peshwazarabic

peshwazarabic8 نوفمبر، 20100

ماذا يستطيع السياسيون أن يفعلوا لخلق وظائف تُدرّ أجوراً أعلى؟ لا بد أن السياسيين يظنون بأن معظمنا يعتقد بأن الجواب هو: الكثير. إن أحد أكثر الوعود الانتخابية تكراراً هي خلق وظائف جديدة بأجور جيدة. إنني سوف أحاول أن أُدلل بأن السياسيين يستطيعون عمل عدد من الأشياء لزيادة الوظائف ذات الأجور العالية. ولكن هذا لا يعني أنني أحبذ أن يحافظ السياسيون على وعودهم الخاصة بالأجور العالية، ذلك لأن الأشياء التي يستطيع السياسيون عملها لتحسين الوظائف ليست هي الأشياء التي سوفيفعلونها.
السياسيون يستطيعون تشريع سياسات من أمرين عامين اثنين، لتحقيق النتائج المرجوة، بما في ذلك خلق وظائف عالية الأجر: 1) السياسات القابلة للتنفيذ، ولكن بطريقة لا يستفيد منها السياسيون؛ 2) السياسات غير القابلة للتطبيق (وعادة ما تجعل الأمور أكثر سوءً)، ولكنها مع ذلك تخلف سراب الفعالية بطرق تخدم السياسيين.
وفق الترتيبات الديمقراطية السائدة، فإن النجاح الانتخابي يتطلب من السياسيين أن يظهروا كدعاة لتحقيق أهداف اجتماعية مرغوبة، مع عمل مباشر وحاسم يخدم جماعات المصالح الخاصة المنظمة. وحتى عندما تكون تلك المصالح مضرة اجتماعياً، وهي عادة كذلك، فإنها تفعل أكثر لخدمة مصالح السياسيين، بدلاً من السياسات التي تخدم الأهداف الاجتماعية العامة، بشكل غير مباشر، عن طريق خلق بيئة يستطيع الناس فيها تحقيق مصالحهم المختلفة من خلال التفاعل الإيجابي. المعضلة السياسية بالنسبة للتوجه غير المباشر تتألف من أمرين: الفوائد التي تتأتى تدريجياً وتعمّ ساحات واسعة بحيث أن القلائل فقط هم الذين يلاحظونها، وبذا يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل على السياسيين ادعاء فضل لهم في خلقها. وكما أوضح إف. إيه. هايك في مجلده الثالث بعنوان: القانون، والتشريع والحرية، فإن السياسيين “الذين يتطلعون إلى إعادة انتخابهم، على أساس ما حقق حزبهم خلال السنوات الثلاث أو الأربع التي مضت، في إعطاء مزايا خاصة وبارزة لناخبين، ليسوا في ذلك المركز الذي يتيح لهم إصدار القوانين العامة، والتي تكون بالفعل أكثر ما تكون خدمة للصالح العام.” عندما ننظر إلى السياسات التي تهدف إلى خلق وظائف عالية الأجر، فإننا بسهولة نجد أمثلة حيث يُفضل السياسيون “الفوائد” البارزة التي تسيء إلى الجمهور، بدلاً من الفوائد غير البارزة التي هي حقاً في صالح جماهير المواطنين.
كثير من السياسات تزيد من عدد الوظائف التي تعطي أجوراً عالية بشكل غير مباشر، ويبدو أن كثيراً منها تزيد العدد مباشرة، ولكنها في الحقيقة، تُنقص تلك الوظائف وتخفض مستوى أجورها. السياسات السابقة جميعها تفعل الشيء الضروري الوحيد لزيادة الأجور والرواتب: رفع إنتاجية العمل، بينما السياسات الأخرى جميعها تُخفض أو تؤخر زيادة الإنتاجية، وبالتالي تُخفض الأجور إلى ما هو أدنى مما كان يجب أن تكون عليه. التحيّزُ السياسي ضد السياسات الفعالة يبدو واضحاً من القائمة التالية، ومن البحث الموجز. لننظر أولاً في بعض السياسات التي تؤدي إلى زيادة الأجور.
 إلغاء القيود على الواردات: أحد أكثر الإجراءات فعالية يمكن للحكومة اتخاذها لزيادة إنتاجية العمل والأجور هو إلغاء التعرفة الجمركية والقيود على الاستيراد. تخفيض القيود على الاستيراد يزيد من المداخيل الحقيقية بوسيلتين. أولاً، إنه يخفض السعر الذي يدفعه العمال لتلك البضائع والخدمات التي يمكن إنتاجها بكلفة أقل في بلدان أخرى من تلك التي يدفعونها داخل بلادهم. ثانياً، إنه يزيد التنافس أمام المنتجين المحليين من قبل المنتجين في الخارج، وهذا يُوجه العمال إلى تلك المجالات التي تكون فيها إنتاجيتهم أعظم، والتي يتمتعون فيها بميزة نسبية.
رفع الإنتاجية هو أمر ضروري وكاف لرفع الأجور، على الأقل بشكل عام. لا يستطيع أي إنسان عاقل أن ينكر بأن هنالك كلفة تتأتى عن انتقال العمال إلى وظائف ذات إنتاجية أعلى، أو أن القليلين سوف لا يجدون وظائف تعطيهم أجوراً مساوية لتلك التي كانوا يتقاضونها. ولكن لا يمكن لأي اقتصاد أن يزدهر في غياب منافسة مفتوحة، والتي تبقي جميع الموارد، بما في ذلك الموارد العمالية، متنقلة من الوظائف الأقل قيمة إلى الوظائف الأعلى قيمة (من وجهة نظر المستهلكين)، استجابة لأحوال متغيرة على الدوام. لكن حتى أولئك الذين ينتهي بهم الأمر إلى قبض أجور أقل، بسبب التأقلمات الخاصة المطلوبة منهم، يظلون يكسبون أجوراً أعلى كثيراً من تلك التي كانوا سيتقاضونها لو ظل الاقتصاد مغلقاً على نفسه ضد إحداث مثل ذلك التأقلم.
 وضع نهاية لرفاه الشركات الكبرى الاحتكارية: القيود على الاستيراد هي شكل من أشكال الرفاه بالنسبة للشركات الكبرى، ولكنها ليست لسوء الحظ الشكل الوحيد. لقد نجحت تلك الشركات عن طريق لوبيات الضغط على الحكومة باكتساب عدد كبير من أساليب الدعم والأنظمة التي تجلب لهم الثروات، عن طريق فرض القيود على المنافسات التي تواجههم. إلغاء جميع أشكال المحاباة من شأنه زيادة عدد الوظائف التي تدفع أجوراً أعلى عن طريق تخفيض الضرائب والتأثير المشوِّه الذي تحدثه، وإتاحة المجال أمام التنافس الداخلي والخارجي بتوجيه الأيدي العاملة ورأس المال إلى أكثر الميادين إنتاجية، وفق ما يراه المستهلكون وليس كما يراه السياسيون الذين يخدمون مصالح عملائهم الخاصة.
 فئات ضرائب هامشية أقل: بغض النظر عن مدى كفاءة أية حكومة، فإن عليها أن تجمع الإيرادات للإنفاق على نشاطاتها، وهذا يعني فرض الضرائب. لسوء الحظ فإن جميع الضرائب تُخفض الإنتاجية عن طريق: 1) وضع فجوة بين السعر الذي يتلقاه المورد وبين ما يدفعه صاحب الطلب على البضاعة، وبالتالي، الحيلولة دون حدوث تبادل تجاري مُثمر؛ 2) دفع الناس إلى اتخاذ قرارات لتفادي دفع الضرائب، بدلاً من خلق الثروة. تلك التشوهات تسمى عادة بخسائر الأحمال الثقيلة، وهي كلفة لا مفر منها في دفع ضرائب فوق وبالإضافة إلى كلفة الفرصة لجني المال. إن تخفيض الخسائر الناتجة عن الأحمال الثقيلة نتيجة رفع نسب الضرائب يزيد من فعالية التعامل بين أصحاب العمل والعمال وإلى توجيههم إلى مناحي تستجيب لرغبات المستهلكين، ورفع مستوى الإنتاجية العامة، وكلاهما من شأنه رفع الأجور الحقيقية للعمالة. إذن، فإن طريقة فعالة لزيادة عدد من يتقاضون أجوراً عالية هي عن طريق تخفيض نسب الضرائب وتوسيع قاعدة دافعي الضرائب عن طريق إغلاق منافذ الهرب من دفعها. فكلما كانت نسبة الضرائب الهامشية أقل، كانت الفجوة أقل بين ما يتلقاه البائعون وما يدفعه المشترون. وكلما نقصت منافذ التهرب من دفع الضريبة (مصحوباً بنسب ضريبة أقل)، قلت الفائدة الضريبية من تحويل الموارد من الإنتاج ذي القيمة العالية إلى القيمة المنخفضة التي تتأتى عن تجنب دفع الضريبة.
 تجنب التضخم: تستطيع الحكومة أن تفعل الكثير لرفع أعداد الوظائف التي تدفع أجوراً عالية، وذلك عن طريق تجنب التضخم. التضخم يستنفذ الإنتاجية العمالية، ويخفض الأجور الحقيقية، تماماً مثلما يأكل من قيمة العملة. إن أكثر الأمور ضرراً بالنسبة للتضخم هي أنه يشوّه المعلومات التي تنقلها أسعار السوق، وتخفيض قدرة سوق المال على توجيه الموارد، بما في ذلك العمالة، إلى حيث تحقق أعلى إنتاجية لها. ومثلما أن المسطرة للقياس تفقد فائدتها في قياس ومقارنة المسافات، إذا كان طولها خاضعاً لتغييرات مفاجئة، كذلك، فإن أسعار السوق هي أقل فائدة لتقرير ومقارنة القيم، عندما تكون قيمة المال خاضعة لتقلبات فجائية. كذلك، فإن التشوهات الناتجة عن التضخم تجعل من المستحيل معرفة ما هي نسبة الفائدة المناسبة عندما يقترض الناس أو يقرضون مالاً لتمويل استثمارات طويلة الأجل. لذا، وفي أجواء من التضخم، فإن كثيراً من الاستثمارات الكفؤة، والتي تزيد من إنتاجية العمال في المستقبل، وتزيد من أجورهم المستقبلية، لا تأخذ طريقها إلى التنفيذ أبداً.
تجنُّب الترف
 خفض الإنفاق المترف: ليس هنالك من شك بأن تخفيض الإنفاق المُترف من شأنه زيادة الأجور الحقيقية عن طريق زيادة إنتاجية الاقتصاد. إن جزءاً كبيراً من الإنفاق تُحركه قدرة بعض دوائر المجلس التشريعي، أو جماعات المصالح الخاصة، على الاستحواذ على فوائد ومزايا عن طريق توزيع الكُلف على قاعدة دافعي الضرائب كلها. وحيث أن أولئك الذين يستفيدون أكثر من غيرهم يدفعون جزءً بسيطاً من الكلفة، فإن الضغط يتجه نحو توسيع الإنفاق إلى ما هو أبعد كثيراً من المستوى الأكثر كفاءةً اجتماعياً. الموارد تنتقل من الاستخدامات ذات الفوائد العالية إلى الاستخدامات الأقل فائدة بالنسبة للمستهلكين، وبالتالي تخفيض قيمة البضائع والخدمات المتاحة، وبالتالي تخفيض القيم الحقيقية للرواتب والأجور. الإنفاق الحكومي الزائد هو عنصر سلبي خارجي، تماماً مثلما هو التلوث الزائد، والأول ليس أقل هدماً للإنتاجية وليس أقل فعلاً في إذابة الأجور الحقيقية من الأخير. فإذا كان السياسيون قلقين بسبب النتائج السلبية الناتجة عن سياسة البذخ في الإنفاق، مثلما هم قلقون، كما يقولون، من التلوث الزائد، فإن النتيجة ستكون إنفاقاً حكومياً أقل مضيعة ووظائف برواتب وأجور أعلى.
 إلغاء الحد الأدنى للأجور: إن هذا سوف يزيد من الأجور عن طريق زيادة رأس المال البشري، والذي هو لكثير من الشباب الصاعدين يمكن تكوينه أفضل تكوين بالتدريب العملي في العمل. التشريعات الخاصة بالحد الأدنى للأجور تخلق البطالة بشكل واضح بين الشباب اليافع، والذين هم، ولأسباب عديدة، بما في ذلك مدارس عامة عديمة الجدوى، لا يملكون المهارات التي تستحق الحد الأدنى للأجور المنصوص عليه في القانون. النتيجة لن تكون فقط البطالة، التي قد تكون قصيرة المدى، بل تخفيضاً في الفرص لكثير من الشباب لكي يكتسبوا المهارات التي تجعلهم أكثر إنتاجية على المدى الطويل. وحتى أولئك الذين يحصلون على وظيفة بالحد الأدنى من الأجر هم أقل احتمالاً في الحصول على وظيفة يقدم فيها صاحب العمل فرص تدريب لهم، على حساب إنتاج فوري بشكل من الأشكال. الحد الأدنى يحرم الكثير من الشباب من فرص قليلة لمواصلة تعليمهم الرسمي من أجل كسب المهارات الضرورية التي تمكنهم من الحصول على مداخيل أعلى في المستقبل نتيجة العمل بأجور منخفضة عندما تكون عليهم مسؤوليات مالية قليلة. إلغاء قانون الحد الأدنى يجعل أمراً شرعياً للشباب الأقل حظأً بأن تتوفر لهم الفرص نفسها للحصول على وظائف في المستقبل بأجور أعلى، مثل تلك التي تتوفر لمن هم أكثر حظاً من خريجي الجامعات الذين يتلقون الدعم فيها.
 إنقاص سلطة نقابات العمال: إن إزالة بعضٍ من الامتيازات التشريعية المعطاة للنقابات العمالية سوف يكون أحد الوسائل الفعالة لزيادة الأجور. نقابات العمال تعمل على زيادة أجور بعض العمال، ولكنها تفعل ذلك عن طريق تخفيض أجور آخرين بقدر يؤدي إلى تخفيض الأجور بشكل عام. وبسبب الامتيازات التشريعية التي تتلقاها الاتحادات، فإن من الصعب، وفي بعض الأحيان من المستحيل على العمال أن يتأهلوا لبعض الوظائف، بدون الانتماء إلى أحد الاتحادات. وهكذا، فإن الاتحادات تستطيع رفع بعض الأجور عن طريق حظر الانتماء إلى بعض مجالات العمل وجعل أولئك العمال أقل كفاءة، مع وجود قوانين عمل صارمة.
جميع هذه الممارسات تؤدي إلى تخفيض في الإنتاجية للقوة العاملة. إن منع الدخول إلى بعض مجالات العمل يزيد من أجور بعض أعضاء النقابات الذين يعملون في تلك المجالات، بيد أن ذلك يزيد من عدد العمال في مجالات أخرى، حيث مهاراتهم أقل قيمة. هذا لن يؤدي فقط إلى تخفيض أجورهم، بل إنه يخفض من إنتاجية وأجور العمال بشكل عام، عن طريق الحيلولة بينهم وبين الالتحاق في وظائف تعطيهم مردوداً أعلى. وبسبب تقليص مرونة أصحاب العمل على نقل العمال من مجال عمل إلى مجال عمل آخر، استجابة لظروف متغيرة، فإن قوانينَ عملٍ غير مرنة تخفض كذلك من إنتاجية وأجور العمال.
اتحادات العمال على امتداد القطاع الصناعي قد خفَّضت أيضاً من الإنتاجية الاقتصادية العامة عن طريق تجمع العمال الذي يحول دون المنافسة. فإذا ما وافقت الشركات في صناعة ما بشكل صريح على تخفيض الإنتاج من أجل رفع الأسعار، فإنها تكون قد خالفت القانون الذي يمنع التواطؤ بين الشركات لتحديد الأسعار (والذي استُثني من تطبيقه نقابات العمال) والذي يفرض عقوبات صارمة، بما في ذلك السجن، لكبار المديرين. ومن الناحية الأخرى، فإن الشركات في الصناعات لا تقلق كثيراً إذا ما تم تنقيص الإنتاج بسبب إضرابٍ من الاتحادات. لذا، فإن أرباح الشركات وأجور أعضاء الاتحادات يمكن زيادتهما بسبب عدم كفاءة “الكارتل” (الاتفاقات لتحديد التجارة) التي تظل ضمن القانون فقط بسبب أن وراءها اتحادات العمال. (إنني لا أجادل بالنسبة لقوانين مكافحة التواطؤ لتحديد الأسعار، وحتى لو أمكن جعل تلك القوانين بمعزل عن الاعتبارات السياسية، وهذا لم يحدث أبداً ولن يحدث، فإنها سوف تظل تحد من التنافسية في المجتمع، بسبب نظريات الكتب الجامدة التي تفترض تنافساً كاملاً، وهو ما بُنيت عليه.)
جميع هذه النقائص الآتية من قوى اتحادات العمال تُخفض التنافس وبالتالي تؤدي إلى تناقص الأجور الحقيقية. إن تلك النواقص سوف تتناقص كما أن الأجور الحقيقية للعمال سوف تتزايد إذا تم تحجيم نفوذ اتحادات العمال. وكما بيّنت، فإن جميع السياسات التي بحثتها لها قاسم مشترك واحد: إن من شأنها زيادة الأجور عن طريق رفع الإنتاجية الاقتصادية. كما أن شيئاً آخر يجمعها: أنها ترفع الأجور على مستوى عريض، وبشكل غير مباشر، وتدريجياً، عن طريق خلق بيئة يتعاون الناس فيها تعاوناً منتجاً، من خلال السوق وبطرق تخدم مصالحهم المشتركة أفضل خدمة. هذا يعني أن الوظائف الأفضل والأجور الأعلى لن يظهرا على الفور، وحتى لو كان الأمر كذلك، فلن ينظر إليهما على أنهما نتيجة عمل حكومي تستحق عليه الثناء. وعليه، فإن فعالية تلك السياسات في خلق ذلك النوع من الوظائف التي يعد السياسيون دوما بخلقها لن تترجم إلى تأييد سياسي كبير بالنسبة لهم. يفضّل السياسيون تلقي الامتنان عندما يبدون وكأنهم يخلقون وظائف أفضل مصحوبة بنتائج عكسية، بدلاً من نيل الامتنان لسياسات تخلق بالفعل وظائف أفضل. وسوف نبحث الآن في سياسات لها شعبية سياسية لأنها ظاهرياً تعد بزيادة الوظائف ذات المداخيل الأعلى، بينما هي في الواقع تؤدي إلى انخفاضها.
السياسات التي تخفض الأجور

 تقييد الاستيراد: عندما يجادل السياسيون بشأن زيادة القيود على الاستيراد، أو ضد تخفيضها، فإنهم يدَّعون دائماً بأنهم يريدون حماية الوظائف التي تعطي أجوراً عالية. القيود على الاستيراد تحمي بالفعل بعض الوظائف ذات الأجور العالية، ولكن على حساب تخفيض خلق وظائف أخرى، حتى بأجور أعلى، بسبب الانخفاض العام في الإنتاجية والتي تخفّض معدل الأجور الحقيقية. بيد أن الوظائف المحمية يحتلها حالياً عدد معروف وقليل نسبياً من الذين يتمتعون بتمثيل سياسي جيد، وهم على وعي تام بالمزايا التي يحصلون عليها من السياسيين، الذين يدلون بأصواتهم إلى جانب فرض قيود على الاستيراد تحميهم من المنافسة الأجنبية. إن الخسائر الناتجة حتى عن وظائف أعلى إنتاجية يمكن أن يتجاهلها السياسيون، ما دام أنها مبعثرة وغير مركزة وليس من السهل ملاحظتها، ذلك أننا لا نفتقد ما لم نكن قد حصلنا عليه أصلاً. وحتى لو لوحظت الخسارة فإن السبب—تقييد الاستيراد—لا يُرى بسهولة.
 وضع الشركات الكبرى على قائمة من يتلقون المنح والعطايا: السياسيون يتأرجحون بين مهاجمة رجال الأعمال وبين الثناء عليهم، ويتوقف ذلك على نوعية الموضوع السياسي والجو المحيط به. بيد أنهم ثابتون في دفع كميات كبيرة من المنح والعطايا لصالح الشركات الكبرى، والتي يدفع ثمنها دافعو الضرائب، من خلال ضرائب أعلى وإنتاجية اقتصادية أقل. أكثر الأقوال شيوعاً في تبرير تلك العطايا هي أنها تخلق وظائف جديدة.
وفي الحقيقة فإنها تخلق وظائف جديدة، ولكن على حساب تدمير فرص قيام وظائف أكثر إنتاجية، كان يمكن أن تنشأ لو لم توضع قيود على التنافس، ولو كان قد سمح للمستهلكين بصرف أموالهم التي يدفعونها كضرائب لشراء ما يفضلون من بضائع، بدلاً من دفعها كعطايا لرفاهية الشركات الكبرى.
لسوء الحظ، فإن الوظائف التي تنشأ هي مرئية ويمكن رؤيتها بسهولة كنتيجة لإجراء حكومي، بينما الوظائف ذوات المردود الأعلى والتي لا تنشأ تظل غير مرئية—ذلك أن من الصعب افتقاد ما لم ينشأ أصلاً.
 رفع الضرائب: كثيراً ما يدعو السياسيون لفرض ضرائب أعلى كأفضل وسيلة لدعم النمو الاقتصادي، وخلق وظائف أكثر وأعلى مردوداً. الفرضية هي أن الضرائب الأعلى سوف تخفض العجز في الموازنة، والذي بدوره يخفض الفوائد التي تدفع على الاقتراض الحكومي. إن شعبية رفع الضرائب من أجل خلق وظائف جيدة يتعارض مع جوهر هذا البحث. إنها تقول بأن السياسيين مستعدون لاتخاذ قرار غير محبوب—رفض الضرائب—من أجل تحقيق فائدة أعم، ألا وهي نمو اقتصادي عام وخلق للوظائف. بيد أن رفع الضرائب ليس طريقة ناجعة لزيادة النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. وحتى لو أدى رفع الضرائب إلى تخفيض عجز الموازنة، فإنه ليس من المحتمل أن يكون له تأثير كبير على نسب الفوائد. الذي يقرر نسبة الفائدة هو سوق رأس المال العالمي، حيث كثيراً ما تنخفض الفائدة في ذات الوقت الذي يرتفع فيه عجز الموازنة، وترتفع عندما يكون في حالة انخفاض. ثانياً، رفع الضرائب قلما يخفّض العجز في الموازنة، على الأقل ليس لأمد طويل. وحتى عندما تؤدي الضرائب الأعلى إلى موارد ضريبية أكبر، فإن الأموال الإضافية تُستخدم في جميع الحالات لتوسيع الإنفاق الحكومي والصرف على برامج الرفاه، مع نمو الإنفاق بأكثر من نمو الواردات. والنتيجة هي استبدال الإنفاق الخاص بالإنفاق العام الذي يكون خاضعاً للمؤثرات السياسية بدلاً من الاعتبارات الاقتصادية—وهي وصفة أكيدة لتخفيض الإنتاجية وتخفيض الأجور الحقيقية. كذلك، وبنسب ضرائب أعلى، فإن أصحاب المصالح الخاصة مستعدون لدفع مزيدٍ من المال للسياسيين مقابل إعطائهم منافذ للتهرب من الضريبة، ومن شأن ذلك إدخال اختلالات إضافية على الإنتاجية في توزيع الموارد بين الإنفاق والاستثمار. إن الثمن السياسي لرفع الضرائب يُعوَّض بما هو أكثر منه في المزايا السياسية الناشئة عما يبدو بأنه خلقٌ لوظائف جديدة، في الوقت الذي يُستخدَم فيه المزيد من الدخل القومي لشراء مزيدٍ من التأييد الانتخابي.
 زيادة الإنفاق الحكومي: إن قائمة الفوائد التي تنشأ من زيادة الإنفاق العام على بناء الطرق والتعليم ودعم الزراعة والمتنزهات العامة وتوسيع المطارات وتحويل منتوجات المياه وغير ذلك، تنطوي دائماً على وظائف إضافية. بيد أن الوظائف التي تنشأ تشكل جزءاً كبيراً من نفقات تلك المشاريع وليست فوائداً. إن الوظائف الضرورية لبناء طريقٍ أو لإعادة تحويل علب الألمنيون مليئةٌ بأناس لا ينتجون قيمة في غير ذلك من النشاطات. وما لم تؤخذ هذه الكلفة بعين الاعتبار، فإن الوظائف التي يتم إنشاؤها سوف تدمر الثروة الهامشية، لأن القيمة التي يصنعها العمال الذين يعملون في المشاريع التي تمولها الحكومة سوف تكون أقل من القيمة (في معيار تفضيل المستهلكين) التي كان يمكن لهم إنجازها في مناحي أخرى. إذن فالحوافز السياسية تجعل سوء التوزيع هذا للعمالة أمراً لا مفر منه.
 تنظيم سوق العمل: يستطيع السياسيون أن ينالوا الفضل في حماية وخلق الوظائف عن طريق فرض عددٍ من القيود التي تخفض الإنتاجية في أسواق العمل. لنذكر اثنين: أولاً، تنفيذ قوانين العمل الإلزامي يضع الضغط على أصحاب العمل لتوظيف عمال على أساس التنوع العرقي للمجتمعات التي يعملون فيها، ويزيد من صعوبة التخلص من العمال غير المنتجين. ثانياً، إن الذي يُعيَّن بإرادة سياسية يقلل من المرونة المتاحة لدى صاحب العمل بتعديل التعويضات بوسائل تجذب أفضل تشكيلةٍ من العمال في مصانعهم، وبأقل الكلف.
إن خيرة السياسات التي تخلق وظائف ذات مردودٍ أعلى بشكل غير مباشر يكمن في أنها تفعل ذلك عن طريق خلق مجموع إطار إيجابي يتم في كنفه تعامل الناس وتفاعلهم بشكل أكثر فاعلية. الزيادة ذاتها في الإنتاجية، التي ترفع المداخيل، ترفع كذلك المستوى العام للثروة، وترفع من مستوى حياتنا في العديد من المجالات. وعلى سبيل المثال، كلما ازدادت الثروة، فإن وفيات الأطفال تنخفض، وترتفع توقعات الحياة (ونوعية الحياة أيضاً) في جميع مستويات العُمر، وينخفض الفقر، وتصبح البيئة أكثر نظافة، ويزيد ارتياد النشاطات الفنية، وتزداد أوقات الراحة، وتصبح الوظائف أكثر أماناً وأبهجَ وأعلى مردوداً.
المشكلة في السياسات التي تعمل على خلق وظائفٍ ذات مردود أعلى مباشر هو أنها تفعل ذلك عن طريق التحويلات الحكومية وسياسات الحماية، وهي بمجموعها سلبية. ومع ذلك، فإن هذه السلبية مفروضة بدوافع سياسية لأن السياسيين يتلقون الكثير من الثناء والتقدير لتوفيرها، بينما لا يعانون أي ملامة للخسائر الأكبر التي تنتج عنها.
بالتنسيق مع مجلة فريمان، نيسان 2006.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 8 شباط 2007.

peshwazarabic8 نوفمبر، 20100

قد يبدو واضحا أن النمو الاقتصادي يحد من الفقر، ومع ذلك، يبقى هذا الموضوع مثار خلاف. اذ أكد بعض الباحثين أن النمو الاقتصادي لا يقضي على الفقر بل من الممكن أن يُفاقم مشاكل الفقراء (الأمم المتحدة 1997). فعلى سبيل المثال، أشار كل من دريز وسين (1990) أن النمو الاقتصادي لا ينتج عنه مردود يحسن الرفاه في العديد من الإجراءات غير المالية. إن الدعوة لزيادة الإنفاق الحكومي (سكويرز 1993) أو لإعادة توزيع الثروة (تودارو 1997) هما الامتداد المنطقي للنقاش حول القول أن النمو الاقتصادي لا يكفل القضاء على الفقر.
ويسمي تودارو (1997) هذا الزعم بأن النمو يقلل الفقر بشكل فعلي بـ “نظرية انسياب الفوائد إلى الأسفل.” وفي الظروف الأقل مثالية، لا يوجد حتى “انسياب” للأسفل. وببساطة، فإن التقدم الاقتصادي العام “لا يحسن من مستويات شديدي الفقر” (تودارو 1997: 155). وفي الواقع، أكد بعض اقتصاديي التنمية أن “عمليات النمو” “تنساب عادة للأعلى” إلى الطبقات الوسطى و”خاصة طبقة الأغنياء جدا” (تودارو 1997: 163).
من المواضيع التي لم يتم بحثها بتوسع هو تأثير الثروة النسبية للأغنياء والفقراء على مستوى الرفاهية. هناك الكثير من المؤلفات التي تؤكد على أنه يترتب على تحسين دخل الفقراء تأثير أكبر على متوسط مستوى الرفاهية والازدهار في بلد ما عن ذلك الذي يترتب على تحسين دخل الأغنياء (تودارو 1997). ولم تتم دراسة هذا المقترح بشكل مستفيض كما أن التحليل المتأني يشكل جدول أعمال هام للبحوث.
توزيع الثروة والفقر

من الممكن فحص السؤال الأول المتعلق بالعلاقة بين الأغنياء والفقراء عن طريق تقدير علاقة دخول الفقراء والأغنياء بعضها ببعض. وعلى سبيل المثال، من الممكن تقدير المعادلات التالية:

باعتبار أن Yp و Yr يمثلان معدل الدخل الفردي للفقراء والأغنياء، على التوالي، وأن βp و βr يمثلان مُعامِلات “تحويل دخل الفئة الاجتماعية”. وتظهر β الزيادة النسبية في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة واحدة كدالة لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للمجموعة الأخرى. فعلى سبيل المثال، تمثل βr التغير الذي يطرأ على دخل الفقراء بسبب التغير الذي يطرأ على دخل الأغنياء. فإذا كانت نظرية “انسياب الفوائد للأسفل” صحيحة، يجب أن تكون قيمة βr موجبة. وفي حال كون نظرية “الإنسياب للأعلى” صحيحة، فيجب أن تكون قيمة المعامل سالبة.
وعند تقدير المعادلات 1 و2 أعلاه، قد تبرز مشكلة محتملة للمتغيرات الإضافية التي من الممكن أن تؤثرعلى الدخل. ولقد تم فحص المتغيرات الهامة في كتاب بارو وسالا-إي-مارتن (1995) وتشمل رأس المال البشري والمؤسسات ومتغيرات أخرى. ويفترض أن تتجلى هذه التأثيرات في دخل الطبقة الأخرى. وهكذا، ستكون المتغيرات الإضافية الوحيدة المطلوبة هي تلك المتغيرات التي غالبا ما يتم حذفها في معادلات النمو عبر الوطنية. إن أكثر المتغيرات وضوحا هي المتغيرات الجغرافية. حيث تقع العديد من البلدان الفقيرة في العالم في بيئآت استوائية وغير ساحلية. ويقول كل من ساكس (1997)، وساكس وورنر (1997) وسويل (1994) بأن هذه العوامل منهكة وخاصة لرفاهية الإنسان. وغالبا ما تكون البلدان غير الساحلية معزولة عن الممارسات التجارية والافكار والابتكارات ومؤسسات تعزيز الأسواق. بينما تعاني البلدان الاستوائية من الأمراض وانعدام المرافق الصحية والمجاعات. وتهدد هذه الظروف قدرة السكان على الاستمرار في الحياة كما تؤثر بشكل معاكس على الدخل وتؤدي إلى إستدامة الفقر. وأخيرا، يقول لوكاس (1988) أن اقتصادات المدن تستتبع زيادة إنتاجية بشكل أعلى من اقتصادات الريف بسبب تأثيرات خارجية تعزى إلى رأس مال بشري يمتاز بإنتاجية أكبر.
السؤال الثاني المتعلق “بالانسياب للأسفل” هو سؤال مباشر بشكل أكبر ويرتبط بالعلاقة بين الفقر والدخل النسبي للفقراء والأغنياء. لنأخذ بعين الاعتبار مثالا بسيطا لمعدل مستوى الفقر (HP) لبلد ما:

وتمثل β درجة حساسية الفقر بالنسبة إلى الدخل، وp وr يمثلان الفقراء والأغنياء، على التوالي. ويفترض أنه في حال زيادة ثروة السكان في بلد ما سيؤدي ذلك إلى تخفيض الفقر، إلا إذا تم افتراض نظرة ماركسية بأنه سيتم انخفاض دخل الفقراء بسبب المكاسب التي حصل عليها الأغنياء—وهذه هي حجة “الانسياب للأعلى”—عند بعض اقتصاديي التنمية. وفي مثل هذه الظروف، تكون سياسات إعادة التوزيع أو السياسات التي تُعظم “نوعية التنمية” بدلا من التنمية فحسب، هي السياسات المفضلة لأن مثل هذه السياسات ستؤدي إلى تخفيض معدل مستوى الفقر في بلد ما.
وبالرغم من تأكيدات الماركسيين، هناك أسباب بسيطة للاعتقاد أن قيمة βr يمكن أن تتجاوز قيمة βp. وباعتبار التأثيرات الخارجية غير المسيطر عليها، فإذا قام الأغنياء في بلد ما بالاستثمار في بعض الخدمات التحتية التي تساعد الأغنياء، فقد يساعد ذلك الفقراء أيضا حيث أن تأثيرات هذه الخدمات التحتية سوف تنتشر وتمتد كمنافع للفقراء. وعلى سبيل المثال، فإن الاستثمار في مجال التعليم ينتج مؤثرات إيجابية للمجتمع بدرجة محسوسة وتعم على نطاق واسع.
ويمكن الأخذ بعين الاعتبار أيضا التفاعل بين دخل الأغنياء واقتصادات الحجم ودخل الفقراء. فإذا تم اعتبار اقتصادات الحجم في توفير الخدمات المختلفة (مثل الخدمات الصحية والصرف الصحي)، فان زيادة الطلب المرتبطة بارتفاع دخل الاغنياء ستدفع مستوى الاسعار الى الانخفاض، وبناء عليه، سيتيح ذلك المجال للفقراء لزيادة الاستهلاك (زيادة دخولهم الحقيقية)، شريطة أن لا تكون اقتصاديات الحجم قد أدت إلى سعر أعلى لقلة التنافس.
إذا أُخذ بالاعتبار أنماط الاستهلاك والاستثمار النسبي للأغنياء والفقراء، فانه، بافتراض أن الفقراء ينفقون معظم دخلهم على استهلاك الحد الادنى لمقابلة احتياجات معيشتهم، وأن الاغنياء يقومون باستثمار الجزء الأكبر من دخلهم، فانه في مثل هذه الظروف، فإن الزيادة في دخل الأغنياء ستؤدي إلى رفع معدل النمو الاقتصادي وبالتالي خفض معدل مستوى الفقر في بلد ما.
إستقراء من واقع التجربة العملية

لكي نفحص العلاقة بين دخل الأغنياء والفقراء فمن الممكن تقدير المعادلتين 1 و2 لعدد من الدول الواردة في تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية (1997) والتي تم احتساب وتسجيل مؤشر الفقر الانساني لها. ولقد تم احتساب هذا المؤشر لـ 78 دولة. ولكن فقدان مدخلات خاصة بفئآت دخل الأغنياء والفقراء تقلل عدد العينة التي يتم تقديرها.
تم احتساب هذا التقدير باستخدام التحليل باسلوب الانحدار البسيط، واستند الى نسبة السكان في المدن (الحضري) ونسبة المساحة الاستوائية من البلد واختير متغير إضافي للبلدان غير الساحلية. ويعرَّف الأغنياء بأنهم يشكلون ما نسبته 20% من الشريحة العليا لتوزيع الدخل بينما يعرف الفقراء بأنهم الذين يشكلون ما نسبته 20% من الشريحة الدنيا من توزيع الدخل. هذه التقديرات محسوبة باللوغارثمات الطبيعية. ولقد تم تسجيل نتائج التحليل الانحداري في الجدول 1.
وتبين البيانات الواردة في الجدول 1 أن زيادة دخل الأغنياء بمقدار دولار واحد يرتبط بزيادة تقدر بحوالي 75 سنتا في دخل الفقراء، وأن هذه العلاقة متماثلة. ولكن عندما يتم شمول متغيرات إضافية في التقديرات، فمن الواضح أن دخل الأغنياء والفقراء يتأثران بطريقة مختلفة. وعلى سبيل المثال، فإن نسبة الأرض والمياه في البلدان الاستوائية لها تأثير سلبي شديد على دخل الفقراء وليس على دخل الأغنياء، بينما يبدو أن نسبة السكان الذين يعيشون في المناطق الحضرية ذات تأثير إيجابي شديد على دخل الأغنياء ولكن ليس على دخل الفقراء. إن الزيادة في دخل الأغنياء مرتبطة بشكل وثيق مع الزيادة في دخل الفقراء، حتى في حال أن أدرجت المتغيرات الجغرافية. فزيادة دخل الأغنياء بمقدار دولار يزيد من دخل الفقراء بحوالي 71 سنتا. وفي المقابل، فإن إضافة المتغيرات الجغرافية، عندما يكون دخل الفقراء هو المتغير المستقل، يبين أن دخل الأغنياء أقل حساسية بالنسبة لدخل الفقراء. فإن زيادة دخل الفقراء بمقدار دولار سيؤدي إلى زيادة دخل الأغنياء بحوالي 41 سنتا فقط. هناك انسياب للأعلى بمعنى أن زيادة دخل الفقراء يزيد من دخل الأغنياء، ولكن زيادة دخل الأغنياء له تأثير إيجابي أكبر على زيادة دخل الفقراء.

في الواقع، إن التقديرات المستقلة لدخل فئتي الأغنياء والفقراء كدالة للطبقة الأخرى غير ذات معنى. ويتم تحديد دخل جميع الطبقات معا. غير أن جوهر قصة “الانسياب للأعلى” والمضمون العادي لمصطلح “الانسياب للأسفل” هو أنه هناك عوائق للتحديد المشترك لدخول الأغنياء والفقراء، وعليه، لا يستفيد الفقراء من الزيادة في دخل الأغنياء. ولكن حتى لو أخذنا فرضية الانسياب للأسفل لمحددات الدخل المستقلة لفئات الدخل المختلفة ظاهريا، فإن البيانات لا تدعم انسيابا قويا للأعلى ولا انسيابا ضعيفا للأسفل.
وللتمكن من دراسة تأثير دخل الأغنياء والفقراء على مقاييس الفقر، يمكن تقدير المعادلات 3 و4 مع شمول تأثيرات المتغيرات الجغرافية. إن أحد الاعتبارات الهامة هي كيفية قياس الفقر الإنساني. إن أحد المقاييس الملائمة والرسمية للفقر هو مؤشر الفقر الإنساني الذي تم تطويره من قبل الأمم المتحدة.
ويستند مؤشر الفقر الإنساني على فكرة سين (1997) عن الفقر وتعريفه على أنه حرمان الإنسان. ويقر تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية هذا “المنظور عن الحرمان.” ويحاول هذا المقياس أن يضع قيمة للرفاه “لأكثر الناس حرمانا في المجتمع.” ولقد تم تصميمه كأداة مدافعة باسم الفقراء في العالم وكأداة تخطيط لتحديد المناطق التي تحتاج إلى سياسات محددة لمكافحة الفقر.
تم تأسيس مؤشر الفقر الإنساني باستخدام مجموعة معقدة من المعادلات. وتشتمل مكوناته على ثلاثة مقاييس رئيسية للرفاه، هي: طول العمر والمعرفة ومستوى معيشة لائق. يُقاس طول العمر في بلد ما بنسبة السكان الذين لا يتوقع لهم أن يعيشوا حتى سن الـ 40. وتقاس المعرفة بنسبة البالغين الأميين المستثنين من وسائل القراءة والكتابة. كما تُقاس نسبة من لا يتوفر لهم مستوى لائق من المعيشة في المجتمع بنسبة من لا يتوفر لديهم مياه آمنة وخدمات صحية، وكذلك النسبة المئوية للأطفال تحت عمر الخمس سنوات الذين يعانون من سوء التغذية (نقص الوزن).
ولا يوجد مجال للشك لمناقشة إن كانت هناك بعض المقاييس الأخرى للحرمان والتي قد لا تشكل مقياسا أفضل للفقر. ولكن من الصعب تصور أن معظم المراقبين لن يتفقوا مع وجهة النظر القائلة بأن هذه المقاييس تقيس في الواقع الرفاه الإنساني المتضائل وبذلك تشكل مقياسا صحيحا لمقارنة الحرمان الإنساني.
في ضوء هذه الاعتبارات، يمكن تقدير المعادلتين 3 و4 باستخدام مؤشر الفقر الإنساني كمتغير تابع وإضافة مقاييس لنسبة المساحة الاستوائية من البلد ونسبة الحضر من السكان وكذلك متغير صنفي يعادل 1 إذا كانت البلد غير ساحلية و صفرا فيما عدا ذلك.
يتم الحصول على اختبار مباشر للرابطة بين الفقر/الدخل بتقدير مؤشر الفقر الإنساني لدخل الفقراء والأغنياء بالإضافة إلى باقي المتغيرات التي يفترض أنها تؤثر على مستوى الفقر في بلد ما. ويبين الجدول 2 نتائج التحليل بأسلوب الانحدار. تظهر البيانات أن مؤشر الفقر يرتبط سلبيا بدخل الفقراء والأغنياء. وفي كلتا الحالتين، تبدو التأثيرات واضحة وبالتأكيد قوية إحصائيا، بيد أن النتائج تنطبق بشكل أكبر على دخل الأغنياء مقابل دخل الفقراء. إذ يبلغ معامل دخل الأغنياء ضعف معامل دخل الفقراء تقريبا. وبالمثل، فإن قيمة القوة التوضيحية (R2 المعدلة) للتقدير الذي يشمل دخل الفئة الغنية كمتغير مستقل أعلى مقارنة مع التقدير الذي يشمل على دخل الفئة الفقيرة كمتغير مستقل.

إحدى الصعوبات التي تواجه النتائج الواردة في الجدول 2 هي صعوبة تفسير حجم التأثيرات. ومن أجل الحصول على نتائج سهلة التفسير، يتم تقدير مكونات مؤشر الفقر الإنساني كمتغيرات تابعة مع المتغيرات المستقلة نفسها. أما المتغيرات التابعة فتشمل نسبة السكان الذين لا يعيشون ليصلوا لسن الأربعين ونسبة السكان البالغين الأميين ونسبة السكان التي لا يوجد لديها سبيل للمياه الآمنة ونسبة الأطفال الذين يعانون من نقص التغذية. ويبين الجدول 3 نتائج هذه التقديرات.[1]
النمط الذي يبرز في الجدول 3 يعكس أن مكونات مؤشر الفقر الإنساني غالبا ما تكون مرتبطة سلبيا مع دخل الفقراء ودخل الأغنياء، إضافة إلى المتغيرات الجغرافية. وعليه، فإن ارتفاع الدخل لأي مجموعة يميل إلى خفض معدلات الفقر.
إن السمة الأبرز في الجدول 3 هي أن تأثير مُعامِلات دخل الأغنياء على الحد من الفقر أقوى من تأثير معاملات دخل الفقراء. وهذه الملاحظة صحيحة لجميع الحالات. وتكشف اختبارات تقديرات المعاملات المحدودة أن معاملات فئة دخل الأغنياء تفوق حتما معاملات فئة دخل الفقراء لمتغيرات البقاء والأمية والأطفال الذين يعانون من سوء التغذية. وتُشير اختبارات الدلالة لسبل الوصول إلى المياه الآمنة والخدمات الصحية أنه في حين كون هذه المقاييس أكثر تأثرا وحساسية لدخل الأغنياء منها لدخل الفقراء إلا أن الفروقات غير ذات أهمية من ناحية إحصائية. وبشكل عام وأهم من ذلك، لا يوجد ما يدل على أن الفقراء لا يستفيدون من مكاسب الدخل للأغنياء، كما تدل عليه مقاييس الفقر الواسعة والراسخة على الأقل.
وتستحق نتائج الأطفال الذين يعانون من نقص التغذية اهتماما خاصا. فيكون معامل دخل الأغنياء سالبا وهاما وذا مغزى حيث يشير إلى أن الزيادة في دخل الأغنياء تقلل من مقياس سوء التغذية للأطفال. في حين يكون معامل دخل الفقراء موجبا ولكن بشكل ضئيل وغير ذي أهمية. ويفترض أن يعكس التقدير علاقة خطية متعددة. إن إجراء تحليل انحداري لمتغير نقص التغذية على دخل الفقراء فقط يؤدي إلى خفض نسبة الأطفال الذين يعانون من نقص التغذية. ومع ذلك، يكون تقدير التحليل الانحداري البسيط المشابه لدخل الأغنياء أكبر بشكل جوهري.[2] وعليه يكون التفسير الأسهل والأكثر احتمالا أن العلاقة بين دخل الأغنياء والأطفال الذين يعانون من نقص التغذية سالبة وقوية، ولكن العلاقة بين دخل الفقراء والانخفاض في سوء تغذية الأطفال أضعف وربما تكون غير موجودة.
يبدو واضحا من البيانات المتوفرة لدينا أن زيادة دخل الأغنياء تؤدي إلى تناقص في مستوى الحرمان الإنساني بدرجة أكبر من زيادة دخل الفقراء. التفسير الآخر هو أن قياس الخطأ لدخل الفقراء أكبر من قياس الخطأ لدخل الأغنياء. هناك العديد من المشاكل المتعلقة بالقياس والمرتبطة بالدخل والرفاه البشري في بلدان العالم ذات الدخول المنخفضة. ويفترض أن تكون مشاكل القياس أكثر حدية لسكان المناطق الريفية. ووفقا لذلك، من الممكن إظهار أن العلاقة الأضعف بين دخل الفقراء مقابل دخل الأغنياء في علاج الفقر الإنساني تعزى إلى صعوبة قياس الدخل الحقيقي لأكثر الشعوب فقرا في العالم. ولكن هذه الحجة نفسها تعاني من بعض الضعف لأنه وللمدى الذي يمكن لنا أن ننسب هذه المشكلة إلى الانقسامات بين المدن (الحضر) والريف، يجب أن يعتبر متغير الحضر ما يفسر هذه الحقيقة في التقديرات.
إن الأمر الأكثر ارتباطا هو دور النمو الاقتصادي في الحد من الفقر. فالرأي المتعلق بنظرية الانسياب للأعلى والنظرة المتحيزة لنظرية الانسياب للأسفل—والانسياب هنا يشير إلى انسياب طفيف—يستندان بشدة على الرأي القائل أن “نوعية النمو” وإعادة توزيع منافع النمو الاقتصادي يؤديان إلى التخلص من الفقر وليس النمو بحد ذاته. النتائج الموثقة في الجدولين 2 و3 يتحديان ذلك التصريح. لنفترض على سبيل المثال أن البلدان الفقيرة في العالم تعاني من معدل نمو اقتصادي يبلغ 5% سنويا. بعد خمسة سنوات سينتج عن الدخل المركب زيادة تقدر بحوالي 27.62%. وبتجاهل أثر مجموعة الدخل الأخرى، فإن تأثير نمو دخل الطبقة الغنية سيخفض معدل الوفيات (“الوفاة قبل 40”) بنحو 3.76%، في حين أن زيادة دخل طبقة الفقراء ستخفض معدل الوفيات بنحو 2.55%.[3] وبالتالي، وإذا تساوت جميع العوامل الأخرى، فإن تخفيض الفقر بواسطة نمو دخل الطبقة الأكثر ثراء سيولد أثراً أعظم من تخفيض الفقر الذي يُنسب إلى نمو دخل الطبقة الفقيرة. ومع ذلك، فإن دخل الأغنياء والفقراء لا ينموان بهذه الطريقة، بل في الواقع ينموان سويا كما هو موثق بوضوح في الجدول 1. والأهم من ذلك أن البيانات تُشير إلى إنخفاض الفقر عندما يزداد الغني ثراء. وعليه، يجب أن يُعزز النمو الاقتصادي رفاه الفقراء والأغنياء.

من الممكن أن يتم فحص دور النمو الاقتصادي في تحسين الفقر مُقاسا بواسطة مؤشر الفقر الإنساني مباشرة. ويحتوي الجدول 4 تقديرات التحليل الانحداري لتأثير النمو الاقتصادي، مقاسا بالنسبة المئوية لمعدلات النمو للناتج المحلي الإجمالي للفرد لمراحل زمنية متعددة، على مؤشر الفقر الإنساني. ولأغراض التحقُّق، تم شمول المستويات الأولية للناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد في التقديرات لضمان من أن النتائج تتعامل مع النمو ولا تقتصر على توزيع الدخل عبر البلدان.[5] وتبين النتائج أن معدلات النمو لجميع الفترات تُعتبر محددات هامة لمعدلات الفقر، وتكون الإشارة سالبة في جميع الحالات—أي أن النمو الاقتصادي يؤدي إلى خفض معدلات الفقر. علاوة على ذلك، فإن القوة التفسيرية لمعدلات النمو تزداد نوعا ما بطول الفترة، مع حدوث القوة القصوى في تقديرات الفترة 1970-90.

إن استعمال مكونات مؤشر الفقر الإنساني في تحليلات انحدارية مماثلة في الجدول 5 وباستخدام التقديرات الواردة في الجدول 4 ذات القيمة الأعلى لـ R2 المُعدلة (تقدير 1970-90) يُعطي مزيدا من الدلائل على منافع النمو الاقتصادي للفقراء. وعلى الأخص، في حالة زيادة النمو الاقتصادي بمقدار انحراف معياري واحد عن متوسط النمو للفترة 1970-90 (أي بمقدار 0.44)، عندها ستزداد نسبة السكان الذين سيتجاوزون سن الأربعين بحوالي 6 نقاط مئوية. وعند متوسط العينة، سيكون هناك انخفاض في النسبة المئوية لأولئك الذين لا يعيشون ليبلغوا سن الأربعين من 21% إلى حوالي 15%.
إن الفقر في جنوب صحراء إفريقيا مسألة مزعجة للغاية. وأحد اختبارات قوة النمو الاقتصادي للحد من الفقر هو البحث في سجلات 25 دولة إفريقية. وبإجراء تحليل انحداري لمؤشر الفقر الإنساني على المتغيرات الجغرافية ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ونمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (باللوغارثمات)، يتم الحصول على التقديرات التالية:[6]

وبإجراء تحليل انحداري لنسبة السكان الذين لا يعيشون ليبلغوا سن الأربعين، وعلى نفس المتغيرات، فإن ذلك يؤدي إلى التقديرات التالية:

تُظهر التقديرات أعلاه أن البيانات في الجداول 4 و5 تتماشى أيضا مع النتائج لجنوب صحراء إفريقيا. وفي كلا التقديرين، يكون معامل النمو طويل الأمد سالبا وشديدا—أي إن النمو الاقتصادي هو أقوى متنبىء بالانخفاض في درجة الحرمان. وتُبين اختبارات F لمساواة المعاملات أننا لا نستطيع أن نرفض المقترح أن معاملات عينة إفريقيا لا تختلف بشكل ذي أهمية عن معاملات العينة الكاملة.[7]

الخاتمة
يرتبط دخل الفقراء بشكل وثيق مع دخل الأغنياء. وبينما هذه العلاقة ليست تناسبية بالتساوي، فهي جديرة بالذكر. حيث ترتفع دخول الفقراء بارتفاع دخول الأغنياء بمقدار أكبر من العكس. والأهم من ذلك أن لدخل الأغنياء الأثر الملموس في الحد من مقياس الأمم المتحدة التقليدي للفقر. وبشكل ملحوظ، يؤدي النمو في دخل الأغنياء إلى التخفيض التناسبي لآثار الفقر وبمقدار أكبر من الحالة التي يزداد فيها دخل الفقراء. إضافة إلى ذلك، فإن النمو الاقتصادي يخفض الفقر بشكل واضح. والنتائج التي تم الحصول عليها لبلدان جنوب صحراء إفريقيا لا تختلف بشكل ملحوظ عن باقي دول العالم.
إن مصطلح “الانسياب للأسفل” مصطلح مغلوط: فالنمو في الحقيقة يستلزم شلالا وليس قطرة. وقد تكون نوعية النمو مهمة، ولكن النمو نفسه هو أضمن السبل نحو التقليل من الحرمان الإنساني حول العالم.
ملاحظات:
[1] تم استعمال منحنى لوغارثم الأرجحية. ولقد تم إضافة الرقم 1 إلى المتغير التبعي لمتغيرات مياه الشرب الآمنة والخدمات الصحية لتفادي أن يكون اللوغارثم صفرا.
[2] معامل دخل الفقراء هو -0.46 ومعامل دخل الأغنياء -0.82.
[3] تم الحساب على أساس مقاييس متوسط العينة “الوفاة قبل الأربعين”.
[4] إحصاء F في العمود الأول هو الاختبار بأن معامل الدخل للفقراء يساوي معامل الدخل للأغنياء؛ إحصاء t يظهر بين القوسين.
[5] يمكن اعتبار متغير مستوى نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي كمعدل “مستقر” طويل الأمد بالمعنى التقليدي للاقتصاد الكلي، واعتبار معدل النمو الفعلي بمعدل النمو الفائض.
[6] تم استعمال منحنى لوغارثم الأرجحية مرة أخرى للمتغير التبعي.
[7] لمؤشر الفقر، F = 0.03 و p = 0.034. ولنسبة الوفاة قبل سن الأربعين،F = 1.01 وp = 0.327.
[8] ∆(النتاتج المحلي الإجمالي) هي النسبة المئوية لمعدل النمو للنتاتج المحلي الإجمالي الواقعي للفرد بين عامي 1970 و1990؛ إحصاء t يظهر بين القوسين.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 4 تشرين الأول 2006.

peshwazarabic8 نوفمبر، 20100

1. عملية التحـــول

إن ما سأطرحه في هذه الورقة سوف لن يكون لا أكثر ولا أقل ملخصا نموذجيا وصفيا للمرحلة الراهنة من عملية التحول في بلادي وفي كل مكان في أوروبا الوسطى والشرقية. لقد وجدت من المناسب أن أقوم بالدفاع عن النتائج التي تحققت، نظرا لان عملية التحول التاريخي هذه، بالرغم من كافة المشاكل القائمة، تعتبر عملية تحول ناجحة من الناحية المبدئية. ومن هنا، فإن من واجبنا أن نفهم بشكل أكثر عمقا الآلية الاجتماعية المذهلة التي تجعل من تحقيق مثل تلك العملية ممكنا وتصف التفاعل الدقيق بين العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية أثناء التطبيق.
إن خلفيتي النظرية وخبرتي العملية تنبئاني بان التغير في النظام، والذي كنا قد خبرناه عندما كان يجري تفكيك الشيوعية في بلادنا، هو عملية تطورية وليس عبارة عن ممارسة في مجال الاقتصاديات التطبيقية أو في العلوم السياسية. فالتغير في النظام يعتمد على مزيج معقد جدا من الأحداث المخطط لها وغير المخطط لها والمقصودة وغير المقصودة، أو هو، عند صياغته بطريقة مختلفة، قائم على مزيج من النوايا المقصودة والعفوية. ومن خلال المشاركة في مثل هذه العملية قمنا بفتح فصل آخر من فصول كتاب لم يجر إكماله مطلقا مخصص لدراسة الدور النسبي للعمل الإنساني والتصميم الإنساني في تاريخ البشرية، وقد تم تكريس الكتاب لدراسة “الأنظمة الصنعية” و”نظريات المبادلات” (من الاقتصاد السياسي)، عند استخدام المصطلحات “الهايكية” الشهيرة (نسبة إلى عالم الاقتصاد هايك). وآمل أن نتمكن من إضافة شيء ما إلى تلك الدراسة. وربما يجوز لنا أن نؤكد بأن التحول الناجح لا يكون نتيجة برامج عمل إصلاحية تفصيلية موضوعة بين أيدي سياسيين إصلاحيين من ذوي السلطة المطلقة، والأصح هو أن النجاح يعتمد على نشاط غير مقيد تقوم به كائنات بشرية إضافة إلى “استدلالية متواضعة” في انتقاء قواعد أساسية وفي تشكيل سياسة تحولية.
إنني اعتقد بأن أي موقف سلبي تجاه أية استدلالية طموحة وتجاه كافة أشكال تنظيم مواطنين أحرار هو أحد إفشاءات الحقيقة الأساسية بالنسبة لنا جميعا. ولقد تعلمنا بأن لهذه الفكرة صلة وثيقة بموضوع توضيح التغيرات التي تطرأ داخل نظام قائم بقدر صلتها بالانتقال من نظام اجتماعي إلى نظام اجتماعي آخر. وبالنسبة لبلداننا التحولية، يجب عليها، مرة بعد مرة، أن تأخذ حذرها ضد محاولات إتباع قواعد تتابعية يتم إعدادها بطريقة علمية بهدف إعادة هيكلة وبناء مؤسسات سياسية واجتماعية واقتصادية.
إن قدرتنا على التحكم بأحداث اجتماعية تعتبر قدرة مقيدة وأن من غير الممكن أن يتم القيام بإجراءات إصلاحية (أو انتقالية) بشكل مدبر. إنني أشدد على هذه الاستحالة لأننا، من الناحية التقليدية، كان لدينا “إقرار مسلم به” ضد كافة أشكال الاستدلالية السياسية والهندسة الاجتماعية. إضافة لذلك، لقد تعلمنا من الخبرة بأنها من الناحية العملية غير قابلة للتحقيق. ولكي تتم المساعدة في استحداث وسيلة نظام اجتماعي جديد فإن علينا أن نقوم بتنفيذ إجراءات لبرلة ورفع قيود التنظيم (وهي مساهمة غير فعالة تقريبا). ومع ذلك، يجب علينا أيضا أن نستنبط وأن نسن أحكاما جديدة تعمل على تحديد ملامح تلخيصية معينة للنظام الجديد (وهي أكثر من مساهمة إيجابية). وفي النهاية، يجب علينا أن نقبل وجود عملية تطورية عفوية تعمل على تأسيس ترتيبات سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة.
والسؤال الذي يتم طرحه هو هل يتوجب وكيف يتوجب على الآليات المتعددة أن تتفاعل وكيف يمكن للجانب العفوي من عملية التحول أن يكتمل بفضل العقل والإجراءات المقصودة التي تهدف إلى الابتعاد عن الفوضى وعن التكاليف الباهظة للتحول. إنني، قطعا، من خلال طرح هذا السؤال، لا ارغب في الدفاع عن مبدأ الاستدلالية الاجتماعية اليوتوبية بل بالأصح أرغب في التركيز على إجراءات مقصودة منتظمة تعمل على التقصير في عملية التحول والتقليل من تكاليف التحول.
إن التغير في النظام، الذي يبدأ عادة وبشكل غير متوقع بانفجار فجائي من عدم الرضى على المستوى الشعبي، عبارة عن مزيج معقد من النوايا المقصودة والعفوية. ويبدو لي بأن عملية التحول تنتقل عبر ثلاث مراحل أساسية حيث يوجد لكل مرحلة جانب عفوي وآخر مقصود.
2. المرحلــــة الأولى

الجــانب العفوي

تبدأ كامل العملية بانهيار يحدث في مؤسسات وقواعد قديمة بحيث يتم سحبها بعيدا أو جعلها غير فعالة. ولتحقيق هذه النتيجة في الأيام الأخيرة من الشيوعية، كان الوصول إليها بسيطا إلى حد ما ولم يكن الخطر الوشيك يكمن في احتمالية رجوعها بل كان بدلا من ذلك في المبادأة التي بدرت عن دائرة فاسدة من دوائر أنصاف الإجراءات ودوائر التغيرات التطورية المبتورة والتي أدت إلى عدم تحسن سواء في الخصائص الأخلاقية أو في خصائص الفعالية للنظام الجديد. وهذه اللحظة هي التي تمثل أول خطر من أخطار التحول الحاسم. والبديلان الكامنان لذلك هما: وجود عملية فوضوية طويلة، من جهة، والقيام بتشكيل سريع ومحدود تقريبا لنظام جديد متماسك، من جهة أخرى.
من الناحية السياسية، سيتوقف الحزب الشيوعي الحاكم عن السيطرة (حتى أنه في بعض الأحيان يتوقف عن الوجود) ويتم الوصول إلى موقف سياسي بسيط ومحبب جدا والذي هو عبارة عن وحدة مؤقتة على نطاق الوطن. ومع ذلك، سيكون وجود هذه الوحدة وجودا وفق إحساس سلبي فقط (أي أنها ستكون ضد النظام القديم).
عندئذ، سوف تسود غبطة نفسية فريدة جدا من نوعها لا تتكرر وسيكون هناك استعداد كبير للمشاركة الفعالة في السير عكس الماضي وفي التخلص من المؤسسات القديمة وغير الشعبية وحتى في “شد الحزام” وستكون هذه اللحظة هي اللحظة المناسبة من أجل التنفيذ السريع لإجراءات عديدة ومؤلمة.
من الناحية الاقتصادية، سوف يختفي التخطيط المركزي (وقد استخدمت هذا التعبير مع بعض التردد نظرا للغياب المطلق لشيء شبيه بحالة التخطيط المركزي التي تقررت دراسيا في بلادنا) وسيكون اختفاؤه بشكل عملي وفي ليلة وضحاها وستختفي معه الآلية الاقتصادية القديمة وغير الفعالة تماما، لكنها، بالرغم من ذلك، تنسيقية، فتبدأ الأسواق غير المعلنة بالعمل والتي ستكون ضعيفة جدا ومقيدة إلى درجة كبيرة. ومع ذلك، نظرا لعدم رفع قيود التنظيم بشكل رسمي ولعدم لبرلة الأسعار ولعدم التطبيق الواسع لحقوق الملكية المعلنة فسوف يتم منع الأسواق من أداء وظائفها بفعالية. ولكي يتم خلق أسواق حقيقية، يجب على المرء أن يتفاعل وان يطبق مجموعة متماسكة من إجراءات تغييرية للنظام.
الجانب المقصـــود

بالنسبة للنظام السياسي، إننا نفهم بأن اتخاذ إجراءات غير مباشرة ضد الحزب الشيوعي يعتبر غير ضروري أو حتى أنه سوف لن يكون مساعدا، لكن القيام بلبرلة البيئة السياسية يعتبر شيئا كافيا، أي بمعنى أن يتم تأمين دخول حر لأحزاب سياسية ناشئة حديثا. ونتيجة لذلك، فان الحزب الشيوعي، الذي لم يتم إصلاحه أساسا، سيبقى كيانا سياسيا غير هاما وفي المعارضة، في حين إذا تم منع الحزب الشيوعي الأصلي فإن الشيوعيين في الأحزاب التي تمت إعادة تسميتها سوف ينجحون في السيطرة على البرلمان في وقت لاحق كما حدث في في بولندا وهنغاريا.
تبدأ الأحزاب السياسية الجديدة التي يتم إنشاؤها بشكل عفوي في تشكيل رؤى إيجابية عن المستقبل وتحاول أن توضح هذه الرؤى أمام مواطنيها، وهذا يمثل الطريق الوحيد المتبع كي تتحول الوحدة الوطنية (والإجماع) من أمر سلبي إلى أمر إيجابي.
وفي المجال الاقتصادي، يعتبر إنهاء الطريقة الأبوية الاقتصادية القائمة والتي تم انتهاجها—كإجراء راديكالي جريء إلا أنه إجراء “غير بناء”—أمرا حاسما. فالتخلص السريع من الإعانات المالية بكافة أنواعها، والتي تجلب معها تغيرا صاعدا مفاجئا في الأسعار، يجب القيام به دون تردد حيث سيكون في وقت لاحق من الصعب أو من المستحيل القيام بذلك نظرا لأن مجموعات الضغط التي تشكلت حديثا سوف تحاول اعتراضه بطريقة ناجحة. ويجب على السلطات أن تقاوم الالتماسات الخاصة التي تطالب بإجراءات تكميلية “بناءة” بهدف مد يد المساعدة للمؤسسات التي تواجه مشاكل من خلال انتقاء فائزين وخاسرين مستقبليين. وستعمل مثل هذه الحركة المفاجئة على تغيير مناخ البلاد الكلي الذي سيعمل، من الناحية العملية، على تغيير النظام نظرا لأن السلع والخدمات وجميع أنواع الملكيات الاقتصادية سوف تحوز على القيم الحقيقية لها وبشكل فجائي، وسوف لن يكون في هذه العملية مكانا بالنسبة لأي شكل من أشكال النهج التدرجي وبهذا يتوجب القيام بهذا الإجراء الخاص وفق أسلوب “المعالجة الصدمية”. بعد ذلك، سوف تظهر النتيجة والتي هي عبارة عن نشوء طريقة تفكير مغايرة كليا والتي تكون بالضبط ما يعتبر ضروري لكسر السلوك والعادات القديمة، فليس هناك بديل عن ذلك، وليس من الممكن أن تؤدي أية “تعاليم” إلى إتباع سلوك جديد بل يمكن تحقيقها كنتيجة لضرورة محضة فقط.
ويجب، مع إزالة الإعانات المالية، أن يتم البدء باستقرار الاقتصاد الكلي لكونه شرطا مسبقا من شروط لبرلة الأسواق ورفع قيود الأنظمة عنها. وبعد عقود من اختلال التوازنات الاقتصادية الجسيمة على مستويي الاقتصاد الكلي والاقتصاد الجزئي كليهما، فإن السياسات المالية والنقدية يجب أن تكون تقييدية جدا، وإلا فان التضخم السريع سيبدأ بالسيطرة على الأمن الاقتصادي والاجتماعي. ففائض الموازنة (أو، على الأقل، الموازنة المتوازنة) والسياسة النقدية الحذرة جدا (بحيث يكون معدل نمو عرض النقد أكثر بطئا من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي) ليس بالإمكان تجنبهما. وعلى النقيض من ذلك، يجب أن تكون الماليات العامة مستقلة بالكامل. وبدون اتخاذ مثل تلك الخطوات التمهيدية، فان إجراءات لبرلة الأسعار والتجارة الخارجية سوف تمثل حركة غير مسؤولة لا تحل شيئا بل تعمل على تفاقم الصعوبات الاقتصادية القائمة وتجعل من الإجراءات الإصلاحية الأخرى مستحيلة من ناحية التنفيذ.
إن خطوات اللبرلة ليس باستطاعتها الانتظار، ففتح أسواق محلية (عن طريق لبرلة الأسعار) وفتح أسواق خارجية (عن طريق لبرلة التجارة الخارجية) يجب أن تتبع هذه الخطوات. وبدون اللبرلة، لا يستطيع أفراد السوق أن يتصرفوا بعقلانية ولا تستطيع الحكومة أن تخطو خارج التدخل الاقتصادي وليس من الممكن أن تكون لأية آلية تنسيق جديدة فعالية. ويجب أن يصاحب اللبرلة قابلية تحويل عملات داخلي، وتنبئنا خبرتنا بأنه بالنسبة لأي اقتصاد صغير مفتوح، سيكون من المساعد جدا حينما يكون سعر الصرف ثابتا، وبموجب ذلك سوف يصبح ذلك هو المرتكز الإسمي الذي يرتكز عليه الاقتصاد كله والمتغير الثابت الوحيد في النظام. (هناك مرتكزات إسمية بديلة وهي أقل موثوقية وأكثر صعوبة بالنسبة لإدامتها).
وباختصار، تشتمل المهام الرئيسية للمرحلة الأولى على لبرلة سياسية؛ وإزالة الإعانات المالية القديمة؛ وسياسات استقرار مالي ونقدي؛ واستقلالية البنك المركزي؛ وموازنة متوازنة؛ ولبرلة الأسعار والتجارة الخارجية.
3. المرحلة الثانيـــة
رد الفعل العفوي على مرحلة اللبرلة ورفع قيود التنظيم

سوف تكون توقعات المواطنين هائلة لكن النتائج الإيجابية الملموسة سوف لن تكون ملحوظة. وبعد عقود من انعدام التضخم وانعدام البطالة ونمو اقتصادي بطيء ومختل، لكنه ممتاز، ومعيشة بسيطة وغير مجهدة إلى حد ما، فإنه يتوجب دفع تكاليف غياب انعدام التحول. فالتضخم والبطالة (اللذان تتوقف ضخامتهما على نجاح أو فشل خطوات إصلاحية سابقة) يظهران للعيان ويصبح الهبوط المفاجئ في الناتج المحلي الإجمالي وفي مستويات المعيشة شيئا حتميا لا يمكن تجنبه. ومن الصعب أن نقوم بالتوضيح لعامة الناس بأننا سوف لن نعاني من أزمة اقتصادية أو من ركود في نشاط اقتصادي ناجم عن سوء إدارة الاقتصاد الكلي، بل إننا سوف نعاني من غربلة تحولية صحية تتم في الأنشطة الاقتصادية غير القادرة على البقاء.
وكنتيجة لتكاليف التحول الباهظة وغير السارة، فان الغبطة التي تم الشعور بها في السابق سوف تتبخر وسيتم فقدان الوحدة على نطاق الوطن (في الغالب بحسب المفهوم السلبي لها) وستتم الهيمنة بشكل تدريجي على المشهد من قبل رؤى مستقبلية إيجابية متصارعة، وينتج عن هذا الصراع مدى هائل من التذرية السياسية وعدم الاستقرار السياسي المتزايد.
سوف تقوم مجموعات الضغط التي جرى تشكيلها بالبدء بإساءة استخدام الفراغ المؤسسي المتواجد والأسواق الضعيفة والفجوات والفراغات العديدة الموجودة في التشريع المتغير بسرعة وفي عملية الخصخصة التي تم الشروع بها (وخصوصا أثناء الخصخصة العفوية التي تتم لمؤسسات الدولة في لحظة معاناة خصخصتها). فالتباينات بين الثروة والدخل تنمو وتبقى الأسواق غير كاملة مفتقرة إلى شروط المنافسة الكاملة وتقوم الخصخصة بإحداث ثورة في كامل التركيبة الاجتماعية.
عند تلك اللحظة، تأتي نقطة التحول الثانية وهي: إما الالتزام باستراتيجية التحول الأصلية والموقف المنتصر الإيجابي اللاحق أو الفوضى ودائرة نصف الإجراءات الفاسدة والتنازلات التي سيتم تقديمها إلى جماعات الضغط مع خسارة “الكل” الحتمية.
الترتيبات المقصــودة
يجب أن تستقر قواعد النظام الجديد وأن يقوم تشريع جديد بإعادة تحديد قواعد اللعبة. ويجب على السياسيين مقاومة الإغراء بأن يحكموا عن طريق القوانين بدلا من صنع قوانين بشكل فردي خاصة بتحديد قواعد اللعبة.
ويجب أن يستمر استقرار الاقتصاد الكلي، فليس هناك على نحو جازم مكان خاص لسياسة نقدية توسعية أو مكان خاص لسياسة مالية نشطة. ويجب أن يمضي خفض معدل التضخم قدما وأن تتم المحافظة على سعر صرف ثابت.
ويجب أن لا يتم خلق أية اختلالات سوقية جديدة ويجب عدم التباطؤ في رفع قيود الأنظمة المتبقية عن كافة الأسعار وفي التخلص من الإعانات المالية المتبقية وفي الكفاح الضاري ضد كافة أشكال مبدأ الحمائية، كما يجب عدم تقديم تنازلات إلى مجموعات الضغط التي تضج بالأصوات.
هناك مؤسسات خاصة جديدة انبثقت بشكل عفوي لكن الخصخصة المنظمة المستندة إلى مزيج من أساليب نموذجية وغير نموذجية، ما تزال تمثل لب الجانب المقصود من المرحلة الثانية. ويوجد لخصخصة كامل البلاد نطاق وأسلوب ومعنى وهي مختلفة عن الخصخصة في بلاد تكون بها الخصخصة مجرد نشاط هامشي. ويجب أن تكون الخصخصة على نطاق البلاد سريعة وأن تكشف عن مالكين جدد وأن لا تحاول تضخيم إيرادات خصخصة الدولة وعليها أن لا تكون مربكة بحيث تختلط مع إعادة هيكلة (وتحديث) المؤسسات الفردية.
يجب على السياسيين عرض قواعد واضحة وعليهم أن يكونوا عرضة للمساءلة. ويجب عليهم عدم تقديم وعود زائفة. ويجب أن يكون هناك جهدا ناميا لشرح الدور الذي تلعبه الخصخصة بهدف إدامة أو حتى تقوية الإجماع السياسي الهش. وبدون توفر دعم واسع فإن عملية التحول لا يمكنها أن تستمر.
والأحزاب السياسية النموذجية (بدلا من المبادرات المدنية والجبهات الوطنية والمنتديات المدنية) سوف تبدأ بالسيادة، وستتحول، وبشكل بطيء، التذرية السياسية المفرطة إلى بنية سياسية عادية بوجود حفنة فقط من أحزاب سياسية محددة جيدا من الناحية الأيديولوجية (مع حمل أسماء نموذجية).
يجب على السياسة الاجتماعية المعقولة، والتي تتركز على مساعدة أولئك الذين هم فعلا بحاجة إلى المساعدة، أن تلازم التغيرات السياسة والاقتصادية التي تم ذكرها آنفا، ويجب الابتعاد عن برامج الإنعاش المستهدفة بطريقة خاطئة وذات التكلفة الكبيرة بحيث يتوجب إحلال نهج اجتماعي “يسلط عليه ضوء موضعي” محل نهج اجتماعي “تسلط عليه الشمس”، ويجب القيام بسياسة اجتماعية مع بذل الاحترام المطلوب لتلك المجموعات الاجتماعية التي تعتبر خاسرة على المدى القصير في عملية التحول.
يجب، على المستوى الفردي والوطني، أن تتوافق المكافآت مع الأداء، إلا أنه، وعلى المستوى الفردي، لا بد للأجور (وأشكال الدخل الأخرى) أن تكون دون معدل الإنتاجية لبعض الوقت، وأن يبقى، وبشكل مؤقت، سعر الصرف (الذي تم خفض قيمته بشكل مفاجئ قبل لبرلة التجارة الخارجية) دون مستوى تعادل القوة الشرائية. وهذان المبدءان يمثلان أساس “نظرية الفترتين الفاصلتين للتحول” التي قمت بصياغتها مؤخرا. فالأسواق الضعيفة وأصحاب الأملاك الخصوصيين الناشئين حديثا هم بحاجة إلى مثل تلك الفترة الفاصلة لبعض الوقت، فكلما كانت عملية التحول اكثر سرعة كلما كانت الفترة الفاصلة ضئيلة بشكل أكبر. ولتحقيق هذه المهمة، تعتبر الطرق غير المباشرة (سياسات الاقتصاد الكلي التقييدية) مع المقاومة التي تبذل أمام مطالب نقابة العمال المفرطة مهمة أكثر أهمية من الإجراءات المباشرة (تنظيم الأجور).
وباختصار، فان الخصخصة هي ما يميز المرحلتين الأولى والثانية، ويجب أن تتلازم مع استقرار اقتصاد كلي مستمر وترشيد في السياسة الاجتماعية.
4. المرحلة الثالثـــة

إذا كانت الترتيبات المقترحة في القسم السابق ستحقق النجاح فسوف يتم الوصول إلى مرحلة يمكن أن تسمى باسم “مرحلة التحول اللاحقة المبكرة”. والدور الاستثنائي والمؤقت والبناء الذي تلعبه الدولة سيكون قد انتهى وعليها أن تبدأ من جديد بلعب دور نموذجي، بحيث يكون تقريبا غير فعال وغير بناء.
وفي هذه المرحلة أي “مرحلة التحول اللاحقة المبكرة”، من الطبيعي أن تتصف البلاد بوجود أسواق وبنيات اقتصادية وسياسية ضعيفة، وأن تعمُّقها واتساعها (أي الأسواق والبنيات الاقتصادية والسياسية) سوف يعتبر بمثابة التحدي الرئيسي للدولة بما أن من غير الممكن القيام بهما مباشرة من قبل الدولة. ويجب على الحكومة أن تحاول فقط إزالة كافة العوائق أمام الحريات السياسية والاقتصادية قبل أن يستولي في النهاية الأبطال “الشومبيتريون” (نسبة إلى الاقتصادي شومبيتر) على هذه المرحلة وقبل بدء العملية التطورية النموذجية. لقد وصلت جمهورية التشيك إلى هذه المرحلة المبكرة اللاحقة للتحول، ومن الطبيعي أن تكون الأخطار والشراك المتأصلة في هذه المرحلة بحاجة إلى بذل انتباهنا وتدقيقنا بشكل محكم بقدر ما كانت المرحلة السابقة من عملية التحول بحاجة له.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 2 تشرين الأول 2006.

peshwazarabic8 نوفمبر، 20100

حاول أن تتكهن من الذي قال ما يلي: “الضرائب المرتفعة على الدخل المكتسب من شأنها تخفيض العمالة المتاحة، وتخفيض العائد على المبادرات الاقتصادية والتعليم العالي. النمو، والابتكار وتنمية رأس المال البشري، جميعها تصاب بالضرر نتيجة لذلك.”
قد يخطر ببالك بأن الملاحظة قد صدرت عن أحد تلامذة ريغان في سياساته المبنية على مستوى العرض كعنصر أهم في الاقتصاد مثل آرت لافر أو لاري كودلو. أما حقيقة الأمر فهي أن الملاحظة وردت ضمن دراسة واسعة بعنوان “نحو النمو: 2005” صادرة عن مؤسسة التعاون الاقتصادي والتنمية، مقرها باريس، وهي جماعة معروفة بانتمائها للاقتصاد التقليدي.
إحزر من قال هذا: “الضرائب على الدخل المتأتي من العمل والنفقات الاستهلاكية، من شأنها تشجيع أرباب المنازل على الاستعاضة عن السوق القانوني بالنشاطات الخالية من الضرائب—الراحة والاستجمام، الإنتاج المنزلي، واقتصاد السوق السوداء.” قد تظن بأن هذه الملاحظة جاءت من أتباع سياسة ريغان بإبراز عامل مستوى العرض، أمثال جاك كمب، ستيف إنتن، أو مني. والحقيقة أنها جاءت من ستيفن جيه. ديفس من جامعة شيكاغو وماجنس هنريكسون من مدرسة ستوكهولم للاقتصاد.
لقد جاءت شهادتهما في تحليل عدد من البلدان في مؤلفهما عام 2005 بعنوان “العمالة المتاحة وحوافز العمل في أوروبا”، تأييداً لوجهة النظر القائلة بأن الفروق في نسب الضرائب بين البلدان الغنية، تشكل سبباً أساسياً للفروقات الدولية الكبيرة في عدد ساعات العمل.
ديفس وهنريكسون قدّرا بأن زيادة ضريبة من 12.8 نقطة مئوية—بغض النظر عما إذا كانت تلك الزيادة على ما نكسب (ضريبة الدخل)، أو ما نصرف (ضريبة القيمة المضافة)، من شأنها انكماش عدد الشعب العامل بنسبة 4.9 نقطة مئوية، وانخفاض الساعات المقررة بـ122 في السنة بين أولئك الذين ظلوا على رأس عملهم في القطاع الخاضع للضريبة، ورفع نسبة العاملين في اقتصاد السوق السوداء التي لا تخضع للضرائب بنسبة 3.8 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي.
الضرائب تلعب دوراً مهماً. نحن لسنا في حاجة إلى اقتصاديين لامعين من فرنسا والسويد لإثبات ذلك. لقد ذكرتُ بعض الدراسات الأمريكية في تعليق نشرتُهُ في شهر آب 2002 تحت عنوان “اقتصاديات العرض تذهب إلى هارفارد” بما في ذلك بحث وضعه إدوارد بريسكوت، الذي نال فيما بعد جائزة نوبل. وقد وضع نصف دزينة أو اكثر من الحائزين على جوائز نوبل أبحاثاً تتصل بالطرق المعوجة التي تشوه الحوافز نتيجة الضرائب المرتفعة.
هذه سنة انتخابية للكونغرس، لذا فإن السياسيين وكبار الكتّاب يفضلون كثيراً الحديث عن النفقات الفيدرالية كنعمة لا كعبء. إنهم يحاولون بما وسعهم الجهد تغيير الموضوع إلى عجز الموازنة. ولكن وصف الموضوع في إطار كم تقترض الحكومة، بدلاً من كم هي تنفق، يجعله يبدو كأن سقوفاً أعلى للضرائب هي حلول عملية، وليست خطراً داهماً.
إن التركيز على عجز الموازنة هو التظاهر بأن عبء النفقات الحكومية سوف يختفي بطريقة سحرية لو أمكن فقط تمويله كلياً من مداخيل الضرائب القائمة، بدلاً من اقتطاع نسبة صغيرة (2.6 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي) يتم تمويلها من بيع السندات الحكومية، وهذه هلوسة خطرة.
فلو لم تكن الحكومة قد اقترضت مطلقاً حتى سنتاً واحداً (وهو افتراض ليس له معنى بالنسبة للحكومة مثلما أنه لا معنى له بالنسبة للشركات وأصحاب المنازل)، فإن جميع ما يمكن توفيره هو الفائدة على الدين. بيد أن الفائدة على الدين على امتداد الأعوام الأربعة الماضية كانت مجرد 1.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي—وهي أقل نسبة منذ عام 1977، وأقل مما كانت عليه عندما كانت الموازنة تتمتع بالوفر.
وإلى جانب الفائدة، فإن الإنفاق الحكومي هو إما للدفعات التحويلية (الاستحقاقات) أو المشتريات. التمويلات والمشتريات تفرضان عبءً مباشراً على الاقتصاد الخاص، بغض النظر عن كيفية تمويلهما. الدفعات التمويلية عادة، تنوي أخذ المال من دافعي الضرائب الذين كسبوه وإعطائه لأناس آخرين، شريطة أن يتعهد الذين يتلقون المال بأن لا يجهدوا أنفسهم بالعمل، أو يدّخروا الكثير، أو أن يزرعوا محاصيل كثيرة. فإذا سمح بالعمل على الإطلاق، فإنه يعاقب بشدة. أولئك الذين يعملون وهم فوق سن الـ65 عاماً يدفعون ضريبة دخل عقابية على معظم دخلهم من الضمانات الاجتماعية المختلفة، في الوقت الذي يدفعون فيه ضريبة ضمان اجتماعي لصالح فوائد يتلقاها بلا دفع أية ضريبة شخص كسول لا يعمل.
إن مشتريات الحكومة من المباني والأعتدة والمواد والأراضي تقلص توفر تلك الثروات للأعمال الخاصة وترفع من كلفتها. عندما تعين الحكومة بيروقراطيين أو تجند جنوداً، فإن ذلك يرفع من كلفة العمالة في القطاع الخاص. لسوء الحظ، وعلى امتداد فترة السنوات الثلاث القادمة، فإنني متأكد بأننا سوف نتعرّض لاقتراحات غير ذي صلة أو موضوع، حول كيفية تغطية العجز عن طريق رفع نسب الضريبة على أغنى 15 بالمائة في البلاد. ولكن ذلك سوف يتضح بأنه ذو مردود عكسي لأسباب شرحتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وديفس-هنريكسون. حتى كسياسة مبنية على مساواة حاسدة، فإنها لن تنجح.
ليس أن الولايات المتحدة لم تجرب أبداً نسب ضرائب وصلت إلى 50 بالمائة أو أكثر على المداخيل العالية، لقد فعلنا ذلك في فترة قريبة هي عام 1986. لقد كان من نتائج فرض نسب ضرائب عالية على ذوي الدخل العالي أن لم يبق من تلك الطبقة من تضخ عليهم تلك الضريبة. فإذا أعيدت الضريبة على الأرباح إلى 35 بالمائة، على سبيل المثال، فإنني سوف أتوقف بسرعة عن اقتناء أسهم خاضعة للضريبة في حسابي وبدلاً من تحصيل 15 بالمائة على شيء موجود، فإن دائرة الضريبة سوف تحصل على 35 بالمائة من دخل غير موجود.
وقد قدرت دائرة الموازنة التابعة للكونغرس بأن مجموع نسبة الضرائب الفعالة على أعلى مداخيل الـ1 بالمائة من دافعي الضرائب، قد ارتفع من 25.5 بالمائة في عام 1986 (عندما كانت نسبة الضريبة الأعلى 50 بالمائة) إلى 31.4 بالمائة عام 2003 (عندما كانت الضريبة الأعلى 35 بالمائة على الرواتب و15 بالمائة على الأرباح الرأسمالية والأرباح على الاستثمار) وكان مجموع الضرائب يضم الضمان الاجتماعي وضرائب المكوس.
وعلى نقيض صارخ من ذلك، فإن الـ20 بالمائة من أصحاب المداخيل الأدنى في المجتمع وجدت أن مجموع الضرائب الفيدرالية عليها قد انخفضت إلى النصف من 9.6 بالمائة في عام 1986 إلى 4.8 بالمائة عام 2003. والطبقة التي تليها علواً والمشكّلة من 20 بالمائة، وجدت عبء الضرائب عليها يهبط من 14.8 بالمائة إلى 9.8 بالمائة. والخمس في الوسط دفع فقط 13.6 بالمائة من دخولهم في ضرائب فيدرالية عام 2003 بانخفاض من 18 بالمائة عام 1986.
منذ اللحظة التي خُفضت فيها الضرائب الفيدرالية الأعلى تخفيضاً حاداً على الرواتب والأرباح، والأرباح الرأسمالية، كانت هنالك أعداد أكبر كثيراً من الأمريكيين الأغنياء، يدفعون ضرائب أكثر، وبالتالي إتاحة المجال أمام تخفيضات غير مسبوقة على ضرائب الآخرين. فإذا كان هنالك إنسان أحمق يحاول وضع ذلك التاريخ وضعاً عكسياً، عن طريق رفع نسب الضرائب على المداخيل العالية والأرباح، فإن مجموعة أقل من الناس لها مداخيل عالية، سوف تدفع ضرائب أقل كثيراً مما كانت تدفع من قبل. وكل إنسان آخر سوف يدفع أكثر.
النفقات الفيدرالية مشكلة كبيرة وهي في ازدياد. محاولة إصلاح تلك المشكلة بفرض ضرائب عالية على المداخيل العالية، لن يُقدم شيئاً لتخفيض العبء الاقتصادي الذي تمثله النفقات الفيدرالية. ولكنه سوف يخلق قضايا مزعجة أخرى كثيرة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 28 تموز 2006.

peshwazarabic8 نوفمبر، 20100

تبدو أمريكا في حالة من الفزع المذهل بشأن ارتفاع أسعار البنزين. ويعتقد مقدمو البرامج الإذاعية والمدافعون عن الفقراء في التلفزيون ان أعمال الشغب الواسعة باتت وشيكة وان مدنا كاملة ستحترق ما لم يفعل السياسيون شيئا لإنقاذ أمريكا من الليل الاقتصادي الحالك والطويل الذي خيّم علينا. في الحقيقة، ان أسعار البنزين اليوم تأخذ من محفظات جيوبنا عضة اقل مما كان عليه المعيار في الحرب العالمية الثانية.
على سبيل المثال، دعونا ننظر إلى عام 1955، وهو عام يقترن لدى غالبيتنا بالسيارات الكبيرة، والمحركات الضخمة، والوقود الرخيص—أيام المجد الآلي، إذا جاز التعبير. كان البنزين يباع بتسع وعشرين سنتا للغالون. ولكن الدولار الواحد عام 1955 كان يساوي أكثر من الدولار اليوم. فلو استخدمنا دولارات اليوم، لكان سعر البنزين دولارا وست وسبعون سنتا للغالون عام 1955.
ولكن البنزين اليوم يكلف ثلاث دولارات للغالون، إذن فنحن أسوأ حالا مما كان عليه الحال عام 1955، صحيح؟ كلا. لأننا كنا عام 1955 أفقر مما نحن عليه اليوم، إذ كان للدولار وست وسبعين سنتا تأثيرا اكبر على المصروف اليومي (بمعنى أنها كانت تمثل جزءا واسعا من الدخل) من الدولار وست وسبعين سنتا اليوم. إذا ما عدلنا أسعار البنزين ليس مع التضخم فحسب، بل مع التغييرات في معدل الدخل الاستهلاكي لكل فرد (والذي يعرف بالدخل ناقصا الضرائب)، فعليها (أي أسعار البنزين) ان تكلف اليوم خمسة دولارات وسبع عشرة سنتا للغالون الواحد لكي يكون لها نفس تأثير التسعة وعشرين سنتا في عام 1955.
دعونا نأخذ عاما آخرا مقترنا لدينا بأسعار البنزين الواطئة—عام 1972، العام الذي سبق حصار النفط العربي. كان البنزين يباع بست وثلاثين سنتا للغالون الواحد. وإذا ما عدلناه مع التضخم، فان السعر في الواقع كان دولارا وست وثلاثون سنتا في عملة اليوم. وإذا ما عدلناه ثانية في التغييرات التي يُحدثها في معدل الدخل الاستهلاكي للفرد، فيجب ان يكون السعر 2.66 دولارا للغالون لكي يكون له نفس تأثير اليوم.
هل كنا أحسن حالا عندما كنا نقود (سياراتنا) إلى محطة الوقود عام 1972 مما نحن عليه الآن؟ كلا، لان سياراتنا تحصل على مسافة ميلية اليوم أفضل بـ60 إلى 70% مما كانت عليه عام 1972 (22.4 ميلا للغالون الواحد مقابل 13.5 ميلا للغالون). وهذا يوازن أكثر من زيادة الـ10.5% في أسعار البنزين المكيفة وفقا للتغير في التضخم والدخل منذ ذلك الحين إلى الآن.
الآن دعونا ننظر إلى العام 1981، العام الذي تولى فيه رونالد ريغان الرئاسة. بيع البنزين بدولار وثمانية وثلاثين سنتا في ذلك العام، وهي تساوي 2.72 دولارا بعملة اليوم. وإذا ما سويَتْ وفقا للتغير الذي تحدثه في معدل الدخل الاستهلاكي للفرد، فعلى هذه الأسعار ان تكون 4.30 دولارا لكي يكون لها تأثير مساو. يمكن ان تكون هناك ثلاثة أسباب جعلت أسعار البنزين تبدو مرتفعة جدا في نظرنا اليوم. أولا، ان العديدين منا لا يثمنون التأثير الطويل الأمد الذي يمتلكه التضخم على الأسعار. ثانيا، ان العديدين لا يقدّرون مقدار الزيادة في دخلنا بالنسبة للأسعار. وأخيرا، ما زلنا نتذكر عام 1998 جيدا، وهو العام الذي واجهنا فيه أوطأ أسعار للبنزين منذ عام 1949. اذ بيع البنزين عام 1998 بـ1.03 دولارا للغالون، وهي توازي 1.21 دولارا للغالون الواحد في قياسات اليوم. سعر اليوم اكثر من ضعف ذلك، والناس يكرهون الزيادة في السنوات العديدة الماضية، وذلك لأنهم يعتقدون ان أسعار عام 1998 كانت طبيعية. ولكنها لم تكن كذلك.
الآن دعونا نضع الزيادة في أسعار اليوم على أساس المصروفات الحقيقة. ان الأسرة المتوسطة تنفق 136 دولارا للبنزين في كل شهر أكثر مما كانت في عام 1998، و114 دولارا في الشهر أكثر مما كانت تنفق عام 2002. ولكن، صدّق او لا تصدّق، ان الدخل الاستهلاكي الحقيقي (المعدل وفقا للتضخم) لكل أسرة قد تزايد بشكل أسرع حتى من أسعار المضخات؛ بمبلغ 800 دولارا في الشهر منذ عام 1998، و279 دولارا في الشهر منذ عام 2002.
وفقا لذلك، فان الأمريكيين، من حيث المعدل، مازالوا متقدمين اقتصاديا على اللعبة.
لا احد يحب أسعار البنزين العالية. ولكنها ليست سيئة على النحو الذي يعتقده معظم الناس. تذكّروا ذلك ولا تنسوه في المرة القادمة عندما يبدأ احد السياسيين او المدافعين عن الفقراء بتوزيع المعزقات.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 26 تموز 2006.

peshwazarabic8 نوفمبر، 20100

يريد الرئيس بوش مساعدة الأولاد في المدارس العامة الفاشلة. هذا حسن. يريد فعل ذلك من خلال إعطائهم قسائم فيدرالية للالتحاق بالمدارس الخاصة. ولكن هذا شيء سيء.
الرئيس على حق في تفضيله للخيار أمام الآباء والمنافسة بين المدارس. ان للحرية التعليمية تاريخ طويل ولامع يعود إلى أثينا القديمة—الأثينيون أعطونا الديمقراطية (بالرغم من شكلها غير المتطور) ومعظم الثقافة الغربية.
ليس هذا بالشيء الهيّن عندما نعتبر ارث إسبارطة القديمة، رائدة النظام التربوي الذي تديره الدولة، اسما لفرق كرة القدم في المدارس الثانوية.
ولكن إذا ما تناولتَ بالدراسة الخمس وعشرين قرنا اللاحقة من التاريخ التربوي، فستصل إلى نتيجة لا مفر منها: ان تمويل الحكومة للمدارس الخاصة يجلب معه سيطرة حكومية—وكلما ارتفع مستوى التدخل الحكومي، كلما أصبحت المشكلة أكثر جدية.
هولندا مثال جيد. ففي عام 1917، كان الهولنديون في عراك سياسي محتدم حول محتوى مدارسهم الحكومية. فلم تستطع المجاميع السياسية والدينية المختلفة الاتفاق على المنهج الرسمي (الا يبدو هذا مألوفا؟).
وبدلا عن سفك الدماء، توصلوا الى فكرة ألطف وأكثر اعتدالا: هي ان يمولوا أي مدرسة عليها طلب شعبي واضح. فيحصل الكاثوليك على مداس كاثوليكية، ويحصل الكالفينيون على مدارس كالفينية، وهلم جرى. عملت الفكرة كالسحر. وبعيدا عن تقسيم وبلقنة الجمهور، كما يخشى نقاد أسلوب اختيار المدارس الحديث، قامت حرية وتنوع التربية والتعليم بتفتيت الصراع الذي تسبب فيه النظام التعليمي الحكومي.
لحدّ الآن كل شيء على ما يرام، ولكن مع التمويل الحكومي، جاءت السيطرة الحكومية. اليوم، الحكومة هي التي تحدد مستلزمات تراخيص المعلم، وهي التي تحدد مستويات الرواتب، وتبت في طرد المعلمين، وتحدد جوهر المنهج الدراسي، وتحدد مدى الإنفاق، وتجعل من غير الشرعي اخذ مبالغ إضافية فوق مبلغ القسيمة، وتمنع تحقيق الأرباح في المدارس الخاصة. بعبارة أخرى، فان مدارس هولندا الخاصة “المستقلة” قد فقدت استقلالها.
في الحقيقة، مثلما هرب المتطهرون—البيوريتانيون—من كنيسة انجلترا المؤسسة، اعرف العديد من المعلمين الهولنديين الذين جاءوا إلى أمريكا للهرب من غطاء التدخل الحكومي في مدارس بلدهم الخاصة.
هنالك عدة طرق لتخفيف هذا الانتهاك التنظيمي. ان العمل على مستوى الولاية وليس على مستوى الأمة، على سبيل المثال، يمكن ان يلجم “مختبر” الفيدرالية. فالولايات التي أوغلت في تحجيم استقلالية المدارس الخاصة يحتمل ان تنفِّر وتطرد الآباء والمشاريع، مما ينتج رد فعل اقتصادي من شأنه ان لا يشجع الإفراط في التدابير التنظيمية. ان انعدام هذا العامل المخفف على المستوى القومي هو سبب رئيس لمعارضة مقترح الرئيس الفيدرالي للقسائم.
من الحلول المثلى للمشكلة التنظيمية هي تجنب استخدام أموال الحكومة على الإطلاق. هنالك قوتان محركتان تقفان خلف الرغبة في تنظيم المدارس التي تمولها الحكومة: معارضة الدفع للتعليم الذي ينتهك اعتقاداتنا، والرغبة في المساءلة. ان الحوافز الضريبية التعليمية على مستوى الولاية تتصدى لكلا الاهتمامين بشكل أكثر فاعلية من القسائم او الاحتكار الحكومي الموجود.
ان أمريكا في حرب ثقافية دائمة حول المناهج الدراسية في المدارس العامة، كالتفكير بـ”التصميم الذكي”، والصلاة المدرسية، والتعليم الجنسي، وانتقاء الكتب المنهجية، الخ. لقد أزال البرنامج التعليمي الهولندي الخاص الكثير من هذا الصراع، ولكن ليس كله. وفي الوقت الحاضر، هنالك عدم ارتياح في بعض أنحاء السكان الليبراليين عموما بشأن بعض المدارس الإسلامية الخاصة—ولا سيما في ذروة جريمة قتل مخرج الأفلام ثيو فان غوك الدينية الحافز. ولكن إذا ما تم تحجيم الوصول إلى المدارس الإسلامية الخاصة، فان المسلمين الهولنديين المطيعين للقانون سيعانون كثيرا. انه موقف خسارة-لخسارة، متأصل في تمويل الحكومة للتعليم.
ان الحوافز الضريبية تتجنب لعبة المجموع الصفري هذه. ان برنامج حافز ضريبي متكامل في التعليم يتكون من جزأين: حافز للآباء ليستخدموه في نفقاتهم، و حافز للأفراد والمشاريع التجارية التي تتبرع لمنظمات تمويل المنح الدراسية. الجزء الأول يساعد العائلات ذات الدخل المتوسط على دفع النفقات الدراسية لأبنائهم، أما الجزء الثاني فيضمن ان تحصل العائلات ذات الدخل الواطئ أيضا على الموارد التي تحتاجها للمساهمة في سوق التربية.
في ظل هذا النظام، لن يكون الفرد مجبرا على تمويل أي شيء قد يعترض عليه. تتضمن الحوافز الشخصية الناس الذين ينفقون أموالهم على أنفسهم، وتسمح حوافز التبرعات لدافعي الضرائب باختيار منظمة تمويل المنح الدراسية التي يرفدونها بتبرعاتهم. ولا تستخدم أية أموال حكومية.
ان المساءلة لدافع الضرائب تحت ظل الحوافز الضريبية اكبر بكثير من التعليم الحكومي او قسائم التعليم الخاص. ان كنت لا تحب الطريقة التي تنتهجها احد منظمات تمويل المنح الدراسية في تخصيص أموالك، فبإمكانك إعادة توجيه تبرعاتك نحو مكان آخر.
لذا، بينما كان الرئيس محقا في تفضيل الاختيار الأوسع للآباء والاستقلالية الأكبر للتربويين، هناك طرق لتحقيق تلك الأهداف أفضل من التوسع الخطير للتدخل الفيدرالي في مدارسنا. لنترك السلطة التعليمية للولايات وللناس—الذين يكفل لهم الدستور والتعديل العاشر هذا الحق.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 21 تموز 2006.

peshwazarabic8 نوفمبر، 20100

يعد السياسيون والإقتصاديون بالنمو والازدهار ومستوى معيشة أعلى. فما الذي يقصدونه بهذه المصطلحات؟ وهل هناك مقياس موضوعي يستطيع الناس من خلاله أن يحكموا ما إذا كان الشعب في مجتمع ما، أو إذا كانت شعوب العالم تتوقع أن تكون الابتكارات التكنولوجية والسياسية (بما في ذلك المالية) ذات فائدة وتقود إلى تكوين ثروة أكبر؟ فكيف لنا أن نتأكد من أن ابتكاراً مالياً، أو تغييراً في استراتيجية شركة ما أو في سياسة حكومة ما سيحسن من الأوضاع داخل المجتمع أم سيزيدها سوءاً؟
والإجابة هي أن التغيرات في إجمالي القيمة السوقية للمؤسسات (القيمة السوقية للدَّين والحصص) في مجتمع ما مضافاً إليها القيمة السوقية للالتزامات المستحقة على حكومته ستكون أفضل تقدير نستخدمه للتوصل إلى مثل هذه الأحكام—في حال أصبحت الأسواق المالية عميقة وشفافة. زيادة هذا المجموع تعني أن قدرة المجتمع على توليد عوائد وتسديد الدَّين—سواء كان هذا عاماً أوخاصاً—قد زادت. والعكس: عندما يقل هذا المجموع (وهو يقاس بواسطة وحدة ثابتة نسبياً، عوضاً عن أي عملة معينة)، يشير الناس إلى أن حكومتهم أو إدارات شركاتهم تتخذ قرارات خاطئة وتصر عليها. والسبب بسيط: تَحوْل الأسواق المالية المتطورة التي تخلو نسبياً من العراقيل دون الاستمرار في ارتكاب الأخطاء. وبعمل ذلك، تعاود توجيه استخدام رأس المال وتضمن أن المدخرات ورأس المال موزع بطريقة أكثر فعالية.
وعندما يتضاءل المجموع المذكور أعلاه، إلى أين تذهب الثروة؟ هذا يعتمد. فكلما قلت مقدرة رأس المال والشعب في التحرك، كلما أمكن النظر أكثر إلى القيمة المتضائلة على أنها خسارة دائمة. تنصهر تلك الأشياء المتوقع أن تظل ثابتة، وهي جهد الناس وإبداعهم. ويمكن توقع حدوث أخطاء أكثر، وأن يدوم تأثيرها وقت أطول. وهكذا فإن النقصان يعكس توقعات متضائلة بتوليد عوائد مستقبلية (نظراً لأن كل خطأ يعتبر تكلفة). وتوليد عوائد مستقبلية يعني النمو والقدرة على تسديد الدين. ومع ذلك عندما يتحرك رأس المال والشعب، فإن الثروة التي تختفي من بلد ما تظهر مرة مجدداً في بلدان أخرى.
ثمة بضعة أمثلة توضح تلك النقاط أفضل من الثروة التي كونتها حالات الشتات المتعددة عبر التاريخ –الأرمن، والهوغونوتيون، واليهود، والمهاجرين الفقراء من أوروبا الذين أسسوا القارات الأحدث. (ترك بعض الأغنياء أوروبا.) أجبرت السياسة والأنظمة المهاجرين على ترك مواطنهم. دعنا نلقي نظرة سريعة على كيف أدى انتقال أكثر الناس موهبة ونشاطاً إلى كثير من “معجزات” العالم الاقتصادية.
حقائق وراء تحقيق معجزات

حظيت قصص أسطورية لمجتمعات فقيرة أو معدمة قفزت بين عشية وضحاها إلى مراتب أعلى من غيرها بإعجاب ورمقت بحسد وأثارت نقاشات حادة حول سبب تداعي الأغنياء وارتقاء الأفقر. لم تثر ثروات الدول المنتجة للنفط في الشرق الأوسط مثل هذه النقاشات لأن تلك الدول تندرج في عداد نموذج الدول التي “تعثر على كنوز”. ولكن كيف تقوم المجتمعات بذلك وهي لا تفتقر إلى الموارد الطبيعية فحسب بل أنها تعاني من الكوارث؟ وهل يمكن أن تواكبها دول أخرى وتحقق نسب نمو عالية مشابهة؟
لم تكن معجزة القرن السابع عشر في أوروبا إسبانيا ولا البرتغال وكلاهما تندرجان في عداد نموذج الدول التي “تعثر على كنوز”، بل هولندا وأمستردام اللتان تقعا تحت سطح البحر واللتان تكونت ثرواتهما على الرغم من العقبات الطبيعية. كما كان هناك ألمانيا الغربية التي بزغت بإعجاز من أتون الحرب العالمية الثانية. وهناك أيضا معجزات آسيوية تسترعي انتباهنا مثل هونغ كونغ وسنغافورة. كما أن هناك نموذج إسكتلندا الذي يكاد يضيع في طي النسيان، والذي يعلمنا درساً خاصاً.
فما هو القاسم المشترك بين كل تلك المعجزات؟ فالهولنديون شكلوا أول جمهورية أوروبية، كانت تستوعب كافة الأديان (في الوقت الذي كانت فيه باقي أوروبا تميز بقسوة ضد الكثيرين) وفيها حقوق راسخة للمُلكيات، وهو ما أوجد فرص لتجارة غير معاقة نسبياً وابتكار مالي.
ولكن سيكون من المضلل القول أن الفضل في هذا يعود للهولنديين. فقد جذب انفتاح الجمهورية الجديدة إلى أمستردام تجاراً مهاجرين متعلمين ولهم صلات ومصرفيين (من شمالي إيطاليا)، وكان اليهود والهوغونوتيون الذين كانوا يعاملون بتمييز ضدهم في أماكن أخرى في أوروبا من أبرزهم. إذ أنهم ساعدوا في تحويل أمستردام إلى المركز المالي والتجاري لعالم القرن السابع عشر. كان فيها أول بورصة مالية في العالم، حيث تاجر الفرنسيون، وأهل البندقية، والفلورنسيون، والجنويون، والألمان، والبولنديون، والهنغاريون، والإسبان، والروس، والأتراك، والأرمن، والهندوسيون، ليس فقط في الأسهم بل أيضاً في اشتقاقاتها المعقدة.
كان الكثير من رأس المال المستثمر في أمستردام ملكاً لأجانب، أو لأمسترداميين ولدوا في الخارج. كان هناك “عولمة” خلال القرن السابع عشر، حتى وإن لم يكلف أحداً نفسه عناء استخدام المصطلح. ووجه الاختلاف بين ذلك الوقت والزمن الحاضر هو في جزء كبير منه بالطبع سرعة تدفق المعلومات. لم يكلف ماكس ويبر نفسه عناء النظر إلى نماذج الهجرة عندما جاء بفكرة أن الدِّين (أخلاقيات البروتوستانت) كان له بشكل أو بآخر علاقة بنجاح أمستردام المنظور. على الرغم من أن فكرة ويبر اقتبست على نحو متكرر كافٍ لجعلها تبدو حقيقة، فإنها لم تكن صحيحة في أمستردام أو في أي مدن أو دول تجارية مزدهرة أخرى. فقد حول التجار المهاجرون المتعلمون، ولهم شبكات حول العالم، أمستردام القرن السابع عشر إلى “معجزة”. وكانت نفس العوامل وراء تحقيق معجزات أخرى أيضاً.
وتشترك هامبورغ، وهونغ كونغ، وسنغافورة، وتايوان، وألمانيا الغربية من الناحية التاريخية مع تاريخ أمستردام، ولكن الدِّين المشترك ليس عاملاً. إذ وفرت الحكومة مظلة قانون ونظام في كل من هذه الأماكن، وفرضت ضرائب منخفضة نسبياً ومنحت الشعب حصة من الذي كان يحققه مجتمع الأعمال، وبذلك تم جذب المهاجرين وأصحاب المشاريع الفردية من مختلف أنحاء العالم.
صمم السير ستامفورد رافلز سينغافورة لتكون ميناءاً في بداية القرن التاسع عشر، ودعمه بنظام إداري قانوني بالإضافة إلى نظام تعليمي كان مفتوحاً لكافة الأطياف العرقية. جلبت التجارة والأمن الازدهار للمهاجرين المفلسين من إندونيسيا، والصين بشكل خاص. عرضت تايوان (بعد القرن السابع عشر) وسينغافورة وهونغ كونغ على المهاجرين فرصاً كانوا محرومين منها في الصين، التي كان يسيطر عليها في البداية أمراء الحرب وبيروقراطية تميز طبقياً ومن ثم بيروقراطية شيوعية. استفادت هونغ كونغ من أمواج المهاجرين القادمين من الصين، لا سيما من تدفق تجار شنغهاي والممولين عندما “حرر” ماوتسيتونغ الصين في عام 1949، مثلما ارتقت أمستردام حين فر التجار والممولون من شبه الجزيرة الأيبيرية في قرون مبكرة، وفر الهوغونوتيون من فرنسا، وفر اليهود من كثير من أجزاء أوروبا.
كان المهاجرون من شنغهاي أول من بدأ في صناعة النسيج والشحن في هونغ كونغ. وأسست تلك الشعوب أيضاً شبكة من التجار والمتداولين في التجارة ورجال المال وأصحاب المصانع كما فعل اليهود، والإيطاليون، والأرمن، والفارسيون، وجماعات أخرى من المهاجرين على مر التاريخ في أنحاء مختلفة من العالم.
خطة مارشال
تندرج معجزة ألمانيا الغربية خلال الحرب العالمية الثانية في عداد هذا النموذج أيضاً، على الرغم من أن نجاحها مقرون بخطة مارشال في ذاكرة الشعب. ولقد تمت المبالغة في أثر تلك المساعدة بحجم كبير. فالمؤرخون والاقتصاديون (المدعومون من قبل حكومات) يجيدون خلق الأساطير وتخليدها. تكون الأساطير أحياناً عن الوطنية، وتشير على نحو مضلل أن الفضل في المعجزات الاقتصادية يعود إلى ذكاء الشعب الذي يعيش داخل حدود وطنية مرسومة. وتكون أحياناً أخرى عن الأدوار المفيدة بشكل كبير التي تلعبها المساعدات الخارجية. كلا النوعين من الأساطير يبرر بصورة ملائمة زيادة النفوذ الممنوح للحكومة.
قدَّر الاقتصاديون أن مساعدات خطة مارشال، في فترة ما بين عام 1948 وعام 1950 بلغت ما بين 5 و10 في المئة من إجمالي الناتج القومي الأوروبي، مع أن هذه الأرقام مشكوك فيها. فإن الإحصائيات الأوروبية من تلك الفترة تقلل بشكل كبير من قيمة الدخول الوطنية بسبب الأسواق السوداء المنتشرة جراء تنظيم الأسعار وجني الضرائب عن طريق المصادرة. وبعد كل ذلك لم تحدث أية معجزات في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، عندما قُدر بأن القروض والمساعدات لأوروبا بلغت أيضاً نسبة 5 في المئة تقريباً من إجمالي الناتج القومي الأوروبي. صحيح أن التعرفات حول العالم قلت بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما لم يحدث بعد الحرب العالمية الأولى. والاستنتاج الأصح كما يبدو هو أن المعجزات مرتبطة بتعرفات أقل أكثر من ما هي مرتبطة بالمساعدات الخارجية.
إذن ما الذي تسبب في معجزة ألمانيا الغربية؟ في فترة ما بين عام 1945 وعام 1961 استقبلت ألمانيا 12 مليون مهاجر، ومعظمهم مدرب في صورة جيدة. كان نحو 9 ملايين منهم ألمان من بولندا وتشيكوسلوفاكيا. وهرب الآخرون من جنة ألمانيا الشرقية الشيوعية. على الرغم من أن انتقال رأس المال البشري ذلك لم يذكر في الكتب في ذلك الوقت، يمكن أن نستدل على أهميته من كون نسبة العاملين إلى عدد السكان في ألمانيا الغربية في الخمسينات والستينات أكبر بكثير من نسبة العاملين إلى عدد السكان في بلدان أخرى: 50 في المئة في ألمانيا مقارنة ب45 في المئة في فرنسا، و40 في المئة في المملكة المتحدة، و42 في المئة في الولايات المتحدة، و36 في المئة في كندا. وعندما توقف تدفق الأوروبيين، وصلت أمواج جديدة من موظفين صغار في السن ومهرة من أراضي حوض البحر الأبيض المتوسط. وبكلمات أخرى، لا تعود معجزة ألمانيا الغربية للمساعدات الخارجية وإنما لنفس الملامح التي تسببت في تحقق معجزات سابقة ولاحقة في أماكن أخرى؛ هجرة عمال مهرة ومعدلات ضرائب أقل بكثير.
المعجزة الاسكتلندية
يوضح الدرس الاسكتلندي، الذي لا يُذكر إلا نادراً في كتب التاريخ، الأمور الأخرى التي يمكن أن تقف وراء تحقق المعجزات الاقتصادية. في عام 1750 كانت اسكتلندا بلداً فقيرة جداً. كانت نوعية أراضيها رديئة وكان شعبها غير متعلم يعمل في الزراعة التي تسد رمق العيش؛ لم يكن هناك أنهاراً صالحة للملاحة؛ وعرقلت جبال قاحلة وتلال صخرية الاتصالات. كان التبغ المصنع أهم صادراتها في ذلك الوقت. ومع ذلك وبعد أقل من قرن، تصدرت اسكتلندا مع انجلترا صفوف الدول الصناعية في العالم؛ فقد كان مستوى المعيشة فيها نفس مستوى المعيشة في إنجلترا، بينما كان أقل بكثير في عام 1750. فكيف قام الاسكتلنديون بذلك؟
جعل اتحاد عام 1707 اسكتلندا جزءاً من انجلترا. وأصبحت تخضع لنظام الضريبة والقانون والعملة الإنجليزي، وسمح لها بدخول الأسواق الإنجليزية. كما ألغى الاتحاد أيضاً البرلمان الاسكتلندي، تاركاً اسكتلندا دون إدارة منفردة حتى عام 1885. وتبين أن ذلك أفضل نعمة (يذكرنا بنجاح هونغ كونغ لاحقاً تحت الحكم البريطاني البعيد)، لأنه منع النظام المصرفي والأسواق المالية من أن تصبح أداة لتمويل حكومي. والنتيجة كانت سوقاً مالياً نما تجاوباً مع متطلبات الاقتصاد الخاص.
ومع حلول عام 1810 أصبح هناك 40 بنكاً مستقلاً. كان التشدد في ذلك الوقت يقضي بأن تقرض البنوك فقط في حال أن القروض مكفولة بضمان سلع في الترانزيت أو قيد التصنيع، وليس لمدة تتعدى 90 يوماً. في المقابل، كانت البنوك الاسكتلندية حرة في أن تقرض لفترات غير محددة ومن دون أي ضمانات مادية. وهكذا فإن خطوط ائتمان البنوك الاسكتلندية أصبحت شرطاً مسبقاً لسندات المخاطرة.
كانت الكمبيالات، وهي موجودات البنوك الرئيسية في بلدان أخرى، الأقل أهمية بالنسبة للبنوك الاسكتلندية. وقدم أكبر حجم من القروض لأصحاب مصانع وتجار تلقوا ائتماناً مشفوعاً فقط بتوقيعاتهم الخاصة مضافاً إليها وجود شخصين أو ثلاثة كضامنين. ازدهرت البنوك بمدخرات ضئيلة وكانت تصدر تقارير مالية غير انتظامية.
يسلط المؤرخ المالي الاسكتلندي إيه. دبليو. كير الضوء على مزية أسواق البلد المالية: “كانت الحصانة النسبية من التدخل القانوني الذي كان يميز النظام المصرفي في اسكتلندا حتى عام 1844 نعمة على البلاد من دون شك، فقد أنقذت البنوك من المضايقات والتمييزات غير الضرورية والقيود التي أعاقت النظام المصرفي الإنجليزي وشوهته. سمح للقطاع المصرفي في اسكتلندا النمو في وقت تقدمت فيه البلد في الثروة والفكر. ليس هذا فقط وإنما تسنى له حتى قيادة البلاد على طريق الازدهار، واستخراج نظام مصرفي صحي وطبيعي، من خبرة عملية، ما كان يمكن أن يتم تحقيقه في ظل رقابة حكومية وثيقة مشابهة لتلك التي مورست في دول أخرى”. أظهر البلد كيفية الازدهار سريعاً، بدءاً من اللاشيء، عن طريق التجارة والتمويل غير المعاق من قبل التعرفات ولكن تحت وقاية مظلة إنجليزية سياسية وقانونية يعتمد عليها. (كان آدم سميث اسكتلنديا كما تعلمون).
قارنوا اسكتلندا في ذلك الوقت بفرنسا، حيث كانت تُرفض أغلبية كبيرة من التراخيص للمؤسسات المالية حتى عام 1857. لم يؤدِّ سوى كساد شديد إلى تحرير الإجراءات. ومع ذلك، حتى في عام 1870 لم تكن الخدمات المصرفية في فرنسا كما كانت في اسكتلندا في بداية القرن، إذ كانت القوانين تحرم الصناعيين الصغار من الحصول على خط ائتمان.
تتميز اسكتلندا عن غيرها ليس فقط بنظامها المصرفي الفريد من نوعه، بل أيضاً بتركيزها على التعليم. في عمل بعنوان “إنتاج العلماء في اسكتلندا” يقدم آر. إتش. روبرتسون الإحصائيات ذات العلاقة. بلغ إنتاج “علماء اسكتلنديين متميزين” أوجهه ما بين عام 1800 وعام 1850، وتضائل بشكل متسارع بعد عام 1870. والسبب؟ هاجر معظم الاسكتلنديين المتألقين ولم يعد هناك معجزة اسكتلندية.
ارتبط سقوط اسكتلندا النسبي في القرن العشرين بمحاكاة التعليم الاسكتلندي المتزايد بالتعليم الانجليزي (بدأت المحاكاة المصرفية بطيئة في عام 1845). لو سُمح لجزء كبير من أكثر الناس حيوية وذكاء في منطقة بالهجرة، وكانت إمكانية الحصول على خطوط ائتمان محصورة بالنسبة لأولئك الذين ظلوا في بلادهم، فما الذي يمكن توقعه غير التدني؟
ثمة دروس أخرى يمكننا الاستفادة منها من الحالة الاسكتلندية. لم تكن المدخرات شرطاً مسبقاً لازدهار الاسكتلنديين. فلم يكن لديهم ما يستحق الذكر. ولم يتلقوا أي مساعدات خارجية. ولكن حالما أتيحت لهم الفرص ونمت الأسواق المالية نسبياً من دون معيقات، لم يدخر الاسكتلنديون فحسب وإنما أيضاً استخدموا مدخراتهم في أفضل ما يكون. وفي اسكتلندا انتقلت المدخرات إلى الشركات الخاصة، في الوقت الذي انتقلت فيه في انجلترا وفي بلدان أخرى إلى الحكومات. لم تكن هناك حاجة لتشجيع روح المشاريع الفردية الاسكتلندية من قبل الدولة. على عكس المعجزات التي ذكرت سابقاً، لم يكن هناك انتقال واسع النطاق للمواهب من جميع أطراف العالم إلى اسكتلندا. ومع ذلك انتهت المعجزة بهجرة الموهبة الاسكتلندية، وتشكيل أسواق مالية أكثر تنظيماً وفرض ضرائب أعلى.
ما هي الدروس؟

هناك دائماً شرارات إبداعية بشرية، وربما تكون موزعة عشوائياً حول العالم. أما الازدهار فهو ليس بسبب الأفكار الجديدة بل بسبب تسويق أفكار جديدة. وتعتمد دوافع تسويق الأفكارعلى فرض الضرائب والوصول إلى الأسواق المالية.
أكبر مزايا الأسواق المالية الخاصة هي أنها تنزع المركزية عن صنع القرارات وتتجنب الاستمرار في ارتكاب الأخطاء. ولذلك عندما تواجه الشركات صغيرة الحجم الاختبارات المالية فإنها تتوسع. ولو أخفقت فإن الخسارة التي يتكبدها المجتمع تكون أقل بكثيرمن خسارة المشاريع الكبيرة التي تشرف عليها الحكومة والتي لا يُسمح لها غالباً بأن تمنى بفشل.
يبرر الإنفاق المستمر على مثل هذه المشاريع جيش كبير من الاقتصاديين الذين ترعاهم الحكومة، الذين يُعتبرون كهنة أوقاتنا، والذين لا يفوتهم أبداً المجيء بنظريات نصف ناضجة لإخفاقات في السوق يجب أن يعالجها منظمون حكوميون وبيروقراطيون أذكياء وزاهدون. ونتيجة خلق الأساطير هي رمي المال الجيد بعد المال السيء.
وقد يقدر اقتصاديون في المستقبل بالضبط كم هي نسبة الأداء المشهود للإقتصاد الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية يمكن أن يعزى إلى الانتقال الضخم إلى أمريكا من قبل أشخاص في غاية المهارة والطموح ولهم صلات جيدة من شتى أنحاء العالم، وقد كان العالم حتى 10 سنوات خلت معادياً للمبادرة والأمل. عندها سندرك كم ساعد تحول ذلك الرأس المال البشري غير المقاس في تغطية كثير من سياسات الولايات المتحدة الخاطئة والمكلفة. وما يجب أن يكون واضحاً من الدليل التاريخي هوأنه عندما وفي حال احتفظ باقي العالم بالأشخاص الموهوبين، فإنه لن يكون بإمكان الولايات المتحدة بعد الآن الاعتماد على جذبهم لتمويه أخطائها المكلفة.
وأمام الحكومات عدد من الخيارات لزيادة معدلات النمو. وإحداها هو عرض حزمة من الضرائب والمزايا لجذب مواهب أكثر ورأس مال من الخارج. ولكن نظراً لأن مثل هذه السياسة تثبط النمو في أماكن أخرى، فإنها قد تؤدي إلى اتخاذ إجراءات مضادة. وتشجيع مزيد من المشاريع المحلية قد يشكل بديلاً أفضل. ويمكن القيام بهذا عن طريق تخفيض الضرائب المفروضة على الدخل والأرباح الرأسمالية، وهو ما سيزيد مبالغ المال سريعاً التي سيكون الناس مستعدين لاستثمارها كرأس مال في المشاريع، كما سيسرع في إعادة توجيه الأموال في اتجاه تمويل المشاريع الفردية. سيؤدي كلا التأثيرين لكفاءة أكبر من خلال تحجيم الأخطاء (وبالتالي التكلفات) التي تحول دون معدلات نمو أكبر.
ما هي أفضل طريقة لتقييم تكوين الثروة عبر قيم رقمية؟ بالتأكيد ليس من خلال الإحصائيات الحكومية التي تعكس مجاميع مُساء قياسها وتتطلع إلى الخلف. إذ أن أفضل مقياس يمكن الاعتماد عليه هو التغيرات الكبيرة التي طرأت على قيمة السندات السوقية التي تقاس بوحدة ثابتة نسبياً من حساب أو ذهب بدلاً من وحدة ورقية معومة. وذلك لأن آراء طائفة واسعة من الناس الذين يدعمون آراءهم بالمال أثبتت أنها تتكهن بشكل أفضل حيال وجهة الأمور من آراء أولئك الذين لا يدعمون آرائهم بأموال.
إن التغيرات في القيمة التي ذكرت سابقاً ليست مؤشراً مثالياً على الذي ستؤول له الأمور. وليس هناك شيئ كذلك. ولكنها أفضل من البدائل كمقياس لتكوين الثروة وهي أكثر موثوقية. والمهم في الأمر هو أن الأسواق المالية يجب أن يكون لديها العمق المناسب. أي أنه على أسواق الأسهم أن تكون قادرة على عكس التوقعات المتعلقة بسياسات الحكومة والبنك المركزي، الذي تؤثر قوانينه وسياساته وأنظمته على إداراة الشركات. فعندما يكون هناك بضعة مصادر للمعلومات في مجتمع ما، أو إذا كانت المعلومات مسيطراً عليها، وكانت أيدي اللاعبين مقيدة، لن تقوم أسواق البورصة بالوفاء بأدوارها. ومن دون العمق المناسب، سيقل اهتمام رأس المال بها.
سوف تشهد المجتمعات التي تضع العقبات في طريق المعلومات لأسباب سياسية، كما فعلت الصين عندما وضعت شينخوا، وكالة الأنباء المركزية الصينية الحكومية، قيوداً على جميع نشاطات الداوجونزالتجارية في البلاد؛ التقلبات الكبيرة في سوق البورصة لديها التي شهدتها سوق بورصة نيويورك قبل قرن، قبل صدور نشرة الداوجونز واستحداث التقارير السنوية. وعندما يحدث ذلك، فلا أسواق الأوراق المالية ولا الإحصائيات الرسمية ستخبرنا كثيراً عما سيحدث بالنسبة للنمو وتكوين الثروة. تذكروا: على الورق، كانت الدول تنمو في صورة رائعة في ظل الشيوعية، ولكن من نشأ منا في ظل الشيوعية يعرف أن الإحصائيات السياسية المتعلقة بالنمو كانت كلها عبارة عن كذبة كبيرة.
علم الاقتصاد الكلي الذي لا يستند إلى أساس علمي
على الرغم من أن علم الاقتصاد الكلي الذي لا يستند إلى أساس علمي كان أسطورة وليس كذبة، فإنه خلف في أعقابه آثاراً مدمرة ومفاجآت غير سارة واضطرابات. فلماذا أصبح أسطورة؟ إن التركيز على المجاميع الوطنية أخفى حقيقة أن الأشياء التي أرادها الناس في بلد كانت تقاس، في حين أنه في أمكنة أخرى كانت الأشياء التي كان يرغب فيها الحكام والمؤسسة الحاكمة هي التي تقاس. طوى النسيان حقيقة وجود افتراض قوي في بداية الأمر بأن وراء العد الإجمالي علاقة بين الحكومات والمواطنين قائمة على تبادل الخدمات، كما لو كانت صفقة خاصة، بعد وقت ليس بطويل. وقادت نماذج علم الاقتصاد التي تلخص عمل الاقتصاد في بضعة معادلات بسيطة لنفس التنبؤات سواء كان “الانتاج” و”المحصول” يشيران إلى شيء كارثي أو شيء إيجابي.
نظراً لأن التوظيف من قبل الحكومة و”محصول” الحكومات أُضيفا، تباعاً، للتوظيف ولكل ما كان ينتج في القطاع غير الحكومي—ونظراً لأن هناك أسباب وجيهة، مع أنها ليست اقتصادية، لتدخل الحكومات أحياناً للقيام بأمور بناءة—ليس من العجيب أن نجد أن النفقات الحكومية أُوجدت لخلق وظائف وتحقيق محصول. ومن خلال استخدام تلك الأرقام بشكل مسلّم به، حوّل الاقتصاديون، بمساعدة من الإعانات المالية الحكومية الكبيرة لمكاتب الإحصائيات وللأكاديميين، فكرة سياسية خادمة للذات إلى جدل “علمي” يبدو محايداً عن الأرقام والطرق الإحصائية، مبقين المؤسسات السياسية بعيداً عن الصورة. وهكذا أصبح علم الإقتصاد الكلي نظرية لا تنطوي على تهديد يمكن تدريسها في العديد من الجامعات حول العالم.
أصبح التلاميذ أساتذة ولم يكفوا عن محاولة فهم أسطورة علم الاقتصاد الكلي ووهم المجاميع القومية الشاملة. ومع حلول الوقت الذي لاحظ فيه بعضهم أن الإمبراطور كان بلا ملابس، قد يكونوا واجهوا ورطة رائد الفضاء كيبلير الذي، برغم عدم إيمانه بعلم التنجيم، كتب بحوثاً عنه لأن الملوك دفعوا له نظير كتابتها.
اضطر الإقتصاديون أن يفعلوا ما فعل وإما أن يخفوا معتقداتهم الحقيقية أو ينسحبوا من المبادرة “العلمية”. بقي الإقتصاديون المتوسطون وحافظوا على المبادرة كأمر مفروغ منه، وكتبوا معظم “المحصول العلمي”، ودققوه، ونشروه وأصروا أن على كل شخص أن يمر عبر قنوات يسيطرون عليها. هكذا تتحول الأفكار الزائفة إلى “علم”.
وكنتيجة، فإن أكبر دليل تاريخي يشير إلى أن الإزدهار سيعاق أقل إذا لم تشكل الحكومات سوى المؤسسات التي تمكّن المشاريع الفردية والأسواق المالية من الازدهار. ويمكن أن نكون على ثقة من أن فكرة أن بإمكان الحكومات غالباً أن تفعل أكثر من هذا هي نتيجة لخلق الأساطير المدعومة حكومياً.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 2 كانون الثاني 2006.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

كما هو حال العديد من العملات، فإن سعر صرف البوليفار الفنزويلي يتمتع بشيء من الثبات. وربما يبدو بالنسبة للبعض أن تحديد سعر صرف ثابت للعملة أمرا عاديا تماماً، بل وحتى طبيعي. فأسعار صرف العملات يبدو أنها تتحرك دون أسباب ظاهرة أصلاً. فلماذا لا نتخلص من اللُّبس الذي تتسم به الحركات اليومية لأسعار العملة صعوداً وهبوطاً؟ لكن، كما هي الحال بالنسبة لأية سلعة، هناك سعر “حقيقي” لكل عملة، وهو سعر دالّ على العرض والطلب. وحين تُطبع كميات إضافية من الأموال فإن هذا يقلل من قيمة تلك العملة، بسبب زيادة العرض. والحقيقة التي تقول إن سعر النفط مقوَّم بالدولار تعزز هذه العملة من خلال زيادة الطلب عليها.
الأسعار الاصطناعية تدفع الناس إلى إيجاد وسيلة لتنفيذ التعاملات بالسعر الذي يعتبر دالا على قيمة السلع أو الخدمات بالنسبة إليهم. والعملات لا تختلف عن ذلك. وفي حين أن سعر الصرف الرسمي تم تثبيته عند مستوى 2.15 بوليفار للدولار، فإن السعر السائد في السوق السوداء حسب الأنباء وصل إلى معدلات عالية عند مستوى 7.1 للدولار. بعبارة أخرى فإن دولة فنزويلا بالغت في  قيمة عملتها بنسبة تصل إلى 325 بالمائة. بالتالي لا عجب أن الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز أعلن يوم الجمعة الماضي عن سعر جديد مزدوج للبوليفار، وهو 4.3 بوليفار لمعظم السلع، و 2.6 إلى واحد للسلع “ذات الأولوية”، مثل المواد الغذائية والكتب.
يشتمل البيان الرسمي الذي أعلن فيه شافيز عن تخفيض قيمة العملة على تعليقين لهما أهمية خاصة. الأول هو أن التخفيض من شأنه تقليص الواردات. وعلى حد تعبير شافيز: “في السنة الماضية استوردنا 90 مليون زوجا من الأحذية. هل هذا معقول بالله عليكم؟ نستطيع أن نصنع كل هذه الكمية بأنفسنا.” الثاني هو أنه أعلن أنه “لا يوجد سبب لدى أي شخص يجعله يرفع الأسعار”، وطالب المواطنين “بإدانة المضاربين علناً”. أية شركة يثبت عليها أنها ترفع الأسعار تكون معرضة لاستيلاء الحكومة عليها.
ملاحظات شافيز حول الواردات تشي بإخفاقه في فهم قيمة التجارة والمنافسة. فهو يخفق في استيعاب السبب الذي من أجله اشترى الفنزويليون هذا العدد الكبير من البضائع الأجنبية، وهي الأحذية في هذه الحالة. ليس السبب في ذلك هو أنهم لا يحبون وطنهم، وإنما لأن الأحذية المستوردة تلبي حاجاتهم على نحو أفضل من غيرها بالأسعار التي يرغبون في دفعها. بطبيعة الحال فإن تخفيض قيمة البوليفار ستجعل الأحذية المصنوعة في فنزويلا أرخص (طالما أنها تستخدم مدخلات الإنتاج المحلية). فإذا لم تستطع الشركات  العثور على نوعية جيدة من الجلود أو الأربطة في السوق المحلية، فإنها ستختار أمراً من اثنين: فإما أن تصنع منتَجاً ذا قيمة متدنية، أو منتَجاً ذا سعر أعلى. في نهاية الأمر سيقرر المستهلكون الفنزويليون ما هو المركّب السليم بين هذين الأمرين. لكن إذا استمروا في شراء الأحذية المستوردة فإن السبب في ذلك هو أن صانعي الأحذية الأجانب أفضل من (صانعي الأحذية المحليين) في تلبية رغبات المستهلكين.
لكن الأمر المثير للقلق حتى أكثر من ذلك هو هجوم شافيز العنيف على أصحاب المشاريع من الفنزويليين. خلال العقد الماضي أو نحو ذلك كانت قيمة البوليفار تتناقص بمعدل سنوي يبلغ حوالي 30 بالمائة، وهي أعلى نسبة، كما تشير بيانات بلومبيرج، بين البلدان الثمانية والسبعين التي ترصد بياناتها الاقتصادية. وفي حين أن التضخم يمكن أن ينشأ عن عوامل متنوعة، إلا أن نسبته إلى “الجشع” على هذا النحو البسيط هو أمر غير سليم أبدا. على سبيل المثال، إن السبب الذي أضر كثيراً بجمهورية فايمار في ألمانيا وجعل الناس يحملون أموالهم في عربات صغيرة لم يكن حدوث موجة هائلة من الجشع، وإنما بسبب طباعة كميات ضخمة من الماركات الألمانية.
في فنزويلا المعاصرة يمكن أن نتوقع أن تكون إحدى عواقب التخفيض هي ارتفاع معدلات التضخم. الواردات المرتفعة الأسعار تعني سلعاً مرتفعة الأسعار، على المستوى الأجنبي والمستوى المحلي، كما هي الحال في الأحذية المصنوعة من جلود مستوردة. ورغم إصرار شافيز على أنه “ليس هناك سبب” يدعو لرفع الأسعار، فإنه حتى وزير المالية الفنزويلي يقر بأن سعر الصرف الجديد سيؤدي إلى تضخم الأسعار. من المؤكد أن المستهلكين الفنزويليين يفهمون هذه الظاهرة، على اعتبار أنهم بدأوا في الاصطفاف لشراء السلع الأجنبية قبل أن يبدأ سريان الإجراءات الجديدة.
يستطيع الرئيس شافيز أن يشن هجوماً عنيفاً على “المضاربين”، لكن حين تقوم إحدى الشركات برفع الأسعار بسبب ارتفاع التكاليف فليس هذا من الشر، تماماً مثلما أنه ليس من الشر أن يرتفع منسوب الماء في حالة المد مع ظهور القمر. وكما هي الحال مع البوليفار، فإن  الانخفاض المصطنع في أسعار السلع في المحلات في فنزويلا من شأنه أن يؤدي إلى نشوء سوق سوداء أو إلى نقص السلع. وعلى حد تعبير أحد المراقبين المحليين “فإن من المستحيل عدم حدوث تعديل في الأسعار. لأنه إذا لم يتم تعديل الأسعار فإن مصيرها هو الاختفاء.”
لكن ما هو أسوأ حتى من ذلك هو أن إصرار شافيز على الأمور التي تؤلف السعر العادل يحمل معه ثمناً خاصاً به. ذلك أن تهديده باستخدام الجيش لم يكن تهديداً فارغاً، حيث أن الأنباء أفادت أنه تم إغلاق 70 محلاً بسبب تغيير الأسعار بطريقة غير قانونية. إن التهديد باستخدام القوات المسلحة يبعث القشعريرة في النفوس، حين ترى رجالاً في ملابس عادية تخفي هوياتهم الحقيقية وهم يغيرون على الشركات بصورة خاطفة لارتكابها جريمة بيع السلع. فضلاً عن ذلك، فإن هذا يؤدي إلى نتائج عكسية، لأن تقلص العرض الناتج عن إغلاق المحلات من شأنه فقط أن يؤدي إما إلى أن ترفع المحلات الأخرى أسعارها أو أنها لا تعاود عرض منتجات جديدة، وبالتالي تترك زبونها خالي الوفاض، وهو الأمر الذي سيحدث على الأرجح في ظل المناخ الحالي.
حين فشلت محاولات كسرى الفرس سرخيس في ردم مضيق الدردنيل بسبب الأمواج العاتية، قيل إنه أمر بجَلد البحر. والرئيس شافيز، شأنه في ذلك شأن الحكام الآخرين، يبالغ في تقدير قوته حين يقلل من مدى قوة وعناد قوانين الطبيعة، وهي في هذه الحالة الطبيعة البشرية. والمفارقة هي أن قرار التخفيض نفسه هو إقرار مُكْرَه بحدود نفوذه وإشارة على قبوله لحقائق السوق. وفي حين أن من المؤكد أن الاقتصاد الفنزويلي سيستفيد حين يتم التداول في عملته عند مستويات أقرب من ذي قبل إلى سعره “الحقيقي”، فإن الأمية الاقتصادية لمهندس هذا الاقتصاد هي نذير شؤم لجمهورية فنزويلا البوليفارية.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

إذا كان النصف الأول من القرن العشرين، قد شهد حربين كونيتين، جلبتا للعالم كارثة إنسانية، ففي النصف الثاني من القرن نفسه، لاسيما العقود الأخيرة منه، شهدت  كثير من الدول الرأسمالية المتقدمة، ذات الاقتصاد الحر نموا مضطردا في الاقتصاد، كما شهدت هذه الدول تحسنا كبيرا في مستوى المعيشة، حيث ازدادت الأجور، وشهدت بلدان كثيرة كأمريكا، وكندا، ودول أوربا الغربية، واليابان في شرق آسيا، ثراء ورفاهية، كما اتسعت دائرة الديمقراطية، لتشمل دولا عديدة، بالترافق مع ازدياد الحريات الشخصية…
وكان أهم حصاد ـ بالمقابل ـ في العقدين الأخيرين من القرن المنصرم، هو تساقط الأنظمة الشمولية، في كل من الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية، بعد أن دب فيها الوهن، وعانى الإنهاك، وما عادت الشعوب تسوغ لحكامها، أسباب الركود، واستمرار الصعوبات الاقتصادية، وغياب المؤسسات الديمقراطية؛ فقد تنعمت الشعوب بالثراء  في النظم الرأسمالية المتقدمة لدرجة كبيرة نسبيا..
فالأمريكيون عادوا إلى مفهوم سياسة الأمس البعيد نسبيا.. أن لا سبيل للعزلة والانغلاق على أنفسنا، فمثل هذه السياسة ستفضي بنا، إلى خفض في مستويات المعيشة لدى شعبنا الأمريكي، إذن، لابد من الانفتاح الاقتصادي على العالم، إذا أردنا لاقتصادنا النمو والازدهار، ولشعوبنا مزيدا من الرفاه، ولأوطاننا قصب السباق في التقدم؛ هكذا كان لسان حالهم …
تتعدد المدارس الفكرية في الاقتصاد العام، وتختلف في رؤاها، لكن في المحصلة، أن هذا الانقسام، والتنافس النظري، لا بد له أن يكون إغناء  للفكر الاقتصادي، ودفعا لمزيد من الإمعان، والتفكر، وأن هذا الاختلاف خير من إجماع خامل في التطابق والتوافق، يفتقد إلى روح الحماس والتقصي في البحث؛ هذا الأمر يذكرنا بمسألة إجماع أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي. في مسألة زراعية  جاء الإجماع  برفع الأيدي  بخمول دون بحث،  أو تقص  واستمزاج  الآراء، فسرعان ما بان خطؤها بعد ذلك؛ بل يرى كثير من العلماء والاقتصاديين ، من أن التنوع في المدارس الفكرية حتى في ميدان الاقتصاد، يغني ذهن الطالب مستقبلا في التحليل الاقتصادي لمشكلات العالم العديدة والمتنوعة، ويساعده في السعي للرقي والإعلاء من المستويات المعيشية للمجتمعات التي يعيش هو في كنفها..
إن حاجتنا للمعرفة الاقتصادية أمر مهم في حياتنا، فهي تحفز الذهن والفكر للوقوف على مسائل اقتصادية عديدة، منها استكشاف حالات السوق، من حيث تقلبات الأسعار، ومعدلات النمو، وتوزيع الدخل، والسبيل الأنسب في كيفية استغلال الموارد، فلا بد للتاجر، للإنسان المتعامل مع السوق، أن يكون على دراية،  بنوعية وكمية السلع التي ينبغي إنتاجها، ولمن يتم استهلاكها، وهنا يقتضي معرفة مستويات الدخول، والقدرة الشرائية، والاستهلاك عند طبقات الشعب وفئاته وشرائحه..
من المعلوم أنه في القرن التاسع عشر؛ أصبح الاقتصاد الحر، هو السائد، في أوربا وأمريكا، وتصدر مبدأ الاقتصاد الحر المعروف: دعه يعمل، دعه يمر.. وجاء مضمونه ملبيا لدعوة العاملين في الشؤون الاقتصادية….
اندارت المنظومة الاشتراكية، بدورها، بعد انهيارها، إلى الاقتصاد الحر، مفضلة اللامركزية، على المركزية المتشددة، التي كانت تتمسك بها الأحزاب الشيوعية في إدارتها لاقتصاد البلد؛ والتي أثبتت عدم فاعليتها ونجاعتها..
في النظم الرأسمالية ذات الاقتصاد الحر، غالبا ما  تؤخذ القرارات الاقتصادية، انطلاقا من استكشاف السوق، وهذه الواقعة تشغل اهتمام الملايين من السكان، وآلاف الشركات الإنتاجية، حيث تتدفق إلى السوق كميات من السلع والبضائع، فكيف تكون عليها الحال، لو انقطع ذلك التدفق ؟ فالسوق بهذي الحالة، هي الوسيط بين المنتج والمستهلك، ويتم على أساس ذلك ومن خلالهما، تحديد الأسعار، وعند زيادة كمية الاستهلاك، من قبل الفرد أو الأسرة، تزداد قيمة السلعة بسعرها، وفقا لمبدأ العرض والطلب، مما يدفع المنتج بالتالي إلى عرض المزيد من السلع، وبالمقابل، إذا ما خف الطلب على سلعة ما، تدنى سعرها، وخف عرضها، ومثل هذا ينسحب على عناصر أخرى عديدة، مثل الأرض، وأجور العاملين رفعا وانخفاضا؛ ويسبب هذا تنافسا بين المنتجين، فيعمد المنتج، بالتالي، للاستعانة بالآلة الأكثر كفاءة، والأغزر إنتاجا، وربما الأفضل جودة، للسلعة المنتجة..لتعالج هذه المعادلة.
لاشك، أنه في العقود الأخيرة الماضية، ومع نهاية الحرب الباردة، توسع نطاق السوق الرأسمالية بانضمام دول أوربا الشرقية إلى سوق الاقتصاد الحر، بعد تفكك المعسكر الشيوعي،  فهل تفلح هذه الدول في التنمية والتطور؟ وهل وصفة الاقتصاد الحر هي العلاج الوحيد للتنمية والتطور؟
في ظل هذا التناقض والتنافس، ظهرت دول جديدة على الساحة، وما زال أمامها المستقبل ينبئ بمزيد من التطور؛ فإلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، برزت كل من اليابان باقتصاد قوي، وتقانة متقدمة متطورة فالصناعة اليابانية هي التي أصبحت تغزو الأسواق دون منافسة قوية، والناس يقبلون على اقتناء منتجاتها على نطاق واسع لجودتها كما هو شائع ومتداول، وأيضا! غدت أوربا المشكّلة بحجمها الكبير، وسوقها الجديدة، وعلاقاتها الواسعة والمتشعبة، هي الأخرى منافسة قوية في السوق، وربما في غضون عقود قادمة، تظهر دول أخرى  جديدة كالصين والهند وسواهما  تتنافس على الساحة الدولية، ومن هنا ينجلي الواقع عن صراع سياسي بين هذه الدول المتطلعة للسيادة الاقتصادية، فالسياسة هو تعبير مكثف عن الاقتصاد بتعبير أحد كبار المفكرين، فمن يخفق اقتصاديا، لا يمكن له أن يكسب سياسيا، فكثير من الشعوب الفقيرة، ترى مستقبلها في صورة الدول المتقدمة اقتصاديا، وعلى هذا الأساس تناضل، لترقى ببلدانها إلى مصاف تلك الدول، والعائق أمام  ذلك هو طبيعة النظم القائمة على شمولية الحكم، لهذا فلا سبيل أمام تلك الشعوب إلا بتغيير تلك النظم، فبعض تلك النظم تنتبه للخطر المحدق بسلطتها فتبدأ بإصلاحات، وتصالح شعوبها، لكن بعضها الآخر يتشبث بالسلطة، ويستميت في الدفاع عن امتيازاته، هذا الفريق في طريقه إلى الزوال حتما..!
© منبر الحرية، 16 أغسطس/آب 2009

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

ينوء العراق تحت عبء تركة تاريخية ثقيلة ورثها عن حقبة الاستبداد العنصري، ليس من اليسير التخلص منها تماماً لمجرد الإدعاء بالحاجة إلى المصالحة، دون البحث في العلل والمعضلات الحقيقة، التي خلّفت أوضاعاً شاذة ومتطرفة من الغبن واللامساواة شملت شرائح واسعة وفئات كبيرة من العراقيين.
تتسم تلك الأوضاع- التي تتجسد اليوم في التركة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الشاملة للنهج العنصري والاستبدادي للنظام الآفل- بتعثر تأسيس دولة الحق والقانون، حتى هذا الوقت، وفشل تكريس دورها كدولة راعية للمساواة بين جميع مواطنيها وضامنة للعدالة السياسية بينهم. إذ لاتزال تلعب، إلى حدّ كبير، دور الوصي على النهج الاستبدادي والمواصل لذهنية الإقصاء والإنكار بحق الآخرين، انطلاقاً من مصادرات أيديولوجية، هي إما قوموية أو طائفية، كان النظام السابق يعمد، على الدوام، إلى استلهام شرعيته السياسية منها.
لقد عجزت الدولة العراقية عن أن تكون دولة دستورية بالفعل حتى هذا الوقت، ونكصت حكوماتها عن الالتزام الحقيقي بمواد الدستور الجديد ونصوصه، بل أن استمرار عدد منها كان قائماً أصلاً على عدم الاتساق مع روحه، وعلى عدم الإيفاء باستحقاقاته الشرعية والأخلاقية إلى حدّ بعيد. وهنا يلاحظ أن تلك الحكومات، التي توالت بعد سقوط بغداد، تمتاز بقاسم مشترك يتمثل في أنها جميعاً تنطلق من الذهنية الأيديولوجية ذاتها في ممارساتها السياسية لدى التعاطي مع استحقاقات المسألة الكوردية، وبخاصة تلك المعضلات التي تشكل وشكلت الجذر الحقيقي للمحنة الكوردية. وهذا ما يجعلها جميعاً مواصلة لنهج الاستبداد القديم، الذي يحول دون تحقيق الشروط الأساسية للمساواة بين المواطنين، وبالتالي تفاقم الغبن السياسي والقومي بحقهم واستمراره.
فضلاً عن ذلك، فشلت الدولة العراقية في إزالة التشويه الاجتماعي والديموغرافي الشاملين الذي خلّفه النظام السابق على جميع المستويات، وفي كل الأماكن، بغرض تكريس استبداده، ومصادرة الحياة الاجتماعية والهيمنة عليها. وهنا تبدو حالة التشظّي الاجتماعي والانقسام القائمة فعلياً بين مكونات المجتمع العراقي عقبة رئيسة أمام التأسيس لمواطنة جديدة وحقيقية ترتكز على المساواة والحرية.
ليس من المنطقي، وليس من العدل أيضاً، التشدق وإظهار الحماسة المجانية للمصالحة ما لم تنجز سيرورة المساواة بين المواطنين قبلاً. وهذه الأخيرة لن تنمو على أرض الواقع وتتم ما لم تتطلع السلطة الحاكمة في بغداد بحزم إلى الأمام، وتتخلص نهائياً من الإرث المادي والنظري للاستبداد القديم، وتنفصل عن الممارسات السياسية التي هيمنت على الحياة العراقية طوال العقود الماضية.
إن ولادة الدولة العراقية الجديدة، أو إعادة تأهيلها، بصفتها دولة الحق والمساواة، تعني نهاية حقبة القهر والتعسف والطغيان الفردي. لا أن تؤول بالنتيجة إلى أشكال جديدة من الاستبداد العرقي أو الديني بزعم المصالحة مع نموذج سياسي وأيديولوجي، استبدادي وعنصري، أدّى إلى الهلاك ودمار البلد وخرابه على أهله، وثبت أنه نموذج مضاد للتاريخ وللعقل ولمصالح البشر. وبعبارات تالية تعني الانعتاق من البنية السابقة للحكم، وتمكين الدولة من القيام بدور الراعية للمساواة والوصية على العدل.
إن ربط التحول إلى دولة الحق والمساواة بإزالة كل أشكال الغبن والقهر السياسي والتمييز والعنصري المتوارثة، يعدّ بداهة تفرض نفسها على عقل كل من يريد بداية صحيحة لبناء دولة حديثة في العراق ولنشوء مجتمع سياسي متقدم. وبدلاً من الارتكاس إلى الممارسات القديمة وإلى بنى الاستبداد التي مازالت تهيمن على سلوك السلطة السياسية وتستبد باتجاهات تفكيرها، يتعين على السلطة الحاكمة أن تنطلق من قيم سياسية ومبادئ أجمع عليها معظم العراقيين دستورياً، ومن ثم عليها أن تنجز تماماً سيرورة الحياة السياسية دستورياً دون الاكتراث بالنزق السياسي أو الزعيق الذي يبديه حفنة من ضيقي الأفق والمتعصبين، يريدون خلالها إخضاع الحياة مجدداً لمعاييرهم العرقية أو الطائفية الخاصة، ويعمدون، بكل الوسائل، إلى استعادة النموذج الشمولي البائد.
المصالحة غير ممكنة، وغير قابلة للتطبيق إن لم تكتسب مدلول الإنصاف والمساواة. وبخلاف ذلك تكون دعوى باطلة غايتها المساومة على حقوق الضحايا مع أقلية انتهازية من الأفراد، هم فضلاً عن شراكتهم العميقة مع نظام الاستبداد في إرهابه ومسؤوليتهم في جرائمه المروعة، لا يمكن الركون إلى قناعتهم بضرورة مستقبل سياسي جديد للعراق على أساس الشراكة الحقيقية والمساواة بين الجميع. وعليه فإن كل ادعاء بالمصالحة يستهدف التسوية معهم في مثل هذه الظروف، حيث لا تزال المسائل متشابكة بشدّة وعالقة، لا يعدو أن يكون استجداءاً مجانياً ونفاقاً يراد به المماطلة والتسويف والهروب من الاستحقاقات الدستورية والسياسية الأكثر أهمية.
المصالحة ممكنة فقط حينما تكف السلطة الحاكمة في بغداد عن التفكير بأنها قادرة على إلغاء حقائق التاريخ وحقوق البشر، وتضمن لنفسها الهيمنة والاستمرار دون الالتزام بشيء أو التقيد بمبدأ. وتتوقف عن تكريس بقاءها بإيغالها في إقصاء الآخر فلا تعبأ بحقوقه المستلبة، وتعدّ ذلك انتهاكاً صريحاً. وفي مثل هذه الحال ينبغي أن يكون المبدأ الحاسم لديها في تحديد طبيعة العلاقة بين الناس هو المساواة والحرية في تقرير مصائرهم، بدلاً من الاعتقاد أن المراوغات السياسية والمناورات هي السبيل الأمثل لممارسة السلطة. إذ ليس أسهل على من لايكترث بحقوق البشر من تحويل السياسة إلى مجرد مخاتلة ومكر، وخداع وتضليل، وبالتالي تغدو ممارسة السلطة لديه غاية بذاتها ولذاتها، مجردة تماماً من كل قانون سياسي أو مبدأ أخلاقي سام.
© منبر الحرية، 21 مايو 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018