peshwazarabic

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

بتاريـخ 14 آب 1997، وبعد وقت قصير من انهيار العملة التايلندية (البات) يوم 2 تموز، قامت اندونيسيا بتعويم عملتها (الروبية). هذا القرار دفع سـتانلي فيشر، نائب المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي إلى الإعلان الصريح بقوله بان: “إدارة صندوق النقد الدولي ترحب بالقرار الذي تم اتخاذه في وقته المناسب من قبل السلطات الاندونيسية وإن تعويم الروبية، المقترن بوجود أساسيات قوية في اندونيسيا والمدعوم من قبل سياسات مالية ونقدية تتسم بالحذر، سوف يسمح للاقتصاد الاندونيسي بالاستمرار في أدائه الاقتصادي المثير للإعجاب في السنوات العديدة الأخيرة.”
وخلافا لتوقعات صندوق النقد الدولي، فان الروبية الاندونيسية لم يتم تعويمها فوق بحر من السكون، بل إنها هبطت هبوطا سريعا ومفاجئا من 2.700 روبية للدولار الأمريكي الواحد في زمن التعويم إلى مستويات منخفضة قاربت 16.000 روبية للدولار الأمريكي في العام 1998. وهكذا، فقد لحقت اندونيسيا بركب الاضطرابات العاصفة للازمة الآسيوية الهائلة.
وبحلول أواخر شهر كانون الثاني 1998، أدرك الرئيس سوهارتو بان الدواء الذي وصفه صندوق النقد الدولي لم يحقق النجاح، ولهذا فقد قام بالبحث عن رأي ثاني. وفي شهر شباط من نفس العام تم استدعائي كي أقدم ذلك الرأي الثاني وان ابدأ العمل في سبيل الخير كمستشار خاص للرئيس سوهارتو. ومع انه لم يكن لدي أية آراء حول حكومة الرئيس سوهارتو فقد كان لدي فعلا أفكارا محددة حول المسألة المطروحة للبحث. وبعد المناقشات المفتوحة الاعتيادية في المنزل الخاص بالرئيس سوهارتو، قمت بالاقتراح، كترياق واقي، بان يتم عمل مجلس نقد تقليدي تكون الروبية بموجب هذا المجلس قابلة بالتحويل بالكامل إلى الدولار الأمريكي وفق سعر صرف ثابت. وفي ذلك اليوم الذي وصلت به هذه الأنباء إلى الشارع ارتفعت الروبية ارتفاعا شديدا بنسبة وصلت إلى 28 بالمائة مقابل الدولار الأمريكي. وقد عملت هذه التطورات على إغاظة حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وصندوق النقد الدولي.
وتلا ذلك شن هجمات قاسية على فكرة مجلس النقد وعلى “المستشار الخاص”. وتم إبلاغ الجنرال سوهارتو بعبارات لا غموض فيها، من قبل كل من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بيل كلينتون، ورئيس صندوق النقد الدولي مايكل كامدوسو، بان عليه إما أن يقوم بصرف النظر عن فكرة مجلس النقد أو أن يفقد مبلغا مقداره 43 مليار دولار أمريكي ستكون كمساعدة خارجية. كما انه كان أيضا على دراية بان أيامه كرئيس لاندونيسيا سوف تكون معدودة إذا لم يتم استقرار الروبية.
كذلك، قام أخصائيو علم الاقتصاد أيضا بالانضمام إلى محاكاة ذلك. فقد تم بالفعل تقديم نصف الحقيقة مع اللاحقيقة التي يمكن أن يتم تخليهما ضد فكرة مجلس النقد. وبحسب رأيي الشخصي، فان هذه الإشاعات الكاذبة المضللة للجمهور التي تكررت مرارا قد تم إعطاؤها أهمية زائدة بوجود دعم كامل خاص بمجلس النقد الاندونيسي (والذي تلقى تغطية إعلامية ضئيلة جدا) من قبل أربعة علماء اقتصاد حائزين على جائزة نوبل في علم الاقتصاد هم: جاري بيكر وميلتون فريدمان وميرتون ميلر وروبيرت موندل.
لماذا إذن كل هذه الضجة الكبرى حول مجلس نقد خاص باندونيسيا؟ على الفور، استوعب عالم الاقتصاد ميرتون ميلر اللعبة الكبرى، حيث كتب، عندما كنت أنا والسيدة هانكي نقيم في فندق شانغريلا في جاكرتا، قائلا بان معارضة إدارة كلينتون لمجلس النقد “لم تكن لأنها سوف لن تحقق النجاح، بل لأنها سوف تحقق هذا النجاح، وإنهم، إذا تحقق ذلك النجاح سوف يقومون بالالتصاق والتعلق بسوهارتو.” وهناك الكثير من هذه المناقشات نفسها قد تم التصريح بها من قبل رئيس الوزراء الاسترالي الأسبق بول كيتينغ حيث قال: “لقد قامت وزارة الخزانة الأمريكية بشكل مدبر تماما باستخدام الانهيار الاقتصادي كذريعة للتسبب في طرد الرئيس سوهارتو.” وقد تدخل وزير الخارجية الأمريكي الأسبق لورنس ايغلبيرغر ليشخص تشخيصا مماثلا لتلك المسألة حيث قال: “لقد كنا أذكياء نوعا ما بحيث أننا قمنا بدعم صندوق النقد الدولي عندما كان يقوم بقلب نظام حكم [سوهارتو]، أما الطريقة التي كان علينا أن نسلكها إن كانت حكيمة أم لا فهذا شأن آخر. فانا لا أقول بان السيد سوهارتو يجب أن يبقى في الحكم، لكنني أود أن أتمنى لو انه قد ترك الحكم وفق شروط تختلف عن ذلك السبب الذي تسبب صندوق النقد الدولي بطرده خارج الحكم.” وحتى مايكل كامدوسو لم يكن بمقدوره أن يجد أي خطأ أو تقصير في هذه التقييمات. فقد صرح علنا، بمناسبة حصوله على التقاعد، بقوله متفاخرا: “لقد قمنا نحن بخلق الظروف التي أجبرت الرئيس سوهارتو على ترك منصبه.”
ولكي يتم خلع الرئيس سوهارتو، كان من الضروري أن يكون هناك خدعتان. الخدعة الأولى عملت على إدخال تلفيق لموقف عام عدائي مفتوح من قبل صندوق النقد الدولي تجاه مجالس النقد. وهذه الخدعة كانت مطلوبة لكي يتم إقناع سوهارتو بأنه يتصرف بشكل راديكالي متطرف وانه، في حال استمراره على هذا النحو، سوف يكون الثمن باهظا. وقد تطلب عداء صندوق النقد الدولي أن يتم إجراء استدارة كاملة في الاتجاه وسريعة كما يلي: قبل اقل من سنة واحدة على الضجة الاندونيسية، قامت بلغاريا (حيث كنت اعمل لديها مستشارا للرئيس ستويانوف) بتركيب مجلس نقد بتاريخ 1 تموز 1997 بموافقة حارة وحماسية من قبل صندوق النقد الدولي. وفي البوسنة والهرسك (حيث قمت بنصح حكومة هذه الدولة حول تنفيذ مجلس النقد) تمت متابعة هذا الالتماس وفق تفويض “اتفاقية دايتون للسلام” وبدعم من صندوق النقد الدولي بتاريخ 11 آب 1997.
وبعد أن غادر سوهارتو بوقت قصير، انكشفت خدعة مجلس نقد صندوق النقد الدولي بحيث أصبحت شفافة. وفي 28 آب 1998، أعلن مايكل كامدوسو بان صندوق النقد الدولي يود أن يعطي روسيا ضوءا اخضرا لو أنها ستختار أن تتبنى مجلس النقد. وقد أعقب ذلك اجتماع لم يتم التعريف به إلا قليلا عقد بتاريخ 16 كانون الثاني 1999 في مكتب مايكل كامدوسو لدى مقر صندوق النقد الدولي في واشنطن العاصمة. وقد ضمت المجموعة التي حضرت ذلك الاجتماع كبار شخصيات صندوق النقد الدولي ووزير مالية البرازيل بيدرو مالان ومدير السياسة النقدية لبنكها المركزي فرانسيسكو لوبيز. وقد كان ذلك الاجتماع هو الذي قام به مايكل كامدوسو بتقديم اقتراحه بان تقوم البرازيل بتبني مجلس النقد!
الخدعة الثانية عملت على إدخال قصة انتشرت على نطاق واسع وهي أنني قمت بالاقتراح بان يتم تحديد أسعار صرف الروبية وفق مستويات مغالى فيها بحيث يتمكن الرئيس سوهارتو وأصدقاؤه الحميمون من سلب ونهب احتياطيات البنك المركزي. لقد كان هذا السيناريو التصوري المتمثل “بـأن يتم أخذ الأموال والهروب بها” بمثابة مسمار الدولاب الذي عمل على تسهيل حركة حملة إدارة كلينتون ضد سوهارتو ولقد كان من المقصود أن يتم “التأكيد” على أن نوايا سوهارتو مراوغة، وبان يتم حشد دعم سياسي دولي ضد فكرة مجلس النقد وبغرض أن يتم طرد سوهارتو.
أما قصة أسعار الصرف المغالى فيها فقد تمت إحاطتها بهالة مقدسة من قبل صحيفة الوول ستريت جورنال بتاريخ 10 شباط 1998. فقد نقلت هذه الصحيفة قائلة بان بيتر غونثا [رجل الأعمال الثري والمقرب من ابن سوهارتو آنذاك] قام باستدعائي إلى جاكرتا وأنني قمت بتجهيز ورقة عمل خاصة بالحكومة أوصي بها بان يتم ضبط سعر صرف الروبية مقابل الدولار الأمريكي بسعر 5.500. ولقد كان هذا الأمر جديدا بالنسبة لي بما أنني لم أقم بمقابلة بيتر غونثا ولم أتعرف عليه، كما أنني لم أقم بكتابة أية تقارير حول اندونيسيا أو تقديم أي اقتراح خاص بسعر صرف الروبية.
وعلى الفور، حاولت أن أقوم بتصحيح هذا التلفيق والفبركة وكانت العملية صعبة وبطيئة وفي النهاية كانت غير مقنعة. وبالرغم من أن صحيفة الوول ستريت جورنال قامت يوم 14 شباط (من نفس السنة) وعلى مضض بنشر تصحيح نصف مطبوخ أو نصف ناضج إلا أن الضرر كان قد وقع فعلا.
لقد تم تكرار النسخة الأصلية للتلفيق والفبركة التي صدرت بالفعل عن صحيفة الوول ستريت جورنال (أو بعض المتغيرات من هذه الفبركة) في كل مجلة وصحيفة كبرى في شتى أنحاء العالم واستمر صداها في الترديد لغاية هذه الأيام حتى فيما يسمى بالكتب والمنشورات العلمية. فعلى سبيل المثال، أكد “لي كيوان يي” في مذكراته في العام 2000، بعنوان: من العالم الثالث إلى العالم الأول، قصة سنغافورة: 1965-2000، بأن: “بامبانغ—ابن الرئيس سوهارتو—قام في أوائل شباط 1998 بإحضار ستيف هانكي وهو بروفيسور أمريكي في علم الاقتصاد من جامعة جونز هوبكنز كي يقابل الرئيس سوهارتو ليبلغه بان الرد البسيط على القيمة المنخفضة لصرف الروبية هو أن يتم إنشاء مجلس النقد.” هذا القدر الضئيل من المعلومات المضللة كان بمثابة دهشة مفاجئة لي بما أنني لم يكن لدي أي اتصال مع بامبانغ سوهارتو مطلقا. لكن السياسيين لم يكونوا هم فقط الذين أخفقوا في “تقصي الحقائق” بالنسبة لتأكيداتهم. ففي كتاب لثيودور فريند عام 2003: المصائر الاندونيسية، تمت كتابة اسمي بشكل خاطئ وتم بعد ذلك المضي قدما بقوله بأنني “قمت بتقديم مشورة إلى عائلة [سوهارتو] لكي تقوم بتثبيت سعر الصرف بـ5.000.”
إن عملية ضبط هذا السجل ليكون بشكل موثوق قد تعقدت من قبل أولئك الذين ينسجون ويغزلون لدى صندوق النقد الدولي، وهم في حقيقة الأمر منشغلون كانشغال النحل الصغير في إعادة كتابة تاريخ السجل النقدي الماضي للتغطية على أخطاء صندوق النقد الدولي، وتمثل اندونيسيا اكبر الأخطاء الفادحة التي تم ارتكابها. وللوصول إلى هذه النتيجة، قام صندوق النقد الدولي في العام 2001 بإصدار ورقة عمل مكونة من 139 صفحة تحت عنوان: “اندونيسيا: تحليل مفصل لازمة مصرفية: سنتان من العيش تحت الخطر 1997–1999.” وقام المؤلفون بإدخال نسخة معدلة باسم “تصحيح سياسي” في مسلسل مجلس النقد لتؤكد، من بين أشياء أخرى، على أنني قمت بتقديم مشورة إلى الرئيس سوهارتو كي يتم تثبيت سعر صرف الروبية مقابل الدولار بـ5.000. وقد أخفقت هذه الرواية الكاذبة على المستوى العلمي التي تضمنت 115 حاشية في توثيق ذلك التأكيد أو الجزم نظرا لأنه، بكل بساطة، ليس بالمستطاع أن يتم القيام به. وهذا الإصدار الرسمي الذي صدر عن صندوق النقد الدولي الخاص بهذه الأحداث قد تجنب بشكل ملحوظ أن يشير إلى أية مراجع لأعمال لي أو لمقابلات قمت بها والتي تستند إلى خبرتي وتجربتي في اندونيسيا.
ولا يعتبر هذا المسلسل وتلاعباته أمرا فريدا من نوعه في عالم السياسة. فقد يكون، بالرغم من كل ذلك، من المفيد، بعد أن يتم الكشف عن الزمن وعن الأحداث، أن يتم تقويم الحقائق عندئذ وفي الوقت الحالي. هناك بلدان أخرى كالصين مثلا تمر حاليا ببعض أهواء العلاجات المماثلة. لهذا دعونا نأمل بأنه لن يكون عليهم ولن يكون علينا جميعا أن نقوم بدفع الثمن في وقت لاحق عن مثل تلك الأخطاء الفادحة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 26 شباط 2007.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20101

خمس ملاحظات على النظام النقدي الدولي
لم يتم التوصل إلى تطوير قانون النقد دون غموض، ومع ذلك فثمة بعض الملاحظات التي تبرز في مشهد البعد التاريخي.
1. أولها أن أنظمة النقد لا تتغير فجأة ودون سابق إنذار، فهناك عادة وقت كبير بين التفكير والتنفيذ. من هنا فإن انهيار النظام النقدي الدولي في تسعينات القرن الثامن عشر قد جاء بعد الثورة والتضخم السيني في فرنسا التي كانت عندئذ أقوى دولة في أوروبا. كانت إعادة العمل بنظام المعدنين (الذهب والفضة) في فرنسا عام 1803 أو العمل بنظام المعدن الواحد (الذهب) في بريطانيا عام 1820 متوقعتين. وقد أصبح التوجه نحو الذهب في القرن التاسع عشر واضحاً بعد فترة قصيرة من تسبب الاكتشافات الذهبية في كاليفورنيا وأستراليا في طرد الفضة من التداولات النقدية في فرنسا، وهي البلد الأساسي الذي كان يعتمد على ثنائية المعدنين في التعامل، كما أنه تم التخلص من الفضة كمعدن نقدي في الإمبراطورية الهنغارية النمساوية وفي الإمبراطورية الروسية في تسعينات القرن التاسع عشر. أما استخدام الجنيه الإسترليني كإضافة مُبالَغ في قيمتها للذهب بموجب المواصفات المتعارف عليها في التعامل بالذهب فقد كان موضع تحذيرات امتدت لعدة عقود من خلال العلاقات الإمبريالية والشعوب المرتبطة ببريطانيا؛ فقد تم طبع الكتاب الأول لكينز: النقد والمال في الهند، عام 1910 وكان موضوعه مواصفات التعامل بالذهب. كما أن بروز الدولار تم التنبؤ به بسهولة. كان بوسع جون ستيورات ميل في سنواته المتأخرة أن يتنبأ عام 1869 بهيمنة الولايات المتحدة وذلك قبل وقت طويل من خروج الجنيه الإسترليني كعملة رئيسية عالمية أمام تقدم عملة العملاق الجديد.
2. خرجت أمريكا من كلا الحربين العالميتين باعتبارها القوة المهيمنة عسكرياً وصناعياً ومالياً وأصبح الدولار هو العملة العالمية. إنها حقيقة تاريخية تقليدية وهي أن القوة الأكبر هي التي توفر العملة الأقوى. النقود ظاهرة سياسية تعكس—وتشكل إلى حد ما—الوضع السياسي في العالم. تبعاً لذلك فإن ملاحظتي الثانية هي: القوة السياسية الرئيسية كان لها عادة دور قيادي في إقرار أو رفض طبيعة النظام النقدي الدولي.
تلك الحقيقة هي ما يقلل من أهمية البدائل المبالغ في تخيلها أو المغرقة في النظرية أو القائمة على المراهنة ضد النظام الحالي. لقد نهض النظام النقدي الدولي الحالي على أنقاض بريتون وودز التي احترقت عام 1971. ولكن إنشاء بريتون وودز عام 1944 قدم فقط الغطاء القانوني للواقعية الأساسية للسوق فيما يتعلق بمستوى الدولار. أصبح الدولار عملة المدفوعات الأساسية والموجودات الاحتياطية ووحدة المحاسبة ووحدة العطاءات والتعاقدات ومرجع القيمة ووحدة الدفعات المؤجلة وأداة تسوية المنازعات ومقياس الأسعار العالمية ومؤشر التعاملات الدولية وحل محل الجنيه الإسترليني—تدريجياً وليس فوراً—بعد عام 1949. (كان يمكن للجنيه الإسترليني الحفاظ على وضعه الفعال لمدة أطول لو امتنعت المملكة المتحدة عن تخفيض عملتها في عامي 1949 و1967).
خفف تعليق الولايات المتحدة للتحويل عام 1971 من وهج الدولار، وكان سعر الذهب قد تم تعويمه فعلاً في الأسواق الحرة منذ عام 1968. بعد ذلك أخذ سعر الذهب بالصعود وشهد مزيداً من الارتفاع عند تعليق التحويل عام 1971 ثم ارتفع بشكل شاهق مع ارتفاع أسعار النفط عام 1974 ومرة أخرى عند انتهاء فترة حظر الذهب في الولايات المتحدة ومرة أخرى أيضاً عندما تجدد رفع أسعار النفط عام 1979 والسياسة النقدية المتهاونة للاحتياطي الفيدرالي عام 1980. أعطى سعر الذهب في سبعينات القرن الماضي مظهر عدم الاستقرار. وعبر القرون حافظ الذهب على قيمته بالنسبة للسلع الأخرى، ولكن الذهب غير مستقر بالنسبة للعملات نظراً لعدم التأكد من كيفية التصرف في مخزونات البنوك المركزية من الذهب البالغة بليون أونصة والتي تحتفظ الولايات المتحدة بحوالي ربعها.
3. ملاحظتي الثالثة—التي تكاد تكون بديهية—هي أن للسياسة النقدية للولايات المتحدة دور كبير في تقرير القيمة الدولارية للمعادن الثمينة. السياسة النقدية السهلة خلال الأعوام 1979-1980 رفعت سعر الذهب إلى أكثر من 850 دولاراً في كانون الثاني 1980. ولكن عندما تشدد الاحتياطي الفيدرالي تراجع سعر الذهب إلى 300 دولار، وعندما سلك الذهب نهجاً وسطياً مؤخراً استقر لفترة من الوقت على سعر يتراوح بين 400-500 دولار. سلطة التأثير على أسعار الذهب هي سلطة السيطرة على الحجم الفعال للاحتياطات النقدية الدولية. ولا يمكن إغفال أهمية النظام الاحتياطي الفيدرالي فهو أكثر أهمية اليوم مما كان عليه بنك إنجلترا في أوج فترة استخدام الذهب كمقياس عالمي. ربما كان إنشاء نظام الاحتياطي النقدي عام 1914 أهم حدث في القرن العشرين حيث لعب دوراً فعالاً في الحربين العالميتين وفي دورات التضخم والانكماش.
سياسة الاحتياطي الفيدرالي لها تأثير مهيب على البنوك المركزية الأخرى، فرغم محاولات إلغاء مرجعية الذهب أو تسفيه قيمته في سبعينات القرن الماضي ورغم اتفاقية صندوق النقد الدولي في جامايكا عام 1976 وتقليل التركيز على الذهب ورفع شأن حقوق السحب الخاصة فإن الذهب قد بقي كمستودع خاص “لقيمة النقد الطيار” وملاذاً شعبياً للقوة الشرائية وأهم موجودات احتياطيات البنوك المركزية. لهذه الأسباب يبقى الذهب متيقظاً لتوقعات التغييرات في التضخم. إذا زاد التضخم المتوقع بنسبة نقطة مئوية واحدة سنوياً فإن سعر الذهب قد يرتفع بما مقداره عشرة نقاط حيث يجري تغيير المحافظ لصالح الذهب. بليون الأونصات من السبائك الذهبية التي تحتفظ بها البنوك المركزية يمكن استخدامها كضمانات من قبل البنوك المركزية عند سعيها للحصول على قروض وهي بالتالي قابلة للتحويل نقداً بسيولة دولارية. تبعاً لذلك فإن الاحتياطي الفيدرالي لديه السلطة لتحديد، ليس فقط احتياطيات النقد الأجنبي في الخارج، ولكن قيمة الاحتياطيات من الذهب بالدولار. بمفهوم عملي، يعتبر النظام الاحتياطي الفيدرالي الملجأ الأخيرة للإقراض في النظام المصرفي الدولي والمقرر لقيمة الدولار في الاحتياطيات العالمية. بهذا المعنى يصبح منصب رئيس مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي مغتصباً لمنصب القائد العام للنقد في النظام المالي العالمي.
لا أريد إنكار أهمية ارتفاع سعر الين والمارك الألماني والأهمية المالية المستمرة للجنيه والفرنك—هذه العملات الأربع إضافة للدولار تشكل حقوق السحب الخاصة؛ وجود العملات الأربعة الأخرى يفرض بعض القيود على الدولار ويمنعه من الهيمنة الاحتكارية التامة. إذا كان للنظام النقدي الأمريكي أن يصبح غير مستقر تماماً فستظهر محاولات جديدة لمنعه من الهيمنة. حدث هذا فعلاً عام 1970 عندما أدى الركود في الاقتصاد الأمريكي وانهيار أسعار الفائدة الأمريكية—وهذه ظاهرة لمستويات التبادل بالذهب مقرونة باحتياطي فيدرالي متضخم—إلى إطلاق طوفان من السيولة الدولارية الزائدة التي فاضت إلى أوروبا وألهمت خططاً، كانت مجهضة قبل ذلك، بإيجاد عملة أوروبية؛ وحدث هذا ثانية عند إنشاء نظام النقد الأوروبي. بيد أن دمج النقد الأوروبي يبدو أنه يتفكك كلما انتقل الاحتياطي الفيدرالي أو تقاطع مع سياسة نقدية حصيفة. طالما بقي الدولار يوفر أداة دولية مرضية وبقي الاحتياطي الفيدرالي يوفر قيادة نقدية جيدة، مع الأخذ بالاعتبار النتائج الخارجية لأعماله بخصوص أسعار الصرف وسعر الذهب، فيبدو أن السلطات الأخرى تبقى قانعة بقبول القيادة النقدية للولايات المتحدة.
4. ملاحظتي الرابعة تتعلق بعدم اتساق سلطة الاحتياطي الفيدرالي إزاء الذهب عندما يتحدد سعر له. ففي حين يستطيع الاحتياطي الفيدرالي المبالغة في سعر الذهب فإنه لا يستطيع المبالغة في خفض سعره إلا على المدى القصير. إذا أعادت الولايات المتحدة العمل بنظام التحويل عند سعر مرتفع جداً للذهب وصاغت سياسة نقدية مواكبة لذلك فسيتعين عليها شراء الذهب الزائد المعروض عليها وبذلك تخلق احتياطيات مصرفية وأسعار فائدة منخفضة ومعدل أسعار أعلى مما قد يكون مرغوباً به. من ناحية أخرى إذا أعادت الولايات المتحدة قابلية التحويل بسعرٍ منخفض جداً للذهب فسيتعين عليها بيع الذهب وتخفيض احتياطيات المصارف وقبول سعر تعادلي أقل مما هو مرغوب به. وحيث أنه من ناحية عملية سيكون من المستحيل سياسياً دفع السعر في الولايات المتحدة إلى مستوى أقل من نقطة معينة (واقتصادياً غير مرغوب به القيام بذلك بسبب مشاكل الإفلاس والبطالة) فإن هناك حداً أدنى لسعر الذهب بالدولار لا يمكن تداول الذهب بسعر يقل عنه. من ناحية أخرى ليس هناك حدود عليا لسعر الذهب بالدولار ما عدا ما يفرضه استعداد الاحتياطي الفيدرالي أو الخزانة لقبول واردات من الذهب وتضخم. اللازمة المصاحبة للاقتراح القائل بأن الولايات المتحدة لا تستطيع تخفيض سعر الذهب لفترة طويلة (كما فعلت بين عامي 1968 و1971)، هي القول بأنها لا تستطيع لفترة طويلة المبالغة في سعر الدولار.
5. ملاحظتي الخامسة والأخيرة أن هناك ضرورة لاحتياطيات دولية بموجب أسعار مرنة بدلاً من أسعار ثابتة؛ وأن التدخل في أسواق الصرف الأجنبية هو أكثر في حالة أسعار الصرف المرنة منه في حالة أسعار الصرف الثابتة. وقد تنبأ السير روي هارود، بين آخرين، بهذه الحالة التي تبدو متناقضة ظاهرياً لنظام أسعار مرن في ستينات القرن الماضي. كان الاعتقاد أوسع انتشاراً في ستينات القرن الماضي بأن الانتقال إلى نظام من أسعار الصرف المرنة سيقضي على مشاكل موازين المدفوعات والحاجة إلى احتياطيات نقد أجنبي والتدخل في أسواق الصرف الأجنبية، ناهيك عن طرق مصطنعة على أساس إصلاح مالي لإيجاد سيولة جديدة. كل هذه الأفكار حول الطريقة التي قد تحدد سلوك عالم من العملات الوطنية المعوّمة كان ينبغي تبديدها بسرعة لأن التعويم العام قد بدأ عام 1973. لقد تم إيجاد سيولة دولية في شهر واحد عام 1982 أكثر مما تجمع سابقاً لدى شعوب الأرض كافة منذ بدء الخليقة حتى تعليق نظام التبادل بالذهب عام 1971!
أزمة الدَّين العالمي عام 1983 لم تظهر كقدر من الغيب. لقد استغرقت ديون البلدان الأقل تطوراً فترة طويلة للارتفاع إلى ما يزيد عن نصف تريليون دولار ولم تؤخذ العلاقة بنظام سعر الصرف على أنها مصادفة. بناءُ دين كهذا غير معقول في ظل أسعار صرف ثابتة. المقولة الملازمة، هي بالطبع، أن القيمة الحقيقية لهذه الديون يمكن تضخيمها عن طريق تضخم الدولار الأمريكي والدولار الأوروبي. لقد تمت مناقشة هذه المشكلة في مؤتمرات عدة في سبعينات القرن الماضي خصوصاً فيما يتعلق بالطريقة التي خلقت بها هذه الديون مشكلة التضخم المصحوب بانخفاض الإنتاج والبطالة والتأثير العكسي لذلك.
بموجب نظام أسعار الصرف المعوّمة العامة لم تكن هناك آلية للسيطرة الدولية على كمية الاحتياطيات الدولية. كان بوسع البلدان الحصول على الاحتياطيات التي تريدها ببساطة عن طريق شرائها. أصبحت السياسة النقدية في كل بلد تتسم “باللطف”، وانهارت موازين المدفوعات. كان توفير النقد مقيداً فقط بالخوف من تخفيض سعره و/أو الخوف من التضخم. ولكن بعد أن تم تعويم كل العملات مقابل الذهب، مثلما حصل بعد اتفاقية سميسثون، فقد اختفت مرساة الاستقرار التي كان يوفرها الذهب. لم ينجح الحاجز المضاد للتضخم الذي كان قد تم توفيره عن طريق معادلة أسعار الصرف طالما ظلت البلدان على قدم المساواة مع بعضها البعض في سياساتها التضخمية. كان النظام الجديد لا يزال محوره الدولار، ولكن الدولار لم يعد يتمتع بانضباطية قابلية تحويل الذهب التي كانت دائماً توفر نظرياً وعملياً كابحاً للسياسات التضخمية للاحتياطيات المركزية. منذ ذلك الحين أصبحت مسألة ما إذا كانت السياسة العالمية ستكون تضخمية أم لا تعتمد على ما إذا كانت سياسة الاحتياطي النقدي تمكنها من ذلك أم لا.
ما كانت الزيادات في أسعار النفط في السبعينات لتكون ممكنة لولا الزيادات المصاحبة في أسعار الذهب (ولهذا كانت احتياطيات الذهب) وموجودات أسواق الصرف. وفي الوقت الذي نجح فيه النظام في السبعينات، بعد رفع أسعار النفط، فقد واجهت البلدان الصناعية والبلدان الأقل تطوراً احتمالات العجز التي كانت ستعني الانكماش أو تخفيض عملاتها مقابل الدولار، لو لم توفر الولايات المتحدة الاحتياطيات التي يستطيع سوق الدولار في أوروبا التوسع على أساسها لتمويل العجز في موجة الإقراض الكبرى بين عامي 1973-1981. وعندما نفذت مخصصات الإقراض الخاصة للبلدان المقترضة تولت حكومات البلدان المقترضة تغذية سوق الإقراض بالدولار الأوروبي بأوراق نقدية ذات قيمة اسمية بالدولار لم تكن مدعومة غالباً بأكثر من توقيع حكومات غير دستورية أو غير ديمقراطية.
تبعاً لما تقدم لم يوفر نظام تعويم الأسعار ضبطاً ولا قيوداً نقدية، بل على العكس من ذلك فقد أوجد هذا النظام تضخماً وديوناً غير قابلة للسداد وإفلاساً فعلياً للعديد من البلدان. في النهاية تم استبدال مشاكل موازنة موازين المدفوعات—وهي المصدر الرئيسي للضبط في نظام أسعار صرف ثابتة (عند ربطها في نهاية المطاف بمركز احتياطي مرتبط بدوره بالذهب)—تم استبدال هذه المشاكل أخيراً بضبط مالي تم التوصل إليه بعد أن استنفذ تفجيرٌ إقراضي كبير أرصدة الحكومة. التوازن المالي هو الآن الوقاية الوحيدة ضد التضخم، ولكن ليس بالإمكان تحقيق التوازن المالي في ظل التزامات الديون المالية الحالية على معظم البلدان الأقل تطوراً. إن ضخ مزيد من الأموال إلى البلدان الأقل تطوراً قد يخفف من مشكلة التسديد الحالي للديون وفوائدها، ولكن فقط على حساب جعل المشاكل البعيدة المدى لإعادة التسديد أقل قدرة على الحل. الحلول تكمن في مكان آخر.
نستطيع أن نرى الآن أن التفاوت بين النتائج المتوقعة والحقيقية المرتبطة بالتحول من أسعار صرف ثابتة إلى أسعار صرف مرنة يكمن في فشل المدافعين النقديين عن أسعار صرف مرنة في فهم آلية التعديل التي كانت ترتبط، في أنظمةٍ صحية، بأسعار صرف ثابتة. إن بلداً لديه عجز في ميزان مدفوعاته يعاني من زيادة في عرض عملته مقابل عملات أخرى، ويتعين على السلطات، لمنع التضخم، عرض احتياطياتها من العملات الأجنبية (أو الذهب) وإخراج العملة الزائدة من التداول عن طريق خفض تلقائي للنقد المتداول لدى الجمهور أو القاعدة الاحتياطية للنظام المصرفي. من الواضح أن الحالة تصحح ذاتها حيث أن النقد المتداول لدى الجمهور سينخفض إلى الحد المطلوب. ولكن حكومات عديدة عملت، لسوء الحظ، على ممارسة عمليات “تعقيم” أو “تحييد” كان من شأنها تعطيل آلية التعديل، أحياناً بذريعة سخيفة تدعى “عمليات دفاعية”. مشاكل موازين المدفوعات بمعناها الدقيق لا تنشأ بين مناطق لها عُملة مشتركة واحدة لأنه ليس هناك فرصة لتعطيل عملية التعديل بواسطة عمليات تعقيم أو تحييد. إذا كان هناك بلدان، لكل منهما سلطات إصدار نقود خاصة به، يتدخلان فقط في أسواق الصرف، فإن التعديل سيكون سلساً كما لو كان الحال بين منطقتين في بلدٍ يستخدم عملةً مشتركة.
باستثناء بعض المبررات والحالات الخاصة، فالسبب في أن بلداناً مثل إيطاليا واليابان والمكسيك وكوستاريكا تستطيع المحافظة على أسعار صرف ثابتة لعقود عدة بموجب نظام بريتون وودز هو أن هذه البلدان قد سمحت عموماً للخسائر والمكاسب في الاحتياطيات بالتأثير على معدل النمو في عرض النقد، وكان التعقيم، في أسوأ الأحوال، جزئياً فقط، ولذلك تحققت فعالية آلية التعديل والضبط المالي. أما عندما تخلت هذه البلدان عن الأسعار الثابتة وتحولت لأسعار صرف مرنة—إيطاليا واليابان عام 1971 والمكسيك عام 1976 وكوستاريكا عام 1981—فقد خسرت فوراً مؤشر الخطر أو دفة التوجيه التي كانت سر سياساتها النقدية الثابتة السابقة. هذان مثالان فقط من أمثلة كثيرة تظهر بوضوح تام في سجلات الإحصاءات النقدية.
ينطبق المبدأ نفسه على الحالة التي يكون فيها سعر الذهب معقماً، والواقع أن الولايات المتحدة فقط هي التي ثبّتت سعر الذهب بموجب المادة 4-4-ب من المواد الأصلية في التعديل. خسارة الذهب تعكس نفسها في سياسة نقدية أكثر تشدداً ومكاسبه في سياسة نقدية أسهل. سيحدث هذا مرة أخرى بشكل تلقائي شريطة ألا يقوم البنك المركزي بتعقيم أو تحييد التأثير التلقائي لخسائر أو أرباح الذهب على النقد أو احتياطيات البنك (كما فعلت الولايات المتحدة وبريطانيا فعلاً). طالما كان الجمهور متيقظاً ويتوقع العلاقة بين الذهب أو تدفقات النقد الأجنبي وبين آلية تعديل عرض النقد فإن قوى المضاربة ستساعد، بدلاً من أن تحبط، التوصل إلى توازن جديد.
نجاح قاعدة الذهب عبر عقود طويلة كان متوقفاً على معرفة وتوقع عواقب آلية التوازن. وقد كانت التوقعات المحسوبة في مكانها لأن جميع الخبراء فهموا النموذج. الآلية، كما تم فهمها بشكل صحيح، لم تتطلب لتطبيقها سواء مستوىً سعرياً أو تغييرات في التوظيف لأن التعديل كان متوقفاً على التغيرات في الإنفاق المحلي في بلدٍ واحد في اتجاه معاكس لتغيير مماثل في بقية العالم.
خمسة خيارات للإصلاح النقدي الدولي

1. الخيار النقدي لأسعار صرف معوّمة حرة
الخيار الأول الذي يجب طرحه للدراسة هو الخيار النقدي في تعويم أسعار الصرف. هذا الخيار يسعى للسيطرة على الكتلة المالية الكلية بمعنى محاولة تثبيت معدل نمو مفهوم مالي محدد. عندما يقوم كل بلد بذلك فسيتعين أن تأخذ أسعار الصرف بالتذبذب مقابل بعضها البعض حيث أنه ليست هناك آلية للتأكد من أن الطلب على النقد سيكون مساوياً للعرض. الهدف الأساسي هو ضمان الاستقلال النقدي لكل بلد لمحاولة تحقيق معدل التضخم “المثالي” الخاص به أو نمو الناتج القومي الإجمالي النسبي. إذا تم تثبيت أسعار الصرف فسيحدث خلل في التوازن بين الطلب والعرض وسيخسر البنك المركزي أو يربح احتياطياتٍ مما سيؤدي في نهاية المطاف إلى أزمة أسعار صرفٍ وتخفيضٍ إلزامي لسعر النقد (يتجاهل النقديون عادة التأثير التوازني للتغييرات الاحتياطية والإنفاق النقدي). لمنع خلل التوازن من التطور ينبغي السماح لسعر الصرف بالارتفاع أو الانخفاض حسب قوى العرض والطلب في السوق مع ضمان الاستقرار النقدي عن طريق تثبيت معدل نمو كتلة النقد. معدل النمو الحقيقي الذي يتم اختياره لعرض النقد سيختلف بين بلد وآخر، وسيعتمد على معدل التضخم المرغوب به ومرونة دخل الطلب للمفهوم المحدد للكتلة المالية المختارة للتثبيت. والوسائل المستخدمة في تحقيق السيطرة على كمية النقد ستكون من خلال معدل نمو متنوع مناسب للنقد الحكومي وتعليمات الحكومة للبنوك للاحتفاظ باحتياطي قانوني ثابت بين النقد الخاص بالبنك والنقد الحكومي؛ وقد تجري بعض التعديلات لتصحيح التذبذبات التضخمية والانكماشية بهدف الإبقاء على العملة خارج البنوك أو استبدال عملات حكومات أجنبية بالعملة الوطنية.
هذا الاقتراح قد يشمل حوالي 150 سعر صرف معوّم أو أكثر. التنويعات على الاقتراح تشمل أنواع مختلفة من “التعويم القذر” أو إدارة أسعار الصرف إلى تسهيل التذبذبات في التوجهات، أو منع الهجمات الاحتكارية على عملات بلدان صغيرة من قبل البنوك الكبيرة أو البنوك العملاقة متعددة الجنسيات، أو الوقاية من السياسات النقدية المسببة لعدم الاستقرار التي تنشأ أساساً خارج بلد التعويم.
تمت، إلى حد ما، تجربة اقتراح النقديين بعد عام 1971 ولكن بشكل خاص بعد عام 1973 عندما نفضت لجنة العشرين يدها من الإصلاح النقدي “حتى يتم حل مشكلة التضخم”. وقد حقق نظام “تعويمٍ قذر” وضع قانونٍ دولي في التعديل الثاني على مواد اتفاقية صندوق النقد الدولي الذي كان قد وافق في اجتماع جامايكا للجنة العشرين التابعة للصندوق عام 1976 على تبني نظام سعر صرف مرن تحت السيطرة. وقد تلقى الصندوق مزيداً من الدعم من هيئة الذهب الأمريكية (التي كان يسيطر عليها النقديون). وكانت تلك هي المقاربة التي سلكتها حكومة ريغان في رفضها للمقترحات الأوروبية عام 1982 للتدخل في سوق أسعار الصرف.
إن مقاربة النظرية النقدية تعتمد على استخدام سعر الصرف كأداة تعديل لتصحيح مشاكل ميزان المدفوعات. إذا كان هناك عجز لدى بلد في ميزان مدفوعاته فإن سعر الصرف سينخفض، طبقاً للجدلية النظرية، مما سيجعل سلع هذا البلد أقل سعراً والسلع الأجنبية أغلى سعراً ويحول الطلب العالمي باتجاه سلع البلد ذي العملة الأقل سعراً. لنفرض، على سبيل المثال، أن لدى الدول المصدرة للنفط فائضاً في موازين مدفوعاتها، فبموجب أسعار الصرف المعوّمة سترتفع أسعار عملات بلدان الأوبك—حسب هذه الجدلية—مما سيرفع أسعار النفط، ثم يتحول الطلب العالمي من النفط إلى السلع الأخرى ويحدث توازناً في موازين المدفوعات. أو لنفترض أن اليابان لديها فائض في ميزان مدفوعاتها مع الولايات المتحدة، عندها سيرتفع الين مقابل الدولار حتى ينتهي الفائض وبذلك يعود التوازن إلى الانسجام. وكمثال أخير، لنفرض أن بلداناً مثقلة بالديون مثل المكسيك والبرازيل والأرجنتين لديها عجز في موازين مدفوعاتها. الحل، طبقاً للنقديين، هو أن تسمح هذه الدول لعملاتها بالانخفاض مقابل الدولار حتى يتم الوصول إلى التوازن في حساباتها الخارجية، وتحافظ في الوقت ذاته على معدل توسع عملاتها ثابتاً طبقاً للمعادلة النقدية لتحقيق معدل التضخم المرغوب به (ربما صفراً أو حتى سالباً).
مقاربة هذه النظرية يدحضها نقادهم انطلاقاً من أسس نظرية وعملية وسياسية، على الرغم من أن أعداء أسعار الصرف المعوّمة—شأنهم في ذلك شأن كل من يتصدى لاقتراح آخر—لا يعترضون على ذلك انطلاقاً من نفس الأسباب. الاعتراض الأول نظري: حقيقة أن المملكة العربية السعودية لديها فائض في ميزان مدفوعاتها، وبموجب التعويم تسمح لريالها بالارتفاع مقابل الدولار—كما ستفعل لو لم يكن هناك تدخل—لا تعني أن أسعار سلع المملكة العربية السعودية مثل النفط ستصبح أغلى بالنسبة لبقية العالم. الأغلب أن سعر الدولار لن يتغير والنتيجة الوحيدة التي ستترتب على التغير في سعر الصرف هي أن جميع أسعار السلع التي يتم التعامل بها بالريال السعودي ستنخفض مما سيرفع القيمة بالدولار للأصول المالية المقيّمة بالريال، وبالتالي يرتفع، إلى حد ما، الإنفاق المحلي شريطة ألا تتم موازنة هذا التعديل بخفض مقابل في الإنفاق ناجم عن انخفاض قيمة الريال مقابل احتياطيات النقد الأجنبي التي تحتفظ بها الحكومة والسلطات النقدية. وتعتمد النظرية النقدية في التعديل، مثلها في ذلك مثل النظرية الكينزية، على أسعار وأجور ثابتة للسلع المنتجة في البلد الذي ارتفعت أسعار عملته. لهذه الأسباب وأسباب أخرى، قد لا تكون لتغيرات أسعار الصرف تأثير على ميزان المدفوعات، بل إنها ستعكس على الأغلب موافقة على تغير سابق في الأسعار الإجمالية أو، الأسوأ، تحرص على تغيير في مستويات النقد والأسعار على السواء. ليس هناك دليل يربط بين قيم أسعار صرف منخفضة بالميزان التجاري أو بميزان الحسابات الجارية، أو بميزان المدفوعات. وعندما أولى الاقتصاديون انتباهاً جدياً للقضية جاء الدليل غامضاً.
الاعتراض الثاني على أسعار صرف مرنة هو أنها تؤدي إلى فقدان الانضباط المالي، كما توحي بذلك التجارب في المكسيك وكوستاريكا والأرجنتين والبرازيل و—بعد عام 1982—الأوروغواي. خطر الإفلاس الناجم عن اندفاع على سحب النقد الأجنبي والمضاربة هو انضباط أسوأ بكثير من حالة خفيفة من تخفيض العملة أو التضخم بعد أن يكون الجمهور قد اعتاد على تخفيض سعر العملة. الأسعار المرنة للعملة تفسح المجال لسوء الإدارة لدرجة فقدان مصداقية الحكومة وبالتالي تمثل دعوة مفتوحة للفساد.
الاعتراض الثالث هو أن نظاماً عاماً لأسعار صرف معوّمة سيخلف فوضى معلوماتية في عالم يوجد فيه ما يزيد على 160 عملة. من الواضح أن فوائد نظام عملة مشتركة لن تظهر وسط الفوضى، ولحسن الحظ أن البلدان لم تصل لهذه الدرجة ولكنها ربطت نفسها في الواقع بمقاربة تعكس بدرجة أوضح نظام مناطق عملات مثلى. الحالة الوحيدة التي تم فيها تطبيق هذا النظام عملياً كانت خلال التشوش الذي واكب استخدام المعدنين (الذهب والفضة) في العصور الوسطى عندما قامت كل مدينة—دولة في إيطاليا وألمانيا بالادعاء باستخدام عملتها المعدنية الخاصة بها (بموجب الامتيازات الممنوحة حتى عام 1355 من قبل الامبراطور الروماني المقدس)، وحتى العملات الذهبية التي كانت سائدة حتى ذلك الوقت كالفلورين أو السيكوبين (مسكوكة ذهبية) قد تم تطويرها. اقتراح عملات منفصلة متذبذبة السعر لا يتعامل ببساطة مع العالم كما هو الآن أو كما سيكون عليه في المستقبل المنظور. إن الأخذ بأسعار صرف معوّمة بين عملات لبلدان متناهية الصغر مثل فانوواتو (الفاتو) والدولار والين لا يخدم غرضاً مفيداً والممارسة الفعلية لربط الفاتو بحقوق السحب الخاصة، على الأغلب بسعر متناقص، هي دعوة للتضخم. أهمية العملة المحلية تكمن بصورة أكبر في دورها السياسي كرمز وطني وسيادي وليس بقطع معدنية صغيرة تحمل رسوماً قد تختفي بفعل التوسع النقدي والتضخم.
ينبغي للإنصاف القول بأن العديد من الاقتصاديين الذين كانوا يعتقدون ذات يوم بالتعويم العالمي قد غيروا آراءهم الآن على مناطق إقليمية بأسعار صرف ثابتة. مع ذلك فالحقيقة هي أنه ما لم تربط جميع البلدان الأقل تطوراً عملاتها بالعملة القيادية نفسها فإنها جميعاً ستعوِّم بالنسبة لبعضها البعض. إلا أن من الممكن لسعر صرف ثابت في بلد أقل تضخماً أن يوفر انضباطاً نقدياً ما كان يمكن توفيره. إلا أن الحقيقة الأهم في واقعنا الحالي لا زالت هي الدور الإقراضي الذي يلعبه الدولار، والذي يجعل مقاربة النقديين عملياً غير واقعية. ربما كان الاعتراض الأكثر أهمية على الأسعار المعوّمة هو عدم وجود أسس لتوقع القيمة المستقبلية للنقد—وبالتالي أسس لدمج “فرق التضخم” الصحيح بأسعار الفائدة—وقد أظهرت الممارسة، في الولايات المتحدة على الأقل، أن الكتل النقدية لا توفر دليلاً فعالاً لتثبيت معدلات التضخم، وأيُّ محاولةٍ لتثبيت معدل مفهومٍ نقدي معين تفرض الحاجة إما لتغيير معدل نموه أو تغيير مكونات السلة النقدية مما يلغي الغرض الأساسي للعملية التي كان المقصود منها في المقام الأول إلغاء الحاجة للتحفظ من جانب البنك المركزي. اليوم، في عام 1983، ليس لدى الولايات المتحدة قاعدة ارتباط بالذهب أو قاعدة سلع “كينزية” أو قاعدة ورق “فريدمانية”. يوجد الآن قاعدة “فولكرية” (نسبة إلى محافظ الاحتياطي الفيدرالي [آنذاك] بول فولكر). ولكن من يستطيع التنبؤ بالقيمة المستقبلية للجنيه أو الدولار أو الين على أساس قاعدة “ثاتشرية” أو “فولكرية” أو “ناكاسونية” (نسبة إلى رئيس الوزراء الياباني [آنذاك] ياسوهيرو ناكاسون)؟ أياً كانت عيوب قاعدة الذهب أو قاعدة دولار قابل للتحويل فإنها ليست أكثر اعتباطية أو تقديرية من النظام الاعتباطي الذي ساقنا إليه موقف النقديين حول قاعدة العملات. وتفرض فروق عدم التأكد المتضمنة في هيكل أسعار الفائدة طويلة المدى تكاليف لا ضرورة لها على معاملات سوق رأس المال وهي أقصر طريق لتقويض النظام الرأسمالي—أو أي نظام آخر.
2. خيار قاعدة الذهب الجديدة
يكره أنصار قاعدة الذهب خيار النقديين حول أسعار صرف معوّمة لكل عملة في العالم، فالنقد ليس مجرد صنيعة اقتصادية، بل هو فكرة، ومعلمٌ أساسي من معالم الحضارة والذي يعتمد وضعه الصحي في مجتمع متحرر على إمكانية التنبؤ بقيمته واستقراره ليس اليوم فقط بل على المدى البعيد. النقد، كما يقول كينز، هو حلقة الوصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، لكي يكون بالإمكان التوصل إلى عقود والتزامات وبقاءها ضمن أسعار فائدة تعبر عن الندرة الحقيقية لرأس المال وضغط عامل الزمن مع تقليل إمكانية حدوث خطأ بشري في التنبؤ إلى أدنى حد ممكن. إن وجود نقد مستقر مقبول على أوسع نطاق ممكن—ويفضل في العالم كله—هو الطريقة المؤكدة لإشراك كل فرد في إنتاجية منظومة عالمية واسعة النطاق وفي المعلومات المؤثرة على الاقتصاد وفي الالتزام بتخطيط طويل المدى وتحقيق التوقعات المعتدلة. إن التوسع في استخدام ومنافع النقد الوطني إلى المحيط الدولي يعادل التوسع في المكاسب من التجارة الحرة وتحقيق الذات إلى المجال العالمي. وفي الوقت الذي يتركز فيه اهتمام النقديين الوطنيين على السوق المحلي فإن الدوليين يركزون على المكاسب الناجمة عن الاستخدام المشترك لعملة مشتركة. وإذا لم يكن ممكناً حتى الآن إيجاد عملة عالمية واحدة لأسباب سياسية فإن أقرب تشبيه لها، يمكن بواسطته تشبيه خصائصها المفيدة، هو نظام عملات يمكن تحويل الواحدة منها للأخرى بسعر صرف ثابت أو معروف سلفاً. وبينما قد تكون قاعدة السلع عملياً سلة من السلع—طبقاً لاقتراحات إيرفين فيشر عام 1912 وجون مانيارد كينز عام 1930—فإن الحل العملي الوحيد اليوم هو استخدام المعادن الثمينة وخصوصاً الذهب. الذهب هو السلعة الوحيدة التي تحتفظ بها حكومات قادرة على القيام بدور نقدي فعال، وفي حين أن المرء قد لا يرغب في استبعاد بدائل أخرى للذهب مستقبلاً، في القرن القادم، فلن يكون من المجدي حالياً إيجاد معيار سلعي حول أي سلعة ما عدا الذهب.
المدافعون عن قاعدة الذهب يتناولون مشكلة نظام النقد الدولي من وجهة نظر مضادة لتلك التي يتبناها النقديون الوطنيون. إنهم يفضلون رؤية توسع في مزايا عملة مشتركة تستخدم في سائر أنحاء العالم، أو على الأقل بقدر ما تسمح به المؤثرات الاقتصادية السياسية الخارجية. بدءاً من ولايات متحدة تضم 48 ولاية و12 منطقة احتياطي فيدرالي كل منطقة منها تصدر “دولاراً” خاصاً بها وقابل للتحويل مع دولارات المناطق الأخرى بسعر صرف محدد، هل يتحقق قبول ولايتين أخريين في الاتحاد (مثلاً هاواي وألاسكا) بإصدار عملتين إضافيتين وترك دولار هاواي وألاسكا معوّمين؟ أم هل ينبغي إبقاء الأسعار ثابتة؟ المدافعون عن قاعدة الذهب يؤكدون على المزايا الكبيرة للأسعار الثابتة في هذه الحالة، وكذلك الحال في رأي الحكماء من خبراء النقد في مجلس الشيوخ الأمريكي.
ما ينطبق على هاواي وألاسكا يبدو أنه ينطبق بالمثل على ولاية بورتوريكو والعديد من الجزر الصغيرة التابعة وكذلك منطقة قناة بنما وبنما نفسها وليبيريا وبلدان عديدة أخرى. ما يميز (البالبوا) البنمي عن العملات المجاورة هو استقراره النقدي النسبي حيث يعكس معدلات التضخم في الولايات المتحدة. كلما اتسعت المنطقة الدولارية لتشمل فنزويللا والمكسيك وكندا والمملكة المتحدة إلخ، كلما أصبحت أكثر كفاءة كقاعدة للنقد في العالم. حتى مع أن الاستقرار النقدي في الولايات المتحدة ليس كبيراً كما كان عليه الحال تحت نظام بريتون وودز فإنه أكبر بكثير من الاستقرار في معظم البلدان الأخرى في الاقتصاد العالمي وأصبح الآن مرتبطاً بعملات ما يزيد على 60 بلداً آخر.
في عالم توجد فيه (س) من العملات، هناك (س-1) من أسعار الصرف. معظم البلدان الأخرى العاملة بنظام بريتون وودز حافظت على استقرار عملاتها، مباشرة أو عن طريق عملات أخرى، نسبة إلى الدولار، في حين حافظت الولايات المتحدة على استقرار عملتها نسبة إلى الذهب. الاستقرار نسبة إلى الذهب كان، تاريخياً، وسيلة لتحقيق مستوى مستقر للأسعار، وهو المرساة للنقد الورقي إزاء عالم السلع. إلا أن نظام بريتون وودز قد انهار بعد أن أدت تضخمات الإقراض لثلاث حروب إلى رفع أسعار الدولار إلى مستويات عالية وتركت الذهب عند سعر 35 دولاراً للأونصة وهو سعر أقل من قيمته الحقيقية. ورغم أن بعض الاقتصاديين يستخدمون حقيقة أن الذهب لم يضبط السياسة النقدية للولايات المتحدة بما فيه الكفاية في زمن الحروب ويستخدمون ذلك كحجة ضد الذهب فإن المدافعين عن قاعدة الذهب يحاججون بأنه ما كان لأي نظام نقدي آخر أن يفعل شيئاً أفضل من ذلك. لقد نجحت قاعدة الذهب في الإبقاء على أسعار الفائدة أقل من 7% لمدة تزيد على 35 عاماً، وهي تجربة لم يستطع أبداً نظام أسعار الصرف المرنة مجاراتها.
السؤال الذي يبرز هو ما إذا كان من المجدي لكل بلد أن يتبنى قاعدة الذهب. الجواب لا. إن اختيار عملة أو مادة رئيسية يرتبط بصورة وثيقة بإمكانية الوصول إلى أسواق رأس المال، فمعظم البلدان تحتاج إلى استقرار عملاتها نسبة إلى العملة التي يتعين عليها استخدامها لدفع التزاماتها أو الاقتراض أو الإقراض أو تسديد ديونها. ليس مصادفةً أن دولاً كالمكسيك والبرازيل والأرجنتين التي تواجه صعوبة ناجمة عن استحقاقات تسديد ديونها خلال فترة تعويم أسعار الصرف، يتعين عليها الآن لتسديد ديونها المتراكمة بدولارات تكلف بلايين إضافية بالنسبة للبيزو أو الكروزيرو. أسعار الصرف المرنة دمرت العادة التجارية وقد تجعل من الضروري تضخيم بعض الديون. في القرن التاسع عشر كان الجنيه الإسترليني عملة التداول العملية في التجارة الدولية وما يعادل الآن أوراق النقد أو الشهادات النقدية في سوق الدولار في أوروبا. اليوم الدولار هو العملة العالمية دون أن ننكر أهمية القيمة الإقليمية للمارك والجنيه والين والفرنك. ولكن الذهب ليس داخلاً في التنافس كعملة تبادل ليحل محل الدولار. المسألة بالنسبة للاقتصاد العالمي ستكون مثل محاولة استبدال اللغة الإنجليزية باللاتينية كلغة تجارية. كما أن حقوق السحب الخاصة ليست في مجال التنافس، فحقوق السحب الخاصة هي المكافئ العصري للغة الإسبرانتو. في ظل قاعدة الذهب، كما يراها مؤيدوها اليوم، لا يتوقع أحد أن يقوم تجار بتحميل قطع نقد ذهبي على دوابهم كما كانوا يفعلون وهم في طريقهم إلى معارض برايز (في بلجيكا اليوم) أو تشابين في العصور الوسطى. الدور الرئيسي للذهب في قاعدة الذهب الجديدة هو توفير وقاية ضد التضخم وضد الزيادة في التوسع مع الأخذ بعين الاعتبار بأن الذهب، مثله مثل النفط، هو مورد قابل للنفاذ. إذا التزمت بلدان أخرى بنظام تحويل لعملاتها إلى الدولار أو حقوق السحب الخاصة كما يتعين عليها أن تفعل لكي تحقق سعر صرف ثابت والاستفادة من عملة عالمية مشتركة، فعندئذ يتعين على الدولة التي تحررت من ضرورة التدخل في أسواق الصرف الأجنبية (أي الولايات المتحدة) أن تقبل بعض القيود على سيادة عملتها، وذلك على شكل التزام ببيع وشراء الذهب ضمن هوامش محددة لمعادلة مركزية.
إذا كان بالإمكان عقد اتفاقية حول استقرار أسعار الذهب فستنتهي التأرجحات الهائلة المؤدية إلى عدم الاستقرار في قيمة الاحتياطيات الدولية بالدولار وستبرز سياسة استقرار نقدي عالمية نتيجة لتجارب عدم الاستقرار في الفترة بين عامي 1971-1983. سيكون من المرغوب به التوصل إلى اتفاقية دولية حول سياسة الذهب لأن الولايات المتحدة تحتف الآن بأقل من 25% من الذهب النقدي في العالم. سيكون من الضروري الأخذ في الاعتبار النزعة لامتلاك الذهب في أوروبا الغربية واليابان والمنطقة العربية لأن الولايات المتحدة لا تريد أن تجد نفسها في وضع تبيع فيه كل موجوداتها من الذهب أو تشتري فيه الموجودات الذهبية العامة والخاصة في بقية أنحاء العالم.
قد يكون من الممكن دمج بعض معالم قاعدة الذهب هذه مع نشاطات بنك العالم المركزي (التي سنبحثها بعد قليل) باستخدام حقوق السحب الخاصة كأداة لمركزة أسعار الصرف (جعلها مركزية). إذا استقرت أسعار الين والمارك الألماني والجنيه والفرنك نسبة إلى حقوق السحب الخاصة فسيؤدي ذلك بالضرورة لاستقرار الدولار، حيث تستطيع الولايات المتحدة بعد ذلك أن تقصر تدخلها على عمليات السوق المفتوح في الذهب. بديلاً عن ذلك، إذا استقرت أسعار العملات الأربع الأخرى نسبة للدولار فسيكون الاستقرار نسبة لحقوق السحب الخاصة مضموناً. إن قاعدة حقوق السحب الخاصة ترقى عملياً، إن لم يكن بالاسم، إلى قاعدة الدولار في الوضع الحالي للقوى الاقتصادية.
ينبغي تحديد سعر الذهب بين 300-600 دولار، ومن المرغوب به أن يكون هناك بعض التذبذب في السعر لاستغلال المعلومات التي لا بأس بها الموجودة حتى في اختلافات صغيرة بين الحدود الخارجية حول المعادلة المركزية والتي يمكن بواسطتها إرسال إشارات حول التوجه المناسب للسياسة النقدية بين السلطات والأسواق. يمكن لوزير الخزانة أن يبدأ عمليات سوق مفتوح في الذهب دون أي التزامات ثابتة سابقة حول السعر الثابت النهائي للاستقرار، وفي هذا المجال يمكن للولايات المتحدة أن تستعيد، إلى حد ما، القيادة النقدية التي كانت قد تخلت عنها في آب 1971. ليس هناك حاجة اقتصادية لإطالة أمد الضيق الذي ساد الاقتصاد العالمي عندما تخلت الولايات المتحدة عن قيادة الاقتصاد.
في حالة شد الحبل التي قامت بين أوروبا وأمريكا منذ ستينات القرن الماضي، كان يمكن التعبير عن الصراع بتلقائية التكيف مقابل تلقائية التحويل. يتعين علينا أن نعرف الآن أن أسعار الصرف المرنة لا تعني التكيف بالضرورة. بقدر ما كان الدولار مقيّماً بسعر أعلى في ستينات القرن الماضي فإن تلك المبالغة في التقييم لم تكن مقابل العملات الأخرى، بل كانت زيادة في التقييم بالنسبة للذهب الذي كان مقيماً بأقل من قيمته نسبة لجميع العملات. وبالنظر إلى الوراء فإن الحل الأفضل في الستينات من القرن الماضي كان يمكن أن يكون تغييراً عالمياً في سعر التكافؤ للعملات، وهو الحل نفسه الذي كان يمكن له أن ينقذنا من عثرات الركود الكبير وعواقبه المريعة.
اعتاد الناس على القول بأن “الانتعاش وشيك جداً” ولكن استعادة الاقتصاد العالمي لعافيته يتطلب أسعار فائدة منخفضة وعجز نسبي اقل في الموازنات وانعكاساً إيجابياً على فرص العمل ونهاية للتوقعات بتسريع التضخم. خلطة السياسات المطلوبة لتحقيق تشكيلة من الأهداف تقتضي الثقة بالدولار وتخفيضات ضريبية محفزة، وأسعار صرف مستقرة، وقابلية تحويل الذهب. عجز الموازنة في الأربعينات، والذي بلغ 25% من الناتج القومي الإجمالي، لم يتسبب في أسعار فائدة مرتفعة بل إن سعر الذهب المرتفع (آنذاك) أدى إلى أسعار فائدة منخفضة وسيكون له نفس الأثر الآن. خلطة السياسات التي تمت الدعوة لها، ولكن لم تنفذ، عام 1981 لمواجهة التضخم وانخفاض النمو وازدياد نسبة البطالة تضمنت تشدداً نقدياً وتخفيضات ضريبية محفزة وأسعار صرف ثابتة وقابلية الذهب للتحويل—وهي المحركات الأربعة الضرورية لجعل الطائرة تحلق بكفاءة. اثنان من المحركات لم يجر تشغيلهما أبداً والتخفيضات الضريبية المحفزة تم تأجيلها وإضعافها وأخيراً إلغائها في صيف عام 1981، وهكذا بقي محرك واحد لإدامة تحليق الطائرة. يتعين على الاقتصاديين أن يتذكروا أن خفض الضرائب في فترة ركود يتبع من إملاءات نظرية كينزية ونظرية جانب العرض على السواء، ولكن المرء يأمل أن يكون الاقتصاديون على وعي أيضاً بأنه في عالم من حركة رأس المال وأسعار الصرف المرنة فإن نسبة المضاعف هي (تقريباً) صفر.[1] بقدر ما كانت تخفيضات الضرائب فعالة فإنها قد زادت في عجز الموازنة ورفعت نسبة الفائدة (إلى جانب التشدد النقدي) واجتذبت رؤوس أموال من الخارج ورفعت من سعر الدولار وجعلت الميزان التجاري أكثر سوءاً مما وازن الحوافز الكينزية وترك سياسة التشدد النقدي في حالة معزولة.
من حسن الحظ أن الجدل الذي ثار حول قاعدة الذهب في الولايات المتحدة قد أصبح مؤخراً أقل سخفاً ويعود ذلك جزئياً نتيجة لما توصلت إليه هيئة الذهب حيث لم يعد الاقتصاديون قانعين بالاقتباسات الكينزية واللينينية المشكوك في صحتها. هناك محاججات سياسية أحدها أن على الولايات المتحدة أن تبيع القمح أو الزبدة لشراء ذهب سوفييتي، وأخرى على أساس ميزان القوى، لمنع إنشاء كتلة تضخم الفرنك والمارك والروبل والذهب في القارة الأوروبية. هذه القضايا تقع خارج نطاق البحث الحالي، ولكن مسألة قيادة الولايات المتحدة للعالم الغربي ليست كذلك.
3. خيار النقد الخاص
طُرحت بإلحاح فكرة أن عصر النقد الحكومي لم يحقق نجاحاً في إيجاد نقد يتميز بالكفاءة وتبعاً لذلك فإن إحالة هذه المهمة إلى بنوك وطنية أو دولية وعملات وطنية قد يكون إحدى الوسائل لإيجاد نقد خاص، وهو بديل سيفتح الباب للدخول الحر في هذه الصناعة ويزيل الضرائب التمييزية على إنتاج وبيع النقد المعدني. ينبغي لي أن أقول منذ البدء بأني أدعم الأهداف التي يسعى لها نظام نقدٍ خاص ولكن لدي شكوك فيما إذا كان بالإمكان تحقيقها في العالم السياسي الذي نعيش فيه. أشك في أن حكوماتٍ كثيرة ستكون مستعدة للتخلي عن سلطاتها الهائلة التي يحققها لها هذا الامتياز.
لقد أصبح النقد، ولعل النقد الحكومي كان على الدوام، أداة للسلطة الوطنية ظلت محاطة دائماً بحماية شديدة من قبل أي حكومة تتولى السلطة. كان النقد دائماً مصدراً للعجز المالي، وبديلاً للضرائب، ومسكوكات رابحة، وضريبة على التضخم. وأصبح النقد مؤخراً وسيلة يمكن بواسطتها لسياسةِ نقدٍ توسعية، وفي ظل أسعار صرفٍ مرنة وضريبة دخلٍ تصاعدية، زيادة حصة الإنفاق الحكومي من الناتج القومي الإجمالي. كما أن النقد كان وسيلة تستطيع الحكومات استخدامها لسندات الدين بفائدة لتمويل العجز ثم تمحو، من خلال التضخم، القيمة الحقيقية لدين الحكومة، وهو أسلوب يمكن الاستمرار فيه حتى تدركه توقعات التضخم وتنهار إثر ذلك الثقة بديون الحكومة. سلطة النقد تعطي الحكومة القدرة على السيطرة على الموارد الحقيقية ثم تغيير، ومن طرف واحد، شروط أي التزام سابق بدفع قيمتها. كما أنه، ومن خلال استخدام الخيار النقدي، تستطيع الحكومة أيضاً تحقيق القدرة على دفع أي التزامات غير متوقعة كتلك التي تنشأ عند نشوب حرب. معظم الحروب لا يمكن خوضها إذا كان يتعين دفع تكاليفها من جبايات الضريبة المعتادة.
بعض البلدان، بالطبع، قامت بتغيير أنظمتها المالية للإقرار بالوجود الرسمي لنقد خاص، وجزء من النقد في جميع العواصم الرأسمالية هو نقد خاص. بطاقات الائتمان وودائع البنوك التجارية هي بدائل قريبة من النقد الخاص. ولكن نادراً ما تكون هناك حالات تم السماح بها للبنوك بإصدار أوراق نقدية.
ليس من الواقعي حالياً ولا في المستقبل المنظور طرح برنامجٍ لنظامٍ نقدي عام على مستوى العالم. إن تقاليد الديمقراطية الحقيقية تتراجع تاريخياً بدلاً من أن تزداد وليس هناك سوى قلة قليلة من الديمقراطيات الحقيقية حاليا. الأنظمة الشمولية والاستبدادية التي تسيطر على السلطة المركزية الآن تستخدم الأموال الحكومية كأداة للدولة أو أصحاب المصالح الخاصة فيها لتشديد قبضة السلطة المركزية على مواطنيها المقموعين أحياناً، ولكن غالباً لمجرد استخدام الضرائب لزيادة ثروات القائمين على النظام الحاكم. أياً كانت ميزات نظام استثمارات حرة لنقد منافس—وأنا أقر بأن هناك ميزات كثيرة في مجتمع حر حقيقي—فإني لا أرى ممراً سياسياً يمكن العبور من خلاله لتطبيق نظام كهذا ويتعين علي، تبعاً لذلك، أن أصرف النظر عن الفكرة باعتبارها ملهاة تليق بجنات عدن أكثر مما تليق بعالم من الواقعية السياسية حيث لا يساوي هذا الاقتراح شيئاً.
رغم أني أتعاطف فلسفياً مع فكرة النقد الخاص فإني لا أريد لها أن تكون ملهاة عن بدائل موجودة حالياً.
4. خيار المناطق النقدية المثلى

هناك خيار مهم آخر وهو نظام المناطق النقدية—مناطق نقدية “مثلى” إذا تم تصميمها لتعظيم معيار مصلحة عامة مقيدة. من المفيد أن نبدأ التفكير بكل دولة قطرية باعتبارها منطقة نقدية مشتركة. وقد تختار دولتان قطريتان أو أكثر ربط عملاتها ببعضها البعض والبدء بتعويم مشترك مقابل البلدان الأخرى. حالة كهذه تثير السؤال حول العملة المثلى. انطلاقاً من عملات وطنية فردية معوّمة، ما المعيار الذي قد يدفع بلداناً لربط عملاتها بترتيبات تعويم مشترك؟
على أحد طرفي التفكير في هذه المسألة هناك النموذج النقدي لعملة وطنية معوّمة تماماً لكل بلد، وعلى الطرف الآخر عملة عالمية كما قد يسود في ظل دمجٍ نقدي عالمي كما قد يفهم من العمل بقاعدة ذهب عالمية أو عملة عالمية. ما هي مكاسب دمج العملات أو استقلاليتها؟
حجم البلد مسألة ذات شأن، فبلد صغير يقع إلى جانب بلد كبير قد يجد أن تحولات بسيطة من عملة إلى أخرى قد تغير مستوى الأسعار في البلد الصغير بنسبة عكسية مع حجمه بالنسبة للبلد الكبير. يمكن للبلد الصغير تقليل الضرر الناجم عن هذه التحولات عن طريق تثبيت أسعار الصرف وترك تذبذبات الاحتياطيات تمتص الصدمات. والشيء ذاته ينطبق على الصدمات من خارج النظام، فبحيرة كبيرة تستطيع تفادي الصدمات العشوائية بطريقة أفضل من بحيرتين صغيرتين، أي أن مبدأ القاطرة يصح في هذا النظام. وما ينطبق على عملتين ينطبق حتى بصورة أفضل على ثلاث عملات وهكذا.
البلدان المؤلفة لأي منطقة عملة لديها أشياء مشتركة معينة. أولاً—والأهم على نحو ما لأنه أمرٌ لا بد منه—فأي بلدين لديهما أسعار صرف ثابتة يجب أن يكون لديهما مستويات أسعار متناسبة مع بعضهما البعض، بحيث يصبح لديهما خلال فترة من الزمن نسب تضخم متماثلة. إذا لم يكن الأمر كذلك فستكون أسعار السلع في أحد البلدين أرخص دائماً منها في البلد الآخر، وسيتبع ذلك ميزان مدفوعات غير متعادل مما يفرض تصحيحاً نقدياً أو انهيار المنطقة النقدية (خفض سعر العملة). أسعار الصرف الثابتة هي، في نهاية المطاف، وسيلة لبلدين للمشاركة في سياسة نقدية مشتركة سوءاً كانت هذه السياسة المشتركة غير متماثلة، كما في علاقات الهيمنة، أو سياسة مشتركة متكافئة كما في اتفاقيات التعاون أو الاتحادات النقدية. في القرية العالمية التي أوجدتها الاتصالات السريعة قد لا تكون هناك أهمية للعلاقة الجغرافية، فجغرافيا التضخم تُرسم على خارطة عالمية من المناطق النقدية.
كما تتشارك البلدان في “سلة” مشتركة مع السلع أو العملات التي ترتبط بها عملاتها. البلدان المعزولة كلياً عن بعضها البعض تبقى، مع ذلك، في نفس المنطقة النقدية ويكون لديها تقريباً نفس نسبة التضخم أو الانكماش إذا اختارت، مثلاً، سلة سلع واحدة كالذهب أو الفضة ربطت بها عملتها. منطقة الدولار هي مثال آخر، وكذلك منطقة الفرنك للمستعمرات الفرنسية الإفريقية. بلدان المنطقة النقدية الواحدة يسيرون على إيقاع طبل واحد.
ثالثاً، لقد كانت الإمبراطوريات تقليدياً هي مناطق نقدية منفردة تتشارك في سوق رأس المال نفسه في العاصمة وربما في نفس اللغة.
رابعاً، قد تتنقل عوامل الإنتاج بسهولة أكبر بين البلدان المشاركة في منطقة نقدية واحدة إما كشرط مسبق لاتفاقية المنطقة النقدية أو كنتيجة لذلك.
خامساً، قد تعكس المناطق النقدية ترتيبات سياسية مثل بلد أم ومستعمرة، منتصرة أو مهزومة، أو اتحاداً سياسياً أولياً. وغالباً ما تشكل الاتحادات النقدية كأداة أو خطوة أخرى نحو اتحاد سياسي كما في حالة السوق المشتركة أو دول الخليج.
سادساً، قد تعكس المناطق النقدية شراكات تجارية تكميلية كما قد يحدث بين بلدان صناعية وبلدان منتجة رئيسية، أو بين بلدان استوائية وبلدان معتدلة المناخ.
سابعاً، قد تعكس المناطق النقدية علاقات القوى حيث تتشكل اتحادات عملة لوضع الأسس لتحالفات دفاعية أو هجومية محتملة.
ثامناً، قد تعكس المناطق النقدية مناطق تخطيط. وقد تكون التغيرات في أسعار الصرف مفيدة لتحقيق التعديلات الأساسية في ميزان المدفوعات فقط عندما يكون هناك استقرار يمكن للأسعار أن تتصرف على أساسه لتغيير الأجور الحقيقية. مناطق التخطيط تتضمن درجة من الدمج ولذلك فإن هذا المعيار يتداخل مع الخيارات السياسية.
إنه مجرد هذا النوع من تأثير “القاطرة” الذي يجعل الدول تستخدم عملة التجارة أو العملة “الخارجية”. في منتصف القرن التاسع عشر، وخصوصاً بعد أن تخلت فرنسا عن دورها كالدولة المحورية في استخدام معدني الذهب والفضة، سارعت بلدانٌ للانضمام إلى جماعة الذهب مقتفية أثر بريطانيا، ثم فرنسا، ثم الامبراطورية الألمانية. وقد حدثت حالة مماثلة بعد انهيار التعويم الأوروبي المشترك عام 1973 عندما اختارت دول عديدة الانضمام إلى قاعدة الدولار. تضم منطقة الدولار اليوم حوالي 60 عملة لدول خارج العالم الشيوعي، وهي تمثل، بعد وقت طويل من بدء التعويم العام سنة 1973، كتلة العملة الرئيسية في الاقتصاد العالمي. نشأ عن الاتفاقية العامة للتعويم نظام مناطق عملات متذبذبة تدور حول الدولار.
النظام النقدي الأوروبي تمتد جذوره إلى محاولات أوروبا الغربية في ستينات القرن الماضي لتحرير نفسها من الارتباط باستقرار يمثله دولارٌ للتحويل للذهب. ومع وقف الارتباط بالذهب الناجم عن نظام “الطبقتين” بعد عام 1968، احتاجت الدول الأوروبية لمزيد من احتياطيات النقد الأجنبي وحصلت على دولارات لتحل محل الذهب عندما انخفضت أسعار الفائدة نتيجة للركود الاقتصادي عام 1970-1971. وبعد 15 آب 1971 لم يستطع الأوروبيون الاتفاق على تعويم مشترك ونتج عن ذلك التوصل إلى الترتيبات السميثسونية—في الواقع منطقة دولار عالمية، وما من بلد يقبل بيع الذهب بالسعر الرسمي الجديد البالغ 38 دولاراً للأونصة. لم يحقق تخفيض الدولار عام 1973 أي شيء ذي جدوى، وقد أسس لسعر رسمي أعلى لم تعد الولايات المتحدة بموجبه قبول بيع الذهب بسعر 42.20 دولاراً للأونصة وأعاد تخفيض الدولار تعريف الأسس التي يقوم عليها الدولار الأمريكي. كان ذلك إصلاحاً آخر لا جدوى منه. بعد ذلك حاولت البلدان الأوروبية مرة أخرى التوصل إلى اتفاقية تعويم مشترك ولكن بريطانيا لم تقبل بالمشاركة وانهارت منطقة العملة “المثلى” بحلول حزيران. وجاءت المحاولة الثالثة للتوصل إلى اتفاقية تعويم أوروبية مشتركة عام 1979 والتي وضعت الأساس للنظام النقدي الأوروبي، ولكن هذه المحاولة فشلت أيضاً. لا بد من التساؤل في هذه المرحلة، وبعد تكرر الفشل لثلاث مرات عما إذا كانت أوروبا الغربية، دون بريطانيا، تشكل منطقة عملة مثلى، أو ما إذا كانت أوروبا الغربية واليابان تتبعان لنظام دولاري ودولاري أوروبي أكبر. وسأترك جانباً الشبح الخطر لبروز مثلث “أورويللي” خاص بالفرنك والمارك والروبل.
الحل النقدي لمناطق عملات وطنية ذات أسعار معوّمة دون تدخل ليس حلاً راسخاً، فهو يميل إلى التداخل مع نظام مناطق عملات أكبر. لقد أثبتت منطقة العملة المثلى تاريخياً أنها أكبر من منطقة العملة الوطنية المعزولة. بيد أن العملة المثلى، في الطرف المقابل، لم تكن أبداً بحجم الاقتصاد العالمي، فقاعدة الذهب في الوقت الحاضر—على سبيل المثال—لا تستطيع أن تحوي الاقتصاد العالمي برمته.
قد تتطابق مناطق النقد القائمة حالياً، وخلال هذه الفترة، بصورة دقيقة إلى حد ما مع مناطق النقد المثلى المجدية. لم تبدر من جانب كتلة العملة الأوروبية الشرقية أية إشارة حول رغبتها في الانضمام لمنطقة الدولار، مع أن بعض البلدان الأوروبية الشرقية قد أبدت رغبتها في الانضمام إلى صندوق النقد الدولي عندما تم السماح لهم بذلك. أوروبا الغربية ليست متململة تحت المظلة المالية لمنطقة الدولار، وهناك إمكانية واعدة لمنطقة ين يابانية إضافة إلى منطقة يوان على أساس “عملة الشعب” أو الرينمنبي في المستقبل. وقد تتطور منطقة نقد خليجي ثم تمتد إلى منطقة عربية أوسع إذا برزت قوى تمركز كافية في البلدان العربية. وقد تستمر منطقة الفرنك المرتبطة بالفرنك الفرنسي حتى يتم التوصل إلى بديل أفضل لأوروبا الغربية.
خيار المناطق النقدية المثلى هو النتيجة الأكثر احتمالاً إذا لم يتم اتخاذ خطوات مدروسة لتأسيس نظام نقد عالمي جديد.
5. خيار بنك مركزي عالمي

أحد أغراض إنشاء بنك مركزي عالمي هو توفير نقد عالمي عندما لا يكون موجوداً وعندما يكون من المرغوب فيه إيجاد نقد من هذا النوع. أحد الأغراض الأخرى هو توفير مصدر للنقد الدولي عندما يكون نادراً دون مبرر وكبح نموه عندما يكون زائداً. هناك غرض ثالث وهو القيام بدور الوسيط المتحمل للخطر بين البلدان ذات الفائض والبلدان ذات العجز. والغرض الرابع هو خفض، إن لم يكن وقف، التذبذبات غير المرغوب بها في أسعار الصرف. وهناك غرض خامس، هو توفير وسيط بين البلدان الدائنة والبلدان المدينة لإعادة الجدولة أو تمويل الالتزامات المترتبة على فوائد الديون عندما لا تعود هناك جدوى من قنوات الاتصال العادية والحلول الثنائية. بعض نواحي هذه الأغراض تقوم به وبصورة جزئية المؤسسات القائمة حالياً مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك التسويات الدولية إضافة لبنوك إقليمية متنوعة ووكالات وطنية وجماعات خاصة. إلا أن زيادة النمو في الاحتياطي الدولي العشوائي والنمو غير المنضبط للدين وعدم الإحساس بالطمأنينة في أوساط المجتمع المصرفي التجاري الدولي وغزو المجالات الخاصة من قبل مؤسسات دولية ناهيك عن أزمة الدين، تكشف بوضوح عن الفجوات في الهيكل الدولي. لقد تم تجنب أزمة كانت على وشك الحدوث عام 1982 ولكن ليس هناك ضمانة بأنه قد تم العثور على حل لبقية العقد وما بعده.
سأطرح بأدناه خطة لتأسيس بنك مركزي عالمي برأسمال تريليون دولار. ستعطى للبنك المركزي العالمي الصلاحية لأن يقبل بين موجوداته الذهب والعملات الأجنبية والتزامات الدين للدول الأعضاء. وسيكون بوسعه أيضاً قبول ودائع بالعملات الوطنية أو أدوات دين مختارة ويقوم بالمقابل بفتح حسابات للحكومات الأعضاء مقيّمةٍ بوحدة الاحتياطي الدولي وستقبل الشيكات المسحوبة على هذه الحسابات من قبل الأعضاء الآخرين لغاية نسبة مضاعفة من حصتها التي ستتقرر وفقاً للاتفاقية التأسيسية بين البلدان المشاركة. وسيقدم البنك المركزي العالمي قروضاً بسعر البنك تحت ظروف محددة تعكس أحوال السوق. وسيتم تنسيق نشاطات البنك المركزي العالمي مع نشاطات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كما وسيساعدهما البنك المركزي العالمي في تنسيق نشاطاتهما.
يمكن للبنك الجديد أن يلعب دوراً في سوق الذهب في حالة عزم البلدان الكبرى على تأسيس قاعدة الذهب الجديدة أو إعادة تأسيس قاعدة الدولار القابل للتحويل إلى ذهب. قد يتم ذلك من خلال استخدام حقوق السحب الخاصة الموجودة حالياً كوحدة للعملة الجديدة أو وحدة عملة جديدة. لنفترض أن الوضع المبدئي للبنك المركزي العالمي كان على النحو التالي:

يمكن للبنك المركزي العالمي المبادرة في قبول الذهب من البنوك المركزية الوطنية التي ترغب في مزيد من السيولة فيها أو في بيع الذهب لتلك البنوك المركزية التي ترغب في تقليل حجم ودائعها من العملة الاحتياطية العالمية. ويمكن للمعاملات الفعلية أن تتم بين البنك المركزي العالمي وإحدى البلدان الأعضاء أو عن طريق أحد البنوك المركزية الوطنية العامل كوكيل للبنك المركزي العالمي.
بعدئذ يكون للبلد المعني خيار تثبيت نقده بالنسبة للنقد العالمي الذي سيكون قابلاً للتحويل لذهب أو يكون له خيار بيع وشراء الذهب مباشرة. وسيكون ربح خطوط القروض الجديدة التي سيفتحها البنك المركزي للبلدان بسعر فائدة مرتبط بالسوق (لنقل سعر الفائدة على الدولار الأوروبي أو ليبور) بينما تربح الودائع السائلة لدى البنك المركزي العالمي بنسبة فائدة أقل.
سيمتد تأثير وجود مؤسسة كهذه إلى تخفيف الصعوبات الحالية لأزمات السيولة وإعادة جدولة الديون. كما أنه سيخفف من التأرجح الكبير في أسعار صرف الدولار عندما يحدث التنويع (أو عكسه) وسيمنع التذبذب المسبب لعدم استقرار الاحتياطيات الدولية الناجم عن تذبذب أسعار الذهب.
ورغم أنه يمكن القيام بهذه المهام في غياب وجود بنك مركزي عالمي فلن يكون من الممكن القيام بها بنفس الكفاءة أو بقدر مساوٍ من توزيع متعدد للمخاطر. هناك صعوبات كبيرة تكتنف إنشاء بنك كهذا ولكنها ليست عصية على الحل أكثر من صعوبات إنشاء بنك إنجلترا المركزي أو نظام الاحتياطي الفيدرالي. لقد تم البدء في فتح الطريق بالنجاح النسبي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في بريتن وودز. مضى على إنشاء هذه المؤسسات أربعون عاماً حافلة بالازدهار الذي يزداد كلما تعمقت أزمة الدين. ولكن سرعة التطور المالي خلال هذه الأربعين عاما شكلت حالة استثنائية إلى الحد الذي أصبح من الضروري فيه الآن وجود إطار لمواجهة الصعوبات المنظورة خلال العقود القليلة الماضية. الذهب لوحده لا يمكن إن يشكل حلاً في ضوء احتمال أن تصبح أسعار الذهب موضع تفاوض. وفي نهاية المطاف أيضاً لا يمكن مواصلة التسارع على المطلوبات بالدولار دون أن يؤدي ذلك في النهاية إلى تقويض العملة الأمريكية. في نهاية المطاف ستكون المشكلة التي لا بد من مواجهتها هي الحاجة إلى بنك مركزي عالمي جماعي.
الاستنتاجات

بحثت في الصفحات الماضية في خمسة خيارات رئيسية لإصلاح النقد الدولي كان بعضها أكثر أهمية من غيره. وفي سبيل التوصل إلى قناعة بخصوص هذه الخيارات من الضروري أن نتذكر أنه ليس مما يفيد كثيراً أن نأمل في نظام لا يمكن وضعه موضع التنفيذ. فمن الضروري مناقشة مدى الحرية الفعلية للسلطات في تحديد النتيجة.
واقع الحال هو أن العالم سيحوي، على الأرجح، عناصر من الخيارات الخمسة. بعض البلدان سيكون لها أسعار صرف مرنة نظراً للحقيقة البسيطة المتمثلة في أنها لا تستطيع السيطرة على سياستها النقدية. ربما أمكن تخصيص قروض من البنك المركزي لتمويل عجز الموازنة وإذا حصل ذلك فلن يكون هناك في البلد المعني ضبط مالي قد يوفر فرص النجاح لنظام سعر صرف ثابت.
وصحيح بنفس الدرجة أيضاً أنه طالما كانت هناك أسعار صرف مرنة فستكون هناك مناطق عملات. بعض العملات لم تستطع البقاء في ظل نظام سعرٍ معوّم وتبعاً لذلك فهي لن تستطيع البقاء مستقبلاً في ظل مثل هذا النظام. ليس هناك مفر من التعويم المشترك، وطالما بقي هذا التعويم المشترك فستسعى البلدان لتكوين أفضل صورة للمجال الذي لها نفوذ فيه.
سيتواجد النقد الخاص في كل مكانٍ هو غيرُ محظورٍ فيه بإجراءات حكومية محددة. الحكومات لا تستطيع السيطرة على الأشياء المسماة نقوداً، ولكن الجمهور سيقرر ما الذي سيقبله تسديداً للدين، وإذا ما سعت الحكومة لتغيير ذلك الشيء المقبول فسيسعى الجمهور لتجنب تلك العقود التي يخضع تنفيذها لوسيلة دفعٍ غير مقبولة.
لدينا اليوم معالم بنك مركزي عالمي ولا زال لدينا ملامح بقية من قاعدة الذهب رغم أن البعض قد يدعوها ملامح جينات انقطع تأثيرها منذ أمد طويل. مع ذلك فإني أعتقد أن هذا هو أفضل مجال يمكن فيه إحراز أكبر درجة من التقدم. تثبيت أسعار الذهب سيكون خطوة عملاقة نحو تثبيت قيمة الاحتياطيات الدولية وسيكون إنشاء بنك مركزي عالمي مناسب، في المستقبل، أداة لا غنى عنها لحل أزمة الدَّين العالمي.
ملاحظات:

[1] بدقة أكثر يتم تصدير المضاعف إلى بقية العالم إلى درجة أن يصبح بنسبة معاكسة طردياً لحجم البلد في الاقتصاد العالمي.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 2 شباط 2007.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

إن الدعوات التي تنادي بالتنسيق الحكومي فيما يتعلق بنسب تبادل العملات من أجل إدارة الاختلالات العالمية هي دعوات في غير محلها. ولاستخراج درس حول أن التدخل في تبادل العملات يمكن أن يؤدي إلى إنزال فوضى مالية عارمة، ما عليك إلا أن تنظر إلى اتفاقيات بلازا واللوفر.
مجموعة الأمم الصناعية الخمس—الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان وألمانيا وفرنسا—كانت قد اجتمعت في نيويورك في عام 1985 للاتفاق على عمل مشترك هدفه تخفيض قيمة الدولار. لم تكن الصين عنصرا يؤخذ بالاعتبار حيث أن احتياطاتها من العملات الأجنبية لم تكن تتجاوز 12.7 بليون دولار، وكان مجمل حسابها الجاري في توازن تقريبا. لقد أدى تدخل الأمم الصناعية الخمس في سوق تبادل العملات الأجنبية، إضافة إلى التغييرات التي حدثت في السياسات المالية، إلى المساعدة على تخفيض قيمة الدولار. ولكن بعد عامين اثنين من ذلك بلغ العجز في ميزان الحساب الأمريكي الجاري ذروة مقدارها 3.4% من الإنتاج المحلي الإجمالي، الأمر الذي حدا بالدول الست (مجموعة الأمم الصناعية الخمس بالإضافة إلى كندا) للاجتماع مرة أخرى في باريس لعكس ذلك التطور.
وأسوأ من ذلك أنه بعد اتفاق عام 1987، ابتاع بنك اليابان الدولارات وسمح للقاعدة النقدية بالنمو سريعا، وبالتالي خلق اقتصاد الفقاعة أواخر عقد الثمانينات. وقد انفجرت الفقاعة في عام 1990 بعد أن خفض بنك اليابان المركزي تخفيضا حادا النمو النقدي في منتصف 1989.
إن البلدان التي عانت المعاناة الأشد من غيرها نتيجة الأزمة المالية الأسيوية التي تلت ذلك كانت هي البلدان التي أخطأت في إدارة سياساتها النقدية. وكما لاحظ جون جرينوود، كبير الاقتصاديين في إنفيسكو آسيا: “الدرس العام هو أنه من أجل السيطرة على نمو النقد والائتمان ضمن حدود معقولة تتفق مع تضخم منخفض على المدى البعيد، فإن قيمة العملة الخارجية يجب أن تترك حرة للتأقلم—وبالأخص صعودا”.
واليوم هنالك عوامل أخرى تجعل من أي اتفاق حول قيم التبادل أقل احتمالا في النجاح. فقد ارتفع العجز في حساب الولايات المتحدة الجاري بما يزيد على 6% من الناتج المحلي الإجمالي. الصين الآن هي ثالث أكبر أمة تجارية في العالم. والبنوك المركزية الآسيوية تلعب دورا مهما في تمويل العجز في موازنة الولايات المتحدة. إن اتفاقا جديدا على غرار اتفاقيات بلازا-لوفر سوف يتطلب مجموعة أكبر بكثير للتوصل إلى اتفاق—مجموعة العشرين—وبدون وجود آلية للتنفيذ ذات فعالية ومصداقية.
إن مفاوضات التي تجري من أجل حل الاختلالات التجارية تفترض بأن “الخبراء” هم على معرفة بقيم تبادل العملات السوقية ذات العلاقة، وأن الحكومات تستطيع الاتفاق على تطبيقها—وكلاهما لم تثبت صحته. إن الأسواق المالية هي أكثر تعقيدا بكثير الآن مما كانت عليه في عقد الثمانينات، كما أن التدفقات الرأسمالية الخاصة تغرق التدفقات الرسمية. أية قيمة تبادل تكون في جوهرها غير متوازية سوف تتعرض في النهاية إلى الهجوم ولن تكون الحكومات في وضع يتيح لها الحيلولة دون ذلك. يضاف إلى ذلك، كلما تأخرت فترة التأقلم كلما ارتفع الثمن بالنسبة لسوء تخصيص الموارد.
وبدلا من اتفاقية جديدة على غرار بلازا-لوفر فإن توجها بديلا لإصلاح الاختلالات العالمية هو في جعل السلطات النقدية تتفق على مبادئ وأهداف مشتركة. الهدف من ذلك سيكون خلق مصداقية عن طريق التزام البنوك المركزية باستقرار الأسعار على المدى الطويل.
وقد اقترح هانز جينبرغ، المدير التنفيذي للأبحاث في سلطة نقد هونغ كونغ، خلق “منطقة استقرار مالي” في شرق آسيا. الخطوة الرئيسية لتحقيق ذلك تكمن في اتفاق على نظام ثابت فيما يتعلق بأهداف التضخم.
وحتى تكون منسجمة مع حرية تدفق رأس المال، يتوجب على البنوك المركزية عدم التدخل لتحديد قيم التبادل. إن المعلومات المستقاة في نظام قيم مرنة تكون ذات نفع في إدارة السياسية النقدية، وقد تختار بعض السلطات النقدية اتباع النموذج السنغافوري باستخدام قيم التبادل كهدف عملياتي. بموجب ذلك تحتفظ هونغ كونغ بمجلس النقد وتحدّد قيمة العملة.
ومع استقرار الأسعار على المستوى الإقليمي والاندماج المالي فإن نسب الفوائد سوف تتلاقى بحيث تصبح قيم التبادل أقل هياجا. ومع الأخذ بعين الاعتبار احتمال قيام عملة موحدة—إما للإقليم أو، وهذا أكثر احتمالا، لمجموعة اصغر من البلدان—فإنه لن يكون ضروريا تحقيق تلك المنافع.
تحتاج الصين إلى بنك مركزي مستقل من أجل استقرار نمو الدخول الاسمية المعمول بها والحيلولة دون التضخم. كما أن تخفيض الرقابة على رؤوس الأموال سوف تقلل من الضغوط على نسب التبادل بين اليوان والدولار، بينما لبرلة نسب الفوائد سوف تسمح بتخصيص أكثر كفاءة ونجاعة لرأس المال.
المشكلة هي إقناع الصين بتبني مبادئ اقتصادية ليبرالية في وقت يتسم فيه نظامها السياسي بنقيض الليبرالية. أن تهدد الولايات المتحدة الصين بإجراءات حمائية بسبب عدم انتهاجها للمبادئ الليبرالية هو عمل من شأنه إحداث أثر عكسي، ذلك أن تنفيذ مثل هذه التهديد سوف يجعل الصين والولايات المتحدة أقل ليبرالية سواء بسواء.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 2 تشرين الثاني 2006.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20101

في الأول من كانون الثاني من عام 1999، قامت 11 دولة أوروبية بالتخلي عن استقلالية سيساتهم النقدية بالانضمام إلى الاتحاد النقدي الأوروبي. ومنذ ذلك الوقت، تقاسمت هذه الدول عملة مشتركة وهي اليورو، والأهم من ذلك، أنها جميعها تخضع تحت إشراف البنك المركزي الأوروبي الذي يضبط السياسات النقدية للمنطقة الأوروبية برمتها. ووفقا للمادة 105(1) لمعاهدة ماسترخت، فإن الهدف الرئيسي للبنك المركزي الأوروبي هو المحافظة على استقرار الأسعار. وتقود البنية المؤسسية للبنك، إضافة إلى الهدف الرئيسي المُعلن، إلى اعتقاد معظم الاقتصاديين على أن البنك الموحد الجديد سيكون اقل تدخلا نسبيا في السعي نحو استقرار الاقتصاد الكلي في المدى القصير. ولذلك، فإن غالبية، إن لم يكن جميع، دول الاتحاد النقدي الأوروبي تخضع الآن لبنك مركزي له دور أقل تدخلا ونشاطا من بنوكهم المركزية الوطنية السابقة. في هذه المقالة، سيتم بحث ما إذا كان هذا التحول في درجة فاعلية ونشاط السياسة النقدية قد أدى إلى زيادة أو نقصان الاستقرار في الاقتصاد الكلي في هذه البلدان.
قبل الموعد الرسمي لبدء الاتحاد النقدي الأوروبي، صدر العديد من الدراسات الأكاديمية التي بحثت تأثير التحول نحو بنك مركزي موحد على استقرار الاقتصاد الكلي في هذه الدول. فلقد استنتجت بعض هذه الدراسات بأن التحول نحو بنك مركزي موحد سيجعل هذه الاقتصادات أكثر ضعفا وزعزعة بسبب عجز البنك المركزي الموحد عن تكييف السياسة النقدية لملائمة الاحتياجات المنفردة لكل دولة من منطلق أن كل دولة تواجه صدمات خاصة بها، ولذا فلن يكون بمقدور البنك المركزي الأوروبي مواجهة هذه الصدمات بكفاءة نظام البنوك المركزية الوطنية المستقلة. وبالتالي، فقد توصلت بعض هذه الدراسات الأكاديمية، نظريا، الى أن الدول الأعضاء في الاتحاد النقدي الأوروبي ستُعاني على ارض الواقع من تأرجحات واسعة في النشاط الاقتصادي بعد التحول نحو البنك المركزي الموحد.
ومع ذلك، لم يظهر حتى الآن أي نقد لهذا التصور من قبل أصحاب النظرية النقدية. ولطالما جادل أصحاب النظرية النقدية أن السياسة النقدية هي المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار الاقتصادي، حتى وإن كانت حسنة النية. ويلخص برونر (1985: 12) موقف أصحاب النظرية النقدية بإيجاز: “لا تستطيع، في النهاية، أن تفي خيارات الإدارة النقدية بوعدها حتى مع وجود أفضل النوايا.” ويعتقد أصحاب النظرية النقدية أن المشاكل المتعلقة بوجود فجوات بين القرار والتنفيذ وكيفية اختيار التوقيت المناسب تنتج أخطاء في السياسات النقدية تتسبب في تحقيق درجة أدنى من الاستقرار الاقتصادي. فإذا كانت هذه النظرية صحيحة، فهي بذلك تقترح أن وجود بنك مركزي موحد غير قادر على أن يتجاوب بشكل أمثل مع الصدمات الخاصة لكل دولة، من الممكن أن يؤدي على أرض الواقع إلى تحقيق استقرار اقتصادي أكبر في الدول الأعضاء في الاتحاد النقدي الأوروبي وليس العكس. وبعبارة أخرى، سوف تؤدي السياسة النقدية الموحدة الأقل استجابة للصدمات الخاصة بكل دولة إلى المزيد من الاستقرار لأنه سيكون هناك تقلبات اقتصادية كلية أقل ناجمة عن أخطاء السياسات النقدية. ومع ذلك، ولبعض البلدان التي كان لديها بنك مركزي وطني غير نشط من حيث درجة التدخل (مثل البنك المركزي الألماني المعروف باسم بندسبنك)، فقد يكون دور البنك المركزي الأوروبي في اطاره الجديد أكثر نشاطا من البنوك المركزية الوطنية السابقة. وفي هذه الحالة، سيُجادل أصحاب النظرية النقدية أن هذه الاقتصادات ستصبح أكثر زعزعة وعدم استقرارا بعد التحول نحو البنك المركزي الأوروبي الأكثر تدخلا ونشاطا.
منذ ثلاثة عقود، احتدم نقاش أكاديمي هام حول الفعالية النسبية لكل من السياسات المالية والنقدية في التوصل الى الاستقرار الاقتصادي المنشود. ويبدو أنه قد تنامى إجماع للآراء بأن السياسة المالية أقل فعالية عموما من السياسة النقدية في تعزيز الاستقرار الاقتصادي في المدى القصير. ومن منطلق هذه النظرة المستجدة، يجب أن تكون السياسة المالية معنية بالدرجة الأولى بتعزيز النمو الاقتصادي طويل الأجل من خلال المحافظة على تحفيض معقول للمعدلات الضريبية وضبط العجز المالي وإلغاء الأنظمة والضرائب التي تؤثر سلبا في التعاملات الاقتصادية المحلية والدولية. ومن جهة أخرى، فلقد تزايدت القناعة بأن السياسة النقدية هي الآن الوسيلة الرئيسية التي تستطيع بواسطتها البلدان الوصول إلى الاستقرار الاقتصادي. ومازال النقاش محتدما حول ما إذا كانت السياسة النقدية النشطة ستحقق استقرارا بالفعل. وقد اصبح هذا النقاش أكثر أهمية من أي وقت مضى، مع اعتبار ان السياسة المالية لم تعد أداة فعالة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي المنشود.
إن تأسيس الاتحاد النقدي الأوروبي يوفر فرصة فريدة لرؤية كيف يمكن أن يؤثر التغيير في درجة نشاط السياسة النقدية على الاستقرار الاقتصادي لبلد ما. وسوف تساهم الأدلة المستقاة من هذا التحول النقدي الأوروبي على تبديد الخلاف الكبير بين الاقتصاديين حول مسألة ما إذا كان نشاط السياسة النقدية يوفر استقرارا اقتصاديا كليا بدرجة أكثر أو أقل. وفي حال ما إذا كان لا يمكن للسياسة النقدية الناشطة وحسنة النية أن تُعزز الاستقرار الاقتصادي، فعندها يقترح ضرورة قيام البنوك المركزية بالتركيز على استقرار الأسعار على المدى الطويل بدلا من التركيز على استقرار الاقتصاد الكلي في المدى القصير.
تبدأ هذه المقالة باستعراض بعض الكتابات السابقة حول الاتحاد النقدي الأوروبي وتعرض بعضا من الكتابات الصادرة عن أصحاب النظرية النقدية. ثم ستتوجه لقياس مدى نشاط وفعالية البنك المركزي الوطني لكل بلد قبل انشاء الاتحاد النقدي الأوروبي ومقارنة هذا مع نشاط البنك المركزي الأوروبي الجديد منذ تم تأسيسه. وأخيرا، سيتم تحديد الدول التي شهدت أعلى درجة من الزيادة (أو النقصان) في الاستقرار الاقتصادي منذ انضمامها للاتحاد الأوروبي النقدي، مع محاولة إيجاد علاقة بين تغيّر النشاط في السياسة النقدية والتغيّر الحاصل في الاستقرار الاقتصادي.
الاتحاد الأوروبي النقدي: الخلفيات والدراسات السابقة
دعت معاهدة ماسترخت التي تم التوقيع عليها من قبل أعضاء الاتحاد الأوروبي الخمسة عشر في 7 شباط 1992 إلى إنشاء البنك المركزي الأوروبي الجديد بتاريخ 1 كانون الثاني 1999. وسيكون البنك المركزي الأوروبي مسؤولا عن مهمة إدارة السياسة النقدية الموحدة لأعضاء الاتحاد النقدي الاوروبي الأحد عشر.[1] وينص النظام الأساسي للبنك المركزي الأوروبي (المادة 2 من البروتوكول) على أن الهدف الرئيسي والأهم للسلطة النقدية الأوروبية هو “المحافظة على استقرار الأسعار”.[2] وبتبني أسس النظرية النقدية، فقد حددت معدلات نمو ثابتة للكتل النقدية المتداولة لتكون في صميم النظام الأساسي للبنك المركزي الأوروبي (فمثلا حدد معدل نمو الكتلة النقدية الموسعة M3 لمنطقة اليورو بنحو 4.5%). وبذلك يستند البنك المركزي الأوروبي الى توجهات النظرية النقدية مشابها لما كان يقوم به البندسبنك الألماني سابقا، من حيث تركيز السياسة النقدية على هدف استقرار الأسعار للمدى الطويل عوضا عن التركيز على الاستقرار الاقتصادي للمدى القصير.
أكد محافظ البنك المركزي الأوروبي فيم دوزنبرغ في خطابه أمام البنك الاحتياطي الفيدرالي في كانزس سيتي عام 1999 التزامه باستقرار الأسعار. ولقد صرّح دوزنبرغ (1999) أنه لا ينبغي توجيه السياسة النقدية بعيدا عن هدفها الرئيسي الكائن بالحفاظ على استقرار الأسعار. وشدد على أن الحفاظ على معدلات تضخم منخفضة ضروري للمحافظة على النمو المستدام وارتفاع مستويات العمالة. وأوضح دوزنبرغ أن البنك المركزي الأوروبي يرى أنه حتى معدلات التضخم المرتفعة باعتدال مضرة بالنمو الاقتصادي.[3]علاوة على ذلك، فإنه يلاحظ أن البنك المركزي الاوروبي اتبع سياسة غير نشطة وفق أدائه في عام 2001 إبان بروز بوادر مخاطر عالمية واضحة للركود. في ذلك العام، وبينما قام البنك الفيدرالي الأمريكي بخفض أسعار الفائدة 11 مرة وبنك إنجلترا المركزي بسبع مرات، قام البنك المركزي الأوروبي بخفض أسعار الفائدة أربع مرات فقط بالرغم من الضغوط العالمية للمزيد من الانخفاض.
قبل بروز البنك المركزي الأوروبي رسميا إلى حيّز الوجود في عام 1999، بدأت تظهر المؤلفات والدراسات الأكاديمية التي تُخمّن كيف سيتأثر الاستقرار الاقتصادي في الدول الأعضاء بالتحرك نحو بنك مركزي موحد. ولقد أجمعت الآراء التي انبثقت عن هذه المؤلفات على وجود أمل ضئيل بزيادة الاستقرار الاقتصادي. وعلى سبيل المثال، يُشير آيكنجرين (1992) وبيومي وآيكنجرين (1993 و1997) أن الدول الأعضاء لم تقم بتشكيل منطقة العملة المُثلى كما تم تعريفها من قبل مونديل (1961). وتتألف منطقة العملة المُثلى من مجموعة من البلدان التي تتقاسم صدمات اقتصادية مماثلة والتي يمكن أن يتدفق رأس المال والعمالة بينها بحرية. ونظرا لاختلاف الصدمات التي واجهتها الدول الأعضاء في الاتحاد النقدي الأوروبي عبر الزمن، فمن المحتمل أن تكون هناك حالات في المستقبل تختلف فيها السياسة النقدية المُثلى لهذه الدول. ومع ذلك، لن يستطع بنك مركزي موحد من أن يحدد سياسة نقدية تلائم احتياجات كافة هذه الدول في الوقت ذاته. وستُصبح اقتصادات هذه الدول أقل استقرارا نتيجه لأن البنك المركزي الأوروبي الجديد لن يكون قادرا على الاستجابة الافضل لهذه الصدمات غير المتماثلة (الخاصة بكل دولة).
كذلك، يبين دو جروي (2000) أن البنك المركزي الأوروبي قد يؤدي إلى درجة منخفضة جدا من الاستقرار بالنسبة إلى الصدمات غير المتماثلة بالنظر لاختلاف الوضع الأمثل لكل دولة من الدول الأعضاء منفردة، لأن البنك في هذه الحالة يستجيب لمتوسط الدول الأعضاء كافة. ويبين ستيفنز (1999) أن عدم قدرة البنك المركزي الأوروبي من الاستجابة لمتطلبات كل دولة منفردة قد يؤدي في النهاية إلى انسحاب الأعضاء من الاتحاد النقدي الأوروبي. وبالمثل، يقول سلفادور (2002) أنه عندما تتأثر دولة ما بصدمة غير متماثلة، يتوجب على تلك الدولة أن تنتظر ريثما يصحح الاقتصاد نفسة بنفسه. ويعتقد سلفادور أن عملية الإصلاح الذاتي هذه قد تطول لدرجة لا تستطيع أن تتحملها سياسيا أي حكومة. ويقدم سلفادور دليلا على أن كل من إيطاليا وإسبانيا هما الدولتان الأعضاء في الاتحاد النقدي الأوروبي اللتان كثيرا ما ستواجهان صدمات غير مماثلة، وبذلك ستواجهان أعلى خسارة من هذه السياسة النقدية المشتركة.
نقد أصحاب النظرية النقدية للدراسات السابقة
إن الدراسات السابقة حول التأثيرات المحتملة للتحول نحو البنك المركزي الأوروبي الموحد نشطت في الإطار النظري، وعكست وجود اختلاف واسع بين خبراء الاقتصاد الكلي حول ذلك الموقف. وعلى وجه التحديد، يعتقد أصحاب النظرية النقدية أنه هناك بعض المشاكل في تنفيذ السياسة النقدية والتي يمكن أن تحجم من قدرة السياسة النقدية الناشطة على إحداث استقرار اقتصادي، حتى إن كانت هذه السياسة حسنة النية.
يمكن إيجاز رأي أصحاب النظرية النقدية بوجود فجوة بين القرار والتنفيذ في السياسة النقدية يخلق وضعا يستحيل فيه توقيت ضخ الحوافز والتحكم في حجم الكتلة النقدية بدقة. ولذلك، فإن استخدام سياسة نقدية ناشطة كثيرا ما يؤدي إلى أخطاء ينجم عنها تقلبات في دورات الاعمال أشمل من تلك الممكن حدوثها في حال عدم استجابة البنك المركزي ببساطة للصدمات الخارجية الاقتصادية. ويعتبر الاستنتاج الرئيسي للدراسات في هذا المجال، ممثلة في كل من فريدمان (1961، 1968) وبرينارد (1967) وفيلبس (1968) وبرونر (1985) وملتزر (1987) وأورفانيدس (1998، 2000، 2002)، أنه يتوجب على السياسة النقدية أن تهتم أولا باستقرار الأسعار في المدى الطويل بدلا من الاهتمام بالاستقرار الاقتصادي في المدى القصير وأنه نتيجة لذلك سيكون الاقتصاد أكثر استقرارا.[4]
يطرح الرأي الصادر عن أصحاب النظرية النقدية صورة للآثار المحتملة للتحول نحو بنك مركزي موحد تختلف كثيرا عن تلك التي تم رسمها في المؤلفات السابقة. وإذا كان النشاط النقدي الموجه بطريقة جيدة يؤدي فعلا إلى إقتصاد أقل استقرارا، كما يعتقد أصحاب النظرية النقدية، عندها ستؤدي عدم قدرة البنك المركزي الموحد الرد على جميع هذه الصدمات غير المتماثلة بالفعل إلى استقرار اقتصادي بدرجة أكبر. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الدول التي ستشهد زيادة في الاستقرار الاقتصادي نتيجة لانضمامها إلى الاتحاد النقدي الأوروبي هي بالضبط تلك التي كان لديها أكثر البنوك المركزية الوطنية نشاطا. ومن جهة أخرى، بالنسبة لبعض الدول التي كان لديها بنوك مركزية وطنية غير نشطة مثل ألمانيا، فمن المرجح أن يكون البنك المركزي الأوروبي الجديد أكثر نشاطا وتدخلا فعليا من البنك المركزي الوطني السابق لديها. وإذا كان هذا الأمر صحيحا، فمن المحتمل أن تشهد هذه الدول، بعد خضوعها لبنك مركزي أكثر فاعلية، درجة أقل من الاستقرار الاقتصادي.
وعليه، هناك نظريتان متنافستان تنتجان تنبؤات مختلفة كليا حول كيف سيتغير الاستقرار الاقتصادي لكل دولة بعد انشاء الاتحاد النقدي الأوروبي. ويتوقع النموذج الناشط الذي كان بمثابة الأساس للدراسات والمؤلفات السابقة أن وجود بنك مركزي موحد أقل نشاطا فيما يتعلق بالصدمات غير المتماثلة سيؤدي إلى التقليل من الاستقرار الاقتصادي في هذه الدول، في حين يتوقع نموذج خبراء النظرية النقدية العكس تماما. ويتوقع النموذج الخاص بأصحاب النظرية النقدية أن الافتقار إلى الاستجابة لمثل هذه الصدمات يجب أن ينتج المزيد من الاستقرار الاقتصادي. وعليه، وبفحص التغيير في الاستقرار الاقتصادي لهذه الدول منذ أن خضعت لبنك مركزي موحد وما إذا كان هذا التغيير مرتبطا بفاعلية البنك المركزي الوطني السابق، يمكن اختبار وتفحص توقعات المدارس الفكرية المتنافسة.
ما مدى نشاط البنوك المركزية الوطنية السابقة؟
يستعرض هذا الجزء مجموعة من البيانات التي تعكس درجة فاعلية البنوك المركزية في كل من النمسا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا قبل انشاء الاتحاد النقدي الأوروبي.[5] ومع ذلك، فإن قياس درجة فاعلية السياسة النقدية يعتبر مهمة غير سهلة، كما لا يوجد إجماع حول كيفية قياس حجم واتجاه التغيير في السياسة النقدية على نحو تطبيقي. ويقيس كل من سيمز (1972) وجرير (1984، 1989) التغيرات في السياسة النقدية بواسطة التغيرات في حجم الكتلة النقدية الضيقة المعروفة باسم M1. ولقد تم مؤخرا استخدام بدائل أخرى لـحجم الكتلة النقدية الضيقة M1. فعلى سبيل المثال، يستخدم كل من سيمز (1995) وبرنانكي وبلايندر (1992) وبرنانكي وميهوف (1995) وكابورال وجرير (1998) التغيرات في أسعار الفائدة على الايداعات الفيدرالية الامريكية كمقياس للتغيرات في السياسة النقدية.
لقد تركز الجدل حول مقاييس السياسة النقدية بين اختيار معدلات نمو حجم الكتلة النقدية مقابل أسعار الفائدة. وفي حين أن حجم النقد المتداول لا يخضع للإدارة المباشرة من قبل البنوك المركزية، إلا انه يرتبط بعلاقة تبادلية مباشرة مع تحركات التضخم. وعليه، تعكس حركة الكتلة النقدية المتداولة سياسة البنوك المركزية. يقدم الجدول 1 بضعة معايير للنشاط النقدي لكل دولة على أساس معدل نمو حجم الكتلة النقدية المعروفة باسم M2، إضافة إلى اسعار الفائدة الإسمية والحقيقية للاسواق المالية في المدى القصير.
يحتوي العمودان الأولان من الجدول 1 بيانات عن تقلب نمو النقد M2 للفترة من كانون الثاني 1987 لغاية كانون الأول 1998.[6] وكلما كانت القيمة أكبر، يعني ذلك أن البنك المركزي كان أكثر نشاطا خلال تلك الفترة الزمنية. وتحسب القيمة المطلقة في العمود الأول تقلب M2 لكل دولة بالنسبة إلى متوسط مجموعة قيمها باستخدام المعادلة التالية للتباين المطلق:

بحيث تمثل M2 لوغارثم الكتلة النقدية المتداولة؛ و∆M2 يمثل معدل نمو الكتلة النقدية المتداولة؛ وμ∆M2 يمثل متوسط ∆M2؛ وN تمثل اي دولة عضو في الاتحاد النقدي الأوروبي (أو البنك المركزي الأوروبي)؛ وT عدد البيانات الشهرية المسجلة.
وتحتسب القيمة النسبية الواردة في العمود الثاني مدى تقلب M2 مقارنة مع قيمة تغيره في الولايات المتحدة الامريكية للفترة نفسها بدلا من متوسط المجموعة نفسها باستخدام معادلة التباين النسبي:

حيث تشير US إلى القيمة المعاصرة للولايات المتحدة.
ويتم احتساب مقياس التباين النسبي الثاني بالمقارنة مع الولايات المتحدة كطريقة للتحقق من قوة وصحة النتائج. وبما أن البنوك المركزية الوطنية السابقة والبنك المركزي الأوروبي الجديد عملوا في فترات زمنية مختلفة والتي قد تكون مختلفة هيكليا، فإن تعديل البيانات بالنسبة إلى الولايات المتحدة يساعد في التأكد من أن هذا الفارق لا يؤثر على النتائج. وبعبارة أخرى، من الممكن أن تختلف الظروف الاقتصادية في مرحلة ما بعد البنك المركزي الأوروبي كثيرا عن الظروف الاقتصادية السائدة في فترة ما قبل انشاء البنك، وبالتالي ستكون المقارنة بالنسبة للولايات المتحدة مساعدا على تلافي ذلك وبالذات لأن رئيس البنك الفيدرالي الامريكي بقي نفسه خلال الفترة الزمنية التي تم اختيارها. وهكذا في حين تمت مناقشة المقاييس المطلقة، تم تقديم المقاييس النسبية مع الولايات المتحدة لإظهار مدى صحة وقوة النتائج لمثل هذا التعديل.
تظهر النتائج الواردة في الجدول 1 أن تقلب معدل نمو M2 كانت قيمته أعلى لإيطاليا وفرنسا وإسبانيا وكانت أدناها للنمسا وبلجيكا وألمانيا. هذا يلمح إلى أن البنوك المركزية الوطنية السابقة لإيطاليا وفرنسا وإسبانيا كانت نسبيا أكثر فاعلية من البنوك المركزية للنمسا وبلجيكا وألمانيا. وللتحقق من صحة وقوة هذه الاستنتاجات حول فاعلية البنوك المركزية الوطنية التي تم الحصول عليها من تقلب M2، تم إجراء الحسابات (بقيم مطلقة ونسبية) باستخدام البيانات الشهرية لأسعار الفائدة الإسمية والحقيقية للاسواق المالية للمدى القصير (r) كالآتي:


حيث تُشير القيم ذات الرمز السفلي US إلى معدلات أسعار الفائدة على الايداعات الفيدرالية في الولايات المتحدة الامريكية.
يظهر العمودان الثاني والثالث من الجدول 1 النتائج باستعمال أسعار الفائدة كمقياس للنشاط النقدي. وتؤدي هذه المقاييس إلى النتيجة ذاتها التي توصلت إليها مقاييس حجم الكتلة النقدية. وعلى وجه التحديد، تؤكد نتائج أسعار الفائدة الإسمية والحقيقية مرة أخرى أن البنوك المركزية الوطنية السابقة لإسبانيا وفرنسا وإيطاليا كانت أكثر نشاطا من تلك للنمسا وألمانيا وبلجيكا. إضافة إلى ذلك، فإن تقلب أسعار الفائدة الإسمية والحقيقية لدولة عضو في الاتحاد النقدي الأوروبي بالنسبة إلى متوسط تقلب مجموعتها وكذلك بالنسبة إلى معدلات أسعار الفائدة على الايداعات الفيدرالية الإسمية والحقيقية في الولايات المتحدة، يعطي في الواقع النتائج نفسها.
النتائج الواردة في الجدول 1 مبنية على أساس اختيار مقاييس بسيطة لنشاط السياسة النقدية وتكمن بساطتها في شمولها معلومات عن جميع التغيرات وليس فقط التغيرات التي نُفذت بواسطة البنك المركزي استجابة إلى تقلب الأوضاع الاقتصادية في المدى القصير. ولذلك فإن هذه النتيجة مختلطة لأن فاعلية السياسة النقدية قد عرفت تقليديا على أنها درجة استجابة سياسة البنك المركزي إلى التقلبات في النشاط الاقتصادي الفعلي في المدى القصير. وعليه، فإن مقياس نشاط السياسة النقدية الجيدة يجب أن يتضمن التغيرات في السياسة النقدية المرتبطة بالتغيرات في الأوضاع الاقتصادية في المدى القصير. وفي محاولة للحصول على مقياس أكثر دقة لنشاط السياسة النقدية، تم استخدام نموذج قاعدة تيلور لكل دولة لتقدير استجابة البنوك المركزية الوطنية السابقة للاوضاع الاقتصادية الفعلية باتباع الطريقة المقبولة من قبل فوست وروجرز ورايت (2001). هذا الصنف من الدالة المرتبطة بتفاعل السياسة يفترض أن لدى البنوك المركزية أسعار فائدة إسمية مستهدفة rt* تعتمد على تفاوت الناتج المتوقع Etyt والتضخم المتوقع Etπt+n حسب المعادلة:

ويشتمل النموذج على تسوية لأسعار الفائدة بحيث يكون:

بحيث تكون 1 > ρ > 0، وυt صدمة عشوائية لأسعار الفائدة (بافتراض انها مستقلة ومتماثلة في التوزيع النمطي).
يعطي الإحلال المعادلة التي يجب أن تُقدَّر:

بحيث تكون:

في هذه المعادلة، rt هي أسعار الفائدة الإسمية، وπt+n أسعار التضخم المستهدفة (بحيث تكون n=12) و yt تفاوت الناتج الصناعي. ويتم قياس تفاوت الناتج بالنسبة المئوية لانحراف لوغارثم الإنتاج الصناعي عن اتجاهه العام.[7] يمكن استخدام الخصائص التي تم تقديرها من تفاعل كل بنك مركزي لقياس الدرجة التي يستهدفها كل بنك على حدة لاستقرار الأسعار للمدى الطويل مقابل معالجة التقلب الاقتصادي في المدى القصير. وهذه تنعكس على قيم β وγ، على التوالي. وعليه، فإن نسبة γ/β تعتبر مقياسا واضحا لفاعلية البنك المركزي. وتدل القيمة المرتفعة لنسبة γ/β على أن سياسة البنك المركزي كانت أكثر فاعلية نسبيا في استهداف تفاوت الناتج، وعليه، أظهرت درجة أعلى من نشاط السياسة النقدية.
وهكذا تم تقدير نموذج قاعدة تيلور لكل دولة[8] باستخدام بيانات شهرية من كانون الثاني 1979 إلى كانون الأول 1998. وباتباع فاوست وروجرز ورايت (2001)، تم استخدام طريقة الأدوات المتغيرة. تم استخدام ست قيم لأسعار الفائدة والتضخم وتفاوت الناتج كأدوات لنسبة التضخم المستهدفة وتفاوت الناتج. وتظهر نتائج نسب γ/β من التقديرات في العمود الأخير من الجدول 1 لسهولة المقارنة للمقاييس الأكثر بساطة الخاصة بالنشاط النقدي.
وتتشابه نتائج عملية التقدير هذه مع المقاييس الثلاثة البسيطة. ووفقا للنسب، تظهر النتائج انقسام البنوك المركزية الوطنية السابقة الى مجموعتين واضحتين هما مجموعة إيطاليا وفرنسا وإسبانيا الأكثر نشاطا، ومجموعة النمسا وبلجيكا وألمانيا الأقل نشاطا من البنوك المركزية الوطنية السابقة قبل انشاء الاتحاد النقدي الأوروبي.[9]
وكما سبقت الإشارة، فإن دستور البنك المركزي الأوروبي يقوده بصراحة باتجاه سياسة أقل نشاطا وأكثر اتباعا للنظرية النقدية. ومع ذلك، نعتقد أنه من الجدير بالاهتمام أن يتم احتساب معاييرنا الخاصة بالنشاط النقدي للبنك المركزي الأوروبي لغايات المقارنة. ولسوء الحظ، يوجد مشكلتان. المشكلة الأولى، البيانات المتوفرة للبنك المركزي الأوروبي تغطي فترة زمنية أقصر بالنسبة للبنوك المركزية الوطنية السابقة. هذا يقلل من دقة التقديرات كما أنه يجعل من الصعوبة الحصول على تقديرات ذات معنى من نموذج قاعدة تيلور. وبالتالي، نستطيع أن نقدم مقاييس النشاط الأبسط للبنك المركزي الأوروبي الجديد. ومع ذلك نشعر بالتشجيع لأن النتائج السابقة تُشير إلى أن هذه المقاييس المبسطة توفر، جوهريا، نفس النتائج التي تنتج عن نموذج قاعدة تيلور الأكثر تطورا.
المشكلة الثانية هي أن الأوضاع الاقتصادية التي شهدتها فترة ما بعد انشاء الاتحاد النقدي الأوروبي تختلف عن تلك السائدة في فترة ما قبل الانشاء مما يؤثرعلى أي مقارنة ذات معنى. ولو كان البنك المركزي الأوروبي موجودا خلال هذه الفترة السابقة وكان يتبع قواعد السياسة ذاتها لكان من المحتمل أن يكون سلوكه الملاحظ إما أكثر أو أقل فاعلية من سلوكه في حقبة ما بعد الاتحاد النقدي الأوروبي. وهذا بالتحديد هو السبب وراء قيامنا بعرض المقاييس بالقيم المطلقة وكذلك القيم النسبية مقارنة مع الولايات المتحدة الامريكية. وبالتعديل مع سياسة الولايات المتحدة، من الممكن أن يُساعد هذا على ضبط الفروقات في الأوضاع الاقتصادية الضمنية التي من المحتمل أن تكون قد تسببت في تغيير النشاط الملاحظ وخصوصا أنه قد تم الإبقاء على نفس رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي الامريكي خلال فترة العينة كاملة. هذا الأسلوب يُتيح لنا المجال للتأكد من أن الاختلافات في الأوضاع الاقتصادية بين الفترتين الزمنيتين لا تدفع النتائج التي يتم الحصول عليها بالنظر الى المقاييس المطلقة. ومع ذلك، لا نزال نعرض البيانات الخاصة بالمقاييس المطلقة (غير المتصلة بالولايات المتحدة) لإظهار قوة وصحة نتائجنا بغض النظر عما إذا تم اعتبار هذا التعديل أو لم يتم.
تظهر النتائج الخاصة بالتقلب النسبي لمعدل نمو حجم الكتلة النقدية المتداولة للبنك المركزي الأوروبي وكذلك تقلب كل من أسعار الفائدة الإسمية والحقيقية في الاسواق المالية في الصف الأخير[10] من الجدول 1. ويُظهر البنك المركزي الأوروبي نشاطا أقل بكثير من نشاط البنوك المركزية الوطنية السابقة لكافة المؤشرات.
يعرض الشكل 1 بيانات تجعل من السهل مقارنة درجة النشاط عبر البنوك المركزية الوطنية السابقة بالنسبة إلى البنك المركزي الأوروبي الجديد. ونظرا لوجود العديد من المقاييس لنشاط السياسة النقدية، يتم إيجاد المعدل لها والتي يبين قيمته الرسم البياني في الشكل 1. ويبدو واضحا من الشكل المذكور أن السياسة النقدية في ظل البنك المركزي الأوروبي الجديد أقل نشاطا من تلك للبنوك المركزية الوطنية السابقة. وبصفة خاصة، فإن السياسة النقدية للبنك المركزي الأوروبي أقل نشاطا وبدرجة كبيرة من البنوك المركزية الوطنية السابقة لإسبانيا وإيطاليا. وباسترجاع ما سبق، فلقد وجد سلفادور (2002) أن كل من إيطاليا وإسبانيا تعانيان من أشد الصدمات غير المتماثلة وستكونان الدولتان اللتان ستعانيان من درجة كبيرة من التقلب الاقتصادي بعد الانضمام إلى الاتحاد النقدي الأوروبي (وذلك لأن البنك المركزي الأوروبي لن يكون قادرا على موازنة الصدمات الاقتصادية أسوة بما فعلت البنوك المركزية الوطنية الناشطة جدا).[11]
وجد فاوست وروجرز ورايت (2001)، في الدراسة الأخرى الوحيدة التي تناقش نشاط البنك المركزي الأوروبي الجديد بالنسبة إلى البنوك المركزية الوطنية السابقة، أن البنك المركزي الأوروبي أقل واقعية وصرامة في موضوع التضخم عند مقارنته بالبنك المركزي الألماني السابق (بندسبنك). وبرغم ذلك، فهذا لا يتناقض بشكل مباشر مع استنتاجاتنا لأننا حاولنا النظر إلى النشاط بدلا من النظر إلى الدرجة التي تحاول فيها المحافظة على صرامة استقرار الأسعار. ومن الممكن أن يدلل ذلك أنه من المحتمل إنشاء مقاييس بديلة تبين أن البنك المركزي الأوروبي الجديد أنشط من البنك المركزي الألماني السابق (بندسبنك) بدرجة قليلة وربما مساوية لنشاط البنوك المركزية السابقة لكل من النمسا وبلجيكا.


هل أصبحت الاقتصادات أكثر أم أقل استقرارا في ظل البنك المركزي الأوروبي؟
تقترح نتائجنا أن البنك المركزي الجديد هو بنك مركزي غير ناشط وتحديدا عندما يقارن بالبنوك المركزية الوطنية السابقة لدول مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا. في هذا الجزء، سيتم محاولة البحث عما إذا كانت اقتصادات هذه الدول قد أصبحت أكثر أو أقل استقرارا بعد خضوعها لبنك مركزي أقل تجاوبا للتقلبات الاقتصادية التي تواجهها في المدى القصير. يُظهر القسم العلوي من الجدول 2 مقاييس عديدة للتغير في الاستقرار الاقتصادي لهذه الدول منذ إنشاء البنك المركزي الأوروبي. أما القسم السفلي من الجدول، فهو يعرض نتائج مشابهة للدنمارك والسويد والمملكة المتحدة (الدول الثلاثة الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والتي لم تنضم إلى الاتحاد النقدي الأوروبي). سيتم عرض ومناقشة النتائج لهذه الدول الثلاثة في نهاية هذا الجزء، وبذلك يمكن للقراء أن يتجاهلوا القسم السفلي من الجدول.
تم استخدام تقلب تفاوت الناتج، مقاسا بتباين النسبة المئوية للوغارثم الإنتاج الصناعي الشهري عن اتجاهه العام، لقياس الاستقرار لكل اقتصاد. العمود الأول من الجدول 2 يصف التغييرات في تباين تفاوت الناتج مقاسا بطرح التباين لفترة ما قبل الاتحاد النقدي الأوروبي من التباين لفترة ما بعد الاتحاد النقدي.[13] وعليه، يعني الرقم السالب أن اقتصاد الدولة قد أصبح أكثر استقرارا في ظل البنك المركزي الأوروبي الجديد، بينما يعني الرقم الموجب أن الاقتصاد قد أصبح أقل استقرارا. ويظهر العمود الثاني من الجدول هذا التغيير كنسبة مئوية لدرجة التباين القديمة.
تبين التغييرات في تباين تفاوت الناتج أن اقتصادات النمسا وبلجيكا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا قد اصبحت جميعها أكثر استقرارا تحت البنك المركزي الأوروبي الجديد، بخلاف ما توقعته الدراسات السابقة حول الصدمات غير المتماثلة وخاصة لكل من إسبانيا وإيطاليا. ولم تصبح هذه الاقتصادات أكثر استقرارا فحسب، بل يبدو أن الزيادة في الاستقرار مرتبطة بشكل وثيق بدرجة نشاط البنوك المركزية الوطنية السابقة. إن تلك الدول مثل إسبانيا وإيطاليا، التي كان لديها أكثر البنوك المركزية الوطنية نشاطا، هي التي كسبت أقصى درجات الاستقرار كنتيجة للتحول نحو البنك المركزي الأوروبي الاقل نشاطا نسبيا. وباستخدام مقياس تباين تفاوت الناتج، فإن المانيا هي الدولة الوحيدة التي أصبحت أقل استقرارا، وعلى نحو بسيط. وبما أن المانيا كانت الأقل نشاطا بين البنوك المركزية الوطنية السابقة، فإن ذلك يؤيد، مرة أخرى، التوقعات المبنية على النظرية النقدية. وفي حين أن بياناتنا دلت على أن ألمانيا أنشط من البنك المركزي الأوروبي الجديد بدرجة قليلة، فلقد اقترح فاوست وروجرز ورايت (2001) أن البنك المركزي الأوروبي هو بالفعل أنشط من البندسبنك الألماني بدرجة بسيطة. وإذا كان هذا صحيحا، فإن هذا الاستنتاج المتعلق بنقص الاستقرار يتفق مع تنبؤات موقف اصحاب النظرية النقدية والتي تنص على أنه بينما تتحرك ألمانيا نحو بنك مركزي أكثر نشاطا فإنها تخسر استقرارها الاقتصادي.
البيانات المقدمة في الجدول 2 دليل يساند موقف أصحاب النظرية النقدية لأصحاب نظرية الفاعلية لأنها تعتقد أن عدم مقدرة البنك المركزي الأوروبي الجديد على الاستجابة إلى هذه الصدمات غير المتماثلة قد أدت بالفعل إلى المزيد من الاستقرار الاقتصادي. والأمر الأكثر أهمية أن الزيادات في الاستقرار أكبر بدرجة لا يمكن نكرانها بالنسبة للدول الثلاثة التي كانت البنوك المركزية الوطنية السابقة لها هي الأكثر نشاطا في السعي نحو الاستقرار الاقتصادي في المدى القصير (فرنسا وإسبانيا وإيطاليا) بالمقارنة مع الدول الثلاثة ذات البنوك المركزية الوطنية السابقة الأقل نشاطا (ألمانيا والنمسا وبلجيكا). وعليه، فإن الدول التي تعاني من أكبر مكاسب الاستقرار كونها تخضع للبنك المركزي الأوروبي هي تلك الدول التي كانت بنوكها المركزية الوطنية السابقة الأكثر نشاطا. وقد يبدو هذا دليلا واضحا يساند، مرة أخرى، نظرة أصحاب النظرية النقدية بأن البنك المركزي الناشط، وبالرغم من النية الحسنة، يؤدي إلى درجة أدنى من الاستقرار الاقتصادي.
هناك نقد واضح لهذه البيانات بأنه وببساطة من الممكن أن تكون فترة ما بعد الاتحاد النقدي الأوروبي مختلفة عن فترة ما قبل الاتحاد النقدي الأوروبي بسبب أن اقتصادات العالم كافة كانت أكثر استقرارا. ومع ذلك، لا يُفسر هذا السبب في أن هذه الدول تحديدا، ذات البنوك المركزية الوطنية السابقة الأكثر نشاطا، قد شهدت أكثر المكاسب من الاستقرار الاقتصادي. ومع ذلك، وسعيا للتأكيد على أن هذا التأويل ليس مسؤولا عن النتائج، تمت مقارنة تباين تفاوت الناتج لفترة ما بعد الاتحاد النقدي الأوروبي مقابل نوافذ البيانات الأصغر المتساوية في بيانات فترة ما قبل الاتحاد النقدي الأوروبي. يُظهر العمود الثالث في الجدول 2 النسبة المئوية لنوافذ فترة ما قبل الاتحاد النقدي الأوروبي التي لها تباينات أعلى لتفاوت الناتج مقارنة مع النافذة المستقلة لفترة ما بعد الاتحاد النقدي الأوروبي. وجدير بالذكر أن لإيطاليا وفرنسا وإسبانيا ما نسبته 100% و68% و100%، على التوالي، من تباين نوافذ فترة ما قبل الاتحاد النقدي الأوروبي والتي كانت أعلى من تلك لفترة ما بعد الاتحاد النقدي الأوروبي. ويعني هذا أنه بالنسبة إلى إيطاليا وإسبانيا تميزت فترة ما بعد الانضمام إلى الاتحاد النقدي الأوروبي بمزيد من الاستقرار الاقتصادي مقارنة مع أي فترة زمنية مساوية قبل الاتحاد النقدي الأوروبي. وعليه، تعرض هذه المجموعة من الدول ذات البنوك المركزية الوطنية السابقة الأكثر نشاطا مزيدا من الاستقرار تحت البنك المركزي الأوروبي مقارنة مع الغالبية العظمى من نوافذ ما قبل الاتحاد النقدي الأوروبي المتساوية. من ناحية أخرى، فإن النسبة المئوية لألمانيا وبلجيكا والنمسا (الدول الثلاثة ذات البنوك المركزية الوطنية القديمة غير الناشطة نسبيا) أدنى على صفر% و23% و61%، على التوالي. مرة أخرى، فإن هذه المجموعة من الدول لم تشهد أية مكاسب، أو في أحسن الأحوال شهدت مكاسب استقرار صغيرة مقارنة مع الدول الأخرى ذات البنوك المركزية الوطنية الأنشط.
لمزيد من التحقق من سلامة النتائج، ورد في الجدول 2 بيانات مماثلة على تقلبات الأسواق المالية في هذه الدول مقاسة بمؤشر سوق الأسهم المالية الشهري لكل دولة (مع ضريبة عند المصدر).[14] ولقد كنا نظن أن هذا سيكون متغيرا ثانيا مثيرا للاهتمام ليس لمجرد أن الاستقرار المالي يرتبط بشكل وثيق مع الاستقرار الشامل في الاقتصاد، بل أيضا لأن أسعار الأسهم تتضمن قدرا كبيرا من المعلومات عن الأوضاع الاقتصادية المستقبلية. إن الانخفاض في تقلب عائدات سوق الأسهم يعني المزيد من الاستقرار في النظام المالي. الأعمدة الثلاثة الأخيرة من الجدول 2 تُبين التغييرات في تقلب عائدات سوق الأسهم مقاسة مرة أخرى بطرح تباين ما قبل الاتحاد النقدي الأوروبي من تباين ما بعد الاتحاد النقدي الأوروبي.[15]
إن استخدام هذا المقياس البديل للاستقرار الاقتصادي يعكس النتيجة ذاتها. فلقد كسبت كل من إيطاليا وإسبانيا، ذات البنوك المركزية الوطنية الأكثر نشاطا، استقرارا اقتصاديا كبيرا منذ أن انضمت إلى الاتحاد النقدي الأوروبي. كما أصبحت عائدات سوق الأسهم أكثر استقرارا للنمسا وإن لم تصل للقدر نفسه. وتشير النتائج الخاصة بألمانيا، الدولة ذات أقل البنوك المركزية الوطنية السابقة نشاطا، مرة أخرى إلى انخفاض طفيف في الاستقرار الاقتصادي منذ انضمامها إلى الاتحاد النقدي الأوروبي. إن نتائج سوق الأسهم لبلجيكا وفرنسا هي النتائج الوحيدة التي لا تتوافق مع الاستنتاج ذاته الذي تم التوصل إليه من قياس الاستقرار الاقتصادي عبر دراسة تفاوت الناتج.
في هذه المرحلة، إن أكثر الفرضيات المعاكسة التي تستدعي الاعتبار لمواجهة الفرضية التي تم عرضها هي أن جميع اقتصادات اوروبا قد أصبحت ببساطة أكثر استقرارا في فترة ما بعد الاتحاد النقدي الأوروبي (ربما بسبب الاتحاد الأوروبي نفسه). الاختبار الواضح لهذا هو مقارنة التغير في الاستقرار الاقتصادي لدول الاتحاد النقدي الأوروبي هذه مع الدول الأوروبية الثلاثة العضو في الاتحاد الأوروبي والتي لم تنضم إلى الاتحاد النقدي الأوروبي (بريطانيا والدنمارك والسويد)، وتمسكت بدلا من ذلك ببنوكها المركزية الوطنية. ولقد تم عرض نتائج هذه الدول الثلاثة التي تخدم “كمجموعة تحكم” في القسم السفلي من الجدول 2. وحيث أن هذه الدول لم تنضم إلى الاتحاد النقدي الأوروبي ولا تزال تخضع لبنوكها المركزية الوطنية نفسها كما كانت في السابق، يجب أن يكون التغير في الاستقرار الاقتصادي لهذه الدول بمثابة النقطة المرجعية الإرشادية لمقارنة دول الاتحاد النقدي الأوروبي بها.
يبين مقياس تفاوت الناتج أن دولتين من هذه الدول الثلاثة غير العضو في الاتحاد النقدي الأوروبي قد شهدت درجة أدنى من الاستقرار الاقتصادي في فترة ما بعد الاتحاد النقدي الأوروبي عنها في فترة ما بعد الاتحاد النقدي الأوروبي، في حين يظهر مقياس تقلب سوق الأسهم أن جميع الدول الثلاثة تشهد الآن درجة أقل من الاستقرار الاقتصادي. تبين هذه البيانات بشكل واضح أن مكاسب الاستقرار الاقتصادي لدول الاتحاد النقدي لم تشهدها دول أخرى من دول الاتحاد الأوروبي التي لم تنضم إلى الاتحاد النقدي، وبالتالي استبعاد هذه الفرضية المنافسة التي قد تفسر وتوضح استنتاجاتنا.
إن الأدلة المقدمة في هذا الجزء توحي بوجود دليل ضئيل يدعم جدال الدراسات السابقة القائلة بأن اقتصادات الاتحاد النقدي الأوروبي هذه (وخاصة إسبانيا وإيطاليا) ستصبح أقل استقرارا بعد الخضوع للبنك المركزي الأوروبي الجديد بسبب عدم قدرته على تكييف السياسة النقدية لحاجات كل دولة. وفي الواقع، يبدو أن الدليل يقترح العكس تماما، حيث نجد أن اقتصادات هذه الدول قد أصبحت أكثر استقرارا تحت سيطرة البنك المركزي الأوروبي. لهذا معاني ضمنية مهمة لمستقبل الاتحاد النقدي الأوروبي بسبب أن مجموعة كبيرة من الدراسات قد استخدمت هذه الفكرة كأساس للحجة القائلة أن الاتحاد النقدي الأوروبي سينهار في نهاية المطاف بمغادرة هذه الدول للاتحاد النقدي الأوروبي بسبب تراجع الاستقرار الاقتصادي الذي سيعانون منه.
يمكن تفسير النتائج المبنية على التجربة لإسبانيا وإيطاليا بإحدى الطريقتين: إما أن تكون إسبانيا وإيطاليا مستفيدتين من كونهما تحت سيطرة بنك مركزي لا يستطيع مواجهة الصدمات غير المتماثلة (موقف أصحاب النظرية النقدية)، أو أن الدولتين لم تشهدا اضطرابات غير متماثلة نهائيا. لقد شهدت كل من إسبانيا وإيطاليا زيادة في استقرار الناتج المحلي الإجمالي في مرحلة ما بعد الاتحاد النقدي الأوروبي أكثر من أي زيادة في كل الفترات الزمنية خلال العشرين عاما قبل تشكيل الاتحاد النقدي الأوروبي. ويبدو أن هذا يعزز ما سبق ذكره، وخصوصا أنه كان هناك درجة أدنى من استقرار الناتج لدول مجموعة التحكم مثل السويد والمملكة المتحدة خلال نفس فترة ما بعد الاتحاد النقدي الأوروبي عنها خلال الفتره السابقة للاتحاد النقدي الأوروبي. وهكذا نرى أن البيانات تُظهر بوضوح أن عجز البنك المركزي الأوروبي الجديد من التمكن من الاستجابة لجميع الصدمات غير المتماثلة التي تحدث في هذه الدول قد أسفر عن مزيد من الاستقرار وليس العكس—وهذه نتيجة تنسجم مع رأي أصحاب النظرية النقدية حول عدم فاعلية السياسة النقدية.
كما تتفق النتيجة التي توصلنا إليها بأن دول الاتحاد النقدي الأوروبي التي أظهرت اقتصاداتها أكبر المكاسب في الاستقرار الاقتصادي بعد خضوعها للبنك المركزي الأوروبي الجديد هي بالضبط تلك الدول التي كانت بنوكها المركزية الوطنية السابقة الأكثر فاعلية في السعي نحو الاستقرار الاقتصادي في المدى القصير، مع الفرضية المستمدة من موقف أصحاب النظرية النقدية. وبالأخص، أظهرت كل من إيطاليا وإسبانيا، ذات أنشط البنوك المركزية الوطنية، أقصى قدر من تحسن الاستقرار، بينما وفي نفس الوقت لم تتحقق مكاسب الاستقرار هذه في دول الاتحاد النقدي الأوروبي التي كان لديها بنك مركزي وطني غير نشط نسبيا (مثل ألمانيا) وكذلك الأمر بالنسبة إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ولكنها لم تنضم إلى الاتحاد النقدي الأوروبي (مثل السويد وبريطانيا).

الخاتمة
يترتب على نتائج هذه الدراسة آثار ومضامين هامة بالنسبة إلى مستقبل الاتحاد النقدي الأوروبي تحديدا، وفاعلية سياسة التثبيت الناشطة بشكل عام. وبالرغم عن التنبؤات القائلة أن اقتصادات الدول الأوروبية هذه ستبدأ بالمعاناة من تأرجح أكبر في النشاط الاقتصادي في إطار بنك مركزي موحد لا يستطيع الاستجابة للصدمات غير المتماثلة بشكل أمثل، فذلك لم يحدث فعلا. وفي حقيقة الأمر، نجد أن جميع هذه الاقتصادات قد أصبحت أكثر استقرارا في ظل سيطرة البنك المركزي الأوروبي باستثناء ألمانيا التي كان لديها بنك مركزي غير نشط نسبيا. وبما أن هذا التنبؤ بزيادة الاستقرار كان هو أساس التنبؤات التي أدعت أن الاتحاد النقدي الأوروبي محكوم عليه بالإخفاق على المدى الطويل، فإن نتائجنا تقترح صورة أفضل لمستقبل الاتحاد النقدي الأوروبي.
إن تفسيرنا للبيانات التي تم ملاحظتها هو أنه وبالرغم من حسن النوايا، تكون السياسة النقدية الناشطة غير قادرة، ببساطة، على أن تفي بوعدها، وأن السياسة الناشطة تعطي فعلا نتائج عكسية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. وإذا كان هذا التفسير صحيحا، يبرز التساؤل حول كامل النظرية لمناطق العملة المثلى. وإذا كانت البنوك المركزية الموحدة ناشطة ولكنها تتفاعل مع الحدود الوسطى للأوضاع الاقتصادية في مجمل المنطقة، وأن هذه السياسات تُعطي نتائج عكسية فعلا، عندها سيبدو أن دمج اقتصادات غير متشابهة في منطقة العملة الموحدة من شأنه أن يؤدي إلى قدر من الاستقرار أكبر من ذلك الناتج عن دمج اقتصادات مماثلة لأنه سيؤدي إلى بنك مركزي موحد أقل نشاطا. من السهل على المرء أن يتصور كيف سيتغير حساب نموذج منطقة العملة المثلى بعد إضافة أخطاء توقيت للسياسة النقدية وكذلك بنك مركزي يستجيب مع حدود وسطى للظروف الاقتصادية للمنطقة. من الممكن النظر إلى الاستنتاجات المتعلقة بنظرية منطقة العملة المثلى على أنها تدعم الاستنتاجات التي تم التوصل إليها في المؤلفات المحلية الحديثة نسبيا[17] حول منطقة العملة المثلى والتي يقودها فرانكل وروز وفان وينكوب.
تدل النتائج على أنه هناك المزيد من الاستقرار الاقتصادي بعد الخضوع للبنك المركزي الأوروبي الخامل نسبيا، كما وتُظهر أيضا أن الدول التي تعاني من أكبر قدر من مكاسب الاستقرار هي تحديدا تلك الدول التي مارست بنوكها المركزية الوطنية القديمة أقصى درجات الاستقرار الناشط. ويتم إلقاء الضوء على ذلك بواسطة مكاسب الاستقرار لإيطاليا وإسبانيا والتي كانت بنوكها المركزية الوطنية مميزة بالاستجابة النشطة لتقلبات الناتج في المدى القصير. هذه البيانات مقنعة بشكل خاص عندما تتم مقارنة هذه الدول مع الدول التي كان لها بنوك مركزية غير ناشطة نسبيا (مثل ألمانيا) وكذلك مع دول الاتحاد الأوروبي التي لم تنضم إلى الاتحاد النقدي الأوروبي (المملكة المتحدة والسويد والدنمارك). وهذا هو أقوى الأدلة ضد التفسير البديل على أنه كان لجميع هذه الدول، وببساطة، استقرارا اقتصاديا أساسيا أكبر في حقبة ما بعد الاتحاد النقدي الأوروبي. إن الزيادة في الاستقرار مرتبطة بشكل ثابت يسهل التوقع به بدرجة نشاط البنك المركزي الوطني السابق ولا يعتبر مجرد تحسين منتظم عبر جميع الدول. ولقد كسبت الدول التي كان لديها أكبر انخفاض في النشاط النقدي أقصى درجة من الاستقرار الاقتصادي. وتقترح النتائج ببساطة ووضوح أن البنك المركزي الأقل نشاطا والذي يلتزم باستقرار الأسعار سيؤدي إلى قدر أكبر من استقرار الاقتصاد الكلي.
إن المعنى الضمني الأساسي للنتيجة اللاحقة يجب أن يكون واضحا. حيث تؤدي سياسة الاستقرار الناشط من جهة البنوك المركزية إلى قدر أقل من الاستقرار الاقتصادي. وبما أن فعالية السياسة النقدية الناشطة كانت موضوع جدل ومناقشة عبر العقود الثلاثة الماضية، فإن إيجاد فرصة نادرة لفحص هذه السياسة بطريقة واضحة ومباشرة يُعتبر ذو قيمة هامة. فالنظريات النقدية المبنية على أساس نماذج رياضية بافتراض أن النشاط النقدي فعال (مثل نظرية الصدمة غير المتماثلة للاتحاد النقدي الأوروبي أو نظريات مناطق العملة المثلى) غير قادرة على إعطاء تنبؤات تلائم البيانات الواقعية للاتحاد النقدي الأوروبي. نتأمل أن تُشجع هذه النتائج القراء على الشك في تنبؤات النظريات النقدية التي لا تضم نقد أصحاب النظرية النقدية وتفترض ببساطة فعالية نشاط السياسة النقدية.
وبالطبع، فلقد مرت ثلاث سنوات على تشكيل الاتحاد النقدي الأوروبي، وهي فترة طويلة بما فيه الكفاية لبدء اختبار كثير من التغيرات الاقتصادية التي حدثت نتيجة لهذا التحول في أوروبا. ومع ذلك، وبمرور مزيد من الوقت، وتوفر مزيد من البيانات لفترة ما بعد الاتحاد النقدي الأوروبي، سيكون هناك تقديرات موثوقة. وفي حين أن البيانات المتوفرة الآن تعتبر كافية من وجهة نظر الاقتصاد القياسي، إلا أن وجود بيانات إضافية سيحسن من دقة التقديرات التي يتم الحصول عليها من التحليل التجريبي. ونحن على ثقة من أن دراسة آثار تشكيل الاتحاد النقدي الأوروبي ستولد الكثير من الأفكار الجديدة والهامة التي ستُتيح المجال إلى تسوية بعض أهم المناقشات المتبقية في نظريات الاقتصاد الكلي حول فعالية نشاط السياسة النقدية.
ملاحظات:

[1] استوفت كل من النمسا وبلجيكا وفنلندا وفرنسا وألمانيا وإيرلندا وإيطاليا ولوكسمبرغ وهولندا وإسبانيا والبرتغال المعايير الاقتصادية المفروضة من قبل معاهدة ماسترخت وقامت بتأسيس الاتحاد النقدي الأوروبي في 1 كانون الثاني 1999. ولقد استوفت اليونان هذه المعايير في 1 كانون الثاني 2001. ولقد اختارت كل من بريطانيا والدنمارك والسويد عدم المشاركة في الاتحاد النقدي الأوروبي بسبب قلقها إزاء فقدان السيادة الوطنية.
[2] عرّف النظام استقرار الأسعار بأنه المحافظة على معدل الزيادة السنوية لمؤشر سعر المستهلك المتوافق ليكون أقل من 2% لمنطقة اليورو.
[3] هذه المقولة تتفق مع بارو (1996)، الذي وجد علاقة سلبية بين التضخم والأداء الاقتصادي في 100 دولة للفترة من 1960 إلى 1990.
[4] يوضح إليسون وفالا (2000) أن التفاعلات الاستراتيجية بين البنوك المركزية وأفراد السوق تحث على نشاط أقل في السياسة النقدية. وعلى وجه التحديد، فإن نشاط البنوك المركزية سيؤدي إلى المزيد من التأرجحات في توقعات التضخم من قبل الأفراد، والذي يمكن ترجمته إلى انتاج متقلب ورعاية اجتماعية اقل. إضافة إلى ذلك، فإن هذه النظرية تلمح إلى أن البنك المركزي الذي يأخذ في الحسبان أن أداءه وأعماله يترتب عليها تعلم مستمر يجب أن يختار أن يكون أقل فعالية من البنك المركزي الذي يتغاضى عن تأثير التعلّم.
[5] هذه هي مجموعة الدول التي يتوفر لديها بيانات ثابتة وموثوقة.
[6] البيانات الشهرية لـ M2 مأخوذة من مكتب الإحصاء في البنك المركزي الفرنسي، واختيار تاريخ البداية يعتمد على توافر البيانات إضافة إلى أنه يتزامن مع رئاسة ألن جرينسبان، وهذا مفيد في الإجراءات المؤخرة لنشاط البنوك المركزية الوطنية السابقة مقارنة بالبنك الفيدرالي الأمريكي.
[7] تم قياس تفاوت الناتج بالنسبة المئوية لانحراف لوغارثم الإنتاج الصناعي عن اتجاهه الخطي. النتائج باستعمال المعادلة الخطية قريبة من النتائج التي يتم الحصول عليها باستخدام المعادلة التربيعية.
[8] ينصح كلاريدا وجالي وجيرتلر (1997، 2000) استخدام فترات طويلة لتحسين دقة تقدير المعامِلات. ولمعرفة إذا كانت قد أثرت نتائجنا بشكل هام، تم حذف السنوات من 1990-1993، وهي الفترة التي يشار إليها بآلية سعر الصرف الصعبة. تم حذف هذه السنوات لأن كلاريدا وجالي وجيرتلر (1997) أظهروا أن البنوك المركزية الوطنية السابقة قد فقدت التحكم في سياستها النقدية إلى البندسبنك الذي كان مسيطرا في تلك الفترة. ولقد بينت النتائج التي تم الحصول عليها بعد الحذف، وبشكل أكثر وضوحا، الاختلاف بين مجموعتي البنوك المركزية الوطنية السابقة عن ذلك المعروض في الجدول 1. ولقد تم تقدير قاعدة تيلور باستخدام بيانات من القرص المدمج للإحصائيات المالية الدولية.
[9] في حين لا نورد القيم الفردية لكل من γ وβ، يجدر الإشارة إلى أنه كان لكل من ألمانيا والنمسا وبلجيكا أقل قيمة لـ γ حتى وبدون أن تقسم على β. إضافة إلى ذلك، كانت قيم β > 1 لكل من ألمانيا والنمسا وبلجيكا فقط (مما يعني أن البنك المركزي قد زاد سعر الفائدة الإسمية استجابة إلى ضغوط التضخم بشكل كاف بحيث يتم ارتفاع الفائدة الحقيقية) وعليه، حاربت التضخم بشكل فعال، مظهرة مرة أخرى موقفها من السياسة النقدية.
[10] للمزيد من المقارنة تم عرض نتائج البنك الاحتياطي الفيدرالي للفترة من كانون الثاني 1987 لغاية كانون الأول 1998 ومن كانون الثاني 1999 لغاية كانون الأول 2001. البيانات الخاصة بـ M2 للولايات المتحدة مأخوذة عن بنك الاحتياطي الفيدرالي لسانت لويس.
[11] إن الارتفاع الملحوظ في النشاط النقدي لإيطاليا وإسبانيا لا يؤكد فقط تباين حجم الكتلة النقدية فحسب، بل ينعكس أيضا في مقياس قاعدة تيلور الذي يعزل النشاط وخاصة ذلك المتعلق بالتجاوب مع التقلب الاقتصادي في المدى القصير.
[12] إن أحد أكبر الصدمات التي ضربت ألمانيا في أوائل التسعينيات كان إعادة اتحاد شرق وغرب ألمانيا. كانت الاستجابة النقدية للبندسبنك خلال فترة إعادة الاتحاد فوق العادة. نعتقد أنها تحرف المقياس الحقيقي قليلا لسياسة البندسبنك النقدية وبالتحديد مقياس التباين والانحراف المعياري حيث تؤثر العينات المختلفة على النتائج. تظهر النتائج في هذا الجدول البيانات بدون بيانات السنة التي توحدت فيها ألمانيا وكذلك البيانات للعينة الكلية بين القوسين.
[13] تبدأ فترة ما قبل الاتحاد النقدي الأوروبي بالشهر الذي انضمت فيه كل دولة إلى الاتحاد الأوروبي وتستمر خلال كانون الأول 1998، وتمتد فترة ما بعد الاتحاد النقدي الأوروبي من كانون الثاني 1999 لغاية تاريخ أحدث بيانات متوفرة (عادة تموز 2001). ولقد تم استخدام فترة أطول لما قبل الاتحاد النقدي الأوروبي في مسودة سابقة لهذه الدراسة، ولقد قلق العديد من القراء من أن تشكيل الاتحاد الأوروبي قد زاد من استقرار الدول وأنه يقيّد نتائجنا. ولذلك، تم اختيار أن تقتصر عينة فترة ما قبل الاتحاد النقدي الأوروبي إلى البيانات التي تم الحصول عليها منذ انشاء الاتحاد الأوروبي فقط.
[14] تغطي فترة ما قبل الاتحاد النقدي الأوروبي الفترة التي تبدأ منذ مصادقة الدولة على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لغاية كانون الأول 1998 وفترة ما بعد الاتحاد النقدي الأوروبي تغطي الفترة من كانون الثاني 1999 لغاية تموز 2001. البيانات مأخوذة عن مورغان ستانلي كابيتال إنترناشيونال.
[15] تحتسب عائدات سوق الأسهم بلوغارثم فرق مؤشر سوق الأسهم.
[16] لفترة ما قبل الاتحاد النقدي الأوروبي، فإن بداية البيانات تتوافق مع وقت إقرار الدول الدخول في الاتحاد الأوروبي. بالنسبة إلى ألمانيا وبلجيكا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا، فإن فترة ما قبل الاتحاد النقدي الأوروبي تمتد من تشرين الثاني 1992 لغاية كانون الأول 1998. وبالنسبة للنمسا والسويد، فإن فترة ما قبل الاتحاد النقدي الأوروبي تبدأ من كانون الثاني 1993 لغاية كانون الأول 1998. لفترة ما بعد الاتحاد النقدي الأوروبي تمتد البيانات من كانون الثاني 1999 لأحدث بيانات متوفرة، وهي في العادة تموز 2001.
[17] يجادل فرانكل وروز (1998) أن الاشتراك في عملة واحدة يؤدي إلى علاقات تجارية مقربة والتي بدورها تتسبب في تقارب دورات الأعمال عبر الدول. ولأن دورات الأعمال المتزامنة تعتبر من أهم المعايير لإنشاء منطقة عملة مثلى، فإن استنتاجاتهم تؤكد الواقع بأن ظروف منطقة العملة المثلى يمكن تحقيقها بواسطة النتائج الفعلية بدلا من التوقعات والتنبؤات. ويؤكد روز (2000) وروز ووينكوب (2001) المنافع الاقتصادية التي تواجهها الدولة التي تنضم إلى اتحاد للعملة ومحلية معايير منطقة العملة المثلى. وتطابق هذه النتيجة استنتاجاتنا في أن الخيار بالانضمام إلى الاتحاد النقدي الأوروبي لا يجب أن يعتمد على معايير منطقة العملة المثلى. ويعتقد هؤلاء، مثلنا، أنه قد تم تقليل شأن منافع منطقة العملة المثلى في المؤلفات، وأن مكاسب الانضمام للاتحاد النقدي الأوروبي المحتملة يجب أن تؤدي إلى تخلي دولا أكثر عن سيادتها النقدية.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 29 أيلول 2006.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

أصبحت اقتصاديات كل من كوريا الجنوبية، وتايوان، وسنغافورة وكأنها معجزة—إذ تنمو بمعدل 8 في المائة سنوياً—وذلك بتنفيذها التقسيم المناسب للعمل، والذي ركز فيه كل من القطاعين العام والخاص على العمل الذي يقوم به على أفضل نحو. حيث ركزت الحكومة على القانون والعدالة، وزادت من مساحة الأراضي المزروعة (ثورة خضراء)، وحسنت البنية التحتية. في حين زاد القطاع الخاص من حجم التصنيع والخدمات.
عندما بدأت الهند بعملية الإصلاح قبل 15 عاماً مضت، توقعت شخصياً تقسيماً مماثلاً للعمل. لكن ذلك لم يحدث في الهند. وكان إنجاز القطاع الخاص فيها أكثر من المتوقع. أما قطاع البرمجيات فيها فهو على المستوى العالمي، وأصبحت الصناعات تنافسية أخيراً: نمت الصادرات بأكثر من 30 في المائة سنوياً لثلاث سنوات متتالية. وتقوم الشركات الهندية بعمليات استحواذ أجنبية بأعداد وفيرة وتصبح أيضا شركات متعددة الجنسيات—تاتا ستيل، وبهارات فورج، ورانباكسي هي بعض الأمثلة على ذلك.
غير أن الحكومة على أية حال، فشلت بشكل بائس في التقسيم الجديد للعمل. فقد أصبح الفساد أسوأ مما كان عليه، كما ازدادت اللامبالاة. واندفع المجرمون بالمئات إلى الهيئات التشريعية المركزية، وتلك الخاصة بالولايات، وإلى مجالس الوزارات. ولم يعد بمقدور المحاكم إدانة أي شخص واسع المصادر رغم جميع التوسلات. وتوفي كل من هارشاد ميهتا (الذي ترأس فضيحة سوق البورصة في الهند عام 1992)، ورئيس الوزراء السابق ناراسيمها راو بسبب الشيخوخة قبل أن تنتهي قضاياهما.
ويشكل الركود الزراعي مشكلة خطيرة. لقد اعتادت الهند أن تصدر الحنطة، لكنه الآن تستوردها. أما البنية التحتية، فعلى الرغم من إجراء تحسينات مهمة عليها، إلا أنها متخلفة إلى حد كبير عن مثيلاتها من البلدان.
فكيف إذاً استطاعت الهند تحقيق معدل نمو قياسي في السنوات الأخيرة؟ لأن القطاع الخاص تولى على عاتقه الكثير من الأدوار الحكومية التقليدية، وأنقذ الوضع.
لقد كانت الكهرباء منذ فترة طويلة حكراً على الدولة، وكانت مجالس كهرباء الدولة مفلسة عندما بدأ الإصلاح في عام 1991. ولجأت إلى منتجي طاقة مستقلين مثل إنرون، ولكن ذلك تحول إلى إخفاق تام. فيكف إذا تعمل الهند على إنتاج طاقة تكفي لنمو اقتصادي قياسي؟
حسناً، عملت محطات توليد الطاقة القديمة على تحسين مصانع التحميل الخاصة بها. بيد أن السبب الرئيسي تمثل في أن الشركات قررت أنها لا تستطيع الاعتماد على إمدادات الحكومة، وأنشأت مصنعاً للطاقة لتلبية حاجاتها الخاصة قدرته 20 ألف مليون واط، إضافة إلى فائض بإمكانها بيعه. وبتولي الشركات دوراً كانت تؤديه الحكومة أساسا، انتعشت الصناعة.
لنأخذ في الاعتبار الموانئ. كانت تتم معالجة عملية الشحن على نحو غير فاعل في الموانئ الرئيسية التي تملكها الحكومة. وكان وقت التحميل أطول بعشر مرات من مثيله في سنغافورة، وكانت السفن تنتظر قرابة 25 يوماً من أجل التنزيل. أما اليوم، فقد انخفض وقت التحميل والانتظار لأنه سُمح للشركات، الهندية والأجنبية، بإنشاء مرافئ للحاويات في الموانئ الرئيسية، مما حوّل كفاءتها. وفي الوقت ذاته، سهلت ولاية غوجارات عملية تطوير 49 ميناءً صغيراً، مملوكة من قبل القطاع الخاص بشكل رئيسي، وهناك ولايات أخرى تتبع خطاها. وعملت الموانئ التي أنشأت لتلبية حاجة الشركات الكبيرة على تغيير معنى الشحن بشكل جذري. وتعالج الموانئ التي أنشأت لتلبية حاجة شركة ريلاينس إيندستريز عدداً من عمليات الشحن، أكبر من أي ميناء رئيسي فيما عدا فيشاكاباتنام.
ويعتبر قطاع الاتصالات أكبر وأفضل الأمثلة على تولي القطاع الخاص الدور التقليدي للحكومة بنجاح. ففي أعوام الثمانينيات، كان عليك أن تنتظر لأكثر من سبع سنوات للحصول على هاتف باشتراك حكومي. أما المنافسة الخاصة اليوم فتعمل على توصيلك فوراً. وتضيف الهند نحو 5 مليون مشترك في الهواتف الجوالة شهرياً، كما أن أسعار الاتصالات فيها من أدنى معدلات الأسعار في العالم.
كما تعمل الشركات حالياً على تحديث مطارات مومباي ودلهي، وسوف تبني مطارات أخرى أيضاً. وتبني الشركات الخاصة في الوقت الحاضر عدة طرق برسم عبور. لقد طورت الحكومة فكرة العجز عن السداد للطرقات، وقد رسا العقد على المزايد الذي طلب أدنى إعانة لرسم عبور الطريق. ولكن، هناك الآن عدد من المزايدين ممن هم على استعداد لدفع رسم بدلاً من طلب إعانات.
هناك ثورة خضراء أخرى يقوم بدفعها القطاع الخاص وليس القطاع العام. وقادت ريلاينس إيندستريز الطريق إلى المناطق الريفية في بنجاب بعمليات تضمنت كافة تفاصيل عملية الزراعة والبيع—إذ تدير سلسلة تبدأ من البذور والمحاصيل إلى التصنيع وعمليات البيع في الأسواق النشطة. ونوّعت آي. تي. سي. (وهي تكتل هندي كبير) أعمالها من صناعة السجائر إلى الرقاقات الإلكترونية، والأكشاك الريفية المحوسبة من أجل المعلومات الزراعية ولشراء المنتج. كما تنشئ ماهندراس، وتاتاس، وشريرامس متاجر ريفية كبيرة. كما تدفع تريفيني، وهي مجموعة للسكر، مستحقات قصب السكر مباشرة في حسابات بنكية زراعية، وتصدر بطاقات ائتمانية بحيث يستطيع المزارعون السفر إلى الأسواق دون حمل سيولة، وهذه نعمة في ولاية أوتار براديش الحافلة بالعصابات. وتوفر هذه الشركات بذوراً وشجيرات جيدة النوعية للمزارعين، مع تقديم ضمانات بإعادة الشراء بسعر جيد. وهكذا تؤدي الشركات مهمة ضمان السعر، وهي المهمة التي كانت الحكومة رائدة بأدائها فيما مضى من خلال الأسواق التي تديرها بنفسها.
تغطي هذه المبادرات جزءاً صغيراً فقط من البلاد. ولكنها تحدث حركة في بحيرة كانت ستكون راكدة بخلاف ذلك. وبهذه الطريقة، أغلقت الشركات الفجوة التي خلقها إخفاق القطاع العام بالقيام بدوره التقليدي. ولكن في مجال تطبيق القانون والعدالة الرئيسي، لا يبدو أن ذلك ممكناً. واعتقد شخصياً أنه إذا وجد عرض منافس للقيام بدور الشرطة، أو تم ربط الأداء بمؤشرات، فإن ذلك سيعمل على تحسين النتائج فعلياً. غير أن السلطة الكلية للسياسيين تتدفق من سيطرتهم على الشرطة والإدارة، لغاية غير قانونية نموذجياً، وهم يعارضون إجراء أية إصلاحات على النظام الفاسد المحتضر.
إن العدالة السريعة الوحيدة الموجودة في الهند تأتي من المجموعات الماوية، والتي تعمل في ضواحي عديدة من الهند على عقد محاكمها الخاصة، وإصدار الأحكام، وفرض الجزاءات فوراً. إن هذا الأمر لا يمثل عملية الخصخصة التي أفضّلها. ولكن، يبدو أنها الأمر الوحيد الذي سنحصل عليه.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 25 أيلول 2006.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

الكونغرس بدأ يفقد صبره مع نظام الصين الخاص بسعر تبادل العملات، ويهدد بوضع تعرفة للحماية أو أكثر. وقد طار إلى بكين ثلاثة من أعضاء مجلس الشيوخ للإعراب عن مشاعر الإحباط لديهم، ولكنهم يفتقدون صلب الموضوع. فالضرب على المشكلة الصغيرة التي تتمثل في سعر صرف العملات، يبعد الأنظار بعيداً عن قضية أكثر إلحاحاً: قمع الصين الطويل المدى لسوق رأسمالها.
فمن بين أكبر الأمم التجارية العشر، الصين وحدها تفرض رقابة واسعة على رأس المال. صحيح أن المعاملات الجارية، أو الاتجار بالبضائع والخدمات قد تم تحريرهما. بيد أن المواطنين الصينيين محرومون من الاستثمار في الخارج، والفوائد البنكية تخضع لرقابة مشددة، وأسواق الأسهم الداخلية تنحصر في معظمها بالشركات التابعة للدولة.
الصين تدفع ثمناً غالياً لمثل هذه القيود، والتي تُشوه قرارات الاستثمار وتؤدي إلى إساءة تخصيص رؤوس الأموال. والمواطن الصيني العادي يعاني أيضاً. وحيث أنهم حرموا من حق السعي للحصول على مردود أعلى في الخارج لمدخراتهم التي تعبوا في جمعها، لا يبقى خيار أمامهم سوى تجربة حظهم في استثمارات محلية غير محكمة التنظيم. وهذا بدوره يفسر لماذا المدخرات الصينية مرتفعة كل هذا الارتفاع—ولماذا تظل قائمة اختلالات ميزان التجارة بين الولايات المتحدة والصين التي يتحدث الجميع عنها.
إن إنهاء الإجراءات الصارمة على رأس المال، والسماح بالخصخصة على نطاق واسع—وهو شرط ضروري لإقامة أسواق رأس مال منافسة وتسعير كفء سيكون له فوائد كبيرة. إنه سوف يحول نظام الصين الاشتراكي إلى نظام سوق حقيقي له ملاّك حقيقيون يكونون مسؤولين عن قراراتهم. إنه سوف يوجد رأس المال إلى أكثر استخداماته فعالية. وإنه كذلك سوف يساعد على جلب الاستثمارات الأجنبية ويساعد في إعادة تقييم اليوان، كما يعيد التوازن لميزان التجارة بين الولايات المتحدة والصين.
هذه الأسباب كلها تدفع باتجاه أن يُحوِّل الكونغرس تركيزه بعيداً عن موضوع سعر الصرف. فمنذ أقدمت بكين على رفع قيمة عملتها بمقدار 2.1% في حزيران الماضي، وتحولت إلى سلة من العملات تحرك اليوان أقل من 1% أمام الدولار. ولذا قدم السناتور تشارلز شومر ولندزي جراهام مشروع قانون يفرض تعرفة عالية، بل مانعة، على المستوردات الصينية، ما لم تتحرك بكين بسرعة باتجاه إعادة تقييم كبيرة. وقد انضم إليهما السناتور توم كوبورن، وقام الثلاثة بإبلاغ مضيفيهم الصينيين بأن العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين “في حالة تدهور”.
وبدلاً من اللجوء إلى إجراءات حماية جمركية مدمرة، فإن من الأجدى أن يساعد أعضاء مجلس الشيوخ الصين في اتجاه تحرير رأس المال. هذا يعني التوضيح كيف أن الصين تواجه احتمال أن تسبقها الهند حيث قام رئيس وزرائها مؤخراً مانموهان سنج بوضع تحويلات حسابات رأس المال بشكل ثابت على الأجندة. وهو يعني أيضاً مؤازرة الإصلاحيين أمثال زو جيوتشوان محافظ البنك المركزي الصيني الذي تعهد مؤخراً بجعل الصين تسير في الاتجاه نفسه.
كانت هنالك علامات مشجعة أخرى. لجنة السياسة النقدية التابعة للبنك المركزي أعلنت في شهر أيلول بأنه يتوجب على السوق “أن يلعب دوره في إعادة الهيكلة”، بما في ذلك إصلاحات في الفائدة وتبادل العملات، وأن “جهوداً يجب أن تبذل لدعم الإصلاحات المالية” من أجل “تعظيم فعالية السياسة النقدية”.
ولكن السؤال الحقيقي هو: بأية سرعة سوف تتحرك الصين؟ معظم النقاد يقولون بأن الرقابة على رأس المال لا يمكن تخفيفها حتى يتم إصلاح القطاع البنكي إصلاحاً تاماً. هذا القول يعني أنه إذا سمحت بكين للمال بالخروج، فإنه لن يعود إلى الصين، وبالتالي فإن ميزانيات البنوك المحلية الصينية سوف تعاني. ليس هذا القول بعيد الاحتمال فحسب، بل إنه يتجاهل الدور المهم الذي تلعبه المنافسة في دعم أكثر استخدامات رأس المال فعالية.
الحزب الشيوعي الصيني نفسه قد يضع مقاومة شديدة أمام التخلي عن سيطرته على القطاع المالي. ففي اللحظة التي يتذوق فيها المواطنون الصينيون السيطرة على الأموال العائدة إليهم، والملكية الخاصة تصبح محمية بموجب القانون—كما وُعد في التعديل الأخير الذي جرى على الدستور الصيني—فإن آخر مظاهر التخطيط المركزي سوف تختفي وسوف تنحسر قوة الحزب.
مشروع آخر روّج له كثيراً بالسماح لعدد مختار من المستثمرين الأجانب بشراء أسهم وسندات يجري تسويقها، والمعروف باسم “مشروع المستثمر المؤسساتي الأجنبي المؤهل”، هو مقيدٌ إلى حد كبير. معظم مدراء الصناديق لا يرغبون في ربط رأس مال عملائهم في شركات تملكها الدولة. ونتيجة لذلك، فإن المستثمرين الأجانب ما زالوا يلعبون دوراً ثانوياً في أسواق الأسهم الصينية الشبيهة بالكازينو.
القائمون على وضع سياسة الصين العليا يدركون ماذا يتوجب عمله لتحسين الصرح المالي. ولكن علينا أن نكون صبورين. فلسوف تحتاج الصين إلى وقت لتحرير نظام صرف العملات، وفتح أسواق رأس المال، والسماح بتحويل غير مقيد لليوان، وتحرير نسب الفوائد واستخدام السياسة النقدية المحلية لتحقيق استقرار الأسعار على المدى الطويل. وسوف يكون حتى أصعب من ذلك المهمة الأساسية المتمثلة في تخصيص أسواق الأسهم والسندات والبنوك والمؤسسات التي تملكها الدولة.
وكما يكتشف أعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة شومر، وجراهام وكوبورن، فإن الطريق أمام الإصلاحات لن تكون بالضرورة سهلة، وبالأخص إذا ركّز الكونغرس بقصر نظر على أسعار تبادل العملات. لقد حان الوقت لتوسيع آفاق البحث—وتشجيع حرية رأس المال.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 17 أيلول 2006.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

حدث شيء كبير في أسواق العملات في 1 تموز، ولكن إذا كنت من قراء وسائل الإعلام الشائعة العامة فقط، فلربما يكون الحدث قد فاتك. ففي ذلك التاريخ، جعلت روسيا الروبل قابل للتحويل كلياً، ولأول مرة منذ 8 آب 1914. وبشكل أدق: فقد رفعت جميع القيود على دخول وخروج تدفقات الروبل من البلاد وأصبح ممكناً الآن الإتجار بالروبل بحرية في الأسواق الدولية، ويستطيع الأجانب الآن الاحتفاظ بودائع بالروبل في روسيا، كما في الخارج. لم يعد مطلوبا من المستثمرين الاحتفاظ بودائع، دون الحصول على فوائد عليها، في البنك المركزي (ودفع ضريبة ضمنية) عندما يستثمرون في أسواق روسيا بمداخيلها المحددة.
هل تسبب هذا التسهيل في هجوم على الروبل؟ كلا وبعيداً جداً عن ذلك. فعلى امتداد العام المنصرم، ارتفعت قيمة تبادل الروبل 6.3% مقابل الدولار، بما في ذلك ارتفاع 0.7% تم تحقيقه منذ تموز. هذا التوجه نحو الأسواق الحرة هو تطور إيجابي جداً في بلد عانى من فترة تحول قاسية، من الشيوعية إلى الرأسمالية. إن سوق رأس المال الروسي المتعاظم يبشر بأن يصبح أكثر عمقاً، وأكثر كفاءة، وأكثر اندماجاً كلياً بالأسواق الدولية. وباختصار، فإن التحول، من شأنه أن يدفع روسيا مراحل أخرى إلى الأمام نحو العولمة، وبالتالي تنشيط التدفقات الرأسمالية نحو الداخل، وإلى المزيد من مكاسب الروبل أمام الدولار.
لماذا فات المراسلين نقل قصة الروبل؟ ذلك لأنهم قد قرروا في عقولهم بأن فلاديمير بوتين يجر بألباب روسيا إلى عهد التسلط القديم. إنهم لا يستطيعون حتى التصور—ناهيكم عن الكتابة—بأنه باستطاعة أحد رجال كي.جي.بي السابقين قيادة أي نوع من أنواع الليبرالية الاقتصادية.
وإذا انتقلنا من موسكو إلى باريس، فإننا نكتشف قصة عملة جديرة بلفت النظر. فمنذ ألقى الجنرال شارلز ديغول خطابه الشهير، في شباط 1965، والذي دعا فيه إلى إيجاد دور للذهب في نظام العملات الدولي، لم يكن سراً بأنه كان لدى فرنسا استراتيجية عملات دولية: أي نظام يناهض هيمنته الدولار الأمريكي هو نظام جيد. هذا يفسر، بطبيعة الحال، لماذا كان الفرنسيون من المتحمسين لوحدة النقد الأوروبية في عام 1999.
جان كلود تريشيه، رئيس البنك المركزي الأوروبي منذ 2003، يروّجُ لوجهة نظر فرنسية عندما يقول بأن “اليوان” الصيني الرخيص قد أعطى للصين ميزة تجارية منافسة وخلق تشوهات وفقدان توازنات عالمية خطيرة.
إن المحافظين الجدد من دعاة الحماية في إدارة الرئيس بوش، تؤيدهم جماعات إقليمية ضيقة الأفق من ذوي المصالح الخاصة، قد وقعوا في هذه المصيدة الفرنسية. وفي الحقيقة، فإن الولايات المتحدة هي التي قادت الحملة لإرغام الصين على فك ارتباط اليوان بالدولار، والسماح بتعويم اليوان. فإذا ما تم ذلك، فإن الفرنسيين سوف يكونون قد حازوا على جائزتهم. ذلك أن البلدان الأخرى، التي تربط عملاتها بالدولار، والتي تشكل كتلة الدولار الآسيوية، سوف تقطع ارتباطها بالدولار، وعندها تتبعثر الكتلة شذر منذر. من شأن ذلك إرجاء هيمنة الدولار إلى الوراء، وزرع عوامل عدم الاستقرار فيما كان يعرف بكتلة الدولار الآسيوية، ويعيق تدفق الوفورات الآسيوية إلى الولايات المتحدة.
هنالك طريقة جدية يستطيع الصينيون بواسطتها تفويت الأمر على أنصار الحماية، الفرنسيين والأمريكيين، سواء بسواء: تطبيق سعر ثابت للمبادلات بين اليوان والدولار، وفي الوقت ذاته تطبيق نظام تحويل حرٍّ كامل. مثل هذا التغيير، سوف يترك الصين حيث هي تريد أن تكون، وبنفس النظام النقدي المعمول به في هونغ كونغ. سوف تظل كتلة الدولار الآسيوية متماسكة. أعتقد أنها فكرة سيئة شراء اليوان، على أمل أن الصينيين سوف يسمحون برفع رئيسي لقيمة اليوان. تطور نقدي آخر يستحق الاهتمام: فقدان الفرنك السويسري لموقعه كحصن آمن.
ربما تتوقع بأن الحرب في الشرق الأوسط وارتفاع أسعار النفط والذهب سوف يجعلان اللجوء إلى الفرنك موئلاً يحافظ على القيمة. يضاف إلى ذلك، أن الاقتصاد السويسري، يدفع بنمو قوي، وبطالة منخفضة، وتضخم منخفض، وفائض ضخم في ميزان المدفوعات. ورغم ذلك، فإن الفرنك السويسري، يجري التبادل به بأدنى سعر على امتداد ست سنوات مقابل اليورو، وبأدنى سعر على امتداد سنتين مقابل الإسترليني.
ماذا يمكن أن يفسر هذه الظاهرة المحيِّرة؟ انخفاض الفوائد في سويسرا (سعر المال لسنة يكلف 2%) قد جذب اقتراضاً واسعاً بالفرنك، من قبل الأفراد، والفعاليات الاقتصادية الصغيرة في شرق أوروبا (وبالأخص هنغاريا) وتركيا. بيد أن على أولئك المقترضين المدللين أن يسددوا أقساط قروضهم الفرنكية، بمداخيل محددة بـ”الفورنت” الهنغاري، والليرة التركية، وبالتالي خلق تناقض نقدي خطير. إنه تحطم قطار في انتظار أن يقع—وبالأخص عندما تكون عجلة القيادة مع مبتدئين غير متمرسين. وعندما يقع الانهيار، توقع أن يتبع ذلك ارتفاع حاد في قيمة الفرنك الفرنسي. بِعْ عقود البيع الآجل في اليورو/السويسري، في سوق التبادل السلعي في شيكاغو.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 11 أيلول 2006.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

إنني أسوق السيارة خارج أديس أبابا، إثيوبيا، متوجهاً إلى الريف. صفوف لا نهاية لها من النساء والبنات يمشين في اتجاه معاكس نحو المدينة. أعمارهن تتراوح بين 9 إلى 59 عاماً. كل واحدة منهن محنية إلى حوالي الضعف، تحت وطأة حمولة من الحطب. الحِملُ الثقيل يدفع بهن إلى الأمام كأنهن يمشين خبباً. أفكر في عبيد يسيرهنَّ دفعاً من قِبل مُشرف على العبيد لا يُرى. إنهن يحملن الحطب من أميال بعيدة خارج أديس أبابا، حيث تتواجد أحراج شجر الكليبتس، على امتداد الأراضي الجرداء المجردة التي تحيط بالمدينة. إنهن يجلبن الحطب إلى سوق المدينة المركزي لبيع الحمل مقابل دولارين. هذه هي نهاية دخل كل منهن لذلك اليوم، ذلك أن نقل الحطب إلى أديس أبابا والعودة مشياً يستغرق يوماً كاملاً.
وقد وجدت في وقت لاحق أنَّ الـ بي. بي. سي. البريطانية للأخبار قد أذاعت قصة حول إحدى الحاطبات. أماريتش، عمرها 10 سنوات استيقظت في الساعة الثالثة فجراً لجمع عروف وأوراق الكليبتس، ثم شرعت في مشيتها الطويلة والمؤلمة نحو المدينة. أماريتش، الذي يعني اسمها “الجميلة”، هي أصغر أطفال العائلة الأربعة في العائلة. وقد قالت: “لا أود أن أحمل الحطب طوال حياتي. ولكن في هذه اللحظة، ليس لدي أي خيار لأننا على هذه الدرجة الكبيرة من الفقر. جميعنا نحن الأطفال نحمل الحطب لمساعدة أبَنا وأُمنا على شراء الطعام لنا. إنني أُفضل لو كنت قادرة على الذهاب إلى المدرسة، وأن لا أقلق حول كيفية جمع النقود.”
المأساتان

أدلى وزير المالية البريطانية جوردن براون مؤخراً بخطاب عاطفي حول مأساة الفقر المدقع الذي يعاني منه بلايين البشر، بما في ذلك ملايين الأطفال الذين يموتون من أمراض يمكن تجنبها بسهولة. وقد دعا إلى مضاعفة المساعدات الخارجية، برنامج مارشال لفقراء العالم. وقد أعطى الأمل بتوضيحه لسهولة كيفية عمل الخير. الدواء الذي يحول دون نصف الوفيات الناجمة عن الملاريا يبلغ سعره 12 سنتاً فقط للجرعة. ناموسية سرير تحول دون أن يصاب الطفل بالملاريا ثمنها أربعة دولارات فقط. الحيلولة دون وفاة 5 ملايين طفل على امتداد السنوات العشر القادمة يُكلَّف مجرد 3 دولارات لكل أم جديدة. برنامج لإدخال أماريتش للمدرسة يكلف القليل.
ولكن جوردن براون كان صامتاً حول المأساة الأخرى لفقراء العالم. إن هذه المأساة تتمثل في أن الغرب قد سبق وأنفق 2.3 تريليون دولاراً على المساعدات الخارجية، على امتداد العقود الخمسة الماضية، ومع ذلك فقد فشل في إعطاء الأدوية ذات سعر 12 سنتاً للأطفال لمنع أكثر من نصف وفيات الملاريا. لقد صرف الغرب 2.3 تريليون دولاراً، ومع ذلك لم يستطع توفير شبكات ناموس للعائلات الفقيرة. أنفق الغرب 2.3 تريليون دولاراً، ومع ذلك لم يوفر 3 دولارات لكل أم جديدة للحيلولة دون وفاة 5 ملايين طفل. أنفق الغرب 2.3 تريليون دولاراً، وما زالت أماريتش تحمل الحطب. إنها لمأساة أن يكون ذلك الكم الكبير من الرحمة والتعاطف لم يجلب تلك النتائج للعائلات المحتاجة.
جهود الغرب لمساعدة الآخرين كانت حتى أقل نجاحاً في تحقيق أهداف مثل تسريع النمو الاقتصادي، تغييرات في سياسات الحكومات الاقتصادية لتحفيز الأسواق، أو دعم قيام حكومات أمينة وديمقراطية. والدلائل على ذلك صارخة: 568 بليون دولاراً أنفقت على المساعدات لإفريقيا، ومع ذلك فإن البلد الأفريقي في المتوسط ليس أكثر رخاءً مما كان عليه قبل أربعين عاماً. عشرات من قروض “التصحيحات الهيكلية” (وهي مساعدات قروض مرتبطة بشروط الإصلاح) قُدِّمت لإفريقيا، والاتحاد السوفييتي السابق، وأمريكا اللاتينية ليتبين بعدها فشل سياسة الإصلاح والنمو الاقتصادي سواء بسواء. الدلائل تشير إلى أن المساعدات تؤدي إلى حكومات أقل ديمقراطية وأقل أمانة، لا أكثر. ومع ذلك، ومع عدم استفادتنا من هذه التجربة، ما زلنا نرى سخافات من أمثال المخططات عالية الطموح التي وضعها جفري ساكس والأمم المتحدة لتنفيذ 449 تدخلاً منفصلاً لتحقيق 54 هدفاً منفصلاً بحلول سنة 2015 (أهداف التنمية الألفية)، يصاحبها توسلات عاجلة لمضاعفة المساعدات المالية.
التنمية الاقتصادية تحصل، ليس من خلال المساعدات، ولكن من خلال الجهود الوطنية المحلية لرجال الأعمال وللمصلحين الاقتصاديين والسياسيين. وبينما كان الغرب يعصر تفكيره بشأن بضع عشرات بليون دولاراً للمساعدات، رفع مواطنو الهند والصين دخولهم بمقدار 715 بليون دولاراً نتيجة جهودهم الذاتية في اقتصاديات السوق. وعندما تدرك وكالات التنمية بأن المساعدات لا تستطيع تحقيق التنمية الاقتصادية والسياسية العامة، فإنها تبدأ في التركيز على إصلاح نظام فشل في توفير أدوية ثمنها 12 سنتاً لضحايا الملاريا.
الإستجابة والمساءلة
العنصران الرئيسيان الضروريان لإنجاح المساعدات، والذي كان غيابهما قاتلاً في إفشال فاعلية المساعدات في الماضي، هما الاستجابة في معرفة التقبل أو الرفض، والمساءلة. ضروريات الأغنياء تُلبّى من خلال الاستجابة والمساءلة. المستهلكون يقولون للشركة الصانعة “هذا المنتج جدير بسعره”، عن طريق شراء السلعة، أو يقررون بأن السلعة المذكورة لا قيمة لها ويعيدونها إلى المخزن. أصحاب حق التصويت يقولون لممثليهم المنتخبين بأن “هذه الخدمات العامة سيئة،” ويحاول السياسيون إصلاح المشكلة.
بطبيعة الحال، الاستجابة أو عدمها يكون لها مفعولها إذا كان هنالك من يسمع. الشركات التي تسعى لتحقيق الربح تنتج سلعة ترى أن عليها طلب كبير؛ ولكنها تتحمل المسؤولية إزاء السلعة المنتجة—إذا أدت السلعة إلى تسميم إنسان ما فإنها تصبح تحت المساءلة، أو على الأقل، فإنها تخرج من السوق. الممثلون المنتخبون يتحملون المسؤولية لنوعية الخدمة العامة. فإذا حدث خطأ ما، فإنهم يدفعون ثمناً سياسياً، ربما بخسارة مركزهم. وإذا كانت الخدمة ناجحة، فإنهم يحصدون الثمن سياسياً.
وكالات التنمية يمكن إخضاعها للمساءلة لمهام محددة، بدلاً من الحوافز الضعيفة التي تتأتى عن المسؤولية المشتركة لجميع تلك الوكالات والحكومات التي تتلقى المساعدات بالنسبة لتلك الأهداف العريضة، والتي تعتمد على عوامل كثيرة بجانب جهود وكالة التنمية. أمثلة على الأخير تشمل أهدافاً لا يمكن تحديدها أو المساءلة بشأنها، مثل الحملة الرائجة لتحقيق أهداف التنمية الألفية للأمم المتحدة، أو أهداف التنمية الاقتصادية الطموحة، وإصلاح الحكومات، والديمقراطية للبلدان الفقيرة التي ذكرت أعلاه. فإذا كانت البيروقراطية تشترك في المسؤولية مع وكالات أخرى لتحقيق أهداف عامة مختلفة كثيرة، والتي تعتمد بدورها على اعتبارات كثيرة، فإنها لا تكون مسؤولة أمام المستفيدين المستهدفين—أي الفقراء. لا يوجد موظف تنمية مسؤول شخصياً عن إنجاح أية مهمة في نظام المساعدات القائم. وفي غياب المساءلة، فإن الحافز لاكتشاف ما هو فعال يظل ضعيفاً. المساءلة الحقيقية تعني أن تتحمل وكالة التنمية المسؤولية عن مهمة محددة يمكن مراقبة تنفيذها لمساعدة الفقراء، وهذا بدوره يعتمد اعتماداً تاماً تقريباً على أداء الوكالة. عندها، فإن تقييماً مستقلاً حول أداء الوكالة للمهمة الملقاة على عاتقها سوف يخلق حافزاً قوياً لحسن الأداء.
ومع أن التقييم قد تم على المساعدات الخارجية منذ زمن طويل، فإنه كثيراً ما يكون تقييماً ذاتياً، مستخدماً تقارير من الأشخاص ذاتهم الذين يتولون تنفيذ المشروع. إن تلامذتي في جامعة نيويورك لن يدرسوا دراسة شاقة جداً إذا أعطيتهم الحق في إعطاء علاماتهم لأنفسهم.
البنك الدولي يحاول بعض الشيء تحقيق استقلال لدائرة تقييم عملياته، والتي تقدم تقاريرها مباشرة إلى مجلس إدارة البنك، وليس إلى رئيس البنك. ولكن موظفي البنك يتنقلون ذهاباً وإياباً بين دائرة التقييم وبقية أقسام البنك—وتقييم سلبي من شأنه أن يضر بسجلهم الوظيفي. إن تقييم دائرة التقييم نظري وليس موضوعي، والوسائل غير الواضحة تؤدي إلى تقييمات غير مترابطة، مثل ذلك التقييم الذي يصف الوضع في مالي:
“يتوجب أن نسأل كيف يمكن للنتائج التي في معظمها إيجابية أن تتلاءم مع نتائج التنمية الضعيفة والتي لوحظت فيما يتعلق بالفترة ذاتها (1985-1995)، وآراء السكان المحليين السلبية تجاهها.”
وحتى عندما تشير التقييمات الداخلية إلى الفشل، فهل تحمّلُ وكالات التنمية أي إنسان المسؤولية عن ذلك، أو تفضي إلى أي تغيير في ممارسات الوكالة العملية؟ من الصعب العثور على ذلك من مراجعة صفحة تقييم البنك الدولي على الإنترنت. لقد أوضحت دائرة التقييم في عام 2004 كيف أن ثماني “تقييمات مؤثرة” أثَّرت على ممارسات المقترضين في 32 طريقة مختلفة، ولكنها لم تذكر سوى حالتين أثرتا على السلوك داخل البنك الدولي نفسه (أحدهما أدّى إلى الأسوأ).
التقدم إلى الأمام
التقدم إلى الأمام محفوف بالمصاعب السياسية—تقييم علمي مستقل حقاً لجهود مساعدات محددة. ليس تقييمات كاسحة لبرنامج تطوير شامل على امتداد الأمة، بل تقييماً محدداً ومتواصلاً لأعمال تستطيع وكالات التنمية الاستفادة منها. الضغط السياسي الخارجي على وكالات التنمية هو وحده القادر على خلق الدوافع لإجراء تلك التقييمات. وفي دراسة للتقييم أجراها البنك الدولي عام 2000، بدأت الدراسة بالاعتراف بأنه “رغم صرف بلايين الدولارات على مساعدات التنمية كل عام، فما زال لا يعرف سوى القليل عن الأثر الفعلي لتلك المشروعات على الفقراء.”
الحل واضح بقدر ما هو مكروه—إقامة مجموعة مستقلة حقاً من ذوي الاختصاص في التقييم، والذين لا يعانون من تضارب المصالح مع البنك الدولي أو غيره من البنوك العالمية متعددة الجنسيات. بطبيعة الحال، لا بد من أن يكون هنالك دوافع لعمل شيء في ضوء النتائج—تخصيص الأموال لبنوك التنمية متعددة الجنسيات، زيادةً أو تخفيضاً في ضوء سجلها في العمل كما يصنفه المُقَيِّمون المستقلون. كما يتوجب الإشادة ببنوك التنمية الدولية إذا ما أوقفت تمويل مشاريع فاشلة، أو إصلاحها إذا كانت قابلة للإصلاح. كما يتوجب عقاب الفشل في اتخاذ إجراءات تصحيحية للمشروعات الفاشلة.
النجاح من خلال التقييم
في عام 1997، قدم مساعد وزير المالية المكسيكي، سانتياجو ليفي، وهو اقتصادي مرموق، برنامجاً مبتكراً لتمكين الفقراء من مساعدة أنفسهم. وقد نص البرنامج الذي حمل اسم بروجريساعلى تقديم منح نقدية للأمهات إذا أبقين أطفالهن في المدارس، واشتركن في برامج التعليم الصحي، وجلبن الأطفال إلى المراكز الصحية لتناول الأغذية الإضافية والرضوخ للفحوصات الدورية. وحيث أن موازنة المكسيك الفيدرالية لم تكن لديها المال الكافي للوصول إلى كل مواطن، فقد منح ليفي الأموال الشحيحة المتاحة بطريقة تضمن التمكن من إخضاعها للتقييم العلمي. وقد اختار البرنامج مائتين وثلاث وخمسين قرية بطريق القرعة لتلقي المساعدة، مع اختيار مائتين وثلاث وخمسين قرية أخرى (لم تعطى لها المساعدات) لإجراء عملية مقارنة. وقد تم جمع المعلومات عن جميع القرى الـ506، قبل وبعد الشروع في تنفيذ البرنامج. وقد منحت حكومة المكسيك مهمة تقييم البرنامج إلى المؤسسة الدولية لأبحاث سياسة الأغذية، والتي أجرت دراسات أكاديمية لنتائج البرنامج.
وقد أيدت الدراسة الأكاديمية فاعلية البرنامج. فقد تبين بأن الأطفال الذين تلقوا برنامج بروجريسا قد قلت إصابتهم بالمرض بنسبة 23%، وزاد طولهم بمقدار 1-4%، وانخفض فقر الدم لديهم بنسبة 18%. وقل عدد أيام التعرض للمرض لدى الشباب بنسبة 19%. وقد تحققت زيادة 3.4% في الالتحاق لجميع الطلاب في صفوف الأول إلى الثامن؛ وكانت الزيادة أكثر من غيرها بين البنات اللواتي أتممن الصف السادس، وبنسبة 14.8%.
وفي المسار نفسه، لاحظ الناس في قرية صغيرة اسمها بونافيستا أن البرنامج قد أحدث تغييراً. قالت أمٌ إنها تستطيع أن تطعم أطفالها اللحمة مرتين في الأسبوع، تدعيماً لأكل التورتلا، وذلك بفضل المساعدة التي تلقتها من برنامج بروجريسا. ولاحظ أستاذ اسمه ساندياجو دياز بأن الدوام في المدرسة التي تضم غرفتين قد ارتفع. وأضاف إلى ذلك قائلاً: “إنه بسبب التغذية الأفضل أصبح الأطفال أكثر قدرة على التركيز لمدد أطول. ولمعرفتهم بأن الفوائد التي تحصل عليها والدتهم تعتمد على وجودهم في المدرسة، فقد أبدى الأطفال رغبة أكبر في التعلم.”
وحيث أن البرنامج قد حقق نجاحاً واضحاً وموثقاً، فقد استمر العمل به على الرغم من رفض الناخبين للحزب الحاكم على مدى زمن طويل في ثورة المكسيك الديمقراطية عام 2000. وبحلول ذلك التاريخ، كان برنامج بروجريسا يصل إلى 15% من عائلات المكسيك، وبلغت موازنته 800 مليون دولار. وقد توسعت الحكومة الجديدة في تطبيقه بحيث أصبح يشمل الفقراء في المدن. وقد بدأ تنفيذ برامج مماثلة في البلدان المجاورة، بدعم من البنك الدولي.
الدرس الذي يمكن أن يتعلمه دعاة إصلاح المساعدات هو: الجمع بين حرية الاختيار والتقييم العلمي يمكن أن يبني التأييد لبرنامج مساعدات من خلال التوسع سريعاً في برامج ثبت نجاحها. إن النقد (المال) للتعليم وللتغذية يمكن التوسع به مع تعديلات محلية مناسبة، لعدد أكبر من البلدان، وعلى نطاق أوسع كثيراً مما هو عليه الآن. برنامج مثل هذا في إثيوبيا يمكن أن يُخلّص أماريتش وغيرها من الفتيات القاطنات في ضواحي أديس أبابا من عبودية حمل الحطب والالتحاق بالمدارس حيث يكتسبن المهارات التي تمكنهن من الخروج من دائرة الفقر.
هل جاء الوقت؟
لقد حان الوقت لوضع حد لمأساة فقراء العالم الثانية، والذي سوف يساعد على وضع حد للمأساة الأولى: أن يصبح في مقدور الفقراء وضع مراجعة لعاملين يخضعون للمساءلة، حول ما يعرفون وما الذي يريدونه أكثر من غيره، ويحتاجون إليه. إن الأحلام المثالية الكبيرة حول إنهاء الفقر في العالم مثل برنامج التنمية الألفية النابع من الأمم المتحدة لا يضع أحداً في موضع المساءلة. ألا نستطيع أن نضع العاملين في برامج العون في موقع المساءلة، حيث يقوموا بإيصال أدوية ثمنها 12 سنتاً للأطفال، للحيلولة دون وفاتهم بالملاريا، وتزويد شبكات منع الناموس لأسر الفقراء بكلفة 4 دولارات لمنع الملاريا، وإعطاء 3 دولارات لكل أم جديدة للحيلولة دون وفيات الولادة، وضمان دخول أماريتش إلى المدرسة؟
© معهد كيتو، منبر الحرية، 27 نيسان 2006.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

تحتل الحرية الاقتصادية مكانة خاصة بين الحريات –من اقتصادية، وسياسية، ومدنية– والتي يقدرها المجتمع الحر ويتمسك بها. وهي لا تُشكّل غاية في ذاتها وحسب؛ بل إنها تؤمن السند والدعم للحريات الأخرى. وعندما لا يكون الخيار الشخصي والتبادل الطوعي وحماية الملكية الفردية مؤمنةً، يصبح من الصعب أن نتصور كيف يمكن ممارسة الحرية السياسية أو الحريات المدنية بشكل ذي مغزى.
في العام 1962، قال ميلتون فريدمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، ما يلي:
“للتاريخ رأي واحد في ما يتعلق بالعلاقة بين الحرية السياسية والسوق الحرة. وأنا لا أعرف أي مثال في أي زمان أو مكان لمجتمع تميز بحيّز كبير من الحرية السياسية، ولم يعتمد أيضاً نظاماً مشابهاً للسوق الحرة لتنظيم الجزء الأكبر من نشاطه الاقتصادي.”
ويدعم انهيار التخطيط المركزي في بلدان العالم الثالث، وحتى انهيار الاشتراكية نفسها، خلال السنوات العشرين الأخيرة نظرية فريدمان على ما يبدو. وقد ترافق ازدياد الحرية الاقتصادية مع ازدياد الحرية السياسية والمدنية حول العالم، كما كانت للحريتين أهميتهما في الوقت الذي ابتعدت فيه الدول عن الأنظمة السلطوية وفتحت أسواقها.
الحرية الاقتصادية
إن الحرية الاقتصادية هدف مرغوب لذاته لأنها توسع عادةً تشكيلة الخيارات المتاحة للفرد كمستهلك وكمنتج أيضاً. غير أن الدور الأكبر الذي تلعبه الحرية الاقتصادية في المجتمع كثيراً ما لا يعطى كامل قدره من الأهمية، حتى من قبل الذين يؤمنون بالتعددية السياسية وحقوق الإنسان وحرية التجمّع والدين والتعبير.
إلا أن اعتماد نظام اللامركزية في صنع القرار الاقتصادي يدعم المجتمع المدني عن طريق خلق الحيز الذي يمكن أن تتواجد فيها المنظمات من جميع الأنواع دون الاعتماد على الدولة. والدولة التي توجد لديها حرية اقتصادية هي دولة يستطيع فيها القطاع الخاص تمويل مؤسسات المجتمع المدني. وبالتالي فإن احتمال قيام كنائس، وأحزاب سياسية معارضة، وتشكيلة منوعة من شركات الأعمال ووسائل الإعلام المستقلة فعلاً، يكون أكبر في البلدان التي لا تكون السلطة الاقتصادية فيها محصورة في أيدي البيروقراطيين أو السياسيين.
وينطوي تحرير الاقتصاد، بطبيعته، على فقدان السيطرة السياسية التامة على المواطنين. وهذا أمر بدأت الحكومات السلطوية في شتى أنحاء العالم باكتشافه في عهد العولمة الحالي. وقد انهارت الدكتاتوريات مفسحة المجال للديمقراطيات في بلدان بدأت بتحرير أسواقها في مطلع الستينات والسبعينات من القرن الماضي، من بينها كوريا الجنوبية وتايوان وتشيلي وإندونيسيا. ومع انتخاب الرئيس فسنته فوكس العام 2000، ساعد تحرير السوق المكسيكية في التسعينات من القرن الماضي في وضع حد لأكثر من 70 عاماً من حكم الحزب الواحد، الحزب الثوري المؤسساتي، الذي وصفه مرة الكاتب البيروفي ماريو فارغاس لوسا بأنه “الدكتاتورية التامة”.
وتُتيح الحرية الاقتصادية وجود مصادر مستقلة للثروة لموازنة قوة السلطة السياسية ولمعاضدة المجتمع التعدّدي. ذلك أنه عندما تمتلك الدولة المصارف وشركات الائتمان والاتصالات السلكية واللاسلكية أو طباعة الصحف، أو تمارس سيطرة مفرطة غير مناسبة عليها، فإنها لا تصبح مسيطرة على النشاط الاقتصادي وحسب بل وعلى حرية التعبير أيضاً. وقد احتاج العالم فترة طويلة قبل أن يدرك الكاتب هيلير بيلوك والذي أصاب الحقيقة لدى قوله في مطلع القرن العشرين “إن السيطرة على إنتاج الثروة هو سيطرة على الحياة البشرية نفسها.”
وهكذا، فإن المعضلة التي يواجهها الحزب الشيوعي الصيني حالياً معضلة مألوفة. ذلك أنه يتعين على الصين، للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، أن تواصل التحرير الاقتصادي الذي دعم عقدين من معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة. ولكن الإصلاحات المتجهة نحو اعتماد اقتصاد السوق الحرة أعطت مئات الملايين من الصينيين استقلالية أكبر عن الدولة، وخلقت طبقة متوسطة ناشئة تطالب أكثر فأكثر بالحرية السياسية وبأن تكون ممثلة في الحكومة. وهكذا فإن الحزب يريد الاحتفاظ بالسلطة السياسية، لكن تحرير الاقتصاد يقوّض هذا الهدف، في حين أن التوقف عن تحرير الاقتصاد سوف يقلص النمو ويسبب عدم الاستقرار.
وكما هو الحال في الصين وعدد آخر لا يحصى من البلدان، تشجع الحرية الاقتصادية التعددية السياسية عن طريق تعزيز النمو الذي يُنتج بدوره طبقة متوسطة ومواطنين أقل اعتماداً على الدولة. وتدعم الإثباتات التجريبية وجود هذه العلاقة.
وأكثر الدراسات التجريبية شمولاًً حول العلاقة بين المؤسسات والسياسات الاقتصادية في بلد ما وبين مستوى ازدهاره هو تقرير معهد فريزر الكندي “الحرية الاقتصادية في العالم”. ويتفحص التقرير 38 عنصراً أساسياً من عناصر الحرية الاقتصادية، بدءاً بحجم الحكومة وسيادة القانون حتى السياسة النقدية والتجارية، في 127 بلداً عبر فترة زمنية تمتد إلى أكثر من 30 سنة. وقد بيّنت الدراسة وجود علاقة وثيقة بين الحرية الاقتصادية والرخاء الاقتصادي. فمتوسط دخل الفرد في البلدان ذات الاقتصاد الأكثر حرية يبلغ 25 ألفاً و62 دولاراً، مقارنة بمعدل دخل فردي يبلغ 2409 دولارات في أقل البلدان حرية اقتصادية. كما وجدت الدراسة أن الاقتصادات الحرة تنمو بسرعة أكبر من سرعة نمو الاقتصادات الأقل حرية. فقد بلغ معدل النمو للفرد الواحد خلال السنوات العشر الأخيرة 2.5 بالمئة في أكثر البلدان حرية في حين كان 0.6 في أقلها حرية.

وتوصلت دراسة فريزر أيضاً إلى أن هناك صلة وثيقة بين الحرية الاقتصادية وتقليص مستوى الفقر ومؤشرات التقدم الأخرى. وهناك ترابط عكسي بين مؤشر الفقر في العالم الذي تصدره الأمم المتحدة ومؤشر فريزر للحرية الاقتصادية. فمستوى دخل أفقر 10 بالمئة من السكان في أكثر البلدان حرية اقتصادية هو 6451 دولاراً في حين أنه 1185 دولاراً في أقل البلدان حرية. وعلاوة على ذلك، فإن عمر المواطن في الدول المصنفة ضمن أعلى 20% من بلدان العالم من حيث الحرية الاقتصادية يميل لأن يكون حوالي 25 سنة أطول من عمر المواطن من شعوب الدول التي تصنف ضمن أدنى 20% من البلدان من حيث الحرية الاقتصادية. كما أنه يتم الربط أيضاً بين معدل وفيات الأطفال الأقل، ومعدلات الأمية الأقل، والفساد الأقل، والقدرة على الحصول على مياه الشفة النقية، وازدياد الحرية الاقتصادية. ومؤشر الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية يرتبط إيجابياً بالحرية الاقتصادية الأوسع. ومن الأمور المهمة أنه يوجد ترابط إيجابي أيضاً بينها وبين مؤشر فريدوم هاوس (دار الحرية) للحريات السياسية والمدنية: فالبلدان التي تتمتع بحرية اقتصادية أكبر تميل لأن تكون متمتعة أيضاً بقدر أكبر من الحريات الأخرى كذلك.
والواقع هو أن النمو الذاتي الاستدامة ما فتئ يتوقف، منذ زمن طويل، على وجود بيئة تشجع المشاريع الحرة وحماية المُلكية الخاصة. وقد تحققت نجاة الغرب من الفقر الشامل في القرن التاسع عشر في بيئة كهذه، استهلت بدورها حقبة النمو الاقتصادي الحديث. وحتى قبل ذلك، قاد بروز طبقة تجار من المزارعين في إنجلترا إلى تمثيلها في البرلمان، حيث نجحت في القرن السابع عشر في الحدّ من مصادرات التاج البريطاني الاعتباطية للثروة -أي باختصار، ساعد نشوء المزارعين التجار في إقامة المَلَكية الدستورية. فقد عززت القيود الموثوقة التي فُرضت على سلطة الحكومة حقوق المُلكية وسيادة القانون، وهما عاملان رئيسيان في بلوغ بريطانيا العظمى مرتبة القوة الاقتصادية والسياسية المتفوقة في العالم. ومع نمو ثروة بريطانيا العظمى، أصبحت، بالطبع، دولة ديمقراطية.
وتدعم الأدلة الأكثر حداثة المفهوم القائل إن النمو ومستويات الدخل الأعلى تقود أو، على الأقل، تساعد في تعزيز وتثبيت الديمقراطية. وقد درس عالما السياسة آدم برجيفورسكي وفرناندو ليمونغي أوضاع 135 بلداً في الفترة الممتدة بين عامي 1950 و1990 ووجدا أن “دخل الفرد يُشكّل أداة تكهن صالحة باستقرار الديمقراطيات”. فقد وجدا، مثلاً، أنه في البلدان التي كان دخل الفرد فيها أدنى من 1000 دولاراً (حسب تماثل القوة الشرائية للدولار لعام 1985)، كان متوسط المدة المتوقعة لاستمرار الديمقراطيات ثماني سنوات. (“تماثل القوة الشرائية” نظرية تقول إن سعر صرف العملات يكون في حالة توازن عندما تكون قدرتها الشرائية هي نفسها في كل واحد من أي بلدين). وعندما تراوح الدخل الفردي ما بين 1001 و2000 دولاراً، أصبح احتمال بقاء الديمقراطيات 18 عاماً. أما الديمقراطيات في البلدان التي يزيد فيها دخل الفرد عن 6055 دولاراً، فبالإمكان توقع استمرارها إلى الأبد.
وفي حين تُنتج الحرية الاقتصادية النمو لكنها لا تقود دائماً إلى الديمقراطية. فهونغ كونغ وسنغافورة، وهما من أكثر الاقتصادات حرية في العالم، مثالان بارزان على ذلك. كما أن الثروة ليست دائماً ناتجاً تسفر عنه الحرية الاقتصادية، وهو أمر تثبت صحته بعض البلدان الغنية بمواردها وذات الدخل المرتفع نسبياً، لكن حيث تظل الدولة متحكمة جداً بالاقتصاد؛ وكما هو متوقع، تكون الحريات المدنية والسياسية مقيدة بشدة أيضاً في تلك البلدان. غير أن الدور المحوري للحرية الاقتصادية في الأنظمة الديمقراطية يبقى واضحاً. فبإمكانها أن تكون قوة هائلة في تشجيع الديمقراطية، كما أن قدراً جيداً من الحرية الاقتصادية يبقى ضرورياً لتعزيز وتثبيت الحرية السياسية.
الديمقراطية الليبرالية وسيادة القانون
الديمقراطية ليست رديفاً للحرية. فكما رأينا، إن الديمقراطية التي لا ترافقها الحريات الأخرى قلّما تنجح في الحدّ من السلطة الاعتباطية للسلطات السياسية، وإن كانت هذه الأخيرة منتخبة. ولهذا، يُخصّص حالياً جهد كبير لتعزيز سيادة القانون، وهي عنصر محوري لكل من الديمقراطية الليبرالية والحرية الاقتصادية.
من البديهي أن سيادة القانون ضرورية لديمقراطية تعمل بشكل ناجح. والواقع الذي يزداد تقديره هو أن سيادة القانون ضرورية أيضاً للتنمية الاقتصادية. وقد توصل تقرير الحرية الاقتصادية في العالم، مثلاً، إلى أن ما من بلد يتسّم بسيادة قانون ضعيفة يمكنه المحافظة على معدل نمو ثابت قوي (أكثر من 1.1 بالمئة) عندما يزيد فيه متوسط دخل الفرد عن 3400 دولاراً. وبعبارة أخرى، عندما يبلغ اقتصاد ما مستوى معيناً من النمو، تصبح التحسينات في سيادة القانون ضرورية لاستدامة النمو.
وقد لا يكون من الممكن تشجيع سيادة القانون بصورة مباشرة، بخلاف ما هو ممكن في تخفيض التعرفة الجمركية أو في الخصخصة. وقد تتحقق سيادة القانون مع، أو في نفس الوقت تقريباً، الذي يتم فيه تحقيق غيره من الأمور بشكل صحيح.
إنني أتقدم باقتراح متواضع. بدلاً من التركيز على تشجيع سيادة القانون مباشرة، دعونا نخلق أولاً البيئة التي يمكن لسيادة القانون النشوء والتطور فيها. وهذا يعني، من بين إجراءات أخرى، تشجيع إصلاحات السوق أو الحرية الاقتصادية. وبالنسبة للعديد من البلدان الفقيرة، يشمل ذلك الحد من حجم الحكومة. فالبلدان التي يسود فيها اليوم حكم قانون قوي أرست أولاً هذه المؤسسة (أي سيادة القانون) ثم قامت في وقت لاحق فقط بزيادة حجم حكوماتها.
والمؤسف هو أن عدداً كبيراً جداً من البلدان الفقيرة تحاول اليوم تكرار هذه العملية بشكل معكوس. ففي بلدان مختلفة مثل البرازيل وسلوفاكيا وجمهورية الكونغو وروسيا، مثلاً، يتعدى الإنفاق الحكومي كنسبة من إجمالي الناتج القومي ما بين 30 و40 بالمئة. ومن المحتم أن تفشل محاولات تشجيع سيادة القانون حيث لا يزال حجم الحكومات كبيراً، أو أنها ستكون صعبة للغاية. والواقع هو أنه رغم أن التوجه خلال السنوات العشرين الأخيرة كان باتجاه ازدياد الحرية الاقتصادية والسياسية في العالم، غير أنه لا يزال أمام معظم البلدان شوط طويل عليها أن تقطعه على درب الحرية الاقتصادية. وفي حين أن روسيا قد تكون تخلت عن الاشتراكية إلا أنها تأتي في المرتبة 115 بين 127 بلداً على مؤشر الحرية الاقتصادية في العالم.
وعلاوة على ذلك، يشير الكاتب فريد زكريا إلى أن أغلبية الديمقراطيات الفقيرة في العالم هي ديمقراطيات غير ليبرالية، أي أن الأنظمة السياسية فيها هي أنظمة لا توجد فيها أي حريات أخرى غير حرية اختيار من يَحكُم. وهو يشير إلى أن التقليد الدستوري الليبرالي في الغرب تطور أولاً، ومن ثم تطور لاحقاً الانتقال إلى الديمقراطية. ففي سنة 1800، على سبيل المثال، صوّت فقط 2 بالمئة من المواطنين في بريطانيا العظمى التي ربما كانت أكثر مجتمعات العالم ليبرالية آنذاك. ولاحظ زكريا أيضاً أنه في الدول غير الغربية التي انتقلت أخيراً إلى الديمقراطية الليبرالية، مثل كوريا الجنوبية وتايوان، تحققت الرأسمالية وسيادة القانون أولاً أيضاً. ولعل هذا النمط يفسر سبب مواجهة مناطق مثل أمريكا اللاتينية، التي أقامت الديمقراطية أولاً ثم بدأت بتحرير الاقتصاد، فترة صعبة بشكل خاص في تشجيع الحرية الاقتصادية أو النمو.
واليوم، تحاول بلدان في أوروبا الشرقية والوسطى وفي أمريكا اللاتينية وفي أمكنة أخرى، بدرجات متفاوتة من النجاح، تحقيق الديمقراطية والحرية الاقتصادية في آن واحد. وفي بعض الحالات، حصل تراجع في الحرية الاقتصادية، أو أنها لم تعد أولوية، الأمر الذي لا يبشر بالخير بالنسبة للديمقراطية. وفي حالات أخرى، مثل إستونيا، ازدادت الحرية الاقتصادية باطراد معززة بالتالي الديمقراطية. ويجب علينا نحن المؤمنون بالرأسمالية الديمقراطية أن نبقي في أذهاننا دوماً، سواء كنا نعيش في ديمقراطيات غنية أو فقيرة، أو في دول ذات أنظمة استبدادية، الدور المحوري الذي تلعبه الحرية الاقتصادية في بلوغ مجتمع حر.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 18 آذار 2006.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

“الصناعيون يُغيِّرون أماكنهم تدريجياً، تاركين تلك البلدان والأقاليم التي تم لهم إثراؤها، وطائرين إلى غيرها، حيث يجتذبهم رخص المواد والعمالة؛ حتى إذا تم لهم إثراء هؤلاء أيضاً، فإنهم يُنفَونَ مرة أخرى للأسباب ذاتها.” ديفيد هيوم، حول المال، مقالات، ص 283-284.


رسالتي اليوم متفائلة حول التبادل والأسواق، واللتين بدونهما لا يمكن الانغماس في تخصص المعرفة والمهمات. هذا التخصص هو السر وراء خلق جميع أشكال الثروة. لا يوجد أي مصدر آخر للتحسين البشري المستدام، وهذا هو جوهر العولمة.
دعوني أبدأ بعرض ما أود تغطيته في حديثي هذا المساء:
 سوف أبحث تحدياً اجتماعياً وسياسياً نواجهه في العالم الحديث: العيش في عالمين اثنين مختلفين من التبادل في آن معاً، عوالم التبادل الشخصي وغير الشخصي وسوف أبحث بإيجاز العلاقة بين العالمين.
 سوف ابحث أسواق السلع والخدمات، كنظام موسع للتعاون غير الشخصي، محققة أهدافاً لم تكن جزءً من تفكير أيٍّ كان.
 سوف أشمل بعض المراجع لتجارب مختبرية.
 عندما أتحدث عن أعمال أسواق السلع والخدمات، سوف أركز على أهمية التنوع.
 بعدها، سوف أميّزُ بين رأس المال أو (الأسهم) من أسواق السلع والخدمات، وسوف أبحث لماذا أهمية التمييز بينهما.
 وفي هذا الإطار، سوف أتحدث عن المبادرات وعن “فقاعات” الأسواق المالية.
 وضع كل ما تقدم كأساس، سوف ينقلنا إلى العولمة، كاستمرار للهجرة منذ القدم، والتوسع الاقتصادي وتحسين الإنسان.
 سوف أبحث دور التكنولوجيا، والمنافسة في السياسات الوطنية، وكذلك ارتباط التنمية الاقتصادية بالحرية، ولكن ذلك لا يعني أننا نعرف كيف نجعل الحرية أو التنمية الاقتصادية حقيقة قائمة، من الرأس إلى أسفل.
 ونقطتان أخريان أخيرتان سوف تعالجان قضايا استنزاف العقول وتصدير وسائل الإنتاج، وأهمية كل منهما في التنمية الاقتصادية والعولمة.
إننا جميعنا نعمل معاً وفي آن واحد، في أكثر من عالم تبادل واحد. تلك العوالم تتقاطع، حيث نعيش أولاً في عالم من التبادل الفردي—محاباة تجارية وصداقات، وبناء سُمْعات مبنية على الثقة والوثوق في مجموعات صغيرة، وعائلات ومجتمعات، وثانياً، في عالم من التبادل غير الشخصي، من خلال الأسواق، حيث الاتصالات والتعاون انبثقا تدريجياً في تجارة بين غرباء، تفصل بينهما مسافات طويلة.
أكثر الخصائص تأكيداً في الطبيعة البشرية هو نزوعنا الاجتماعي. إنها قدرة مخلوقاتنا على التبادل الاجتماعي الفردي، والتي أتاحت، أول ما أتاحت، التخصص المهني والإنتاج فوق مجرد الحد الأدنى للبقاء. يعود التبادل في جذوره إلى التعامل المتبادل والمشاركة في أنظمة وسلوكيات العائلة، والعائلة الممتدة والقبيلة. هذا التبادل الفردي سمح بالتخصص في المهام ما بين الصيد، وجمع وتصنيع الأدوات، والتي وضعت الأساس لإنتاجية أعلى ورخاء أعمّ، والذي بدوره مكّن الناس القدامى من الهجرة إلى شتى أنحاء المعمورة.
وهكذا، فقد مكّن التخصص، مدعوماً بالتبادل الفردي، العولمة من البدء في مراحل مبكرة، قبل وقت طويل من نشوء الأسواق.
إنني ورفقائي في التأليف قد درسنا أنماط التبادل والشروط التجارية ذات الأفضلية، كما تبدو في لعبة شخصين اثنين، بين أشخاص غير معروفين، وكثيرون منهم يعتمدون على الثقة والمصداقية لتحقيق مكاسب من التبادل—نتائج تعاونية تزيد من الفوائد المشتركة. كثيرون يتجنبون اختيار نتائج تعطيهم أنفسهم ولكن دون إعطاء شيء بالمقابل لأمثالهم في الطرف الآخر. جميعنا قد مرَّ بتجارب عائلية وبين جماعات صغيرة، ندرك منها بأن الأنظمة التي تحكم المشاركة والمبادلة تمتد عميقاً في عقولنا وهواجسنا. لفظ “أنا مدين لك بواحدة” هو سمة إنسانية عالمية تملأ كثيراً من اللغات، والتي يعترف فيها الناس طوعاً بمديونيتهم لقاء تلقي عطية أو تمييز ما.
وفي تمديد التبادل إلى الأسواق مع غرباء، واستخدام المال، فإن تلك العلاقة تُستبدل بتعاملات غير شخصية. ففي التبادل الفردي، كثيراً ما نتعلم بأن عمل الخير للآخرين، يأتي من الرغبة في فعل ذلك، بينما في الأسواق، تختفي تلك النظرة، حيث يعمل كل واحد إلى تحقيق مصلحته.
عندما يأتي الأشخاص أنفسهم الذين يتعاونون عن وعي في علاقاتهم الأولية بين شخصين، إلى المختبر للتبادل التجاري في الأسواق التجريبية التي تضم جماعات أكبر، ماذا يفعلون؟ إنهم يحاولون تعظيم مكتسباتهم الخاصة إلى أقصى الحدود، ولكنهم، من خلال سلوكهم هذا، ودون أن يكونوا قد تعمّدوا ذلك، يعظمون المكاسب المشتركة للجماعة كلها. ولكن تلك الأسواق، تتلقى الدعم من أنظمة خارجية ملزمة تتوخى حماية الملكية، وهذه تمنع الأخذ دون العطاء.
وهكذا، ومن الناحية الفعلية، فإن النوعين من التبادل هما متطابقان: عليك أن تعطي من أجل أن تأخذ. في المبادلات الشخصية، فإن العادات التي تحكم العطاء والأخذ تأتي نتيجة القبول الطوعي المشترك للفرقاء؛ أما في مبادلات السوق غير الفردية (حقوق الملكية)، فإن الأنظمة مدوّنة في الإطار المؤسسي الحاكم.
أسواق السلع والخدمات هي أسس خلق الثروة على امتداد العالم، والمدى الذي يوجدون فيه، يقرر مدى التخصص في المعلومات وأداء المهمات في معظم أسواق التجزئة للسلع والخدمات، يتحمل المنتجون نفقات متكررة يمكن التنبؤ بها نسبياً، ويواجه المستهلكون قيماً متكررة مقابلة مقابل استهلاكهم. وبيد أن النفقات والقيم هي في مكنوناتها شخصية، وبالتالي فإن مثل تلك المعلومات تتبعثر. السيطرة والرقابة على الاقتصاديات الموجهة فشلت، لأن مثل تلك المعلومات لا يمكن إعطاؤها لأي عقل بمفرده، أو لأي عدد من اللجان المُخطِّطة.
لقد اكتشفنا في مختبرات تجريبية موجهة، بأن تلك المعلومات السوقية المتكررة، فعالة إلى درجة لا تُصدَّقْ، ومثل تلك النتائج قد أعيد التثبت منها مئات المرات. يضاف إلى ذلك، أن الأشخاص ذوي العلاقة في تلك التجارب، ليسوا على وعي بأهداف الجماعة التي تبغي تحقيق الحد الأقصى من الكسب. كل واحد، في سعيه لتحقيق مكاسبه الشخصية، ضمن نظام حقوق الملكية، يحقق فوائد قصوى للجماعة، دون أن تكون جزءً من أهدافه ومقاصده.
عندما تُستخدَم في تجارب تدريسية، فإن المُستخلَصات من معلومات أو نتائج في نهاية تجربة تسويقية، تكتشف انطباعين عن الأفراد:
1- الناس ينفون أن أي نمط من الأنماط يمكنه التنبؤ بأسعار التبادل التجاري النهائية وحجم التبادل. ومع ذلك، فإن تلك النتائج توازي جداول العرض والطلب التي تتضمن القيم والأكلاف الموزعة فردياً بين جميع المشاركين. فعالية السوق لا تتطلب أعداداً كبيرة، ومعلومات كاملة، وفهماً اقتصادياً أو فذلكة خاصة؛ وهذه حقيقة لا يجب أن تصيبنا بالدهشة كثيراً، ذلك أن الناس كانوا يتاجرون في الأسواق، قبل زمن طويل من وجود أي عالم اقتصاد لدراستهم.
2- الناس في تجارب السوق يعتقدون أيضاً بأنه كان يتوجب عليهم كسب مزيد من الربح لأنفسهم، ومع ذلك، فقد كانوا في واقع الأمر، في حالة توازن، وأن كل واحد منهم كان يبذل أقصى ما عنده من جهد، في ضوء السلوك المقيد الذي يبذله جميع المشتركين الآخرين.
إن السمة المميزة لأسواق السلع والخدمات هي التنوع: تنوع الأذواق، والمهارات الإنسانية والمعلومات، والمصادر الطبيعية، والتربة والطقس. بدءً ذي بدء، كان التنوع ممكناً ويُشجّعُ عليه، من خلال المشاركة المتبادلة في قيم العائلة، والعائلة الواسعة والقبيلة. وهكذا، في مجتمعات الصيد والجمع قبل قيام الدولة، كانت النسوة والأطفال يجمعون الفاكهة والجوز والحدبة والقمح؛ الرجال كانوا يصيدون؛ وكبار السن كانوا يقدمون النصح في عملية الصيد، ويبتدعون أدوات الصيد، ويشاركون في جميع الصيد.
الناس الأوائل، قبل زمن طويل من نشوء الدول–القومية، كانوا يتبادلون الأدوات والأسلحة والسلع العامة مثل الرموز، والعادات، والصور الزخرفية الرأسية، والحقوق الآمنة للوصول إلى طرق التجارة ومناطق الصيد. وفي أزمان كثيرة، وأماكن كثيرة في أزمان ما قبل التاريخ كان التبادل يمنح للغرباء، من خلال المقايضة، وفي نهاية الأمر، استخدام المال السلعي.
وفي الحقيقة، فإن الإنسان الأول قد هيأ المسرح لتوسع هائل في الثروة والحياة الأفضل، كلما اكتشفت قبيلة بأنه كان أفضل لها أن تتبادل التجارة مع جيرانها القبليين، من قتلهم. إذا قتلتهم فإنهم لن يستطيعوا إنتاج أي شيء وتبادلها معك في الغد، كما أنك لن تستطيع الاستفادة من مهاراتهم الفردية، ومعلوماتهم، وفنونهم، وثقافتهم، وخبرتهم.
كذلك، إذا تركتهم يعيشون، ثم تسرق منهم، فإنهم يصبحون أقل رغبة بكثير في إنتاج المزيد لك، مما لو تبادلت التجارة معهم اليوم. التنوع يحتاج إلى الحرية، لأن الحرية هي التي تسمح لكل إنسان بأن يكون مختلفاً بالشكل الذي يقدر عليه والذي يرغبه. الأسواق بدورها، تدعم التسامح المتأتي عن الحرية.
التنوع في غياب حرية التبادل يؤدي إلى الفقر: لا يستطيع أي إنسان، مهما كانت مؤهلاته عالية في مهارة واحدة، أو مصدر ثروة وحيدة، أن يثري دون التبادل التجاري. روبنسن كروزو كان يملك جزيرة، ولكنه مع ذلك كان فقيراً.
نحن في حاجة إلى الآخرين، وإلى التنوع الذي يجلبونه إلى المائدة، إذا أردنا أن نعيش فوق مجرد الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة. من خلال السوق، نحن نعتمد على الآخرين، والذين لا نعرفهم أو نتعرف عليهم أو نفهمهم. نحن لا نعرف كيف، وبأية وسائل يساهم الآخرون برخائنا، ونساهم نحن في رخائهم. هكذا هي الحلقات الطويلة غير المرئية للاعتماد المتبادل من خلال الأسواق التي تضبطها الأسعار. إن رخاء كل واحد منا يعتمد جوهرياً على المعرفة والمهارات التي يملكها الآخرون، والذين نتاجر معهم من خلال الأسواق.
بدون الأسواق، سنكون حتماً فقراء، تعساء، غليظين وجهلة؛ فإذا كان البعض أقل فقراً، فقد يكون ذلك نتيجة للغزو، أو السرقة، أو الأخذ دون عطاء مقابل، والذي يمكن أن يستمر فقط، ما دام أن هناك آخرين يغزون.
الأسواق تتطلب تنفيذاً مشتركاً لأنظمة التبادل الاجتماعي والاقتصادي وقد عبّر عن ذلك أفضل تعبير ديفيد هيوم، قبل أكثر من 250 سنة، عندما قال إن هنالك ثلاثة قوانين للطبيعة البشرية:
1) حق التملك
2) نقل التملك بالقبول
3) تنفيذ الوعود
هذه هي الأسس الجوهرية للنظام، مع أو دون قانون رسمي مكتوب، التي تجعل ممكناً وجود الأسواق والرخاء.
هيوم يتحدث عن قانون موجود أو سائر نحوه، وليس قانوناً وضعياً أو مشرعاً. مانحو القانون الأوائل، لم يصنعوا القانون الذي أرادوا إعطاءه؛ إنهم درسوا التقاليد الاجتماعية، والقيم والأنظمة غير الرسمية وأبدوها بصفتها تشاريع من الله، أو، قوانين طبيعية.
قوانين الطبيعة في مفهوم هيوم مستقاة من التعاليم اليهودية القديمة: لا تسرق؛ لا تطمع في ممتلكات جارك؛ لا ترتكب شهادة زور. بيد أن هذه التعاليم نفسها، ظهرت في أديان أخرى، على امتداد العالم.
 لعبة السرقة تستهلك الثروة دون تشجيع إعادة إنتاجها، بينما لعبة التجارة تُديمُ وتُنمي الوفرة.
 الطمع في ممتلكات الآخرين يستدعي إعادة توزيع غاصبة، لمكتسبات التخصص والتجارة، وبالتالي تهديد النوازع التي تدعو إلى إنتاج حصاد الغد، تماماً مثله مثل السرقة.
 شهادة الزور تنال من المجموعة، ومصداقية الإدارة، وثقة المستثمر، والربحية الطويلة الأجل، والمبادلات الاجتماعية الفردية، التي تثري المشاعر الإنسانية أكثر من غيرها. إدارة المؤسسات الكبرى، تدفع ثمناً باهظاً إذا ما لجأت إلى تزوير الحقيقة. وعندما تفقد الإدارة المصداقية مع حاملي الأسهم، فإن السوق المالي لا يغفر، كما تبين من قضية شركة “إنرون”، التي هوت قيمة أسهمها عندما فقدت الإدارة ثقة المستثمرين فيها.
هذا يوصلني إلى موضوع رأس المال، أو الأسواق المالية، والتي هي في طبيعتها أكثر بعداً بكثير عن اليقين والتأكد، من أسواق السلع والخدمات؛ ذلك لأنه يتوجب على الأسواق المالية، أن تتنبأ وتستبق المبادرات والاختراعات الجديدة—بضائع وخدمات المستقبل. ففي الوقت الذي تدخل فيه المبادرات الجديدة، تكون حظوظها في النجاح أبعد ما يكون عن التنبؤ.
فإذا كان للمعرفة والتكنولوجيا أن تعطي سلعاً وخدمات جديدة، فإنها تحتاج إلى رؤوس أموال. أسواق المال تسمح لمستخدمي ومقدمي رأس المال أن يكونوا مُميّزين ومتخصصين؛ لا يطلب من المدخرين أن يكونوا رجال أعمال مبادرين، يُنمون ثروة جديدة من استثماراتهم الرأسمالية، وكلاهما يستفيد من تبادل الاستثمار بحصة من الربح، وكلاهما كذلك، يتحملان أخطار الخسارة.
الأسواق المالية، أكثر تقلباً وأقل تنبؤاً بكثير من أسواق السلع والخدمات القائمة، حيث أن مهمتها هي التنبؤ بسلع وخدمات مستقبلية. فقاعات وانهيارات الأسواق المالية ليست جديدة. لماذا؟ انتعاشات الأسواق المالية العظمى تشعلها وتدفعها التكنولوجيا الجديدة.
وعلى سبيل المثال، فقد ساعدت القاطرات التي تعمل بالبخار في القرن التاسع عشر السفن أن تحلَّ مكان المحركات المربعة الزوايا، كما حلّت تلك المحركات محل الخيول في تسيير السكك الحديدية، ومكان العربات التي تسيرها الخيول. لقد تجاوز التوسع في بناء السكك الحديدية في القرن التاسع عشر الشحن البحري بين الأقاليم.
الربحية تحولت إلى خسائر، وإفلاسات واندماجات. ولكن نتيجة لذلك التوسع في القرن التاسع عشر، خُلقت قيمة اقتصادية ظلّت قائمة تخدم الاقتصاد بمجموعه. في بدايات القرن العشرين نشأت تكنولوجيات جديدة عديدة. الهاتف، الكهرباء، البترول، والسيارات—هذه جميعها أحدثت موجة مستدامة من الاستثمار والتنمية. كان هنالك توسع مبالغ فيه استجابة للربحية العالية، تبعها هبوط في معدلات الربح، وخسائر وإفلاسات واندماجات؛ ولكن كانت قد نشأت في غضون ذلك قيمة بعيدة المدى ولم تحدث أية خسارة للاقتصاد. الإفلاس نمطياً، يسمح بموجودات وأصول المدراء الفاشلين—البشرية والمادية—بأن تحوّلَ إلى مدراء قادرين على إجراء محاولة جديدة لإنجاح المشروع المتعثر.
قبل قرن من الزمان، كان هنالك مئات من الشركات الصغيرة التي أقامها مبادرون من رجال الأعمال، على أمل النجاح في صناعة السيارات. ثلث تلك السيارات كانت كهربائية ومعظم السيارات الأخرى كانت تجري التجارب على محركات تعمل بالبخار. وفي النهاية كلاهما فشل: التي تحركها الكهرباء فشلت في قطع مسافات طويلة بل كان مداها صغيراً جداً، بينما كان تشغيل محركات البخار وتسخينها يستغرق وقتاً طويلاً. وكسب السباق محركات البنزين التي جمعها هنري فورد مع خطوط الإنتاج الواسع، بحيث تمكَّن من إنتاج سيارات قليلة الثمن. ورغم ذلك، فإن السيارات الكهربائية لم تصل إلى ذروتها سوى في عام 1912. وبحلول العشرينات، كان فورد قد أنتج حوالي نصف السيارات التي أنتجت حتى ذلك الحين. لم يكن بوسع أحد أن يتكهن سلفاً بمن سوف يكسب الرهان.
في بلدتي ويكيتا، كان يتواجد 15 منتجاً للطائرات عام 1929: ترافيل إير، ستيرمان، سيسنا، يونايتد، ليرد، سويفت، لارك، نول، برادلي، يانكرز، ويكيتا، واتكنز، موني، سوليفان وبَكلي. إثنان منهما كانا أسماء شركات جديدة في عام 1927: سيسنا وسيترمان. وبعد عقد من الزمان اشترت بوينغ شركة ستيرمان الناجحة، والوحيدين الذين ظلوا في ميدان الطيران العام كانا سيسنا وبيتش، اللتين جعلتا من ويكيتا المركز الوطني لهذه الصناعة الجديدة. ومع أنهما كانتا جديدتين مبتدئتين، فإن انهيار السوق المالية الكبير، لم يحل دون نجاحهما.
عقد التسعينات شهد حجماً غير مسبوق في ميدان طرح الشركات للاكتتاب العام. إنني متأكد بأن تاريخ ذلك العقد سوف يسجل عدداً غير مسبوق من نسب الفشل، ولكن كذلك، وإن لم يكن مرئياً إلا قليلاً، زيادة غير مسبوقة في القيمة الاقتصادية طويلة المدى للاقتصاد. تلك الفقاقيع والانهيارات كانت نتيجة لتكنولوجيات جديدة في حقول الإلكترونيات، والاتصالات، والكومبيوتر، والبيولوجيا وصناعات الأدوية. القيمة المستدامة التي تم تحقيقها، تظهر جلياً من خلال إحصائيات الدخل القومي في مرحلة ما بعد تلك الانهيارات: إزداد الإنتاج مع زيادة طفيفة بالعمالة. ونحن نستمر في كسب أكبر لجهد أقل.
إنه لأمر مؤلم لأولئك الذين يجازفون في تكنولوجيا جديدة ويخسرون: بيد أن الفوائد التي تكسبها صناعات أخرى، والمعرفة والاندماجات التي تتبع ذلك، تتيح للقلة الناجحة بتكوين ثروات جديدة طائلة للاقتصاد. هذا هو جوهر النمو، والتقدم، وفي نهاية الأمر، تخفيض الفقر. ولهذا السبب نرى بأن كل واحد تقريباً، هو أكثر ثراءً من آبائه وأجداده.
كيف يمكن إزالة الألم الفردي، وتحقيق النمو بعيد المدى، بوصفة سحرية تتجنب بأن يكون ضررها أكبر من نفعها؟ نحن لا نعرف. في هذا الموضوع، كما في مواضيع كثيرة أخرى، هنالك نوعان من الناس: أولئك الذين يعرفون بأنهم لا يعرفون، وأولئك الذين لا يعرفون. فإذا قال لك أحد بأنه يستطيع أن يتكهن حول من سيكون الرابح في اكتشاف سلعة جديدة ومن سيكون الخاسر، ضع يديك في جيوبك وامسك نفسك.
هذه هي القضية: إذا حدَّدت قرارات الناس في اتخاذ استثمارات مغامرة، في محاولة لحمايتهم من إيذاء أنفسهم، إلى أي مدى سيؤدي ذلك إلى تقليص قدرتنا على تحقيق إنجازات تكنولوجية رئيسية؟ إن الأمل الذي يساور الأفراد في تحقيق مكاسب كبيرة، هو الذي يدفع بإجراء مئات من التجارب، في بيئة من عدم اليقين الشديد، حول أية تجربة، وأي مزيج من الإدارة والتكنولوجيا سوف يكتب له النجاح. إن نجاح الكثيرين، قد يكون جزءً حيوياً من الثمن الذي يدفع لانتقاء القلة من الناجحين. بعد موجة من المبادرات الجديدة، وبعد عدد من الفقاقيع، سوف يعرف المدراء كثيراً حول ما لم ينجح، وحتى قليلاً، حول ما يكون قد نجح.
عملية الاكتشاف هذه أصبحت عالمية بشكل متزايد
العولمة هي كلمة جديدة لعملية كانت على امتداد الزمن، وكانت تتمثل بالهجرة وتوسيع الأسواق اللذين بدأنا بهما جميعنا، عندما كان أجدادنا المشتركون يخرجون من أفريقيا قبل حوالي 50000 عام مضى، ليستقروا في آسيا وأستراليا، 40 إلى 50000 سنة مضت، وأوروبا قبل 40000 سنة، وسيبيريا والقطب الشمالي قبل حوالي 20000 سنة. وممر بيرينج إلى أمريكا الشمالية 13 إلى 15000 سنة، والأمريكيتين بعد ذلك بزمن قليل، ونيوزيلندا ومدغشقر، قبل 1000 عام فقط. لقد استوطن أجدادنا كل قارة ما عدا القطب الشمالي، وجميع الجزر الرئيسية قبل 500 عام من اكتشاف الدولاب الرباعي في السفن الشراعية.
أول تجارة بعيدة المدى بين أوروبا والشرق الأدنى أتاح الهرب من النهايات الميتة المغلقة، ومن القرون الوسطى التي كان يعتصرها الفقر. وقد أدى ذلك إلى اكتشافات جديدة، قامت بها الشركات المساهمة والدول–القومية.
وقد أدى ذلك في نهاية المطاف إلى أن تتخصص كل منطقة، في إنتاج سلع زراعية وصناعية مختلفة، بناءً على الميزة النسبية التي يتمتع بها كل إقليم. وقد تطورت المزارع التي كانت تكاد تكفي للحد الأدنى من العيش، بحيث أصبحت مزارع كبيرة تربي المواشي، وتنتج على نطاق واسع الحنطة والقمح والشعير والأرز، وقامت مزارع تربية الدواجن ومزارع إنتاج الحليب.
في زماننا هذا، انبثقت الثورة العالمية الخضراء من أصناف البذور المحسنة الجديدة التي طوَّرها نورمان بورلوج، الذي نال جائزة نوبل عام 1970. لقد أنقذ نورمان بورلوج حياة أعداد أكبر من الناس ممن أنقذها أي إنسان آخر في الوجود. فقد أدت اختراعاته إلى مضاعفة إنتاج الحنطة والذرة والأرز، مرتين إلى ثلاث مرات، ومكَّنت المكسيك والهند والباكستان والصين من إطعام شعوبها التي ازدادت أعدادها زيادة كبيرة، بزيادة 1% فقط من رقعة أراضي العالم المزروعة. لقد كانت تنبؤات الفزع التي أطلقت في عقد الستينات، والتي تحدثت عن وفاة أعداد ضخمة من الناس جوعاً، في غير محلها؛ واليوم، تبشر الهندسة الوراثية، بسبل واعدة من شأنها ابتكار أساليب أكثر نجاعة وتقدماً في إنتاج الأطعمة، من أراضي أقل، ومياه أقل، وسماد أقل، وتربة أقل انجرافاً. أصبح بالإمكان جني الأكثر من الأقل، وفي بيئة تتفوق تفوقاً هائلاً على سابقتها.
إن آخر مُحرِّك عظيم في العولمة، يتمثل في المبادرات في عمل الحواسب والكومبيوترات، والاتصالات، واساليب الانتقال اللوجستية. هذه الميادين الثلاثة تخدم مبادلات الإنترنت.
لقد جلبت سرعة التغييرات العالمية، عالماً جديداً من التنافس بين الأمم. الجموح في الموازنات والسياسات المالية من قبل الحكومات الوطنية، تثبِّطُ همم المستثمرين، بينما تشجع المواطنين المحليين على السعي للاستفادة من فرص الاستثمار الأجنبية، الأكثر استقراراً. التنمية الاقتصادية، مرتبطة بالأنظمة الاقتصادية والسياسية الحرة، والتي تترعرع في ظل حكم القانون في الأنظمة القائمة على الملكية الفردية. لقد فشلت الأنظمة الشمولية المركزية في تحقيق الأهداف المرجوَّة في كل مكان. إن حقائق التاريخ والاقتصاد تشكل إنذاراً نهائياً، وقد أقدمت بعض البلدان على إصلاح نظمها وتحرير اقتصادها وتحسين أدائها.
ولكن هنالك عالم من الفرق بين القول بأن التنمية والنظم الحرة مرتبطتين أو متوازيتين، وبين اعتماد الوسائل الكفيلة بتحقيق التنمية الاقتصادية. لا أحد يعرف كيف يخطط مركزياً للانتقال من اقتصاد رديء الأداء إلى اقتصاد جيد الأداء.
ومع ذلك، هنالك أمثلة كثيرة من نيوزيلندا، وليختنشتاين، وإيرلندا، والصين التي قامت فيها حكوماتها بإزالة القيود على النشاط الاقتصادي، ورأت نمواً باهراً بمجرد ترك المجال أمام شعوبها لتحقيق تقدمها الاقتصادي.
وقد أجرت دائرة الإدارة والموازنة في الكونغرس دراسة مقارنة للعبء الذي تمثله قيود الأنظمة في 130 بلداً؛ وقد توصلت إلى نتيجة، بأن البلدان العشرة الأقل عبءً تنظيمياً هي هونج كونج، وسنغافورة، والولايات المتحدة، ونيوزيلندا، والمملكة المتحدة، وكندا، وسويسرا، وإيرلندا، وأستراليا، وهولندا. هذه هي البلدان التي تظهر في أعلى قوائم الاقتصاد الحر. وكثير منها على رأس قوائم البلدان الأعلى دخلاً لأفرادها. ومن بين الـ20 بلداً على رأس جدول البلدان الأكثر حرية، 11 بلداً منها بين أعلى 20 بلداً في الإنتاج القومي العام؛ و13، من الأكثر حرية بين الـ20، هي كذلك على رأس جدول العشرين بلداً من حيث المبادرات الجديدة. (انظر مجلة الإيكونومست، العالم في أرقام، 2005).
وقد تحولت الصين كثيراً في اتجاه حرية الاقتصاد. وقبل عام ونيِّف، أدخلت الصين تعديلات على دستورها، يسمح للناس بالتملك، وشراء وبيع الممتلكات الخاصة. لماذا؟ كانت خطوة تستهدف السيطرة على الفساد المستشري في الحكومة، والذي يقف عائقاً أمام التنمية الاقتصادية. وقد نشرت النيويورك تايمز، بقلم جوزف كان، مقالاً بتاريخ 23 كانون أول، 2003، ص 1 جاء فيه:
“أقدمت هيئة الصين التشريعية على تغيير الدستور من أجل المحافظة على حقوق الملكية الخاصة، وهي المرة الأولى التي يقدم فيها الحزب الشيوعي رسمياً على حماية الثروة الخاصة منذ السيطرة على الحكم قبل خمس وخمسين سنة. التغيير يسجل نصراً لطبقة رجال الأعمال المبادرين، الذين أمضوا 10 سنوات وهم يحاججون بأن الدستور الماركسي يتحيز ضدهم، ويعطي المجال للشرطة والمحاكم بمصادرة أملاكهم بموجب أوامر الحزب… الفساد مستشري في الصين. السلطات المحلية والوطنية كثيراً ما تصادر أراضي وأموال الناس الذين تعتبرهم خطرين أو عاصين، بزعم أنهم قد فقدوا حقوقهم بسبب مخالفتهم لقانون أو نظام في أثناء جمعهم لثروتهم”.
بالاعتراف بحقوق التملك، تحاول الحكومة المركزية سحب البساط من تحت أقدام منبع القوة الذي يغذي الفساد، على أيدي رجال السلطة المحليين، والذين تصعب مراقبتهم والسيطرة عليهم من قبل السلطة المركزية. وكما أرى الموضوع، فإن التغيير الدستوري هو وسيلة عملية للسيطرة على التدخل السياسي في عملية التنمية الاقتصادية؛ إنها ليست وليدة نزوع سياسي نحو الحرية، بيد أن الضرورة قد تفتح الطريق أمام مزيد من الحرية.
قبل فترة وجيزة، قمت أنا وزوجتي كانداس بزيارة المجمع الضخم زي-بارك، وهو مجمع للأبحاث والتنمية في مدينة بكين، على مساحة 343 فداناً. يحتوي زي-بارك على معظم الشركات المتخصصة في التكنولوجيا العالية في العالم، بما في ذلك 276 من بين أكبر 500 شركة في العالم بموجب مجلة فورتشين. إنهم يستثمرون في المنشآت الموجودة هناك، على أسس سهلة من الاستئجار من الحكومة الصينية ولمدة 50 عاماً. الاستئجار طويل المدى هو وسيلة الالتفاف القانونية على القيود التي تحيط بالتملك.
إيرلندا تدلل على مبدأ أنه ليس ضرورياً أن تكون بلداً كبيراً لكي تُنمّي الثروة لشعبك، بل بمجرد تغيير السياسات الحكومية. كانت إيرلندا في الماضي—إذا قيس ذلك بحجم سكانها—مُصدِّراً كبيراً للناس. لقد كان ذلك، وكما قال جيه. بي. ليمان معلقاً في بروجيكت سينديكيت بتاريخ تشرين الثاني 2002: “لحسن حظ أمريكا وبريطانيا العظيم، ذلك لأن كلاً منهما استقبل أعداداً كبيرة من العقول الإيرلندية اللامعة التي هربت من الحياة الفكرية الخانقة في بلدها. ومع ذلك ومن فقر العالم الثالث حتى مجرد عقدين اثنين، تجاوزت إيرلندا سيدها الاستعماري القديم، في الإنتاج القومي العام للفرد. لقد أصبحت إيرلندا لاعباً أوروبياً مهماً، يدعم الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بما في ذلك رأس المال المغامر، ويُنمّون الخدمات المالية وتكنولوجيا المعلومات والتي أدت إلى هجرة عقول معاكسة قوية لصالح إيرلندا. ووفق إحصاءات البنك الدولي، قفزت نسبة نمو الناتج القومي العام من 3.2% في عقد الثمانينات إلى 7.8% في عقد التسعينات من القرن الماضي. كانت إيرلندا في الآونة الأخيرة ثامن أعلى إنتاج للفرد، بينما كانت المملكة المتحدة الخامسة عشرة والولايات المتحدة الرابعة.
كلما أسافر أواجه قصصاً أكثر فأكثر تدلل على هجرة عقول معاكسة لصالح الصين وغيرها، على امتداد العقدين الماضيين، حيث يعود الشباب إلى بلدانهم الأصلية بسبب وجود فرص جديدة وَفَّرها التوسع في حرية الاقتصاد في بلدانهم. هؤلاء الناس هم أمثلة على مبدأ “أستطيع أن أفعل” مبنية على قاعدة من المعرفة والمبادرة؛ وقد أصبحوا يكوِّنون الثروة لأوطانهم الأصلية ويُحسّنون مستويات المعيشة فيها، وللولايات المتحدة، وغيرها من البلدان على امتداد العالم. قصصهم تُدِللُ على حتمية هجرة العقول التي تتأتى عن السياسات الاقتصادية السيئة، ولكنها تدلل كذلك كيف أنه يمكن تغيير تلك السياسات، من أجل توفير فرص اقتصادية قادرة على عكس هجرة العقول.
ريشارد لي كان تلميذاً لدي يدرس لشهادة الدكتوراة، وقد أتم كتابة أطروحته في الاقتصاد التجريبي في جامعة أريزونا عام 1991. عمل أستاذاً مساعداً لفترة في جامعة في الساحل الشرقي للولايات المتحدة، ثم ترك منصبه للبدء بإنشاء شركة له إسمها الآن أمزينو إنترناشونال. إنه يقسم وقته بين مكاتبه في أمزينو في لوس أنجلوس وبين شنغهاي. شركته تصنع و/أو تُجمّع منتوجات طبية في الصين لتوزيعها في الولايات المتحدة وفي أكثر من ثلاثين بلداً آخر. معظم منتوجاتهم تصمم وتجرب وتطور في الولايات المتحدة وهذا هو النهج المتَّبع على امتداد الصناعة، حيث يتم التطوير هنا والإنتاج يوكل إلى الخارج؛ هذا هو السبب الذي جعل الولايات المتحدة الأولى في العالم بالنسبة لجدول المبادرة على مستوى العالم. ريتشارد لي هو مثال على مواطن صيني، جاء إلى الولايات المتحدة عبر هونج كونج. لقد تعلم ونال خبرته في الولايات المتحدة، ولكن، ونظراً للتحول الذي جرى نحو حرية اقتصادية هناك، عاد إلى الصين ليربط عمله مع الصين، وهو يعمل على تحقيق الثروة في البلدين.
جنيفر بان كانت مضيفتنا في زيارة لمجمع زي-بارك في بكين. كانت تتكلم الإنجليزية بطلاقة، وكانت دقيقة التعبير، واسعة الاطلاع في حقل الكومبيوتر وتكنولوجيا البرمجة. ومن قبيل الفضول استفسرت كانداس عن خلفيتها. لقد كانت شاهدة تملكها الرعب في المجزرة التي ارتكبت في ميدان تيننمن في بكين، وقررت ترك البلاد، وهي تظن بأنها لن تعود إليها أبداً؛ ولكنها عادت بالفعل نظراً للتغيير الذي طرأ على سياسة الحكومة الصينية، وبحثها هي نفسها عن تحقيق طموحاتها. وكما أوضحت لي في رسالة بالبريد الإلكتروني مؤخراً، وأنا أنقل بعض ما ذكرت بموافقتها:
“لقد شهدت أحداث ميدان تيننمن عندما كنت في الصفوف الثانوية. وقد ذهبت في العام التالي إلى جامعة بكين حيث أرسلت فوراً إلى مركز تدريب عسكري “لغسل الدماغ”، لفترة سنة. وبعد أن تخرجت من جامعة بكين، ذهبت إلى الولايات المتحدة للانغماس في “الروح الأمريكية”. ولفترة ثماني سنوات، درست وعملت واكتسبت لنفسي حياة مريحة. ولكن شيئاً ما كان ناقصاً—تحقيق الذات بإحداث فرق أساسي بين حالتين، والقبول بتحمل المغامرة. كان الفراغ أكبر من أن يملأه شراء منزل أكبر أو سيارة أجمل. لذا، فقد وضعت نفسي على طائرة عائدة إلى الصين، لملاحقة “الروح الأمريكية” مرة أخرى. إنني أحب أن أقدم الدروس التي تعلمتها للآخرين، إذا كان بإمكانهم الاستفادة منها. ففي رأيي، هذه هي الوسيلة التي تمكن الإنسان من التقدم، نحن نتعلم من تجاربنا، وكذلك من تجارب الآخرين”.
ريتشارد وجينفر هما مثلان على مبدأ “أستطيع الإنجاز المستند إلى المعرفة وروح المبادرة”. إنهم يخلقون الثروة والحياة الأفضل للصين، وللولايات المتحدة، ولبلدان كثيرة أخرى.
الارتباط الفردي والشخصي بالموطن الأصلي، وبالمؤسسات الثقافية في عالم التبادل الشخصي والاجتماعي، سوف يقود الناس في حالات كثيرة إلى العودة إلى جذورهم وإثراء مجتمعاتهم المحلية والوطنية. وهذه القصص، هي جزء من توجه طويل الأمد لاستخراج الإنتاج والخدمات في الخارج.
جزء من شريان حياة التغيير، والنمو وتحسين الأوضاع الاقتصادية، هو السماح لوظائف الأمس بالذهاب إلى طريق تكنولوجيا الأمس. فإذا مُنعت الشركات المحلية من إيلاء إنتاجها إلى شركات خارجية، فإن ذلك لن يمنع منافسيهم الأجانب من إنتاج الشيء ذاته، وتخفيض الأكلاف واستخدام الوفورات لتخفيض الأسعار ورفع سوية تكنولوجيتهم، وتكون النتيجة أنك توقع الشركات الوطنية بالإفلاس.
أحد أحسن الأمثلة على الإنتاج في الخارج كان ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما نقلت صناعة النسيج في ولاية نيو إنجلند مصانعها إلى الجنوب، استجابة لأجور أدنى—وكالعادة، أدى ذلك إلى رفع مستوى الأجور في الجنوب، وفي النهاية انتقلت تلك الصناعة إلى مصادر أجور أكثر تدنياً في آسيا. بيد أن صناعة النسيج في نيو إنجلند، استبدلت بصناعة الإلكترونيات العالية والمعلومات وتكنولوجيا علم البيولوجيا. لقد ربحت ولاية نيو إنجلند أرباحاً طائلة صافية، على الرغم من فقدانها لصناعة كانت في وقت ما مهمة. وفي عام 1965، حاز وارن بافت على واحدة من تلك المصانع النسيجية المتداعية في ولاية مساتشوستس، كان اسم المصنع بيركشير هثوي، واستخدم تدفق المال الكبير المتأتي للمصنع، وإن كان بوتيرة أقل كمنصة انطلاق لإعادة استثمار التدفقات المالية للشركة، في مجموعة المبادرات الاقتصادية الناجحة. بعد أربعين عاماً من ذلك، أصبح لشركته رأسمال سوقي يقدر بـ(113) مليار دولار. نفس النقلة تجري الآن مع مجموعتي كي مارت وسيرز ريبوك. ليس هنالك شيء يُخلّدُ إلى الأبد، حيث تتأخر شركات قديمة وتحول مواردها إلى نشاطات اقتصادية جديدة.
وقد نشر المركز الوطني للأبحاث الاقتصادية دراسة جديدة حول الاستثمارات المحلية والخارجية التي تقوم بها الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات. إنها شركات تستثمر استثمارات ضخمة في الخارج، ولكنها تستثمر أكثر من ذلك محلياً. لكل دولار يصرف على رأس مال يستثمر في الخارج، تصرف تلك الشركات 3.5 دولاراً على رؤوس أموال محلية. هذه الحقيقة تدعم دعماً قوياً الفكرة القائلة بأن هنالك علاقة متممة بين الاستثمارات الخارجية والداخلية. هذه العلاقات المتممة بعضها بعضاً، آخذة في النمو يوماً بعد يوم مع العولمة، ويستدل عليها في العلائق بين الاقتصادين الصيني والأمريكي.
ما دام أن الولايات المتحدة تظل الأولى في جدول الابتكارات العالمية، فإنني أعتقد بأنه لا شيء تخشاه من توجيه الإنتاج إلى الخارج، وسوف نخسر الكثير إذا نجح سياسيونا في معارضته. ووفق إحصائيات مؤسسة الاقتصاد الدولي، كان هنالك أكثر من 115000 وظيفة ذات مردود أعلى في قطاع برمجيات الكومبيوتر، أنشئت ما بين 1999-2003، بينما تم الاستغناء عن 70000 وظيفة في الفترة ذاتها. ومثل ذلك في قطاع الخدمات حيث توفرت 12 مليون وظيفة جديدة، بينما تم الاستغناء عن 10 ملايين وظيفة. هذه الحالة من التغيرات التكنولوجية السريعة، واستبدال وظائف قديمة بوظائف جديدة، هو ما تقوم عليه التنمية.
وقد قدرت شركة مكنزي أنه، مقابل كل دولار تنقله الشركات الأمريكية لينتج في الهند، فإن 1.14 دولاراً يتحقق لصالح الولايات المتحدة. نصف هذه الفائدة تعود إلى المستثمرين والعملاء، ومعظم المتبقي يصرف على الوظائف الجديدة التي تكون قد استحدثت. وعلى النقيض من ذلك في ألمانيا، حيث العائد من الفائدة هو مجرد 80%. ويعود السبب في ذلك إلى أن نسبة إعادة التوظيف للعمالة المستبدلة، هي أقل كثيراً، كما توجد أنظمة كثيرة تعرقل العمل. (الإيكونومست، 13 تشرين الثاني 2004).
الخلاصة
أسواق السلع والخدمات هي أسس تكوين الثروة. حقيقة أن الأسواق المالية تخدم من حيث أنها توفر رأس المال لتمويل سلع استهلاكية جديدة، يفسر لماذا هي في طبيعتها غير مستقرة أو مؤكدة، ولا يمكن التنبؤ بها، وبمعرفتنا لسلوكيات المستثمرين، لماذا يقعون ضحية الفقاقيع والانهيار.
أسواق المال العالمية أكثر تعتيماً من أسواق السلع والخدمات، لأن على أسواق المال التكهن بالنسبة للابتكارات والمبادرات—لأنها السلع الجديدة والخدمات المستقبلية. وبإيلاء الإنتاج إلى بلدان خارجية، فإن الولايات المتحدة توفر المال الذي يصبح متاحاً للاستثمار في تكنولوجيا جديدة، ووظائف جديدة، كما أنها تظل في وضع تنافسي في الأسواق العالمية.
إننا لا نعرف ما فيه الكفاية عن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، بحيث نستطيع إدارتها، حتى نتمكن من جني فوائدها دون آلام مراحلها الانتقالية.
العولمة ليست جديدة. إنها كلمة حديثة لوصف حركة إنسانية موغلة في القدم—إنها كلمة تعبّر عن سعي الجنس البشري لتحقيق حياة أفضل، عن طريق المبادلات، والتوسع العالمي في تخصص الموارد؛ إنها كلمة تنُمّ عن السِّلم. إنها حكمة نطق بها عالم الاقتصاد الفرنسي العظيم باستيا: “إذا لم تعبر البضائع الحدود، فسوف يعبرها الجنود…”
مؤسسة التعليم الاقتصادي، 17 أيلول 2005.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 4 آذار 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018