانية قد صممت لهذه الغاية. (هذا الجزء من محاججة بيغو، والذي طورها باقتباس من كارمان، يبدو لي صحيحاً). وينتهي بيغو إلى أنه:
“حتى في أشد الحالات تقدماً هناك قصور وأخطاء… عوائق عديدة تمنع من توزيع موارد المجتمع… بأقصى قدر من الكفاءة. دراسة هذه العوائق هي مشكلتنا الحالية… وأغراضها بصورة أساسية هي أغراض عملية، فهي تسعى إلى إيضاح بعض السبل التي تجعل من المجدي الآن أو قد يصبح من المجدي في نهاية المطاف للحكومات أن تسيطر على حركات القوى الاقتصادية بطريقة حكيمة لتشجيع الرفاه الاقتصادي، ومن خلاله، الرفاه الكلي، لمواطنيها جميعاً”.
يبدو أن فكرة بيغو الأساسية هي: حاجَجَ البعض بأنه لا حاجة لأي إجراء حكومي، ولكن النظام عمل بهذه الجودة بسبب الإجراءات الحكومية. مع ذلك فلا زال هناك أخطاء. ما هو الإجراء الحكومي الإضافي المطلوب؟ إذا كان هذا تلخيصاً صحيحاً لموقف بيغو، فإن العيب فيه يمكن إيضاحه عن طريق فحص المثال الأول الذي قدمه حول الفرق بين المنتجات الخاصة والمنتجات الاجتماعية. قد يحدث… أن تُلقى تكاليفٌ على أناسٍ ليسوا معنيين بالموضوع بصورة مباشرة، فلنقل، أضرارٌ دون تعويض لحقت بالغابات المجاورة بسبب نيران اندلعت من محركات قاطرات. جميع هذه التأثيرات ينبغي أن تكون مشمولة، بعضها سيكون إيجابياً وبعضها عناصر سلبية—في تقدير الناتج الاجتماعي الصافي من الزيادة الهامشية لأي حجم من الموارد تم تحويلها لأي استخدام أو أي مكان.
المثال المستخدم من قبل بيغو يشير إلى حالة حقيقية. ففي بريطانيا لا يتعين على هيئة السكك الحديدية عادة تعويض الذين يتعرضون لأضرار من النيران الناتجة عن شرر انطلق من محرك. أفهم توصيات بيغو في السياسة التي يجب انتهاجها في ضوء ما يقوله في الفصل التاسع من الجزء الثاني: أولاً، أنه يجب أن يكون هناك إجراء حكومي لتصحيح هذه الحالة “الطبيعية”، وثانياً أنه يجب إرغام هيئة السكك الحديدية على تعويض أولئك الذين تحرق غاباتهم. إذا كان هذا تفسيراً صحيحاً لموقف بيغو فأود القول بأن التوصية الأولى تستند إلى سوء فهم للحقائق وأن التوصية الثانية ليست أمراً مرغوباً به بالضرورة.
لندرس الآن الوضع القانوني. تحت عنوان “شررٌ من محركات” نجد ما يلي في القوانين الإنجليزية لهالسبوري:
“إذا استخدم القائمون على السكك الحديدية محركات بخارية في النقل على سككهم الحديدية دون سلطة قانونية لفعل ذلك فسيكونون مسؤولين، بغض النظر عن أي إهمال من جانبهم، عن النيران المشتعلة بسبب شررٍ انطلق من المحركات. إلا أن القائمين على السكك الحديدية لديهم صلاحيات تشريعية لاستخدام المحركات البخارية على سككهم الحديدية؛ وبناءً عليه، فإذا تم صنع محرك باستخدام الاحتياطات التي يقترحها العمل ضد النيران وتم استخدام هذا المحرك دون إهمال، فإنهم لا يكونون مسؤولين بموجب الأعراف والتقاليد عن أي ضرر قد يحدث بفعل الشرر… القائمون على السكك الحديدية ملزمون عند صناعة المحرك باستخدام جميع الاكتشافات التي وضعها العلم ضمن إمكانياتهم في سبيل تجنب إحداث أضرار، شريطة أن تكون هذه الاكتشافات معقولة بحيث تجعل الشركة تتبناها، مع إيلاء اهتمام مناسب لاحتمالات وقوع الضرر وللتكلفة وقابلية الإصلاح؛ ولكن لا يعتبر إهمالاً من جانب المسؤول في السكك الحديدية إذا رفض استخدام أجهزة أو أدوات مشكوك في كفاءتها وملائمتها. هناك استثناء لهذه القاعدة العامة ينطلق من قانون السكك الحديدية (النيران) لعام 1905 وتعديلاته عام 1923. وهذا يختص بالأراضي الزراعية أو المحاصيل الزراعية”.
في حالة كهذه فإن حقيقة أن المحرك قد تم استخدامه بموجب سلطات تشريعية لا يؤثر على مسؤولية الشركة في دعوى للتعويض عن الأضرار. بيد أن هذه المواد تنطبق فقط على الحالة التي لا تتجاوز فيها دعوى الضرر 200 جنيهاً [100 في قانون 1905] وحيث ينبغي أن تكون هناك مذكرة خطية عن حدوث الحريق والنية في المطالبة بتعويض قد تم إرسالهما إلى الشركة خلال سبعة أيام من وقوع الأضرار مع بيان مفردات الأضرار خطياً وبيان قيمة الدعوة على أن لا يتجاوز المبلغ 200 جنيهاً وأن ترسل المطالبة إلى الشركة خلال واحد وعشرين يوماً.
الأرض الزراعية لا تشمل الأرض الرعوية أو المباني، والمحاصيل الزراعية لا تشمل تلك التي تنقل بعيداً أو يجري تكديسها. لم أقم بدراسة عن كثب للتاريخ البرلماني لهذا الاستثناء القانوني، ولكن من الاطلاع على النقاشات في مجلس العموم خلال عامي 1922 و1923 يتضح بأن هذا الاستثناء قد تم تصميمه على الأرجح لصالح صغار الملاّك.
لنعد إلى مثال بيغو حول الأضرار غير المعوض عنها للغابات المجاورة التي نتجت عن شرر انطلق من محركات القطارات الحديدية. يفترض أن القصد من ذلك هو بيان كيف أن من الممكن “لإجراءات الحكومة أن تحسّن الميول [الطبيعية]”. إذا تعاملنا مع مثال بيغو باعتباره إشارة للوضع قبل عام 1905 أو باعتباره مثالاً جدلياً (من حيث أنه كان بإمكانه أن يكتب “بنايات مجاورة” بدلاً من “غابات مجاورة”) فعندئذ يصبح جلياً أن السبب في عدم دفع تعويض لا بد أن يكون أنه كان لسكك الحديد سلطة قانونية تخولها تسيير قطارات بخارية (والتي أعفتها من المسؤولية عن النيران الناتجة عن الشرر). هذا الوضع القانوني تأسس عام 1860 في قضية، وللغرابة، تتعلق بنشوب حريق في غابات مجاورة لسكة جديدة، ولم يتغير القانون حول هذه النقطة (ما عدا ذلك الاستثناء الوحيد) خلال قرن من التشريعات الخاصة بالسكك الحديدية، بما في ذلك التأميم.
إذا تعاملنا مع مثال بيغو حول “الضرر غير المعوض عنه للغابات المحيطة بسبب شرر انطلق من محركات قاطرات سكك حديدية” حرفياً، وافترضنا أنه يشير للفترة بعد عام 1905، عندئذ يصبح جلياً أن السبب في عدم دفع التعويض هو بالتأكيد لأن قيمة الضرر زادت عن 100 جنيهاً (في الطبعة الأولى من اقتصاديات الرفاه) أو اكثر من 200 جنيهاً (في طبعات لاحقة) أو أن مالك الغابة لم يبلغ السكك الحديدية خطياً خلال سبعة أيام من وقوع الحريق أو لم يرسل بياناً خطياً بمفردات الأضرار خلال 21 يوماً. في العالم الحقيقي، ليس هناك وجود لمثال بيغو إلا نتيجة لاختيار مدبر من قبل المشرِّع. ليس من السهل، بالطبع، تصور بناء سكة حديد بحالة طبيعية. أقرب ما يمكن للمرء أن يفكر فيه حول ذلك هو ما يفترض أنه سكة حديد تستخدم محركات بخارية “دون سلطة قانونية محددة”. إلا أن سكة الحديد ستكون ملزمة، في هذه الحالة، بتعويض أولئك الذين احترقت غاباتهم. أي، بعبارة أخرى، أن التعويض سيدفع في غياب إجراءات حكومية. الظروف الوحيدة التي لا يدفع فيها تعويض ستكون تلك الظروف التي لم تتخذ فيها إجراءات حكومية. ومن الغريب أن بيغو، الذي من الواضح أنه كان يعتقد بأن من الأفضل دفع التعويض، قد اختار هذا المثال بالذات للتدليل على كيف أن من الممكن “لإجراءات الدولة إدخال تحسينات على الميول [الطبيعية]”.
يبدو أنه كانت هناك أفكار غير صحيحة لدى بيغو حول حقائق هذه الحالة. ولكن يبدو أيضاً من المحتمل أنه كان مخطئاً في تحليله الاقتصادي. ليس من المرغوب فيه بالضرورة أن يتعين على سكة الحديد دفع تعويض للمتضررين من نيران اندلعت بسبب محركات القطارات. لست بحاجة إلى أن أبين هنا أنه إذا استطاعت شركة السكك الحديدية عقد صفقة مع كل من له عقار مجاور لخط السكك الحديدية ولم يكن هناك تكاليف في عقد هذه الصفقات، فليس من المهم فيما إذا كانت سكك الحديد مسؤولة عن الأضرار الناجمة عن النيران أم لا. لقد تم بحث هذه المسألة مطولاً في فصول سابقة. المشكلة هي فيما إذا كان من المرغوب به جعل السكك الحديدية مسؤولة في ظروف يكون فيها عقد صفقات من هذا النوع باهظ التكاليف.
من الواضح أن بيغو قد فكر أنه كان من المرغوب فيه إلزام السكك الحديدية بدفع تعويض ومن السهل فهم نوع النقاش الذي كان قد أدى به إلى هذا الاستنتاج. لنفرض أن شركة سكك حديدية تفكر في تسيير قطار إضافي أو زيادة سرعة قطار حالي أو تركيب أجهزة تمنع انطلاق الشرر من محركات قطاراتها. إذا لم تكن الشركة مسؤولة عن أضرار الحريق فإنها، عند اتخاذ هذه القرارات، لن تأخذ في الحسبان، كتكلفة، زيادة الضرر بسبب القطار الإضافي أو القطار الأسرع أو عدم تركيب أجهزة لمنع انطلاق الشرر. هذا هو مصدر الاختلاف بين الناتج الصافي الخاص والناتج الصافي الاجتماعي. إنه يؤدي إلى أن تقوم السكك الحديدية بأعمال من شأنها تخفيض قيمة الناتج الإجمالي—والتي لم تكن لتقوم بها لو كانت مسؤولة عن الأضرار. ويمكن إيضاح ذلك عن طريق مثال باستخدام الرياضيات.
لنفترض شركة سكك حديدية ليست مسؤولة عن الأضرار الناشئة عن اندلاع نيران بسبب شرر من محركات قطاراتها وتستخدم قطارين يومياً على خط معين. لنفترض أن تسيير قطار واحد يومياً سيمكن سكة الحديد من تقديم خدمات تساوي 150 دولاراً سنوياً وتسيير قطارين سيمكنها من تقديم خدمات تساوي 250 دولاراً سنوياً. لنفترض أيضاً أن تكلفة تسيير قطار واحد تساوي 50 دولاراً سنوياً وقطارين 100 دولار سنوياً. بافتراض منافسة صحيحة، تكون التكلفة معادلة لانخفاض قيمة الإنتاج في نواحي أخرى بسبب استخدام عوامل إنتاج إضافية من قبل شركة السكك الحديدية. من الواضح أن الشركة ستجد أن من المربح لها تسيير قطارين يومياً.
ولكن لنفترض أن تسيير قطار واحد يومياً سيشعل حرائق تتلف محاصيل بقيمة 60 دولاراً (كمعدل خلال السنة) وتسيير قطارين سيؤدي إلى إتلاف محاصيل بقيمة 120 دولاراً. في ظروف كهذه يؤدي تسيير قطار واحد إلى زيادة قيمة الإنتاج الإجمالي ولكن تسيير قطار آخر سيؤدي إلى خفض قيمة الإنتاج الإجمالي. القطار الثاني سيجعل من الممكن تقديم خدمات إضافية بقيمة 100 دولار سنوياً، ولكن قيمة الإنتاج في نواحي أخرى ستنخفض بمقدار 110 دولارات سنوياً؛ 50 دولاراً نتيجة لاستخدام عوامل إنتاج إضافية و60 دولاراً نتيجة لإتلاف محاصيل. وحيث أنه سيكون من الأفضل لو لم يتم تسيير القطار الثاني، وحيث أنه لن يتم تسييره إذا اتضح بأن سكة الحديد ستكون مسؤولة عن الأضرار الواقعة على المحاصيل، فيبدو من الصعب مقاومة الاستنتاج بضرورة جعل الشركة مسؤولة عن الأضرار. ليس هناك من شك في أن منطقاً من هذا النوع هو الذي يحدد موقف بيغو.
الاستنتاج بأنه سيكون من الأفضل أن لا يتم تسيير قطارٍ ثان هو استنتاج صحيح. أما الاستنتاج بأن من المرغوب فيه أن تكون شركة سكة الحديد مسؤولة عن الضرر الذي تسبب به فهو خطأ. دعنا نغير افتراضنا الخاص بقاعدة المسؤولية. لنفرض أن سكة الحديد مسؤولة عن الضرر الناتج عن الحرائق الناشئة عن تطاير الشرر من المحركات. إن مزارعاً في الأراضي المجاورة لخط السكة الحديدية سيكون عندئذ في وضع يخوله، في حالة تدمير محصوله بنيران تسببت فيها الشركة، بتقاضي سعر السوق من الشركة، ولكن إذا لم يدمر محصوله فسيتقاضى سعر السوق نتيجة للمبيعات. تبعاً لذلك لا يعود هناك فرق لديه فيما إذا تم تدمير محصوله أم لا. الوضع مختلف تماماً إذا لم تكن شركة سكة الحديد مسؤولة، فأي تدمير للمحصول بواسطة نيران تسببت فيها الشركة سيخفّض عندئذ من عائدات المزارع، وتبعاً لذلك سيمتنع عن زراعة أي أرض يحتمل أن يكون فيها التلف أكبر قيمة من العائدات الصافية لزراعة الأرض (لأسباب تم شرحها باستفاضة في الفصل الثالث). تبعاً لذلك فإن تغييراً على نظام تكون فيه شركة سكة الحديد غير مسؤولة عن الأضرار إلى نظام تصبح فيه مسؤولة سيؤدي، على الأرجح، لزيادة في زراعة الأراضي المجاورة لخط السكة الحديدية. كما أن هذا التغيير سيؤدي أيضاً، بالطبع، إلى زيادة في كمية المحاصيل التالفة بواسطة حرائق تسببت بها القطارات.
لنعد إلى مثالنا الرياضي. لنفترض أنه مع تغير قاعدة المسؤولية تضاعفت كمية تدمير المحصول الناجمة عن نيران تسببت بها محركات القطارات. في حالة قطار واحد يومياً سيتم تدمير محاصيل بقيمة 120 دولاراً سنوياً وفي حالة تسيير قطارين يومياً سيتم تدمير محاصيل بقيمة 240 دولاراً سنوياً. رأينا سابقاً أنه لن يكون من المربح تسيير القطار الثاني إذا كان على الشركة أن تدفع 60 دولاراً سنوياً للتعويض عن الأضرار. وفي حالة أن كلفت التعويضات 120 دولاراً سنوياً فإن الخسارة من تسيير القطار الثاني ستزيد بمقدار 60 دولاراً. ولكن لنأخذ في الاعتبار مسألة القطار الأول، حيث قيمة خدمات النقل التي يقدمها هذا القطار تبلغ 150 دولاراً في حين أن تكاليف تشغيله هي 50 دولاراً. المبلغ الذي ستدفعه الشركة تعويضاً عن الأضرار هو 120 دولاراً. هذا يؤدي إلى الاستنتاج بأنه ليس من المربح تسيير أي قطار، فباستخدام الأرقام في مثالنا نصل إلى النتيجة التالية: إذا لم تكن شركة سكة الحديد مسؤولة عن الأضرار فسيتم تسيير قطارين يومياً، أما إذا كانت الشركة مسؤولة عن الأضرار فستوقف تشغيل قطاراتها كلياً. هل هذا يعني أن من الأفضل ألا تكون هناك سكة حديد؟ يمكن الإجابة على هذا السؤال بالتفكير فيما قد يحصل لقيمة الإنتاج الكلي إذا تقرر إعفاء سكة الحديد من المسؤولية عن أضرار الحرائق، وبذلك يتم إعادتها للعمل (بتسيير قطارين يومياً).
تشغيل سكة الحديد سيؤمن تشغيل خدمات نقل بقيمة 250 دولاراً سنوياً، كما أن ذلك سيعني استخدام عوامل إنتاج من شأنها تخفيض قيمة الإنتاج في نواحي أخرى بمقدار 100 دولاراً. إضافة لذلك فسيعني أيضاً تدمير محاصيل بقيمة 120 دولاراً، كما أن تشغيل السكة سيؤدي إلى التخلي عن زراعة جزء من الأرض. ولما كنا نعرف أنه لو كانت هذه الأرض قد زرعت فإن قيمة المحاصيل التالفة ستبلغ 120 دولاراً وحيث أنه من المستبعد أن يتم تدمير كامل المحصول فيبدو من المعقول أن كمية المحصول من هذه الأرض ستكون أكثر من ذلك، ولنفترض أنها ستبلغ 160 دولاراً. ولكن التخلي عن زراعة الأرض سيحرر عوامل الإنتاج لتستخدم في أماكن أخرى. كل ما نعرفه أن كمية الزيادة في قيمة الإنتاج في أماكن أخرى ستكون أقل من 160 دولاراً. لنفرض أنها ستكون 150 دولاراً. عندئذ سيكون المكسب من تشغيل سكة الحديد 250 دولاراً (قيمة خدمات النقل) ناقص 100 دولاراً (قيمة عوامل الإنتاج) ناقص 120 دولاراً (قيمة المحاصيل التالفة بسبب النيران) ناقص 160 دولاراً (انخفاض قيمة إنتاج المحصول بسبب التخلي عن الزراعة) زائد 150 دولاراً (قيمة الإنتاج في أماكن أخرى نتيجة لتحرير عوامل الإنتاج). بالإجمال، سيزيد تشغيل سكة الحديد قيمة الإنتاج الإجمالي بقيمة 20 دولاراً.
من الواضح، بهذه الأرقام، أن سكة الحديد ينبغي ألا تكون مسؤولة عن الأضرار التي تتسبب بها وبذلك تتمكن من العمل مع تحقيق أرباح. بالطبع، إذا غيرنا الأرقام فسيكون من الممكن بيان أن هناك حالات أخرى قد يكون من المرغوب فيها أن تكون سكة الحديد مسؤولة عن الضرر الذي تتسبب فيه. يكفي للغرض الذي أقصده أن أبين بأنه، من وجهة نظر اقتصادية، فإن حالة توجد فيها “أضرار دون تعويض حصلت لغابات بسبب شرر انطلق من محركات قطارات” ليست حالة غير مرغوبة بالضرورة. أن تكون مرغوبة أم لا تعتمد على ظروف معينة. كيف حصل أن تحليل بيغو يبدو أنه يوفر الجواب الخطأ؟ السبب هو أن بيغو لا يبدو أنه قد لاحظ بأن تحليله يتناول مسألة مختلفة تماماً. التحليل من هذه الزاوية صحيح، ولكن لا يحق أبداً لبيغو أن يتوصل إلى ذلك الاستنتاج بالذات الذي توصل إليه.
السؤال المطروح للبحث ليس ما إذا كان من المرغوب به تسيير قطار إضافي أو قطار أسرع أو تركيب أجهزة منع حرائق؛ السؤال المطروح للبحث هو ما إذا كان من المرغوب به أن يكون هناك نظام يتعين فيه على شركة سكة الحديد تعويض أولئك الذين يتعرضون لأضرار بسبب حرائق تسببت بها الشركة أو نظام لا يتعين عليها فيه دفع تعويضات. عندما يقارن اقتصادي ترتيبات اجتماعية بديلة، فالأسلوب الصحيح هو مقارنة الناتج الاجتماعي الإجمالي الناجم عن هذه الترتيبات المختلفة. مقارنة الناتج الاجتماعي بالناتج الخاص ليس هنا ولا هناك، ويمكن استخدام مثال بسيط لإيضاح ذلك: تخيل بلدة فيها إشارات ضوئية. يقترب سائق سيارة من تقاطع ويتوقف لأن الضوء أحمر. ليس هناك سيارات أخرى تقترب من التقاطع من الجهات الأخرى. إذا تجاهل السائق الإشارة الحمراء فلن يقع حادث وسيزيد الناتج الإجمالي لأن السائق سيصل خلال وقت أقل إلى وجهته. لماذا لا يفعل ذلك؟ السبب هو أنه إذا تجاوز الإشارة الحمراء فقد تجري مخالفته. الناتج الخاص من اجتياز الشارع أقل من الناتج الاجتماعي. هل يتعين علينا الاستنتاج من ذلك أن الناتج الإجمالي سيكون أكبر إذا لم تكن هناك مخالفات لعدم الالتزام بالإشارة الضوئية؟ تحليل بيغو يبين لنا أن من الممكن التفكير بعوامل أخرى أفضل من العالم الذي نعيش فيه، ولكن المشكلة هي ابتكار ترتيبات عملية من شأنها تصحيح الخلل في جزء من النظام دون التسبب في مزيد من الأضرار الخطيرة في أجزاء أخرى.
لقد فحصت بالكثير من التفصيل في مثال واحد الاختلاف بين الناتج الخاص والناتج الاجتماعي ولست أقترح مزيداً من التدقيق في النظام التحليلي لبيغو. إلا أن البحث الرئيسي للمشكلة الذي تطرقنا له في هذا المقال موجود في ذلك القسم من الفصل التاسع في الجزء الثاني والذي يتناول الدرجة الثانية من التشعب في نظرية بيغو، ومن المثير للاهتمام ملاحظة الطريقة التي يطور بها بيغو مناقشته. لقد تم اقتباس وصف بيغو نفسه لهذه الدرجة الثانية من التشعب في بداية هذا الفصل. ويميز بيغو بين الحالة التي قدم فيها شخص خدمات لا يتلقى أجراً عنها والحالة التي يُحدِثُ فيها شخص ضرراً دون دفع تعويض للأطراف المتضررة.
لقد تركز اهتمامي الأساسي، بالطبع، على هذه الحالة الثانية، ومن المدهش، تبعاً لذلك، أن نجد، كما بين لي البروفيسور فرانسيسكو فورت، أن مشكلة المدخنة التي يتصاعد منها الدخان—”حالة الأسهم” أو “مثال غرفة الصف” في الحالة الثانية تستخدم من قبل بيغو كمثال على الحالة الأولى (خدمات دون أجر)—وليس لها ذكر أبداً، بشكل واضح على أية حال فيما يتصل بالحالة الثانية. يشير بيغو إلى أن أصحاب المصانع الذين يخصصون موارد للحد من تصاعد الدخان من مداخنهم يقدمون خدمات لا يتقاضون مقابلها أجراً. المعنى في ذلك، في ضوء نقاش بيغو في مكان لاحق من الفصل، هو أن مالك مصنع ذي مداخن ينبغي أن يُعطى منحة لحفزه على تركيب أجهزة لمنع تصاعد الدخان. معظم الاقتصاديين العصريين يقترحون فرض ضريبة على مالك المصنع ذي المدخنة التي يتصاعد منها الدخان. يبدو من المؤسف أن الاقتصاديين (باستثناء البروفيسور فورت) لا يبدو أنهم لاحظوا هذا الجانب من معالجة بيغو، حيث أن الإدراك بأنه يمكن معالجة المشكلة في أي من هاتين الطريقتين سيؤدي، على الأرجح، لاعتراف واضح بطبيعتها التبادلية.
عند بحث الحالة الثانية (إلحاق أضرار دون تعويض للمتضررين) يقول بيغو بأن هذه الأضرار تحدث “عندما يقوم مالك قطعة أرض في حي سكني في مدينة ببناء مصنع في أرضه وبذلك يدمر جزءاً كبيراً من مقومات الحياة في الأراضي المجاورة؛ أو، بدرجة أقل، عندما يستخدم موقعه بطريقة تحجب الضوء عن البيت المقابل؛ أو عندما يستثمر موارده في إقامة بنايات في منطقة مكتظة حيث ينجم عن ذلك، بسبب سد الفضاء وساحات الترويح في الحي إلى الإضرار بصحة ونشاط العائلات الي تعيش هناك”. بيغو محق تماماً، بالطبع، عندما يصف أعمالاً كهذه باعتبارها “أضراراً دون مقابل”، ولكنه على خطأ عندما يصف أعمالاً كهذه بأنها “غير اجتماعية”. قد تكون كذلك أو لا تكون. فمن الضروري موازنة الضرر ضد المنافع التي ستتحقق. وليس هناك ما يمكن أن يكون “غير اجتماعي” أكثر من معارضة أي عمل يسبب ضرراً لأي شخص. إن المثال الذي يفتتح به بيغو نقاشه حول “الأضرار دون مقابل” ليس هو، كما أشرت، حالة المدخنة التي يتصاعد منها الدخان بل حالة الأرانب الجائحة… أضرار عرضية دون مقابل تلحق بأطراف ثالثة عندما تشمل نشاطات المحافظة على الحيوانات البرية من جانب مالك أرض ما دخول أرانب جائحة إلى أرض مالكٍ مجاور.
هذا مثال ذو أهمية غير عادية، ليس بسبب كون التحليل الاقتصادي للقضية مختلفاً بصورة أساسية عن الأمثلة الأخرى، بل للخاصية الغريبة في الموقف القانوني والضوء الذي تسلطه على الدور الذي يستطيع ان يلعبه الاقتصاديون فيما يبدو أنه فقط مسألة قانونية تتعلق بتحديد الحقوق.
مشكلة المسؤولية القانونية عن سلوك الأرانب هي جزء من الموضوع العام المتعلق بالمسؤولية عن الحيوانات. سأحصر حديثي، مع أني متردد في ذلك، بالأرانب. القضايا الأولى حول الأرانب كانت تتعلق بالعلاقة بين مالك أرض وفلاحين يعملون لديه، إذ أصبح من المعتاد منذ القرن الثالث عشر وما بعده أن يزود مالك الأرض الفلاحين بمجموعات من الأرانب لأغراض لحومها وفرائها. إلا أنه في قضية بولستون عام 1597 تم رفع دعوى من قبل مالك أرض ضد مالك أرض آخر مجاور مدعياً بأن المتهم قد حفر جحوراً للأرانب مما جعل أعداد الأرانب تزداد وتسببت في إتلاف محصول المدعي من الذرة. لم تنجح الدعوى بسبب أنه كان بوسعه قتل هذه الأرانب حال ظهورها في أرض جاره لأنها حيوانات برية، ومن يحفر جحوراً للأرانب لا يملك هذه الأرانب ولن تجري معاقبته على أضرار سببتها الأرانب التي لا يملكها والتي يستطيع الطرف الآخر قتلها بصورة مشروعة.
وفي حين أن قضية بولستون قد عوملت باعتبارها ملزمة—قال جيه. بريه عام 1919 بأنه لم يكن يعلم أنه قد تم نقض الحكم في قضية بولستون أو مناقشتها—فإن مثال الأرانب الذي أورده بيغو قد مثل، دون شك، الموقف القانوني عند كتابة اقتصاديات الرفاه. وليس مما يبعد عن الحقيقة كثيراً في هذه القضية القول بأن الأحوال التي يصفها بيغو قد حصلت بسبب غياب الإجراءات الحكومية (على شكل قوانين تشريعية على أي حال) وأنها كانت نتيجة لميول “طبيعية”. مع ذلك فإن قضية بولستون تثير فضولاً قانونياً والبروفيسور وليامز لا يخفي استياءه من هذا القرار.
إن مفهوم المسؤولية في التسبب بالإزعاج على أساس الملكية هو، فيما يبدو، نتيجة لخلط بينه وبين مفهوم تجاوزات قطيع المواشي ويتناقض مع كل من المبدأ وسلطات القرون الوسطى حول الأضرار الناجمة عن تسرب الماء والدخان والأوساخ… الشرط الأساسي لأي معالجة مرضية للموضوع هي التخلي نهائياً عن مبدأ الإيذاء في قضية بولستون… ما أن تختفي قضية بولستون حتى تصبح الطريق ممهدة لإعادة النظر مرة ثانية في الموضوع برمته على أسس تتسق مع المبدأ السائد في بقية مواد قانون الإزعاج.
القضاة في قضية بولستون كانوا مدركين بالطبع بأن وجهة نظرهم حول الموضوع تعتمد على التمييز بين هذه القضية وقضايا الإزعاج: هذه القضية تختلف عن القضية المرفوعة في جانب آخر حول إنشاء فرن كلسي أو مصبغة أو ما شابه، لأن الإزعاج هنا ينجم عن تصرفات الأطراف التي تقوم به ولكن المسألة مختلفة هنا حيث أن الأرانب وحدها دخلت أرض المدعي وبوسعه، إن شاء، أن يأخذها عندما تدخل أرضه ويحقق ربحاً منها.
ويعقّب البروفيسور وليامز قائلاً: “مرة أخرى تبرز الفكرة المتوارثة حول مسؤولية الحيوانات وليس مالك الأرض. ليس هذا المبدأ بالطبع مقبولاً لتضمينه في قانون عصري حول الإزعاج. فإذا أنشأ (أ) بيتاً أو زرع شجرة بحيث يتسرب الماء من الشجرة أو البيت إلى أرض (ب) فإن هذا عمل قام به (أ) ويتحمل مسؤوليته تجاه (ب). ولكن إذا قام (أ) بتربية أرانب في أرضه بحيث أخذت تهرب إلى أرض (ب)، فإن هذا عمل قامت به الأرانب ولا يمكن أن يتحمل مسؤوليته (أ). هذا هو الفرق الخادع الناتج عن قضية بولستون”.
ينبغي الاعتراف بأن القرار في قضية بولستون يبدو غريباً إلى حد ما، فقد يكون رجلٌ ما مسؤولاً عن الأضرار الناجمة عن انبعاث دخان أو روائح كريهة دون ضرورة التأكد بأنه يملك الدخان أو الرائحة. ولم يتم الالتزام بالقاعدة في قضية بولستون دائماً في قضايا تتعامل مع حيوانات أخرى. ففي قضية (بلاند ضد ييتس)، على سبيل المثال، تقرر أن بالإمكان توجيه إنذار قضائي لمنع شخص من الاحتفاظ بكمية غير عادية وكبيرة من السماد العضوي الذي يتكاثر فيه الذباب والذي أخذ يغزو بيت شخص مجاور. لم يقم أحد بإبراز مسألة من الذي يملك الذباب، وليس هناك من اقتصادي يميل إلى الاعتراض لأن المنطق القانوني يبدو غريباً أحياناً. ولكن هناك سبباً اقتصادياً صحيحاً لتأييد وجهة نظر البروفيسور ويليامز التي تشير إلى أن مشكلة المسؤولية عن الحيوانات (خصوصاً الأرانب) ينبغي أن تدخل ضمن القانون العادي للإزعاج. السبب هو ليس أن الرجل الذي يؤوي الحيوانات هو الوحيد المسؤول عن الضرر، ولكن الرجل الذي أُتلف محصوله هو مسؤول بنفس الدرجة. وفي ضوء أن تكاليف تعاملات السوق تجعل إعادة ترتيب الحقوق مستحيلة، ما لم نكن نعرف الظروف بالذات، ليس بوسعنا القول فيما إذا كان من المرغوب به أم لا جعل الرجل الذي يؤوي الأرانب مسؤولاً عن الأضرار التي أحدثتها الأرانب في الأراضي المجاورة.
الاعتراض على القاعدة في قضية بولستون هو أن الشخص الذي يقوم بالإيواء لا يمكن بموجبها أن يكون مسؤولاً. هذه القاعدة تحدد المسؤولية تماماً على طرف واحد: وهذا أمر غير مرغوب به من وجهة نظر اقتصادية تماماً مثل تحديد المسؤولية على الطرف الآخر فقط بجعل الشخص الذي قام بالإيواء هو المسؤول دائماً. بيد أنه، وكما رأينا في الفصل السادس، فإن قانون الإزعاج، بالطريقة التي تعامله بها المحاكم، هو قانون مرن ويسمح بإجراء مقارنة بين المنفعة من عمل ما والضرر الناجم عنه. وفي ذلك يقول البروفيسور وليامز: “قانون الإزعاج برمته هو محاولة للتوفيق والتسوية بين مصالح متضاربة…”. إن تطبيق قانون الإزعاج العادي على مشكلة الأرانب لا يعني بالضرورة جعل من يؤوي الأرانب مسؤولاً عن الأضرار التي أحدثتها الأرانب. لا يعني هذا القول بأن الدور الوحيد للمحاكم في قضايا كهذه هو عقدُ مقارنةٍ بين المنفعة والضرر من عملٍ ما، كما أنه ليس من المتوقع أن تقوم المحاكم دائماً باتخاذ قرارات صائبة بعد عقد مقارنةٍ كهذه. إلا أنه، وما لم تتصرف المحاكم بطريقة غبية للغاية، فإن قانون الإزعاج العادي يبدو كافياً على الأرجح لإعطاء نتائج أفضل من تبني قاعدة ثابتة. توفر قضية بيغو حول الأرانب الجاثمة مثالاً ممتازاً على تشابك مشاكل القانون والاقتصاد، رغم أن السياسة الصحيحة التي ينبغي اتباعها قد تبدو مختلفة عن رؤية بيغو.
يفسح بيغو المجال لاستثناء واحد للاستنتاج الذي توصل إليه حول وجود اختلاف بين الناتج الخاص والناتج الاجتماعي في مثال الأرانب، ويضيف: “… ما لم تكن العلاقة بين المالك والمستأجر بحيث يُدفع التعويض كجزءٍ من تعديلاتٍ على العقد بينهما”. هذا الشرط مثير للدهشة حيث أن الدرجة الأولى من الخلاف في رأي بيغو تختص إلى حد كبير بالمشاكل الناجمة عن إعداد عقود مرضية بين الملاّك والمستأجرين. الواقع أن جميع القضايا الأخيرة حول مشكلة الأرانب التي استشهد بها البروفيسور وليامز تتضمن خلافات بين الملاك والمستأجرين حول حقوق الصيد. يبدو أن بيغو يميز بين الحالة التي يستحيل إجراء عقد فيها (الدرجة الثانية) والحالة التي يكون فيها العقد مرضياً (الدرجة الأولى). لذلك هو يقول أن الدرجة الثانية من الفروق بين صافي الناتج الخاص وصافي الناتج الاجتماعي لا يمكن تخفيفها، مثل الخلافات الناشئة عن قوانين الإيجار، بتعديل على العلاقة التعاقدية بين أي طرفين متعاقدين لأن الخلاف ينشأ بسبب تقديم خدمة أو إلحاق ضرر لأشخاص آخرين غير الطرفين المتعاقدين.
ولكن السبب في أن بعض النشاطات لا تكون موضوعاً لعقود هو بالضبط نفس السبب في أن بعض العقود تكون عادة غير مرضية—فهي تكلف كثيراً لصياغتها بطريقة صحيحة. الواقع أن كلا الحالتين متماثلتان تماماً حيث أن العقود غير مرضية لأنها لا تغطي نشاطات معينة. من الصعب اكتشاف التأثير الدقيق لمناقشة اختلاف الدرجة الأولى على المحاججة الرئيسية لبيغو. فهو يبين أن العلاقات التعاقدية بين المالك والمستأجر قد تؤدي، في بعض الظروف، إلى اختلاف بين الناتج الخاص والناتج الاجتماعي. ولكنه يمضي أيضاً ليبين أن إجراءات التعويض والشروط في عقود الإيجار المفروضة من قبل الحكومة تؤدي أيضاً إلى فروق. ويبين، إضافة لذلك، أن الحكومة عندما تكون في وضع مشابه لوضع المالك، أي عندما تعطي وكالة لجهة باستغلال منفعة عامة، تنشأ ذات الصعوبات التي تحدث في حالة أن يتعلق الأمر بأفراد من القطاع الخاص. المناقشة ممتعة، ولكني لم أستطع أن أتبين ما هي الاستنتاجات العامة حول السياسة الاقتصادية، إن وجدت، التي يتوقع منا بيغو التوصل إليها.
الواقع أن بيغو يتعامل مع المشاكل التي يطرحها هذا المقال بطريقة محيرة للغاية، وتثير مناقشة آرائه صعوبات في التفسير لا سبيل للتغلب عليها. تبعاً لذلك فمن المستحيل على المرء أن يتأكد من أنه فهم ما الذي يقصده بيغو بالضبط. ومع ذلك، فمن الصعب التنبؤ بالنتيجة. قد تكون هذه حالة غير عادية لاقتصادي في مكانة بيغو، حيث أن المصدر الرئيسي لهذا الغموض هو أن بيغو لم يقدر مركزه حق قدره.
مقاربة مختلفة
أعتقد أن فشل الاقتصاديين في التوصل إلى استنتاجات صحيحة حول معالجة التأثيرات الضارة لا يمكن أن يعزى ببساطة إلى عثرات قليلة في التحليل، بل يبدو أنه يعود إلى أخطاء أساسية في المقاربة الحالية لمشاكل اقتصاد الرفاه. المطلوب هو انتهاج مقاربة مختلفة.
يركز تحليل الاختلافات بين الناتج الخاص والناتج الاجتماعي على عيوب معينة في النظام ويميل لتعزيز الاعتقاد بأن أي إجراء لتلافي هذه العيوب هو، بالضرورة، إجراء مرغوب به. هذا التحليل يحول الانتباه عن تغييرات أخرى في النظام ترتّبت دوماً بالإجراء التصحيحي، تغييرات يمكن لها جداً أن تفرز ضرراً أكثر من العيوب الأصلية. لقد رأينا، في الفصول السابقة من هذا المقال، أمثلة عديدة على ذلك، ولكن ليس من الضروري تناول المشكلة بهذه الطريقة.
الاقتصاديون الذين يدرسون مشاكل الشركة يستخدمون مقاربة التكلفة كلما سنحت الفرصة. ويقارنون الإيرادات التي يمكن الحصول عليها من مجموعة معينة من العوامل مع ترتيبات تجارية بديلة. قد يبدو من المرغوب به استخدام مقاربة مماثلة عند التعامل مع مسائل سياسية اقتصادية ومقارنة الناتج الإجمالي الناجم عن ترتيبات اجتماعية بديلة. انحصر التحليل، في هذا المقال، كما هي العادة في هذا الجزء من علم الاقتصاد، بمقارنات بين قيم الإنتاج وفقاً لمقاييس السوق. ولكن من المرغوب به، بالطبع، أن يجري عرض الخيارات بين مختلف الترتيبات الاجتماعية لحل المشاكل الاقتصادية في نطاق أوسع من ذلك وينبغي الأخذ بالحسبان التأثير الإجمالي لهذه الترتيبات في مجالات الحياة كافة. وكما أكد فرانك إتش. نايت غالباً، فإن مشاكل اقتصاد الرفاه يجب أن تذوب في نهاية المطاف في دراسة لعلم الجمال والأخلاق!
ثمة ناحية أخرى للمعالجة المعتادة للمشاكل التي تم بحثها في هذا المقال وهي أن التحليل ينحو لإجراء مقارنات بين سياسة الحرية الاقتصادية من جهة ونوع من عالم مثالي من جهة أخرى. هذه المقاربة تؤدي بالضرورة إلى تشتت التفكير لأن طبيعة البديل الذي تجري المقارنة به لا تكون واضحة أبداً. هل يوجد، في حالة الحرية الاقتصادية، نظام مالي أو قانوني أو سياسي، وإذا كان الأمر كذلك فما الذي ستكون عليه هذه الأنظمة؟ الإجابة على جميع هذه الأسئلة يحوطها الغموض ويحق لكل شخص أن يخرج منها بالاستنتاجات التي يريدها.
الواقع أنه ليس هناك حاجة للكثير من التحليل لإثبات أن عالماً مثالياً هو أفضل من عالم تسوده الحرية الاقتصادية، إلا إذا كان تعريف العالم المثالي والحرية الاقتصادية هو نفسه. ولكن النقاش بكامله لا صلة له إلى حد كبير بمسائل السياسة الاقتصادية، حيث أنه أياً كانت صورة العالم المثالي في أذهاننا، فمن الواضح أننا لم نكتشف بعد كيف نصل إليه من النقطة التي نقف فيها الآن. يبدو أن مقاربة أفضل قد تكون بدء التحليل من حالة قريبة من الواقع لفحص تأثيرات تغييرات مقترحة على السياسة، ومحاولة معرفة ما إذا كانت الحالة الجديدة ستكون في مجملها أفضل أم أسوأ من الحالة الأساسية. بهذه الطريقة يصبح هناك شيء من العلاقة بين النتائج التي تمخضت عنها السياسة والحالة الواقعية.
سبب أخير للفشل في تطوير نظرية ملائمة لمعالجة مشكلة التأثيرات الضارة يعود إلى مفهوم خاطئ لعوامل الإنتاج، التي يُنظر إليها عادة باعتبارها شيئاً مادياً تحصل عليه وتستغله المؤسسة العاملة (فدّان من الأرض أو طن من السماد.. إلخ) بدلاً من كونها الحق في ممارسة أعمال (مادية) معينة. قد نتحدث عن شخص يملك أرضاً ويستخدمها كعامل إنتاج ولكن ما يملكه صاحب الأرض في الواقع هو الحق في القيام بقائمة من الأعمال المحددة.
ليست حقوق مالك الأرض غير محدودة، بل إنه لا يستطيع دائماً أن ينقل تراباً من أرضه إلى أماكن أخرى، عن طريق إنشاء مقلع حجري مثلاً. ورغم أنه قد يحق له عدم السماح لبعض الناس باستخدام “أرضه” فإن هذا قد لا ينطبق على آخرين، فقد يحق لبعض الناس، مثلاً، المرور عبر الأرض. إضافة لذلك فقد يحق له أو لا يحق إقامة أنواع معينة من المباني أو زراعة أنواع معينة من المحاصيل أو استخدام أنظمة صرف معينة للمياه في أرضه. لا يعود ذلك ببساطة للأنظمة الحكومية، فذلك صحيح بنفس الدرجة طبقاً للأعراف والتقاليد، والواقع أنه صحيح بموجب أي نظام قانوني. إن نظاماً تكون فيه حقوق الأفراد غير محدودة هو نظام لا تكون فيه هناك حقوق يمكن اكتسابها.
إذا تم النظر إلى عوامل الإنتاج باعتبارها حقوقاً يصبح من الأسهل فهم أن الحق في عمل شيء له تأثيرات ضارة (مثل انبعاث أدخنة أو ضجيج أو روائح إلخ) هو أيضاً عامل إنتاج. تماماً مثلما نستطيع استخدام قطعة ارض بطريقة نمنع فيها أحداً من المرور عبرها أو إيقاف سيارته فيها أو بناء بيت عليها، فإن بوسعنا أيضاً استخدامها بطريقة تمنعه من الإطلال على جهة معينة أو تمنع عنه الهدوء أو تمنع عنه الهواء النقي. إن تكلفة ممارسة حق ما (لاستخدام عامل إنتاج) هي دائماً الخسارة التي تتحملها جهة أخرى نتيجة لممارسة ذلك الحق—عدم إمكانية المرور في الأرض، أو إيقاف سيارة، أو الاستمتاع بمشهد، أو التنعم بالراحة والهدوء، أو استنشاق هواء نقي.
من الواضح أنه من المرغوب به أن تكون الأعمال التي يمكن القيام بها هي فقط تلك التي يكون فيها الكسب مساوياً لأكثر من الخسارة. ولكن الاختيار بين الترتيبات الاجتماعية التي تتم في سياقها القرارات الفردية يفرض علينا أن نتذكر دائماً بأن التغير في النظام الحالي، والذي يؤدي إلى تحسن في اتخاذ بعض القرارات، قد يؤدي أيضاً إلى تدهور في اتخاذ قرارات أخرى. إضافة لذلك علينا أن نأخذ في الحسبان التكاليف التي ينطوي عليها تشغيل مختلف الترتيبات الاجتماعية (سواءً كانت عمل السوق أو عمل دائرة حكومية) إضافة إلى التكاليف التي يتضمنها الانتقال إلى نظام جديد. عند صياغة ترتيبات اجتماعية والاختيار بينها يتعين علينا الانتباه للتكلفة الإجمالية. هذا هو، فوق كل شيء، تغيير أسلوب المقاربة الذي أدعو إليه.
ملاحظات:
[1] انطلق توجه النقاش في النص أعلاه على أساس أن البديل لزراعة المحصول هو التخلي عن عملية الزراعة كلياً، ولكن ليست هناك حاجة لأن يكون الأمر كذلك. قد تكون هناك محاصيل أقل عرضة للتلف من قبل المواشي ولكنها قد لا تكون مربحة كالمحاصيل التي تزرع دون وجود تلف، وبالتالي فإذا كانت زراعة محصول جديد ستدر على المزارع ربحاً مقداره دولاراً واحداً بدلاً من دولارين وكان حجم القطيع الذي يسبب تلفاً مقداره 3 دولارات للمحصول القديم لا يسبب تلفاً سوى بقيمة دولار واحد مع المحصول الجديد، فسيكون من المربح لمربي الماشية أن يدفع أي مبلغ يقل عن دولارين لحث المزارع على تغيير نوعية محصوله (حيث أن ذلك سيخفض مسؤولية التلف من 3 دولارات إلى دولار واحد)، وسيربح المزارع أيضاً إذا تلقى مبلغاً يزيد عن دولار واحد (التخفيض ناتج عن تغيير المحصول). الواقع أنه سيكون هناك مجال لصفقة مناسبة متبادلة في جميع الحالات التي يؤدي فيها تغيير المحصول إلى تخفيض مقدار التلف بأكثر مما يخفض قيمة المحصول (عدا التلف) في جميع الحالات عندما يؤدي تغيير المحصول المزروع إلى زيادة قيمة الإنتاج.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 27 تشرين الأول 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20101

ملخص تنفيذي

تعتبر التجارة الحرة أداة فعالة لتحسين صحة الإنسان، لسببين رئيسيين. الأول والأكثر أهمية، هو أن تحرير التجارة بين الأفراد والدول سبيل مثبّت لزيادة الرخاء الاقتصادي والثروة.
الثروة ضرورية للصحة لأنها تفسح المجال للناس لشراء التحسينات اللازمة لظروف معيشتهم. فالرخاء الاقتصادي يصطحب معه التّصحاح المقبول، والمياه الآمنة، والوقود المنزلي النظيف والكافي. إن الافتقار إلى هذه الضروريات مسؤول مباشرة عن نسبة كبيرة من الوفيات وانتشار المرض في أكثر الدول فقراً في العالم. في حين أن شعوب الدول الأكثر ثراء يملكون الموارد التي تكفل لهم التغذية الجيدة والعيش تحت ظروف صحية. ولهذا السبب بدأ متوسط العمر المتوقع بالارتفاع في هذه المناطق منذ بدء النمو الاقتصادي الحديث للثورة الصناعية.
السبب الثاني لاعتبار التجارة أداة فعالة لتحسين الصحة يتصل بما يسمى “نقل التكنولوجيا”. قبل القرن التاسع عشر، كانت التجارة عبر الحدود مقتصرة على عدد قليل من الدول. أما اليوم، فتقوم كافة الدول بالتجارة على الصعيد الدولي مع حدوث زيادة ملحوظة مؤخرا في نصيب الدول منخفضة الدخل في التجارة العالمية.
ونتيجة لهذا النمو في التبادل العالمي للسلع والخدمات، انتشرت المعلومات والتقنيات المتعلقة بالصحة والتي نشأت في الدول الغنية إلى باقي دول العالم. في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، كان للانتشار العالمي للأدوية—مثل البنسيلين الذي تم اكتشافه وتطويره في بريطانيا—تأثير ضخم على معدل الوفيات في دول عديدة. وعلى نحو مماثل، أدى انتشار التقنيات الأخرى التي تم تطويرها في الدول الغنية، مثل مبيد الـ دي. دي. تي. (دايكلورو ديفينيل ترايكلورو إيثان)، إلى انخفاض حالات الملاريا في العالم بشكل بالغ. ويعتقد بعض الاقتصاديين أن انتشار التكنولوجيا، الذي يُسر بواسطة التجارة الحرة، هو السبب الرئيسي في الارتفاع المستمر لمتوسط العمر المتوقع في معظم أنحاء العالم في السنوات الخمسين الأخيرة.
ومع ذلك، إدعى البعض أن تحرير التجارة، وخصوصا الاتفاقيات مثل تلك المدارة من قبل منظمة التجارة العالمية، تؤذي الفقراء. هذه الإدعاءات غير مدعومة بالبراهين.
لقد اتُهِمت الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات (الجاتس)، وهي إحدى اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، بتقويض السلطة وبفرضها خصخصة الخدمات الصحية، بينما الواقع أن الجات تمنح الموقعين درجة عالية من المرونة. إضافة إلى ذلك، وأسوة باتفاقيات التجارة الأخرى، فإن اتفاقية الجات طوعية وتعتمد على الاعتراف المتبادل وليس الإكراه. علاوة على ذلك، قد تعمل اتفاقية الجات على تحفيز نقل التكنولوجيا والمعرفة لأنها تشجع تبني الأشياء المفيدة مثل الطب عن بعد والسياحة العلاجية ومستويات مناسبة للتأمين الصحي. كما أنها قد تساعد على التغلب على ما يسمى “بتفريغ العقول” للكوادر الطبية من الجنوب للشمال عبر توفير فرص عمل محلية أفضل.
كما تم اتهام اتفاقية الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية (تريبس)، وهي اتفاقية أخرى لمنظمة التجارة العالمية، ومن ضمن اتهامات أخرى، باحتجاز نقل المعرفة من “الشمال” إلى “الجنوب”. وفي الواقع، فإن العكس هو الصحيح. لقد جعلت الهند مؤخرا تشريعاتها المحلية متوافقة مع التريبس، وكانت النتيجة تدفقا هائلا من الخبرات ورؤوس الأموال الأجنبية في مجالات البحث والتنمية. وتدل المؤشرات الأولية على أن هذا القانون المتوافق مع اتفاقية التريبس سيُتيح بيئة تستطيع الهند من خلالها أن تطور مجموعة جديدة من أدوية الأمراض التي تُؤثر على سكانها.
وفي هذه الأثناء، تُتهم أيضا اتفاقيات التجارة الحرة المختلفة الموقعة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشركاء الثنائيين بتأخير نقل التكنولوجيا عبر تعزيز حماية الملكية الفكرية. والحقيقة هي أن معظم اتفاقيات التجارة الحرة هذه تحتفظ بمرونة التريبس، كما ويوجد إلزام للآخرين. ستسمح هذه الاتفاقيات من خلال حماية الملكية الفكرية قيام المصنعين المحليين بتطوير منتجاتهم الخاصة تحت تهديد أقل بكثير لخطر القرصنة التي تتسبب في تناقص الربح. وكذلك، سيتم طمأنة الشركات متعددة الجنسيات من أن أملاكهم ستكون آمنة في أي بلد موقِّع على الاتفاقيات، مما يؤدي إلى زيادة الاستثمار الأجنبي ونقل التكنولوجيا.
للتجارة الحرة أثر إيجابي على الصحة، ولذلك، فإن استمرار الحكومات في فرض قيود على التجارة أمر يستحق الشجب. ومن المروع أن يستمر إخضاع الأدوية والأجهزة الطبية لمجموعة من رسوم الاستيراد في معظم البلدان ذات الدخول المنخفضة، مما ينتج عنه عدم تمكن العديد من المرضى توفير ثمن العلاج. يجب أن تكون إزالة هذه القيود غيرالمعقولة من الأمور ذات الأولوية بالنسبة للقائمين على المفاوضات التجارية القلقين إزاء صحة الفئة الأكثر فقرا.
إضافة إلى ذلك، هناك قضية معنوية قوية لإعطاء الأولوية لإزالة التعرفات المفروضة على التقنيات التي تُمكّن توفير المياه والطاقة النظيفتين. إن المياه والوقود غير النظيفين هما من أكبر مُسببات المرض في البلدان ذات الدخول المتدنية—مما يؤدي إلى حدوث أكثر من 4 ملايين حالة وفاة في السنة، معظمها من النساء والأطفال. فيجب أن يتم إلغاء هذه الرسوم بأسرع وقت ممكن. وإذا كان من غير المقبول سياسيا إزالة هذه الرسوم من جانب واحد، عندها ينبغي إزالتها في إطار مفاوضات الوصول إلى السلع والخدمات البيئية في جولة الدوحة متعددة الأطراف الحالية.
أخيراً، هناك ضرورة أخلاقية مطلقة لإزالة القيود المفروضة على الإتجار في الأغذية، لأن سوء التغذية لا يزال يمثل مشكلة رئيسية في أنحاء كثيرة من العالم. وينطبق هذا على العديد من الدول في إفريقيا التي تُبقي على التعرفات الضارة على المنتجات الزراعة من الدول المجاورة.
الثروة والتجارة والصحة

يُظهر تاريخ البشرية أن أضمن الطرق وأكثرها استدامة لتحسين صحة الإنسان يتمثل في زيادة ثروة ورخاء الفرد. ولقد أظهرت دراسة قام بها الاقتصادييْن لانت بريتشيت ولورانس سمرز في عام 1996 التأثيرَ الكبير على الصحة المترتبَ على زيادة الدخل حيث وجَدا تأثيراً سببياً قوياً للدخل على معدل وفيات الأطفال، وبيَّنا أنه لو ارتفع معدل النمو للعالم النامي في الثمانينيات بحوالي 1.5 نقطة مئوية، لكان من الممكن تفادي وفاة نصف مليون طفل.
في الواقع، تم تحسين صحة سكان العالم منذ بدء النمو الاقتصادي الحديث المتزامن مع الثورة الصناعية. فتحسن معدل وفيات الأطفال ومتوسط العمر المتوقع بشكل ملحوظ حول العالم، وأصبح هناك وفرة في الغذاء زهيد الثمن أكثر من أي وقت مضى. ولقد تحسنت هذه المؤشرات التي تدل على تحسن حياة الإنسان بشكل ملفت للنظر في البلدان الغنية منذ منتصف القرن التاسع عشر عندما بدأت الدول بتطهير إمدادات المياه ووضع التدابير الأساسية للصحة العامة، مثل التّصحاح والبسترة والتطعيم. وفي النصف الأول من القرن العشرين، أضيفت العديد من المواد إلى ترسانة الأسلحة ضد المرض مثل المضادات الحيوية والمبيدات مثل الـ دي. دي. تي ومجموعة من اللقاحات. وعندما تم قهر الأمراض المعدية والطفيلية التقليدية بشكل جوهري، قامت الدول الغنية بتحويل إبداعها وثروتها نحو التعامل مع ما يُسمّى بـ”أمراض الغنى”: السرطان وأمراض القلب والسكتات القلبية (إضافة إلى نقص المناعة المكتسبة/الإيدز وهو مرض معدٍ غير تقليدي). وبالرغم من أنه لم تتم هزيمة هذه الأمراض بعد، إلا أنه يوجد الآن مجموعة واسعة من العلاجات والأدوية والتكنولوجيات الجديدة لتخفيف آثارها.
خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أدى انتشار التكنولوجيا من الدول الغنية إلى الدول منخفضة الدخل، وكذلك الزيادة في ثروة الدول منخفضة الدخل، إلى ما يوصف بثالث الثلاث موجات الكبرى لانخفاض معدل الوفيات (غواتكين، 1980). شهدت هذه الفترة زيادة في وسائل الحصول على المياه المأمونة وخدمات التِّصحاح في البلدان منخفضة الدخل؛ والتي كانت، وبالاقتران مع الزيادات الحاصلة في كل من نصيب الفرد من الغذاء وخدمات الصحة العامة الأساسية والمعرفة بأساسيات العادات الصحية والأدوية الحديثة (مثل المضادات الحيوية واختبارات التشخيص المبكر)، فعّالة في خفض معدلات الوفيات.
ونتيجة لهذه التطورات، طال متوسط العمر المتوقع في كافة أنحاء العالم، ولم يقتصر ذلك على الدول الغنية فقط. فازداد متوسط العمر المتوقع العالمي من 46.6 سنة في الفترة من 1950-1955 إلى 66.8 سنة بين 1950-1955 و2003، بانتشار المعرفة والتكنولوجيا حول العالم (البنك الدولي، 2005). يوضح الشكل 1 العلاقة بين الثروة والصحة، مبينا أن متوسط العمر المتوقع يزداد بزيادة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.[1]

التجارة والصحة

من الواضح أن الإنسانية تدين بالصحة الجيدة الحالية وغير المسبوقة إلى الرخاء المتزايد وانتشار التقدم في المعرفة. وستكون هذه المعرفة محدودة الأهمية من دون الموارد الاقتصادية اللازمة لتنفيذها؛ على سبيل المثال، فإن نظم الصرف الصحي مكلفة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى برامج التحصين الجماعية أو بناء مساكن صحية.
ولكن، لم يكن ليتحقق الكثير من هذا النمو الاقتصادي ونشرالمعرفة الصحية دون الزيادة الكبيرة في التجارة الدولية التي تُميِّز أواخر القرن التاسع عشر والنصف الثاني من القرن العشرين. قبل القرن التاسع عشر، كانت التجارة عبر الحدود محصورة بعدد قليل من الدول. أما اليوم، فإن جميع البلدان تتاجر دوليا كما أنها تتاجر بنسب متزايدة وهامة من دخلها القومي، مع بعض الاستثناءات مثل كوريا الشمالية. وبينما لا تزال الدول ذات الدخول المرتفعة تُمثل ثلاثة أرباع التجارة العالمية في عام 2000، شهدت الدول ذات الدخل المنخفض مؤخرا ارتفاع نصيبها بحوالي الثلث عندما قامت بتخفيض التعرفات الجمركية وإزالة الحواجز الأخرى أمام التجارة الحرة. ولقد انخفض متوسط التعرفة في البلدان المنخفضة الدخل من 25% في أواخر الثمانينات إلى 11% اليوم (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، 2005). ووفقا لمنظمة التجارة العالمية، فإن الدول ذات الدخل المنخفض تسيطر على 31% من تجارة السلع العالمية، مسجلة بذلك أعلى مستوى لها منذ الخمسينات (منظمة التجارة العالمية، 2005).
الحواجز أمام فتح الأسواق

استطاعت البلدان منخفضة الدخل أن تبدأ بالمشاركة بنجاح في الأسواق العالمية إلى حد ما من خلال التخلي عن سياسات الحمائية القديمة لفترة ما بعد الحرب. وكانت سياسات تصنيع بدائل الاستيراد رئيسية من بين هذه السياسات، والذي جرى الترويج لها على نطاق واسع جداً بعد الحرب العالمية الثانية وطُبقت بشكل قوي وبحماس كبير في البلدان منخفضة الدخل، وخاصة في إفريقيا بعد الاستقلال.
كان تبرير سياسات تصنيع بدائل الاستيراد مزدوجا. أولاً، اتُّخذ كأمر مسلم به من أن التصنيع أمر ضروري للتنمية. ثانيا، افتُرِض أن باستطاعة الحكومات أن تُسرع هذه العملية بمنع استيراد السلع الصناعية، مشجعة بذلك تطوير الصناعة المحلية.
وباتباع النصيحة المقدمة من أنصار سياسات تصنيع بدائل الاستيراد، وضعت البرازيل واقتصادات أخرى في أمريكا اللاتينية قيودا ضخمة، مثل القيود الجمركية والحصص والحظر الكامل على استيراد السلع الصناعية. ونتيجة لذلك، حصل زيادة مؤقتة في الإنتاج الصناعي. هذا الأمر ليس مستغربا: فإذا تم تقييد استيراد البضائع التي يستوردها الناس عادة، عندها سيقوم الإنتاج المحلي بتعويض ذلك إلى حد ما.
كانت التكلفة الأولية انخفاضا في الإنتاج الزراعي بسبب انتقال العوامل المنتجة إلى الصناعة وبعيدا عن الزراعة، وهجرة الناس من الريف إلى المدن. وبعد فترة من الزمن، بدأ الإنتاج الصناعي بالانخفاض. ويعود هذا في الأساس إلى أن الإنتاج لم يعد تنافسيا. وأصبحت كفاءة المنتجات مقيدة لأنه لم يعد بالإمكان شراء مدخلات الإنتاج الأساسية من الخارج. وارتفعت تكاليف المدخلات مما أدى بدوره إلى أن أصبح إنجاز المنافسين الخارجيين أفضل.
بدأت الحكومات بتقديم الدعم المالي للصناعات التي كانت ترعاها بواسطة سياسات تصنيع بدائل الاستيراد بهدف إنقاذها. فقامت برفع الضرائب على قطاع الزراعة وسيّلت ديون الحكومة من خلال التضخم لتسديد هذا الدعم. وكانت النتيجة تضخما جامحا مشتركا مع البطالة ومعدلات نمو سلبية.


إضافة إلى ذلك، خُلقت فوضى اجتماعية. ويرجع ذلك إلى هجرة العديد من الناس إلى المدن والذين أصبحوا الآن عاطلين عن العمل. ولو كان هؤلاء عاطلين عن العمل في الريف، لكان لديهم دعم الشبكات الاجتماعية التي تم إنشاؤها على مدى العقود. ولكنّ المهاجرين الجدد إلى المدن لم يقوموا بتطوير هذه الشبكات.
التجارة المفتوحة تحسن الصحة

لحسن الحظ، اتفقت معظم الدول باختتام جولة أوروغواي من المفاوضات في عام 1994 على التحرك بعيدا عن هذه الاستراتيجية المضادة للإنتاج وكذلك على خفض تعرفات الحماية الجمركية بشكل كبير. في كثير من البلدان، أدى هذا إلى إرساء أسس النمو الاقتصادي السريع وتعميق الاندماج في الاقتصاد العالمي.
وفضلا عن كون النصف الثاني من القرن العشرين فترة زيادة التجارة العالمية والنشاط الاقتصادي، فلقد شهد أيضا تحسنا ملحوظا في الصحة في معظم البلدان منخفضة الدخل. فعلى سبيل المثال، انخفض معدل وفيات الأطفال في الهند بين أعوام 1950-55 وعام 2003 من 190 إلى 63 لكل 1000. في الواقع، ارتفع متوسط العمر المتوقع في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل باطّراد منذ منتصف القرن العشرين، مع استثناء دول جنوب صحراء إفريقيا الكبرى في التسعينات. وحدث هذا التقدم على خلفية تزايد التجارة الدولية.
هل يمكن تحديد أي علاقة بين زيادة الأهمية العالمية للتجارة وتحسين الصحة في دول العالم النامية؟ من الممكن أن تكون زيادة الثروة الوطنية التي تأتي من المشاركة في التجارة الدولية هي التي تجعل الأفراد والحكومات قادرين على شراء التكنولوجيات والبنية التحتية الأساسية الملائمة للصحة. وتظهر الكميات الكبيرة والواسعة من الكتابات أن زيادة حجم التجارة ترتبط بشكل مسبَّب مع النمو الاقتصادي القوي (مثلا، دولار، 1995، ودولار وكراي، 2001، وفرانكل ورومر، 1999، وساكس وورنر، 1995). وكما شاهدنا، يؤدي ارتفاع الدخل إلى صحة أفضل، وخاصة لأنه يتيح للناس المجال لشراء وسائل التّصحاح المحسنة والوقود الأنظف وتكنولوجيات الصحة الأكثر تقدما.
وبذلك، يعتبر فتح أبواب بلد ما للتجارة طريقة فعالة لتحسين صحة السكان. ويؤكد هذا الطرح الكتابات القليلة حول العلاقة بين تحرير التجارة والصحة. ولقد وجد أوين ووا (2004) في دراستهم حول 219 دولة، أن زيادة الانفتاح على التجارة ترتبط بمعدلات منخفضة لوفيات الأطفال وبارتفاع لمتوسط العمر المتوقع وخاصة في الدول منخفضة الدخل. وكذلك بيّن وي ووا (2002) أن زيادة الانفتاح على التجارة (وخاصة عندما تقاس مع انخفاض معدل التعرفة) ترتبط بمتوسط عمر متوقع أطول ومعدل وفيات أكثر انخفاضا. وتقدم التجارب الحديثة لدول مثل الصين والهند وفيتنام، والتي تحسنت المؤشرات الصحية لديها خلال سعيها نحو سياسات تجارية أكثر تحررا، تأكيدات قوية وملموسة لهذه النقطة.
إذا حُررت التجارة إلى مسافة أبعد من هذا، سينتج للأجيال المستقبلية في البلدان منخفضة الدخل عدد أكبر من المكاسب المالية والاجتماعية. وجاء في دراسة حديثة للبنك الدولي أن إلغاء التعرفات والمعونات المالية وبرامج الدعم المحلية سيؤدي إلى زيادة الرفاهية العالمية بحوالي 300 مليار دولار في العام بحلول عام 2015. وسيأتي ثلثا هذه المكاسب من إصلاح التجارة الزراعية لأن قطاع الزراعة هو الأكثر تشوها من القطاعات الأخرى. إضافة إلى ذلك، ستتلقى الدول ذات الدخل المنخفض 45% من المكاسب العالمية كنتيجة لتحرير تجارة جميع السلع تماما. وحيث أن للبلدان الفقيرة حصة صغيرة جدا من الثروة العالمية، فإن مكاسبها المحتملة من تحرير التجارة ستكون كبيرة بشكل غير متناسب، قد تصل إلى أكثر من ضعفيْ حصتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (مارتن وأندرسون، 2005).
إنتشار المعرفة: الآثار الجانبية الصحيّة للتجارة الحرة
وبالرغم من أن الفوائد الاقتصادية الناتجة عن التجارة الدولية ذات أهمية أساسية لفهم العلاقة بين التجارة الحرة والصحة، إلاّ أنه من الممكن أن تكون التجارة مفيدة أيضا للصحة بطرق أخرى. في الواقع، يعتقد بعض الاقتصاديين أن انتشار المعرفة المتصلة بالصحة المقترنة بتحرير التجارة عامل حاسم رئيسي للصحة في البلدان منخفضة الدخل (ديتون، 2004، أوين ووا، 2004، جيميسون وساندبو ووانج، 2001). ويعود ذلك إلى أن معظم المعرفة حول كيفية تحسين صحة الإنسان—من اللقاحات إلى نظرية الجراثيم المُسببة للأمراض—قد تم توزيعها على نطاق واسع إلى جميع أنحاء العالم من الدول الأكثر ثراء التي تم تطويرها فيها.
عند خفض تكاليف التجارة، يصبح من السهل نشر المعرفة والتقنيات والمنتجات الطبية من الدول المتقدمة التي طورتها إلى دول أخرى. فعلى سبيل المثال، كان لاكتشاف جون سنو في لندن عام 1854 حول انتشار الكوليرا عن طريق المياه الملوثة، آثارا هامة في الوقاية من الأمراض المعدية في العالم. انتشرت هذه المعرفة تدريجيا من لندن إلى أوروبا، دافعة السلطات في المدن نحو تحسين وتحديث أنظمة المياه والصرف الصحي لتفادي تلويث مصادر المياه بالنفايات الآدمية (وليامسون، 1990). إن نظرية الجراثيم المُسببة للأمراض مفهومة ومعترف بها اليوم على نطاق واسع من قبل السلطات المعنية بالصحة العامة في جميع انحاء العالم كأداة هامة لمكافحة الأمراض (حتى وإن كانت الموارد غير متاحة دائما لبناء وصيانة نظم فعّالة لإدارة المياه).
كذلك، يمكن أن يؤدي خفض تكاليف التجارة إلى الإسراع في معدل تبني التكنولوجيات الطبية المُثبتة من قبل بلدان أخرى. كانت الدول الغنية أول من طور بعض أنجع وأبسط الأدوية مثل المضادات الحيوية واللقاحات، ولكن الصناعة والتجارة الدولية لهذه التكنولوجيات سمحت لها بأن تُصبح متوفرة في معظم أنحاء العالم. ومن المحتمل أن يكون اعتماد هذه التكنولوجيات من جانب البلدان الفقيرة في آسيا في سنوات ما بعد الحرب مسؤولا إلى حد كبير عن الانخفاض الملحوظ في معدلات الوفيات الخام في هذه الفترة.
في الاربعينات، أنهت آسيا عدة عقود من العزلة الاقتصادية والثقافية النسبية وبدأت بالاندماج في الإقتصاد العالمي. تزامن مع هذا نشر ونقل مكثف لبرامج وتكنولوجيات وأساليب الصحة العامة التي نشأت في الدول الأكثر ثراء. ولقد شهد عقدا العشرينات والأربعينات تقدما هائلا في الاكتشافات الطبية مثل اكتشاف البنسيلين وأدوية السلفا والباستريسن والستربتوميسين والكلوروكوين. وبوصول هذه الأدوية وغيرها من العقاقير الفعالة إلى آسيا، أصبح علاج الأمراض التي قتلت في الماضي الملايين متاحا بتكلفة منخفضة. إضافة إلى ذلك، أعطى اختراع الـ دي. دي. تي. في عام 1943 السلطات سلاحا قويا جدا في المعركة ضد الملاريا والذي أدى إلى القضاء على المرض في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، كمل أدى إلى خفض عدد الحالات بأكثر من 99% في أجزاء من سريلانكا والهند (غراميشيا وبيليس، 1988). وبسبب توفر هذه التدخلات على نطاق واسع وخفض تكلفتها—التي أصبحت ممكنة من خلال تجارة أكثر حرية—انخفضت معدلات الوفيات الخام بشكل حاد، خاصة في شرق آسيا في أواخر الأربعينات. وبحلول الخمسينات والستينات، قلّ عدد الأطفال والشباب الذين يموتون من هذه الأمراض التي يمكن الوقاية منها بسهولة والتي كانت مسؤولة عبر التاريخ عن هبوط المؤشرات الصحية في المنطقة، كما ارتفع متوسط العمر المتوقع في جميع أنحاء المنطقة (بلوم وويليامسون، 1988).
وتستمر هذه العملية اليوم، حيث تتوفر الأدوية الجديدة التي استُحدثت في مكان ما في الأسواق الدولية. وبالرغم من أن معظم الأدوية تقريبا تبدأ حياتها بحماية براءة الاختراع، إلاّ أنها في آخر الأمر تنتهي، وتنفتح الأسواق للمنافسة العامة. ونتيجة لذلك، فإن العديد من الأدوية التي لا تخضع لبراءات الاختراع متوفرة في جميع أنحاء العالم وبأسعار زهيدة للغاية، فاتحة المجال أمام سكان البلدان الفقيرة للاستفادة من معرفة وابتكار الدول الأوفر ثراء في العالم. وتشمل الأمثلة الأكثر حداثة على أدوية خفض الكولسترول (مجموعة ستاتين) وأدوية معالجة الالتهابات الناتجة عن الريتروفيروس وتحديدا فيروس نقص المناعة فضلا عن تلك البنود مثل وحدات الرعاية المكثفة لحديثي الولادة ووحدات غسيل الكلى ومعدات الفحص وعدد ضخم من المعدات الطبية الحديثة الأخرى. وبالطبع، يخضع الكثير من الأدوية التي لها براءات اختراع إلى منافسة الأدوية الأخرى المشابهة. وبسبب تنويع الأسعار، من الممكن أن تكون الأدوية المحمية ببراءات الاختراع في متناول الفقراء بأسعار قريبة من تكلفة الإنتاج.
الضرائب والتعرفات الجمركية تُؤخر نقل التكنولوجيا

ستكون الفوائد المرجوة من نقل التكنولوجيا أعظم إذا قامت الدول منخفضة الدخل بإلغاء التعرفات الجمركية والضرائب الكثيرة التي تفرضها على الأدوية. فغالبا ما تؤدي التعرفات إلى تضخيم سعر الأدوية للمستهلك في الدول منخفضة الدخل كما وتعمل كحاجز أمام التوزيع الفعّال للأدوية والتكنولوجيا الطبية. لقد وجدت دراسة أجريت في عام 2003 بإسم المفوضية الأوروبية لـ 57 دولة أن الدول منخفضة الدخل تفرض ضرائب وتعرفات جمركية كبيرة على الأدوية المستوردة، فتقوم الهند ونيجيريا والباكستان بفرض أسعار موحدة تبلغ 55% و34% و33%، على التوالي (المفوضية الأوروبية، 2003). وتدعي الحكومات غالبا أن هذه الضرائب ضرورية لحماية صناعة الأدوية المحلية، ولكنها في الواقع تعمل وببساطة على حرمان المرضى لأفضل نوعيات الأدوية وأقلها أسعارا.
تشير الأدلة إلى أن الشركات الأجنبية التي ترغب في تصدير أجهزة طبية مثل منظم نبضات القلب إلى الهند تواجه تعرفات جمركية بحوالي 50%، بالرغم من أن خُمس الوفيات في الهند تُعزى لأمراض القلب وأن منظمة الصحة العالمية تقدر أن 60% من مرضى القلب في العالم سيكونون من الهنود بحلول عام 2010. وبالرغم من ذلك، لا يوجد في الهند مصنعون محليون لأجهزة تنظيم نبضات القلب وتلك المستوردة تخضع لضرائب كبيرة. ونتيجة لذلك، يتوجب غالبا على المرضى في الهند اللجوء إلى أجهزة تنظيم النبضات الأقدم أو تلك المجددة، إذا توفرت لهم (أنيلكومار وبالاشاندر، 2004).
التكنولوجيات الأخرى

بالرغم من التأثير المحبط للتعرفات الجمركية على نشر الأدوية وغيرها من التكنولوجيات الصحية، كسبت حجة “انتشار المعرفة” مزيدا من الدعم على إثر دراسة أجراها عالميْ اقتصاد هما آنجس ديتون وكريستينا باكسون في عام 2004. لقد بينا أن اتجاهات وفيات الأطفال ومتوسطي العمر تظهر في الولايات المتحدة قبل ظهورها في المملكة المتحدة بنحو أربع إلى خمس سنوات. وقد يُعزى هذا إلى أن نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، الموجه إلى الأسواق بدرجة أعلى، يسمح باعتماد أسرع للتكنولوجيات الجديدة مقارنة مع النظام المدار من قبل الدولة في المملكة المتحدة، وإن لم تكن هذه التكنولوجيات قد اخترعت أصلا في الولايات المتحدة. تتيح التجارة الحرة المجال أمام مقدمي الخدمات الصحية في الولايات المتحدة إلى اعتماد تلك التكنولوجيات والأدوية الجديدة فور إمكانية ذلك للحفاظ على ميزة التنافسية. ومن الواضح أن هذا يعود بالفائدة على المرضى.
كذلك، أسفر خفض تكاليف التجارة إلى سعي الدول الغنية والفقيرة نحو تكنولوجيات الاتصالات مثل الراديو والتلفزيون والإنترنت بشكل كبير. ولقد ساعد هذا على تحسين الصحة العالمية عبر تسهيل انتشار الأفكار مثل الآثار الصحية للتدخين أو ممارسة الرياضة. وأخيرا، هناك بعض الأدلة التي تُشير إلى أن لزيادة التجارة أثرا إيجابيا على نوعية مؤسسات الحكم، مما يؤدي إلى وجود بيئة سياسية أكثر ملائمة تُفضي إلى تحسين الصحة (أوين ووا، 2004). ولقد أظهرت الدراسة أيضا أن نتائج تحسن الصحة الناجمة عن زيادة حجم التبادل التجاري ظهرت بشكل قوي في الدول الأكثر فقرا.
اتفاقيات التجارة والصحة
تدين عودة التجارة الحرة عقب التدمير الاقتصادي جراء “الكساد الكبير” في الولايات المتحدة والحرب العالمية الثانية بالكثير لوضع نظام عالمي للتجارة، وبشكل أكثر تحديدا، لخلق الاتفاقية العامة للتعريفـات والتجارة (الجات) في عام 1947. تأملت هذه المؤسسة بأن تقوم على تعزيز فكرة بسيطة تتلخص في أنه إذا قام شخص في بلد ما بإنتاج سلع أو خدمات يحتاجها أشخاص آخرون في بلدان أخرى، فلهم الحق في بيعها لهم من دون تدخل الدولة. من نقطة البداية هذه، تطور نظام التجارة العالمي اليوم إلى أبرز مثال للتعاون الدولي. فشهدت الجولات المتتالية لتحرير التجارة سقوط التعرفات الجمركية وتوحيد الممارسات التجارية ودخول عدد كبير من الدول إلى النظام التجاري العالمي.
لقد تم الآن استيعاب الجات ضمن منظمة التجارة العالمية التي تعمل على الافتراض المقبول على نطاق واسع بأن رفاه الإنسان سيزداد عن طريق النمو الاقتصادي المبني على أساس تحرير التجارة في سياق مبادىء عدم التمييز وتبادل الامتيازات والعدل والشفافية والنزاهة. وفي حين كان لهيئة تسوية المنازعات الأصلية للجات سلطات محدودة للتنفيذ، فإن قرارات هيئة تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية ملزمة تلقائيا ومطبقة من خلال العقوبات والروادع بشكل أساسي.
التجارة في الخدمات
ومع ذلك، واجه قيام النظام التجاري الأكثر إلزاما معارضة وانتقادا شديديْن وخاصة من طرف المنظمات غير الحكومية الناشطة التي ادعت أنها تمثل مصالح الصحة العامة. وهذا ينبع في معظمه من تفاصيل بعض اتفاقيات التجارة متعددة الأطراف. وعلى الرغم من أن اتفاقيات التجارة متعددة الأطراف تهدف إلى تسهيل التجارة الحرة ونقل المعرفة، فلقد نددها الناشطون على أنها تضر بالصحة العامة وخاصة في الدول منخفضة الدخل. وكانت اتفاقية الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية (التريبس)، التي سيتم مناقشتها أدناه، من أبرز هذه الاتفاقيات بين هؤلاء الناشطين في حملاتهم، ولكن قد تكون الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات (الجاتس) ذات علاقة مساوية، إن لم تكن أكثر، بالصحة العامة.
بدأت فعالية الجاتس، التي نوقشت من قبل 120 دولة، في عام 1995 وتهدف إلى خلق مناخ موات للتجارة في الخدمات في ظل الشفافية والتحرير التصاعدي التدريجي. وتحقق الجاتس هذا من خلال السماح للدول تقديم تعهدات ملزمة لخفض الحواجز أمام التجارة. أما بالنسبة إلى الرعاية الصحية تحديدا، فتشمل الاتفاقية على المجالات الواردة في الجدول أدناه. ويفسر نقاد الجاتس ذلك على أنه يتطلب خصخصة الخدمات الصحية، مشكلا تحديا لقدرات الحكومات على تنظيم مقدمي الخدمات الصحية وتحديد شكل أنظمتها الصحية (سنكلير، 2000؛ بولوك وبرايس، 2003). على سبيل المثال، يطالب النقاد أن نصَّ الاتفاقية لا يعفي تحديدا جميع خدمات الرعاية الصحية المقدمة من الحكومة من إشراف الجاتس (كراجيفسكي، 2001). وهناك مجال آخر للخلاف حول الحد الذي تسمح به الجاتس للحكومات القيام بتنظيم الخدمات الصحية، مع جدل البعض في أن الاتفاقية “ستحظر استخدام آليات لا تستند إلى السوق مثل الدعم المالي ودمج المخاطر العالمية والتضامن والمساءلة العامة في تمويل وإنجاز الخدمات (بولوك وبرايس، 2000). وأخيرا، يؤكد النقاد على أن هذه الاتفاقية غير شرعية ديمقراطيا، لأنها تضحي، إلى حد ما، بملكية الأمم ذات السيادة لسياستها الصحية الإجمالية إلى نظام تجارة يخضع إلى قوى وجهات خارجية (سنكلير، 2000). ولقد أظهر تقييم الجاتس الذي قامت به ليا بيلسكي وآخرون في عام 2004 أن معظم هذه المخاوف لا أساس لها من الصحة. وبالرغم من وجود مخاوف من أن نظام الجاتس مبهم جدا بحيث لا يستثني تحديدا الخدمات الصحية المقدمة من القطاع العام (كراجيفسكي، 2001)، إلا أن هذا غير متصل بالموضوع لأن الدول لا تزال محتفظة بحق تنظيم جميع مقدمي الخدمات العامة والخاصة. ومع أن الدول محدَّدة في السياسات التي يسعون لها نحو القطاعات التي تم إلزامها بالجاتس، تستطيع الدول اختيار المشاركة أو عدمها ولها حرية انتقاء القطاعات التي ترغب في الالتزام بها. ولذلك، من الخطأ الإدعاء أن الجاتس تقوض السيادة الوطنية لأن الدولة تفرضها على نفسها طواعية. كما أنه من الصعب الجدل بأن الجاتس تُصور مثالا مهينا لعدم شرعية الديمقراطية—إن جدل ذلك يعني القول أن جميع القرارات الصادرة حول سياسات التجارة مشبوهة ديمقراطيا. وبما أن هذه الاتفاقيات ضمن منظمة التجارة العالمية لا تتم إلا بموافقة المشرعين في الدول الأعضاء، فهي في نواحي عديدة أكثر ديمقراطية من غيرها من الهيئات متعددة القوميات مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وبوضع هذه المخاوف جانبا، تجدر الإشارة إلى الآثار الإيجابية على الصحة العامة والتي تترتب على الالتزام بتحرير التجارة، مثل الآثار المترتبة على الجاتس. قد يكون للالتزام بالجاتس فوائد إجمالية كبيرة، وخاصة لأنه يساعد على الإسراع في “انتشار المعرفة” ونقل التكنولوجيا والتي سبق وأن رأينا أهميتهما في تحسين الصحة. كما قد يمثل الالتزام بالجاتس كوسيلة للدول للحصول على كميات كبيرة من إيرادات الصادرات، مما يُسهم في النمو الاقتصادي.

من الواضح أن البلدان التي تتمتع بميزة نسبية في تقديم الخدمات الصحية ستستفيد حتما من التحرير المذكور؛ وفي حين أن هذا ينطبق أساسا على الدول الأكثر ثراء، فإن بعض الدول منخفضة الدخل مثل الهند تقوم بتنمية تخصصات وقدرات بشكل سريع في مجالات طبية مختلفة.
الطب عن بعد

يعد الطب عن بعد أكثر مجالات الخدمات الطبية وضوحا التي يمكن أن تُقدَّم عبر الحدود. ومع أن الطب عن بعد لا يزال نسبيا في مراحله الأولى، إلا أن إمكاناته المستقبلية هائلة. إن خفض تكاليف الاتصالات يؤدي إلى توسيع النطاق للاطباء لفحص صور الأشعة أو حتى إلى أداء جراحة عن بعد لمريض في بلد مختلف تماما. من الممكن نشر المعلومات السريرية والرقابية والوبائية من خلال تكنولوجيات الاتصالات، مثل الإنترنت. لقد ساهمت هذه الابتكارات الحديثة في جعل مجاراة الأطباء لآخر الأخبار والمعرفة والمعلومات الطبية أكثر سهولة عنها في الماضي، حتى في أكثر المناطق النائية في العالم.
لدى تكنولوجيات الاتصالات القدرة على خفض التكاليف، حيث ستقوم المستشفيات بتفويض خدمات المزودين ذوي أكثر الأسعار تنافسية، ولن تكون خياراتهم محدودة حسب الموقع. ويمكن أن يساعد الطب عن بعد العاملين في المناطق النائية على التشاور مع المتخصصين في المراكز الحضرية، مما يؤدي إلى تقليل الحاجة للإحالات المكلفة. قد يساعد الطب عن بعد في توسيع نطاق التجارب السريرية مثل إمكانية شمول المناطق الريفية، أو نطاق أوسع من الأجناس والأعراق. وبالنسبة للمريض، فإن الطب عن بعد سيزيل الحاجة إلى السفر المُكلف المُضني ويقلل من التأخير بين الإحالة والعلاج (هيلي وروين وأوهينما، 2002).
هناك أدلة أيضا على أن الطب عن بعد قد يكون له فائدة مباشرة للدول ذات الدخل المنخفض. وجدت أحد الدراسات أن مشروعا لطب العيون عن بعد بين المملكة المتحدة وجنوب إفريقيا قد ساعد الأطباء على تحسين معرفتهم المحدودة في مجال طب العيون، كما أدى إلى خفض عبء مرض العيون (جونستون، 2004). بالطبع، من المتوقع أن تجني الدول منخفضة الدخل فوائد أكبر من الطب عن بعد من الدول الغنية. لقد تم إقرار خبراء الصحة العامة منذ زمن طويل على أن نقص سبل الحصول على العناية الطبية المؤهلة والخدمات التحتية الملائمة هما أحد أهم العوائق أمام الصحة الجيدة في البلدان الفقيرة. ويعتبر استقطاب المتخصصين إلى المناطق الريفية والضواحي مشكلة رئيسية متصلة بالموضوع. ولذلك، فإن بناء وصيانة الخدمات التحتية للاتصالات اللازمة لاستخدام الطب عن بعد يعدُّ أكثر سهولة من وضع الأطباء المتخصصين في المناطق الريفية.

الاستهلاك في الخارج

يتزايد الاتجاه نحو سفر المرضى إلى الخارج من أجل الحصول على أفضل نوعية للرعاية الطبية، وبأقل التكاليف ومع الحد الأدنى من الانتظار. إذ يسافر حاليا عدد كبير من السياح الطبيين إلى الهند وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا، حيث يوجد العديد من المرافق الطبية عالية الجودة. ويأتي العديد من هؤلاء المرضى من مناطق من العالم لا يتوفر لديها المرافق الطبية الحديثة؛ بينما يأتي البعض الآخر من دول أخرى مثل المملكة المتحدة وكندا حيث أنظمة الرعاية الصحية العامة مثقلة لدرجة كبيرة يمكن معها أن يستغرق المريض سنوات للحصول على الرعاية اللازمة. وتعتبر التكلفة دافعا آخرا للسياحة الصحية: تقدر تكلفة إجراء عملية جراحية في الهند أو تايلندا أو جنوب إفريقيا عشر التكلفة في الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية، بل واحيانا اقل. وتساعد الجاتس على توفير الإطار الذي سيتم من خلاله وصول المرضى لهذه الخدمات.
لقد كان مستوى السياحة الطبية قبل عشر سنوات لا يُذكر. اليوم، يزور سنغافورة أكثر من 200000 مريض كل عام، نصفهم تقريبا من منطقة الشرق الأوسط. ويقدر أنه في عام 2005، سيسافر نحو نصف مليون مريض أجنبي إلى الهند للرعاية الطبية، بينما في عام 2002 بلغ العدد 150000 مريض فقط. سيُحقق هذا بطريقة ما تخفيف العبء عن النظم الصحية في الدول الغنية في العالم التي تعاني من قيود مالية متزايدة، وفي نفس الوقت، يخلق حوافز أكبر للكوادر الطبية المدربة للبقاء في بلدانهم بدلا من الخروج بخبراتهم إلى دول أخرى. إضافة إلى ذلك، تقدم الجاتس آلية تستطيع الدول من خلالها تبادل طلاب الطب، مما يزيد من معدل نقل المعرفة.
قد يكون جذب المرضى الأجانب أيضا مصدرا للعملة الأجنبية في الدول منخفضة الدخل. فباستطاعة السياحة الطبية تحقيق حوالي 2.2 مليار دولار بحلول عام 2012، وفقا لدراسة قام بها خبراء الإدارة ماكنزي آند كومباني واتحاد الصناعات الهندية. ولقد دخلت كل من الأرجنتين وكوستاريكا وكوبا وجامايكا والأردن وجنوب إفريقيا وماليزيا وهنغاريا ولاتفيا وإستونيا في هذا السوق، أو لا تزال تحاول أن تفعل ذلك، مع انضمام دول أخرى إلى القائمة كل عام.
الوجود التجاري
توفر الجاتس آلية مبنية على قواعد تمكِّن مقدمي الخدمات الصحية التجارية، مثل المستشفيات أو شركات التأمين، من العمل في الدول الأجنبية. وبينما تزداد بعض الدول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة انفتاحا على الاستثمار الخارجي الخاص في القطاع الصحي، بدأت الدول الفقيرة مثل الهند وإندونيسيا ونيبال وسريلانكا وتايلندا أيضا تخطو طريقا حرا مشابها في هذا المجال (منظمة الصحة العالمية، 2002). هناك عدة أسباب لأهمية هذا النوع من التجارة في تسريع “انتشار المعرفة” التي قد رأينا أنها تؤدي إلى تحسين الصحة العامة.
أولا، سيؤدي وجود رأس المال الأجنبي الإضافي إلى تعجيل سرعة اعتماد التكنولوجيا الطبية الجديدة. سيحضر المزودون الأجانب أساليب إدارة متقدمة، والتي ستزيد من كفاءة المستشفيات المحلية.
ثانيا، سيقدم تطوير الخدمات الطبية عالية الجودة وظائف إضافية للكوادر الطبية، مما يساعد في الحفاظ عليهم في بلدهم. وغالبا ما يقوم الجراحون الاستشاريون بتقسيم وقتهم بين القطاعين العام والخاص. فإذا كانت خياراتهم الوظيفية محصورة في القطاع العام، لن يكون لديهم الحوافز الكافية لبقائهم في بلدهم. وعليه، فإن وجود المزودين التجاريين الأجانب سيساعد على التغلب على ما يُسمى “بهجرة الأدمغة” التي تؤثر على الخدمات الطبية في بعض الدول منخفضة الدخل.
ثالثا، سيكون بإمكان المزودين الأجانب ورأس المال الخاص في داخل بلد أجنبي المساهمة أيضا في التخفيف من واقع الخدمات العامة التي تعاني من قيود مالية، عبر تخفيض عدد المرضى الذين يحتاجون للعلاج.
وأخيرا، يمكن أيضا للجاتس أن تساهم في تسريع إدخال التأمين الصحي الخاص في الدول منخفضة الدخل والذي سيكون تطورا إيجابيا لأولئك المحرومين من الحصول على الرعاية بسبب الاحتكارات العامة غير الفعالة والجائرة. ويمكن لهذا تحسين الوصول الشامل فقط.
وجود الأشخاص الطبيعيين

توفر الجاتس إطارا قانونيا يستطيع الأفراد العاملون في المهن الطبية الانتقال من خلاله بين الدول لممارسة الطب. وهذه قضية خلافية لأن أكبر حركة انتقال للمهنيين العاملين في مجال الصحة تكون من الدول منخفضة الدخل إلى الدول الغنية، حيث الرواتب أعلى وظروف العمل أفضل. إذ يصعب على المهنيين العاملين في المجال الطبي العثور على وظيفة في مجال مهنتهم في العديد من الدول منخفضة الدخل، وينتهي بهم المطاف باللجوء إلى العمل في وظائف لا تتطلب مهارات عالية.
في الإعلام الشائع بين العامة، توصف هذه الظواهر بأنها “هجرة معاكسة تماما للأدمغة” تستنزف الأنظمة الصحية للدول ذات الدخل المنخفض من القدرات والموارد. وفي الواقع، قد يقدم ما يُسمى بـ “هجرة أدمغة” الكوادر الطبية بعض المساهمات الإيجابية لانتشار المعرفة ويساهم أيضا في العملة الأجنبية للدولة عبر التحويلات. وسيكتسب العديد من المهنيين العاملين في المجال الطبي المهارات التي لا يقدرون على اكتسابها في بلدهم، وفي كثير من الحالات يعود هؤلاء إلى بلادهم محملين بهذه المهارات. ففي مجال البحوث الصحية، يمكن للعلماء المهاجرين من الدول منخفضة الدخل تعزيز النشاط البحثي في المجالات ذات الأولوية بالنسبة لبلدهم، مما يُساعد على تحسين توزيع تمويل البحوث الصحية لهذه المناطق. علاوة على ذلك، فإن السماح بحرية حركة الشعوب يضمن استغلال الإمكانيات البشرية. فعلى سبيل المثال، لم يكن باستطاعة ألبرت أينشتاين وضع نظرياته لو بقي في ألمانيا النازية في الثلاثينات.
ومن منظور فلسفي أوسع، فإن الفكرة القائلة بوجوب تقييد حرية التنقل لبعض الفئات الخاصة من الأفراد من قبل الحكومات هي فكرة تسلطية مقيتة. أولئك الداعون بوقف الحركة الدولية للمهنيين العاملين في القطاع الصحي يلمحون أن هؤلاء الناس هم من الممتلكات المالية للحكومات. ويبدو هذا تعصب على نحو خطير لتقييد الناس من تحقيق طموحاتهم وإمكاناتهم بهذه الطريقة.
تريبس ونقل التكنولوجيا — حالة الهند

كان إدخال قضايا الملكية الفكرية الدولية في التجارة العالمية مثيرا للجدل منذ أن تم التوقيع على اتفاقية منظمة التجارة العالمية المتعلقة بالجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية (تريبس) في عام 1994. ولقد تركز معظم النقاش اللاحق حول فيما إذا كان فرض براءات الاختراع على المنتجات الدوائية سَيَحول دون حصول الدول ذات الدخل المنخفض على الأدوية. تحاول هذه الاتفاقية أن توازن بين الحاجة لضمان الحصول على الأدوية وبين ضرورة حماية استثمارات المبتكرين. ومن غير المحتمل أن يستثمر القطاع الخاص المبالغ الكبيرة المطلوبة من أجل تطوير أدوية جديدة بدون هذه الحماية.
لا تنوي هذه الورقة أن تطيل الحديث عن هذه الجوانب للجدل حول التريبس، والتي هي الآن مألوفة لجميع المهتمين بالصحة العامة. سيكون جديرا بالأحرى النظر في تأثير اتفاقية التريبس على نقل التكنولوجيا والمعرفة.
الهند هي أحد الأمثلة التي تستحق الفحص والبحث. فلكي تُصبح الهند ممتثلة مع اتفاقية التريبس، سنَّت الهند قانون براءة اختراع في أوائل عام 2005. المؤشرات الأولى أن هذا القانون قد أدى إلى زيادة الاستثمار في مجال بحوث وتنمية الأدوية (البحث والتطوير) في الهند من قبل الشركات المحلية ومتعددة الجنسيات، والتي من المفترض أن تُنتج مع مرور الوقت أدوية أرخص مصممة خصيصا لتلبية احتياجات سكان الهند. بهذه الطريقة، لن تستفيد الهند من الخبرات الفنية في مجال الصناعات الدوائية التي تجلبها الشركات متعددة الجنسيات معها فحسب، وإنما ستستفيد أيضا من زيادة مستويات الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تساعد على تعزيزالاقتصاد. هناك أيضا بعض الأدلة التي تشير إلى أن القوانين الجديدة تخلق مناخا جذابا لعودة العلماء والباحثين الهنود إلى بلدهم من الولايات المتحدة وأوروبا.
ولكن، قوبل هذا التحرك من جانب الحكومة الهندية بالكثير من المعارضة من قبل جماعات “المصلحة العامة” وحملات المهتمين بالصحة الذين يرون أن امتثال الهند مع تريبس سيُغلق أكبر مصدر للأدوية الرخيصة في العالم لأنه لن يعود بمقدور الشركات الهندية المصنعة للأدوية العامة إنتاج ونسخ الأدوية الحيوية التي تحظى ببراءة اختراع في أماكن أخرى.
لكن هذا الادعاء كاذب. إن 97% من الأدوية التي تُنتجها شركات الأدوية العامة الهندية لا تخضع لبراءة اختراع، وبذلك سيؤثر القانون على 3% من جميع الأدوية التي تنتجها الدولة كأقصى حد. وعلاوة على ذلك، فإن أقل من 2% من الأدوية الأساسية المدرجة في قائمة منظمة الصحة العالمية تخضع حاليا لبراءة اختراع (أتاران، 2004)، وعليه، فإنه من غير المحتمل أن يكون لقانون براءة الاختراع الهندي الجديد اثر كبير في الوصول إلى الأدوية في أجزاء أخرى من آسيا وإفريقيا.
قبل تنفيذ اتفاقية تريبس كان هناك حوالي 20000 شركة لإنتاج الأدوية في الهند، لا يزال بعضها يخضع لبراءة اختراع في بلدان أخرى. وقُدّر في عام 1999 أن أقل من 40% من السكان يستطيعون الحصول على أي نوع من الأدوية (لانجاو، 1999). لا شك في أن تنفيذ قانون براءة الاختراع المتماثل مع تريبس قد أدى إلى تخفيض عدد الشركات التي تنتج نسخا من الأدوية—والتي يقدر عددها بحوالي 9000—ولكن لم يكن لهذا أثر ملحوظ على معدلات إمكانية الوصول للأدوية التي لا تزال منخفضة لدرجة تبعث على الأسى. والواقع أنه هناك مشاكل أكثر خطورة تؤثر في إمكانية الوصول إلى الأدوية إلى جانب حقوق الملكية الفكرية، مثل الخدمات الطبية الأساسية غير الملائمة تماما.
ومع ذلك، فإن التغييرات الأخيرة في قانون الملكية الفكرية في الهند تُحفز الآن الشركات الهندية لإجراء بحوث وتطوير لأدوية الأمراض التي تؤثر على السكان المحليين بشكل سائد. فعلى سبيل المثال، افتتحت مؤخرا شركة نيكولاس بيراميل مركزا للبحوث والتطوير في بومباي بتكلفة 20 مليون دولار لإجراء البحوث الأساسية على مجموعة واسعة من الاضطرابات، ابتداء من السرطان إلى الملاريا. فالملاريا مرض يصيب ما لا يقل عن 600 مليون شخص سنويا، غالبا في الدول الفقيرة بما فيها الهند. وتقوم كل من شركة رانباكسي، أكبر شركة أدوية في الهند، وشركة الدكتور ريدي بمتابعة مشاريع بحث وتطوير مماثلة. لدى الهند حاليا أكبر عدد من شركات تصنيع الأدويه الموافق عليها خارج الولايات المتحدة، كما زادت الانفاق على البحث والتطوير من 4% قبل خمس سنوات إلى 8% في الوقت الحاضر.
يجذب التغيير في قانون براءة الاختراع أيضا استثمارا أجنبيا ذا قيمة. فتنظر الشركات متعددة الجنسيات مثل شركة ميرك وبريستول مايرز سكويب الآن إلى الهند كموقع رئيس لإنشاء مرافقا للبحث. ولا تعود جاذبية الهند إلى قلة التكاليف الأساسية فحسب، بل أيضا إلى وجود العديد من الباحثين المثقفين الذين يستطيعون إجراء الاختبارات السريرية عالية التكاليف وأشكالا أخرى أكثر تعقيدا لمراحل تطوير الأدوية المتقدمة. ويقدر الخبراء الإداريون ماكنزي أنه بحلول عام 2010، ستنفق شركات الأدوية الأمريكية والأوروبية حوالي 1.5 مليار دولار سنويا في الهند على التجارب السريرية وحدها (بادما، 2005).
تسعى الكثير من الشركات الغربية أيضا للشراكة مع الخبرات المحلية. ومثال حديث على هذا هو التعاون القائم بين شركة دنماركية، نوفو نورديسك، وشركة الدكتور ريدي لإيجاد علاج جديد لمرض السكري. ولقد أعربت الشركات اليابانية عن رغبتها في استثمار مبالغ كبيرة في مشاريع البحث والتطوير الهندية. وبدلا من فرض حواجز مانعة، كما فعلت الهند في السابق، دأبت الحكومة الهندية على جذب هذه الاستثمارات الأجنبية بتوفير الحوافز، مثل منح إعفاء ضريبي لمدة عشر سنوات لشركات الأدوية التي تُشارك في البحوث والتنمية.
تعني هذه التطورات أنه بإمكان الشركات الهندية تطوير لقاح لمرض الملاريا أو تحسين علاجات السل المتوفرة حاليا والتي تساهم المقاومة لها في وفاة أكثر من 1000 شخص كل يوم في الهند وحدها. وتدخل الاستثمارات في مجالات البحث والتطوير في محاولة العثور عن لقاح لفيروس الإيدز. وتُجرى حاليا تجارب على الإنسان للّقاح الوقائي المرشح ضد فيروس الإيدز الثاني الذي أنتجته الهند.
في وقت قصير نسبيا، سرّع قانون براءة الاختراع الجديد في الهند التعاون بين قطاع تكنولوجيا المعلومات والصناعات الدوائية والتكنولوجيا الحيوية. وحتى وقت قريب، اعتمدت القطاعات النامية للتكنولوجيا الحيوية والأدوية المبنية على الأبحاث على تسجيل براءات الاختراع في أوروبا والولايات المتحدة. كما واجهت صعوبات في إنشاء مشاريع مشتركة مع شركات تكنولوجيا المعلومات بسبب ضعف قوانين براءة الاختراع المحلية وإحجام الشركات الأجنبية عن تقديم التزامات كبيرة وخطرة. الآن، وبدلا من تصدير المواد الخام والعناصر الفعالة الأساسية التي تدخل في إنتاج الأدوية العامة زهيدة الثمن، فإن الشركات في الهند قادرة الآن على المنافسة عالميا، منتجة أدوية منقذة للحياة ذات قيمة مضافة مرتفعة. وسوف يسهِم هذا أيضا في النمو الاقتصادي المستمر للهند الذي شهد ارتفاعا في متوسط العمر المتوقع من 36 سنة في عام 1951 إلى مستواه الحالي وهو 61 سنة.
اتفاقيات التجارة الحرة
لقد أدى الاتجاه المتزايد لدى الولايات المتحدة للتوقيع على اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية والإقليمية، أسوة بالتريبس، إلى الخوف من أن تكون اتفاقيات التجارة مضرة على الصحة من خلال إعطاء الأولوية لاعتبارات الملكية الفكرية بدلا من إمكانية الوصول إلى الأدوية. ولدى الولايات المتحدة حاليا اتفاقية تجارة حرة مع الأردن وتشيلي وسنغافورة وأستراليا والمغرب والبحرين ومجموعة من ستة بلدان من أمريكا الوسطى (منطقة التجارة الحرة للأمريكتين). وهناك مفاوضات متقدمة بين الولايات المتحدة وتايلندا ودول الأنديز وخمسة اتحادات جمركية لدول إفريقيا الجنوبية (ساكو) و34 دولة من أمريكا اللاتينية ودول الكاريبي. وعلى نحو مشابه للتريبس، يمكن لهذه الاتفاقيات أن تحسن الصحة عبر تشجيع نقل التكنولوجيا وإثراء الدول الموقعة.
هناك بعض الشكوك حول اتفاقيات التجارة الحرة. فعلى سبيل المثال، تؤكد بعض الجماعات الناشطة أن بعض أحكام الملكية الفكرية في هذه الاتفاقيات ستمنع الدول من استخدام الضمانات الواردة في إعلان الدوحة بشأن اتفاقية التريبس والصحة العامة. لقد صرح الإعلان الموقع من قبل جميع الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية ثانية بمرونة اتفاقية التريبس التي تسمح للدول اتخاذ التدابير اللازمة، بما في ذلك الترخيص الإجباري للأدوية، لحماية الصحة العامة. ولقد أكد توضيح آخر في آب 2003 أنه بإمكان دول ثالثة أيضا أن تجعل ترخيص الأدوية إلزاميا للتصدير للدول الفقيرة التي ينقصها القدرة على التصنيع.
ولكن ادعاء الناشطين أن اتفاقيات التجارة الحرة “تقتل” من خلال الميل بالتوازن بين “الصحة العامة مقابل الملكية الفكرية الخاصة” لصالح المصالح التجارية لشركات الأدوية الأمريكية هو ببساطة ادعاء غير صحيح. إذ تصرح جميع اتفاقيات التجارة الحرة بوضوح على أنها لن تُقيِّد أية مرونة مسموح بها في التريبس أو إعلان الدوحة لحماية الصحة العامة. وحيث لم يظهر هذا التصريح في الاتفاقية الرئيسية، قامت الولايات المتحدة والدولة الشريكة (الدول الشركاء) بتوقيع “رسائل جانبية” ملزمة بنفس المفعول.
عند القيام بحملات ضد اتفاقيات التجارة الحرة، يرفع الناشطون شبح فترات البراءة التي تتجاوز الحد الأدنى لسنوات التريبس العشرين، مقترحين بذلك حالة يتوجب فيها انتظار الفقراء 20 عاما أو أكثر قبل تمكنهم من الحصول على الأدوية العامة. ولكن، كما شاهدنا، فإن 95% من الأدوية الضرورية على قائمة منظمة الصحة العالمية لا تخضع لبراءة الاختراع وستبقى كذلك (أتاران، 2004). وبالمثل، فإن الأدوية المسجلة في الولايات المتحدة وليس في غيرها من البلدان، بما فيها الأدوية المضادة للفيروسات، لا يمكنها الآن أن تكتسب حماية براءة الاختراع. وفي أي حال لا يكون للأدوية بحكم الواقع 20 سنة مدة براءة الاختراع. ويتطلب الأمر، وبشكل نموذجي، مدة تتراوح من 10 إلى 12 سنة لإجراء تجارب على مادة ما وللحصول على الموافقات القانونية—ويحدث جميع هذا بعد منح براءة الاختراع—حيث لن تقوم أية شركة بالاستثمار في مادة غير مسجلة ببراءة اختراع. في هذه الأثناء، قد يتطلب تسجيل براءة الاختراع من سنة إلى ثلاث سنوات بعد تقديم الطلب. لذلك، فإن لمعظم الأدوية مدة براءة فعالة لمدة تتراوح من ست إلى عشر سنوات، وفي العادة أقل بكثير من ذلك. ووفقا لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية، فإن متوسط فترة البراءة المتبقية بعد الحصول على الموافقة على التسويق في عام 2001 كان 7.8 سنة من العشرين عاما الأصلية لحماية براءات الاختراع (إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، 2002). بالمقابل، تتمتع القطاعات الصناعية الأخرى بمتوسط عمر براءة اختراع تتجاوز 18 سنة. وتقدم بعض اتفاقيات التجارة الحرة تعويضا لمدة البراءة في حالة التأخير غير الضروري في الحصول على الموافقة التسويقية. وفي الولايات المتحدة، حيث توجد مثل هذه التشريعات، لا تتجاوز المدة الإضافية في العادة السنتين. وبعبارة أخرى، ستحصل معظم الأدوية على فترة تفرّد أقل بكثير من العشرين سنة المذكورة.
وفي حين تفتح اتفاقية التريبس المجال للحكومات لحماية الصحة العامة، فهي تهدف أيضا إلى تشجيع الدول على احترام الملكية الفكرية بالامتناع عن استنساخ الأدوية الموجودة، مثل الفياجرا وغيرها من “أدوية أساليب الحياة”. وبإجراء ذلك يتم استقطاب الاستثمار كما يساعد على نمو صناعاتهم المبتكرة الخاصة. سيُتيح هذا زيادة نقل المعرفة والتكنولوجيا، حيث ستشعر الشركات متعددة الجنسيات أن باستطاعتهم العمل في بلد بدون التعرض لاختلاس ممتلكاتهم. وبحماية الملكية الفكرية، تشجع اتفاقيات التجارة الحرة إطلاق المنتجات المبتكرة التي بواسطة الصناعات الدوائية المحلية. على سبيل المثال، منذ أن وُقعت اتفاقية التجارة الحرة بين الأردن والولايات المتحدة في عام 2000، تم إطلاق أكثر من 32 منتجا جديدا في الأردن (ممثلية التجارة الأمريكية، 2004).
وللتأكيد، فإن اتفاقيات التجارة الحرة تُمثل ثاني أفضل حلّ لتحرير التجارة. ومع ذلك، فهي تحسن للوضع القائم عبر تحرير التجارة وتحسين الرفاه الاقتصادي. هذا سيسمح للدول الإنفاق بشكل أكبر على الرعاية الصحية، فضلا عن تمكين الأفراد من تحسين ظروفهم المعيشية وبالتالي تحسين الصحة. إضافة إلى ذلك، فهي تشجيع نقل التكنولوجيا والمعرفة عن طريق تحسين بيئة العمل لشركات الأدوية المبتَكِرة.
الخاتمة

بالرغم من وضوح قيام التجارة الحرة بحثّ اثنين من أهم العوامل الصحية—النمو الاقتصادي ونقل التكنولوجيا—فهي لا تزال تواجه الكثير من الشك من قبل مجموعة متنوعة من الناس. وتشمل هذه المجموعة جماعات الضغط في قطاع الصناعة الخائفين من المنافسة الدولية، والناشطين الذين يسعون إلى الحد من حرية القطاع الخاص، والحكومات التي تُملي السياسات وفقا لرغبات مجموعات المصالح الخاصة. ويؤكد المعارضون أن التجارة الحرة شيء سيىء بسبب تصوُّر أنها ستخلق فائزين وخاسرين. وعلى الرغم من الأدلة الجديرة بالاعتبار والمبنية على التجربة التي تدل على عكس ذلك، فهناك أيضا شك شديد بقدرة النمو الاقتصادي على تحسين رفاهية الإنسان. وغالبا ما تبدو هذه الآراء المعارضة واضحة كآراء رسمية لبعض الهيئات مثل الأمم المتحدة ووكالاتها، والذي يبدو أنها تعتقد أن معالجة قضية اللامساواة ذات درجة أعلى من الأولوية عن تعزيز النمو الاقتصادي.
إن تقرير التنمية البشرية لعام 2005 لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية هو أحد الوثائق التي تتبنى هذا الموقف، والذي يناقش بضرورة تقديم المزيد من المساعدات الخارجية لمعالجة اتساع التفاوت الذي يعتبره البرنامج العائق الرئيسي أمام تحقيق أهداف التنمية للألفية. تشك الوثيقة أيضا بقوة التجارة الحرة في تحسين ظروف الإنسان. وتقترح أن التجارة الحرة قد تجعل التفاوت في الصحة والتعليم والدخل في الدول منخفضة الدخل أسوأ. وتشكل هذه النظرة الأساس لمفوضية المحددات الاجتماعية للصحة التابعة لمنظمة الصحة العالمية، كما تم مناقشتها أيضا في تقرير التنمية العالمية للبنك الدولي لعام 2006.
يغفل الهاجس العالمي للتخلص من “اللامساواة” النقاط التي تتعلق بالقضايا الصحية. كثيرا ما يصاحب النمو الاقتصادي ازدياد في التفاوت الصحي، ولكن من المهم أن نعترف بأن النمو الاقتصادي قلما يتسبب في الإضرار بصحة السكان الكلية. وفي الواقع، تظهر الأدلة المستقاة من التجربة أن ما يحدث هو العكس تماما. وجد آدم واجستاف (2002) في تحليله للبيانات المأخوذة من 42 دولة أن التفاوت الصحي يزداد فعلا مع ارتفاع دخل الفرد في كل من الدول الغنية والفقيرة. ويعود هذا جزئيا إلى تحسين توفر التكنولوجيا الصحية الجديدة التي تُرافق النمو الاقتصادي، الذي يمكن تبنيه بسرعة أكبر من قبل الأغنياء وليس الفقراء. ولكن من المهم أن نلاحظ أن أكثر الناس فقرا لا يصبحون أقل صحة بازدياد صحة عناصر المجتمع الأكثر ثراء، بل يصبحون أوفر صحة كذلك، ولكن بمعدل ابطأ قليلا من أولئك الأكثر ثراء نسبيا. ولكن إذا رغبت الدول منخفضة الدخل في التغلب على هذه التفاوتات من خلال إدارة التجارة بواسطة سياسات بدائل الاستيراد وما شابه ذلك، فمن المحتمل أن يتأخر النمو الاقتصادي وأن يدام الفقر، مما يجعل الناس غير قادرين على الحصول على الوقود النظيف والمرافق الصحية الملائمة والظروف المعيشية الصحية.
بالنسبة لأولئك المعنيين بالتفاوت من موقف معياري، يجدر التذكير أيضا أن الارتفاع المذهل للازدهار الفردي الذي حصل في السنوات الأخيرة في الهند والصين قد ساهم كثيرا في خفض التفاوتات العالمية في التعليم والصحة. وبالرغم من وجود تباين في الدخول العالمية (نتيجة لفشل إفريقيا في تشجيع النمو الاقتصادي)، تقاربت مؤشرات التنمية البشرية بسرعة في انحاء العالم خلال نصف القرن الأخير. وقد لاحظ الاقتصادي تشارلز كيني مؤخرا أنه بالرغم من اتساع الفجوات في الدخل بين أغنى الدول وأفقرها، فإن معظم الدول تتقارب بسرعة في مؤشرات التنمية مثل الصحة والتعليم (كيني، 2005). ويعود هذا جزئيا إلى أن عمليات التجارة الحرة والعولمة الاقتصادية أدت إلى انتقال أسرع للتكنولوجيا والمعرفة من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة مما كان ممكنا في القرون السابقة. وأظهرت دراسة نفذها الاقتصادي ديفيد دولار من البنك الدولي أن تسارع العولمة الاقتصادية وتدفقات التجارة في المراحل الأخيرة من القرن العشرين قد أتاح المجال لمعدل النمو الاقتصادي في الدول منخفضة الدخل أن يتجاوز معدل النمو للدول الغنية للمرة الأولى في التاريخ (أنظر الشكل 4). إضافة إلى ذلك، إن عدد الفقراء في العالم يتناقص بحوالي 375 مليون شخص منذ عام 1981 في حين ازداد عدد سكان العالم بحوالي 1.6 مليار في نفس الفترة.
في المقابل، لم يعترف معارضو التجارة الحرة بتأثيرها المفيد على الإنسانية. إنهم ينظرون إليها كلعبة “مجموع الصفر” حيث تستغل الدول ذات الدخل المرتفع والشركات متعددة الجنسيات الفقراء والمهمشين. ويدفع نشطاء مكافحة الفقر باستمرار الرسالة التي تدور حول أن تحرير التجارة سيىء بالنسبة للفقراء، لأنهم غير قادرين على منافسة التفوق المالي والتكنولوجي للمنتجين من الأسواق الأكثر ثراء.
يُلبس معارضو التجارة الحرة بمحض إرادتهم أحيانا “التجارة الحرة” بما هو في الواقع تجارة موجهة. لقد قدمت إحدى الحملات الأخيرة المناهضة للتجارة الحرة والتي تقودها منظمة العون المسيحية بمكر فكرة أن المزارعين الأفارقة يعانون بسبب التجارة الحرة مع الدول الغنية، بينما أن المعرفة السطحية بالحقائق كفيلة بأن تكشف أنهم يعانون من الدعم المالي السخي والحواجز الجمركية الواقية الممثلة من خلال السياسة الزراعية المشتركة. ومن الواضح أن هذا لا يمثل التجارة الحرة، وهو سيىء للمزارعين في الدول الفقيرة والمستهلكين في الدول الغنية. ولكن عندما يقاس تأثير التجارة الحرة الحقيقية على صحة السكان من قبل الاقتصاديين، تُشير الدلائل إلى أنها قوة للخير تُساعد على تحسين متوسط العمر المتوقع ووفيات الأطفال (وي ووا، 2004).

ستتحسن الصحة من خلال أداء اقتصادي أفضل للدول التي تقبل التجارة الحرة وترفض سياسات بدائل الاستيراد، كذلك ستجعل بإمكان المستهلكين الحصول على سلع تساهم في صحة الإنسان ذات جودة أعلى وتكلفة أقل. وعلى سبيل المثال، تزداد معدلات الوفيات وانتشار الأمراض في الدول منخفضة الدخل زيادة كبيرة نتيجة لتلوث الهواء الداخلي الذي ينشأ من احتراق الوقود الحيوي البدائي مثل روث البقر. ستجعل التجارة الحرة الوقود المستورد الأنظف مثل الكيروسين والغاز أرخص ثمنا وأكثر وفرة، كما وستضغظ بطريقة غير مباشرة على الحكومات من أجل إصلاح قطاع الطاقة. وبالمثل، فإن جزءا كبيرا من عبء المرض في أكثر الدول فقرا هو نتيجة مباشرة للمياه الملوثة، ولذلك ستكون التجارة الحرة في تنقية المياه والتكنولوجيات الأخرى ذات الصلة مفيدة جدا. وأخيرا، ستُتيح التجارة الحرة في المواد الغذائية توازنا أفضل بين العرض والطلب عما هو الحال حاليا في أجزاء كثيرة من العالم، وستساعد على مكافحة سوء التغذية—أحد أهم محددات الصحة. هذه الحالة صحيحة لعديد من الدول الإفريقية، التي تُقيم، وعلى نحو غير ضروري، حواجز جمركية صارمة بينها من أجل حماية قطاع الزراعة المحلية. وتكون النتيجة غذاء أغلى ونقصا في الأغذية وفي بعض الأحيان المجاعة.
ملاحظات:

[1] المنحنيات المصقولة في هذا الشكل مبنيّة على تحليل تراجعي خطي لوغارثمي. عدد القراءات = 268 لعام 1977 و2003 على نحو تراكمي؛ R2 المعدلة = 0.56. الزيادة في متوسط العمر المتوقع المترتبة على زيادة الدخل ومرور الوقت ذات أهمية على مستوى 99.9%.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 13 كانون الأول 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

هناك قول شائع، وقد يكون صحيحاً، مفاده أن الاقتصاد المؤسساتي الجديد بدأ بمقالي “طبيعة الشركة” (1937) مع مقدمتها الواضحة لتكاليف التعاملات في التحليل الاقتصادي. بيد أنه ينبغي التذكر أن منبع النهر العظيم هو جدول صغير وأنه يستمد قوته من الروافد التي تصب في مجراه. وهذا هو الحال في الموضوع الذي نحن بصدده. لست أفكر فقط في مساهمات اقتصاديين آخرين مثل أوليفر وليامسون وهارولد ديمسيتز وستيفن تشيونغ، على أهميتهم ولكن أيضاً في أعمال زملائنا في القانون والأنثروبولوجيا والاجتماع والسياسة والعلوم والتخصصات الأخرى.
إن عبارة “الاقتصاد المؤسساتي الجديد” هي من ابتكار أوليفر ويليامسون وكان القصد منها تمييزها عن “الاقتصاد المؤسساتي القديم”. كان جون آر. كومونز وويزلي ميتشل والمتعاونون معهما رجالاً ذوي مكانة فكرية كبيرة ولكنهم مضادين للنظريات، وإذا لم تكن هناك نظرية تربط مجموعة الحقائق التي توصلوا إليها فلن يكون لديهم الشيء الكثير مما يستطيعون إيصاله للناس. من المؤكد أن التيار السائد في علم الاقتصاد يمضي في طريقه دون أي تغيير ذي شأن، وهو لا زال مستمراً في ذلك. عندما أتحدث عن الاقتصاد كاتجاه سائد فإني أشير إلى الاقتصاد الجزئي، وأترك للآخرين تقدير ما إذا كانت انتقاداتي هذه تنطبق أيضاً على الاقتصاد الكلي.
اقتصاد التيار السائد، كما يراه المرء في المجلات المتخصصة وفي الكتب الدراسية والدورات التي تعقدها أقسام الاقتصاد في الجامعات أخذ سمة تجريدية بمرور الزمن، ورغم أنه يوحي بغير ذلك فإنه في الواقع لا يقيم وزناً كبيراً لما يحدث في عالم الواقع. وقد قدم ديمسيتز تفسيراً لسبب حدوث ذلك: لقد كرس الاقتصاديون منذ آدم سميث أنفسهم لوضع صياغة لمبدأه حول اليد الخفية—تنسيق النظام الاقتصادي بواسطة نظام التسعير. كان ذلك إنجازاً مثيراً للإعجاب ولكن، وكما أوضح ديمسيتز، فإنه تحليل لنظام شديد اللامركزية. إلا أنه يحوي أخطاءً أخرى.
وقد أشار آدم سميث أيضاً إلى أنه يتعين علينا أن نولي عناية لتدفق السلع والخدمات الحقيقية بمرور الوقت، وبما يحدد تنوعها وحجمها. والحال أن الاقتصاديين يدرسون كيف أن العرض والطلب يقرران الأسعار ولكن ليس بنفس العوامل التي تحدد ما هي السلع والخدمات التي يجري تداولها في السوق وبالتالي تسعيرها. إنها وجهة نظر تستهين بما يجري في العالم الحقيقي ولكن الاقتصاديين اعتادوا عليها واستمروا العيش في عالمهم دون إزعاج. إن نجاح اقتصاد التيار السائد رغم أوجه الخلل فيه هو إشادة بقدرة احتمال أسس نظرية حيث أنه قوي بالتأكيد من ناحية نظرية ولكنه ضعيف من الناحية الواقعية. من هنا، وعلى سبيل المثال، فإن بينغت هولمستورم وجان تيرول يشيران في كتابهما دليل المنظومة الصناعية(1989، ص 126) إلى أن “نظرية الشركة تلحظ أن نسبة الدليل/النظرية هي نسبة ضعيفة جداً في هذا المجال حالياً”.
هذه اللامبالاة بما يحدث عملياً في العالم الحقيقي تستمد القوة من الطريقة التي يفكر بها الاقتصاديون في موضوعهم. كان هناك، أيام شبابي، تعريف شائع جداً للاقتصاد وضعه ليونيل روبنز (1935، ص 15) في كتابه مقال في طبيعة وأهمية علم الاقتصاد: “الاقتصاد علم يدرس سلوك الإنسان كعلاقة بين أهداف ووسائل نادرة لها استخدامات بديلة”. إنه دراسة للسلوك الإنساني كعلاقة. اقتصاديو هذه الأيام يشيرون، على الأرجح، إلى موضوعهم باعتباره “علم الاختيار الإنساني” أو يتحدثون عن “مقاربة اقتصادية”. ليس هذا تطوراً جديداً، فقد سبق لجون مانيارد كينز أن قال بأن “نظرية الاقتصاد هي أسلوب وليست مبدأ… أدوات للعقل، أسلوب في التفكير، تساعد من يؤمن بها على التوصل إلى استنتاجات صحيحة (المقدمة، إتش. دي. هندرسون، 1922، ص5). أما جوان روبنسون (1933، ص 1) فتقول في مقدمة كتابهااقتصاديات المنافسة غير التامة بأن “نظرية الاقتصاد تعطى للمحلل الاقتصادي باعتبارها صندوق أدوات”. معنى هذا أن الاقتصاديين يفكرون بأنفسهم بأن لديهم صندوق عِدّة ولكن ليس مادة موضوع… (لقد نسيت القصيدة والشاعر ولكن الأبيات لا تُنسى):
“أرى الرسن واللجام بوضوح،
ولكن أين هي الفرس اللعينة؟”

وقد أسهمت من جانبي بتعبير مماثل قلت فيه بأننا ندرس الدورة الدموية دون وجود جسم.
لا أريد بقول هذا أن يُفهم بأن هذه الأدوات التحليلية ليست مهمة للغاية، وأسعد عندما يستخدمها زملاؤنا القانونيون في دراسة عمل النظام القانوني أو عندما يستخدمها أولئك العاملون في العلوم السياسية في دراسة عمل النظام السياسي. النقطة التي أتحدث عنها مختلفة، فأنا أعتقد بأنه ينبغي لنا أن نستخدم هذه الأدوات التحليلية لدراسة النظام الاقتصادي. أعتقد أنه يوجد لدى الاقتصاديين مادة موضوعية: دراسة عمل النظام الاقتصادي، وهو نظام نتقاضى فيه دخولنا ونصرفها. إن رفاه المجتمع الإنساني يعتمد على تدفق السلع والخدمات وهذا بدوره يعتمد على إنتاجية النظام الاقتصادي. وقد أوضح آدم سميث بأن إنتاجية النظام الاقتصادي تعتمد على التخصص (يسميه تقسيم العمل)، ولكن التخصص لا يكون ممكنا إلا إذا كان هناك تداول—وكلما كانت تكلفة التداول (تكلفة التعامل إذا شئت) أقل كلما أصبح هناك تخصص أكثر وزيادة في إنتاجية النظام. بيد أن تكلفة التداول تعتمد على المؤسسات في بلد ما: نظامه القانوني، نظامه السياسي، نظامه الاجتماعي، نظامه التعليمي، ثقافته، وما إلى ذلك. من ناحية فعلية، المؤسسات هي التي تحكم أداء الاقتصاد، وهذا ما يعطي “الاقتصاد المؤسساتي الجديد” أهميته بالنسبة للاقتصاديين.
ثمة جانب اقتصادي آخر يوضح أن هناك ضرورةً لعملٍ كهذا، فبصرف النظر عن صياغة النظرية فإن الطريقة التي ننظر بها إلى عمل النظام الاقتصادي ظلت ثابتة بصورة غير عادية عبر الزمن. ينحو الاقتصاديون غالباً بحقيقة أن شارلز داروين قد توصل إلى نظريته في التطور نتيجة لقراءته توماس مالثوس وآدم سميث. ولكن قارن التقدم الذي حصل في حقل علم الأحياء منذ داروين مع ما حصل في الاقتصاد منذ آدم سميث. لقد قفز علم الأحياء خطوات كبيرة وأصبح لدى علماء الأحياء الآن فهم مفصل للتركيب المعقد الذي يحكم أداء الكائنات العضوية. أعتقد أننا سنحقق ذات يوم انتصارات مماثلة في الاقتصاد. ولكن ذلك لن يكون سهلاً. حتى لو بدأنا بالتحليل البسيط نسبياً حول “طبيعة الشركة” فإن اكتشاف العوامل التي تحدد التكاليف النسبية للتنسيق عن طريق الإدارة في الشركة أو التعاملات في السوق لن يكون أمراً سهلاً. بيد أن ذلك ليس كل القصة بأي حال من الأحوال. ليس بوسعنا حصر تحليلنا بما يحدث في شركة واحدة، وهذا ما سبق أن قلته في محاضرة لي نشرت في حياة النوابغ (كوز 1995، ص 245): “تتأثر تكاليف التنسيق ومستوى تكلفة التعاملات في شركة ما بقدرتها على شراء المدخلات من شركات أخرى، وقدرة تلك الشركات على توريد هذه المدخلات تعتمد جزئياً بدورها على تكاليف التنسيق ومستوى تكلفة التعامل لديها وهذه تتأثر على نحو مماثل بما يحدث في شركات أخرى. ما نتعامل به هو بناء متشابك معقد”. أضف إلى ذلك تأثير القوانين والنظام الاجتماعي والثقافة إضافة إلى تأثير التغيرات التكنولوجية مثل الثورة الرقمية وما صاحبها من انهيار دراماتيكي في تكلفة المعلومات (وهي إحدى المكونات الرئيسية لكلفة التعاملات)، فتجد لديك مجموعة معقدة من العلاقات المتشابكة تحتاج لاكتشاف طبيعتها إلى عمل جاد لفترة طويلة من الزمن. بيد أنه عندما يحدث ذلك سيصبح كل الاقتصاد ما نطلق عليه الآن “الاقتصاد المؤسساتي الجديد”.
لن يحدث هذا التغيير، في رأيي، نتيجة لهجوم جبهوي مباشر على اقتصاد التيار السائد، بل ستحدث نتيجة لاعتماد الاقتصاديين في الفروع أو الأقسام الاقتصادية مقاربة مختلفة كما يحدث فعلاً حالياً. عندما يتغير معظم الاقتصاديين فسيعترف اقتصاديو التيار الرئيسي بأهمية فحص النظام الاقتصادي بهذه الطريقة وسيزعمون بأنهم كانوا يعرفون كل ذلك من قبل.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 4 تشرين الأول 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

لوهلة الأولى، بدا هبوط أعوام 2001-2003 في معدلات الفائدة الأمريكية وكأنه قد حرّر السلع: إذ ان النمو في الناتج والعمالة قد تسارع على نحو بطيء، وبقي التضخم ضمن النطاق المريح للمجلس الاحتياطي الفيدرالي، تحت الـ2%. وعلى كل حال، بحلول منتصف عام 2004، أدرك مجلس الاحتياطي الفيدرالي ان نسبة التضخم كانت تزحف إلى الأعلى، بعد ان وصلت إلى القاع عام 2003. وهكذا فقد رفع (أي المجلس) الكلفة المالية قصيرة الأمد، على نحو بطيء ولكنه ثابت. ارتفعت نسبة الاحتياط الفيدرالي مجددا إلى 5%. ليس بالضرورة ان يكون إحكام الضبط قد انتهى. على هذا النحو، على الأقل، قرأ وول ستريت تحذير بن بيرنانكي، مدير مجلس الاحتياطي الفيدرالي في الخامس من حزيران حول الأسعار.
ان الخط المعياري لمجلس الاحتياطي الفيدرالي هو قيامه بالنظر إلى كافة مؤشرات التضخم. بعد قول هذا، لا يخفى على احد ان المقياس المفضل لدى مجلس الاحتياطي الفيدرالي هو القياس الجوهري لنفقات الاستهلاك الشخصي. وقد ارتفع هذا المقياس، الذي يتقصى ما ينفقه الناس بشكل عام (باستثناء الطعام والطاقة)، في العام المنصرم، ارتفع بواقع 2.1% فقط. بينما فاقت هذه النسبة الهدف غير الرسمي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي ذي الـ2%، فهي ما زالت واطئة بما فيه الكفاية بالنسبة للمجلس ليدّعي باحتواء التضخم. وعلى كل حال، فان مقاييس التضخم الأخرى تتحدى ذلك التشخيص الحميد. ارتفعت نفقات الاستهلاك الشخصي التي تتضمن الطعام والطاقة، على سبيل المثال، بـمستوى 3% في العام الماضي. كما ان مؤشر أسعار المستهلك، المستند على سلة ثابتة من البضائع والخدمات (بما فيها الطاقة والطعام)، قد ارتفع إلى 3.6%.
علاوة على ذلك، هنالك أسباب جيدة للاعتقاد بأن مؤشرات أسعار الحكومة، مع المكونات المتقلبة من الطعام والطاقة او بدونها، تعطي إشارات تضخم ضعيفة على نحو مصطنع. على سبيل المثال، ان الازدهار الأخير في أسعار الإسكان لا يظهر مطلقا في مؤشر أسعار المستهلك. ان ما يسمى بـ”الإيجار المكافئ للمالك” يستخدم كبديل لكلفة ملكية المساكن. لم يتماش هذا المقياس مع أسعار المساكن.
إذا ما نظرنا إلى بيانات السوق الحقيقية، مثل تلك التي ينتجها سوق السلع، فان صورة التضخم قد تغيرت بشكل دراماتيكي. في العام الماضي ارتفع سعر الذهب إلى 51% وسعر النفط الخام إلى 35%. أما المؤشرات التي تتضمن أسعار تصفية السوق بالنسبة لنطاق واسع من السلع الزراعية والصناعية قد ارتفع أيضا بشكل كبير. كما ان مؤشر مكتب أبحاث السلع لـثلاثة وعشرين سلعة قد ارتفع إلى 15% مما كان عليه قبل عام. وسواء نظرنا إلى إحصاءات الحكومة، او إلى أسعار السوق، من الواضح جدا ان مجلس الاحتياطي الفيدرالي قد ضغط على دواسة تسريع الائتمان المالي بشكل أكثر شدة ولوقت أطول.
وكما أشرت في عمودي الصحفي في الثامن من أيلول لعام 2003 في مجلة فوربز، فان إحصاءات الحكومة، مثل نفقات الاستهلاك الشخصي ومؤشر أسعار المستهلك، قد تراجعت وراء أسعار السلع. بناءا على ذلك، أتوقع المزيد من الارتفاعات في مقاييس التضخم الحكومية والمزيد من إحكام مجلس الاحتياطي الفيدرالي. إذا كنت لم تتبع نصيحة الاستثمار التي ذكرتها في ذلك العمود، فافعل ذلك الآن: تخلّص من السندات التقليدية واستبدلها بسندات خزينة محصنة ضد التضخم. ضع 10% من محفظتك المالية في السلع، والذهب هو الاختيار المثالي.
ان معدلات الفائدة الواطئة والأرباح الزائدة بشكل مفرط قد أنتجت تشوهات ولاتوازنات أخرى. ان هؤلاء الذين تتلمذوا في نماذج دورة الأعمال التجارية التي طوّرها فريدرك هايك في الثلاثينيات (من القرن العشرين)، يعرفون ان معدلات الفائدة المنخفضة بإفراط تنجم عن فجوة كبيرة بين المدّخرات والاستثمار. لا يرغب الناس في تأجيل الاستهلاك ان كان الرجوع إلى المدّخرات ضئيلا، أما مستخدمو رأس المال فهم ميالون إلى تمويل المشاريع الهامشية عندما تكون كلفة المال منخفضة. ومما لا شك فيه ان إجمالي المدخرات كان 16.7% من الناتج القومي الإجمالي عام 2000. وبحلول عام 2005، تدهورت إلى 13.8% من الناتج القومي الإجمالي. اما إجمالي الاستثمار (أي الاستثمار قبل استخراج استهلاك رأس المال) بوصفه نسبة مئوية من إجمالي الناتج، فبدأ عند 20.7% وانتهى عند 20% خلال هذه الفترة. وبالتالي، فان فجوة المدخرات-الاستثمار قد انتفخت من (-4%) من إجمالي الناتج القومي إلى(-6.25%).
على المستوى القومي، تلك المدخرات ناقصة الاستثمار في الولايات المتحدة يساوي صافي الاستثمار الأمريكي الخارجي. وهذا بدوره يساوي الموازنة في الحساب الجاري الأمريكي، والذي هو الفرق بين صادرات أمريكا ووارداتها بشكل عام. إذا ما فاق الاستثمار المحلي مجموع مدخرات الأمريكيين، كما يفعل الآن، ستكون الواردات اكبر من الصادرات، وسنحصل على رأس مال أجنبي لتمويل الفرق. وبعبارة ابسط، إن عجزنا التجاري المتزايد هو دالة للتفاوت السلبي بين مدخراتنا ومعدلات الاستثمار.
السياسيون، وكما هو متوقع، يلومون الصينيين لعجزنا التجاري. ولمَ لا؟ مَن مِن السياسيين الأمريكيين قد خسر الانتخابات بواسطة لوم الأجانب على مشكلة وقعت في أمريكا؟ توقعوا المزيد من اللكمات الصينية، والمزيد من السياسات التجارية الحمائية، ودولاراً متزايد الوهن.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 7 آب 2006

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

حادث وقع معي خلال زيارة سابقة قمت بها إلى الصين، تركت داخلي أثراً قوياً بالنسبة للفجوة الواسعة من التفاهم التي تفصل الناس المنغمسين في مؤسسات اقتصادية مختلفة. تلك الفجوة تجعل الأهمية بمكان التأكيد، المرّة تلو المرّة، على المبادئ الأساسية التي نعتبرها جميعنا أمراً مسلماً به، بالنسبة للنظام الذي تعودنا عليه. لقد وقع الحادث المشار إليه عندما تناولت أنا وزوجتي طعام الغذاء مع نائب وزير إحدى الدوائر الحكومية، والذي كان على أهبة السفر إلى الولايات المتحدة ليطَّلع على الاقتصاد الأمريكي. أراد مُضيفُنا مساعدتنا له حول من يتوجب الاجتماع بهم.
كان السؤال الأول الذي وجهه في هذا الشأن هو “من في الولايات المتحدة هو المسؤول عن التوزيع المادي؟” لقد أثار هذا السؤال استغرابي واستغراب زوجتي؛ وإنني أشك بأن أي أحد في الولايات المتحدة، مهما كان ساذجاً في شؤون الاقتصاد، يمكن حتى مجرد التفكير بطرح مثل ذلك السؤال. ومع ذلك، فقد كان أمراً طبيعياً جداً لمواطن يعيش في اقتصاد مشترك، أن يسأل مثل هذا السؤال. إنه معتاد على وضع يقرر فيه شخص ما، من يأخذ من مَن ماذا، سواء كان ذلك من يأخذ المواد والأجور مِن مَن.
كان ردّي الأولي أن اقترحت عليه زيارة قاعة بورصة شيكاغو التجارية، حيث تتم التجارة في سلع مثل القمح والقطن والفضة والذهب. أثار هذا الجواب الحيرة لدى مُضيفي، لذا فقد استمررت في التوسع حول حقيقة أنه لا يوجد شخص واحد—أو حتى لجنة من الأشخاص—”تكون مسؤولة عن توزيع المواد.” هنالك دائرة التجارة، وهناك وزارة الداخلية، لهما اهتماماتهما بمواد الإنتاج والتوزيع ولكن من منظور مختلف كلياً. ولكنهما لا تقرران من سيحصل على أية كمية منها. وبالتالي، فقد وجدت نفسي مرغماً على إجابة مُضيفي بتعابير لم يكن من السهل على مضيفي استيعابها. لا حاجة إلى القول بأنني هنا لا أعني توجيه الانتقاد له. في ضوء خلفيته، فإن مما لا يمكن تصوره أنه كان يمكن أن يفهم كيف أن السوق يستطيع توزيع مجموعة مختلفة من السلع، بين ملايين من البشر المختلفين ولآلاف الاستعمالات، وبدون أن تمسها أيادي سياسية.
أعجوبة السوق تكمن على وجه التحديد في حقيقة أنه من خلال الفوضى والصراخ المتبادل بين الناس، والإشارات الغريبة بأيديهم والتضارب على ساحة بورصة السلع التجارية في شيكاغو، فبطريقة أو بأخرى يبدو أن المتجر القابع في الزاوية مليء على الدوام بكميات كافية من الخبز، والمخبز مليء بما يحتاج إليه من طحين، والمطحنة دائماً تحوي ما تحتاج إليه من قمح، وهكذا. هذه هي الأعجوبة التي يحقق السوق بموجبها تنسيق نشاطات ملايين البشر، ويفعل ذلك بطريقة غير شخصية كلياً، من خلال تسعيرة إذا ما تركت وشأنها دون تدخل، فإنها تكون خالية من الفساد والرشاوى، والنفوذ الخاص، أو الحاجة إلى آليات سياسية.
دعني الآن أتحول أكثر مباشرة إلى الموضوع. بمعاني معينة، فإن الإشارة إلى “السوق” يضع البحث على أسس خاطئة. السوق ليس بقرة تحلب؛ مثلما أنه ليس العلاج الشافي لجميع الأمراض. بتعبير لغوي حرفي، فإن السوق هو ببساطة الاجتماع، في مكان وزمان محددين، من أجل عقد صفقات. لا حاجة إلى القول بأن كلمة “الاجتماع” وكلمة “المكان” هما تسميات مجازية؛ إنها لا تعني الاجتماع الفعلي معاً. في الزمن الحالي، هنالك سوق في تبادل العملات يشمل العالم بأسره. الناس يجتمعون بواسطة الستلايت اللاقط، والهواتف وما إلى ذلك. يضاف إلى ذلك، أن الصفقات التي تتم في، أو من خلال السوق، ليست مقتصرة على تلك المتعلقة بالمال أو المشتريات أو المبيعات. العلماء الذين يتعاونون مع بعضهم بعضاً لتقدم حقول تخصصهم، سواءً أكانت الفيزياء أم الكيمياء، أو الاقتصاد أو علم الفلك، هم في الحقيقة والواقع يعقدون صفقات فيما بينهم. سوقهم يتكون من سلسلة متصلة من المجلات والمؤتمرات وما إلى ذلك.
السوق هو الآلية التي يمكن تجنيدها لأغراض عديدة. واعتماداً على طريقة استعمالها، فإنها قد تساهم في التطور الاجتماعي والاقتصادي، أو لجم مثل ذلك التطور. استخدام أو عدم استخدام السوق ليس التمييز المهم. كل مجتمع سواء كان شيوعياً أو اشتراكياً أو ديمقراطياً اشتراكياً أو رأسمالياً نقياً، أو أي نظام آخر، يستخدم السوق. وبدلاً من ذلك، فإن التمييز الأساسي هو وجود الملكية الخاصة أو عدم وجودها. من هم المشتركون في السوق، وبالنيابة عن من يتعاملون؟ هل المتعاملون بيروقراطيون حكوميون يتعاملون بالنيابة عن شيء اسمه الدولة؟ أم أنهم أفراد يتعاملون مباشرة أو بشكل غير مباشر بالنيابة عن أنفسهم؟ ولهذا السبب، وفي بحث سابق قدمته في الصين، فقد دعوت إلى أوسع استخدام ممكن ليس لتعبير السوق ولكن لتعبير “السوق الحر الخاص”. هذه الكلمات “الحر” و”الخاص” هي حتى أكثر أهمية من كلمة “السوق”.
تنشأ مشاكل عديدة محددة عندما يحاول مجتمع استبدال اقتصاد موجه بيد السوق الخفية، والتي سوف أبحث عدداً منها. هذه المشاكل لا تقتصر على المجتمعات التي حاولت استخدام التوجيه كآلية اقتصادية أساسية، كما هو الحال في الصين وروسيا؛ إنها تنشأ كذلك في الاقتصاديات الغربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، والتي أصبح عامل الأمر والتوجيه فيها أكثر اتساعاً بمرور الوقت، والتي تجري فيها محاولات لعكس ذلك التوجه. إزالة العمليات الاقتصادية التي تملكها الحكومات في الغرب، مثل خدمات البريد في الولايات المتحدة، والسكك الحديدية والمنافع الخدماتية في بلدان أخرى، يثير قضايا مماثلة لتلك التي تنشأ، عند عملية استبدال الاقتصاد الموجه والملكية العامة بتعاون طوعي، وملكية خاصة في الصين وروسيا وغيرهما.
التحرير الجزئي مقابل التحرير الكلي
إن إدخال دور أكبر لآلية السوق الخاصة، في قطاع واحد من قطاعات الاقتصاد، قد يصاب بالفشل الجزئي أو الكلي نتيجة الأفق المحدود للتغيير. انظر إلى ما كان يعتبر خطوة رئيسية تجاه استخدام أوسع للسوق، والمتمثل في إنشاء السوق الأوروبية المشتركة، ومحاولة تحقيق تجارة حرة بين بلدان السوق المشتركة. لقد مضى حتى الآن ما يقارب الـ40 عاماً منذ مشروع شومان لإقامة مجموعة الفحم والفولاذ الأوروبية، ومع ذلك فلا أحد ينكر بأن التجارة الحرة داخل بلدان السوق ما زالت مثلاً أعلى أكثر منها حقيقة واقعة. آخر دليل على ذلك هو الاتفاق الأخير لإزالة جميع أشكال العوائق بحلول عام 1992. ولو كانت اتفاقية السوق المشتركة ناجحة منذ البداية، لكانت قد تحققت حرية التجارة قبل سنوات عديدة مضت.
ماذا كانت المشكلة؟ لماذا لا توجد ولايات متحدة أوروبية حقيقية في أوروبا؟ في رأيي، فإن الجواب هو أن إزالة القيود حتى من حيث المبدأ، قد أقر فقط للبضائع والخدمات، ولكن ليس لحرية تنقل المال. قد احتفظت البلدان المختلفة بسلطات كاملة على عملاتها الوطنية. وأكثر أهمية، فقد رفضت تلك الدول تطبيق نظام يضمن تعويم تبادل العملات بحرّية—أي التبادل الحر لعملة واحدة مع عملة أخرى بأي سعر تبادل يكون قد تم الاتفاق عليه طوعاً في أسواق خاصة حرة. إن رفض ترك السوق الخاص تقرير معدلات تبادل النقد بين البلدان المختلفة شكَّل ضعفاً مميتاً.
حالياً، تواجه الصين تحديداً مشكلة مماثلة. إن الهدف من بحثي لهذا الموضوع هنا ليس الترويج لنظام تبادل حر للعملات، ولكن إعطاء مثل صارخ يرينا كيف أن اقتصار نزع التوجيه أو التخصيص على منطقة واحدة، وعدم توسيعه بحيث يشمل مناطق متصلة بها عن قرب، من شأنه أن يفسد الهدف الأساسي.
مثل ثانٍ يأتي من الولايات المتحدة. فمع أن شركات الطيران هي شكلاً خاصة، فقد تم إخضاعها إلى رقابة حكومية واسعة، بالنسبة للأسعار التي يمكن فرضها، والأسواق التي تستطيع خدمتها. لقد أدى رفع الرقابة عن شركات الطيران عام 1978 إلى زيادة كبيرة جداً في التنافس، وتخفيض واسع وشامل للأسعار، وزيادة في آفاق الخدمات، وبالتالي توسع رئيسي في حجم التنقل الجوي. ولكن، وبينما تم تحرير شركات الطيران أو كما أُفضِّل أن أسميه تخصيص شركات الطيران، فإن المطارات ظلت على حالها. لقد ظلت المطارات مملوكة للحكومة وتدار من قبلها. لم يجد القطاع الخاص صعوبة في إنتاج جميع الطائرات التي ترى شركات الطيران أنها تستطيع تشغيلها بربحية. ولم تجد شركات الطيران الخاصة صعوبة في إيجاد الطيارين لقيادتها والمضيفين والمضيفات لخدمتها. ومن الناحية الأخرى، فإن الطائرات الملأى بالركاب كثيراً ما تواجه تأخيراً في خدمات المطارات لها بسبب عدم كفاءة التجهيزات والآليات التي تستخدم في عمليات هبوطها وطيرانها. بطبيعة الحال، تجيب الحكومة واضعة اللوم على شركات الطيران الخاصة؛ فقد بدأت تطلب من شركات الطيران تقديم تقارير عن أسباب تأخرها في الوصول بالمواعيد المقررة، ونشر تقارير موجزة حول تقيّد شركات الطيران المختلفة بمواعيد الوصول. لقد تم تقديم مقترحات عدة، حتى في ظل احتفاظ الحكومة بملكية وإدارة المطارات، على الأقل فيما يتعلق بحقوق إدارة البوابات، من حيث عدد البوابات وعدد مرات استخدامها، وأن يتم ذلك عن طريق المناقصة. ولكن لسوء الحظ، فإن معارضة شركات الطيران التي تملك مصالح خاصة في البوابات وأوقات استعمالاتها بتفويض من الحكومة، قد حال دون الأخذ حتى بأقل إجراءات الإصلاح. بطبيعة الحال، الحل الأفضل كثيراً، هو خصخصة المطارات.
مثل ثالث يتمثل في تخاصية بعض نواحي التصنيع، في وقت يتم فيه الإبقاء على الإنتاج أو على تسعيرة المواد الخام، تحت إشراف الحكومة. دعني أذكر بعض الأمثلة الواضحة بالنسبة للصين. إدخال درجة عالية من التخاصية في قطاع الزراعة قد أدى إلى زيادة كبيرة في الإنتاج الزراعي والإنتاجية—وهو أحد أكثر المظاهر الدراماتيكية في نجاح الصين، في توسيع استخدامات السوق الحرة الخاصة. ولكن من الواضح بأن النجاح ذاته قد خلق مشكلة حقيقية. الغالبية العظمى من الشعب الصيني تعمل في الزراعة. وحتى تحقيق تقدم قليل نسبياً في الإنتاجية الزراعية يعني بوضوح الاستغناء عن عمال زراعيين لم يعد مجدياً تشغيلهم. إن من مصلحة الصين استخدام هذه العمالة في ميادين أكثر إنتاجية، مثل الصناعة. ومع ذلك، فإن الجزء الأكبر من قطاع الصناعة، مازال تابعاً للاقتصاد الموجّه؛ إن هذا القطاع لم يخضع للخصخصة أو التحرير، أو الخضوع كليّةً لعوامل السوق.
لقد بذلت جهود حقيقية لتغيير الطريقة التي تدير فيها الحكومة الفعاليات التابعة لها. فقد أُبلغ المسؤولون في تلك الفعاليات باستخدام آليات السوق، كما بذلت جهود لإعطائهم الحوافز لعمل ذلك. ولكن، وما دام أن البيروقراطيين هم الذين يديرون الصناعات التابعة للدولة، فإن قدرتهم على الاستجابة بفعالية لضغوطات السوق سوف تظل محدودة بشكل حاد. بالنسبة للصين، فإن أكثر القيود خطورة هي قدرتهم على التصرف بمرونة، واستعدادهم أو قدرتهم على المغامرة للقيام بمشاريع تنطوي على المغامرة والتي تحمل في طياتها مخاطر الفشل، ولكن بعض النجاح الحقيقي والباهر، وإن يكن قليلاً. مرة أخرى، إن القضية ذات طابع عالمي. فكل دراسة أجريت في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة تظهر بأن المشاريع الصغيرة—وليست الشركات الضخمة التي هي ملء الأسماع هي وراء خلق معظم فرص العمل. في الصين، مجالات مثل هذه المشاريع الخاصة الصغيرة لهي قليلة جداً.
إن خصخصة أوسع كثيراً للنشاط الاقتصادي من شأنها تخفيض صعوبات استيعاب العمال الذين يستغني القطاع الزراعي عنهم. عندها، سوف تنشأ مشاريع خاصة في جميع الأماكن لامتصاص القوة العاملة.
مثل آخر للصين هو شبيه للمشكلة التي ذكرتها بالنسبة للسوق الأوروبية المشتركة؛ الفرق بين آفاق الحرية في إنتاج وتوزيع البضائع والخدمات، وبين إنتاج وتوزيع عملة النقد. التحرير الواسع الذي تم في أسعار العديد من السلع، وبالأخص السلع الزراعية وما شابهها، لم تصاحبه خصخصة النظام البنكي. وكما فهمت، فإن حكومة الصين تقرر بشكل غير مباشر ماذا يحدث لحجم العملة المتداولة، عن طريق المنح التي تعطيها للمشاريع الحكومية. النتيجة تشمل زيادة سريعة في كمية النقد المتداول، وليس—وهذا ما يدعو إلى الدهشة—ضغطاً متصاعداً على الأسعار، الأمر الذي أدَّى إلى تضخم علني ومُقنَّع، أخذ يُطل بوجهه القبيح.
متى يجب أن يأتي الإصلاح تدريجياً، ومتى يكون التغيير الراديكالي والفوري أمراً مناسباً؟ أحد البدائل يتبدى في قصة الأرنب والسلحفاة، عندما وصلت السلحفاة بمشيتها “البطيئة ولكن الثابتة” إلى خط النهاية، سابقة الأرنب الأسرع منها كثيراً، ولكنه كان الأقل استمرارية وثباتاً. المثل الثاني يتجسد في المقولة بأنه ليس من الفطنة قطع ذنب الكلب بالبوصات. وهنا تكمن إحدى أصعب المشاكل التي تُواجه نتيجة لتوسيع مجالات السوق. دعوني أُبين ذلك بالنسبة للتجارة الخارجية. لنفترض بأن بلداً كان يفرض مستويات مرتفعة من التعرفة الجمركية، يقرر الانتقال إلى وضع التجارة الحرّة. إن محاسن التحرر التدريجي واضحة. لقد استثمر رأس المال بطرق لم يعد من الممكن معها أن يمثل استخداماً فعالاً للثروة المتاحة ضمن الظروف الجديدة. معظم رأس المال آنذاك يكون في شكل آليات، ومباني، ومهارات إنسانية وما شابه ذلك. أليس واضحاً في مثل تلك الحالة أن يكون من الأجدى والأعدل تخفيض التعرفة تدريجياً؟ ذلك يعطي أرباب الثروات المتخصصة فرصة سحب رأسمالهم تدريجياً، وبالتالي تخفيض النفقات التي فرضها عليهم التغيير.
إن الدعوة إلى إزالة التعرفة بجرة قلم، أي بما يشبه المعالجة بالصدمة، هي أكثر دقة وتعقيداً، ومع ذلك، ومن منظور الكفاءة الاقتصادية، فإنها أكثر إقناعاً. فإلى المدى الذي تكون فيه الكفاءة الاقتصادية أعلى في استثمار الموارد في غياب التعرفة، يجب أن يتم ذلك، وإذا كان بالإمكان الحصول على أي مردود فوق الكلفة الهامشية، عن طريق مواصلة استخدام الموارد الإنسانية وغيرها، فإن من الأفضل الحصول على ذلك الهامش بدلاً من لا شيء. سوف يقع العبء على أرباب الموارد المتخصصة في الحال، ولكن استثماراً سلبياً سوف يتبع ذلك فقط، بالسرعة التي يتم بموجبها استخدام العمالة المتخصصة والموارد الأخرى، في مشاريع أخرى أكثر إنتاجية وجدوى. من الناحية الأخرى، فإن التخفيض التدريجي للتعرفة يتيح ربحاً فردياً نتيجة مواصلة استخدام الموارد الخاصة على مستوى أعلى، ولكن على حساب الكفاءة الاجتماعية، وبالتالي فرض كلف لا ضرورة لها على المجتمع.
إن إنهاء تضخم مستمر يخلق مشاكل مماثلة، وإنهاؤه بضربة واحدة، إذا لم يكن قد استشعر به قبل زمن طويل من ذلك، قد يتسبب في خسائر رأسمالية واسعة النطاق. وعقود طويلة الأجل كان قد تمّ التعاقد حولها بتوقعات معيّنة بالنسبة للتضخم قد تصبح فجأة غير مناسبة. فالدعوة من منظور العدالة لفترة انتقال تدريجية أقوى كثيراً بالنسبة لدرجة معتدلة من التضخم منها بالنسبة إلى التعرفة. إن النتائج المترتبة على كل من التضخم المسبق ونهايته غير المتوقعة، هي أكثر شمولاً، وتؤثر على أعداد أكبر من الناس الذين يكونون قد تضرروا أولاً من التضخم المسبق، ويتضررون مرة أخرى من إنهاء ذلك التضخم. إن تخفيض التضخم تدريجياً يسهل الفترة الانتقالية، كما يقلل من أكلاف تحقيق نموٍ حقيقي بمعزل عن التضخم.
ومع ذلك، فإن الكثير يتوقف على نسبة ارتفاع التضخم. فإذا كان التضخم عالياً جداً—على ارتفاع سنوي من ثلاث خانات—فإن الوضع يكون صعباً جداً. يكون جميع المشاركين في السوق قد عدَّلوا من ترتيباتهم بحيث يكونوا قد أخذوا كل التغييرات بالحسبان. إن زوال التضخم المفاجئ سوف يفرض كلفاً قليلة، لأن المؤسسات المالية وغيرها، تكون قد تأقلمت مع تغييرات حادة في نسبة التضخم—وبالحقيقة، فإن مثل هذا التأقلم يُمثل ثمناً رئيسياً نتيجة التضخم العالي والمتغيّر. والإزالة التدريجية في بعض الأحيان ليست مجدية، بسبب عدم توافر وقت كاف—يكون الكلب قد مات قبل أن يكون ذيله الطويل قد قُطِع بضع بوصات.
إن الرقابة المباشرة على الأسعار—سواءً كانت عامة أو محددة، أي على الإيجارات أو أسعار تبادل العملات—يجب أن يتم وضع حد لها في الحال. مارجريت ثاتشر وضعت حداً تاماً للرقابة على تبادل العملات وفي الحال. التأقلم التدريجي من شأنه فقط أن يطيل الضرر الذي تنزله الرقابة، ويعطي أرباحاً لا مبرر لها لمن يتعاملون فيها “من الداخل.” النقص في الإمدادات، والصفوف الطويلة وغيرهما من التشوهات التي تتأتى عن محاولات إبقاء الأسعار دون مستوى سعرها السوقي، سوف تستمر، مع أنها سوف تنخفض، وتنشأ مكانها مشاكل إضافية، ذلك لأن التدرج يُشجع على المضاربة ويشجع الخصوم على السعي لإعادة الوضع إلى ما كان عليه. حالة مماثلة تنطبق على محاولات الإبقاء على الأسعار حول معدلات أسعار السوق، كما يتبين بوضوح من السياسات الزراعية للولايات المتحدة واليابان والسوق الأوروبية المشتركة.
التغلب على المعيقات السياسية
لقد أقحَمَ هذا الموضوع نفسه بشكل حتمي في الأقسام السابقة. المشاكل العامة هنا هي حول كيفية تجاوز العقبات السياسية التي تقف في وجه توسيع السوق. إن الخطر ليس فقط أن تلك المعيقات من شأنها أن تُحبط السعي لتحرير السوق، ولكن، وبدرجة متساوية، أن يؤدي السعي للتغلب على الحواجز السياسية على تدمير فوائد تحرير السوق. التحدي هو في إيجاد وسائل للتغلب على تلك المعيقات دون خلق تلك الآثار الضارة. وتجارب الغرب في حقل الخصخصة يلقي ضوءً خاصاً على هذا الموضوع.
ربما تشكل التجربة البريطانية في الخصخصة أغنى مجموعات التجارب، وأكثرها تحليلاً، وإنني أوصي أصدقاءنا الصينيين الذين يسعون إلى توسيع السوق بدراسة العِبر المستفادة من تجربة الخصخصة البريطانية.
مثل بسيط من الولايات المتحدة يدلل على الموضوع هو خصخصة مصلحة البريد. إن خدمة البريد في أمريكا تملك احتكاراً في بريد الدرجة الأولى بسبب قوانين الإكسبرس الخاصة التي تحرم على الأفراد تحت طائلة التجريم تقديم خدمات نقل بريد الدرجة الأولى. ومحاولات عديدة جرت لممارسة ذلك ولكنها انتهت إلى المحاكم التي وضعت حداً لها. لقد أخذت الخصخصة في الزحف في تقديم خدمات على الهامش، أولاً في شكل خدمات نقل الطرود. لقد نجحت شركة (يونايتد بارسل سيرفس)، وغيرها من شركات نقل الطرود الأخرى، في أخذ معظم خدمات النقل التي كانت تتولاها مصلحة البريد سابقاً. يضاف إلى ذلك، خدمات المراسلين الفرديين وأكثرها شهرة (الفيديرال إكسبرس)، والتي كان نجاحها عظيماً لدرجة أن شركات عديدة أخرى دخلت إلى الميدان. التطورات التي كانت سوف تشجعها التقدمات التكنولوجية، بغض النظر عن وسيلة إبداء الخدمة، قد نمت بسرعة. والأمثلة على ذلك البريد الإلكتروني عبر الكومبيوتر والهاتف والفاكس، ومرة أخرى عن طريق الهاتف. هذه الأمثلة تُبين قوة الابتكار التي تملكها الأسواق الخاصة في الاستفادة من الفرص التي تتاح أمامها نتيجة عجز المؤسسات الحكومية.
لقد بُذلت محاولات متكررة سعياً وراء إلغاء قوانين الإكسبرس الخاص، بحيث تتمكن الشركات الخاصة من الدخول منافسة للخدمة البريدية الحكومية. ولكن جميع تلك المحاولات كانت تصطدم باحتجاجات عنيفة من قبل اتحادات موظفي البريد، ومن مديري خدمات البريد التنفيذيين، ومن المجتمعات الريفية التي تعتقد بأنها ستُحرم من الخدمات البريدية. ومن الناحية الأخرى، قليلون هم من يملكون اهتماماً قوياً ومركّزاً، يدفع بهم إلى تأييد إلغاء قوانين الإكسبرس التي تحمي الخدمة البريدية الحكومية. رجال الأعمال الذين يرغبون في دخول هذا الميدان، إذا كان متاحاً للقطاع الخاص، لا يعرفون مسبقاً بأنهم يستطيعون أن يفعلوا ذلك. مئات الآلاف من الناس، والذين سوف يحصلون على عمل دون شك، في حالة قيام خدمات بريدية خاصة، ليس لديهم أقل فكرة بأنهم سوف يحصلون على ذلك.
إحدى الطرق للتغلب على معارضة الخصخصة، وقد استخدمت على نطاق واسع في بريطانيا، وكما وصفها روبرت بوول، هي تحديد المعارضين المحتملين وإدخالهم في الصفقة، عن طريق تملك أسهم فيها. التطبيقات العملية لهذا المبدأ هي: (1) تملك الأسهم من قبل المستخدمين، و(2) الرأسمالية العامة.
إن فرصة تملك أسهم في المشروع من شأنها إحداث تغيير دراماتيكي على نظرة موظفي الخدمة العامة المنتظمين في نقابات، كما تبين في موضوع شركة الاتصالات البريطانية، فقد شجب موظفوا النقابات الخصخصة المقترحة للشركة، طالبين من أعضاء النقابات عدم شراء الأسهم المعروضة للبيع. ولكن في نهاية الأمر، وعندما شعروا بفرصة الربح المالي، ابتاع حوالي 96% من القوة العاملة أسهم الشركة.
ويستخدم بوول تجربة شركة الاتصالات البريطانية للتدليل على الآلية الثانية ألا وهي: الرأسمالية العامة.
لتشجيع عملاء الخدمات الهاتفية على شراء أسهم، قدمت لهم سندات تمنحهم فيها خصماً على فواتير هواتفهم، إذا ما احتفظوا بأسهمهم لمدة لا تقل عن ستة أشهر. ولكي يمنعوا المؤسسات والشركات الكبرى من ابتياع حصة الأسد، فقد حدد شراء الأسهم بـ800 سهم لكل راغب في الشراء.
أحد المطبات التي يتوجب الابتعاد عنها في السير بهذا الأسلوب هو تزيين الصفقة عن طريق تحويلها من احتكار حكومي إلى احتكار خاص—والذي قد يُشكل تقدماً ولكنه يقل كثيراً عن النتيجة المرجوّة. إن تجربة خدمة البريد الحكومية الأمريكية تُبيّن المطلب، وكذلك زيف محاولة تقليد الخصخصة وتوقع أن يؤدي ذلك إلى جوهرها. فقد أنشئت كشركة حكومية ذات استقلال، وغير خاضعة للنفوذ السياسي المباشر، وبحيث تعمل على قواعد عمليات السوق. ولم تكن النتيجة على ذلك النحو، ولأسباب مفهومة. لقد بقيت احتكاراً، ولكنها لم تطور اهتماماً خاصاً قوياً لرفع كفاءة أدائها.
إن أفضل شكل بالنسبة لي للخصخصة هو ليس في بيع الأسهم على الإطلاق ولكن، في إعطاء المؤسسات التي تملكها الحكومة للمواطنين. إنني أسأل المعارضين، من يملك الشركات الحكومية؟ الجواب المعتاد هو: “الجمهور.” حسناً إذن، لماذا لا نجعل ذلك حقيقة بدلاً من تركها شعاراً براقاً؟ أقم شركة خاصة وأعطي لكل مواطن سهماً أو مائة سهم فيها. اتركهم أحراراً في شراء أو بيع تلك الأسهم. وفي زمن قصير سوف تصبح تلك الأسهم في أيدي رجال الأعمال، إما أن يبقوا على الشركة كما هي، ولنفترض أنها الخدمة البريدية، إذا كان ذلك أربح وأجدى، أو يقسمونها إلى عدد من الكيانات إذا بدا ذلك هو الأربح.
مثال أخير يُبين وجهة النظر هذه بشكل آخر. لقد سمح الروس بقطع أراضٍ صغيرة في مجال الزراعة. وتقدر تلك القطع الخاصة بحوالي 3% من أراضي الاتحاد السوفييتي القابلة للزراعة؛ وثلث مجموع الإنتاج الزراعي الذي يباع في الاتحاد السوفييتي يأتي من هذه القطع الصغيرة الخاصة. لقد اخترت كلماتي بعناية، إنني لم أقل بأن ثلث الإنتاج جاء من تلك المزارع الصغيرة، لأنني أكون مخطئاً لو قلت ذلك. إن نسبة كبيرة من الإنتاج الآتي من المزارع الصغيرة هو حقاً من إنتاجها. ولكن يساورني شك قوي بأن قسماً كبيراً منه أيضاً قد تم تحويله من المزارع الجماعية.
على امتداد عقود، كان واضحاً لحكام الاتحاد السوفييتي بأن في مقدورهم زيادة الإنتاج الزراعي زيادة كبيرة، عن طريق زيادة حجم ودور المزارع الخاصة. لماذا لم يفعلوا ذلك؟ لم يكن ذلك بكل تأكيد بسبب الجهل. الجواب بوضوح هو أن الخصخصة سوف تؤدي إلى إقامة مراكز سلطة مستقلة، والتي بدورها سوف تنقص من سلطات البيروقراطية السياسية. لقد اعتبر الحكام الثمن السياسي الذي يتوجب عليهم دفعه، أعلى من الفائدة الاقتصادية التي سوف يجنونها. في هذه اللحظة، وتحت تأثير مثل هذه السياسة في الصين، كما أشك، فإن الرئيس غورباتشوف يتحدث عن توسيع كبير للمزارع الخاصة. وليس واضحاً أبداً إن كان سينجح في ذلك.
إستبداد الوضع القائم
إن قضايا التغلب على المصالح الذاتية الكامنة، وتفويت مساعي الإيجار، تنطبق تقريباً على جميع محاولات إحداث تغييرات في السياسات الحكومية، سواء أكان التغيير متصلاً بالخصخصة، أو إزالة قواعد عسكرية، أو تخفيض المعونات، أو أي شيء آخر. إن النتيجة المتمثلة في استبداد الوضع القائم، كما عنوَنتُ أنا وزوجتي كتاباً وضعناه مؤخراً، والذي يبحث أمثلة واسعة لمثل تلك الحالات في الولايات المتحدة، هو السبب الرئيسي الذي يجعل الآليات السياسية اقل فعالية كثيراً من آليات السوق الحر، في تشجيع التغييرات الديناميكية، وفي تحقيق النمو والرخاء الاقتصادي.
هنالك حِكَمٌ بسيطة للتغلب على استبداد الأوضاع القائمة. ولكن هنالك حكمة واحدة تنطبق أكثر من غيرها، على البحث الذي أجريناه سابقاً بشأن التغيير التدريجي مقابل التغيير المفاجئ. إذا كان الهدف خصخصة فعالية حكومية أو إلغاءها، فليتم ذلك بشكل كامل ودون تردد. لا تلجأ إلى الحل الوسط بتأميم جزئي، أو تخفيض جزئي. إن مثل ذلك سوف يترك المجال لمجموعة من المعارضين المصممين، للعمل بإصرار، وكثيراً ما يكون بنجاح، لإلغاء التغيير. لقد حاولت إدارة ريغان مراراً خصخصة أمتراك (خدمة السكك الحديدة للركاب)، وأن تلغي شركة الخدمات القانونية. وفي كل حالة، تمت تسوية الأمر بتخفيض في الموازنة وتحقيق نصر مرحلي مؤقت. ومن الناحية الأخرى، فإن الإلغاء التام لمجلس إدارة الطيران المدني يعطي أملاً أكبر كثيراً بأن تحرير النقل الجوي وشركات الطيران هو هنا ليبقى.
وفي الختام، هنالك وسائل أفضل، أو أسوأ، لخصخصة اقتصاد موجه؛ ولكن لا توجد صيغة سحرية للانتقال بسهولة ودون ألم من اقتصاد موجه إلى اقتصاد طوعي قائم على التبادل التجاري. ومع ذلك، فإن المكاسب المتوقعة كبيرة إلى حد أنه إذا كان بالإمكان تحقيق التحول، فإن الكلفة المرحلية سوف تكون باهتة بالنسبة للمكاسب. إن زعماء الصين الحاليين يستحقون الإشادة لإدراكهم بأن المكاسب المتوقعة تُقزِّم التكلفة المرحلية، ولأنهم يبذلون جهوداً جدّية حثيثة لإنجاز المرحلة الانتقالية. الشعب الصيني سيكون الكاسب الأكبر، ولكنه ليس الوحيد أبداً الذي سوف يستفيد من نجاح هذه الجهود. فجميع شعوب العالم سوف تستفيد من ذلك.
إن السلام والرخاء العميم المشترك هما الجائزة العليا للتعاون الطوعي على امتداد العالم، كوسيلة رئيسية لتنظيم النشاط الاقتصادي.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 28 حزيران 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

إن جوهر فكر لودفيغ فون ميزس هو نظرية الفعل البشري أو الممارسة العملية، وهو العلم العام الذي يسعى إلى بلورته. ويضم هذا العلم العام—وملتصقاً به—الحوافز، أو علم التبادل (ميزس [1949] 1996: 1-3، ويعرف فيما بعد بحرف “م”). ونتيجة لذلك، فإن كل ما نسعى إلى دراسته في موضوع الاقتصاد بالنسبة لميزس ينبثق في نهاية الأمر من الخيار الفردي، ومفتاحه الاقتصاد الذاتاني أو المذهب الذاتي، الذي انبثق عن ثورة منجر، وجيفونز، وولراس، في عقد السبعينات من القرن التاسع عشر. وهكذا، فإن “الاختيار هو الذي يقرر جميع القرارات الإنسانية. وفي عملية اختياره تلك، فإن الإنسان يختار، ليس فقط الأشياء المادية المختلفة والخدمات. جميع القيم الإنسانية هي متاحة للاختيار. جميع الأهداف، وجميع الوسائل قائمة في اصطفاف واحد، وخاضعة لقرار يختار بموجبه شيئاً مُعيّناً ويطرح شيئاً آخر.” (م: 3). يضاف إلى ذلك “أن الفعل البشري هو بالضرورة، عقلانياً دائماً” (م: 19). بالنسبة لميزس، فإن ما تقدم هو حقيقة وليس نظرية خاضعة للتجربة لتقرير ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة، ذلك بسبب أن الممارسة العملية هي محايدة فيما يتعلق بأية أحكام قِيَمِيّة بالنسبة للمعطيات المتوفرة عنها—إنها الهدف النهائي الذي يتم اختياره في الفعل الإنساني. وبالتالي، ليست هنالك أسس موضوعية للتأكيد بأنه يمكن لأية اختيارات ما بأن تكون لا عقلانية.
المعطيات الخارجية (سواء كانت حول الثمن أو الفائدة المرجُوَّة) لا تُشكل مشكلة من حيث المبدأ بالنسبة لميزس، لأنه رأى بوضوح، مثلما رأى كوز، بأنها تنطوي على ترسيم أو تحديد لحقوق الملكية—قضية مِلكٍ لا يملكه أي إنسان أو موارد متاحة لعامة الناس دون مقابل. القضية هي اعتبار أشخاص مسؤولين عن تحمل أثمان الفعل البشري الذي يتحمله الآخرون. ميزس يرى أن مبدأ استحقاقية المسؤولية هو مبدأ مقبول على نطاق واسع؛ وأية ثغرات مفترضة هي ناشئة عن “ثغرات متبقية في النظام” (م: 658). وأخيراً، وفي هذا العرض الموجز، هنالك الآراء القوية المعروفة لميزس ضد التدخل: “لا تكاد توجد أية حالات من التدخل الحكومي في السوق، والتي كما تُرى من وجهة نظر المواطنين المعنيين، لا يمكن إلا أن تُعدل بحيث تعتبر إما مصادر أو هدية. لا يوجد هنالك أي شيء يمكن اعتباره وسيلة عادلة ومنصفة، نتيجة ممارسة السلطة الهائلة للتدخل، التي توضع في أيدي الهيئات التشريعية أو التنفيذية” (م: 734). كما أننا نرى حتى مقدمات السعي للحصول على الإيجارات والخيار العام، في معرض تلخيصه للبحث حول الفساد، كنتيجة حتمية وصفها بأنها “نتيجة لازمة للتدخل” (م: 736). لذا، فإن نظرية الاختيار هي أوسع كثيراً من “الجانب الاقتصادي” للجهد الإنساني—إنها رئيسية لجميع الأفعال البشرية.
قرأت ميزس لأول مرة عندما كنت طالباً في السنة الأخيرة لمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، متخرجاً في هندسة الكهرباء. كان ذلك أحد الأسباب العدة وراء انتقالي في آخر الأمر، إلى دراسة الاقتصاد. قراءة ميزس بعد خمسين عاماً، جعلتني أشعر بمدى أثر وصحة وحيوية كتاب الفعل البشري بالنسبة للوضع الاقتصادي في نهاية الألفية الثانية. لقد أثبت جدواه لأن كثيراً من عناصره الرئيسية—حقوق الملكية، أنظمة المسؤولية القانونية، فعالية الأسواق، عبثية التدخل، وأولوية الفرد—قد أصبحت عناصر مهمة في تحليل الاقتصاد الجزئي، سواء نظرياً أو كسياسات عامة. يضاف إلى ذلك أن تلك العناصر والمعطيات قد أصبحت مهمة بسبب ميزس وهايك وغيرهم من الأتباع (كوز، ألكيان، نورث، بيوكانن، توللوك، ستيجلر، وفيكري، من بين آخرين كثيرين)، وليس نتيجة للنظريات الاقتصادية السائدة. هنالك الكثير من آراء ميزس بحاجة إلى التحديث، بسب الأشياء التي نعتقد بأننا أصبحنا نعرفها الآن، والتي لم نكن نعرفها قبل 50 عاماً.
بيد أن رسالة ميزس الأساسية حول كيفية عمل الاقتصاد هي الآن صحيحة كما كانت صحيحة قبل 50 عاماً. إن الذي تغيّر بقفزات واسعة هي أساليب دراسة طبيعة اتخاذ القرار الإنساني. في هذا البحث الموجز، سوف أختار عدداً من العناصر في فكر ميزس للتدليل على ذلك التغيير. وسوف أضيف إلى ذلك البحث بعض التعليقات على فكر هايك، ذلك أن هذه السنة تصادف الذكرى المائة لمولده. لذا هنالك الكثير مما يمكن مشاركة النمساويين الاحتفال به.
حول الفعل البشري والتجارب المختبرية
أفكار ميزس حول الأساليب التجريبية تعكس النظرة المنهجية التي كانت سائدة في هذا الميدان قبل 50 عاماً—أي أن علم الاقتصاد هو بالضرورة علم غير تجريبي:
“هنالك عدد من علماء الطبيعة والفيزيائيين الذين ينحون باللائمة على الاقتصاد، بسبب أنه ليس علماً من علوم الطبيعة ولأنه لا يستخدم أساليب ووسائل المختبر… بيد أن الخبرة التي تُعزى إليها جميع نجاحات علوم الطبيعة هي خبرة التجربة التي يمكن فيها ملاحظة عناصر التغيير الفردية بمعزل عن غيرها… الخبرة التي يترتب على علوم الفعل الإنساني التعامل معها هي دوماً تجربة معطيات معقدة. لا يمكن إجراء تجارب مختبرية بالنسبة للفعل الإنساني. نحن لا نكون أبداً في موقع يمكّننا من ملاحظة التغيير الذي يطرأ بالنسبة لعنصر واحد فقط، مع بقاء جميع شروط الحدث دون تغيير” (م: 7-8، 31).
إن وجهة نظري حول سبب الاعتقاد بأن علم الاقتصاد ليس علماً قابلاً للخضوع للتجربة هو بكل بساطة لأن لا أحد حاول أو اهتمّ بذلك. رأي ميزس كان مقبولاً عالمياً في حينه، وهو ما يزال يشار إليه. وهكذا، فقد لُفت نظر تشارلز هولت، وهو عالم تجريبي بارز من قبل مستشاره، بأن “الاقتصاد التجريبي كان طريقاً مسدوداً في عقد الستينات، وأنه سوف يكون كذلك في عقد الثمانينات” (كيجل وروث 1995: 428، 2). ما هو غير واضح هو السؤال التالي: لماذا استمر ما اعتبر طريقاً مسدودة في عقد الستينات طريقاً مسدودة في عقد الثمانينات أيضاً؟ إنني أتطلع في الأشهر القليلة الباقية من عام 1999 إلى أن يكون عقد التسعينات طريقاً مسدودة كذلك.
هذا يذكرني بملاحظة بول سامويلسن بأن العلم يتقدم جنازة إثر جنازة. وفي الحقيقة، فقد صادف العام الماضي الذكرى الخمسين (وإن لم يُؤبه بها) لأول دراسة صدرت حول تجارب السوق في الاقتصاد (تشيمبرلن 1948). ما ظن تشيمبرلن أنه أظهره هو أن نظرية السوق التنافسية غير قابلة للتطبيق (على الرغم من أن التجارب التي أُجريت في صفوفه كان يُراد بها التمهيد لإثبات نظريته فيما يتعلق بالتنافس الاحتكاري، وأن تجاربه لم تظهر بأن الأسواق تفشل في تحقيق مكاسب كبيرة من التبادل التجاري).
إن نقدي وتعديلي لتجربة تشيمبرلن، بما في ذلك شمول مكاسب مالية، وتغيير في التركيز حول دور المؤسسات (أنظمة لسوق مُعَّين) هو أمر معترف به، ليس هنالك شيء عجيب أو غير عادي حول النتائج التي توصل إليها تشيمبرلن. الاقتصاد التجريبي يؤيد تأييداً قوياً ليس فقط نظرية ميزس بالنسبة لأسعار السوق، ولكن كذلك نظرية التوازن في ظروف غير متغيرة، وحتى في ظروف متغيرة تغيُّراً ديناميكياً. نظرية التوازن بمجموعها، كانت في نظر ميزس “معطيات خيالية” (م: 250-51). وكانت هذه هي الحقيقة، مثلما كانت كثير من أفكار ومساهمات ميزس. هكذا هي طبيعة النظريات، وقد وُضعَت جميعها دون أن يتوقع أحدٌ بأنها سوف تخضع للتجربة. ما فعلته تجارب السوق بالنسبة لي هي إحياء “هذا البناء النظري الخيالي.” وأمام عيّني رأيت الناس الذين لديهم المعلومات الخاصة، والذين لم يكونوا يملكون علماً مسبقاً بالنتائج التي كانوا يحققونها، يحققون أقصى درجات الربح من عمليات التبادل ونتائج التوازن المتأتي عن ذلك. يوجد الآن مئات عدة، بل آلاف من التجارب التي تدلل على قوة الأسواق—وبالأخص عندما تُجَّمَعُ وتُنظمُ في إطار مؤسسات المزاد المضاعف الواسع الانتشار في جميع الأسواق المالية وأسواق السلع؛ إنها تعطي نتائج قوية ليس فقط بالنسبة للعمليات التنافسية، بل كذلك في العروض البريدية والمناقصات ذات السعر الواحد في عمليات التصفيات السوقية (أنظر كيجل وروث 1995، ديفيس وهولت 1993، سميث 1991). هذه النتائج، والتي أعيد تكرارها من قبل العديد من الدارسين هي جليّةٌ بالنسبة للمواضيع المجمعة المطروحة: طلبة البكالوريوس الجامعيون، طلبة الدراسات العليا، تلامذة وأساتذة المدارس الثانوية، رجال الأعمال والمنظمات النسائية. ومن ثمَّ، في منتصف الثمانينات، أجرينا تجربة، مستخدمين في ذلك الموظفين الإداريين لوزارة الطاقة، أوضحت أن المشرفين الحكوميين على تطبيق الأنظمة، يستطيعون بسهولة طبيعية مماثلة خلق سوق.
إن ما نتعلمه من مثل تلك التجارب هو أن أية جماعة من الناس تستطيع الدخول إلى غرفة، وتكون مُحفزةً ببيئة اقتصادية خاصة ومحددة الأهداف، وتكون أنظمة المشاركة في المزاد المضاعف قد شُرحت لها لفظياً للمرة الأولى، تستطيع أن تخلق سوقاً يتحول عادة إلى توازن تنافسي، ويكون 100 في المائة منظماً تنظيماً جيداً؛ مثل تلك الجماعة تستطيع أن تحقق حداً أقصى من الربح نتيجة التبادل، في غضون مرتين أو ثلاث مرات من المشاركة في أية فترة تجارية. ومع ذلك فإن المعلومات تكون مبعثرة، بحيث لا يكون المشارك مُلماً أو مطَّلعاً على العرض والطلب، أو حتى استيعاب ما يعني ذلك. هذا يدلل بشكل مثير للانتباه ما أسماه آدم سميث (مؤلف كتاب ثروة الأمم) “بنزوع مُعيّن في الطبيعة البشرية، لنقل ومقايضة وتبادل سلعة ما لسلعة أخرى” (سميث، 1776، 1909: 19). كذلك، فإنه يدلل على ما أكّده ميزس “بأن كل إنسان يعمل من أجل نفسه؛ ولكن أفعال كل إنسان تهدف إلى تلبية حاجات الآخرين بمثل ما تهدف إلى تحقيق أهداف الإنسان الذاتية. كل إنسان في فعله يخدم مواطنيه الآخرين” (م: 257).
حول التطور والعقل البدائي

إن فهم ميزس للتطور يتلاقى جيداً مع التفسيرات المعاصرة، مثل سيكولوجية التطور (توبي وكوزميدس 1992):
“العقل البشري ليس صفحة بيضاء التي تكتب عليها الأحداث الخارجية تاريخها. إنها مزودة بمجموعة من الأدوات لاستيعاب وفهم الحقيقة. لقد اكتسب الإنسان تلك الأدوات أي، التركيب المنطقي لعقله، من خلال تطوره من الخلية الأميبية إلى الوضع الذي وصل إليه حالياً. بيد أن تلك الأدوات هي منطقياً جاءت سابقة لأية تجربة. لا توجد أية حقائق مستقاة من علم الأعراق البشرية “الإثنولوجيا”، أو من التاريخ تدحض التأكيد بأن التركيبة المنطقية للعقل هي واحدة في جميع الرجال، من كافة الأجناس، والأعمار والبلدان.” (م: 35، 38).
هذه في جوهرها هي النظرة الراهنة للسيكولوجية التطورية فيما يتعلق بنظرية التطور والنشوء، والعقل، وبشكل محدد اللغة الطبيعية. إن الادعاء بأننا نكتسب أدواتنا العقلية قبل مراحل التجربة هي موضحة توضيحاً جيداً في دراسة كيفية اكتسابنا للغة: “عندما يركز الباحثون على قاعدة نحوية (أمثال في اللغة الإنجليزية تتمثل في نظام العدّ الذي يضيف حرف [s] للاسم العادي للدلالة على الجمع؛ وإضافة [ed] لوصف صيغة الماضي في الفعل العادي)، وملاحظة كم هي المرات التي يستجيب الطفل لها، وكم هي المرات التي يتجاهلها، فإن النتائج تبدو باهرة: بأي قياس تختاره، فإن الأطفال في سن الثالثة يستجيبون لها في معظم الحالات (بينكر 1994: 271). التفسير هو أن العقل يجيء مزوداً سلفاً بحلقة دائرية جاهزة لاستيعاب ألفاظ أية لغة؛ وأن تشغيل تلك الحلقة يتطلب فقط التحدث إلى الآخرين لتحريك مفاتيح الحلقة. الاستثناءات (الأخطاء) للأطفال في سن الثالثة، يدفع في الواقع إلى تأكيد هذا المبدأ: “Two mans are at the door” أو “He builded the house” هما خطآن لا يستخدمان. فالأفعال غير العادية والأسماء يجب أن تحفظ عن ظهر قلب، وتودع بعملية من عمليات العقل تبدأ أولاً بإغلاق وتصريف الحساب المنعطف، ومن ثم تجفيف تلك الحالات غير العادية من الذاكرة. إن كثيراً من الحالات غير العادية لا تستخدم إلا نادراً من قبل الكبار، لذا فقد يستغرق وقتاً أطول لتحقيق عملية الإغلاق/والاستبدال، أما الأطفال في سن الثلاثة أعوام فإنهم دائماً يستخدمون الاصطلاحات الحسابية الصحيحة. هكذا تعمل أدوات اللغة المودعة في العقل عملها الطبيعي. إن استخدام الحساب المنعطف في العقل البشري هو وسيلة العقل في تقنين الذاكرة الصحيحة ومصادر المعلومات. إنك تحتاج فقط إلى أن تحفظ في ذاكرتك الجذور الرئيسية والفروع، ثم استنهاض الحسابات الأوتوماتيكية لتغذية الكلمات الأساسية بحيث يتسع معجم الكلمات في اللغة اتساعاً كبيراً. هكذا، فإن ما يعرفه في المتوسط خريج مدرسة ثانوية أمريكية هو (45000) كلمة—وهي ثلاثة أضعاف الكلمات التي استطاع شكسبير استخدامها في مجموع رواياته وأبياته (بينكر 1994: 150).
بيد أن البعض يرفضون هذا التفسير للغة، معربين عن الرأي بأن قدراتنا اللغوية ليست تأقلماً مع، وإنما هي وسيلة جرى تطويرها لأغراض أخرى، وأعيدت صياغتها لتحقيق أهداف جديدة (جولد وفربا 1981). ولكن تبدو لي مثل هذه الآراء تحويلة تباعدية. يمكن أن يكون التأقلم معقداً، ووضع اليد على وحدة قياس، يبدو لعالم البيولوجيا (الأحياء) بأنها تشبهه، قد تم تطويره لخدمة أهداف أخرى، هو سبيل واحد فقط، من بين سبل كثيرة، يمكن للأقلمة التطورية أن تنتهجه. رجل حكيم فقط، هو الذي يستطيع أن يقول لنا لأي سبب تم تطوير آلية بيولوجية معينة في الأصل. لا يتوجب عليك الاعتقاد بأن اللغة قد تطورت بسبب أن الإنسان الأول نطق بكلمة زادت من لياقته، وأن هذه الكلمة الجينية انتشرت بعد ذلك بين السكان. ميزس لا يدعي معرفة كيف خلق التطور قدرة الإنسان العقلية. ولكن بالنسبة له، فإن من الطبيعي النظر إلى العقل كنتيجة للتطور والنشوء، بمثل الاعتقاد بأن عملية التطور قد أدت إلى خلق الأيدي والأرجل.
جولد وليوينتين (1979) قد اتهما الكثيرين من علماء التطور البيولوجيين بإضفاء مصداقية مبالغ فيها للانتقاء النوعي. وسوف يجد أحفاد مدرسة ميزس الفكرية طرافة في تقييم بينكر (1994: 359) لدراسة جولد وليوينتين المتنفذة والتي تقول: “إن أحد أهدافهم هو النيل من نظريات السلوك البشري، والتي في تصورهم تنطوي على ميول سياسية يمينية. إن جولد الذي ينتمي إلى جامعة هارفارد، هو طبعاً مثل بارز على ادعاء مأفون بالقيل والقال، بأن الماركسيين الوحيدين الذين ظلوا في العالم يُعلمون في الجامعات البريطانية والأمريكية. الذي يبدو أن اليساريين الذين يروِّجون لاكتمال البشر من خلال الهيمنة، المجتمعية (الحكومة)، يخشون تداعيات إعطاء وزن كبير للطبيعة، في الوقت الذي يخشى فيه اليمينيون (على الأقل تلك الفئة التي تؤمن بمحدودية دور الحكومة) من تداعيات الدولة على مطواعية العنصر البشري. هذه هي طبيعة النقاش بين الطبيعة مقابل التنشئة والذي ينطوي على انحيازات سياسية كامنة. ميزس يصطف على جانب الطبيعة في قوله بأن للعقل أدوات تُشكلُ جزءً من التجربة. بيد أن العقل اكتسب تلك الأدوات لأنها كانت طيِّعة وقابلة للأقلمة، ولأنها ازدهرت في بيئات لم تغلق في وجهها قدرة التعبير عن نفسها. هكذا، فإن وجهة نظر معاصرة مهمة هي التوأمة بين الطبيعة والثقافة—الثقافة تؤثر على ذلك الذي يبقى ويزدهر، والطبيعة تؤثر على ما هو بشكل أو بآخر، قابل للتغيير.
الفعل الواعي والفعل اللاشعوري

هنا في هذا المجال، نجد أنه تم تجاوز ميزس، نتيجة التطورات الأخيرة في علوم النفس، ذلك أنه يقول “إن الفعل الواعي أو المتعمد هو على نقيض حاد مع السلوك اللاشعوري، أي الانعكاسات والاستجابات اللاشعورية لخلايا الجسم والأعصاب” (م: 10). إنه يريد أن يدعي بأن الفعل الإنساني هو فعل متعمد وواع. ولكن ذلك ليس شرطاً ضرورياً لنظرياته. فالأسواق هناك تفعل فعلها بغض النظر عما إذا كان وراء الفعل الإنساني خيار ذاتي متعمد أم لا.
إنه يقلل لدرجة هائلة من عمل العقل اللاواعي. معظم الذي نعرفه لا نذكر بأننا قد تعلمناه، مثلما أن عملية التعلم ليست متوفرة لتجاربنا الواعية—أي للعقل. الطفل الذي ينمو بشكل طبيعي يكون قد أتقن تركيب الجمل في أشكالها الصحيحة، عندما يبلغ السنة الرابعة من عمره، ودون أن يكون قد تعلم ذلك. وكما لاحظ بينكر “الأطفال يستحقون معظم الثناء لاكتسابهم اللغوي. وفي الحقيقة، فإننا نستطيع أن نبيّن بأنهم يعرفون أشياء لا يمكن أن يكونوا قد تعلموها” (بينكر 1994: 40). وحتى قرارات حول قضايا مهمة نواجهها تعالج من قبل العقل دون طاقاته الواعية. يبدو ذلك واضحاً عندما تكون منغمساً في اتخاذ قرار، أو محاولة حل مشكلة، أو الذهاب للسرير حيث تصحو وقد أحرزت تقدماً مهماً، أو حتى توصلت إلى حل. وكما أوضح عالم النفس ميشيل جازانيجا ببيان واضح كما هو دأبه:
“ما أن يحين الوقت الذي نعتقد فيه أننا نعرف شيئاً (أي أنه جزء من خبرتنا الواعية) يكون العقل قد أتم فعل ما يتوجب عمله. إنها أخبار قديمة بالنسبة للعقل، ولكنها جديدة بالنسبة لنا (العقل الواعي). الأنظمة المشيّدةُ في العقل تفعل فعلها أوتوماتيكياً، وإلى حد كبير، خارج إدراكنا الواعي. العقل ينهي العمل قبل نصف ثانية من وصول المعلومات التي يتعامل معها إلى عقلنا الواعي… نحن (أي عقولنا) خاليو الذهن حول كيفية عمل ذلك والتأثير عليه. نحن لا نخطط أو نبلور تلك الأعمال. إننا ببساطة نراقب النتيجة. ويبدأ العقل بالتغطية على ذلك (أي الفعل الذي تم من مناحي العقل) بخلق الانطباع الخاطئ بأن الأحداث التي نمر بتجربتها هي أحداث في زمن حقيقي—وليس قبل فعلنا الواعي بتقرير ما يتوجب عمله” (جازانيجا 1998: 63-64).
وفي الحقيقة، فإن أحد الألغاز المحيّرة في علم النفس هي: لماذا يخدع الدماغ العقل إلى الاعتقاد بأنه يسيطر على النشاطات العقلية. ولكن، لا شيء مما تقدم ينال من تأثير نظرية ميزس. الأسواق هي إحدى وسائل العقل الاجتماعية لتوسيع قدرتها على معالجة المعلومات من عقول غيرها، والمساهمة في خلق الثروة، بما يتجاوز كل ما يستطيع العقل البشري أن يفهمه. وكما أن معظم ما يفعله الدماغ هو غير متاح للعقل، كذلك هنالك إخفاق واسع بين الناس في فهم الأسواق كأنظمة تنظم نفسها بنفسها، وتنسقها أسعار تهدف إلى تحقيق مكاسب مشتركة من عمليات التبادل، ودون توجيه من أحد. إن تفاعلات الاقتصاد هي بعيدة عن إدراك المتعاملين فيه، بما في ذلك رجال الأعمال، كبعد إدراك المتعامل نفسه عن فعل عقله. إن عمليات الاقتصاد ليست نتاج، ولا يمكن أن تكون نتاج العقل الواعي، والذي يتوجب عليه الاعتراف بمحدوديته وأن يواجه، وفق ما كتب هايك “تداعيات الحقيقة المذهلة، والتي كشف عنها علم الاقتصاد وعلم البيولوجيا، بأن النظام الذي يعمل دون تخطيط مسبق، يفوق بمراحل كبيرة الخطط التي يضعها الإنسان عمداً” (هايك 1988: 8).
حول شبكة العقل المتخصصة بمعرفة كلفة الفرصة وتشابك علاقة العقل والعواطف
نظرية تبرز بإصرار ومتابعة في كتابات ميزس، هي أن الاختيار يقوم على التفكير، وتحليل الأفضليات المقارنة والأحكام المتصلة بما هو أكثر وما هو أقل: “الفعل هو محاولة استبدال وضع أفضل من وضع أقل منه… الثمن يساوي القيمة المعطاة لوضع ما، والتي يتوجب التخلي عنها لتحقيق الهدف المنشود” (م: 97). “الرجل وحده يملك الملكة على تحويل الحوافز الحسيّة إلى ملاحظة وتجربة [ويستطيع أن يرتبهما] ضمن نظام متكامل. الفعل يسبقه التفكير” (م: 177).
أود أن ألفت النظر إلى حقيقة أن توجهاً في أبحاث تتصل بالحيوان والإنسان تقود إلى السنّة ذاتها، قد نشرت بعنوان الفعل البشري، وقد أثبتت الأساس لمقارنات قيمية مقنعة، تتعلق بكيفية عمل الدماغ الحيواني. قدم زيمان (1949) تقريراً يعرض فيه نتائج تجارب على فئران دُرِّبت على السعي لتحقيق هدف تحفزها إليه المكافأة المقدمة. ومن ثمَّ انتقلت التجربة إلى إعطاء مكافأة أقل، وقد كانت استجابة الفئران الركض ببطء أكثر نتيجة المكافأة الأقل. فريق ثان من الفئران بدأ بمكافأة صغيرة، ثم انتقل إلى مكافأة أعلى. وعلى الفور ركضت تلك الفئران بوتيرة أسرع مما لو كانت المكافأة الأعلى وحدها هي التي طبقت. كانت تلك التجربة المبكرة متوافقة مع الفرضية التي مفادها أن الحافز يعتمد على المكافأة النسبية—كلفة الفرصة—وليس على مقياس كُلِّي من القيمة ينتجها الدماغ. بيد أن ذلك التفسير لم يُقدَّر بما يستحق في ذلك الوقت. ومنذ ذلك الحين، أظهر القياس المباشر لنشاط نبضات الدماغ أهمية المقارنة القيمية النسبية في فهم كيفية عمل أدمغة المخلوقات. هكذا، فإن أدمغة كل من القردة والفئران تستجيب لمقارنات متفاوتة من المكافآت. فالدراسات العصبية الفيزيولوجية لكل من القردة والفئران تدل على أن النيورونات الجزئية في الأقسام المكونة من طبقات ست في مقدمة ذلك الجزء من الدماغ (فوق العينين)، تقوم بتمحيص الأحداث المحفّزة، وتميزُ بين الشهية وبين الحوافز الموضوعية الطاردة، وأنها تكون نشطة خلال فترات توقع النتائج (شولتز وترمبليه 1999: 704).
لقد أصبح ثابتاً الآن بأن نشاط النيورون الأمامي المحرك في القدرة يُمكِّنها من التمييز بين المكافآت النسبية ذات العلاقة المباشرة بالتفضيل النسبي للحيوانات، بين مجموعة من المكافئات مثل الزبيب والتفاح والحبوب (مرتّبةٌ وفق التفضيل النسبي). وهكذا، فإن نشاط النيورونات هو أكبر بالنسبة للزبيب منه إلى التفاح عندما يكون الخيار بين الزبيب والتفاح، وكذلك بين التفاح والحبوب. بيد أن النشاط المحفّز من التفاح هو أكبر كثيراً بالمقارنة مع الحبوب منه بالمقارنة مع الزبيب. هذا يتعارض مع ما يتوقع المرء لو كانت المكافئات الثلاث مسجلة على قياس ثابت من المواصفات الفيزيولوجية، بدلاً من القياس النسبي (شولتز وترمبليه 1999: 706، الشكل 4).
وحيث أن التقنيات التي تستخدم في الحيوانات نزّاعة إلى التوغل في الأنسجة أكثر مما هو مُستحب بالنسبة للبشر، ما هو المغزى بالنسبة للإنسان لتلك الأبحاث حول عمل الدماغ الحيواني؟ الجواب هو أن الأبحاث قد دلَّت على أن القشرة الأمامية المتحركة في الدماغ البشري تعمل عملاً متطابقاً مع ما تفعله تلك القشرة في الحيوانات. وقد تبين ذلك من خلال دراسة البشر والقردة اللذين أصيبت قشرتهما الأمامية بالعطب: كلا الجنسين أبديا تعبيرات متغيرة بالنسبة للمكافئات والخيارات المفضلة، كما أظهرا العطب الذي أصاب قدرتهما على اتخاذ القرارات، والحوافز والسلوك العاطفي، وجميعها تؤدي إلى اختلالات مهمة في سلوكها الاجتماعي. وكما لاحظ داماسيو في تلخيص نتائج تلك الدراسات: “على الرغم من الفروقات النيوروبيولوجية بين القردة والشمبنزي، وبين الإنسان والشمبنزي، هنالك جوهر مشترك للعطب الذي ينتج عن إصابة الأعضاء الأمامية في الدماغ: فقد نتج عن ذلك تدهور شخصي واجتماعي شديد في سلوكيهما” (داماسيو 1994: 75).
يود الناس أن يعتقدوا بأن اتخاذ القرارات الصائبة هي نتيجة لاستخدام العقل، وأن أية مؤثرات قد تولدها العواطف هي مناقضة للقرارات الصائبة. إنَّ ما لم يُقدّره ميزس وغيره الذين يعتمدون أيضاً على أولوية العقل في نظرية الاختيار هو الدور الإيجابي الذي تلعبه العواطف في الفعل الإنساني. وعلى سبيل المثال، فقد قام بيكارا وآخرون (1997) بدراسة سلوك المرضى الذين يعانون من إصابات في الحيِّز الأمامي للدماغ في عملية اتخاذ القرار، مقارنة مع الأشخاص الطبيعيين.[1] لقد دلت تلك الدراسات على أن الأشخاص الطبيعيين، عندما علموا بالبيئة الاختبارية، قد دخلوا في مرحلة انتقالية حرجة، غيّروا فيها من أنماط اتخاذهم للقرارات. بيد أنه وقبل التحول الذي وقع في اتخاذ القرار، أظهرت التجارب التي أُجريت على القشرة الجلدية الناقلة للحواس استجابة عاطفية، بينما فقط بعد تغيير القرار، استطاعوا أن يبلوروا شفوياً السبب الذي أدّى إلى إجراء التغيير. وبالتالي، فإن الدماغ العاطفي ينتقل إلى الفعل قبل تغيير القرار، بينما العقل، في شكل تبرير عقلاني، يعمل بعد اتخاذ القرار. الذين أُصيب دماغهم بالعطب فشلوا في إبداء استجابة عاطفية، وفشلوا في تغيير صنع القرار، ويقدمون تبريرات لفظية لأدائهم الضعيف. ومما يلفت النظر أن هنالك مشكلة عامة فيمن أصاب العطب دماغهم ألا وهي، فقدان وظائفهم، أو الإفلاس، ويجدون صعوبة في اتخاذ قرارات على المدى البعيد (بيكارا وآخرون 1997). أعتقد بأن هنالك إشارات لا شعورية، تصدر عن ذلك الجزء العاطفي من العقل (يسمى في بعض الأحيان بـ”Limbic System”)، وهو الذي يوجه أو يؤثر على تشكيل استراتيجية المعرفة، وأن هذه الاستدارة تتأثر بما يحل بمقدمة الدماغ من انشقاقات ونتوءات. ونتيجة لذلك، فإن العواطف، وبعيداً عن أن تكون ضارة باتخاذ القرار الصائب، قد تكون أساسية له، بينما التحليل العقلي الواعي يكون الأخير في معرفة ما جرى.
حول المجتمع الإنساني والتعاون
وفق نظريات ميزس، فإن جميع العلاقات الاجتماعية تنشأ من تقسيم العمل، والذي أصبح ممكناً نتيجة اقتصاد السوق:
“داخل نظام التعاون الاجتماعي، يمكن أن تنشأ بين أعضاء المجتمع مشاعر التعاطف والصداقة، والشعور المشترك بالانتماء. هذه المشاعر هي مصدر أكثر تجارب الإنسان علواً ومسرّة. إنها أغلى مُزيّنات الحياة.. بيد أنها ليست الأداة التي جلبت العلاقات الاجتماعية. إنها ثمرة التعاون الاجتماعي، وإنها تنمو فقط ضمن أُطره… الحقائق الأساسية التي جلبت التعاون والمجتمع والحضارة، وحوَّلت الحيوان البشري إلى كائن إنساني، هي الحقائق التي أظهرت بأن العمل الذي يتم في إطار تقسيم العمل، هو أكثر إنتاجية من العمل المنعزل، وأن عقل الإنسان قادر على إدراك هذه الحقيقة” (م: 144).
أود أن أسلط ضوءً مختلفاً على هذه القضايا، دون أن أنفي، أو أُقلّلَ من جوهر رسالة ميزس. إن صيغتي، القائمة على أسس من علم الآثار، والأعراق والدراسات التجاربية، تعطي منظوراً مختلفاً حول الجذور السيكولوجية الاجتماعية للتبادل، وحقوق الملكية والمال. وحيث أنني قد سبق وبحثت هذا الموضوع بإسهاب في موقع آخر، فإنني سوف أستخدم هذه المناسبة لتحديثها وإعادة صياغتها في إطار تكريم مساهمات ميزس الخالدة (سميث 1998).
ربما في الترتيب الثاني بعد اللغة، كظاهرة إنسانية عامة، يقوم الناس دائماً، وإلى درجة كبيرة لا شعورياً، في الإقدام على التبادل مع الأصدقاء والمشاركين وحتى الغرباء، إذا لم يكن الإطار لذلك التعاون عدائياً. إنك تدعو المعارف إلى العشاء، يتلو ذلك دعوتهم لك، إنك تعطي تذكرة المسرح إلى صديقة عندما تكون خارج المدينة، وبعد ذلك، فإنها تعطيك تذاكر لحضور حفلات موسيقية، تكون هي غير قادرة على حضورها. الأصدقاء يتبادلون العطايا، ويقرضون الممتلكات، ويقدمون الخدمات لبعضهم بعضاً بشكل أوتوماتيكي، دون إجراء حسابات تفصيلية دقيقة. ومن هنا تجيء العبارة الشائعة “أنا مدين لك بواحدة.” مجتمعات الصيد، التي تمت دراستها على امتداد المائة عام الماضية، مليئة بأنظمة تبادلات اجتماعية، ذات نتائج وتداعيات اقتصادية بعيدة المدى. ومع أن بعضها كان يتعامل بشكل من أشكال السلع المالية، فإن الكثيرين منها لم يكونوا يفعلون ذلك، بل يعتمدون كلياً على التبادل الاجتماعي من خلال التعامل بالمثل، لاكتساب الربح من خلال التبادل، في عالم خالٍ من المال أو الحفظ في التبريد.
إن أشكال المؤسسات تختلف اختلافات كبيرة، بيد أن عملها هو الشيء ذاته. هنالك تقسيم عال في العمل على امتداد الأجيال وبين الجنسين: النساء والأطفال وكبار السن، في العادة، يجمعون ويوضبون الناتج الزراعي؛ بينما الرجال والأولاد ما بعد سن الثامنة عشرة يصيدون؛ كبار السن يعطون النصائح حول الصيد ويصنعون الآلات؛ الجدات يساعدن في توليد الأطفال وتنشئتهم، كجزء من تأقلم إنساني بيولوجي—انقطاع الطمث—أي سن اليأس، الذي يؤدي إلى حياة عائلية وخدماتية للمجتمع، في فترة ما بعد الإنجاب.
هذه “الغريزة” لتبادل المنافع قد ظهرت بقوة، وعلى نطاق غير متوقع، في تجارب واسعة معملية (فير، جاكتر وكيركستايجر 1996؛ مكايب، راسينتي وسميث 1996). وكما ذكر أعلاه، فإن أبحاث السوق التجاربية تؤيد بقوة وجهة نظر سميث-هايك-ميزس حول التعاون من خلال مؤسسات السوق، والتي من خلالها تسخّرُ حقوق الملكية المصلحة الذاتية لخلق الثروة. بيد أن النصف أو أكثر من الناس الذين يُعظمون مكاسبهم من التبادل، وإن كان عن غير وعي، وبتعاملات غير محدودة من قبل أنظمة السوق، يختارون أيضاً التنازل عن المصلحة الذاتية لتحقيق نتائج تعاونية بدلاً منها، من خلال الثقة والائتمان، في مبادلات بسيطة ضمن لعبة معلومات تامة.
وعلى سبيل المثال، وفي أحد لعب الثقة، فإن اللاعبين الاثني عشر يصلون على المختبر “لكسب المال في تجربة الاقتصاد.” فعندما يصل الأفراد يدفع لهم مبلغ خمس دولارات لوصولهم في الوقت المحدد، كما يُخصص لهم كمبيوتر في غرفة تحتوي على أربعين جهازاً تفصل بينها حواجز تقسيم. وبعد أن يصل جميع المشتركين، وكل واحد منهم يضم إلى شريك باختيار عشوائي وسرّي، ومن ثم يعطى وبشكل عشوائي أيضاً مركز المحرك الأول أو الثاني. اللعبة تلعب مرة واحدة. المحرك الأول يستطيع أن يختار تقسيم مبلغ 20 دولاراً بالتساوي، 10 دولارات لنفسه و10 دولارات للاعب رقم 2. وخلافاً لذلك، يستطيع أن ُيمرر للاعب رقم 2، مما يضاعف الكعكة الأصلية إلى 40 دولاراً. اختياران أمام اللاعب رقم 2: أخذ الـ40 دولاراً، تاركاً لا شيء للاعب رقم 1، أو أن يأخذ 25 دولاراً، تاركاً 15 دولاراً للاعب رقم 1. ومهما يكن الاختيار، ففي النهاية كل واحد من المشتركين يدفع له بشكل انفرادي خاص ويغادر التجربة. تستغرق مدة التجربة حوالي 15 دقيقة. لا يعرف أحدهم مع مَنْ مِنَ المشاركين تم ازدواجه. اللعبة اليتيمة، والازدواج السرّي، فيهما يعترف بالبروتوكول على أنه يحدد الشروط الأكثر نجاعة للحركات غير المتعاونة التي يقوم بها كل لاعب. نظرية اللعبة تفترض بأنه، في غياب لعبة مكرّرة، أو أي تاريخ أو مستقبل للتفاعل بين اللاعبين، فإن كل واحد منهم سوف يختار استراتيجية الهيمنة، وكل واحد منهم سوف يفترض بأن الآخر سوف يختار الشيء ذاته. ونتيجة لذلك، فإن توازن اللعبة يتطلب أن يأخذ اللاعب الأول 10 دولارات، تاركاً 10 دولارات للاعب الثاني. وخلافاً لذلك، فإذا لم يلعب المحرك الأول يختار المحرك الثاني أخذ مبلغ الـ40 دولاراً كلها.
وخلافاً لذلك، لنفترض بأن اللاعب رقم 1 هو شخص سياسته في التفاعل الاجتماعي مع الآخرين هي كثيراً ما تكون قائمة على تبادل وُدِّي. ضمن هذا الإطار فإن ترك اللعبة للاعب رقم 2 يراد به إعطاء عرض للتعاون. اللاعب رقم 1 يغامر بخسارة فرصة إضاعة 10 دولارات، من أجل فرصة يربح فيها 5 دولارات. يمكن تفسير ذلك بأنه إشارة للاعب رقم 2 مفادها: “إنني لا أنوي التخلي عن الكسب المؤكد للدولارات العشر، لأنني أتوقع منك أن تترك لي (صفراً). إنني أعرض عليك مردوداً يساوي 250%، بحيث أستطيع الحصول على 150% كعائد على التبادل. إنني أثق فيك بأن تكون موثوقاً.” فإذا كان للاعب رقم 2 توجهٌ مماثل، فإننا نكون قد حققنا تجارة تُدرُّ عائداً على التبادل، يستلم اللاعب 1 فيه 15 دولاراً واللاعب 2 يستلم 25 دولاراً.
الجدول رقم 1 يعطي نتائج لعيِّنة من 24 زوجاً من طلاب البكالوريوس، وعيِّنة لـ28 زوجاً لطلاب الدراسات العليا (البيانات من مكايب وسميث 1999). الدرس المستفاد هو أن نصف عينة طلبة الجامعات، بما في ذلك طلبة الدراسات العليا على امتداد الولايات المتحدة وأوروبا، المؤهلين بتدريبات اقتصادية وبنظرية اللعبة، يثقون، بينما 64 إلى 75 في المائة ممن تم الازدواج معهم، هم جديرون بالثقة. لماذا مثل هذه النسبة العالية من أولئك اللاعبين المجهولين المتفاعلين يتخلون عن الفعل الأناني غير المتعاون، كما تنبأت بذلك النظرية الاقتصادية ونظرية اللعبة؟ نعتقد بأن الجواب بسيط: معظم الناس في المجتمعات المستقرة نسبياً تجد أنها سياسة ناجحة تؤتي أُكلها على المدى البعيد، سياسة التعاون والتجاوب مع الآخرين. هذا الموقف المعتاد قوي إلى درجة أنه ظل فعالاً حتى في حالات التفاعل المجهولة، في لعبة تجريبية تتم مرةً واحدة؛ معظم من تم الازدواج معهم يفهمون الرسالة، ويبادلونها تعاوناً بتعاون لمصلحة الفريقين المتبادلة. إن بياناتنا تُظهرُ بأن اللاعبين رقم 1 الذين يتعاونون، مغامرين بالخسارة، هم في أغلب الحالات يكسبون مالاً أوفر من أولئك الذين لا يتعاونون.

أود أن أقترح بأن هذا الشكل من السلوك قد ميَّز سلوك أسلافنا ربما على امتداد المليوني سنة الماضية. وفي الحقيقة، فإنني أتفق مع ميزس بأنه من خلال التبادل، تُمكِّننا من الوصول إلى ما وصلنا إليه اليوم، ما عدا القول بأن التبادل، على امتداد معظم تاريخنا، قد جرى في نطاق التبادل بين العائلة والعشيرة والقبلية. هذا هو الذي وضع الأساس لأقدم مراحل التخصص، وقبل زمن طويل من قيام السوق. ونتيجة لذلك، عندما اخترع أحدهم “المقايضة”، وفيما بعد، ما أصبح يعرف بالنقد، فقد كان للإنسان خبرة شاسعة في ميدان التبادل. ما فعله النقد كان تحرير العقل من الحسابات القائمة على حسن النوايا—الحاجة إلى التدقيق بين الحين والحين، حول ما إذا كانت الحسابات الجارية مع صديق دقيقة أو غير متوازنة إلى حد كبير. هذا العنصر الجديد هو الذي جعل التجارة طويلة الأمد ممكنة، والتي بلغت ذروتها اليوم في الأسواق العالمية، والدخول في عصر التجارة الإلكترونية (نورث 1991).
النموذج الذي ذكرناه أعلاه حول الفرد—أن يسلك سلوكاً غير متعاون في الأسواق العامة غير الشخصية، وتعظيم الربح من التجارة، ولكن التعاون في التبادل الشخصي وتعظيم الكسب من التبادل—يمكّن الإنسان من فهم السبب الذي يدفع الناس إلى الرغبة في التدخل بالأسواق “لتحسين الأوضاع.” إن خبرتهم في التبادل الشخصي الاجتماعي، هو أن عمل الخير (عن طريق أن يثق وأن يكون موثوقاً)، يؤدي إلى نتائج جيدة (مكاسب واضحة من التبادل الاجتماعي). أما في المبادلات العامة غير الشخصية من خلال الأسواق، فإن المكاسب من التبادل ليست جزءً من خبرتهم. وكما لاحظ آدم سميث ([1776] 1909: 19): “تقسيم العمل هذا، ليس في الأصل نتيجة لأية حكمة إنسانية، تتنبأ وتتوجه نحو تلك الثروة الغريزية، والذي يوصل لها.” التبادل غير الشخصي من خلال السوق يعطي الانطباع بأنه لعبة ليس فيها رابح أو خاسر، وهو انطباع لا يُقللُ بأي شكل من الأشكال من قدرة الأسواق على إنجاز الأهداف التي بلورها آدم سميث وميزس. البرامج التدخلية في نظري ناتجة عن أن الناس يطبقون بشكل غير صحيح تجاربهم وخبراتهم من التبادل الشخصي الاجتماعي على الأسواق العامة، والتوصل إلى قناعة بأنه يمكن التدخل وتحسين أوضاع السوق. الناس يستخدمون حدسهم وليس عقلهم (كما كان يظن ميزس) في نظرتهم إلى الأسواق، وهم بذلك يرتكبون خطأً.
الخاتمة
معْلَمان اثنان فريدان يختص بهما العنصر البشري، وهما في الغالب أساسيان لقيام التخصص (نظام التعاون الموسع) كظاهرة إنسانية عامة، مكّنتْ أسلافنا من “السيطرة على الأسماك في البحار، والطير في الفضاء، والمواشي، وعلى جميع الأرض، وعلى كل دابة” (سفر التكوين 1: 26). هذان المعلمان أو العنصران هما: (1) استخدام لغة طبيعية مؤهلة و(2) التبادل أو “القدرة على التنقل ومقايضة وتبادل شيء بشيء آخر” (سميث، 1776، 1909: 19). من الصعب التصور بأن هذين العنصرين قد تطورا على انفراد. إنهما بكل تأكيد جزءٌ من شبكة تطور ثقافي–بيولوجي مشترك على امتداد أكثر من مليوني سنة. إن غريزة التبادل تفسر بقاء أنظمة التجارة في الصين، والاتحاد السوفييتي السابق، وغيرهما، تحت أنظمة الدولة ومحاولات القمع الاجتماعي.
ميزس وهايك بلورا وأثريا إثراءً عظيماً المبادئ التي جاء بها آدم سميث، في مرحلة حرجة في هذا القرن (القرن العشرين)، عندما كان يُنظر إلى تفكيرهما بأنه عفا عليه الدهر، وغير عملي، ومثالي. لقد تحدثا عن الحرية عندما لم يكن لها تأييد شعبي؛ تحدثا بحكمة وعقل ثاقب. ولكنهما تحدثا من منطلقات مستقلة، وفي بعض الحالات متعارضة. بالنسبة لميزس “التفكير العقلي هو الأداة التي حققت كل شيء إنساني محدد” (م: 91). ولكن في رأي هايك، فإن قمة الغرور هي “الفكرة القائلة بأن القدرة على امتلاك المواهب تتأتى عن العقل. إنها على النقيض من ذلك: ذلك أن تفكيرنا العقلي هو نتيجة عملية التطور الانتقائي، بقدر ما هو تطور أخلاقياتنا”، ولكنها تنبع من تطور مستقل: “لا يجب لأحد أن يظن بأن قدرتنا العقلية هي في المستوى الأعلى، وأن القوانين الأخلاقية الوحيدة النافذة هي تلك التي يسندها العقل” (هايك 1988: 21). “ولفهم حضارتنا، على المرء أن يقدر بأن النظام الموسع للتعاون قد نتج، ليس بفعل الإرادة الإنسانية أو توجهاتها، ولكن عفوياً: لقد نشأ نتيجة اتباع عدد من الممارسات التقليدية، في معظمها أخلاقية، وبدون قصد متعمد. وكثير منها مكروهة، كما أنهم في العادة لا يستوعبون مغزاها، كما لا يستطيعون إثبات صلاحيتها؛ ولكن رغم ذلك، فقد انتشرت بسرعة بفعل التطور الانتقائي—الزيادة المقارنة في حجم السكان والثروة—لتلك الجماعات التي تبعتها” (هايك 1988: 6).
ومع أن هايك في رأيي، هو المفكر الاقتصادي الأبرز في القرن العشرين، والذي رأى ما يتوجب أن يكون عليه النظام الموسع، فقد كان ميزس التقني المُختار، ولم يكن أحد يفوقه في بلورة أولوية الفرد، والحاجة إلى تحديد وتنمية الحقوق الفردية. الاقتصاد التجريبي، الذي أنشئ في السنوات الخمسين منذ الفعل البشري كان منصفاً لأهل النمسا، في تمكيننا من إظهار أن النظام العفوي، الذي يعمل من خلال مؤسسات الملكية الفردية، يظهر المعالم المرغوبة التي ادّعى النمساويون مزايا وجودها. هذه القوة في الإظهار والإثبات هي بالنسبة لي أشد إقناعاً بكثير من اللجوء إلى العقل، وبالأخص من قبل ميزس. العقل، كما تعلمون هو يُدعى أيضاً على أنه في جانب تدخل الدولة، وأن مثل هذا الشكل من العقل له القدرة على التأثير في عقول الناس، بسبب محاكاته السطحية لتجاربهم، على الرغم من أن النظم التي أقيمت حوله قد انهارت، وتراهم يبدون اليأس والإحباط مدَّعين بأن كل شيء سوف يصبح على ما يرام، لولا الجشع البشري.
طرائق الفعل البشري
لورنس إتش. وايت[3]

لقد أعطانا فيرنون سميث، مجموعة مشوِّقة من الآراء حول كتاب ميزس، الفعل البشري، ففي حقل الطرائق والأساليب، يمكن اعتبار الفعل البشري على أنه بيان يؤكد الاستنتاجية الافتراضية من القاعدة العامة المسبقة إلى الخاصة، بينما يمكن اعتبار سميث على أنه ملتزم بالمذهب التجريبي (من الطراز الاختباري). وعندما يؤخذ ذلك بعين الاعتبار، فإن سميث يبدي انفتاحاً حميداً غير متوقع نحو الكتاب.
الحيادية الأخلاقية والعقلانية في علم الاقتصاد
أوضح ميزس (1966: 19) كما نقل عنه سميث، أنه قال: “الفعل البشري هو بالضرورة عقلانياً دائماً.” ويعلمنا سميث بأن ميزس يعتبر ذلك صحيحاً “لأن التطبيق العملي محايد فيما يتعلق بأية أحكام تقييمية تتعلق بالبيانات—ألا وهي الأهداف النهائية التي يتم اختيارها في الفعل البشري. لذا، فليس هنالك أساس موضوعي للتأكيد بأن اختيارات أي إنسان يمكن أن تكون لا عقلانية.” أعتقد أن استخدام سميث لكلمة (لأن) السببية، ليست في مكانها. ومع أن الفترة التي ينقل عنها سميث تبحث بالفعل ضرورة العقلانية في الفعل البشري، جنباً إلى جنب مع الحيادية الأخلاقية في التطبيق العملي، فإن الأخيرة ليست السبب وراء الأولى. يجب أن لا نخلط بين أمرين اثنين مختلفين: (1) معنى عبارة العقلانية في الاقتصاد، و(2) الحيادية الأخلاقية في التحليلات الاقتصادية.
الحيادية الأخلاقية تعني أن الاقتصاد مهتم باستكشاف نتائج نشاطات السوق والسياسة الاقتصادية، وليس في الحكم على سوءاتهما أو حسناتهما. أن تكون عقلانياً بالنسبة لميزس (1966: 20) هو الانغماس في نشاط متعمد، أي المحاولة المتعمدة لتحقيق هدف ما. كما إن الـ”فعل” يعني عملاً متعمداً (ميزس 1966: 11). السلوك الوحيد غير المتعمد (الذي لا هدف وراءه) هو السلوك الانعكاسي اللاإرادي، لذا، وكتحصيل حاصل، فإن جميع “الأفعال البشرية” هي عقلانية، حتى ولو تقبّل المرء أو رفض الحيادية الأخلاقية في التحليلات الاقتصادية (ويضيف ميزس قائلاً: “عبارة فعل عقلاني هي، تبعاً لذلك، حشو كلامي، ويجب أن ترفض على هذا الأساس.”) يمكن للمرء أن يقبل بعبارة ميزس، ومع ذلك يرفض العبارة المبنية على أساس الاعتقاد بأن للاقتصاد مهمة أخلاقية في الحكم على القرارات، بأنها جيدة أو سيئة. المسألتان تبدوان متداخلتين فقط عندما تُستعمل العبارتان بشكل مختلف، وبالأخص عندما يصف مراقب قرار إنسان ما بأنه “غير عقلاني”، وهو يعني بذلك أنه قرار “سيء”، أو أنه مخالف “لأهداف” المراقب. ميزس يبحث الحيادية الأخلاقية من أجل تحذيرنا ضد مثل ذلك الاستخدام، وليس من أجل توضيح كون الفعل البشري بالضرورة عقلاني.
علم الاقتصاد ليس علماً طبيعياً
يشرع سميث مبكراً في تقديم انتقادات إيجابية: “هنالك الكثير في كتابات ميزس، في حاجة إلى التحديث، بسبب أشياء نظن أننا نعرفها الآن، والتي لم نكن نعرفها قبل 50 سنة،” وبالأخص “بالنسبة لطبيعة اتخاذ القرار البشري.” إن معلوماتنا الجديدة حول عملية اتخاذ القرار تستخلص من (1) تجارب سميث الخاصة بشأن الحوافز والأسواق لدى العنصر البشري، (2) الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، والإثنوجرافيا (علم نشوء الأعراق)، والسيكولوجية التطورية، و(3) الأبحاث في علم الأعصاب—على سبيل المثال، على أدمغة القردة، والأدمغة البشرية المعطوبة.
من السهل الموافقة على القول بأن أي بيان صدر قبل 50 عاماً مضى بشأن العلوم الطبيعية هو في الغالب في حاجة إلى تحديث. إنني أتفق مع سميث بأن ميزس كان على خطأ، أو على الأقل، إنه كان جامحاً عندما كتب يقول (ميزس 1966: 31): “لا يمكن إجراء أية تجارب مختبرية بشأن الفعل البشري.” إنصافاً إلى ميزس، مع ذلك، فقد جاءت تلك العبارة في وسط فقرة حول قضية شرح التجربة التاريخية. كان ميزس ببساطة يوضح بأن التاريخ الاقتصادي لا يجري في محيط مختبر، لذا يجب استخدام أساليب أخرى، غير التجارب المختبرية المنضبطة، للوصول إلى نتائج سببية تفسر الفعل البشري. فالبيانات التاريخية ليست بيانات مختبرية.
انتقادات سميث تشير إلى قضية أهم وأوسع بالنسبة لأي إنسان يأخذ على محمل الجد نظريات ميزس (الاستنتاجية المسبقة من القاعدة العامة إلى الخاصة، والتي تبدأ من منطلق المنطق التام في الاختيار). هل نظريات ميزس حول الوسائل المناسبة للاقتصاد في حاجة إلى تحديث؟ إنني أعتقد بأنها ليست في حاجة لذلك. أعتقد أن ميزس على حق في إصراره على أن المعطيات الجوهرية في النظريات الاقتصادية متأصلة في وسائل منفصلة عن تلك المتواجدة في العلوم الطبيعية. فالنظرية التطبيقية مستقلة عن العلوم الطبيعية، والاقتصاد التجريبي من وجهة النظر هذه يعتبر من العلوم الطبيعية. هذا لا يعني بأن الاقتصاد التجريبي لا ينتمي إلى دائرة الاقتصاد، أو أنه غير معني بكيفية عملنا نحن الاقتصاديون الذين لا ينتمون إلى المدرسة التجريبية. هنالك متسع كبير لكلا الجانبين: التطبيقي النظري المسبق، والعلم الطبيعي في دراسة السلوك البشري في الأسواق.
إن موقفي يتلخص في الآتي: الاقتصاد التجريبي وغيره من العلوم الطبيعية ليسا في وضع يتيح لهما تكذيب المعطيات الاستنباطية للنظرية الاقتصادية. تلك المعطيات تعتمد على نظرتنا “الداخلية” حول الناس كعملاء في السوق، بينما العلوم الطبيعية تعطينا أفقاً خارجياً حول الناس. تستطيع التجارب أن تُبين أفعال النظرية الاقتصادية. وبتعبير سميث، إنها تستطيع أن تعيد إلى الحياة معطياتها المتصوَّرة. وأهم من كل ذلك، أنها تستطيع مساعدتنا في تسوية قضايا مهمة لا يستطيع الاستنباط المسبق أن يحُلَّها. إن مجموعة من مثل تلك الأسئلة التجريبية ليست خالية من المضمون (كما أن ميزس لم يكن يعتقد ذلك). ومن الناحية الأخرى، فإن مجموعة من الأسئلة الاستنباطية المفيدة ليست كذلك خالية من المضمون. إنها تشمل، ليس فقط نظرية الاستهلاك، ولكن بعض نظريات المال أيضاً، وعلى سبيل المثال قانون جريشام.
إكتشاف ظاهرة المبادرات الاقتصادية
يقول سميث إن علم الأعصاب الراهن يدحض وجهة نظر ميزس القائلة بأن هنالك تغاير حاد بين السلوك المتعمد والسلوك اللاشعوري أو الانعكاسي غير المتعمد. لا يساورني شك بأن هنالك—من وجهة نظر علم الأعصاب—استمرارية وليس تناقضاً حاداً. ولكنني أجد نفسي على خلاف مع سميث في قوله بأن “الإرادة المتعمدة ليست شرطاً ضرورياً في نظام ميزس.” فالأسواق موجودة هناك، تفعل فعلها سواء كانت دوافع الفعل الإنساني تنطوي على اختيار إرادي أم لا. أقوال سميث قد تنطبق على نظام ولراس النظري، والذي أعتقد أن باريتو قال فيه: “إن الفرد قد يختفي، بشرط أن يترك لنا وراءه صورة فوتوغرافية عن أذواقه.” ولكنها لا تنطبق على نظام ميزس النظري. فمفهوم ميزس للكيفية التي يتم بموجبها عمل السوق بالفعل هي عملية اكتشاف المبادءة والمبادرة، وليس فقط الاستجابة التلقائية للمحفزات. أن يكون النظام الاجتماعي الناجم عن ذلك غير متعمد لا يعني بأن القرارات الفردية التي ينطوي عليها ليست بالضرورة متعمدّة.
ملاحظات:
[1] إن مهمة الأشخاص موضوع الدراسة هي تكديس كمية النقد من خلال طرح أي جزء أو كل مجموعات أوراق اللعب الأربع. الاوراق في المجموعات (أ) و(ب) يعطون 100$، بينما في (ج) و(د) 50$. لكن في الحالة الأولى يبدو أن هنالك ورقة مناسبية تنطوي على خسارة كبيرة غير قابلة للتنبؤ. إن الجزاء يستمر بغير نمط، بينما لا يعرف الأشخاص موضوع الدراسة متى ستنتهي المهمة. جميع الاشخاص موضوع الدراسة موصولون بإلكترودات كهربائية في الجلد من أجل قياس الاستجابة الجلفانية الجلدية. إن رد الفعل العاطفي للأحداث يسبب مزيداً من الافراز للعرق، وهذا يسجل على شكل إيصالية أعلى للجلد، كما هو مقاس بقيمة أعلى على الجلفانوميتر. إن أول نتيجة مثيرة للاهتمام للتجربة هي أن هناك إستجابة عاطفية تمت ملاحظتها في قراءات الاستجابة الجلفانية الجلدية للأشخاص الطبيعيين موضوع الدراسة قبل قرارهم للتحول من مجموعة (أ) و(ب) إلى (ج) و(د). فقط في ذلك الوقت، لاحقاً للتغيير في اتخاذهم للقرار، تمكن الأشخاص موضوع الدراسة من الإفصاح عن سبب تحولهم. الملاحظة الثانية الهامة هي أن المرضى الذين يعانون من أذى في الفص الأمامي لم يتحولوا إلى المجموعتين (ج) و(د)، وإن هذا لم يصاحبه تغييرا في القراءات، وأنهم مالوا إلى إعطاء ذرائع شفوية لتبرير أدائهم الضعيف، وبعضهم أشار إلى أن المجموعتين (أ) و(ب) قد يتحسنا.
[2] عدد الأزواج الذين حازوا على هذه النتيجة شريطة الوصول إلى المرحلة الثانية من اللعبة (اللاعب 1 يستنكف). ولذا، بالنسبة لطلبة البكالوريوس، 12 من 24 لاعب رقم 1 تحركوا إلى الأسفل، ومنهم 9 لاعبين تحركوا إلى اليمين و3 تحركوا إلى الاسفل.
[3] بروفيسور الاقتصاد في كلية تيري لإدارة الأعمال، جامعة جورجيا.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 25 حزيران 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

كانت شركة غوغل للبحث في الانترنت هي واحدة من قصص النجاح الأكبر في الاقتصاد الأمريكي في العقد الماضي. فبعد بداية متواضعة في غرفة سكن طلابي في جامعة ستانفورد، طُرحت أسهمها للاكتتاب العام سنة 2004 ووصل سعر السهم لديها إلى 370 دولاراً.
أصبح مؤسسو الشركة، لاري بيج، وسيرجي برن والعديد من مدراء الشركة الأثرياء، أصبحوا أغنياء بالطريقة الوحيدة التي تستطيع أن تثرى بها في السوق الحرة: من خلال إنتاج شيء يريده الآخرون. فقد عمل العديد من الناس الأذكياء لساعات طويلة لينتجوا برنامج تشغيل حاسوبي اختار استخدامه مئات الملايين من الناس، في خضّم سوق تنافسية للغاية قدّم الكثير من الخيارات الأخرى.
ولكن في نظامنا الاقتصادي السياسي—الذي يسميه جوناثان راوتش، الصحفي في ناشيونال جورنال “الاقتصاد المتطفل”—لا يمر عمل جيد بلا عقاب. فقد أراد بعض الناس أن يسموا غوغل منفعة عامة يجب تنظيمها في المصلحة العامة، ربما من خلال مكتب فيدرالي لآلات البحث. تريد إدارة بوش من غوغل أن تسلمها أكثر من مليون عنوان إلكتروني عشوائي وسجلات لكل عمليات البحث على أساس أسبوع واحد. ويحقق الكونغرس في كيفية تعامل الشركة مع طلب الحكومة الصينية بمراقبة ناتج بحث المستخدمين الصينيين.
لذا قررت غوغل أن تبدأ لعبة واشنطن، كما فعلت مايكروسوفت وشركات أخرى من قبل. فقد فتحت مكتباً في واشنطن ووظّفت خبراء مجاميع ضغط (لوبي) من ذوي العلاقات الجيدة. إحدى أفضل شركات البحث التنفيذية في البلاد تبحث عن مدير سياسي للشركة.
ما يجب أن يقلقنا هنا هو كيف أن الحكومة قد استمالت شركة غوغل نحو القطاع السياسي للاقتصاد. لقد مضت الشركة في عملها لقرابة عقد من السنوات، تُطورُ برامج التشغيل، وتخلق آلة بحث أفضل من أية آلة كان قد حلم أي واحد منا، وتكسب المال ببراءة. ولما أثار حجمها وثروتها انتباه المنافسين، والناشطين المضادين للعمل التجاري، والسياسيين، أُجبرتْ على البدء بإنفاق بعض أموالها وتفكيرها لتتقي الهجمات السياسية. وهي نفس العملية التي مرت بها مايكروسوفت قبل سنوات قليلة، عندما واجهت نفس النوع من المشاكل. والآن مايكروسوفت هي جزء من “مؤسسة واشنطن”، بنفقات لوبي تزيد على تسعة ملايين دولاراً في العام.
وفقاً لمعايير واشنطن، مازالت غوغل لاعباً صغيراً، بكُلَف لوبي لا تبلغ المليون دولاراً فقط في العام الواحد. لقد كان لاعبو واشنطن المحنكون يرعون البراءة السياسية لغوغل. قال خبير اللوبي التكنولوجي ريت داوسون إن الشركة “تمضي بسرعة نحو مرحلة النضج… وهي تدفع لكي تجذب الانتباه في واشنطن.” أما لورين مادوكس، معاون سابق لشركة نيوت غينغريتش استخدمته غوغل مؤخراً، فقال إن لوبيّي الشركة يشرحون لهم أن “عملية السياسة هي امتداد لساحة معركة السوق.”
لقد مرت مايكروسوفت بنفس الضباب، رغم أنه كان أكثر حديةً. قال أحد المعاونين من الكونغرس، “إنهم لا يريدون أن يلعبوا لعبة العاصمة، هذا شيء واضح، وقد نجوا بفعلتهم لحد الآن. ولكن المشكلة هي أنهم لن يتمكنوا من ذلك على المدى البعيد.”
شيء على غرار: “(هاي) بيل، لديك شركة صغيرة جميلة هناك. من العار أن يحدث لها أي شيء.” وتفهم الشركات الرسالة: إذا أردت أن تنتج شيئاً في أمريكا، فلا بد أن تلعب اللعبة. ساهِمْ في حملات السياسيين، وظِّفْ أصدقاءهم، إذهبْ وقبعتك بيمينك إلى جلسات الاستماع في الكونغرس، واعتذرْ عن نجاحك.
المأساة هي أن العامل الأكثر أهمية في مستقبل أمريكا الاقتصادي—في رفع مستوى معيشة الجميع—ليس الأرض، أو المال، أو الكومبيوترات؛ بل الموهبة البشرية. بعض من الموهبة البشرية في شركة أخرى من أكثر شركات أمريكا ديناميكية يتحول الآن من النشاط الإنتاجي إلى حماية الشركة من النهب. وهكذا فإن الاقتصاد المتطفل امتص مشروعاً إنتاجياً آخر.
يمكن أن يعزى تباطؤ الاقتصاد الأمريكي خلال العقود القليلة الماضية إلى حد بعيد إلى هذه العملية فقط—توسع الاقتصاد المتطفل على حساب الاقتصاد المنتج. ارتفع عدد المؤسسات التي لديها مكاتب في واشنطن، إضافة إلى عدد المدراء التنفيذيين الذين يزورون واشنطن بشكل منتظم. وإذا كنت تعتقد بأن نمو الاقتصاد المتطفل سيتباطأ في ظل حكومة الجمهوريين، فإنك على خطأ. يصل عدد الشركات ذات خبراء اللوبي المسجلين إلى 58% في ست سنوات، وارتفع الإنفاق الرسمي من مليار ونصف إلى مليارين ومائة مليون دولاراً في ذلك الوقت.
كتب بيل غيتس عام 1998، “لقد مر عام على آخر زيارة لي إلى واشنطن العاصمة. أعتقد أن علي من الآن فصاعداً القيام بهذه الرحلة بشكل أكثر تكراراً.”
وهذا ما يكلفه الاقتصاد المتطفل لأمريكا. فمؤسسو مايكروسوفت وغوغل وغيرها من الشركات الخلاقة الأخرى سيهدرون عقولهم في حماية شركاتهم وليس بالتفكير بمنتجات جديدة، وطرق جديدة لتقديمها.
إن حضور غوغل الجديد في واشنطن مفهوم تماماً، ولكنه رمز تراجيدي لتحول موارد أمريكا الإنتاجية إلى عالم غير منتج من النهب السياسي والصراع لمقاومة هذا النهب.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 24 حزيران 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

إنه من السائد كثيراً بأن السياسة والاقتصاد أمران منفصلان ولا علاقة لأحدهما بالآخر؛ وأن الحرية الفردية مسألة سياسية بينما أن الرفاهية المادية مسألة اقتصادية، وبأنه من الممكن ضمّ أيّ نوع من الأنظمة السياسية إلى أي نوع من الأنظمة الاقتصادية، والتطبيق المعاصر الأوضح لهذه الفكرة هو الدفاع عن “الاشتراكية الديمقراطية” من قبل العديد من الذين يدينون في الوقت ذاته القيود التي تفرضها “الاشتراكية الديكتاتورية” على الحرية الفردية في روسيا، وكذلك هؤلاء المؤمنين بأنه من الممكن أن تقوم دولة بتبني الخصائص الأساسية للأنظمة الاقتصادية الروسية وفي الوقت ذاته ضمان الحرية الفردية من خلال تلك الأنظمة السياسية. إن الفكرة التي يتناولها هذا الفصل تتمثل في أن مثل تلك الرؤية مضللة، وبأن هناك علاقة جوهرية بين السياسة والاقتصاد بحيث أنه بالإمكان الجمع فقط بين أنظمة سياسية واقتصادية محددة دون غيرها، وأنه على وجه الخصوص لا يمكن لمجتمع اشتراكيّ أن يكون في الوقت ذاته ديمقراطياً ضمن مفهوم ضمان الحرية الفردية.
إن الأنظمة الاقتصادية تلعب دوراً مزدوجاً في تأسيس مجتمع حرّ؛ فمن ناحية، فإن الحرية في الأنظمة الاقتصادية هي بذاتها جزء من الحرية بمفهومها الأوسع، وهي هدف نهائي بحد ذاتها. أما في المرتبة الثانية فإن الحرية الاقتصادية كذلك وسيلة لا يستغنى عنها في سبيل تحقيق الحرية السياسية.
إن أولى تلك الأدوار للحرية الاقتصادية تتطلب تأكيداً خاصاً لأن للمفكرين على وجه الخصوص ميلٌ قوي لعدم اعتبار هذه السمة للحرية على أنها مهمّة؛ فهم ينزعون إلى التعبير عن ازدرائهم لما يعتبرونه مظاهر ماديّة للحياة، وإلى اعتبار سعيهم وراء قيمهم السامية المزعومة على أنه على مستوى أعلى من الأهمية، وعلى أنه يستحق اهتماماً خاصاً. ولكنه لمعظم مواطني الدولة—وإن لم يكن ذلك للمفكرين—فإن الأهمية المباشرة للحرية الاقتصادية هي على الأقل بمثل أهميتها غير المباشرة كوسيلة لتحقيق الحرية السياسية.
فالمواطن البريطاني الذي لم يسمح له بعد الحرب العالمية الثانية بقضاء إجازته في الولايات المتحدة بسبب نظام الرقابة على الصرف وتحويل العملات الأجنبية قد تم تجريده من حرية أساسية بما لا يقل عن المواطن الأمريكي الذي حُرم من فرصته في قضاء عطلته في روسيا بسبب آرائه السياسية. فالحالة الأولى كانت في الظاهر تقييداً اقتصادياً للحرية بينما كانت الثانية تقييداً سياسياً لها؛ ومع ذلك فإنه لا يوجد فرق جوهري بين كلتيهما.
إن المواطن الأمريكي الذي يجبره القانون على تخصيص ما يقارب 10% من دخله من أجل شراء نوع معين من عقود التقاعد الذي تقدمه الحكومة؛ فإنه يتم تجريده بالقدر ذاته من حريته الشخصية. إن شدة الشعور بهذا التجريد ومقدار شبهه بالتجريد من الحرية الدينية—والتي سيعتبرها الجميع كحرية “مدنية” أو “سياسية” بدلاً عن اقتصادية—قد تمثل من خلال حدث متعلق بجماعة من مزارعي طائفة أميش؛ فعلى أساس المبدأ، اعتبرت هذه الجماعة البرامج الفيدرالية الإجبارية للشيخوخة كانتهاك لحريتهم الشخصية الفردية ورفضوا دفع الضرائب أو قبول الإعانات؛ ونتيجة لذلك تم بيع بعض مواشيهم في مزاد علنيّ لدفع استحقاقات ضرائب الضمان الاجتماعيّ. إنه صحيح بأن أعداد المواطنين الذين يعتبرون ضمان الشيخوخة الإجباري كتجريد للحرية قد تكون قليلة؛ لكن المؤمن بالحرية لا يحصي الأنوف أبداً.
إن المواطن الأمريكي الذي لا يمتلك—ضمن تشريعات العديد من الولايات—حرية الالتحاق بالمهنة التي هي من اختياره الخاص إلا إذا حصل على ترخيص لذلك؛ هو كذلك يتم حرمانه من جزء أساسي من حريته. وكذلك الشخص الذي يريد استبدال بعضٍ من بضائعه بساعة سويسرية مثلاً لكنه يُمنع من ذلك بسبب حصة نسبية ما (كوتا). وهكذا أيضاً الرجل من كاليفورنيا الذي قد زجّ به في السجن لبيعه (ألكا سيلتزر) بسعر أقل من ذاك الذي فرضته الجهة الصانعة تحت ما يطلق عليه اسم قوانين “التجارة العادلة”. وأيضاً كذلك المزارع الذي لا يستطيع زراعة كمية القمح التي يرغب بها، وهكذا دواليك. إنه من الواضح بأن الحرية الاقتصادية وبحد ذاتها جزء مهم للغاية من الحرية بمفهومها الشامل.
باعتبارها وسيلة لتحقيق الحرية السياسية؛ فإن الأنظمة الاقتصادية مهمة بسبب تأثيرها على تركيز أو توزيع السلطة؛ فذاك النوع من النظام الاقتصادي الذي يوفر الحرية الاقتصادية بشكل مباشر، وأعني النظام الرأسمالي التنافسي، يشجع كذلك الحرية السياسية لأنه يفصل السلطة الاقتصادية عن السلطة السياسية وبذلك يمكن أحدهما من أن يوازن الآخر.
إن الدليل التاريخي يتحدث بصوت واحد عن العلاقة بين الحرية السياسية والسوق الحرة. فلا أعلم عن أي مثال في أي مكان أو زمان لمجتمع تميز بقدر كبير من الحرية السياسية، وفي الوقت ذاته لم يستخدم شيئاً شبيهاً بالسوق الحرة لتدبير معظم نشاطه الاقتصاديّ.
ولأننا نعيش في مجتمع يتمتع بحرية كبيرة فإننا نميل إلى نسيان كم هو محدودٌ الزمن والجزء من العالم الذي قد تواجد فيه مطلقاً شيء شبيه بالحرية السياسية، فغالباً ما كان حال البشر الاستبداد والعبودية والشقاء؛ إلا أنه قد أبرز القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في العالم الغربي استثناءات لافتة للنظر للمنحى العام للتطور التاريخي؛ فقد تحققت الحرية السياسية في هذه المرحلة بشكل واضح بمعية السوق الحرة وتطور المؤسسات الرأسمالية، كالذي حققته الحرية السياسية في العصور الذهبية لليونان وفي العهود الأولى للعصر الروماني.
ويقترح التاريخ بأن الرأسمالية تكفي كشرط أساسي للحرية السياسية؛ لكنه من الواضح بأن ذلك ليس كافياً؛ فإيطاليا الفاشية وإسبانيا الفاشية، وألمانيا خلال العديد من الفترات في السبعين سنة الماضية، واليابان قبل الحرب العالمية الأولى والثانية، وروسيا القيصرية في العقود التي سبقت الحرب العالمية الأولى؛ جميعها مجتمعات لا يمكن تصوّرها على أنها حرة سياسياً؛ ومع ذلك كانت المشاريع الخاصة هي الشكل السائد للنظام الاقتصادي في كل منها. ولذلك من الممكن وبشكل واضح أن تتواجد أنظمة اقتصادية والتي هي رأسمالية في الأساس مع أنظمة سياسية غير حرة.
حتى في تلك المجتمعات السالفة الذكر كان للمواطنين حرية أفضل من هؤلاء في دولة ديكتاتورية حديثة كروسيا أو ألمانيا النازية، والتي جمعت بين الديكتاتورية الاقتصادية والديكتاتورية السياسية. حتى في روسيا تحت الحكم القيصري كان ممكناً لبعض المواطنين في بعض الأحوال تغيير وظائفهم دون أخذ تصريح من السلطة السياسية بذلك حيث وفرت الرأسمالية ووجود الملكية الخاصة بعض الكبح على السلطة المركزية للدولة.
إن العلاقة ما بين الحريتين السياسية والاقتصادية معقدة وليست بأي شكل من الأشكال أحادية الجانب؛ ففي بدايات القرن التاسع عشر كان لبنثام والراديكاليين الفلسفيين ميلاً لاعتبار الحرية السياسية كوسيلة نحو الحرية الاقتصادية، وقد آمنوا بأنه يتم كبح الطبقة العاملة عن طريق القيود التي تفرض عليهم، وبأنه إن أعطى الإصلاح السياسي عامة الشعب حق التصويت لعملوا ما في صالحهم والذي كان التصويت لسياسة عدم التدخل (مبدأ يقاوم التدخل الحكومي في الشؤون الاقتصادية إلا بمقدار ما يكون ذلك ضرورياً لصيانة الأمن وحقوق الملكية الشخصية). وبتأمل الأحداث الماضية لا يستطيع أحد القول بأنهم قد كانوا مخطئين في ذلك. ولقد كانت هناك إجراءات عظيمة من الإصلاح السياسي والذي رافقه إصلاح اقتصادي في توجه نحو تحقيق سياسة عدم التدخل تلك. وقد تبع هذا التغيير في الأنظمة الاقتصادية زيادة هائلة في رفاهية الطبقة العاملة.
إن انتصار الليبرتارية البنثمايتية في بريطانيا القرن التاسع عشر تبعه ردة فعل نحو زيادة التدخل الحكومي في الشؤون الاقتصادية. وقد تسارعت هذه النزعة نحو الجماعيّة (مبدأ اشتراكي قائل بسيطرة الدولة—أو الشعب ككلّ—على جميع وسائل الانتاج أو النشاطات الاقتصادية) بشكل كبير في بريطانيا وغيرها خلال الحربين العالميتين، وأصبحت دولة الرفاه بدلاً عن الحرية السمة المميزة للدول الديمقراطية. وبإدراك الخطر الضمني على الفردانية (نظرية تنادي بأن المبادرة والمصالح الفردية يجب ألا تخضع لسيطرة الحكومة أو المجتمع أو رقابتهما) خشي المفكرون المنحدرون عن الراديكاليين الفلسفيين—على سبيل الذكر: دايسي وميزس وهايك وسايمنز—بأن التقدم المستمر نحو السيطرة المركزية على النشاط الاقتصادي سوف يثبت الطريق إلى الرق كما أطلق هايك على تحليله النافذ لهذه العملية، ولقد كان تركيزهم على الحرية الاقتصادية كوسيلة لتحقيق الحرية السياسية.
لقد أظهرت الأحداث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية علاقة جديدة مختلفة بين الحريتين الاقتصادية والسياسية؛ حيث أن التخطيط الاقتصادي الجماعيّ قد تعارض فعلاً مع الحرية الفردية، لكنه في بعض الدول على الأقل لم ينتهِ الأمر بقمع الحرية بل بتحوّل السياسة الاقتصادية فيها. وتقدم بريطانيا مرة أخرى المثال الأبرز على ذلك: ولربما كانت نقطة التحوّل فيها تكمن في نظام “ضبط الالتزامات” الذي وجد حزب العمّال من الضروري فرضه—على الرغم من المخاوف الكبيرة—لتنفيذ سياسته الاقتصادية. وإن كان قد تم تنفيذه بالشكل الكامل لتضمن هذا القانون توزيعاً مركزياً للأفراد على المهن، الأمر الذي كان متعارضاً جداً مع الحرية الشخصية، بحيث أنه قد تم تنفيذه على عدد لا يذكر من الحالات، ثم تم إلغاؤه بعد أن كان ساري المفعول لمدة قصيرة فقط، وقد قاد إلغاؤه هذا نقلة واضحة في السياسة الاقتصادية تميزت باعتماد أقل على “الخطط” و”البرامج” المركزية من خلال تفكيك العديد من القيود، وعن طريق زيادة التركيز على السوق الخاصة. وقد حدث تحوّل مشابه في السياسة الاقتصادية في معظم الدول الديمقراطية الأخرى.
إن التفسير الأقرب لهذه النقلات في السياسة الاقتصادية هو النجاح المحدود للتخطيط المركزي أو فشله الكامل في تحقيق الأهداف المعلنة. ومن ناحية أخرى فإن هذا الفشل الذي يعزى في ذاته—لدرجة ما على الأقل—للمضامين السياسية للتخطيط المركزي ولانعدام الرغبة في متابعة منطقه عند تنفيذه، يتطلب وطئاً شديداً على الحقوق الخاصة المحفوظة. ومن المحتمل أن تكون هذه النقلة مجرد صدعاً مؤقتاً في الاتجاه الجماعيّ لهذا القرن؛ وحتى إن كان كذلك؛ فإنه يوضح العلاقة الوطيدة بين الحرية السياسية والأنظمة الاقتصادية.
إن الدليل التاريخي لوحده لن يكون مقنعاً بشكل كافٍ، ولربما كانت تلك صدفة محضة بأن حدث انتشار الحرية في الوقت ذاته مع نمو المؤسسات الرأسمالية والسوق الحر، فلماذا يجب أن تكون هناك علاقة بينهما؟ وما هي الروابط المنطقية بين الحريات الاقتصادية والسياسية؟ من خلال البحث في هذه التساؤلات سوف نمعن النظر أولاً في السوق كعنصر مباشر للحرية، ومن ثم سنتناول العلاقة غير المباشرة بين أنظمة السوق والحرية السياسية، وكنتيجة ثانوية لذلك ستكون بالتوصل إلى موجز للأنظمة الاقتصادية المثالية في مجتمع يتمتع بالحرية.
كليبراليين؛ إننا نتخذ حرية الفرد أو ربما العائلة كهدف نهائي لنا في الحكم على الأنظمة الاجتماعية. إن للحرية كقيمة ضمن هذا المفهوم علاقة بالروابط المتبادلة بين الناس، وليس لها أيّ معنىً مهماً كان لروبنسون كروزو على جزيرة معزولة—من دون غلامه فرايدي—حيث أن كروزو على جزيرته تلك عرضة ﻠـ “التقييد”، ويمتلك “سلطة” محدودة، ولديه فقط عدد محدود من الخيارات، لكن لا توجد عنده مشكلة الحرية بالمفهوم الذي نعنيه بنقاشنا هذا. وبشكل مماثل، في مجتمع ما ليس للحرية علاقة بما يفعله المرء بحريته، فهي ليست بصفة أخلاقية شاملة لكافة الجوانب. وبالفعل؛ فإن هدفاً أساسياً للليبرالي هو ترك المسألة الأخلاقية للفرد ليتصارع معها. إن المسائل الأخلاقية الهامّة “حقاً” هي تلك التي تواجه الفرد في مجتمع حرّ: ما الذي يجب عليه أن يفعله بحريته، وبالتالي فإن هنالك مجموعتان من القيم سيؤكد الليبرالي عليها: القيم المتعلقة بالعلاقات بين الناس، والذي هو السياق الذي يحدده من خلاله الأولوية الأولى للحرية، والقيم ذات الصلة بالفرد في ممارسته لحريته، والذي هو مجال الأخلاقيات والفلسفة الفردية.
يصوّر الليبرالي البشر على أنهم كائنات ناقصة، ويعتبر مسألة النظام الاجتماعي كونها مشكلة سلبية متمثلة في منع “الأشرار” من التسبب بالأذى بالقدر ذاته من تمكين “الأخيار” من عمل الخير، وبالطبع فإن “الأشرار” و”الأخيار” قد يكونوا الأشخاص ذاتهم وذلك اعتماداً على من يقوم بالحكم عليهم.
إن المشكلة الأساسية للنظام الاجتماعي هي كيفية تنسيق النشاطات الاقتصادية لأعداد كبيرة من الناس؛ فحتى في المجتمعات الرجعيّة نسبياً لا بدّ من تقسيم شامل للعمل والتخصص في الوظائف من أجل الاستغلال الفعّال للموارد المتوفرة. أمّا في المجتمعات المتقدمة فإن المعيار الذي يجب أن يكون عليه النظام من أجل الاستغلال الأمثل للفرص التي يقدمها العلم والتكنولوجيا الحديثة هو أكبر بكثير. ففي الواقع ينخرط الملايين من الناس في توفير الخبز اليومي لبعضهم البعض، ناهيك عن سياراتهم السنوية. إن التحدي الذي يواجهه المؤمن بالحرية هو التوفيق بين اعتماد الناس بعضهم على بعض بالشكل الكبير هذا وبين الحرية الفردية.
يوجد هنالك بشكل أساسي طريقتان للتنسيق بين النشاطات الاقتصادية لملايين الناس: إحداهما هي التوجيه المركزي المتضمن استخدام القهر أي تقنية القوة العسكرية والدولة الديكتاتورية الحديثة. أما الطريقة الثانية فهي التعاون الطوعيّ للأفراد، أي تقنية ميدان السوق.
إن إمكانية التنسيق من خلال التعاون الطوعي يعتمد على القضية الأساسية—والتي على الرغم من ذلك كثيراً ما لا تؤخذ بعين الاعتبار—بأن ينتفع كلا الطرفين في المعاملات الاقتصادية منها، شرط أن تكون الصفقة اختيارية من كلا الجانبين ومعلن عنها.
لذلك يمكن للتبادل التجاري إحداث ذاك التنسيق دون إجبار. وكنموذج عمليّ لمجتمع منظم من خلال التبادل الطوعيّ هو اقتصاد تبادل المشاريع الحرة الخاصّة والذي قد أطلقنا عليه اسم الرأسمالية التنافسية.
في أبسط أشكاله يتألف مثل ذاك المجتمع من عدد من الأسر المستقلة—مجموعة من عائلة روبنسون كروزو إن جاز التعبير—بحيث تستخدم كل أسرة منها الموارد التي تحت تصرفها لانتاج السلع والخدمات التي تقوم بمبادلتها بسلع وخدمات تنتجها أسرٌ أخرى، وفق شروط مقبولة بشكل تبادلي لكل من طرفي الصفقة؛ وبذلك تتمكن من تلبية احتياجاتها بشكل غير مباشر من خلال انتاج السلع والخدمات للآخرين بدلاً عن الطريقة المباشرة في انتاج البضائع لاستخدامها الفوري الخاص بها. إن الحافز من وراء تبني هذا المسلك غير المباشر هو بالطبع الانتاج الزائد الذي وفره تقسيم العمل والتخصص في الوظائف؛ فكون أن للأسرة دوماً الخيار في الانتاج المباشر لذاتها؛ فإنها لا تحتاج الدخول في أية عمليات مبادلة إلا إذا كانت منتفعة منها، وهكذا لن يحدث أي تبادل ما لم ينتفع كلا الطرفين منه، وبذلك يتحقق التعاون من دون إجبار.
إن التخصص في الوظائف وتقسيم العمل ما كان ليحقق نجاحاً عظيماً لو كانت الوحدات الانتاجية الأساسية مقتصرة على الأسر. ففي المجتمع الحديث قد ذهبنا إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث قمنا بإدخال المشاريع المتوسطة بين الأفراد، في قدراتهم كمزودين للخدمات، وكونهم المشترين للبضائع. وبشكل مماثل، ما كان للتخصص في الوظائف وتقسيم العمل ليحقق النجاح إذا كان علينا الاستمرار في الاعتماد على مقايضة منتجٍ ما مقابل آخر، ونتيجة لذلك تم إدخال النقود كوسيلة لتسهيل عمليات التبادل، وليصبح في الإمكان تقسيم عمليات الشراء والبيع إلى نوعين.
بالرغم من الدور المهم الذي تلعبه المشاريع والأموال في اقتصادنا الفعليّ، وبالرغم من المشاكل الكثيرة والمعقدة التي تثيرها تلك المشاريع والأموال؛ فإن السمة الرئيسية لتقنية السوق في تحقيق التنسيق تظهر بشكل تام في الاقتصاد التبادلي البسيط الذي لا يشتمل على مشاريع ولا على أموال؛ بحيث أنه في مثل ذاك النموذج البسيط—وكذلك في الاقتصاد المعقد لتبادل الأموال والمشاريع—يكون التعاون فردياً واختيارياً بشكل تام بشرط: (أ) أن تكون المشاريع خاصة بحيث تكون الأطراف النهائية المتعاقدة أفراداً؛ و(ب) أن يكون الأفراد أحراراً بشكل فعال في الدخول أو عدم الدخول في أية عمليات تبادلية بعينها، وبذلك تكون كل صفقة اختياريةً بشكل تامّ.
إنه من السهل بكثير وضع هذه الشروط بلغة عامة بدلاً عن شرحها بالتفصيل، أو بدلاً عن التخصيص بدقة تلك الأنظمة المؤسساتية الأكثر فاعلية في المحافظة عليها. وبالفعل، فإن الكثير مما كتب في الاقتصاد التطبيقي يهتم بهذه التساؤلات على وجه الخصوص. إن الضرورة الأساسية هي المحافظة على القانون والنظام لمنع القهر الجسدي على أي فرد من الأفراد من قبل آخر، وكذلك فرض تعاقدات يتم الدخول فيها اختيارياً؛ وبالتالي إعطاء حرية التصرف بالمال للخاصة. بالإضافة لذلك؛ فإنه لربما تظهر المشكلات الأكثر صعوبة بسبب الاحتكار—الذي يثبط الحرية الفعالة عن طريق حرمان الأفراد من خياراتهم في تبادلات تجارية بعينها—وبسبب “تأثيرات الجوار” والتي هي التأثيرات على الطرف الثالث الذي هو من غير المناسب تكليفه أو مكافأته.
طالما أنه تمت المحافظة على الحرية الفعالة في التبادل التجاري، فإن السمة الرئيسية لنظام السوق للنشاط الاقتصادي ستكون منع الفرد من التدخل بشؤون الآخر فيما يتعلق بمعظم نشاطاته: فيُصان المستهلك من القهر من قبل البائع بسبب وجود باعة آخرين يستطيع التعامل معهم، ويُصان البائع من الإجبار من قبل المستهلك بسبب وجود مستهلكين آخرين في إمكانه البيع لهم، ويُصان العامل من أن يقهره صاحب العمل بسبب توفر غيره يستطيع العمل عندهم، وهلم جرا، بحيث يحقق السوق ذلك بطريقة موضوعيّة وبدون سلطة مركزية.
وفي الحقيقة؛ فإن أحد الأسباب الأساسية لمعارضة الاقتصاد الحرّ هو على وجه الخصوص أداؤه لهذه المهمة بفاعلية؛ فهو يقدم للناس ما يرغبون به بدلاً عمّا تعتقده جماعة محددة بالذي يجب عليهم أن يرغبوا به، وإن معظم الآراء المعادية للسوق الحرة مبنية على عدم إيمان بالحرية ذاتها.
إن وجود السوق الحرة لا يلغي بالطبع الحاجة إلى الحكومة؛ بل على العكس من ذلك فإن للحكومة دور أساسيّ كمنبر يحدد “قواعد اللعبة” وكحكمٍ يفسّر ويفرض القواعد المتفق عليها. والذي يقوم به السوق هو تقليل مجال المسائل التي يجب البتّ فيها من خلال الوسائل السياسية؛ وبالتالي التقليل من مدى الحاجة إلى الحكومة للمشاركة بشكل مباشر في اللعبة. إن الصفة البارزة للعمل من خلال القنوات السياسية هي أنها تميل إلى الحاجة أو إلى فرض خضوع كبير. ومن جهة أخرى، تكمن الفائدة العظمى للسوق بأنها تسمح بتنوع كبير. إنها—بالمفهوم السياسي—نظام تمثيل نسبيّ، أي نظام انتخابي تمنح الجماعات والأحزاب السياسية بمقتضاه مقاعد في البرلمان تتناسب وقوتها الشعبية أو قوتها الاقتراعية الفعلية، بحيث يستطيع كل شخص بالتصويت للون رباط العنق الذي يريده والحصول عليه—إن جاز هذا التعبير—وليس عليه رؤية اللون الذي ترغب فيه الأغلبية ومن ثمّ إن كان من ضمن الأقلية فعليه الاستسلام.
إن هذه هي خاصية السوق التي نشير إليها عندما نقول بأن السوق يوفر حرية اقتصادية؛ لكن لهذه الصفة أيضاً مضامين تذهب إلى أبعد بكثير من المفهوم الضيق للاقتصاد. إن الحرية السياسية تعني انعدام قهر الفرد من قبل أنداده. والخطر الرئيسي على الحرية هو امتلاك القوة على القهر، وكونها في يد الملك أو الديكتاتور أو حكم الأقلية أو أغلبية آنية. وتتطلب حماية الحرية التخلص من مثل ذاك التمركز للسلطة على أكبر قدر ممكن، ونشر وتوزيع أية سلطة ليس بالإمكان إلغاؤها—أي إيجاد نظام من نقاط الضبط والتوازن. وبتخليص نظام النشاط الاقتصادي من سيطرة السلطة السياسية، سيتخلص السوق من هذا المصدر للسلطة القهرية، ويمكن ذلك على أن تشكل القوة الاقتصادية مصدر ضبطٍ على السلطة السياسية بدلاً من كونها تعزيزاً لها.
إنه من الممكن نشر السلطة الاقتصادية بشكل واسع، ولا يوجد قانون حماية يجبر على أن يكون نمو مراكز جديدة للقوة الاقتصادية على حساب المراكز القائمة. من جهة أخرى، فإن السلطة السياسية أكثر صعوبة في إبطال مركزيتها، بحيث أنه من الممكن أن تتواجد العديد من الحكومات الصغيرة المستقلة عن بعضها البعض، ولكنه يصعب جداً الابقاء على العديد من المراكز الصغيرة المتكافئة للسلطة السياسية ضمن حكومة واحدة كبيرة، أكثر منه من تواجد العديد من المراكز للقوة الاقتصادية ضمن اقتصاد واحد كبير. ومن الممكن أن يتواجد العديد من أصحاب الملايين ضمن اقتصاد واحد كبير، ولكن هل بالإمكان تواجد أكثر من قائد واحد فذ حقاً، أي شخص واحد تتوجه إليه طاقات وحماسة أبناء بلده؟ إن حصلت الحكومة المركزية على السلطة فمن الأرجح أن يكون ذلك على حساب الحكومات المحلية. يبدو أنه يوجد هناك شيء كمجموع ثابت للسلطة السياسية ليتم توزيعه، وبناء على ذلك، إن تم ضم السلطة الاقتصادية إلى السلطة السياسية فإن التمركز يبدو حتمياً على الأغلب. من جهة أخرى، إن تم الابقاء على السلطة الاقتصادية في أيدٍ غير تلك التي تمتلك السلطة السياسية، فإنها ستعمل كنقطة ضبط وفحص للسلطة السياسية.
إن قوة هذه المناقشة النظرية ربما يمكن توضيحها بالشكل الأفضل من خلال الأمثلة. دعنا نتناول أولاً مثالاً فرضياً قد يساعد في توضيح النقاط الأساسية للموضوع، ومن ثم سنتناول بعض الأمثلة الحقيقية من التجارب الراهنة والتي نوضح من خلالها الطريقة التي تقوم بها السوق بالمحافظة على الحرية السياسية.
إن أحد سمات المجتمع الحرّ هي بالتأكيد حرية الأفراد في تأييد ونشر أي تغيير جذري في بنية المجتمع بشكل صريح طالما كان هذا التأييد مقتصراً على الإقناع ولا يتضمن استخدام القوة أو أية أشكال أخرى من القهر. إنها من علامات الحرية السياسية لمجتمع رأسمالي بأن يستطيع الناس تأييد الاشتراكية بصراحة والعمل لصالحها. وبشكل مماثل، ستتطلب الحرية السياسية في مجتمع اشتراكي بأن يكون الناس أحراراً في تأييد إدخال النظام الرأسمالي إليه. فكيف بالإمكان حماية والمحافظة على حرية تأييد الرأسمالية في مجتمع اشتراكي؟
من أجل أن يقوم الناس بتأييد أي شيء لابد في المرتبة الأولى أن يكونوا قادرين على كسب عيشهم، وهذا يثير مقدماً مشكلة في المجتمع الاشتراكي، حيث أن جميع الوظائف هي تحت السيطرة المباشرة للسلطات السياسية. وسوف يتطلب الأمر نكراناً للذات—الذي برز صعوبته من خلال التجربة في الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية في مشكلة “الأمن” بين موظفي السلطة الفيدرالية—في سبيل أن تسمح حكومة اشتراكية لموظفيها تأييد سياساتٍ تتعارض مباشرة مع مذهب الدولة الرسمي.
لكن دعنا نفترض وقوع مثل هذا الفعل من نكران الذات، فمن أجل أن يكون تأييد الرأسمالية مؤثراً يجب أن يكون أنصاره قادرين على تمويل قضيتهم—لعقد اجتماعات عامة، وإصدار النشرات، وتمويل برامج إذاعية، وإصدار الصحف والمجلات وهلم جرا—فكيف باستطاعتهم جمع الموارد المالية لذلك؟ فلربما قد يكون في المجتمع الاشتراكي أناساً ذوي دخل مرتفع، وربما حتى مبالغ لرؤوس أموال ضخمة على شكل تعهدات حكومية وأمثالها، لكنه لابد أن يكون هؤلاء من كبار موظفي الدولة. إنه من الممكن تصوّر موظف اشتراكي صغير قادر على الاحتفاظ بعمله على الرغم من تأييده الصريح للرأسمالية؛ لكنه من السذاجة تصوّر كبار ضباط الاشتراكية يمولون مثل تلك النشاطات “الهدامة”.
إن الحلّ الوحيد للموارد المالية سيكون بجمع مبالغ صغيرة من عدد كبير من الموظفين الصغار، لكن هذا ليس بجواب واقعيّ؛ فلتحقيق هذا لابد مسبقاً من اقناع العديد من الأشخاص بذلك، ومشكلتنا بأكملها تكمن في كيفية البدء وتمويل الحملة من أجل هذا الهدف على الأخص. إنه لم يتم مطلقاً تمويل الحركات الراديكالية في المجتمعات الرأسمالية بهذه الطريقة؛ بل تم دعمهم بشكل نموذجي من قبل عدد قليل من الأغنياء الذين تم اقناعهم—من قبل فريدريك فاندربيلت فيلد، أو أنيتا مكورميك بلين، أو كورليس لامونت—في ذكر بعض الأسماء التي برزت مؤخراً، أو من قبل فريدريك إنجلز إذا عدنا إلى زمن أبعد من ذلك. إن هذا من دور عدم المساواة في الثراء في المحافظة على الحرية السياسية والذي قلما يتم الانتباه له، إنه دور الأنصار.
يتطلب الأمر في المجتمع الرأسمالي مجرد إقناع بعض الأغنياء للحصول على الأموال لترويج أية فكرةٍ كانت—بشكل مثير للاستغراب—ويوجد هنالك العديد من هؤلاء الناس الذين يشكلون بؤراً مستقلة للدعم. وبالفعل ليست هناك أية ضرورة حتى لإقناع الناس أو المؤسسات المالية التي تتوفر لديها الأموال الداعمة بوقع الأفكار التي سيتم ترويجها على الآذان، بل تكون الحاجة فقط بإقناعهم بأن ذاك الترويج قد يكون مثمراً مالياً، أي أن الصحيفة أو المجلة أو الكتاب أو أية وسيلة استثمار أخرى ستكون مربحة. فالناشر التنافسي—على سبيل المثال—لا يستطيع تحمّل تكاليف نشر نص بمجرد أنه مقتنع به شخصياً؛ بل يجب أن يكون مقياسه إمكانية أن يكون السوق كبيراً بالحد الكافي ليعود عليه بعائد مُرضٍ لاستثماره هذا.
وبهذه الطريقة يكسر السوق تلك الحلقة المفرغة ويجعل بالإمكان في النهاية تمويل مثل تلك المضاربات بأخذ مبالغ صغيرة من العديد من الأشخاص دون الحاجة في البداية إلى اقناعهم بذلك. ولا توجد مثل تلك الخيارات في المجتمع الاشتراكي؛ بل تكون الدولة فقط ممتلكة لكامل السلطة.
دعنا نتوسع في خيالنا ونفترض بأن الحكومة الاشتراكية على اضطلاع بهذه المسألة، وعلى أنها تتكون من أشخاص توّاقين لحماية الحرية؛ فهل من الممكن أن توفر الموارد المالية لذلك؟ ربما، لكنه من الصعب تخيل ذلك. إنها قد تشكل دائرة رسمية لتقديم العون المالي للدعاية الهدامة. ولكن كيف ستختار من ستقدم له العون؟ فإن تم دعم كل من يطلب ذلك ستجد نفسها سريعاً وقد نفذت منها الأموال، حيث الاشتراكية لا تستطيع إلغاء القانون الاقتصادي الأساسي بأن السعر المرتفع بقدر كافٍ يستدعي طلباً كبيراً. لو جعلنا تأييد القضايا الراديكالية مربحة بالقدر الكافي فسيكون دعم هذا التأييد غير محدود.
علاوة على ذلك، فإن حرية تأييد القضايا غير المرغوبة لا تتطلب بأن يكون مثل ذاك التأييد دون ثمن؛ بل على العكس من ذلك؛ لن يكون أي مجتمع مستقراً إن كان تأييد التغييرات الجذرية فيه غير مكلفٍ أو يلزمه الدعم القليل. إنه من المقبول تماماً بأن يقدم الأفراد تضحيات لتأييد القضايا التي يؤمنون فيها بإخلاص، وبالفعل، إنه من المهم أن تقتصر الحرية على هؤلاء الذين هم على استعداد لنكران ذاتهم، وإلا سوف تنحلّ الحرية إلى فجور وعدم مسؤولية. وإنه لأمر أساسي بأن تكون تكلفة تأييد القضايا غير المرغوبة مقدوراً عليها وليست ممنوعة.
إننا لم ننتهِ بعد، ففي مجتمع ذي سوق حرة يكفي توفر الدعم المالي، فمزوّدو الورق على استعداد لبيعه ﻠـ(ديلي ووركر) كاستعدادهم كذلك لبيعه ﻠصحيفة الوول ستريت جورنال. أمّا في مجتمع اشتراكي، لن يكون كافياً توفر الأموال؛ فعلى المؤيد الافتراضي للرأسمالية إقناع مصنع ورق حكوميّ ليبيعه له، وعليه اقناع المطبعة الحكومية لطباعة نشراته، ومكتب بريد حكومي لنشرها بين الناس، ووكالة حكومية ليستأجر منها قاعة يلقي فيها خطاباته، وهلمّ جرا.
ربما توجد هناك طريقة ما يستطيع المرء من خلالها التغلب على هذه الصعوبات وحماية الحرية في مجتمع اشتراكي، فلا يمكن أن نقول أن ذلك مستحيل تماماً. ولكنه من الواضح أنه توجد هنالك عقبات حقيقية لإقامة مؤسسات تحمي فرصة الانشقاق عن مذهب الدولة بفاعلية، وبالقدر الذي أعلمه فلا أحد من هؤلاء الذين كانوا متعاطفين مع الاشتراكية وفي الوقت ذاته مع الحرية قد كان حقاً على قدر هذه المواجهة، أو حتى قام ببداية جديرة بالاعتبار في تطوير الأنظمة المؤسساتية التي قد تسمح بتحقيق الحرية تحت لواء الاشتراكية؛ بل على النقيض من ذلك، فإنه من الواضح كيف أن المجتمع الرأسمالي ذي السوق الحرة يقوم برعاية الحرية.
إن مثالاً واقعياً بارزاً على هذه المبادئ النظرية هو تجربة ونستون تشيرشل: فمنذ عام 1933 حتى نشوب الحرب العالمية الثانية لم يُسمح له الحديث عبر الإذاعة البريطانية التي كانت بالطبع حكراً حكومياً تديرها هيئة الإذاعة البريطانية، على الرغم من أنه قد كان في هذه المرحلة شخصية قيادية بارزة في بلده، وعضواً في البرلمان، ووزيراً سابقاً في مجلس الوزراء، وكان يحاول جاهداً بكل وسيلة ممكنة إقناع أبناء بلده على أخذ خطوات جادة في وجه تهديدات ألمانيا الهتلريّة؛ إنه قد تم منعه من التحدث إلى الشعب البريطاني عبر الإذاعة لأن هيئة الإذاعة البريطانية كانت حكراً للحكومة وكان موقفه هذا “مثيراً للجدل”.
مثال بارز آخر ما ورد في اﻠتايم، عدد 26 كانون الثاني عام 1959، والذي كان يتعلق ﺒـ “تلاشي القائمة السوداء”. و تخبرنا قصة اﻠتايم:
[إن حفل تقديم جوائز الأوسكار هو أكبر احتفالية لهوليوود للكرامة الإنسانية، لكنه قد استبيحت تلك الكرامة قبل سنتين مضت عندما تم إعلان روبرت ريتش كأفضل كاتب عن فيلم “الشجاع”، ولم يتقدم أحد لاستلام الجائزة، حيث كان ذلك إسماً مستعاراً يخفي واحداً من بين 150 كاتب… قد دونت صناعة الأفلام أسماءهم على القائمة السوداء منذ عام 1947 للاشتباه بأنهم شيوعيون أو من رفاقهم المسافرين. لقد كانت تلك القضية مربكة بشكل خاص لأن أكاديمية الأفلام السينمائية كانت قد منعت أي شيوعيّ أو من أنصار التعديل الخامس من المشاركة في مسابقة أوسكار. وقد تم في الأسبوع الماضي وبشكل غير متوقع إعادة صياغة قانون الشيوعية ولغز هوية ريتش الحقيقية. لقد تبين بأن ريتش هو دالتون ترمبو، أحد العشر الأوائل من كتاب هوليوود، الذي رفض الشهادة في جلسات عام 1947 حول موقف صناعة الأفلام من الشيوعية. وقد صرّح المنتج فرانك كينج والذي أصرّ بشدة بأن روبرت ريتش كان “شاباً صغيراً ذا لحية من إسبانيا”: “إن علينا التزاماً تجاه مساهمينا بشراء أفضل النصوص التي نستطيع الحصول عليها، وقد جاءنا ترمبو بنص “الشجاع” وقد قمنا بشرائه.”… لقد كانت تلك في الواقع النهاية الرسمية لقائمة هوليوود السوداء، أمّا بالنسبة للكتاب الممنوعين من المشاركة فقد كانت النهاية غير الرسمية قبل ذلك بكثير. إن 15% على الأقل من أفلام هوليوود الحاليّة قد تم كتابتها وفق التقارير من قبل أفراد على القائمة السوداء. و قد ذكر المنتج كينج: “إنه توجد أشباح في هوليوود أكثر منها في مقبرة (فوريست لون)، ولقد استخدمت كل شركة في المدينة أعمال الأشخاص من على القائمة السوداء. إننا فقط أوّل من قام بتأكيد ما يعلمه الجميع.”]
قد يؤمن المرء—مثلما أفعل أنا—بأن الشيوعية ستدمر جميع حرّياتنا، وقد يعارض المرء هذا المذهب قدر استطاعته؛ ومع ذلك وفي الوقت ذاته، يؤمن كذلك بأنه في مجتمع حرّ لا يُحتمل منع فرد من عمل ترتيبات اختياريّة مع آخرين يبادلونه المنفعة بسبب أنه يؤمن أو يحاول ترويج الشيوعية، فحريته تشمل حريته في الدعوة إلى الشيوعية، وتشمل الحرية كذلك حرية الآخرين في عدم التعامل معه تحت تلك الظروف. لقد كانت قائمة هوليوود السوداء عملاً مناقضاً للحرية ويدمرها لأنه كان تآمراً يستخدم وسائل قسرية لمنع تبادلٍ اختياريّ. ولم ينجح ذلك لأن السوق على وجه الخصوص جعل الأمر مكلفاً في أن يحمي الناس مثل تلك القائمة. إن التشجيع التجاري—حقيقة أن للأشخاص الذين يديرون المشاريع حافزاً في كسب أكبر قدر ممكن من المال—قد قام بحماية حرية الأفراد الذين تم إدراجهم على القائمة السوداء بمنحهم شكلاً بديلاً لتوظيفهم، وكذلك بمنح الناس حافزاً لتوظيفهم.
لو كانت هوليوود وصناعة الأفلام مشاريع حكومية، أو لو كانت مسألة التوظيف في بريطانيا من شأن هيئة الإذاعة البريطانية لكان من الصعب تصديق بأن العشرة الأوائل من كتاب هوليوود أو أمثالهم قد وجدوا أماكن عمل لهم. وبشكل مماثل، فإنه من الصعب التصديق بأنه في ظل تلك الظروف لتمكن أشد أنصار الفردية أو المشاريع الخاصة—أو في الحقيقة أشد أنصار أية رؤية جديدة غير الرؤية السائدة—من إيجاد وظائف يعملون فيها.
مثال آخر على دور السوق في حماية الحرية السياسية ظهر من خلال تجربتنا مع مذهب المكارثية؛ فبعيداً كلياً عن ما تضمنه من مواضيع جوهرية، ووقائع التهم التي نسبت إليه، ما الحماية التي نالها الأفراد وعلى الأخص موظفو الدولة في وجه التهم غير المسؤولة والتحقيقات في شؤونٍ كان الكشف عنها مخالفاً لالتزاماتهم؟ إن لجوءهم للتعديل الخامس لكان مهزلة فارغة دون وجود بديل للتوظيف الحكومي لهم.
إن حمايتهم الأساسية كانت وجود اقتصاد السوق الخاصة التي استطاعوا من خلالها تحصيل عيشهم. وهنا أيضاً لم تكن الحماية مطلقة، فقد كان العديد من أصحاب العمل المحتملين من القطاع الخاص—سواء كانوا على خطأ أو صواب—غير راغبين في توظيف هؤلاء المُشهَّر بهم. وقد يكون السبب في ذلك بأنه كان هناك تبريراً قليلاً جداً للتكاليف المفروضة على العديد من الناس الذين لهم صلة بالموضوع أكثر منه للتكاليف المفروضة بشكل عام على الأشخاص الذين يؤيدون القضايا غير المرغوبة. لكن النقطة الأساسية هي بأن التكاليف كانت محدودة لكنها لم تكن ممنوعة، كما كان من الممكن أن تكون فيما لو كان التوظيف الحكومي هو الخيار الوحيد أمامهم.
إنه من الجدير بالملاحظة بأن جزءاً كبيراً بشكل غير متكافئ من الناس الذين لهم صلة بالموضوع قد توجهوا بوضوح إلى الأقسام الاقتصادية الأكثر تنافسية—كالمشاريع الصغيرة، والتجارة، والزراعة—حيث أن السوق أقرب ما يكون إلى السوق الحرة المثالية. فلا أحد يشتري الخبز وهو يعلم فيما إذا كان القمح الذي صنع منه قد تم زراعته من قبل شيوعي أو جمهوري، أو دستوري أو فاشي، أو—بقدر ما قد يكون له علاقة بالموضوع—من قبل زنجي أو شخص أبيض. ويوضح هذا كيف يفصل السوق بطريقة موضوعية النشاطات الاقتصادية عن الآراء السياسية ويحمي الأفراد من التمييز الجائر بينهم في نشاطاتهم الاقتصادية لأسباب لا علاقة لها بإنتاجيتهم، سواء كانت هذه الأسباب متعلقة بآرائهم أو لونهم.
وكما يقترحه هذا المثال، فإن أكثر الجماعات في مجتمعنا التي يُراهن عليها في حماية وتعزيز الرأسمالية التنافسية هي تلك الجماعات الصغيرة التي قد تصبح بسهولة هدفاً للريبة والعداوة من قبل الأكثرية: كالزنوج، واليهود، والأجانب، في ذكر الحالات الأكثر وضوحاً فقط. ومع ذلك؛ وبشكل غريب، فإن خصوم السوق الحرة—الشيوعيين والاشتراكيين—قد تم تجنيدهم بطريقة غير متكافئة من بين تلك الجماعات؛ فبدلاً من إدراكهم بأن وجود السوق الحرة قد قام بحمايتهم من مواقف الآخرين من أبناء بلدهم، إنهم ينسبون هذا التمييز المتخلف للسوق ذاتها.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 13 أيار 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018