شؤون سياسية

peshwazarabic3 مارس، 20110

هذه مرحلة تحول تاريخية لم يعرف شرقنا العربي مثلها منذ زمن الاستقلال عن الاستعمار. لهذا تمثل استقلالاً ثانياً يؤسس لحضارة عربية أكثر توقداً وأقل استكانة، أكثر تساؤلاً وأقل تبعية، أكثر ديمقراطية ورفضاً للظلم وأكثر تحرراً وتمسكاً بالكرامة الإنسانية.....

نوح الهرموزي3 مارس، 20110

لقد أثبتت الثورتان المجيدتان أن هذه الشعوب كانت تغلي فوق صفيح ساخن وتعيش مرحلة ما قبل العاصفة. العاصفة التي دمرت سفينة القبطان مبارك، وهناك سفن عربية أخرى تبدو كبيرة ومتعالية ولكن تسير بمحركات إما انتهت صلاحيتها أو تدور في هياكل غير مزيتة.....

peshwazarabic1 مارس، 20110

لا يستقيم مبدأ المشروعية لدى المحكمة إلا باعتبار الدولة التي يتوافر لكل مواطن في كنفها الضمانة الأولية لحماية حقوقه و حرياته، ولتنظيم السلطة و ممارستها في إطار من المشروعية، وان هذه الضمانة يدعمها القضاء من خلال استقلاله وحصانته لتصبح القاعدة القانونية محورا لكل تنظيم، وحدا لكل سلطة ورادعا ضد العدوان....

إدريس لكريني24 فبراير، 20110

إذا كانت النخب السياسية قد أسهمت بشكل ملموس في الدفع بعدد من المجتمعات نحو تحقيق الديمقراطية والتطور والتنمية، فإن الأوضاع السياسية داخل الأقطار العربية، تعكس الحالة المتردية التي تعيشها النخب السياسية في مختلف هذه الأقطار نتيجة لعجزها عن قيادة أي تغيير أو إصلاح....

peshwazarabic22 فبراير، 20110

لكل إنسان، لكل مجتمع هويته تعبر عن خصائصه مع ما يحمل من طابع الخصوصية لهذا الفرد أو المجتمع أو ذاك، وهذا الأمر سبق أن أكده ابن خلدون عندما يقول: (لكل شيء طبيعة تخصه) لكن ما ينبغي قوله هنا هو أن هذه الهويّة رغم خصوصيتها غير ثابتة، ولا تبقى على حال واحدة، فهي في تبدّل وتغيّر وتطوّر مستمر من مرحلة اجتماعية إلى مرحلة أخرى، والإنسان أكثر تطورا من سواه، فهو يختلف عن سائر الكائنات الأخرى على وجه البسيطة من نبات أو حيوان أو جماد في هذه المزية..فالإنسان هو سيرورة من التفاعلات الكثيرة من وعي وإرادة وثقافة وعلاقات وصراعات ومؤثرات كثيرة ..إلخ لهذا نقول هنا علينا أن نتفق أولا من إن الإنسان مخلوق اجتماعي يولد ويحيا في بيئة اجتماعية ما، فهويته بالتالي تتغير وتتطور بتغير وتطور المجتمعات تاريخيا، فليس هناك هوية ما دائمة وثابتة لا للفرد ولا للمجتمع، بل تكون هذه الهوية بطبيعتها الخاصة منفتحة لخصوصيات أخرى تغتني بها جراء التواصل والترابط والعلاقات وأيضا التلاقح معها، دون تغافل ربما عن عناصر أو عوامل أخرى تساهم بهذا القدر أو ذاك في بلورة الشخصية الفردية والمجتمعية، وبهذا فالشخصية الفردية والخصوصية المجتمعية في تغير وتجدد دائمين..
جاء البحث عن الهوية في أسئلة رواد النهضة، وما زال السؤال ذاته مطروحا إلى اليوم، وهذا دليل أكيد على أن الهوية كانت وما زالت تعيش حالة أزمة دون وضوح، فلم يزل المجتمع العربي يعاني من التمزق والتخلف، فلا ثقافة يمكن أن يتحصن خلفها المرء، ولا تنمية اجتماعية أو اقتصادية تذكر، وما زالت أحزمة الفقر تطوّق أعدادا هائلة من البشر، وهنا غير مجد المباهاة بالأجداد والغناء بالتراث، فهذي الحال كمن يقف على أطلال دارسة ينشد معلقة امرئ القيس (قفا نبك….)
إن الميراث القديم ينبغي أن يتم إشباعه فهما ودرسا ومن ثم البناء عليه بعقلانية ووعي وجسارة، دون اعتباره سقفا نتطلع عليه محسورين دون التفكير بتجاوزه، فالماضي المجيد لن يعود وبالتالي ينبغي أن يكون حافزا للاختراقات لا مثبطا للهمم، ومبعثا للبكاء، لا بد من الانفتاح لحاضرنا الضاج بمسائل عديدة، إننا اليوم بأمس الحاجة إلى فكر حر نقدي عقلاني تنويري، به نعالج الواقع، نعالج الأزمة، ونستشرف بالتالي المستقبل، لا بد من امتلاك المعرفة، لا بد من حرية في الفكر وقبول الاختلاف، لا بد من معركة تنوير العقل، وتحديث الواقع، لا بد لنا من تجاوز الأبنية المشيدة في الواقع العربي بمختلف المؤسسات الثقافية والتعليمية والإعلامية، وفي سائر المجالات أو المنظومات الأخرى من سياسة واقتصاد ومجتمع…
منذ حملة نابليون على مصر في أواخر القرن الثامن عشر، وإصلاحات محمد علي في القرن الذي تلاه، جاء الاحتكاك والصدمة بين الواقعين، العربي المتخلف، والغربي المتحضر، بين ثنائية التحضر بمنجزات علمية في المجتمع والاقتصاد والتقانة يضاف إليها الاستعمار الغربي، وبين التخلف والتبعية العربية.. حتى بعد أن تم التحرر وتحقق الاستقلال بقيت التبعية هي السارية للفروق الكبيرة بين العالمين الغربي والعربي..الفكر الغربي كما لاحظنا وتابعنا جمع بين، التقدم الحضاري والعدوانية، بهذا الصدد نقول وبصراحة، لا يمكن لنا المشاركة في معركة الحضارة إلا إذا ما تغلبنا على ترددنا وتقاعسنا وفكرنا الراهن، لابد أولا من وعي واقعنا ثم السعي الحثيث لتغييره وتطويره وتجاوزه نحو واقع أفضل..
بعد أن تم الجلاء وتحقق الاستقلال، جاءت الصدمة ثانية وهذه المرة من أنظمة وطنية استبدادية ذات الطابع المملوكي بتعبير المفكر محمود أمين العالم، حيث جاء التحرر لجما للتنمية المجتمعية، وهيمنة للفكر السلفي، وزعيقا للفكر القومي المفعم بالمشاعر الطفولية الجياشة، ومن خلفه اليسار بالطوق السوفييتي، لتنتهي هذه الهبّة السلفية والقومية بهزيمة حزيران..
لهذا جاء من يقول إن الفكر العربي المعاصر هو امتداد لأصول الفكر الفقهي، فقد تعددت أنماط الحكم، فأخذ الطابع الديني السطحي هنا، والقومي من حيث الشكل هناك، مع تلوينات يسارية، وأيضا الحكم مع نزوع طائفي، أو ربما راود بعضهم الشكل الخلافي (الخلافة) في الحكم الوراثي دون صحابة، مع جند من الموالاة والحجّاب، وثروة متدفقة معينها لا ينضب، وأفلح النظم من استمالة نخب ثقافية لتكون أبواقا تسوغ لها كل ارتكاباتها، وتشرعن للنظم ما هي عليها من أشكال الحكم، أي تضفي على الحكم طابع الشرعية، فظل النظام هنا يجتر ليعيد إنتاج الوعي السائد ويستمر الماضي في الحاضر، وفي هذا الإطار راحت النظم العربية المختلفة تعمد لفرض شكل من الفكر على الواقع العربي عبر الدولة، فهي كعادتها حكمت بالعسكر، وأخذت تسن قوانين وتشريعات تصب كلها في اتجاه حصر السلطة بأيدي حفنة صغيرة، ويقسر الناس على التعود وقبول هذا الشكل من الحكم أو التحكم، وأيضا استخدمت وسائط وأبواقا مختلفة من الإعلام ومناهج التعليم وسواها من وسائل المعرفة ..
تمّ عقد ندوات عديدة من قبل أهل الفكر للإجابة على السؤال عن أسباب التخلف، وهل ثمة أزمة، والدعوة لتجديد الفكر في الوقت ذاته، فمنهم من رأى أنها أزمة حضارة، فرد من يقول بأنها أزمة البرجوازية الحاكمة، ومن أن الحاضر هو استمرار للماضي، وأزمة البنية الأيديولوجية للفكر القومي، مع وضعف التواصل العربي العربي والعلاقات البينية، فحجم التبادل التجاري والاقتصادي فيما بينها لا يتجاوز ثمانية بالمائة، ناهيك عن مسائل أخرى كغياب الديمقراطية وفقدان الحريات والتعدي على حقوق الإنسان، انعكس علاوة على ما ذكرناه على النمو الفكري سلبا، ودفعه نحو تبعية دائمة، فالتنمية عادة تتم في نظم تبنى وتؤسس عادة بمشاركة ديمقراطية واسعة، وتتمثل بتيارات سياسية متعددة تتمثل في السلطة.. دون أن ننسى أن التنمية تتأثر أيضا بواقع العالم وانعكاساته على الواقع العربي، جاء هذا التأثير واضحا لاسيما بعد انهيار المنظومة السوفيتية، وما حصل من خلل في التوازن العالمي وهيمنة القطب الواحد الأمريكي بالتوازي مع ثورة التقانة لاسيما في مجال المعلومات والاتصالات، والسعي لتهميش العالم الثالث، وترسيخ تبعيته واعتباره عالما هامشيا ليس سوى امتداد للعالم الرأسمالي..
ما المطلوب منا إذن عمله في الحالة الراهنة على صعيد مختلف التيارات السياسية.؟ أرى لزاما على كافة هذه التيارات تقوية النقد والعقلانية، والدعوة إلى الديمقراطية وتنمية المجتمع المدني والنضال ما أمكن لتحقيق وتوسيع دائرة الحريات العامة ويكون هذا بمواجهة الدولة كما قلنا بثقافة نقدية تبين أن تردي أوضاع المحكومين هو مسؤولية الدولة، وتترتب بالتالي على النخب الثقافية مسؤولية إيجاد مخرج للخروج من الواقع الراهن المزري والمأزوم، لا بد من بناء كتلة ثقافية مخلصة واعية، فالشعوب العربية من حقها مجاوزة التخلف، فالتخلف ليس قدر هذه الشعوب، لا بد من مواصلة السير على طريق التقدم والحرية والديمقراطية، والتمتع بكنوز خيرات أوطانها، والمساهمة في مسيرة التقدم نحو عالم أرحب وحياة، أفضل، وإنسان أوفر علما ومعرفة وتقدما..
‎© منبر الحرية،20 فبراير/شباط 2011

peshwazarabic22 فبراير، 20110

بقدر ما أبكى نظام الرئيس السابق حسني مبارك الشعب المصري حزناً، نجده وقد أبكاهم فرحاً عندما حققوا انتصاراً فتح الباب أمام حريتهم وانعتاقهم التاريخي. الديكتاتورية والقمع والبطالة والفساد لا تحدّ من المقدرة الفطرية والذكاء الجماعي للشعوب عندما تكتشف نقاط ضعف النظام فتطرحه أرضاً في لحظة منازلة تاريخية. هذه قصة متكررة عبر التاريخ المديد للأمم والحضارات، فالأنظمة تنهار بفضل ذلك التناقض الذي يتطور عبر الزمن بين حاجات المجتمع وأحلامه، وبين سطحية الأنظمة وأفعالها ومحدودية رؤيتها واحتكارها للسلطة (وهو الأهم)، وبين عزل بقية قوى المجتمع. وبينما تجدد الأنظمة الذكية نفسها بواسطة تداول السلطة وحماية الحريات ومواجهة الفساد، نجد أن الانظمة التقليدية تتآكل من دون أن تشعر أنها سائرة نحو لحظة اشتعال. وفي لحظة الصدام الأهم، تتخلى الطبقة الطفيلية المستفيدة الملتصقة بالنظام الذي يحتكر السلطة عن رئيس البلاد والنظام الذي فتح لها أبواب الاستفادة غير المشروعة، فتتركه وحيداً. تبين في مصر أن النظام هشّ ومفكك، لأنه بني على قواعد شكلية وأسس قسرية لا تتماشى والطبيعة الانسانية التي تحركها العدالة. في التاريخ الانساني، هوت الأنظمة التي تحتكر السلطة السياسية عند كل امتحان مصيري. ستبقى في الحاضر صرخة العدالة والحرية والحقوق وتداول السلطة قادرة على قلب أكثر الانظمة قوة بين ليلة وضحاها.
وكم من اختلاف بين الماضي واليوم، بين لحظة جيلي في سبعينات القرن الماضي وبين لحظة الجيل الراهن ٢٠١١، ففي السبعينات لم يكن هناك «يوتيوب»، ولا انترنت ولا «فايسبوك» ولا هاتف نقال يصور الحدث، كما هو حاصل اليوم. قصص تصفية المدن وحرقها وقتل ألوف الناس وتصفية المعارضين في كل مكان وبدم بارد سادت القاموس العربي في السبعينات. تلك كانت الطريقة المتبعة لترويض الشعوب العربية، ففي الكثير من البلدان العربية قصص تقشعر لها الأبدان، كما حصل إبان انتفاضة فاس في المغرب عام ١٩٩١، وحوادث شبيهة في ليبيا والعراق والجزائر وسورية (حماه وحمص) واليمن، وبالطبع في الحرب الأهلية الأردنية الفلسطينية عام ١٩٧٠، وفي الحرب الأهلية اللبنانية، والأهلية الجزائرية… وغيرها.
مع عام ٢٠١١، اختلف كل شيء، فالتنكيل يُنقل عبر العالم بالصورة والصوت عبر المحطات ومن خلال هواتف المواطنين. فضائح القتل تصل إلى بقية أبناء الشعب، بما فيه الجندي والضابط، مما يساهم في إسقاط الدعاية الرسمية بلحظة واحدة. في مصر مثلاً، فقد النظام نصف شرعيته عندما أرسل الجمال والقتلة والبلطجية ليضربوا المتظاهرين المسالمين، وفقد نصف شرعيته الآخر عندما رأى مزيداً من الناس ينضمون للثورة.
لقد دخل العرب في زمن الاستقلال الثاني. الاستقلال الأول كان في مواجهة الاستعمار، أما هذا الاستقلال، فهو تأكيد لمبدأ أن الشعب مصدر السلطات جميعاً وأساس الشرعية. أهداف هذا الاستقلال بسيطة: كل الناس يريدون الكرامة الإنسانية والمشاركة الحقة والحرية السياسية والشخصية وعملاً منتجاً وأماناً اقتصادياً وشعوراً بالمساواة والحقوق. وكل الناس يريدون القضاء على الفساد، لأنه يسرق عملهم وإنتاجهم، ويريدون قضاءا مستقلاً ويسعون لانتخاب مسؤوليهم وقادتهم، وكل الناس يريدون تغيير وزرائهم إن لم يحققوا لهم أهدافهم. المجتمعات العربية تبحث الآن عن زعماء يتصرفون بحرص على الناس. الشعارات القادمة في الحركة العربية بسيطة: حرية – عدالة اجتماعية – كرامة – حقوق – تداول السلطة… وفي بعض الحالات اسقاط النظام العاجز عن إصلاح حاله.
إن البلاد العربية في بداية طريق جديد تشكِّله مطالب شجاعة يحمل لواءها جيل شاب يسعى إلى فرض حالة تغيير شامل في بعض الأنظمة، بينما يسعى لإصلاح بعضها الآخر. الاصلاح يعني فرض تنازلات أساسية على النخب العربية الحاكمة تتنازل بموجبها عن احتكار السلطة. لكن رفض الاصلاح سوف يعني ثورات لا حد لطموحها، مما سيهوي بعدد من الأنظمة العربية. في المرحلة القادمة، سنعيش وسط عاصفة رملية عاتية، وبعد انتهاء العاصفة لن نكون نحن أنفسنا كما كنا قبلها، سنكون مختلفين روحاً وعقلاً.
عودة مصر إلى مصر هي بداية الطريق لعودة مصر إلى العرب. وهذا سيعني الكثير: فقد اكتشف المصريون، وقبلهم بأيام التونسيون، آليات التغيير، وأكدوا لبقية العرب أن هذه الآليات قابلة للتحقيق والتصدير. من تونس الى مصر وقع التصدير الأول للثورة، والآن سيقع التصدير الثاني من مصر الى ليبيا واليمن وغيرهما، فكل الثورات تصدِّر الثورة، وإن لم تصدر الثورة بصورة مباشرة ستفعل ذلك من خلال النموذج والأفكار والوسائل والطرق. سيصدَّر النموذج المصري والتونسي حتماً، إلاّ إذا قامت الأنظمة العربية بحماية نفسها من الثورة عبر القيام بإصلاحات كبيرة تغير المضمون وتطور الأوضاع وتسمع صوت الشارع. عودة مصر ستعني بروز كرة ثلج بألوان مختلفة من الأفكار والكتب والأبحاث والأفلام والمسلسلات والأدب والشعر والرواية والتعليم والمدارس. نحن على أعتاب ثورة ثقافية ستصاحب الثورة الشبابية وتمهد لعالم عربي ديموقراطي ومختلف.
لقد بدأ الشباب في العالم العربي بتجاوز نخبهم السياسية بكل أصنافها، وبتجاوز اللغة التقليدية للنخب. لقد قضى الكثير من الدول العربية على جميع الرموز والنخب الوسطية، وفَرَّغت الأحزاب المعارضة من قيمتها، وخلقت وضعاً يجعل الناس يتناقضون بعضهم مع بعض على أبسط المسائل الطائفية والعائلية والفئوية. هذه السياسات أقنعت المجتمعات بأنه لا بديل من النظم سوى الانهيار أو التطرف الاسلامي. الثورات الجديدة تقول لنا: هناك طريق ثالث سلمي ووسطي وديموقراطي، والخيار ليس بين النظام والتطرف الإسلامي والفئوية، بل بين النظام والقوى الشبابية والشعبية والديموقراطية.
ثقة جديدة تمتد الآن بين العرب من ليبيا ومن اليمن والبحرين الى سورية، ومن الأردن الى بقية الأقطار العربية، بما فيها إيران. لقد بدأت مرحلة تاريخية لها مميزاتها وخصائصها، ومعها ينبعث إنسان عربي تنتجه كرامة جيل. إننا نمر بعاصفة رملية كبيرة نسير وسطها، بينما نبحث عن طريقنا ونتأقلم مع تقلباتها ومفاجآتها. سنصل الى نهاية، وسنكون مختلفين، بعد انقشاع العاصفة وعودة النور الى بلادنا.
‎© منبر الحرية،18 فبراير/شباط 2011

peshwazarabic22 فبراير، 20110

تكتسب القدرة على التكيف الخلاق مع الموجات التاريخية أهمية قصوى، باعتبارها إحدى المهارات الأساسية للثقافة السياسية، وخصوصاً في لحظات الانتقال السريعة في منطقتنا العربية الحالية، التي يغلب فيها على الحركة الدولية قدراً هائلاً من التغير والدينامكية. إذ تبدو أدق الحسابات السياسية عاجزة عن التواؤم الكامل مع هذه المتغيرات وحركتها الدافقة، بما يجعلها في حاجة دائمة لإعادة النظر من أجل التكيف المرن والخلاق معها. وهو ما يقاس بدقة الاستشعار وعمق القراءة ومن ثم حسن التوجه وسرعته أيضاً، وإزاء ما يعتبر موجات تاريخية أو تحولات سياسية، على النحو الذي يعظم من الفرص التي تتيحها هذه التحولات، ويقلص من مخاطرها لتأتي محصلة عوائدها وتكلفتها إيجابية.
فمن علامات أزمة النخب الحاكمة في بلادنا أن بعض التصورات والأفكار تتحول إلى ثوابت في الأذهان والأفعال وكأنها تحولت إلى قوالب مقدسة. ويظل الكثير من النخب والقادة ينتهجون ويلتزمون ذات الثوابت والتي لم تعد تواكب التطورات الحاصلة بأي شكل من الأشكال . وفي ظل هذا الوضع، تزدهر في سماء المنطقة الكثير من الخطابات السياسية التي لا تضمن التوصيفات المتعددة في العلوم السياسية القدرة على الإحاطة بها، من شعوبية جديدة ودوغمائية ما بعد عصر الحداثة. وسواها من تلك التوصيفات التي تم تخصيصها لوصف سلوكيات سياسية بدائية، سادت وانتشرت في أزمنة أولى من ممارسة السياسة. والتعاطي معها بوصفها ترويضاً للمجتمعات الإنسانية، وليس باعتبارها فن الممكن وفن إدارة الأزمات والمجتمعات، للوصول إلى أفضل النتائج التي تؤمن حياة البشر.
فممارسة ذلك النمط من السياسة هو ما يمكن أن يطلق عليه مفهوم السياسة السهلة، بمعنى السياسة التي تفتقد للخيال القادر على إيجاد الحلول الممكنة للمشكلات التي تعاني منها مجتمعاتنا. فضلاً عن الإرادة التي تحول هذا الخيال إلى مشاريع ورؤى وتصورات، وفق تعاطي منهجي مستمر. وصولاً إلى التكييف العملي والعلمي لتلك المناهج، مع واقع الإمكانات المتاحة وواقع البيئة المحلية والدولية .
والإشكالية، هي في التوظيف السياسي البشع للأحداث من قبل بعض الأنظمة التي تعرف تماماً أنها لا تخسر شيئاً من الامتيازات التي حصلت عليها في بلدانها، ولن تترتب عليها أي التزامات. تمهيداً للابتزاز السياسي في لعبة السلطة، ودائماً بتحريض وتشجيع من الخارج. وأيضاً من البديهي، أن يتم استخدام المال السياسي الخارجي الآتي باسم التنمية والإعمار في هذا المضمار. خصوصاً أن مقدميه هدفهم نصرة طرف على طرف آخر. بحيث يصبح المال السياسي الآتي تحت شعار التنمية والإعمار، سبباً لمزيد من الانقسامات التي تأخذ إلى الفتنة. حيث يستخدم المال السياسي لزيادة مساحة الشقاق بين مكونات المجتمع وتحديداً السياسية منها.
فيجب علينا معرفة هذا النسق الجديد في تحديد ووصف طبيعة العلاقات العربيّة الإستراتيجيّة الدّاخليّة والخارجيّة، وهو عبارة عن المظهر السّياسي، المراد منه تحويل الأنظار نحو تقسيم الدّول العربيّة من جهة فيما بينها ومن جهة أخرى في وضعها في حالة صراع مع قوى إقليمية. لكن الأهمّ من ذلك هو إدراكنا بالعمق لهذا الواقع، واستيعاب عمق التحدّي، والتحلي بالرّؤية الإستراتيجيّة الكفيلة بدرء المخاطر والتحدّيات عن أوطاننا والمجتمعات من نخب ثقافيّة، فكريّة، سياسيّة، اقتصاديّة واجتماعيّة. فمثلاً مشروع الشرق الأوسط الكبير سيكون لزمن غير قصير وسيبقى الخيار الثقافي الدّولي الذي ترغب الدّول الكبرى في جعله برنامج عمل وتنفيذ لدول المنطقة على الرغم من كل تلك التغيرات والثورات في المنطقة العربية. وهو المشروع الذي سيصبح ضرورة دوليّة، سياسيّة، ثقافيّة، اجتماعيّة، اقتصاديّة وأمنيّة بامتياز في المنطقة الأكثر اشتعالاً في العالم للالتفاف على التغيرات والثورات المجتمعية الايجابية سواء في تونس أو مصر وكل ما يليها مستقبلاً.
فمنبع التناقضات جميعاً، هو هذه الغرابة الجوهرية والجذرية في انساق قد يرغب في فرضها على روحية المجتمعات التي فرضت فيه وعليه غصباً، فلا تستطيع أن تكون آمنة. الأمر الذي يعمق غربتها ويعزز استحالة القبول بها، ولا يؤثر العنف الذي قد تتصف فيه يوما ما باللاتناسب إلا على أن اللاتناسب هو جوهر هذا النسق، وببساطة هذه الأنساق غير مناسبة ومتناسبة في المنطقة. هذا أمر غير قابل للتقادم ولا المحو، لا بالقوة ولا بمزيد من القوة لا بالجنون ولا بالعقل. لأن المفاهيم باتت مضطربة من فرط سوء استخدامها بلا تحديد ولا تدقيق، ووفق وظيفة تنتمي إلى التفخيم اللفظي أكثر مما تهجس بالمضمون. تهرباً ربما من الفراغ السياسي الذي يقف أمامه جميع الفاعلين إلى أي تيار انتموا، فتصبح في أفضل الأحوال أدوات لحاجة صماء، لذلك قد يكون تعبير “تاريخي” في وصف المنعطف الذي تقف أمامه يصبح محرجاً، ولكن النظر إلى المشهد برمته يفرض مثل هذا التوصيف.
‎© منبر الحرية،16 فبراير/شباط 2011

peshwazarabic22 فبراير، 20110

القوة والدور الإيراني :
تعتبر القوة من أهم ركائز السياسة الخارجية، ولعل أخطرها، والقوة هدف أسمى تسعى الدول إلى تحقيقه لضمان مصالحها القومية ومكانتها في النظام الدولي، ومن هنا، يصعب فصل القوة عن المصلحة باعتبارها العامل الحاسم في مكانة الدولة بالنسبة للدول الأخرى، والقوة تشمل عناصر مادية وأخرى معنوية: الأولى تتجلى في القدرة الاقتصادية، والقدرة الحيوية (الأرض والإقليم)، والقدرة العسكرية، والقدرة السياسية التي تشمل العناصر المعنوية: الإرادة القومية، والأهداف الإستراتيجية، والقدرة الدبلوماسية. والقوة قيمة نسبية، وتخص الكيف وليس الكم فحسب، ومعرفة حقيقة قوة دولة منوط بمقارنتها بدول أخرى، فقوة أو ضعف أي لاعب دولي مرتبط بقوة أو ضعف لاعب دولي آخر. وقد ذكرنا فيما سبق، أنه يتعين على الدول أن يكون لها إستراتيجية لسياستها الخارجية متوائمة مع واقعها وقوتها ووزنها الحقيقي، وما تمتلك من موارد، وإلا أصبحت سياستها الخارجية وحركتها الدولية مجردة إلى حد كبير من العوامل الفاعلية، أو أن تكون قوتها غير مستغلة. وبالنسبة لإيران فهي تقبع على موقعٍ استراتيجي في غاية الأهمية، ويغص بالثروات الطبيعية، وتمتاز بموقع استراتيجي حساس، فهي متاخمة لشبه القارة الهندية، وتتمتع بموقع حساس آخر على بوابات الخليج العربي، ولديها من الموارد الاقتصادية الكبيرة والمتنوعة: الفحم، الغاز الطبيعي، خام الحديد، الرصاص، النحاس، المنجنيز، الزنك، الكبريت، وقابعة على احتياطات نفطية ضخمة، وتبلغ مساحتها 1.648 مليون كم2، منها 1.636 مليون كم2 يابسة، و12000 كم2 مياه، ويبلغ تعداد سكانها 70 مليون نسمة تقريباً. لذا، فإيران تمتلك من المقومات ما يؤهلها بأن تصبح قطبًا إقليمًا فاعلاً رغم أنها بلد نامي. وهكذا فإيران تحوز على عناصر القوة، وتستثمر فعلا هذه العناصر في اجتراح دور إقليمي، وتسعى لأن تختط لنفسها خطا سياسيا واستراتيجياً يرمي إلى أن تصبح قوةً إقليمية مهابة الجانب. ولكن المشكلة بالنسبة لإيران هي أنها تسعى إلى دور في غاية الطموح من قبيل أن تصبح قوة عظمى كما يصرح نجاد دائما، وبالتالي فثمة معيقات كبرى تواجه هذا الدور الطموح وذات الكلفة العالية. وقبل أن نوضح ذلك لا بد من الإشارة إلى أن الدولة القوية تمتلك سيطرة أكبر على مصائرها من الدول الأقل قوة، لجهة امتلاكها للوسائل اللازمة لتنفيذ سياسات ناجعة. لذا خاضت إيران معارك ضاربة في سبيل استقلالها السياسي، وقرارها الذاتي، لإدراكها أن التقدم في ظل التبعية مستحيل، وبالتالي لابد من قطع الروابط العضوية التي تجعل البلد تابعاً للخارج حتى يحدث التقدم والاستقلال. وجدير بالملاحظة أن إيران تتفوق في جميع عناصر القوة على الدول العربية فرادة، وهو ما يؤدي إلى اختلال التوازن الاستراتيجي بين العرب وإيران. تركيا هي الدولة الوحيدة التي توازن إيران في مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، وتتفوق عليها في أكثر من مجال. وهو ما يعني أن الدولتين القويتين في المنطقة هما إيران وتركيا بجانب إسرائيل، وهو ما ينبئ بمستقبل استراتيجي لإيران في المنطقة وفي إطارها الإقليمي، يعكس موازين القوة وحقيقة ما تملكه من عناصر القوة. ولكن نجاح دورها منوط في المقام الأول بعدم تعريض مصالح الكبار في المنطقة للخطر، وألا يتعارض هذا الدور مع مصالح القوى العظمى. وهذه شروط في غاية التعقيد والصعوبة بالنسبة لإيران، فالحصار والعزلة المضروبة عليها منذ عقود طويلة مرده هو عدم قبول إيران بذلك، ويبقى السؤال هو: هل تستطيع إيران باجتراح تركيب مناسب يحافظ على دورها ودور القوى الكبرى؟ أم أن ذلك من الصعب في ظل إيديولوجيا الجمهورية الإسلامية؟ هذا التوازن الدقيق والمعقد يمثل المحك على نفاذ واستمرارية سياستها الخارجية.
تحدثنا فيما سبق أن إيران تقبع فوق مصادر هائلة من الطاقة، تساهم في استمرار عجلة النمو الاقتصادي العالمي وخاصة الصيني والياباني والأوروبي. وتزود إيران الصين بالنفط والغاز بما قيمته أكثر من 70 مليار دولار تساهم في تشغيل أكثر من 2300 منشأة صينية.‏ وغيرها من الدول التي تزودها إيران بالغاز مثل الهند واليابان أوكرانيا وأوروبا أرمينيا واذربيجان وجورجيا وتايوان -كوريا الجنوبية، ناهيك عن شبكات وخطوط نقل الغاز والنفط التي تربط إيران بغيرها من الدول مما يخلق مصالح متبادلة يصعب التنازل عنها مستقبلا. من المؤكد أن كل ذلك يعطي إيران قوة ودوراً ونفوذاً في المنطقة. زد على ذلك إصرار إيران على الاستمرار في عملية اكتساب التقنية النووية وتطوير عملية تخصيب اليورانيوم على أراضيها، فنجاحها في ذلك يضيف إلى عناصر قوتها الشاملة، ما يؤثر في تطوير وتفعيل دورها الإقليمي، وهو ما يزيد الشعور لدى الجوار بتفاقم الخطر الإيراني، ويجعل إيران دولة محورية في أي مشروع لأمن الخليج وقوة مرهوبة الجانب مقابل ضعف الاختيارات الأمنية والسياسية العربية، ويزيد من الفجوة والتباعد بين النظم العربية وقاعدتها الشعبية، وتمسى هذه النظم جثة هامدة متقدمة في الاهتراء.
التصورات الذهنية المهيمنة على الطبقة الثيوقراطية:
إن المحلل لقوة إيران، والتصورات الذهنية عن الدور الإيراني الإقليمي والعالمي، يلاحظ أن هناك موارد تساهم في إنفاذ بعض هذه التصورات، وإيران تستثمر فعلا هذه الموارد في إنفاذ مشروعها. ولكن بالضرورة ثمة معيقات تواجهها. أهمها الفجوة بين تصورات الدور وإمكانات تنفيذه. نعم تتوفر لدى إيران إرادة سياسية قوية، وهي ترغب في لعب دور إقليمي وعالمي طموح، كما يكرر احمدي نجاد في المحافل الدولية، وهي ترغب أيضا في إنشاء نظام دولي متعدد الأقطاب، تكون فيه إيران قطبا دوليا محوريا يتحدى الهيمنة الأمريكية أو هيمنة القطب الواحد، ولكن هناك فرق بين الرغبة والحقيقة. فهناك إشكالية في هذا الصدد. فإيران لديها موارد تؤهلها للعب دور إقليمي ومحوري، ولكن بخصوص التصور والتمثلات( الإيديولوجيا الحاكمة) التي تؤثر بالضرورة في نظام السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية، يكتنفها قدرا كبيرا من الـمبالغة. فهي تعمل على تعظيم الذات وتضخيمها، وترسم لنفسها دورا يفوق دورها كدولة دنيوية يقودها بشرٌ، فهذه الشمولية في التصورات تتضمن بالضرورة الفراغ، فهي تفترض أن العالمَ فراغٌ تسعى إيران لملأه. ففي التصورات الشمولية تنعدم الحركة وتستدعي السكون، لأنها مقاربات ذهنية ناجزة ومكتملة، لا تفترض التعددية التي تتضمن الحركة والسيرورة. ناهيك عن نزعة التوسع القومي. وهكذا تعتبر إيران نفسها مركزا يجب أن يدور العالم من حوله. هذه المركزية، التي تحطمت مع تفكيكية دريدا، ومع “ميكروفيزياء السلطة عند فوكو” (معزو عبد العالي، مجلة مدارات فلسفية، العدد 13). القوة عند فوكو- وبالتبعية المكانة والهيبة والسلطة- لا مركز لها، فهي متعددة، أي لا يمكن اختزالها في شكل محدد وإضفاء المركزية أو القداسة عليها كما تفعل إيران، فالسلطة في كل مكان، وهي في حالة سيرورة بلا ذات. هذه المركزية نراها في تصريحات القيادة الإيرانية من نجاد إلى خامنئي، وهي مركزية تفترض أن إيران هي المقر الثابت الذي يتشعب منه الفروع، تنطلق منها الشعاعات إلى بقية العالم. أي أنها مكتفية بذاتها، لا تستمد أي شيء من الغير. خذ على سبيل المثال “نظرية أم القرى”، النظرية التي ترمي إلى جعل قم وطهران هما أم القرى بدلاً من مكة، أي مركز العالم الإسلامية، وعاصمة لكل المسلمين، وسيكون فيها قيادة العالم الإسلامي، لتتزعم الأمة بزعامة ولاية الفقيه. أو ما يصرح به الرئيس الإيراني احمدي نجاد، عندما تكلم في نيويورك في أيلول من العالم (2005) أن إيران ” أمة تمتلك تاريخا من الحضارة يرجع لآلاف السنين. ويدين لنا العالم بالكثير من القيم الأخلاقية والإنسانية. وما زلنا نمتلك القدرة الكامنة لقيادة العالم إلى تلك القيم الطيبة. والشيء الوحيد الذي نريده لتحقيق هذا الهدف ليس فهم أنفسنا ولكن الإيمان بها”. ويكفي الدخول إلى موقع وزارة الخارجية الإيرانية على الانترنت، سوف نلاحظ عبارات تزخر بتصوير مكانة إيران وعظمة حضارتها ومدى تميز الإيرانيون وتفردهم عن العالم والحضارات الأخرى، وهم دائما يعطون ولا يأخذون، عطاءٌ دائمٌ وبلا حدود، كأنهم شريان حياة الأمم الأخرى ومصدرها الروحي. هكذا يصورون أنفسهم. وهي تصورات ترمي إلى تعظيم الذات الإيرانية، والرفع من شأنها ومكانتها، وهي تجد مكانة لها في أذهان الإيرانيين. وتظهر بشكل جلي في مدى اعتزاز الإيرانيين بحضارتهم وثقافتهم مثل: “إن النهضة الإيرانية من مراكز الحضارة الإنسانية في العصور التاريخية في قارة آسيا والعالم و تخطي بموقع مهم”، و”تتبوأ إيران مكانة متميزة في الشرق الأوسط بل في العالم اجمع”، “وزاد من أهميتها موقعها الحضاري العريق على امتداد التاريخ” و”هذا قيّض لإيران بان تزخر بتجربة حضارية راقية جعلها معلما للتقدم إنسانيا وسياسيا وثقافيا علي المستوي الوطني والإقليمي والدولي”. وهي تشيد بدورها وبقدراتها وطاقتها في مجال قطاع الصناعات الثقيلة والانجازات العلمية والتنموية والتكنولوجيا، “الأمر الذي بوأ بلادنا مكانة متقدمة سياسيا واقتصاديا وثقافيا و سياحيا وجعلها محط أنظار دول المنطقة والعالم، ورقما صعبا في جميع المعادلات الإقليمية والدولية”. وحتى في مجال الأدب والشعر فإيران تعظم من قيمة آدابها وشعرها فنقرأ مثلا: “بأن الشعر الإيراني القديم منه والحديث قدم صورا مشرقة وخلاقة”، وهو شعرٌ مميزٌ فنقرأ أيضا أن “الشعر الفارسي(… ) حفز الإيرانيين على سکب إبداعاتهم الشعرية في قوالب خاصة انفردوا بها “. وهم يعتبرون أنفسهم “أنهم اغنوا الحضارة الإنسانية “.
في ضوء ذلك، من الواضح أن هناك وعيا إيرانيا فيما يخص هيبة وموقع ومنزلة إيران بين الأمم، ويظهر ذلك من خلال المفردات التي يستخدمها قياداتها المفعمة بالإشارات إلى المساواة وعدم المساومة في المكانة. فمثلا يقول الرئيس الإيراني احمدي نجاد: إن منع إيران من تخصيب اليورانيوم سيمثل حالة من “التمييز النووي” التي تفرضها “بعض الدول القوية التي تستخدم منهجا تمييزيا”. ويقول أيضا: ينبغي “وجود حقوق متساوية للشعوب والأمم في العلاقات الدولية”، وهذا يعني أن” الوصول إلى تقنية سلمية لإنتاج الوقود النووي لا يمكن تقييده بالبعض الذين يحرمون معظم الأمم منها ويقومون بتشكيل احتكارها اقتصادية، ويستخدمونها كأداة لتوسيع هيمنتهم”. هذه الحالة من الإشارة إلى عدم المساواة والتمييز ضد إيران، لا تميز القيادة الإيرانية الحالية، بل موجودة عند القيادة الإيرانية منذ زمن بعيد.
فقد جادل محمد مصدق، الذي انقلبت عليه وكالة الاستخبارات المركزية (C.I.A)، للتخلص منه ومن حكومته إثر تأميمه شركة النفط الانجلو-إيرانية، إن التأميم عمل مبرر لأن الملكية البريطانية للشركة تفرض شكلا من “العبودية الاقتصادية على أمة مضطهدة”. هذه التصورات والتمثلات، تجد مكانة لها في أذهان الجماهير الإيرانية التي تشير دائما إلى المعايير المزدوجة حول برنامج إيران النووي، والتي وصلت إلى حد انتهاك كرامة البلاد.
وفي أعقاب إطلاق قمرها الاصطناعي أوميد، أشارت الصحافة الإيرانية إلى أمر حرصت على إظهاره وهو “أن الأمر يعود إلى الولايات المتحدة كي تندم على أخطاء الماضي، وأن تقبل الحقيقة أن إيران أصبحت قوة عظمى ذات تطور علمي عظيم دون مساعدة من الغرب” وأشارت أيضا: “إن إطلاق القمر الصناعي والبرنامج النووي الذي يثير قلق العالم، فكانا في نظرهم مصدر فخر، ورداً على العقوبات الدولية المفروضة على إيران لإرغامها على كبح طموحاتها النووية”. وفي زيارته الأخيرة إلى نيويورك ألقى احمدي نجاد كلمته أمام قمة قادة الدول على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، هاجم فيه الرأسمالية العالمية، وأننا “بحاجة إلى العودة إلى الخطة الإلهية وفطرتنا التي من أجلها خلق الإنسان والعودة إلى الحكم العادل والمنصف”، ” وان ثمة نوعين من الإدارة، الأولى أمريكية ثبت فشلها، والثانية إيرانية يمثلها ميثاق قورش والتعاليم الإسلامية السامية”، و”أن بلاده أصبحت القوة العالـمية الوحيدة إلى جانب الولايات الـمتحدة الأميركية، وأضاف: إن العالـم يدرك أن هناك قوتين فقط تتمتعان بأقوى نفوذ في العالـم، وهما الولايات الـمتحدة وإيران”.
من خلال ذلك يتجلى كثير من الأمور أهمها أن الصورة الذهنية الضخمة، التي تقترب إلى حد الأسطورة (أو الخرافة) منها إلى الحقيقة. والمهم هنا، بعد هذا الاستطراد، هو أن هناك فجوة بين هذه التصورات (الصور الذهنية عن الذات وبالتالي الدور) وبين موارد إيران. وهذا يترتب عليه كثير من المعضلات التي تؤثر سلبا على نظام سياستها الخارجية.
ولكن يمكن أن نفترض أن إيران لديها مقومات كثيرة، وتستثمر فعلا هذه المقومات والإمكانات، ولكن ثمة معيقات تواجهها، أهمها الفجوة بين تصورات الدور وإمكانات تنفيذه. فإيران قوية بالنسبة لمن ؟ فهل توازن إيران قوة الولايات المتحدة الأمريكية أو حتى فرنسا أو إسرائيل؟
رابعا، الهيبة والدور الإيراني:
بخصوص محدد الهيبة في السياسة الخارجية الإيرانية، نلاحظ أن موضوع التنمية في إيران، وسعيها الحثيث للحصول على الهيبة، تركز على التقنيات العسكرية والتقنية أكثر من تركيزها على تطوير مؤسساتها الدستورية والسياسية، واحترامها للديمقراطية، والتعددية السياسية، وحقوق الإنسان، واحترام الاتفاقيات الدولية. كل ذلك يضمن لها احترام المجتمع الدولي، فجميعها تشكل عناصر للهيبة والمكانة، التي تمثل قضية محورية في نظم السياسة الخارجية، فالاحترام الذي يمنحه المجتمع الدولي لدولة ما من الدول، لا يكون إلى باستدخال هذه العناصر في بنيتها الدستورية والسياسة. فمن خلال ذلك تحوز الدولة على السمعة الدولية والمكانة الحسنة والمرموقة. وهذا ما يجعل للدولة هيبة. وتركيا خير مثال على ذلك، من خلال الموقف الأمريكي والأوربي بخصوص الاستفتاء التركي. فالديمقراطية أصبحت أيقونة العصر، وبدونها لا يمكن لدولة ما أن تحوز على الهيبة والمكانة. فالتحول نحو الديمقراطية، لا يكفيه أصدر دستور وإجراء انتخابات. رغم أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في 12 حزيران- يونيو 2009، تعد العاشرة التي تجرى في إيران منذ قيام الثورة، هو دليل على حيوية النظام السياسي الإيراني، إلا أن ما جرى بعد الانتخابات افقد النظام هذه الحيوية، ونال من سمعة وهيبة إيران أمام العالم. فقد شكك في نتائجها ونزاهتها ليس من قبل خصوم إيران فحسب، بل من النخبة الإيرانية ذاتها، ومن أقطاب النظام أنفسهم، ومن داخل المؤسسة الدينية التي اعترتها الفرقة والانقسام. ناهيك عن تقريع النخب الإيرانية بعضها بعضا، والاتهامات المتبادلة بالغش والفساد والتزوير. فضلا عن الاعتقالات للمعارضين وتعذيبهم. فقد فضحت الانتخابات النخب الإيرانية أيما فضيحة، وكشفت عيوب النظام الإيراني، وهو ما شكل نقطة ضعف خطيرة مست هيبة الدولة ومكانتها الدولية، ونال من حيوية النظام السياسي الإيراني، وهو ما له تأثيرات جمة على سياسة إيران الخارجية. وهكذا، إذا كان للحالة الديمقراطية في إيران أوجه، فإن بها أيضا قسمات للدكتاتورية، مثل وضع المرشد صاحب الصلاحيات الواسعة جدا، وسيطرة وتحكم مجلس صيانة الدستور في العملية الانتخابية باختيار الشخصيات المرشحة للانتخابات الإيرانية البرلمانية والرئاسية. فضلا عن تقييد صلاحيات رئيس الجمهورية. بلا شك كل ذلك ينقص كثيرا من الديمقراطية الإيرانية، والنموذج الإيراني.
كما أن المأزق الداخلي للنظام سيؤثر على أولوياته في الخارج، وسيجد النظام نفسه أمام صعوبات جمة في بلورة الإجماع الوطني حول سياسته الخارجية في الوقت الذي يحتاج إلى هذا الإجماع كمعين وسند قوي له في الدفاع عن سياسته، وبخاصة الملف النووي الإيراني، في ظل ما يحاك لإيران من تربص.
وبالتالي يمكن القول على رغم ثراء التجربة الإيرانية، إلا أن ما يمكن استخلاصه منها لا يصلح بالضرورة للتعميم خارج نطاقها، وبخاصة أن نظامها جاء طبقا لنظرية الإمامة في الفقه الشيعي، والتي تتلاءم مع الشخصية الشيعية وتراثها الفكري والحضاري وثقافتها السياسية، وهكذا فهي تعكس خصوصية الحالة الإيرانية فحسب. لذا فإن هذا النموذج لا يصلح للتطبيق خارج نطاق الخصوصية الإيرانية. وهذا يضعف من إمكانية أن تكون إيران كمركز للعالم الإسلامي أو “أم القرى” حسب التعبير الإيراني. وهذا بالتأكيد يشكل نقطة ضعف في النموذج الإيراني، ونقطة ضعف أخرى في سياستها الخارجية، ويجعل طموحها يستنزف مواردها في مشروع وهمي وحلم لا يمكن أن يطبق. منذ الثورة الإيرانية حتى الآن هل أنجز هذا الطموح؟ أما النجاحات الخارجية التي تحققت في هذا الجانب فقد تحققت بفعل ظروف طارئة وحالة الفراغ والإحباط اللتان تسودان في المحيط الجيوسياسي لإيران .
تكشف الحركة الخضراء عن تحديات مباشرة أمام هيمنة الطبقة الثيوقراطية، وتفسيرها لما هو مقبول أو غير مقبول من سلوك وحريات اجتماعية وحرية رأي وصحافة، وأنماط حياة مبتغاة، ناهيك عن العولمة وأثرها على النظام السياسي الإيراني. هذه المتغيرات والمتطلبات الموصوفة بالحداثية، هل ستخضع لتكييف إسلامي شيعي؟ خصوصا وأنها المرة الأولى التي تخضع فيها المسألة الدينية في إيران لإعادة نظر، بل التجرؤ على الإمام الخميني وحرق صوره ووسم خامنئي بالدكتاتور والمحفظين بالجمود والفساد، وهو ما يعني أن رياح التغيير أصابت العمق الإيراني في محاولة للتخلص من آثار الجمود والتشدد، والإفلات من الأصولية التي افتقرت إلى صياغة نموذج تنموي شامل ومستديم. تطالب الحركة الخضراء بالاهتمام بأولويات المجتمع المدني، والتنمية الداخلية على جميع المستويات، فهذه الاحتياجات التي كشفتها المعارضة الإيرانية، بحاجة من الطبقة الحاكمة أن تعطيها الأولوية القصوى من الدخل القومي والصادرات والواردات، كأحد مطالبها التي كُشف عنها النقاب. وعلى إيران أن تدرك الهيبة لا تتحقق في الحصول على السلاح النووي فقط، بل في تحقيق التنمية ودمقرطة النظام، ومواكبة العصر ومتطلبات الحداثة السياسية. عند ذلك ستحقق إيران بالفعل الهيبة والمكانة المرموقة، لا عن طريق تصريحات نجاد عن قيادة العالم والإدارة الإيرانية، أو تصدير النموذج الإيراني للخارج، فكل ذلك لا نفع من ورائه، بل يستنفذ القدرات والموارد الإيرانية. إن الانطلاق لا يتم مما يقوله نجاد والقيادات الإيرانية، وما يتوهمونه، ويتصورونه عن دور إيران في قيادة العالم الإسلامي، لا، بل يتم من الانطلاق من الفعل الواقعي، والعمل على تطوير نظام الحياة الواقعي. إن من الأجدى لإيران أن تبدأ من هنا أي من العالم الواقعي، الايجابي بتطوير النظام بما يتوافق مع حاجات العصر ومتطلبات الجماهير المحرومة. هذا الفعل الرشيد للنظام هو المادة هي التي تحقق لإيران الهيبة والمكانة، لا التصورات الوهمية. فلا يمكن أن يتعاطى العالم مع اللا موجود، ويتجاوز الوجود الكائن، وعلى إيران أن لا تخرج ذهنا عن هذا، إن أرادت التقدم.
الخاتــمة:
قدمنا، في هذه الثلاثية، قراءة في السياسة الخارجية الإيرانية مع تقييم هذه السياسة ومقارنتها بالدول العربية المركزية في المنطقة. وذلك من خلال منظور متكامل، بغية فحص كافة المحددات التي تلعب دورا في تسيير دفة السياسة الخارجية. ومن هنا يتبين أن إيران أصابت في الكثير من الجوانب، وحققت نجاحات لا يمكن إنكارها في ظل بيئة دولية شديدة التعقيد التي تقبع فوقها إيران. حيث ركزت سياستها الخارجية على مواجهة التحديات الخارجية عبر منظومة متكاملة من الإجراءات. ركزت على تطوير قدرات إيران، في مجال التسليح، فضلا عن تنشيط العمل في برنامجها النووي، وتنمية اقتصادها. من خلال سياسة خارجية قائمة على بناء شبكة من الروابط والتحالفات الإقليمية والدولية، مما حقق لها امتلاك قدرة أكبر في مواجهة التهديدات المختلفة. وهو ما عزز مكانتها الإقليمية، فضلا عن حماية مصالحها الإستراتيجية، واستقلالها على المستويين الإقليمي والدولي. وتتبع في ذلك سياسة تتسم بالهدوء والحذر وسياسة النفس الطويل، والعمل دون كلل بحيث تحافظ على الاستمرارية وعدم الانقطاع ومن ثم البدء من الصفر كما هو الحال في النظم العربية، بل بتراكم الانجازات ونقاط القوة، بحيث لا تغضب الولايات المتحدة الأمريكية، القطب المهيمن، إلى الحد الذي لا يمكن أن تطيقه هذه الأخيرة، من خلال الحيلولة دون وصول أو دفع التناقض معها إلى الذروة، طبقا لمبدأ إن شدت واشنطن رخت طهران. فضلا عن استغلال البيئة الدولية، والتراجع الأمريكي لطرح مشروعها ودفعه بخطوة إلى الإمام. وهكذا، أصحبت إيران على صعيد منطقة الشرق الأوسط قوة عسكرية واقتصادية وتقنية. ولكن كما قلنا سابقا فإن القوة في الكيف وليس في الكم فحسب. أي انه على الرغم أن إيران قوة إقليمية عسكرية واقتصادية وتقنية، إلا انه عند مقارنة ذلك بدول أخرى خارج منطقة الشرق الأوسط تفقد إيران قوتها، ويتجلى ضعفها. فمثلا، على صعيد القوة الاقتصادية، لا تقارن باليابان، أو الصين، أو نمور أسيا (من كوريا إلى تايوان) أو أوروبا بما فيها ألـمانيا، أو حتى تركيا. أما على صعيد القوة العسكرية، فإنها لا تقارن القوى بروسيا، أو بريطانيا، أو فرنسا. هذه الدول النووية، ذات المكانة الدولية، والتي تتمتع بحق الفيتو في الـمنظمة الدولية. وقس ذلك في موضوع التحول نحو الديمقراطية، ومفاهيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان، وغيرها من مفاهيم العصر.
إلى جانب ذلك ثمة إخفاقات تكتنف سياستها الخارجية أهمها التصورات الذهنية الكبرى التي تعتور الدور الإيراني. فلا تزال تهيمن على العقل السياسي الإيراني فكرة المركزية والشمولية، ففي الوقت الذي فيه تتفكك هذه المفاهيم، وتنتفي فيه فكرة المركز والحقيقة المكتملة، لا تزال إيران تؤمن بهما في عصر ما بعد الحداثة. ناهيك عن عجزها حتى الآن عن تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة للمجتمع الإيراني. وهو المحك الرئيسي في تقييمنا لنجاح أو فشل أية سياسة خارجية، هو نجاحها أو فشلها في تحقيق تنمية مستدامة لمجتمعها. وعليه فإن إيران بحاجة لإعادة صياغة سياستها الخارجية في تركيب خلاّق ومبدع يواكب مفاهيم العصر واحتياجات البناء في الداخل، وهي احتياجات كشفت عنها المعارضة الإيرانية مؤخرا. وعليه، إن البنية الدستورية والمؤسساتية لإيران تواجه تحديات كثيرة داخلية، أي من القوى المجتمعية والحراك الاجتماعي. ومن الخارج، أي من النظام العالمي سواء من جانب الدول أو المؤسسات الدولية، أو من قوى عولمية ومنظمات غير حكومة. وهو ما يشكل تحديات كبرى أمام إيران. هذه التحديدات تدفع –بالضرورة- البناء المؤسساتي والدستوري في إيران إلى اجتراح الوسائل الملائمة للتعامل معها، حتى يستطيع النظام الاستمرارية والتكيف مع هذه التحديات. هل ستنجح البنية الدستورية والمؤسساتية للنظام في التعامل مع هذه التحديات؟. يمثل الإجابة الحاسمة على هذه السؤال مستقبل الجمهورية الإسلامية.
‎© منبر الحرية،11 فبراير/شباط 2011

يوسف محمد بناصر19 فبراير، 20110

استمرت لحظات انتفاض الشعب التونسي في تصاعد غير مسبوق وبنفس غير متوقع إلى أن أطاحت برأس النظام المستبد بالسلطة زين العابدين بن علي، فر الرئيس هاربا تاركا كل شيء خلفه في مهب الريح، بعدما فقد السيطرة على زمام ما كان يظن ،إلى وقت قريب، أنه تحت عينه وسلطته التي لا تقهر. إنه “الشعب المنتفض”، لتصبح تلك اللحظة التي أذيع فيها الخبر تاريخية بامتياز، نعم فتونس تحركت كبقعة زيت متوهجة أوقد نارها ونورها “المرحوم البوعزيزي”، ثورة عصفت بالسنين العجاف التي أحاطت جمهورية الزيتونة بقبضة من كهنوت سياسي وبوليسي مترع بالفساد المالي، فانهارت شعارات التنمية الاجتماعية والاقتصادية مع صرخات الجسد المحترق، لقد وصلت درجة اختناق الحرية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية في ظل النظام التونسي حتى صار مضرب الأمثال وسنة للاقتداء العربي، لقد اختنقت أنفاس الشباب الذين خرجوا يرددون “لاءات” كثيرة ولكنها عميقة، لا للاستعباد، لا للقمع ، لا تكميم الأفواه، ولا للنهب والاختلاس، نعم للحريات نعم للتعددية، بكل عفوية انتفضوا على ثقافة الانبطاح والاستبداد والخوف، لقد احترقت شرعية النظام التونسي في رمشة عين كما ستحترق غيرها من الأنظمة، صارت لحظة الثورة ناضجة بعد طول انتظار، وحان موسم عربي جديد، انطلق من بلاد الزيتونة، تجتث فيه أشجار علقمية المذاق ثمارها قهر واستبداد لتنفى بعيدا وتستبدل بأشجار تثمر في موسم ربيعي نظام الحريات والتعددية والكرامة ودولة الالتزام بالقانون والحقوق والمساواة.
اعتمد النظام التونسي البائد على تسويق صورة مزيفة عن نفسه وعن نموذجه القوي، القادر على التحكم والرقابة، فقد خرب الأحزاب – يسارية كانت أو إسلامية- وجعلها غير قادرة على الحركة والعمل السياسي، وحاصر حراك المجتمع المدني، واعتمد بسط السيطرة بشكل شمولي على كل القطاعات الحيوية، اقتصادية ومالية وإعلامية وسياسية، دجن بعض المثقفين، كما صنع نخبا أخرى لتدور في فلكه وتلمع نموذجه المتقدم زورا، وعذب وسجن المعارضين أو طرد أغلبهم خارج البلاد، ثم خلق اقتصاد الريع ليستفيد أزلامه ليكونوا حماة النظام أو ليتحكم في بقايا المحرومين من الذين قد يحقدون على الوضع أو ينفلتون في لحظة غضب، فيخربون وينهبون ويقتلون ببشاعة كما قد يحصل عند سقوط أي مستبد.
عندما أحكم النظام التونسي الخناق على ميادين التنفيس الشعبي وعلى المنظمات والأحزاب والهيئات ونمطها لصالحه، فقد في ذات الوقت السيطرة على الحراك الطبقي والاجتماعي، لتتوسع الطبقة الوسطى المثقفة، كما ترسخ الوعي السياسي فيها مع ارتفاع نسبة التمدرس وتوسع خريجي التعليم العالي، ليكون هذا التحول البنيوي الدقيق هو النقطة التي ستفيض الكأس، لأنها ساهمت في تسريع خطى انهيار النموذج البوليسي المترهل، فانتفض الشعب في لحظة حاسمة تحدوه الحماسة لصنع نموذج ديمقراطي صاعد، يتناسق مع طموحاته ويستجيب لحاجاته الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية.
إن الشعب التونسي اليوم بانتفاضته الشعبية الشبابية يعد مثالا صادما للمجتمعات التي تعيش في نفس الوضعية لزمن ممتد، لذلك فأمواج الانتفاض ستكون متلاحقة شيئا فشيئا لتعم غالبية الأنظمة الشمولية، التي رزحت بتخلفها الفكري والسياسي على الشعوب، وكل المؤشرات تشير إلى النظام المصري المتهالك الذي أمسى هو التالي في قائمة الأنظمة العربية التي سيخضعها موج “تسونامي التفكيك الشعبي” لقانونه.
والإشكالية المطروحة الآن أن الشعوب ستتحرك بدون قيادات ملتزمة بمشروع إصلاحي أو أيديولوجي يحفظ القيم التي انتفض الناس من أجلها في برنامج عملي، ليصبح حراكهم عفويا تعبيريا وفي غالب الأحيان فوضويا، غير مؤطر بمنهجية سياسية واعية وفاعلة، وهذا ما سيتجلى في الانتفاضة المصرية إذا لم يتدارك الأمر في وقته، إنها حماسة الخروج من التيه السياسي العربي، حماسة اكتشاف الذات خارج سلطة القمع وخارج النظام المستبد، لقد تولدت لديهم الرغبة في التحدي، ولو تعلق الأمر باكتساح جحافلهم لشرطة القمع بصدر عار أو الوقوف بتحد أمام طلقات الرصاص، تلك الرغبة والتحدي لم تكن لتظهر لولا الإشباع الذي وصلته النفوس والضمائر من كرهها لثقافة الاستبداد والترهيب التي لا ينتهي لهيبها، فطربت النفوس بقوة لجاذبية التحرر وإرادة التخلص من الضيق الاقتصادي، فحان لزوما الوقت للانتفاض من أجل أن تؤسس ثقافة جديدة مبنية على هذه الحاجات، ولا منة لأحد من “الأحزاب السياسوية” المتخمة بالشعارات الجوفاء والموضوعة تحت تصرف قيادات الفكر القروسطوية أو التاريخ العجائبي، لا منة لأحد من هؤلاء ولا من أولئك على الشعبين التونسي ولا المصري إلى الآن، ولا منة لزعيم سياسي عليهم قد يتسمى مستقبلا بقائدهم الملهم أو الثوري، ولا منة لبرنامج أيديولوجي أو حركة ثورية أو تنظيم سري عليهم..، هم أنفسهم يمنون ويمتنون شبابا وشيبا، نساء ورجالا، على أن انتفاضتهم عملية سلمية شعبية لاعنفية شهد لها العالم ولا يزال، فهم أقاموها بعرق جبينهم وبأيديهم وبدمائهم وبعفويتهم السياسية، وقد جوبهت برصاص أنظمتهم المتمرس للقمع، لكن كانت إرادتهم أقوى وصدورهم أمتن وصفوفهم متراصة، فالعنف لا يولد إلا العنف والكراهية والانتقام، ولا أحد من مصلحته أن تتأجج مشاعر الانتقام، لأنها ستحرق في طريقها الأخضر واليابس، والشعب الذي يتبنى الفعل السلمي بشكل عفوي ذكي سياسيا وثقافيا، لأنه يرفض الوقوع في هفوة العنف والصراع المسلح أو على الأقل يؤجله كخيار صلب بعيد يمكن اللجوء إليه كآخر حل عند سقوط الحلول المرنة، وهو ما قد لا تفطن له بقية الشعوب وحتى الأنظمة التي تطمح لاستنساخ هذه التجربة أو تلك هنا أو هناك، فالظروف المختلفة والوضع الجيوسياسي والثقافي والإثني والديني كلها تحكم استعمال العنف عند الإنسان، وبطبيعة الحال فالعنف هو شيطان قابع في الجنس الإنساني يتقنه منذ حادثة ذبح هابيل مرورا بثقافة الحروب والانتصارات الدموية التاريخية التي كرست منطق الإلغاء والسيطرة، أفعال مستهترة بالأنفس والعقول كتبت على أنها بطولات وفضائل، لتمتد إلى الحاضر تخرس مواقف السلم وتربك مجتمعات التعايش لتجعلها محبة للدماء ومتعطشة للفوضى والانقسام، وأبرز مثال على ذلك العراق والسودان، والله أعلم من في القائمة أيضا.
إن تجربة الشعب المصري اليوم في انتفاضته لا تختلف كثيرا عن الانتفاضات التي ستقع في بلدان عربية كثيرة خصوصا ذات الأنظمة الجمهورية، فهذه الأخيرة، لم تعد لها أي شرعية تاريخية أو سياسية أو أخلاقية، خصوصا بعدما طالت سنوات حكم المستبدين بها فتأكد أنها ولدت ميتة بلا معنى، حتى ولو كانت أسماؤها تقدمية تنهل من ثقافة التنوير السياسي الأوربي زورا، فكثير من الأوصاف السلبية مشتركة بينها والتي منها انفراد الحزب الواحد بالمواقع والسلطات والقمع البوليسي للشعب والإبقاء على حالة الطوارئ التي لا تنتهي، وانفراد القائد بكرسي الرئاسة، وإصدار دستور مقدس يصب في مصلحة توالي سنوات حكم الحاكم المستبد أو لنقل ملكية الجمهورية والقصر الرئاسي لابن الحاكم أو زوجته بعد عمر برزخي.
سئمت الشعوب نفسها وسفهت أحلامها تحت حكام الجور والاستبداد، الذين انفرد العالم العربي لوحده بهم دون سائر البلدان، التي سارعت للتخلص مما علق بها من أيديولوجية الأنظمة الشمولية البائدة، والتي انهارت منذ أزيد من عقدين وبالأحرى توالى انهيارها منذ واقعة سقوط جدار برلين التاريخية، واليوم لم يعد من السهل إقناع الشعوب العربية بالعودة للخلف، فخطابات التبشير ولى زمانها، كما أن ترقيع ما بقي من الحياة السياسية والاقتصادية مرفوض تماما، و”منح” دساتير وحريات وحقوق صورية أو إطلاق إصلاحات مجتزأة وغير واضحة غير مقبول، لأن كل هذه الشعوب الآن امتزجت عندها مشاعر الإصرار على التغيير الجذري بمشاعر الوجود في الحياة، كأنها اللحظة فقط اكتشفت جمال الطريق السوي نحو عالم الديمقراطية ومتعة العيش في النور بعيدا عن الظل والظلام.
‎© منبر الحرية،9 فبراير/شباط 2011

نبيل علي صالح9 فبراير، 20112

لاشك بأن هناك دروساً عملية تعلمنا إياها جملة الأحداث والتحولات العربية المتلاحقة، ومن أبرزها وأكثرها أهمية وحيوية:
على مستوى الشعوب والأحزاب المساهمة في صنع التغيير:
الشعوب تملك طاقة جبارة لا يمكن لأحد أن يقف في وجهها وطريقها الهادر مهما بلغ من البأس والقوة والشدة والعنف، ومهما امتلك من أجهزة القمع والإكراه والعنف المادي والرمزي. وهذه الشعوب ربما تبقى لفترة من الزمن كامنة ومغيبة عن ساحة الفعل والتغيير الحضاري، ولكنها في لحظة ما تهب وتنطلق ككتلة واحدة نتيجة الإمعان في إهانتها وإذلالها وزيادة معاناتها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.. مما أوصل الأمور والأوضاع عامةً وسيوصلها –على الدوام- إلى حالة غير قابلة للتحمل من الضغط المنفجر في أية لحظة..
المطلوب الإسراع في إقامة مرحلة سياسية انتقالية تسبق الانتخابات الحرة التي يجب أن تؤسس لبرلمانات دستورية نيابية منتخبة طوعياً على قاعدة التمثيل النيابي الحر ومشاركة الناس في الترشح والانتخاب دون قيد أو شرط أو حصر أو حكر على أحد.. وبما يؤسس لاحقاً لأنظمة جمهورية تقوم على قاعدة بناء دولة مواطنة علمانية ديمقراطية صحيحة، تفصل بين سلطاتها الثلاث..
اعتماد صيغة سياسية منفتحة لتشكيل القوى والأحزاب السياسية بحيث تعمل تلك التيارات جميعها تحت سقف الحكم الصالح ومؤسسات الدولة الوطنية الديمقراطية، وعدم السماح بتشكيل أحزاب أصولية إلغائية، وإنما السماح بتشكيل أحزاب معتدلة على المستوى الديني تتبنى في داخل هيكليها الفكري والتنظيمي الفكر الديمقراطي، والتسامح والاعتراف بالآخرين حتى لو كانوا من المخالفين، والإيمان الكامل بالتداول السلمي للسلطة، وعدم تسييس الدين خاصة على مستوى إدعاء امتلاك الحقيقة المقدسة، وتبني خيارات وقرارات دينية مقدسة.. وهذه الأفكار السياسية والفكرية يجب أن تكون موجودة ليس فقط في صلب البنية الفكرية لتلك الأحزاب، وإنما في الدستور المقرر إعادة بنائه وكتابته أيضاً للوطن ككل..
على مستوى الأنظمة:
يقوم نظام الحكم العربي على بنية ثقافية ومفاهيمية صلبة ومتماسكة، عمادها الحكم الفردي المطلق أو شبه المطلق الذي يستمد جذوره من التاريخ البطولي المجيد المزعوم الحافل والمليء –كما يقولون ويتباهون!!- بالأمجاد الكبرى المرغوب استعادتها للحاضر.. ولا ينتهي مثل هذا النمط السياسي من الحكم إلا بزوال شخصياته ورموزه ونخبه وذهابهم القسري إلى القبر أو السجن أو المنفى.. أي أن تكلفة الخلاص من مثل هذه الحكومات الظالمة عالية جداً للأسف..
من النادر أن تجد نظاماً رسمياً عربياً -قائماً على حكم الغلبة والطغيان وقاعدة “الملك العضوض” التاريخية المعروفة منذ أيام معاوية- يمكن أن يقبل بنقل السلطة سلمياً، أو إحداث بعض الإصلاحات السياسية الجدية بصورة سلمية لوحده ومن دون إجباره على إصلاح ذاته، أو تغييره بالكامل، وسلوك طريق الإصلاح الجدي الحقيقي.. لأن مكاسب وامتيازات السلطة والحكم الفردي والاستئثار بجنة الملك –التي حققتها نظم الحكم العربية الملكية والجمهورية معاً- ليست مثار جدل أو حوار عند هؤلاء الحكام، وهم اكتسبوها وحققوها بقوة الأمن والجيش والعسكر، وبالتالي ليست لديهم القابلية للتنازل السلمي الطوعي عنها (بأقل الخسائر الممكنة)، وليسوا مستعدين أن يتركوها لشعوبهم إلا تحت الضغط والقوة والإكراه.. وهذا قانون فيزيائي معروف وهو “قانون الفعل ورد الفعل” الذي له تطبيقاته البشرية النفسية والمجتمعية التي يمكن أن تأتي تحت عنوان “ما أخذ بالقوة لا يسترد –في كثير من الأحيان- إلا بالقوة”..
على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً:
تضغط الدول الغربية –والولايات المتحدة على الخصوص- باستمرار لبناء ديمقراطية صحيحة –كما تقول وتؤكد نخبتها السياسية- في العالم العربي، وسبق لبعض السياسيين الغربيين أن أقروا واعترفوا بأن دعمهم للنظام الرسمي العربي طيلة أكثر من 65 سنة لم ينتج سوى موجة الأصوليات التي ضربتهم في عقر دارهم، وقد حان الوقت –بحسب تصريحات هؤلاء- للبدء بدعم فكرة الديمقراطية وتبني مشاريع الإصلاح السياسي، ومحاولة إلزام حلفائها في المنطقة بسلوك طريق التغيير السلمي قبل التغيير الدموي المكلف..
ومن باب الاستطراد قليلاً نذكر بأن تلك الدول والقوى العالمية الكبرى –خاصة الولايات المتحدة الأمريكية- التي تقوم على حكم المؤسسات والقانون والفكرة الديمقراطية والاقتصاد الحر..الخ، بحيث أنك يمكن أن تشاهد في مثل هذه النظم الديمقراطية عدة رؤساء على قيد الحياة خلال ربما عقد واحد من الزمن. إن تلك الدول تتعامل مع غيرها من القوى والبلدان على قاعدة المصالح السياسية وغير السياسية، ولا تتعاطى مع الأشخاص إلا بما يحقق لها مزيداً من المكاسب لبلدانها على مستوى السياسة والاقتصاد والأمن أيضا. وهي تبني مجمل تحالفاتها مع الأشخاص والنخب السياسية والأحزاب في العالم كله –وليس فقط في عالمنا العربي- على هذه القاعدة المعروفة أيضاً، وهذا أمر للأسف لا تدركه دولنا العربية وحكامنا وأحزابنا السياسية القائمة عندنا التي تعتقد بصورة خاطئة أن مجرد تلبية متطلبات وتحقيق بعض المكاسب والامتيازات لهذه الدولة الغربية أو تلك، فإن تحالفاً وثيقاً قام بينهما، وأن تلك الدولة لن تتخلى عنه في أوقات الشدة والمحن، وبدلاَ من أن يقوم الحاكم العربي مثلاً بالانفتاح على شعبه واستمداد القوة من مجتمعه ومن خدمته لناسه وجماهيره -من خلال تحقيق حاجاتهم كاملة خاصة السياسية والاقتصادية منها- يقوم للأسف بخدمة مصالح ورغبات وتلبية طلبات تلك الدول التي تتغير سياساتها بحسب ما تتغير مصالحها. إذاً البوصلة هنا في تحريك دفة السياسية الدولية هي المصلحة والمكاسب المتغيرة والتحالفات المتحركة، وهذا ما رأيناه من خلال تعاطي الدول الكبرى -خاصة الولايات المتحدة- مع كل من أزمتي الحكم في كل من تونس ومصر، فبعد أول يوم من الضغط الشعبي المتواصل على نظام حسنى مبارك، وقفت وزيرة الخارجية الأميركية لتقول بأن نظام مصر ثابت ومستقر، ولكن بعدما اقتنعت هذه الإدارة الأميركية بأن التغيير كبير وقادم لا محالة، وهي مسألة وقت قصير ليس إلا… بدأت بتغيير موقفها وموقعها من حكم مبارك –الذي كان من أهم أصدقاء الغرب في المنطقة، ورجل السلام العربي الإسرائيلي- بصورة متدحرجة ومن ثم سريعة خلال ساعات وليس أيام حتى وصلنا إلى سماع نداء بإحداث التغيير الفوري “الآن”.. وليس غداً من الرئيس أوباما ونائبه بايدن، وقادة الاتحاد الأوروبي الذين كانوا حتى الأمس يثقون ثقة عمياء بالرئيس حسني مبارك (حليف الولايات المتحدة في المنطقة، والداعم لسياساتها وقطب في ما صار معروفاً بـ”محور الاعتدال العربي”).. وفي ظني أن هذا السلوك السياسي العالمي المعروف مسبقاً للجميع، يجب أن يكون درساً ودافعاً قوياً لباقي الحكام والزعامات والأحزاب السياسية العربية (حتى هذه “الأحزاب الجديدة”-القديمة التي ركبت موجات التغيير العربي مؤخراً بصورة انتهازية غير أخلاقية!!) كي تقتنع بأن من يحاول أن يتغطى باللباس الغربي -الأميركي تحديداً- يبقى عرياناً أمامهم وأمام شعبه ومجتمعه .. وأن لا بديل عن الانفتاح الكامل على شعوبنا ومجتمعاتنا العربية .. وأن كل ما تقوم بها أميركا من أعمال وممارسات وضغوطات وتوجيهات ونداءات وغيرها –على مستوى المنطقة العربية الإسلامية على وجه الخصوص- تريد من خلاله التوفيق بين حماية سياساتها ومصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية، وبين إصرارها على نشر ثقافة ومشروع الديمقراطية كحل وحيد تريد من خلاله إرساء فكرة تداول السلطة وأن من حق الشعوب أن تنعم بالحريات العامة..
ولكن السؤال المهم الذي يمكن طرحه هنا على خلفية ما سبق:
هل يمكن اعتبار الغرب عموماً صادقاً في توجهاته السياسية لدعم فكرة الديموقراطية والإصلاح السياسي في العالم العربي؟ وهل يمكن أن تنجح الولايات المتحدة في هذا المسعى التوفيقي الصعب بين دعوتها ومصالحها؟ خاصةً مع وجود تيارات وقوى إسلامية وقومية (يسارية وغير يسارية) تعادي الولايات المتحدة، وتستمد شرعيتها من العداء الشديد لقيم وأفكار الغرب الحداثوية والتنويرية، وتقوم في داخل بنيتها الفكرية على قاعدة مواجهة سياسات أميركا في العالم كله..
وهل ستنجح الولايات المتحدة في تحقيق التوازن والموائمة الناجحة بين دعمها للحريات والديمقراطية في العالم العربي، وبين تحقيق مصالحها الإستراتيجية الكبرى التي يقول قسم كبير من العرب والمسلمين هنا بأنها تأتي على حساب نمو وتطور وبناء مجتمعات عربية قوية وناجحة؟..
ومن باب التذكرة ليس إلا.. لا نعتقد أن الإدارة الأميركية ستنسى ما مر عليها من تجربة مرة عاشتها سابقاً في إيران زمن جيمي كارتر، عندما وقف “الأميركان” يومها إلى جانب التغيير السياسي، تحت ضغط الشارع طبعاً، وأيدوا شعارات حقوق الإنسان، الأمر الذي تسبب لهم لاحقاً في سقوط حليفهم الشاه الذي كانوا طالبوه بالتغيير الديمقراطي (لم يرضوا حتى بأن تحط طائرة حليفهم السابق الشاه على أرضهم!! فمات على أرض مصر زمن السادات)، ولكنهم واجهوا مداً شعبياً ثورياً رافضاً لهم ولسياساتهم، دعم فكرة إرساء قيم وثقافة وسياسة جديدة بالكامل تقوم على إلغاء الفكرة الديمقراطية، وتبني نظام ولاية الفقيه الدينية الثورية، وإقامة نظام ديني ثيوقراطي كما تصفه دوائر الثقافة الإيرانية والكثير من أبناء الثورة السابقين ممن رفض أو نقد أو تمرد على بعض أو كثير من مفردات تلك الثقافة الدينية؟!!.
..أخيراً لا بد من التأكيد هنا على أن هذا الجيل العربي الذي ولد واستفاق وعاش في كنف أنظمة القهر والاستبداد، وسمع وشاهد الرموز والأسماء ذاتها الممثلة لتلك الأنظمة على مدار عقود عديدة مضت، هذا الجيل ينشد الخلاص حالاً، ويرفع شعار “كفاية”.. وهو يطمح للتغيير والإصلاح الحقيقي على ضوء ما يشاهده من أفكار وثقافة الحداثة السياسية الديمقراطية في غير بلد عالمي.. بينما هو لا يزال يعيش تحت وطأة نظم عتيقة متهالكة ضعيفة فشلت في كل شيء، وهي بالكاد تقدم لقمة خبز لمواطنيها، لا بل وتمنن عليهم هذا اللقمة المغموسة بالكثير من الذل والعار والإهانة.. أقول إن هذا الجيل العربي الكبير من المحيط إلى الخليج المنطلق كالنهر الجارف طالباً للتغيير الحقيقي المنشود، يبدو لي ضائعاً ومشتتاً وقابلاً للاندراج في أية أيديولوجية غير عاقلة، خاصة في ظل هيمنة نظام فكري للاعتقاد إطلاقي وحدّي وقصووي يعمل –هذا النظام العقائدي القديم- على تجديد نفسه بألبسة وتجميلات ديكورية مزيفة، وبصورة تابعة غير مستقل، وهو نظام بعيد عن العلم ومنطق التجربة، وقيم التطور والحداثة الإنسانية، كالنظام أو الإيديولوجية الدينية الأصولية الإلغائية الكارثية عليه وعلى مجتمعاته التي يريد إصلاح أحوالها ومواقعها.. إنه جيل لا يزال يحمل في داخل وعيه وثقافته بعض البذور والطبائع الإقصائية للآخر.. وهذا ما رأيناه وشاهدناه وسمعناه في بعض أمكنة التظاهر في تونس ومصر..
والخشية كل الخشية أن تركب تلك العقلية صهوة الإصلاحات المنشودة، وتستثمر موجة الإصلاح العربية المتسارعة لصالح برامجها السلطوية التي لا تختلف كثيراً عن برامج النخب السياسية العربية البالية التي تريد إقصائها عن الحكم..
وكلمة أخيرة نقولها لمن تبقى من النظم والحكومات العربية الراهنة:
أيها الحكام العرب: أنتم في موقع المسؤولية الكبرى، التفتوا إلى شعوبكم الجائعة ومجتمعاتكم المقهورة.. أصلحوا الحال قبل أن يفوت الأوان!!… والحاكم منكم هو بمثابة الأجير عند الأمة يمكن لها أن تواجهه وترفضه وتسقطه متى شاءت، خاصةً عندما يعجز عن تحقيق متطلباتها وأمنياتها في إقامة مجتمعات حقيقية يسودها التسامح والعدل والحرية والأمن..
‎© منبر الحرية،7 فبراير/شباط 2011

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018